كشف الأسرار شرح أصول البزدوي

علاء الدين البخاري

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQالْحَمْدُ لِلَّهِ مُصَوِّرِ النَّسَمِ فِي شَبَكَاتِ الْأَرْحَامِ بِلَا مُظَاهَرَةٍ وَمَعُونَةٍ، وَمُقَدِّرِ الْقَسَمِ لِطَبَقَاتِ الْأَنَامِ بِلَا كُلْفَةٍ وَمَئُونَةٍ، شَارِعِ مَشَارِعِ الْأَحْكَامِ بِلُطْفِهِ وَأَفْضَالِهِ، نَاهِجِ مَنَاهِجِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ بِكَرَمِهِ وَنَوَالِهِ، مُبْدِعِ فَرَائِدِ الدُّرَرِ مِنْ خَطَرَاتِ الْفِكْرِ بِسَحَائِبِ فَضْلِهِ وَإِكْرَامِهِ، مُنْشِئِ لَطَائِفِ الْعِبَرِ مِنْ شَوَاهِدِ النَّظَرِ بِرَوَاتِبِ طُولِهِ وَإِنْعَامِهِ، الَّذِي أَكْمَلَ بِعِنَايَتِهِ رَوْنَقَ الدِّينِ وَأُبَّهَةَ الْإِسْلَامِ، وَصَيَّرَ بِرِعَايَتِهِ الْمِلَّةَ الْحَنِيفِيَّةَ مُرْتَفِعَةَ الْأَعْلَامِ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا تَاهَ فِي وَصْفِهِ أَفْهَامُ الْعُقَلَاءِ، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا حَارَ فِي قَدْرِهِ أَوْهَامُ الْأَلِبَّاءِ، عَلَى مَا أَوْضَحَ مَنَاهِجَ الشَّرْعِ وَرَفَعَ مَعَالِمَهُ، وَأَحْكَمَ قَوَاعِدَ الدِّينِ وَأَثْبَتَ دَعَائِمَهُ، وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةً رَسَخَتْ عُرُوقُهَا فِي صَمِيمِ الْجَنَانِ، وَدَعَتْ صَاحِبَهَا إلَى نَعِيمِ الْجِنَانِ. وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الَّذِي جَبَلَهُ اللَّهُ مِنْ سُلَالَةِ الْمَجْدِ وَالْكَرَمِ، وَبَعَثَهُ إلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ وَالْأُمَمِ، فَأَبَانَ مَعَالِمَ الدِّينِ وَأَثَارَهُ، وَأَضَاءَ سُبُلَ الْيَقِينِ وَمَنَارَهُ، حَتَّى سَطَعَ نُورُ الشَّرْعِ عَنْ ظَلَامِ الْجَفَاءِ بِحُسْنِ عِنَايَتِهِ، وَظَهَرَ نُورُ الدِّينِ عَنْ أَكْمَامِ الْخَفَاءِ بِيُمْنِ كِفَايَتِهِ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - الَّذِينَ لَمْ تُسْتَرْ أَقْمَارُ دِينِهِمْ بِغَمَامِ الشَّكِّ وَالْبَدَاءِ، وَلَمْ تَحْتَجِبْ أَنْوَارُ يَقِينِهِمْ بِأَكْمَامِ الْأَهْوَاءِ، صَلَاةً تَتَجَدَّدُ عَلَى تَعَاقُبِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ، وَتَتَزَايَدُ عَلَى انْتِقَاصِ الشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. (وَبَعْدُ) فَإِنَّ عُلُومَ الدِّينِ أَحَقُّ الْمَفَاخِرِ بِالتَّوْقِيرِ وَالتَّبْجِيلِ، وَأَوْلَى الْفَضَائِلِ بِالتَّفْضِيلِ وَالتَّحْصِيلِ، إذْ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمَسْلُوكَةُ لِنَيْلِ السَّعَادَاتِ فِي الدُّنْيَا، وَالْمِرْقَاةُ الْمَنْصُوبَةُ إلَى الْفَوْزِ بِالْكَرَامَاتِ فِي الْعُقْبَى، بِنُورِهَا يُهْتَدَى مِنْ ظُلُمَاتِ الْغَوَايَةِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ، وَبِيُمْنِهَا يُرْتَقَى مِنْ حَضِيضِ الْجَهَالَةِ إلَى ذُرْوَةِ الِاجْتِهَادِ، لَا سِيَّمَا عِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ الَّذِي هُوَ أَصْعَبُهَا مَدَارِكَ، وَأَدَقُّهَا مَسَالِكَ، وَأَعَمُّهَا عَوَائِدَ، وَأَتَمُّهَا فَوَائِدَ، لَوْلَاهُ لَبَقِيَتْ لَطَائِفُ عُلُومِ الدِّينِ كَامِنَةَ الْآثَارِ، وَنُجُومُ سَمَاءِ الْفِقْهِ وَالْحِكْمَةِ مَطْمُوسَةَ الْأَنْوَارِ، لَا تَدْخُلُ مَيَامِنُهُ تَحْتَ الْإِحْصَاءِ، وَلَا تُدْرَكُ مَحَاسِنُهُ بِالِاسْتِقْصَاءِ. ثُمَّ إنَّ كِتَابَ أُصُولِ الْفِقْهِ الْمَنْسُوبَ إلَى الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْمُعَظَّمِ، وَالْحَبْرِ الْهُمَامِ الْمُكَرَّمِ، الْعَالِمِ الْعَامِلِ الرَّبَّانِيِّ، مُؤَيِّدِ الْمَذْهَبِ النُّعْمَانِيِّ، قُدْوَةِ الْمُحَقِّقِينَ أُسْوَةِ الْمُدَقِّقِينَ صَاحِبِ الْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ وَالْكَرَامَاتِ السَّنِيَّةِ مَفْخَرِ الْأَنَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْبَزْدَوِيِّ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِالرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ، وَأَسْكَنَهُ أَعْلَى مَنَازِلِ الْجِنَانِ، امْتَازَ مِنْ بَيْنِ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي هَذَا الْفَنِّ شَرَفًا وَسُمُوًّا، وَحَلَّ مَحَلَّهُ مَقَامَ الثُّرَيَّا مَجْدًا وَعُلُوًّا، ضَمَّنَ فِيهِ أُصُولَ الشَّرْعِ وَأَحْكَامَهُ، وَأَدْرَجَ فِيهِ مَا بِهِ نِظَامُ الْفِقْهِ وَقِوَامُهُ، وَهُوَ كِتَابٌ عَجِيبُ الصَّنْعَةِ رَائِعُ التَّرْتِيبِ، صَحِيحُ الْأُسْلُوبِ مَلِيحُ التَّرْكِيبِ، لَيْسَ فِي جَوْدَةِ تَرْكِيبِهِ وَحُسْنِ تَرْتِيبِهِ مِرْيَةٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ عَبَّادَانَ قَرْيَةٌ، لَكِنَّهُ صَعْبُ الْمَرَامِ، أَبِي الزِّمَامِ، لَا سَبِيلَ إلَى الْوُصُولِ إلَى مَعْرِفَةِ لُطْفِهِ وَغَرَائِبِهِ، وَلَا طَرِيقَ إلَى الْإِحَاطَةِ بِطُرَفِهِ وَعَجَائِبِهِ، إلَّا لِمَنْ أَقْبَلَ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَى تَحْقِيقِهِ وَتَحْصِيلِهِ، وَشَدَّ حَيَازِيمَهُ لِلْإِحَاطَةِ لِجُمْلَتِهِ وَتَفْصِيلِهِ، بَعْدَ أَنْ رُزِقَ فِي اقْتِبَاسِ الْعِلْمِ ذِهْنًا جَلِيًّا، وَذَرْعًا مَنْ هُوَ أَجَسُّ أَضَالِيلِ الْمُنَى خَلِيًّا، وَقَدْ تَبَحَّرَ مَعَ ذَلِكَ فِي الْأَحْكَامِ وَالْفُرُوعِ، وَأَحَاطَ بِمَا جَاءَ فِيهَا مِنْ الْمَنْقُولِ وَالْمَسْمُوعِ. وَقَدْ سَأَلَنِي إخْوَانِي فِي الدِّينِ، وَأَعْوَانِي عَلَى طَلَبِ الْيَقِينِ، أَنْ أَكْتُبَ لَهُمْ شَرْحًا يَكْشِفُ عَنْ أَوْجُهِ غَوَامِضِ مَعَانِيهِ نِقَابَهَا، وَيَرْفَعُ عَنْ اللَّطَائِفِ الْمُسْتَتِرَةِ فِي مَبَانِيهِ حِجَابَهَا، وَيُوَضِّحُ مَا أُبْهِمَ مِنْ رُمُوزِهِ وَإِشَارَاتِهِ الْمُعْضِلَةِ، وَيُبَيِّنُ مَا أُجْمِلَ مِنْ أَلْفَاظِهِ وَعِبَارَاتِهِ الْمُشْكِلَةِ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنِّي لَمَّا اسْتَسْعَدْت بِخِدْمَةِ شَيْخِي، وَسَيِّدِي وَسَنَدِي وَأُسْتَاذِي وَعَمِّي، وَهُوَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ الرَّبَّانِيُّ، وَالْقَرْمُ الْمُدَقِّقُ الصَّمَدَانِيُّ، نَاصِبُ رَايَاتِ الشَّرِيعَةِ، كَاشِفُ آيَاتِ الْحَقِيقَةِ، فَتَّاحُ أَقْفَالِ الْمُشْكِلَاتِ، كَشَّافُ غَوَامِضِ الْمُعْضِلَاتِ، فَخْرُ الْحَقِّ وَالدِّينِ، مَلَاذُ الْعُلَمَاءِ فِي الْعَالَمِينَ، قُطْبُ الْمُتَهَجِّدِينَ، خَتْمُ الْمُجْتَهِدِينَ، مُحَمَّدُ بْنُ إلْيَاسِ الْمَايَمُرْغِيُّ أَفَاضَ اللَّهُ عَلَيْهِ سِجَالَ إنْعَامِهِ وَغُفْرَانِهِ، وَصَبَّ عَلَيْهِ شَآبِيبَ إكْرَامِهِ وَرِضْوَانِهِ، وَنَشَأْت فِي حِجْرِهِ بِرَوَاتِبِ بِرِّهِ وَأَفْضَالِهِ، وَرُبِّيتُ فِي بَيْتِهِ بِصَنَائِعِ جُودِهِ وَنَوَالِهِ، لَعَلِّي فُزْت بِدُرَرٍ مَنْ غُرَرِ فَرَائِدِهِ. وَأَخَذْتُ حَظًّا وَافِرًا مِنْ مَوَائِدِ فَوَائِدِهِ، وَإِنَّهُ قَدْ كَانَ مُخْتَصًّا مِنْ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ بِاتِّفَاقِ الْأَنَامِ بِتَحْقِيقِ دَقَائِقِ مُصَنَّفَاتِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ فَاسْتَعْفَيْتُ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الْخَطِيرِ وَتَشَبَّثْتُ بِأَهْدَابِ الْمَعَاذِيرِ، عِلْمًا مِنِّي بِأَنِّي لَسْت مِنْ فُرْسَانِ هَذَا الْمَيْدَانِ، وَلَا لِي بِالْإِبْلَاءِ فِي مَوَاقِفِهِ يَدَانِ، وَأَيْنَ أَنَا مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ تَحَيَّرَتْ الْفُحُولُ فِي حَلِّ مُشْكِلَاتِهِ، بَعْدَ تَهَالُكِهِمْ فِي بَحْثِهِ وَتَنْقِيرِهِ، وَعَجَزَتْ التَّحَارِيرُ عَنْ دَرْكِ مُعْضِلَاتِهِ، مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى تَحْقِيقِهِ وَتَفْكِيرِهِ، فَلَمْ يَزِدْهُمْ ذَلِكَ إلَّا الْمُبَالَغَةَ فِي الْإِلْحَاحِ عَلَيَّ، وَالْإِقَامَةَ فِي مَوَاقِفِ الِاقْتِرَاحِ لَدَيَّ، فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا مِنْ إنْجَاحِ مَسْئُولِهِمْ، وَلَا مَنْدُوحَةَ عَنْ تَحْقِيقِ مَأْمُولِهِمْ، فَأَجَبْتهمْ إلَى مُلْتَمَسِهِمْ تَفَادِيًا مِنْ عُقُوقِهِمْ، وَسَعْيًا

[مقدمة الكتاب]

[مُقَدِّمَة الْكتاب] أُصُولُ بَزْدَوِيٍّ لِفَخْرِ الْإِسْلَامِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ خَالِقِ النَّسَمِ وَرَازِقِ الْقَسَمِ ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَى أَدَاءِ حُقُوقِهِمْ، وَشَرَعْت فِي هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ الْمُهِمِّ، وَالْخَطْبِ الْجَسِيمِ الْمُدْلَهِمِّ، مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ الْكَرِيمِ الْجَلِيلِ، رَاجِيًا مِنْهُ أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ، مُتَوَكِّلًا عَلَى كَرَمِهِ الشَّامِلِ فِي طَلَبِ التَّوْفِيقِ لِإِتْمَامِهِ، مُعْتَمِدًا عَلَى إنْعَامِهِ الْعَامِّ فِي سُؤَالِ التَّيْسِيرِ لِابْتِدَائِهِ وَاخْتِتَامِهِ. رَاغِبًا إلَيْهِ فِي أَنْ يَجْعَلَ مَا أُقَاسِيهِ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، مُتَعَوِّذًا بِهِ مِنْ أَنْ يَتَلَقَّانِي بِسَخَطِهِ وَعِقَابِهِ الْأَلِيمِ، مُبْتَهِلًا إلَيْهِ فِي أَنْ يَحْفَظَنِي عَنْ الْخَطَإِ وَالزَّلَلِ، وَيُلْهِمَنِي طَرِيقَ الصَّوَابِ وَالسَّدَادِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، مُتَضَرِّعًا إلَيْهِ فِي أَنْ يَنْفَعَنِي بِهِ وَأَئِمَّةَ الْإِسْلَامِ، وَيَجْمَعَنِي وَإِيَّاهُمْ بِبَرَكَاتِ جَمْعِهِ فِي دَارِ السَّلَامِ وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْكِتَابُ كَاشِفًا عَنْ غَوَامِضَ مُحْتَجِبَةٍ عَنْ الْأَبْصَارِ نَاسَبَ أَنْ سَمَّيْتُهُ كَشْفَ الْأَسْرَارِ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ كِتَابًا سَبَقَ عَامَّةَ الشُّرُوحِ تَرْتِيبًا وَجَمَالًا، وَفَاقَ نَظَائِرَهُ تَحْقِيقًا وَكَمَالًا، وَمَنْ نَظَرَ فِيهِ بِعَيْنِ الْإِنْصَافِ، عَرَفَ دَعْوَى الصِّدْقِ مِنْ الْخِلَافِ، ثُمَّ إنِّي، وَإِنْ لَمْ آلُ جُهْدًا فِي تَأْلِيفِ هَذَا الْكِتَابِ وَتَرْتِيبِهِ، وَلَمْ أَدَّخِرْ جِدًّا فِي تَسْدِيدِهِ وَتَهْذِيبِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَقَعَ فِيهِ عَثْرَةٌ وَزَلَلٌ، وَأَنْ يُوجَدَ فِيهِ خَطَأٌ وَخَطَلٌ، فَلَا يَتَعَجَّبُ الْوَاقِفُ عَلَيْهِ عَنْهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْجُو مِنْهُ أَحَدٌ وَلَا يَسْتَنْكِفُهُ بَشَرٌ وَقَدْ رَوَى الْبُوَيْطِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ لَهُ إنِّي صَنَّفْت هَذِهِ الْكُتُبَ فَلَمْ آلُ فِيهَا الصَّوَابَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ فِيهَا مَا يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةَ رَسُولِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِمَّا يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ فَإِنِّي رَاجِعٌ عَنْهُ إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ. وَقَالَ الْمُزَنِيّ قَرَأْت كِتَابَ الرِّسَالَةِ عَلَى الشَّافِعِيِّ ثَمَانِينَ مَرَّةً فَمَا مِنْ مَرَّةٍ إلَّا وَكُنَّا نَقِفُ عَلَى خَطَإٍ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيهِ أَبَى اللَّهُ أَنْ يَكُونَ كِتَابٌ صَحِيحًا غَيْرَ كِتَابِهِ فَالْمَأْمُولُ مِمَّنْ وَقَفَ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ جَانَبَ التَّعَصُّبَ وَالتَّعَسُّفَ وَنَبَذَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ التَّكَلُّفَ وَالتَّصَلُّفَ، أَنْ يَسْعَى فِي إصْلَاحِهِ بِقَدْرِ الْوُسْعِ وَالْإِمْكَانِ، أَدَاءً لِحَقِّ الْأُخُوَّةِ فِي الْإِيمَانِ، وَإِحْرَازًا لِحُسْنِ الْأُحْدُوثَةِ بَيْنَ الْأَنَامِ، وَإِدْخَارًا لِجَزِيلِ الْمَثُوبَةِ فِي دَارِ السَّلَامِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَالْمُثِيبُ عَلَيْهِ أَتَوَكَّلُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ) عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبُخَارِيُّ سَتَرَ اللَّهُ عُيُوبَهُ وَغَفَرَ ذُنُوبَهُ. حَدَّثَنِي بِهَذَا الْكِتَابِ شَيْخِي وَأُسْتَاذِي وَعَمِّي الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ آنِفًا قِرَاءَةً عَلَيْهِ بِسَرَخْسَ فِي الْمَدْرَسَةِ الْمَلَكِيَّةِ الْعَبَّاسِيَّةِ قَالَ حَدَّثَنِي بِهِ أُسْتَاذُ أَئِمَّةِ الدُّنْيَا مُظْهِرُ كَلِمَةِ اللَّهِ الْعُلْيَا شَمْسُ الْأَئِمَّةِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّتَّارِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكَرْدَرِيُّ مِنْ أَوَّلِ الْكِتَابِ إلَى بَابِ أَسْبَابِ الشَّرَائِعِ وَمِنْهُ إلَى آخِرِ الْكِتَابِ الشَّيْخُ الْإِمَامُ وَالْقَرْمُ الْهُمَامُ بَدْرُ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْكَرْدَرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِخُوَاهَرْ زَادَهُ رَاوِيًا عَنْ حَالِهِ هَذَا قَالَ حَدَّثَنَا شَيْخُ شُيُوخِ الْإِسْلَامِ بُرْهَانُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الْجَلِيلِ الرِّشْدَانِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا إمَامُ الْأَئِمَّةِ وَمُقْتَدَى الْأُمَّةِ نَجْمُ الدِّينِ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ النَّسَفِيُّ عَنْ الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْمُصَنِّفِ قَدَّسَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (الْحَمْدُ لِلَّهِ خَالِقِ النَّسَمِ وَرَازِقِ الْقَسَمِ) جَرَتْ سُنَّةُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ بِذِكْرِ الْحَمْدِ فِي أَوَائِلِ تَصَانِيفِهِمْ اقْتِدَاءً بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنَّهُ مُعَنْوَنٌ بِهِ وَعَمَلًا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ فَهُوَ أَقْطَعُ» وَالْحَمْدُ هُوَ الثَّنَاءُ عَلَى الْجَمِيلِ مِنْ نِعْمَةٍ وَغَيْرِهَا يُقَالُ حَمِدْته عَلَى إنْعَامِهِ وَحَمِدْته عَلَى شَجَاعَتِهِ وَاللَّامُ فِيهِ لِاسْتِغْرَاقِ

مُبْدِعِ الْبَدَائِعِ وَشَارِعِ الشَّرَائِعِ دِينًا رَضِيًّا وَنُورًا مُضِيًّا ـــــــــــــــــــــــــــــQالْجِنْسِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى مَا عُرِفَ أَيْ الْحَمْدُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَاَللَّهُ اسْمٌ تَفَرَّدَ بِهِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ يَجْرِي فِي وَصْفِهِ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ لَا شَرِكَةَ فِيهِ لِأَحَدٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] أَيْ هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ غَيْرَهُ كَذَا رُوِيَ عَنْ الْخَلِيلِ وَابْنِ كَيْسَانَ وَلِهَذَا اخْتَصَّ الْحَمْدُ بِهَذَا الِاسْمِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ كَالْعَلَمِ لِلذَّاتِ كَانَ مُسْتَجْمِعًا لِجَمِيعِ الصِّفَاتِ فَكَانَ إضَافَةُ الْحَمْدِ إلَيْهِ إضَافَةً لَهُ إلَى جَمِيعِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِيمَانَ اخْتَصَّ بِهَذَا الِاسْمِ حَيْثُ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» مَعَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَجْمِعٌ لِلصِّفَاتِ ثُمَّ لَمَّا كَانَ مِنْ سُنَّةِ التَّأْلِيفِ أَنْ يُوَافِقَ التَّحْمِيدُ مَضْمُونَهُ. وَغَرَضُ الشَّيْخِ مِنْ هَذَا التَّصْنِيفِ بَيَانُ أُصُولِ الْفِقْهِ وَالْفِقْهِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَعْرِفَةُ النَّفْسِ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا قَالَ " خَالِقِ النَّسَمِ " إذْ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ النَّفْسِ لِتَعْرِفَ مَا شُرِعَ لَهَا مِثْلُ الْعُقُودِ وَمَا شُرِعَ عَلَيْهَا مِثْلُ الْوَاجِبَاتِ وَالْخَالِقُ هَهُنَا بِمَعْنَى الْإِيجَادِ وَالنَّسَمَةُ الْإِنْسَانُ كَذَا فِي الصِّحَاحِ وَالنَّسَمُ جَمْعُ نَسَمَةٍ وَفِي الْمُغْرِبِ النَّسَمَةُ النَّفْسُ مِنْ نَسَمَ الرِّيحُ ثُمَّ سُمِّيَتْ بِهَا النَّفْسُ وَمِنْهَا أَعْتَقَ النَّسَمَةَ وَاَللَّهُ بَارِئُ النَّسَمِ وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ مُحْتَاجًا إلَى الْعَطَاءِ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ رَازِقِ الْقَسَمِ أَيْ مُعْطِي الْعَطَايَا، وَالرِّزْقُ الْعَطَاءُ، وَهُوَ مَصْدَرُ قَوْلِك رَزَقَهُ اللَّهُ وَالْقَسَمُ جَمْعُ قِسْمَةٍ بِمَعْنَى الْقَسْمِ، وَهُوَ الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ مِنْ الْخَيْرِ وَفِي ذِكْرِ الرِّزْقِ دُونَ الْإِعْطَاءِ لُطْفٌ، وَهُوَ أَنَّ الرِّزْقَ مَا يُفْرَضُ لِلْفُقَرَاءِ بِخِلَافِ الْعَطَاءِ، فَإِنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُفْرَضُ لِلْعُمَّالِ مِثْلُ الْمُقَاتِلَةِ وَالْإِنْسَانُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ لَا قُوَّةَ لَهُ عَلَى كَسْبٍ وَعَمَلٍ فَكَانَ ذِكْرُ الرِّزْقِ أَشَدَّ مُنَاسَبَةً مِنْ ذِكْرِ الْعَطَاءِ مَعَ أَنَّ فِيهِ رِعَايَةَ صَنْعَةِ التَّرْصِيعِ. قَوْلُهُ (مُبْدِعِ الْبَدَائِعِ وَشَارِعِ الشَّرَائِعِ) الْإِبْدَاعُ الِاخْتِرَاعُ لَا عَلَى مِثَالٍ وَالْبَدَائِعُ جَمْعُ بَدِيعٍ بِمَعْنَى مُبْتَدِعٍ أَيْ مُخْتَرِعِ الْمَوْجُودَاتِ بِلَا مَادَّةٍ وَمِثَالٍ بِقُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ وَحِكْمَتِهِ الشَّامِلَةِ وَفِي ذِكْرِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ بِدُونِ الْوَاوِ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ خَالِقِ النَّسَمِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ خَلْقَ مِثْلِ هَذَا الْمَوْجُودِ الَّذِي فِيهِ أُنْمُوذَجٌ مِنْ جَمِيعِ مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ حَتَّى قِيلَ هُوَ الْعَالَمُ الْأَصْغَرُ مِنْ عَجَائِبِ قُدْرَتِهِ وَغَرَائِبِ حِكْمَتِهِ ثُمَّ هَذَا الْجِنْسُ لَمَّا خُلِقُوا عَلَى هِمَمٍ شَتَّى وَطَبَائِعَ مُخْتَلِفَةٍ وَأَهْوَاءٍ مُتَبَايِنَةٍ لَا يَكَادُونَ يَجْتَمِعُونَ عَلَى شَيْءٍ وَيَبْعَثُ لِكُلِّ وَاحِدٍ هِمَّتَهُ إلَى مَا يَسْتَلِذُّ طَبْعُهُ وَفِيهِ مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي فِي الْعَاجِلِ إلَى التَّقَاتُلِ وَالتَّفَانِي وَفِي الْآجِلِ إلَى اسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، شَرَعَ الشَّرَائِعَ زَاجِرًا لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَجَامِعًا لَهُمْ عَلَى طَرِيقٍ وَاحِدٍ مُسْتَقِيمٍ فَكَانَ مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ، وَالشَّرْعُ الْإِظْهَارُ وَشَرَعَ لَهُمْ كَذَا أَيْ بَيَّنَ وَالشَّرَائِعُ جَمْعُ شَرِيعَةٍ، وَهِيَ مَا شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ مِنْ الدِّينِ ثُمَّ ضَمَّنَ الشَّارِعُ مَعْنَى الْجَعْلِ وَالتَّصْيِيرِ فَانْتَصَبَ دِينًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ أَيْ جَاعِلُ الشَّرَائِعِ دِينًا رَضِيًّا أَوْ انْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ الشَّرَائِعِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِصِفَةٍ لِوُجُودِ مَعْنَى الصِّفَةِ فِيهِ بِاعْتِبَارِ وَصْفِهِ كَمَا انْتَصَبَ قُرْآنًا عَلَى الْحَالِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [فصلت: 3] مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِصِفَةٍ لِكَوْنِهِ مَوْصُوفًا بِوَصْفٍ أَيْ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ مَوْصُوفًا بِالْعَرَبِيَّةِ. وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِك جَاءَنِي زَيْدٌ رَجُلًا صَالِحًا وَالدِّينُ وَضْعٌ إلَهِيٌّ سَائِقٌ لِذَوِي الْعُقُولِ بِاخْتِيَارِهِمْ الْمَحْمُودِ إلَى الْخَيْرِ بِالذَّاتِ وَالرِّضَى الْمَرْضِيُّ وَوَصَفَهُ بِهِ اقْتِدَاءً بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] أَيْ اخْتَرْته لَكُمْ مِنْ بَيْنِ الْأَدْيَانِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ

وَذِكْرًا لِلْأَنَامِ وَمَطِيَّةً إلَى دَارِ السَّلَامِ أَحْمَدُهُ عَلَى الْوُسْعِ وَالْإِمْكَانِ وَأَسْتَعِينُهُ عَلَى طَلَبِ الرِّضْوَانِ وَنَيْلِ أَسْبَابِ الْغُفْرَانِ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ الشَّرَائِعِ مَشْرُوعَاتُ هَذِهِ الْمِلَّةِ خَاصَّةً بِدَلِيلِ قَوْلِهِ دِينًا عَلَى صِيغَةِ الْوَاحِدِ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ جَمِيعَ الشَّرَائِعِ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - لَقِيلَ أَدْيَانًا رَضِيَّةً وَأَنْوَارًا مُضِيئَةً وَالنُّورُ لُغَةً اسْمٌ لِلْكَيْفِيَّةِ الْعَارِضَةِ مِنْ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنَّارِ عَلَى ظَوَاهِرِ الْأَجْسَامِ الْكَثِيفَةِ مِثْلِ الْأَرْضِ وَالْجِدَارِ وَمِنْ خَاصِّيَّتِهِ أَنْ تَصِيرَ الْمَرْئِيَّاتُ بِسَبَبِهِ مُتَجَلِّيَةً مُنْكَشِفَةً وَلِذَا قِيلَ فِي تَعْرِيفِهِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي نَفْسِهِ الْمُظْهِرُ لِغَيْرِهِ. ثُمَّ تَسْمِيَةُ الدِّينِ نُورًا بِطَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِظُهُورِ الْحَقِّ لِلْبَصِيرَةِ كَمَا أَنَّ النُّورَ الْجُسْمَانِيَّ سَبَبٌ لِظُهُورِ الْأَشْيَاءِ لِلْبَصَرِ وَالْإِضَاءَةُ مُتَعَدٍّ وَلَازِمٍ قَالَ النَّابِعَةَ الْجَعْدِيِّ: أَضَاءَتْ لَنَا النَّارُ وَجْهًا أَغَرَّ ... مُلْتَبِسًا بِالْفُؤَادِ الْتِبَاسَا يُضِيءُ كَضَوْءِ سِرَاجِ السَّلِيطِ ... لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ فِيهِ نُحَاسَا ، فَاسْتَعْمَلَهُ بِالْمَعْنَيَيْنِ وَاللُّزُومُ هُوَ الْمُخْتَارُ وَالضِّيَاءُ أَقْوَى مِنْ النُّورِ وَأَتَمُّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إلَى الشَّمْسِ وَالنُّورُ إلَى الْقَمَرِ فِي قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس: 5] ثُمَّ الشَّيْخُ وَصَفَ الدِّينَ بِالنُّورِ أَوَّلًا كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي قَوْلِهِ {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا} [الشورى: 52] أَيْ جَعَلْنَا الْإِيمَانَ نُورًا وَفِي قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} [الصف: 8] أَيْ دِينِهِ ثُمَّ وَصَفَهُ بِالْإِضَاءَةِ ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فِي حَقِّ الْمُتَمَسِّكِ بِهِ بِمَنْزِلَةِ نُورِ الْقَمَرِ ثُمَّ يَتَزَايَدُ بِالتَّأَمُّلِ وَالِاسْتِدْلَالِ إلَى أَنْ يَبْلُغَ ضَوْءَ الشَّمْسِ. وَلِأَنَّ الْخَلْقَ كَانُوا فِي ظُلْمَةٍ ظَلْمَاءَ قَبْلَ الْبَعْثِ فَكَانَ ظُهُورُ الدِّينِ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ ظُهُورِ نُورِ الْقَمَرِ فِي الظُّلْمَةِ الْجُسْمَانِيَّةِ ثُمَّ ازْدَادَ حَتَّى بَلَغَ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ بِمَنْزِلَةِ ضِيَاءِ الشَّمْسِ؛ فَلِهَذَا وَصَفَهُ بِهِمَا؛ وَلِأَنَّ اسْتِنَارَةَ الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ بِهَذَيْنِ الْكَوْكَبَيْنِ فَوَصَفَهُ بِالنُّورِ وَالْإِضَاءَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فِي الْعَالَمِ الرُّوحَانِيِّ بِطَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ التَّخْيِيلِيَّةِ. قَوْلُهُ (وَذِكْرًا لِلْأَنَامِ وَمَطِيَّةً إلَى دَارِ السَّلَامِ) الذِّكْرُ هَهُنَا الشَّرَفُ قَالَ تَعَالَى {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء: 10] أَيْ شَرَفُكُمْ {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1] قِيلَ ذِي الشَّرَفِ وَالْأَنَامُ الْخَلْقُ، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ وَالْمَطِيَّةُ الْمَرْكَبُ وَالْمِطَاءُ الظَّهْرُ، وَهَذَا الْكَلَامُ بِطَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ يَعْنِي كَمَا أَنَّ الْمَطِيَّةَ وَسِيلَةٌ إلَى الْوُصُولِ إلَى الْمَقْصِدِ فَكَذَلِكَ الدِّينُ وَسِيلَةٌ إلَى الْوُصُولِ إلَى الْمَقْصِدِ الْأَقْصَى، وَهُوَ دَارُ السَّلَامِ وَسُمِّيَتْ الْجَنَّةُ دَارَ السَّلَامِ لِسَلَامَةِ أَهْلِهَا وَمَا فِيهَا مِنْ النِّعَمِ عَنْ الْآفَاتِ وَالْفِنَاءِ أَوْ لِكَثْرَةِ السَّلَامِ فِيهَا قَالَ تَعَالَى {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [إبراهيم: 23] {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} [الزمر: 73] {سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58] وَالسَّلَامُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَأُضِيفَتْ الدَّارُ إلَيْهِ تَعْظِيمًا لَهَا. قَوْلُهُ (أَحْمَدُهُ عَلَى الْوُسْعِ وَالْإِمْكَانِ) وَلَمَّا نَظَرَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي جَلَائِلِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ وَعَرَفَ أَنَّ الْقُدْرَةَ الْبَشَرِيَّةَ لَا تَفِي بِالْقِيَامِ بِمُوَاجَبِ حَمْدِهِ كَمَا هُوَ يَسْتَحِقُّهُ، وَإِنَّ سُلُوكَ طَرِيقِ النَّجَاةِ لَا يَتَيَسَّرُ إلَّا بِإِعَانَتِهِ وَتَيْسِيرِهِ قَالَ أَحْمَدُهُ عَلَى الْوُسْعِ وَالْإِمْكَانِ وَأَسْتَعِينُهُ عَلَى طَلَبِ الرِّضْوَانِ يَعْنِي أَحْمَدُهُ عَلَى حَسَبِ وُسْعِي وَطَاقَتِي وَبِقَدْرِ مَا يُمْكِنُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ مِنْ التَّحْمِيدِ لَا عَلَى حَسَبِ النِّعَمِ إذَا لَيْسَ ذَلِكَ وُسْعَ أَحَدٍ قَالَ تَعَالَى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] ثُمَّ الْإِمْكَانُ أَعَمُّ مِنْ الْوُسْعِ؛ لِأَنَّ الْمُمْكِنَ قَدْ يَكُونُ مَقْدُورًا لِلْبَشَرِ وَغَيْرَ مَقْدُورٍ لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ نَسْفَ الْجِبَالِ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْدُورًا لِلْبَشَرِ وَالْوُسْعُ رَاجِعٌ إلَى الْفَاعِلِ وَالْإِمْكَانُ إلَى الْمَحَلِّ وَخَصَّ طَلَبَ الرِّضْوَانِ أَيْ الرِّضَا بِالِاسْتِعَانَةِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ النِّعَمِ وَأَعْلَاهَا قَالَ تَعَالَى {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] ثُمَّ ذَكَرَ الشَّهَادَتَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ سُنَّةِ الْخُطْبَةِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَشَهُّدٌ فَهِيَ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ»

[العلم نوعان]

وَأُصَلِّي عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَعَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَأَصْحَابِهِمْ أَجْمَعِينَ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَزْدَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْعِلْمُ نَوْعَانِ: عِلْمُ التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ وَعِلْمُ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ وَالْأَصْلُ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ هُوَ التَّمَسُّكُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمُجَانَبَةُ الْهَوَى وَالْبِدْعَةِ وَلُزُومُ طَرِيقِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَضَى عَلَيْهِ الصَّالِحُونَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَدْرَكْنَا مَشَايِخَنَا، وَكَانَ عَلَى ذَلِكَ سَلَفُنَا أَعْنِي أَبَا حَنِيفَةَ وَأَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا وَعَامَّةَ أَصْحَابِهِمْ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي ذَلِكَ كِتَابَ الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ وَذَكَرَ فِيهِ إثْبَاتَ الصِّفَاتِ ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ (وَأُصَلِّي عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ) أَيْ ذُرِّيَّتِهِ وَأَصْحَابِهِ أَيْ مُتَابِعِيهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَوْ الْمُرَادُ مِنْ الْآلِ الْأَتْقِيَاءُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «آلِي كُلُّ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ» وَتَخْصِيصُ الْأَصْحَابِ بِالذِّكْرِ بَعْدَ دُخُولِهِمْ فِي ذَلِكَ الْعُمُومِ لِزِيَادَةِ التَّعْظِيمِ وَتَقْدِيمِ الْآلِ وَالْأَصْحَابِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى عَامَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ لِتَكْمِيلِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ لَا لِتَفْضِيلِهِمْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ إذْ لَا فَضْلَ لِوَلِيٍّ عَلَى نَبِيٍّ قَطُّ. [الْعِلْم نَوْعَانِ] [النَّوْع الْأَوَّل عِلْمُ التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ] قَوْلُهُ (الْعِلْمُ نَوْعَانِ) اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الْعِلْمِ فَقِيلَ لَا يُمْكِنُ تَعْرِيفُهُ؛ لِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ إذْ كُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ وُجُودَهُ ضَرُورَةً؛ وَلِأَنَّ غَيْرَ الْعِلْمِ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالْعِلْمِ فَلَوْ عُلِمَ الْعِلْمُ بِغَيْرِهِ كَانَ دَوْرًا وَقِيلَ إنَّهُ صِفَةٌ تُوجِبُ فِي الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ تَمْيِيزًا لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ وَقَوْلُهُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ احْتِرَازٌ عَنْ الظَّنِّ وَنَحْوِهِ وَقِيلَ هُوَ صِفَةٌ يَنْتَفِي بِهَا عَنْ الْحَيِّ الْجَهْلُ وَالشَّكُّ وَالظَّنُّ وَالسَّهْوُ وَمُخْتَارُ الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ صِفَةٌ يَتَجَلَّى بِهَا الْمَذْكُورُ لِمَنْ قَامَتْ هِيَ بِهِ ثُمَّ أَنَّهُ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ عِلْمَ النَّحْوِ وَالطِّبِّ وَالنُّجُومِ وَسَائِرِ عُلُومِ الْفَلْسَفَةِ كَمَا يَتَنَاوَلُ عِلْمَ التَّوْحِيدِ وَالشَّرَائِعِ فَلَا يَسْتَقِيمُ تَقْسِيمُهُ بِالنَّوْعَيْنِ وَاكْتِفَاؤُهُ عَلَيْهِمَا كَمَا لَا يَسْتَقِيمُ تَقْسِيمُ الْحَيَوَانِ بِأَنَّهُ نَوْعَانِ: إنْسَانٌ وَفَرَسٌ مُنْحَصِرًا عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِتَقْيِيدٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ الْعِلْمُ الْمُنْجِي أَوْ الْعِلْمُ الَّذِي اُبْتُلِينَا بِهِ نَوْعَانِ، وَكَانَ الشَّيْخ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَخْرَجَ بِقَوْلِهِ الْعِلْمُ نَوْعَانِ غَيْرَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ عَنْ كَوْنِهِ عِلْمًا لِعَدَمِ ظُهُورِ فَائِدَتِهِ فِي الْآخِرَةِ وَانْحِصَارِ الْفَائِدَةِ فِيهَا عَلَى النَّوْعَيْنِ فَكَانَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ قَوْلِك الْعَالِمُ فِي الْبَلَدِ زَيْدٌ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِيهِ؛ لِأَنَّك لَا تَعُدُّهُمْ عُلَمَاءَ فِي مُقَابَلَتِهِ عِلْمُ التَّوْحِيدِ هُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ وَعِلْمُ الصِّفَاتِ هُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى صِفَاتٍ ثُبُوتِيَّةً قَائِمَةً بِذَاتِهِ قَدِيمَةً غَيْرَ مُحْدَثَةٍ مِثْلُ الْعِلْمِ وَالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَوْصَافِ الْكَمَالِ لَا كَمَا زَعَمَتْ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ نَفْيِ الصِّفَاتِ، وَلَا كَمَا زَعَمَتْ الْكَرَّامِيَّةُ مِنْ حُدُوثِ بَعْضِ الصِّفَاتِ وَعِلْمُ الشَّرَائِعِ هُوَ الْعِلْمُ بِالْمَشْرُوعَاتِ مِنْ السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ وَالشَّرْطِ وَالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ وَالْجَوَازِ وَالْفَسَادِ وَالْأَحْكَامِ، وَإِنْ دَخَلَتْ فِي الْمَشْرُوعَاتِ لَكِنَّهَا لِكَوْنِهَا مَقْصُودَةً أُفْرِدَتْ بِالذِّكْرِ وَالْأَصْلُ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ التَّمَسُّكُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَيْ بِمُحْكَمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ. وَهَذَا فِي الْمُبَاحَثَةِ مَعَ النَّفْسِ أَوْ مَعَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ الَّذِينَ أَقَرُّوا بِرِسَالَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَبِحَقِّيَّةِ الْقُرْآنِ وَانْتَحَلُوا نِحْلَةَ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنَّهُمْ بِسَبَبِ أَهْوَائِهِمْ خَرَجُوا عَنْ حَوْزَةِ الْإِسْلَامِ وَنَبَذُوا التَّوْحِيدَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَأَنْكَرُوا الصِّفَاتِ الَّتِي نَطَقَ بِهَا الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ زَاعِمِينَ أَنَّ مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ هُوَ عَيْنُ الْحَقِّ وَمَحْضُ التَّوْحِيدِ، فَأَمَّا فِي الْمُبَاحَثَةِ مَعَ مَنْ أَنْكَرَ الرِّسَالَةَ وَالْقُرْآنَ مِثْلُ الْمَجُوسِ وَالثَّنَوِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ فَلَا يَنْفَعُ التَّمَسُّكُ فِيهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِإِنْكَارِ الْخَصْمِ حَقِيَتَهُمَا فَيُتَمَسَّكُ إذَنْ بِالْمَعْقُولِ الصِّرْفِ. وَمُجَانَبَةُ الْهَوَى وَالْبِدْعَةِ الْهَوَى مَيَلَانُ النَّفْسِ إلَى مَا تَسْتَلِذُّهُ مِنْ غَيْرِ دَاعِيَةِ الشَّرْعِ وَالْبِدْعَةُ الْأَمْرُ الْمُحْدَثُ فِي الدِّينِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ يَعْنِي يَتَمَسَّكُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُجَانِبًا لِهَوَى نَفْسِهِ وَمُجَانِبًا لِمَا أَحْدَثَهُ غَيْرُهُ فِي الدِّينِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ فَلَا يُحْمَلُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ وَلَا عَلَى مَا يُوَافِقُ مَا أَبْدَعَهُ غَيْرُهُ مِثْلُ مَا قَالَتْ الرَّافِضَةُ الْمُرَادُ مِنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالْأَنْصَابِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَمِنْ الظُّلْمِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان: 27] أَبُو بَكْرٍ وَمِنْ قَوْلِهِ {لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا} [الفرقان: 28] عُمَرَ وَمِثْلُ

وَإِثْبَاتَ تَقْدِيرِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مِنْ اللَّهِ وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ بِمَشِيئَتِهِ وَأَثْبَتَ الِاسْتِطَاعَةَ مَعَ الْفِعْلِ، وَإِنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهَا كُلَّهَا وَرَدَّ الْقَوْلَ بِالْأَصْلَحِ وَصَنَّفَ كِتَابَ الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ وَكِتَابَ الرِّسَالَةِ وَقَالَ فِيهِ لَا يَكْفُرُ أَحَدٌ بِذَنْبٍ وَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] أَنَّهُ مَشْرُوطٌ بِشَرْطِ التَّوْبَةِ لِيَسْتَقِيمَ قَوْلُهُمْ بِالتَّخْلِيدِ فِي النَّارِ لِأَصْحَابِ الْكَبَائِرِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَمِثْلُ حَمْلِهِمْ الْمَشِيئَةَ فِي قَوْله تَعَالَى {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} [الرعد: 27] وَنَظَائِرُهُ عَلَى مَشِيئَةِ الْقَسْرِ لِيَسْتَقِيمَ قَوْلُهُمْ بِعَدَمِ دُخُولِ الشُّرُورِ وَالْقَبَائِحِ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ، وَلُزُومُ طَرِيقِ السُّنَّةِ أَيْ عَقِيدَةِ الرَّسُولِ وَالْجَمَاعَةِ أَيْ عَقِيدَةِ الصَّحَابَةِ، أَدْرَكْنَا مَشَايِخَنَا أَيْ أُسْتَاذِيّنَا وَالسَّلَفُ جَمْعُ سَالِفٍ مِنْ سَلَفَ يَسْلُفُ سَلَفًا إذَا مَضَى وَعَامَّةُ أَصْحَابِهِمْ أَيْ أَكْثَرُهُمْ. وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِهِ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ مَوْسُومًا بِالْبِدْعَةِ مِثْلُ بِشْرِ بْنِ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ وَاعْلَمْ أَنَّ غَرَضَ الشَّيْخِ مِنْ تَقْرِيرِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي أَوَّلِ هَذَا الْكِتَابِ إبْطَالُ دَعْوَى مَنْ زَعَمَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ عَلَى مُعْتَقَدِهِمْ اسْتِدْلَالًا بِمَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَدَفْعُ طَعْنِ مَنْ طَعَنَ فِيهِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَأَنَّهُ كَانَ يُقَدِّمُ الرَّأْيَ عَلَى السُّنَّةِ فَبَدَأَ أَوَّلًا بِإِبْطَالِ دَعْوَى الْمُعْتَزِلَةِ فَقَالَ وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ أَيْ فِي عِلْمِ التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ كِتَابَ الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ سَمَّاهُ أَكْبَرَ؛ لِأَنَّ شَرَفَ الْعِلْمِ وَعَظَمَتَهُ بِحَسَبِ شَرَفِ الْمَعْلُومِ وَلَا مَعْلُومَ أَكْبَرُ مِنْ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ فَلِذَلِكَ سَمَّاهُ أَكْبَرَ وَذَكَرَ فِيهِ إثْبَاتَ الصِّفَاتِ فَقَالَ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ بِصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ لَمْ يَحْدُثْ لَهُ صِفَةٌ وَلَا اسْمٌ لَمْ يَزَلْ عَالِمًا بِعِلْمِهِ وَالْعِلْمُ صِفَتُهُ فِي الْأَزَلِ وَقَادِرًا بِقُدْرَتِهِ وَالْقُدْرَةُ صِفَتُهُ فِي الْأَزَلِ وَخَالِقًا بِتَخْلِيقِهِ وَالتَّخْلِيقُ صِفَتُهُ فِي الْأَزَلِ وَفَاعِلًا بِفِعْلِهِ وَفِعْلُهُ صِفَتُهُ فِي الْأَزَلِ فَالْفَاعِلُ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَفِعْلُهُ صِفَتُهُ فِي الْأَزَلِ وَالْمَفْعُولُ مَخْلُوقٌ وَفِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَصِفَاتُهُ أَزَلِيَّةٌ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَلَا مُحْدَثَةٍ فَمَنْ قَالَ إنَّهَا مَخْلُوقَةٌ أَوْ مُحْدَثَةٌ أَوْ وَقَفَ فِيهَا أَوْ شَكَّ فِيهَا فَهُوَ كَافِرٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَإِثْبَاتُ تَقْدِيرِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَيْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِيهِ أَيْضًا فَقَالَ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ آمَنْت بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ بِمَشِيئَتِهِ أَيْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَيْضًا فَقَالَ جَمِيعُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ كَسْبُهُمْ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى خَالِقُهَا. وَهِيَ كُلُّهَا بِمَشِيئَتِهِ وَعِلْمِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَالطَّاعَاتُ كُلُّهَا بِمَحَبَّتِهِ وَرِضَائِهِ وَالْمَعَاصِي كُلُّهَا بِتَقْدِيرِهِ وَعِلْمِهِ وَقَضَائِهِ وَمَشِيئَتِهِ لَا بِمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَأَمَّا مَسْأَلَتَا الِاسْتِطَاعَةِ وَالْأَصْلَحِ فَمَا وَجَدْتُهُمَا فِي النُّسَخِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدِي مِنْ الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الشَّيْخِ أَيْضًا مَا يُوجِبُ أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَهُمَا فِيهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَعْطِفْ ذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ وَإِثْبَاتُ الِاسْتِطَاعَةِ وَلَمْ يَقُلْ أَيْضًا وَأَثْبَتَ فِيهِ الِاسْتِطَاعَةَ وَرَدَّ فِيهِ الْقَوْلَ بِالْأَصْلَحِ بَلْ اسْتَأْنَفَ الْكَلَامَ وَقَالَ وَأَثْبَتَ الِاسْتِطَاعَةَ وَرَدَّ الْقَوْلَ بِالْأَصْلَحِ مُطْلَقًا فَلَعَلَّهُ أَثْبَتَهُمَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَوْ فِي مَبَاحِثِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. قَوْلُهُ (وَقَالَ فِيهِ لَا يَكْفُرُ أَحَدٌ بِذَنْبٍ) أَيْ قَالَ فِيهِ فَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَكُونُ لِلَّهِ عَدُوًّا، وَإِنْ رَكِبَ جَمِيعَ الذُّنُوبِ بَعْدَ أَنْ لَا يَدَعَ التَّوْحِيدَ؛ لِأَنَّهُ حِينَ يَرْتَكِبُ الْعَظِيمَ مِنْ الذَّنْبِ فَاَللَّهُ أَحَبُّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُ، فَإِنَّهُ لَوْ خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يُحْرَقَ بِالنَّارِ وَبَيْنَ أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَلْبِهِ لَكَانَ الِاحْتِرَاقُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ ذَكَرَ فِيهِ أَيْضًا قَالَ الْمُتَعَلِّمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَمَا قَوْلُك فِي أُنَاسِ رَوَوْا أَنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا زَنَى يُخْلَعُ عَنْهُ الْإِيمَانُ كَمَا يُخْلَعُ عَنْهُ الْقَمِيصُ ثُمَّ إذَا تَابَ أُعِيدَ إلَيْهِ إيمَانُهُ أَتُكَذِّبُهُمْ فِي قَوْلِهِمْ أَوْ تُصَدِّقُهُمْ

وَيَتَرَحَّمُ لَهُ وَكَانَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ إمَامًا صَادِقًا وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ نَاظَرْت أَبَا حَنِيفَةَ فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْقُرْآنِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَاتَّفَقَ رَأْيِي وَرَأْيُهُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ فَهُوَ كَافِرٌ وَصَحَّ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ـــــــــــــــــــــــــــــQفَإِنْ صَدَّقْت قَوْلَهُمْ فَقَدْ دَخَلْت فِي قَوْلِ الْخَوَارِجِ، وَإِنْ كَذَّبْت قَوْلَهُمْ قَالُوا أَنْتِ مُكَذِّبٌ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَإِنَّهُمْ رَوَوْا ذَلِكَ عَنْ رِجَالٍ شَتَّى حَتَّى انْتَهَى إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ الْعَالِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أُكَذِّبُ هَؤُلَاءِ وَلَا يَكُونُ تَكْذِيبِي لَهُمْ تَكْذِيبًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ يَكُونُ تَكْذِيبًا لِلرِّوَايَةِ عَنْهُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ أَنَا مُؤْمِنٌ بِكُلِّ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ عَمَّ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْجَوْرِ وَلَمْ يُخَالِفْ الْقُرْآنَ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ تَصْدِيقًا بِالنَّبِيِّ وَبِالْقُرْآنِ وَتَنْزِيهًا لَهُ مِنْ الْخِلَافِ عَلَى الْقُرْآنِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} [النساء: 16] فَقَوْلُهُ مِنْكُمْ لَمْ يَعْنِ بِهِ الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى، وَإِنَّمَا عُنِيَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ وَذَكَرَ فِي الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ أَيْضًا وَلَا نُكَفِّرُ مُسْلِمًا بِذَنْبٍ مِنْ الذُّنُوبِ. وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً إذَا لَمْ يَسْتَحِلَّهَا وَلَا نُزِيلُ عَنْهُ اسْمَ الْإِيمَانِ وَنُسَمِّيهِ مُؤْمِنًا حَقِيقَةً، وَيُتَرَحَّمُ لَهُ أَيْ يُدْعَى لَهُ بِالرَّحْمَةِ وَيُقَالُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - «قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ لَوْ كَانَ أَبُوك إسْلَامِيًّا لَتَرَحَّمْنَا عَلَيْهِ» أَيْ لَقُلْنَا لَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَذَكَرَ فِيهِ أَيْضًا قَالَ الْمُتَعَلِّمُ أَخْبِرْنِي عَنْ الِاسْتِغْفَارِ لِصَاحِبِ الْكَبِيرَةِ أَهُوَ أَفْضَلُ أَمْ الدُّعَاءُ عَلَيْهِ بِاللَّعْنَةِ قَالَ الْعَالِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الذَّنْبُ عَلَى مَنْزِلَتَيْنِ غَيْرِ الْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ فَأَيُّ الذَّنْبَيْنِ رَكِبَ هَذَا الْعَبْدُ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ لَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، وَالدُّعَاءُ لِأَهْلِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ بِالْمَغْفِرَةِ أَفْضَلُ لِحُرْمَةِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ إذَا لَيْسَ شَيْءٌ يُطَاعُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِقْرَارِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ وَجَمِيعُ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ فَرَائِضِهِ فِي جَنْبِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ أَصْغَرُ مِنْ بَيْضَةٍ فِي جَنْبِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ وَمَا بَيْنَهُنَّ فَكَمَا أَنَّ ذَنْبَ الْإِشْرَاكِ أَعْظَمُ كَذَلِكَ أَجْرُ هَذِهِ الشَّهَادَةِ أَعْظَمُ، وَكَانَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ إمَامًا صَادِقًا أَيْ إمَامًا عَلَى التَّحْقِيقِ وَالشَّيْءُ إذَا بُولِغَ فِي وَصْفِهِ يُوصَفُ بِالصِّدْقِ يُقَالُ لِلرَّجُلِ الشُّجَاعِ وَلِلْفَرَسِ الْجَوَادِ إنَّهُ لَذُو صِدْقٍ أَيْ صَادِقِ الْحَمْلَةِ وَصَادِقِ الْجَرْيِ كَأَنَّهُ ذُو صِدْقٍ فِيمَا يَعُدُّك مِنْ ذَلِكَ قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: فِي قَوْله تَعَالَى {قَدَمَ صِدْقٍ} [يونس: 2] ، وَفِي إضَافَتِهِ إلَى صِدْقٍ دَلَالَةٌ عَلَى زِيَادَةِ فَضْلٍ، وَإِنَّهُ مِنْ السَّوَابِقِ الْعَظِيمَةِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَبَحُّرِهِ فِيهِ مَا رَوَى يَحْيَى بْنُ شَيْبَانَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ كُنْت رَجُلًا أُعْطِيت جَدَلًا فِي الْكَلَامِ فَمَضَى دَهْرٌ فِيهِ أَتَرَدَّدُ وَبِهِ أُخَاصِمُ وَعَنْهُ أُنَاضِلُ. وَكَانَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الْخُصُومَاتِ بِالْبَصْرَةِ فَدَخَلْتهَا نَيِّفًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً أُقِيمُ سَنَةً وَأَقَلَّ وَأَكْثَرَ وَكُنْت قَدْ نَازَعْت طَبَقَاتِ الْخَوَارِجِ مِنْ الْإِبَاضِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَطَبَقَاتِ الْمُعْتَزِلَةِ وَسَائِرِ طَبَقَاتِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَكُنْت بِحَمْدِ اللَّهِ أَغْلِبُهُمْ وَأَقْهَرُهُمْ وَلَمْ يَكُنْ فِي طَبَقَاتِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ أَحَدَّ جَدَلًا مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِمْ مُمَوَّهٌ يَقْبَلُهُ الْقُلُوبُ وَكُنْت أُزِيلُ تَمْوِيهَهُمْ بِمَبْدَأِ الْكَلَامِ وَأَمَّا الرَّوَافِضُ وَأَهْلُ الْإِرْجَاءِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ الْحَقَّ فَكَانُوا بِالْكُوفَةِ أَكْثَرَ وَكُنْت قَهَرْتهمْ بِحَمْدِ اللَّهِ أَيْضًا وَكُنْت أَعُدُّ الْكَلَامَ أَفْضَلَ الْعُلُومِ وَأَرْفَعَهَا فَرَاجَعْت نَفْسِي بَعْدَمَا مَضَى لِي فِيهِ عُمْرٌ وَتَدَبَّرْت فَقُلْت إنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِّي اللَّهُ عَنْهُمْ وَالتَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ لَمْ يَكُنْ يَفُوتُهُمْ شَيْءٌ مِمَّا نُدْرِكُهُ نَحْنُ وَكَانُوا عَلَيْهِ أَقْدَرَ وَبِهِ أَعْرَفَ وَأَعْلَمَ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ ثُمَّ لَمْ يَتَهَايَئُوا فِيهِ مُتَنَازِعِينَ وَلَا مُجَادِلِينَ وَلَمْ يَخُوضُوا فِيهِ بَلْ أَمْسَكُوا عَنْ ذَلِكَ وَنُهُوا أَشَدَّ النَّهْيِ وَرَأَيْت خَوْضَهُمْ فِي الشَّرَائِعِ وَأَبْوَابِ الْفِقْهِ وَكَلَامَهُمْ فِيهِ، عَلَيْهِ تَجَالَسُوا وَإِلَيْهِ دَعَوْا وَكَانُوا يُطْلِقُونَ الْكَلَامَ وَالْمُنَازَعَةَ فِيهِ

وَدَلَّتْ الْمَسَائِلُ الْمُتَفَرِّقَةُ عَنْ أَصْحَابِنَا فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِ الْمَبْسُوطِ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَمِيلُوا إلَى شَيْءٍ مِنْ مَذَاهِبِ الِاعْتِزَالِ وَإِلَى سَائِرِ الْأَهْوَاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَيَتَنَاظَرُونَ عَلَيْهِ وَعَلَى ذَلِكَ مَضَى الصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنْ السَّابِقِينَ وَتَبِعَهُمْ التَّابِعُونَ فَلَمَّا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أُمُورِهِمْ ذَلِكَ تَرَكْنَا الْمُنَازَعَةَ وَالْخَوْضَ فِي الْكَلَامِ وَرَجَعْنَا إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَشَرَعْنَا فِيمَا شَرَعُوا وَجَالَسْنَا أَهْلَ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ مَعَ أَنِّي رَأَيْت مَنْ يَنْتَحِلُ الْكَلَامَ وَيُجَادِلُ فِيهِ قَوْمًا لَيْسَ سِيمَاهُمْ سِيمَا الْمُتَقَدِّمِينَ وَلَا مِنْهَاجُهُمْ مِنْهَاجَ الصَّالِحِينَ رَأَيْتهمْ قَاسِيَةً قُلُوبُهُمْ غَلِيظَةً أَفْئِدَتُهُمْ لَا يُبَالُونَ مُخَالَفَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِ فَهَجَرْتهمْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ كَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ ظَهِيرُ الدِّينِ الْمَرْغِينَانِيُّ فِي مَنَاقِبِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَوْلَهُ (وَدَلَّتْ الْمَسَائِلُ الْمُتَفَرِّقَةُ إلَى آخِرِهِ) اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ تَفَرَّقُوا أَوَّلًا عَلَى سِتِّ فِرَقٍ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ وَالرَّافِضَةِ وَالْخَارِجِيَّةِ وَالْمُشَبِّهَةِ وَالْمُرْجِئَةِ ثُمَّ تَفَرَّقَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ عَلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً فَصَارَ الْكُلُّ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً عَلَى مَا عُرِفَ فَفِي الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَغَيْرِهِمَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَمِيلُوا إلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ فَقَالُوا فِي قَوْمٍ صَلَّوْا بِجَمَاعَةٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ بِالتَّحَرِّي فَوَقَعَ تَحَرِّي كُلِّ أَحَدٍ إلَى جِهَةٍ إنَّ مَنْ عَلِمَ مِنْهُمْ بِحَالِ إمَامِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ إمَامَهُ فِي زَعْمِهِ مُخْطِئٌ فَلَوْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا عِنْدَهُمْ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ لَمَا صَحَّ الْقَوْلُ مِنْهُمْ بِفَسَادِ الصَّلَاةِ كَمَا لَوْ صَلَّوْا كَذَلِكَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا حَكَمُوا بِفَسَادِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ حَقِّيَّةَ كُلِّ جِهَةٍ مُخْتَصَّةٌ بِمُتَحَرِّيهَا إذْ اجْتِهَادُ كُلِّ مُجْتَهِدٍ حَقٌّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ حَتَّى لَمْ يَجُزْ الْعَمَلُ بِاجْتِهَادِهِ لِغَيْرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ كَحِلِّ الْمَيْتَةِ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْمُضْطَرِّ دُونَ غَيْرِهِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ، فَإِنَّ كُلَّ جِهَةٍ فِيهَا حَقٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمِيعِ النَّاسِ قُلْنَا إذَا كَانَ اجْتِهَادُ كُلِّ مُجْتَهِدٍ حَقًّا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْتَقِدَ الْغَيْرُ الْحَقِّيَّةَ بِتِلْكَ النِّسْبَةِ كَحِلِّ الْمَيْتَةِ لِمَا ثَبَتَ فِي حَقِّ الْمُضْطَرِّ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْتَقِدَ غَيْرُ الْمُضْطَرِّ الْحِلَّ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُضْطَرِّ وَهَهُنَا اعْتَقَدَهُ مُخْطِئًا مُطْلَقًا فَأَوْجَبَ فَسَادَ الصَّلَاةِ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالُوا لَمَا أَوْجَبَ فَسَادَ الصَّلَاةِ كَالْمُتَوَضِّئِ إذَا اقْتَدَى بِالْمُتَيَمِّمِ صَحَّ صَلَاتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَإِنْ كَانَ جَوَازُ الْأَدَاءِ بِالتَّيَمُّمِ ثَابِتًا فِي حَقِّ الْإِمَامِ دُونَ الْمُقْتَدِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَقِدْ إمَامَهُ عَلَى الْخَطَإِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مِيرَاثٍ قُسِّمَ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ أَوْ الْوَرَثَةِ لَا آخُذُ كَفِيلًا مِنْ الْغَرِيمِ وَلَا مِنْ الْوَارِثِ هُوَ شَيْءٌ احْتَاطَ بِهِ بَعْضُ الْقُضَاةِ، وَهُوَ جَوْرٌ سَمَّى اجْتِهَادَ ذَلِكَ الْبَعْضِ جَوْرًا وَلَوْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا عِنْدَهُ لَمَا صَحَّ وَصْفُهُ بِالْجَوْرِ وَقَالُوا فِيمَنْ حَلَفَ إنْ لَمْ آتِك غَدًا إنْ اسْتَطَعْت فَكَذَا إنَّهُ وَاقِعٌ عَلَى سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ لِلْعُرْفِ فَإِنْ قَالَ عَنَيْت بِهِ اسْتِطَاعَةَ الْقَضَاءِ صُدِّقَ دِيَانَةً حَتَّى لَا يَحْنَث وَإِنْ لَمْ يَأْتِهِ مَعَ عَدَمِ الْمَانِعِ فَدَلَّ أَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِالِاسْتِطَاعَةِ مَعَ الْفِعْلِ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَقَالُوا بِجَوَازِ إمَامَةِ الْفَاسِقِ، وَإِنْ كَانَتْ مَعَ الْكَرَاهِيَةِ وَفِيهِ رَدٌّ لِمَذْهَبِ الْخَوَارِجِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا بِكُفْرِ مَنْ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً وَإِمَامَةُ الْكَافِرِ لَا تَجُوزُ وَلِمَذْهَبِ الرَّافِضَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمْ شَرَطُوا لِصِحَّةِ الْإِمَامَةِ الْإِمَامَ الْمَعْصُومَ وَقَالُوا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ نَفَذَ قَضَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ وَفِيهِ رَدٌّ لِمَذْهَبِ الْخَوَارِجِ وَالِاعْتِزَالِ وَقَالُوا بِفَرْضِيَّةِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَفِيهِ رَدٌّ لِمَذْهَبِ الرَّوَافِضِ وَاتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الدُّعَاءِ بِقَوْلِهِ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك

وَأَنَّهُمْ قَالُوا بِحَقِّيَّةِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِبْصَارِ فِي دَارِ الْآخِرَةِ وَحَقِّيَّةِ عَذَابِ الْقَبْرِ لِمَنْ شَاءَ وَحَقِّيَّةِ خَلْقِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ الْيَوْمَ حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لِجَهْمٍ اُخْرُجْ عَنِّي يَا كَافِرُ وَقَالُوا بِحَقِّيَّةِ سَائِرِ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَهَذَا فَصْلٌ يَطُولُ تَعْدَادُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِمَقْعَدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِك مِنْ الْقُعُودِ؛ لِأَنَّهُ يُشِيرُ إلَى التَّمَكُّنِ وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِهِ بِقَوْلِهِ بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ الْعَقْدِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا بَأْسَ بِهِ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِيهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ تَعَلُّقَ الْعِزِّ بِالْعَرْشِ وَيُوهِمُ حُدُوثَ هَذِهِ الصِّفَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى بِجَمِيعِ أَوْصَافِهِ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ وَالْحَدِيثُ شَاذٌّ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ وَفِيهِ رَدٌّ لِمَذْهَبِ الْمُشَبِّهَةِ وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي الْحَلِفِ بِوَجْهِ اللَّهِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الذَّاتِ قَالَ تَعَالَى {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَكُونُ يَمِينًا وَأَنَّهُ مِنْ إيمَانِ السَّفَلَةِ أَيْ الْجَهَلَةِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَهُ بِمَعْنَى الْعُضْوِ الْجَارِحَةِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَفِيهِ رَدٌّ لِمَذْهَبِ الْمُشَبِّهَةِ أَيْضًا. وَقَالُوا إذَا ارْتَكَبَ الْعَبْدُ ذَنْبًا يُوجِبُ الْحَدَّ فَأُجْرِيَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَا يَحْصُلُ لَهُ التَّطْهِيرُ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ وَنَدَمٍ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِيهِ إلَيْهِ أُشِيرُ فِي سَرِقَةِ الْمَبْسُوطِ وَفِيهِ رَدٌّ لِمَذْهَبِ الْمُرْجِئَةِ، فَإِنَّ عِنْدَهُمْ لَا يَضُرُّ ذَنْبٌ مَعَ الْإِيمَانِ كَمَا لَا يَنْفَعُ طَاعَةٌ مَعَ الْكُفْرِ وَبَنَوْا مَسَائِلَ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى عَلَى اخْتِيَارِ الْعَبْدِ وَفِيهَا رَدٌّ لِمَذْهَبِ الْمُجْبِرَةِ فَثَبَتَ أَنَّهُمْ لَمْ يَمِيلُوا إلَى شَيْءٍ مِنْ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَخَصَّ نَفْيَ الِاعْتِزَالِ عَنْهُمْ بِالذِّكْرِ أَوَّلًا ثُمَّ عَمَّمَ نَفْيَ جَمِيعِ الْأَهْوَاءِ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ هُمْ الْمُدَّعُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مَذْهَبِهِمْ لَا غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ. قَوْلُهُ (وَإِنَّهُمْ قَالُوا) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ لَا بِفَتْحِهَا عَطْفًا عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَمِيلُوا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي الْمَسَائِلِ مَا يَدُلُّ عَلَى حَقِّيَّةِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّيَّةِ مَا ذُكِرَ وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يُرَى فِي الْآخِرَةِ يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ فِي الْجَنَّةِ بِأَعْيُنِ رُءُوسِهِمْ بِلَا شَبِيهٍ وَلَا كَيْفِيَّةٍ وَلَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ مَسَافَةٌ، وَحَقِّيَّةُ عَذَابِ الْقَبْرِ لِمَنْ شَاءَ ذَكَرَ فِي الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ وَإِعَادَةُ الرُّوحِ إلَى الْعَبْدِ فِي قَبْرِهِ حَقٌّ وَضَغْطَةُ الْقَبْرِ حَقٌّ كَائِنٌ وَعَذَابُهُ حَقٌّ كَائِنٌ لِلْكُفَّارِ كُلِّهِمْ أَجْمَعِينَ وَلِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ سَأَلْت أَبِي عَنْ عَذَابِ الْقَبْرِ أَحَقُّ هُوَ فَقَالَ هُوَ حَقٌّ أَتَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَجَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ، وَحَقِّيَّةُ خَلْقِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ يَعْنِي أَقَرُّوا بِخَلْقِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَبِأَنَّهُمَا مَوْجُودَتَانِ الْيَوْمَ كَذَا ذُكِرَ فِي الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ أَيْضًا أَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مَخْلُوقَتَانِ لَا تَفْنَيَانِ أَبَدًا وَلَا تَمُوتُ الْحُورُ أَبَدًا وَلَا يَفْنَى عَذَابُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا ثَوَابُهُ سَرْمَدًا، حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لِجَهْمٍ بَعْدَمَا طَالَ مُنَاظَرَتُهُمَا وَظَهَرَ مُكَابَرَتُهُ اُخْرُجْ عَنِّي يَا كَافِرُ، وَهُوَ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ رَئِيسُ الْجَبْرِيَّةِ، وَكَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُمَا لَيْسَتَا بِمَوْجُودَتَيْنِ الْيَوْمَ. وَإِنَّمَا تُخْلَقَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ كَذَا سَمِعْت مِنْ بَعْضِ الثِّقَاتِ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ سِيَاقُ كَلَامِ الشَّيْخِ مِنْ مَذْهَبِهِ أَيْضًا أَنَّهُمَا مَعَ أَهَالِيِهِمَا تَفْنَيَانِ، وَإِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ فَقَطْ دُونَ الْإِقْرَارِ وَأَنَّهُ لَا فِعْلَ لِأَحَدٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّ الْعِبَادَ فِيمَا يُنْسَبُ إلَيْهِمْ مِنْ الْأَفْعَالِ كَالشَّجَرَةِ تُحَرِّكُهَا الرِّيحُ وَالْإِنْسَانُ مُجْبَرٌ فِي أَفْعَالِهِ لَا قُدْرَةَ لَهُ وَلَا إرَادَةَ وَلَا اخْتِيَارَ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ وَالْكِفَايَةِ وَتَسْمِيَتُهُ إيَّاهُ كَافِرًا إمَّا بِاعْتِبَارِ غُلُوِّهِ فِي هَوَاهُ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الشَّتْمِ، وَقَالُوا بِحَقِّيَّةِ سَائِرِ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ مِنْ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقِرَاءَةِ الْكُتُبِ وَوَزْنِ الْأَعْمَالِ وَالصِّرَاطِ وَالشَّفَاعَةِ كُلُّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ، عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 7]

[النوع الثاني علم الفروع وهو الفقه]

وَالنَّوْعُ الثَّانِي عِلْمُ الْفُرُوعِ وَهُوَ الْفِقْهُ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: عِلْمُ الْمَشْرُوعِ بِنَفْسِهِ وَالْقِسْمُ الثَّانِي إتْقَانُ الْمَعْرِفَةِ بِهِ وَهُوَ مَعْرِفَةُ النُّصُوصِ بِمَعَانِيهَا وَضَبْطُ الْأُصُولِ بِفُرُوعِهَا وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ هُوَ الْعَمَلُ بِهِ حَتَّى لَا يَصِيرَ نَفْسُ الْعِلْمِ مَقْصُودًا فَإِذَا تَمَّتْ هَذِهِ الْأَوْجَهُ كَانَ فَقِيهًا ـــــــــــــــــــــــــــــQ {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الإسراء: 71] {فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ} [الإسراء: 71] {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19] {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف: 8] {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ الصِّرَاطَ جِسْرٌ مَمْدُودٌ عَلَى وَجْهِ جَهَنَّمَ أَوْ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ» «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» ، وَهَذَا أَيْ النَّوْعُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ عِلْمُ التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِمَّا يَجِبُ الِاعْتِقَادُ بِهِ [النَّوْع الثَّانِي عِلْمُ الْفُرُوعِ وَهُوَ الْفِقْهُ] قَوْلُهُ (وَالنَّوْعُ الثَّانِي عِلْمُ الْفُرُوعِ) ، وَهُوَ الْفِقْهُ سُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ فَرْعًا لِتَوَقُّفِ صِحَّةِ الْأَدِلَّةِ الْكُلِّيَّةِ فِيهِ مِثْلُ كَوْنِ الْكِتَابِ حُجَّةً مَثَلًا عَلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَعَلَى صِدْقِ الْمُبَلِّغِ وَهُوَ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ فَكَانَ هَذَا النَّوْعُ فَرْعًا لَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ إذْ الْفَرْعُ عَلَى مَا قِيلَ هُوَ الَّذِي يَفْتَقِرُ فِي وُجُودِهِ إلَى الْغَيْرِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ، أَيْ ثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فَإِذَا تَمَّتْ هَذِهِ الْأَوْجُهُ كَانَ فِقْهًا، عِلْمُ الْمَشْرُوعِ بِنَفْسِهِ، أَيْ عِلْمُ الْأَحْكَامِ مِثْلُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ وَالْوَاجِبِ وَالْمَنْهِيِّ وَالْمَنْدُوبِ وَالْمَكْرُوهِ، إتْقَانُ الْمَعْرِفَةِ بِهِ، أَيْ أَحْكَامُ الْعِرْفَانِ بِذَلِكَ الْمَشْرُوعِ، وَهُوَ أَيْ ذَلِكَ الْإِتْقَانُ هُوَ، مَعْرِفَةُ النُّصُوصِ بِمَعَانِيهَا، أَيْ مَعَ مَعَانِيهَا كَقَوْلِك دَخَلْت عَلَيْهِ بِثِيَابِ السَّفَرِ أَيْ مَعَهَا وَاشْتَرَيْت الْفَرَسَ بِلِجَامِهِ وَسَرْجِهِ أَيْ مَعَهُمَا أَوْ مَعْنَاهُ مُلْتَبِسَةٌ بِمَعَانِيهَا وَكَانَتْ الْجُمْلَةُ وَاقِعَةً مَوْقِعَ الْحَالِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20] أَيْ مُلْتَبِسَةٌ بِالدُّهْنِ وَالْمُرَادُ مِنْ الْمَعَانِي الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةُ وَالْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي تُسَمَّى عِلَلًا، وَكَانَ السَّلَفُ لَا يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ الْعِلَّةِ، وَإِنَّمَا يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ الْمَعْنَى أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى مَعَانٍ ثَلَاثٍ» أَيْ عِلَلٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ إحْدَى بِلَفْظَةِ التَّأْنِيثِ وَثَلَاثٍ بِدُونِ الْهَاءِ، وَضَبْطُ الْأُصُولِ بِفُرُوعِهَا أَيْ الْأُصُولِ الْمُخْتَصَّةِ بِهَذَا النَّوْعِ مَعَ فُرُوعِهَا مِثَالُ مَا ذَكَرْنَا أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] كِنَايَةٌ عَنْ الْحَدَثِ، فَهَذَا مَعْرِفَةُ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَيَعْرِفَ أَنَّ الْمَعْنَى الشَّرْعِيَّ الْمُؤَثِّرَ فِي الْحُكْمِ خُرُوجُ النَّجَاسَةِ عَنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ الْحَيِّ فَإِذَا أَتْقَنَ الْمَعْرِفَةَ بِهَذَا الطَّرِيقِ عَرَفَ الْحُكْمَ فِي غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ وَمِثَالُ ضَبْطِ الْأَصْلِ بِفَرْعِهِ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ الشَّكَّ لَا يُعَارِضُ الْيَقِينَ فَإِذَا شَكَّ فِي طَهَارَتِهِ وَقَدْ تَيَقَّنَ بِالْحَدَثِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ وَبِالْعَكْسِ لَا يَجِبُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ هُوَ الْعَمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْعِلْمِ لَا نَفْسُهُ إذْ الِابْتِلَاءُ يَحْصُلُ بِهِ لَا بِالْعِلْمِ نَفْسِهِ وَلَا يُقَالُ إنَّ الشَّيْخَ قَسَّمَ نَفْسَ الْعِلْمِ أَوَّلًا ثُمَّ أَدْخَلَ الْعَمَلَ فِي قِسْمَةِ الْعِلْمِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِحَدِّ الْعِلْمِ وَحَقِيقَتِهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّمَا أَدْخَلَ الْعَمَلَ فِي التَّقْسِيمِ بِالتَّقْيِيدِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْعِلْمُ الْمُنْجِي وَالنَّجَاةُ لَيْسَتْ إلَّا فِي انْضِمَامِ الْعَمَلِ إلَيْهِ إلَّا أَنَّ الْعَمَلَ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ الِاعْتِقَادُ وَفِي هَذَا النَّوْعِ بِالْجَوَارِحِ مَعَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ دُخُولَ الْعَمَلِ فِي التَّقْسِيمِ يَضُرُّ بِهِ لِأَنَّك إذَا فَسَّرْت الْحَيَوَانَ مَثَلًا بِأَنَّهُ حَسَّاسٌ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ وَقَسَّمْته بِأَنَّهُ أَنْوَاعُ إنْسَانٍ وَفَرَسٍ وَكَذَا وَكَذَا ثُمَّ فَسَّرْت الْإِنْسَانَ بِأَنَّهُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ فَدُخُولُ النُّطْقِ فِي التَّقْسِيمِ لَا يَضُرُّ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُغَايِرًا لِلْحَيَوَانِيَّةِ حَقِيقَةً لِوُجُودِ الْحَيَوَانِيَّةِ بِكَمَالِهَا مَعَ زِيَادَةِ قَيْدٍ فَكَذَا الشَّيْخُ قَسَّمَ الْعِلْمَ بِالنَّوْعَيْنِ ثُمَّ فَسَّرَ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ وَهُوَ الْفِقْهُ بِأَنَّهُ الْعِلْمُ الْمُنْضَمُّ إلَيْهِ الْعَمَلُ فَكَانَ صَحِيحًا

وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى عِلْمَ الشَّرِيعَةِ حِكْمَةً فَقَالَ: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] وَقَدْ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الْحِكْمَةَ فِي الْقُرْآنِ بِعِلْمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَقَالَ {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] أَيْ بِالْفِقْهِ وَالشَّرِيعَةِ وَالْحِكْمَةُ: فِي اللُّغَةِ هُوَ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ فَكَذَلِكَ مَوْضِعُ اشْتِقَاقِ هَذَا الِاسْمِ وَهُوَ الْفِقْهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِصِفَةِ الْإِتْقَانِ مَعَ اتِّصَالِ الْعَمَلِ بِهِ قَالَ الشَّاعِرُ: أَرْسَلْت فِيهَا قَرْمًا ذَا إقْحَامِ ... طِبًّا فَقِيهًا بِذَوَاتِ الْإِبْلَامِ سَمَّاهُ فَقِيهًا لِعِلْمِهِ بِمَا يَصْلُحُ وَبِمَا لَا يَصْلُحُ وَالْعَمَلُ بِهِ فَمَنْ حَوَى هَذِهِ الْجُمْلَةَ كَانَ فَقِيهًا مُطْلَقًا وَإِلَّا فَهُوَ فَقِيهٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَقَدْ نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ بِقَوْلِهِ {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122] ـــــــــــــــــــــــــــــQمُسْتَقِيمًا ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى مَا ادَّعَى فَقَالَ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَيْ عَلَى أَنَّ الْفِقْهَ هُوَ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُ حِكْمَةً وَالْحِكْمَةُ لُغَةً اسْمٌ لِلْعِلْمِ الْمُتْقَنِ وَالْعَمَلِ بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ ضِدَّهُ السَّفَهُ، وَهُوَ الْعَمَلُ عَلَى خِلَافِ مُوجِبِ الْعَقْلِ وَضِدُّ الْعِلْمِ الْجَهْلُ وَذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي يَمْنَعُ نَفْسَهُ عَنْ هَوَاهَا وَعَنْ الْقَبَائِحِ مَأْخُوذٌ مِنْ حَكَمَةِ الْفَرَسِ، وَهِيَ الَّتِي تَمْنَعُهُ عَنْ الْحِدَّةِ وَالْجَمُوحَةِ وَذَكَرَ فِي الْكَشَّافِ وَالْحَكِيمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْعَالِمُ الْعَامِلُ وَفِي عَيْنِ الْمَعَانِي كُنْهُهَا مَا يَرُدُّ الْعَقْلَ مِنْ الْخَوْضِ فِي مَعَانِي الرُّبُوبِيَّةِ إلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى مَبَانِي الْعُبُودِيَّةِ فَلَأَنْ يَعُودَ الْعَقْلُ مُعْتَرِفًا بِقُصُورِهِ أَحْمَدُ لَهُ مِنْ أَنْ يُتَّهَمَ بِإِرْبِهِ فِي أُمُورِهِ وَالتَّنْكِيرُ فِي قَوْله تَعَالَى {خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] تَنْكِيرُ تَعْظِيمٍ كَأَنَّهُ قَالَ فَقَدْ أُوتِيَ أَيَّ خَيْرٍ كَثِيرٍ وَالْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ هِيَ الَّتِي لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ تَعِظُهُ أَنَّك تُنَاصِحُهُ بِهَا وَتَقْصِدُ نَفْعَهُ فِيهَا وَوَصَفَ الْمَوْعِظَةَ بِالْحُسْنِ دُونَ الْحِكْمَةِ؛ لِأَنَّ الْمَوْعِظَةَ رُبَّمَا آلَتْ إلَى الْقُبْحِ بِأَنْ وَقَعَتْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا وَوَقْتِهَا. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «كَانَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ مَخَافَةَ السَّآمَةِ» فَأَمَّا الْحِكْمَةُ فَحَسَنَةٌ أَيْنَمَا وُجِدَتْ إذْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقَوْلِ الصَّوَابِ وَالْفِعْلِ الصَّوَابِ. قَوْلُهُ (قَالَ الشَّاعِرُ) ، وَهُوَ رُؤْبَةُ أَرْسَلْت فِيهَا أَيْ فِي النُّوقِ وَكَلِمَةُ فِي لِبَيَانِ مَوْضِعِ الْإِرْسَالِ وَمَحَلُّهَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ} [الصافات: 72] لَا لِتَعْدِيَةِ الْإِرْسَالِ إلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي، فَإِنَّهُ تَعَدَّى إلَيْهِ بِإِلَى، وَالْقَرْمُ الْبَعِيرُ الْمُكَرَّمُ الَّذِي لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ وَلَا يُذَلَّلُ وَلَكِنْ يَكُونُ لِلْفَحْلَةِ وَمِنْهُ قِيلَ لِلسَّيِّدِ قَرْمٌ تَشْبِيهًا لَهُ بِهِ، وَالْإِقْحَامُ إلْقَاءُ النَّفْسِ فِي الشِّدَّةِ وَفِي تَاجِ الْمَصَادِرِ الْإِقْحَام در آوردن جيزي در جيزي بِعُنْفٍ وَالطِّبُّ هُوَ الْمَاهِرُ بِالضِّرَابِ وَالْأَبْلَامِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ بَلَمَةٍ يُقَالُ نَاقَةٌ بِهَا بَلَمَةٌ شَدِيدَةٌ إذَا اشْتَدَّتْ ضَبْعَتُهَا أَيْ رَغْبَتُهَا إلَى الْفَحْلِ وَبِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مَصْدَرُ أَبْلَمَتْ النَّاقَةُ إذَا وَرِمَ حَيَاؤُهَا مِنْ شِدَّةِ الضَّبَعَةِ وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ بِالْبَيْتِ هُوَ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ أَنَّهُ لَمَّا وَجَدَ فِيهِ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ أَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الْفَقِيهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْفِقْهَ اسْمٌ لِلْجَمِيعِ، فَمَنْ حَوَى أَيْ جَمَعَ. هَذِهِ الْجُمْلَةَ أَيْ الْوُجُوهَ الثَّلَاثَةَ، كَانَ فَقِيهًا مُطْلَقًا أَيْ كَامِلًا تَامًّا، وَإِلَّا أَيْ، وَإِنْ يَجْمَعُهَا وَاقْتَصَرَ عَلَى وَجْهٍ أَوْ وَجْهَيْنِ، فَهُوَ فَقِيهٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ لِوُجُودِ بَعْضِ أَجْزَاءِ الْحَقِيقَةِ دُونَ الْبَعْضِ وَيُسَمِّي الشَّيْخُ هَذَا النَّوْعَ حَقِيقَةً قَاصِرَةً قَوْلُهُ (وَقَدْ نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ) أَيْ دَعَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ فِي بَيَانِ فَضِيلَةِ الْفِقْهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَتِمَّةِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْفِقْهَ هُوَ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ. وَبَيَانُهُ أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ وَرَدَ بِفَضَائِلِ الْفِقْهِ مُطْلَقًا فِي غَيْرِ آيَةٍ وَحَدِيثٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تِلْكَ الْفَضَائِلَ مُنْتَفِيَةٌ عَنْهُ عِنْدَ تَجَرُّدِهِ عَنْ الْعَمَلِ بِدَلِيلِ النُّصُوصِ الْمُطْلَقَةِ الْوَارِدَةِ فِي حَقِّ الْعُلَمَاءِ السُّوءِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف: 176] وَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وَيْلٌ لِلْجَاهِلِ مَرَّةً وَلِلْعَالِمِ سَبْعِينَ مَرَّةً» وَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سُئِلَ عَنْ شِرَارِ الْخَلْقِ فَقَالَ اللَّهُمَّ غُفْرًا حَتَّى كُرِّرَ عَلَيْهِ فَقَالَ هُمْ الْعُلَمَاءُ السُّوءُ» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ فَثَبَتَ أَنَّ مُطْلَقَهُ وَاقِعٌ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ جَمِيعًا تَوْضِيحُهُ أَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ» وَرَدَ فِيمَنْ يَجْمَعُ بَيْنَ

وَصَفَهُمْ بِالْإِنْذَارِ وَهُوَ الدَّعْوَةُ إلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إذَا فَقِهُوا» وَقَالَ: «إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ كَمَا أَشَارَ الشَّيْخُ إلَيْهِ فَأَمَّا مَنْ أَقْبَلَ عَلَى الْعِلْمِ وَتَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ فَهُوَ سُخْرَةُ الشَّيْطَانِ وَضَحِكَتُهُ فَكَيْفَ يَكُونُ مِثْلُهُ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَيَانِ تَبْدِيلِ أَسَامِي الْعُلُومِ أَنَّ النَّاسَ تَصَرَّفُوا فِي اسْمِ الْفِقْهِ فَخَصُّوهُ بِعِلْمِ الْفَتَاوَى وَالْوُقُوفِ عَلَى دَقَائِقِهَا وَعِلَلِهَا وَاسْمُ الْفِقْهِ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ كَانَ مُنْطَلِقًا عَلَى عِلْمِ الْآخِرَةِ وَمَعْرِفَةِ دَقَائِقِ آفَاتِ النُّفُوسِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى الْآخِرَةِ وَحَقَارَةِ الدُّنْيَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} [التوبة: 122] وَالْإِنْذَارُ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْعِلْمِ دُونَ تَفَارِيعِ السَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَفْقَهُ الْعَبْدُ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى يَمْقُتَ النَّاسَ فِي ذَاتِ اللَّهِ» وَرُوِيَ أَيْضًا مَوْقُوفًا عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثُمَّ يُقْبِلُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ لَهَا أَشَدَّ مَقْتًا وَسَأَلَ فَرْقَدُ السِّنْجِيُّ الْحَسَنَ عَنْ شَيْءٍ فَأَجَابَهُ فَقَالَ إنَّ الْفُقَهَاءَ يُخَالِفُونَك فَقَالَ الْحَسَنُ ثَكِلَتْك أُمُّك فُرَيْقِدُ وَهَلْ رَأَيْت فَقِيهًا بِعَيْنِك إنَّمَا الْفَقِيهُ هُوَ الزَّاهِدُ فِي الدُّنْيَا الرَّاغِبُ فِي الْآخِرَةِ الْبَصِيرُ بِذَنْبِهِ الْمُدَاوِمُ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ الْوَرِعُ الْكَافُّ عَنْ أَعْرَاضِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ اسْمُ الْفِقْهِ مُتَنَاوِلًا لِهَذِهِ الْعُلُومِ وَلِلْفَتَاوَى أَيْضًا فَخُصَّ بِالْفَتَاوَى لَا غَيْرُ فَتَجَرَّدَ النَّاسُ بِهِ لِأَغْرَاضِ الْجَاهِ وَالِاسْتِتْبَاعِ اسْتِرْوَاحًا بِمَا جَاءَ فِي فَضِيلَةِ الْفِقْهِ قَوْله تَعَالَى. {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] اللَّامُ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ نَفِيرَ الْكَافَّةِ عَنْ أَوْطَانِهِمْ لِطَلَبِ الْعِلْمِ غَيْرُ صَحِيحٍ وَلَا مُمْكِنٌ وَفِيهِ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ وَأَمْكَنَ وَلَمْ يُؤَدِّ إلَى مَفْسَدَةٍ لَوَجَبَ لِوُجُوبِ التَّفَقُّهِ عَلَى الْكَافَّةِ؛ وَلِأَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ فَلَوْلَا نَفَرَ أَيْ فَحِينَ لَمْ يُمْكِنْ نَفِيرُ الْكَافَّةِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ فَهَلَّا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ طَائِفَةٌ أَيْ مِنْ كُلِّ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ جَمَاعَةٌ قَلِيلَةٌ يَكْفُونَهُمْ النَّفِيرَ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ لِيَتَكَلَّفُوا الْفَقَاهَةَ فِيهِ وَيَتَجَشَّمُوا الْمَشَاقَّ فِي أَخْذِهَا وَتَحْصِيلِهَا وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ وَلِيَجْعَلُوا غَرَضَهُمْ وَمَرْمَى هِمَّتِهِمْ فِي التَّفَقُّهِ إنْذَارَ قَوْمِهِمْ وَإِرْشَادَهُمْ وَالنَّصِيحَةَ لَهُمْ لَا مَا يَنْتَحِيهِ الْفُقَهَاءُ مِنْ الْأَغْرَاضِ الْخَسِيسَةِ وَتَؤُمُّونَهُ مِنْ الْمَقَاصِدِ الرَّكِيكَةِ مِنْ التَّصَدُّرِ وَالتَّرَؤُّسِ وَالتَّبَسُّطِ فِي الْبِلَادِ وَالتَّشَبُّهِ بِالظَّلَمَةِ فِي مَلَابِسِهِمْ وَمَرَاكِبِهِمْ وَمُنَافِسَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَفُشُوِّ دَاءِ الضَّرَائِرِ بَيْنَهُمْ وَانْقِلَابِ حَمَالِقَ أَحَدِهِمْ إذَا لَمَحَ بِبَصَرِهِ مَدْرَسَةً لِآخَرَ أَوْ شِرْذِمَةً جَثَوْا بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَهَالُكَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَوْطِئَ الْعَقِبِ دُونَ النَّاسِ كُلِّهِمْ فَمَا أَبْعَدَ هَؤُلَاءِ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} [القصص: 83] لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ إرَادَةَ أَنْ يَحْذَرُوا اللَّهَ فَيَعْمَلُوا عَمَلًا صَالِحًا وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا بَعَثَ بَعْثًا بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَبَعْدَمَا أُنْزِلَ فِي الْمُتَخَلِّفِينَ مِنْ الْآيَاتِ الشِّدَادِ اسْتَبَقَ الْمُؤْمِنُونَ عَنْ آخِرِهِمْ إلَى النَّفِيرِ وَانْقَطَعُوا جَمِيعًا عَنْ اسْتِمَاعِ الْوَحْيِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ فَأُمِرُوا أَنْ يَنْفِرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ إلَى الْجِهَادِ وَيَبْقَى أَعْقَابُهُمْ يَتَفَقَّهُونَ حَتَّى لَا يَنْقَطِعُوا عَنْ التَّفَقُّهِ الَّذِي هُوَ الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ لِأَنَّ الْجِدَالَ بِالْحُجَّةِ أَعْظَمُ أَثَرًا مِنْ الْجِهَادِ بِالسَّيْفِ وَقَوْلُهُ لِيَتَفَقَّهُوا الضَّمِيرُ فِيهِ لِلْفِرَقِ الْبَاقِيَةِ بَعْدَ الطَّوَائِفِ النَّافِرَةِ مِنْ بَيْنِهِمْ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ وَلِيُنْذِرَ الْفِرَقُ الْبَاقِيَةُ قَوْمَهُمْ النَّافِرِينَ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ بِمَا حَصَّلُوا فِي أَيَّامِ غَيْبَتِهِمْ مِنْ الْعُلُومِ وَعَلَى الْأَوَّلِ الضَّمِيرُ لِلطَّائِفَةِ النَّافِرَةِ

وَأَصْحَابُنَا هُمْ السَّابِقُونَ فِي هَذَا الْبَابِ وَلَهُمْ الرُّتْبَةُ الْعُلْيَا وَالدَّرَجَةُ الْقُصْوَى فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ وَهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ فِي عِلْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمُلَازَمَةِ الْقُدْوَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَى الْمَدِينَةِ لِلتَّفَقُّهِ كَذَا فِي الْكَشَّافِ وَلَا يُقَالُ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مُعَارَضَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} [التوبة: 41] لِأَنَّا نَقُولُ هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِلْآيَاتِ الَّتِي تُوجِبُ نَفَرَ الْكُلِّ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَأَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ أَوْ هِيَ نَازِلَةٌ حَالَ كَثْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَتِلْكَ فِي حَالِ قِلَّتِهِمْ أَوْ هِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى غَيْرِ حَالَةِ هُجُومِ الْعَدُوِّ وَتِلْكَ عَلَى حَالَةِ الْهُجُومِ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ وَالْإِنْذَارُ هُوَ الدَّعْوَةُ إلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لِأَنَّ الْمُنْذِرَ إذَا لَمْ يَعْمَلْ بِمَا يُنْذَرُ بِهِ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَلَا إلَى كَلَامِهِ أَصْلًا كَمَنْ أَشَارَ إلَى طَعَامٍ لَذِيذٍ وَقَالَ لَا تَأْكُلُوهُ، فَإِنَّهُ مَسْمُومٌ ثُمَّ أَخَذَ فِي أَكْلِهِ لَا يُلْتَفَتُ إلَى كَلَامِهِ أَصْلًا فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْإِنْذَارِ مِنْ الْعَمَلِ بِهِ وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْفُقَهَاءَ بِالْإِنْذَارِ بِقَوْلِهِ {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} [التوبة: 122] فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِمَا أُنْذِرُوا بِهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْفَقِيهَ هُوَ الْعَالِمُ الْعَامِلُ وَالْفِقْهُ هُوَ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ أَقْوَامًا عَلَى الْإِنْذَارِ بِدُونِ الْعَمَلِ بِقَوْلِهِ {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] وَبِقَوْلِهِ {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] وَقَدْ حَرَّضَهُمْ هَهُنَا عَلَيْهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ هُوَ الدَّعْوَةُ إلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ جَمِيعًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ قَالَ أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُك قَالَ أَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ قَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُك قَالَ فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونَنِي قَالُوا نَعَمْ قَالَ فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إذَا فَقِهُوا» فَقِهَ الرَّجُلُ بِالْكَسْرِ فِقْهًا فَهِمَ وَفَقِهَ فَقَاهَةً إذَا صَارَ فَقِيهًا قَوْلُهُ (وَأَصْحَابُنَا) أَيْ أَصْحَابُ مَذْهَبِنَا وَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَصْحَابُهُ، هُمْ السَّابِقُونَ أَيْ الْمُتَقَدِّمُونَ، فِي هَذَا الْبَابِ أَيْ الْفِقْهِ ذَكَرَ ضَمِيرَ الْفَصْلِ لِيَدُلَّ عَلَى نَوْعِ تَخْصِيصٍ وَحَصْرٍ أَيْ هُمْ الْمُخْتَصُّونَ بِالسَّبْقِ فِيهِ لَا غَيْرُهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهُمْ أَحَدٌ فِي تَخْرِيجِ الْمَسَائِلِ وَتَصْحِيحِ الْأَجْوِبَةِ وَلَمْ يَبْلُغْ غَايَتَهُمْ فِي تَرْتِيبِ الْفُرُوعِ عَلَى الْأُصُولِ وَبَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي تِلْكَ، وَلَهُمْ الرُّتْبَةُ الْعُلْيَا أَيْ الْمَنْزِلَةُ الَّتِي لَا مَنْزِلَةَ فَوْقَهَا وَالْعُلْيَا وَالْقُصْوَى تَأْنِيثُ الْأَعْلَى وَالْأَقْصَى، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ تُقْلَبَ وَاوُ الْقُصْوَى يَاءً كَوَاوِ الْعُلْيَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ الصِّفَاتِ الْجَارِيَةِ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ وَوَاوُ فُعْلَى تُقْلَبُ يَاءً فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ إلَّا أَنَّهَا جَاءَتْ بِالْوَاوِ أَيْضًا فِي بَعْضِ اللُّغَاتِ عَلَى سَبِيلِ الشُّذُوذِ كَمَا جَاءَتْ بِالْيَاءِ قَالَ الْإِمَامُ عَبْدُ الْقَاهِرِ، وَإِذَا كَانَتْ اللَّامُ وَاوًا فِي فُعْلَى، فَإِنَّهَا تُقْلَبُ فِي الصِّفَاتِ الْجَارِيَةِ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ إلَى الْيَاءِ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ مِثْلُ الدُّنْيَا وَالْعُلْيَا وَالْقُصْيَا وَقَدْ قَالُوا الْقُصْوَى فَجَاءَ عَلَى الْأَصْلِ كَمَا جَاءَ قَوِدَ وَاسْتَحْوَذَ وَذَكَرَ فِي الْكَشَّافِ الْقُصْوَى كَالْقَوْدَى فِي مَجِيئِهِ عَلَى الْأَصْلِ وَقَدْ جَاءَ الْقُصْيَا إلَّا أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْقُصْوَى أَكْثَرُ كَمَا كَثُرَ اسْتِعْمَالُ اسْتَصْوَبَ مَعَ مَجِيءِ اسْتَصَابَ وَأَغْلَيْت مَعَ غَالَتْ، الرَّبَّانِيُّ فِي الْمُتَأَلِّهِ الْعَارِفُ بِاَللَّهِ تَعَالَى كَذَا فِي الصِّحَاحِ وَفِي الْكَشَّافِ الرَّبَّانِيُّ الشَّدِيدُ التَّمَسُّكِ بِدِينِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ وَقِيلَ هُوَ الَّذِي يَرُبُّ النَّاسَ بِصِغَارِ الْعُلُومِ قَبْلَ كِبَارِهَا وَقِيلَ هُوَ الَّذِي يَرُبُّ النَّاسَ بِعِلْمِهِ وَعَمَلِهِ بِعَمَلِهِ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَى الرَّبِّ بِزِيَادَةِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ لِلتَّعْظِيمِ كَاللِّحْيَانِيِّ وَالنُّورَانِيِّ وَقَدْ جَاءَ رَبَّى بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا وَضَمِّهَا وَالْقِيَاسُ هُوَ الْفَتْحُ وَالْبَاقِي مِنْ تَغَيُّرَاتِ النَّسَبِ، وَالْقُدْوَةُ مِنْ الِاقْتِدَاءِ

وَهُمْ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَالْمَعَانِي أَمَّا الْمَعَانِي فَقَدْ سَلَّمَ لَهُمْ الْعُلَمَاءُ حَتَّى سَمَّوْهُمْ أَصْحَابَ الرَّأْيِ وَالرَّأْيُ اسْمٌ لِلْفِقْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَهُمْ أَوْلَى بِالْحَدِيثِ أَيْضًا ـــــــــــــــــــــــــــــQكَالْأُسْوَةِ مِنْ الْايتِسَاءِ لَفْظًا وَمَعْنًى وَيُقَالُ فُلَانٌ قُدْوَةٌ أَيْ يُقْتَدَى بِهِ يَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا يُلَازِمُونَ طَرِيقَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي أَخْذِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْكِتَابِ ثُمَّ مِنْ السُّنَّةِ ثُمَّ مِنْ الْإِجْمَاعِ ثُمَّ الْقِيَاسِ وَيَسْلُكُونَ نَهْجَهُمْ وَلَا يَخْتَرِعُونَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مَا يُخَالِفُ طَرِيقَتَهُمْ فِي اسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ وَاسْتِنْبَاطِهَا. قَوْلُهُ (وَهُمْ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَالْمَعَانِي) وَلَمَّا طَعَنَ الْخُصُومُ فِي أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ الرَّأْيِ دُونَ الْحَدِيثِ يَعْنُونَ بِهِ أَنَّهُمْ وَضَعُوا الْأَحْكَامَ بِاقْتِضَاءِ آرَائِهِمْ فَإِنْ وَافَقَ الْحَدِيثُ رَأْيَهُمْ قَبِلُوهُ وَإِلَّا قَدَّمُوا رَأْيَهُمْ عَلَى الْحَدِيثِ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِمْ طَعْنَهُمْ بِقَوْلِهِ وَهُمْ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ. وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ الشَّيْخَ الْمُصَنِّفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَاظَرَ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ فِي أَلْوَانِ تَحْصِيلِهِ بِبُخَارَى بِإِشَارَةِ أَخِيهِ شَيْخِ الْأَنَامِ صَدْرِ الْإِسْلَامِ أَبِي الْيُسْرِ وَأَفْحَمَهُ فَلَمَّا تَفَرَّقُوا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنَّ الْمَعَانِيَ قَدْ تَيَسَّرَتْ لِأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَكِنْ لَا مُمَارَسَةَ لَهُمْ بِالْحَدِيثِ فَبَلَغَ الشَّيْخَ فَرَدَّهُ فِي هَذَا التَّصْنِيفِ وَقَالَ وَهُمْ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَالْمَعَانِي أَمَّا الْمَعَانِي فَقَدْ سَلَّمَ لَهُمْ الْعُلَمَاءُ أَيْ سَلَّمُوهَا لَهُمْ إجْمَالًا وَتَفْصِيلًا أَمَّا إجْمَالًا؛ فَلِأَنَّهُمْ سَمَّوْهُمْ أَصْحَابَ الرَّأْيِ تَعْبِيرًا لَهُمْ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا سَمَّوْهُمْ بِذَلِكَ لِإِتْقَانِ مَعْرِفَتِهِمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَاسْتِخْرَاجِهِمْ الْمَعَانِي مِنْ النُّصُوصِ لِبِنَاءِ الْأَحْكَامِ وَدِقَّةِ نَظَرِهِمْ فِيهَا وَكَثْرَةِ تَفْرِيعِهِمْ عَلَيْهَا وَقَدْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ عَامَّةُ أَهْلِ زَمَانِهِمْ فَنَسَبُوا أَنْفُسَهُمْ إلَى الْحَدِيثِ وَأَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ إلَى الرَّأْيِ وَالرَّأْيُ هُوَ نَظَرٌ الْقَلْبِ يُقَالُ رَأَى رَأْيًا بَدَلُ ديد وَرَأَى رُؤْيَا بِغَيْرِ تَنْوِينٍ بخواب ديد وَرَأَى رُؤْيَةً بجشم ديد وَفِي الْمُغْرِبِ الرَّأْيُ مَا ارْتَأْهُ الْإِنْسَانُ وَاعْتَقَدَهُ وَأَمَّا تَفْصِيلًا فَمَا رُوِيَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ اجْتَمَعْت مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَلَسْنَا أَوْقَاتًا وَكَلَّمْته فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ فَمَا رَأَيْت رَجُلًا أَفْقَهَ مِنْهُ وَلَا أَغْوَصَ مِنْهُ فِي مَعْنَى وَحُجَّةٍ وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ فِي كُتُبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَتَفَقَّهَ بِهَا وَعَنْ حَرْمَلَةَ أَنَّهُ سَمِعَ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَبَحَّرَ فِي الْفِقْهِ فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعَنْ أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ مَنْ أَرَادَ الْفِقْهَ فَلْيَلْزَمْ أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَاَللَّهِ مَا صِرْت فَقِيهًا إلَّا بِاطِّلَاعِي فِي كُتُبِ أَبِي حَنِيفَةَ لَوْ لَحِقْته قَدْ لَازَمْت مَجْلِسَهُ وَبَلَغَ ابْنَ سُرَيْجٍ أَنَّ رَجُلًا وَقَعَ فِي أَبِي حَنِيفَةَ فَدَعَاهُ وَقَالَ يَا هَذَا أَتَقَعُ فِي رَجُلٍ سَلَّمَ لَهُ جَمِيعُ الْأُمَّةِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْعِلْمِ. وَهُوَ لَا يُسَلِّمُ لَهُمْ الرُّبْعَ قَالَ كَيْفَ ذَاكَ فَقَالَ الْعِلْمُ قِسْمَانِ سُؤَالٌ وَجَوَابٌ وَأَنَّهُ وَضَعَ الْمَسَائِلَ فَسُلِّمَ لَهُ النِّصْفُ ثُمَّ أَجَابَ فِيهَا وَوَافَقُوهُ فِي النِّصْفِ أَوْ أَكْثَرَ فَسُلِّمَ لَهُ الرُّبْعُ الْآخَرُ، وَإِنَّمَا خَالَفُوهُ فِي الْبَاقِي، وَهُوَ لَا يُسَلِّمُ لَهُمْ ذَلِكَ فَبَقِيَ الرُّبْعُ مُتَنَازَعًا فِيهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكُلِّ. قَوْلُهُ (وَهُمْ أَوْلَى بِالْحَدِيثِ) أَيْ بِأَنْ يَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ أَيْضًا تَفْصِيلًا وَإِجْمَالًا أَمَّا تَفْصِيلًا فَلِمَا رُوِيَ عَنْ حَيِّ بْنِ آدَمَ أَنَّهُ قَالَ إنَّ فِي الْحَدِيثِ نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا كَمَا فِي الْقُرْآنِ، وَكَانَ النُّعْمَانُ جَمَعَ حَدِيثَ أَهْلِ بَلَدِهِ كُلِّهِ فَنَظَرَ إلَى آخِرِ مَا قُبِضَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذَ بِهِ فَكَانَ فَقِيهًا وَعَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ سَمِعْت أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: عَجَبًا لِلنَّاسِ يَقُولُونَ إنِّي أَقُولُ بِالرَّأْيِ وَمَا أُفْتِي إلَّا بِالْأَثَرِ وَعَنْ النَّضْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ مَا رَأَيْت أَحَدًا أَكْثَرَ أَخْذًا لِلْآثَارِ

أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ جَوَّزُوا نَسْخُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ لِقُوَّةِ مَنْزِلَةِ السُّنَّةِ عِنْدَهُمْ وَعَمِلُوا بِالْمَرَاسِيلِ تَمَسُّكًا بِالسُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَرَأَوْا الْعَمَلَ بِهِ مَعَ الْإِرْسَالِ أَوْلَى مِنْ الرَّأْيِ، وَمَنْ رَدَّ الْمَرَاسِيلَ فَقَدْ رَدَّ كَثِيرًا مِنْ السُّنَّةِ وَعَمِلَ بِالْفَرْعِ بِتَعْطِيلِ الْأَصْلِ وَقَدَّمُوا رِوَايَةَ الْمَجْهُولِ عَلَى الْقِيَاسِ وَقَدَّمُوا قَوْلَ الصَّحَابِيِّ عَلَى الْقِيَاسِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي: لَا يَسْتَقِيمُ الْحَدِيثُ إلَّا بِالرَّأْيِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَنْ يَحْيَى بْنِ نَصْرٍ قَالَ سَمِعْت أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ عِنْدِي صَنَادِيقُ مِنْ الْحَدِيثِ مَا أَخْرَجْت مِنْهَا إلَّا الْيَسِيرَ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ. وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ قَالَ سَمِعْت أَبِي يَقُولُ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ شَدِيدَ الِاتِّبَاعِ لِلْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ، وَعَنْ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ قَالَ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقِيهًا مَعْرُوفًا بِالْفِقْهِ مَشْهُورًا بِالْوَرَعِ وَاسِعَ الْمَالِ صَبُورًا عَلَى تَعْلِيمِ الْعِلْمِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ كَثِيرَ الصَّمْتِ هَارِبًا مِنْ مَالِ السُّلْطَانِ، وَكَانَ إذَا وَرَدَتْ عَلَيْهِ مَسْأَلَةٌ فِيهَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ اتَّبَعَهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا قَوْلٌ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَخَذَ بِهِ وَإِلَّا قَاسَ فَأَحْسَنَ الْقِيَاسَ، وَقِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ الْمُرَادُ مِنْ الْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ (أَصْحَابُ الرَّأْيِ أَعْدَاءُ السُّنَّةِ) أَبُو حَنِيفَةَ وَأَمْثَالُهُ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ أَبُو حَنِيفَةَ يُجْهِدُ جَهْدَهُ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ عَلَى السُّنَّةِ فَلَا يُفَارِقُهَا فِي شَيْءٍ مِنْهُ فَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ أَعَادِي السُّنَّةِ إنَّمَا هُمْ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْخُصُومَاتِ الَّذِينَ يَتْرُكُونَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَيَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ. وَأَمَّا إجْمَالًا فَمَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ، وَالْمُرْسَلُ الْمُطْلَقُ، وَهُوَ فِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ مَا يَرْوِيهِ التَّابِعِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَذْكُرْ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّسُولِ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالنَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ، وَالْمَرَاسِيلُ اسْمُ جَمْعٍ لَهُ كَالْمَنَاكِيرِ لِلْمُنْكَرِ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ، تَمَسُّكًا بِالسُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ، السُّنَّةُ أَعَمُّ مِنْ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهَا تَتَنَاوَلُ الْفِعْلَ وَالْقَوْلَ وَالْحَدِيثُ مُخْتَصٌّ بِالْقَوْلِ. وَقِيلَ إنَّمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ ذَلِكَ الْعَامَّ قَدْ خُصَّ مِنْهُ فَأَكَّدَهُ بِذِكْرِ الْحَدِيثِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ هَهُنَا، وَرَأَوْا أَيْ اعْتَقَدُوا الْعَمَلَ بِهِ أَيْ بِالْمُرْسَلِ مَعَ صِفَةِ الْإِرْسَالِ، أَوْلَى مِنْ الرَّأْيِ، أَيْ مِنْ الْعَمَلِ بِهِ، كَثِيرًا مِنْ السُّنَّةِ، فَإِنَّهُمْ جَمَعُوا الْمَرَاسِيلَ فَبَلَغَ دَفْتَرًا قَرِيبًا مِنْ خَمْسِينَ جُزْءًا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، وَعُمِلَ بِالْفَرْعِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، بِتَعْطِيلِ الْأَصْلِ، أَيْ مُلْتَبِسًا بِهِ يَعْنِي عَمِلَ بِالْقِيَاسِ مُعَطِّلًا لِلْأَصْلِ، وَهُوَ الْحَدِيثُ وَمِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْعَمَلِ بِالْفَرْعِ أَنْ يَكُونَ مُقَرِّرًا لِلْأَصْلِ لَا مُعَطِّلًا لَهُ، وَقَدَّمُوا رِوَايَةَ الْمَجْهُولِ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَشْتَهِرْ بِرِوَايَةِ الْحَدِيثِ وَلَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِرِوَايَةِ حَدِيثٍ أَوْ حَدِيثَيْنِ، عَلَى الْقِيَاسِ، حَتَّى قَدَّمُوا رِوَايَةَ مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ عَلَى الْقِيَاسِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُفَوَّضَةِ وَقَدَّمُوا قَوْلَ الصَّحَابِيِّ لِاحْتِمَالِ السَّمَاعِ مِنْ الرَّسُولِ عَلَى مَا يُعْرَفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي مَوْضِعِهِ مِنْ أَقْسَامِ السُّنَّةِ وَأَبْوَابِ النَّسْخِ، وَإِذَا أَثْبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَذْهَبِهِمْ كَيْفَ يُظَنُّ بِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقَدِّمُونَ الرَّأْيَ عَلَى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الثَّابِتِ الْمَتْنِ وَمَعَ ذَلِكَ قَدَّمُوا قَوْلَ الصَّحَابِيِّ وَرِوَايَةَ الْمَجْهُولِ عَلَى الْقِيَاسِ فَلَوْ زَعَمَ أَحَدٌ أَنَّهُمْ خَالَفُوا الْحَدِيثَ فِي صُورَةِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ لِمُعَارَضَةِ حَدِيثٍ آخَرَ ثَابِتٍ عِنْدَهُمْ يُؤَيِّدُهُ الْقِيَاسُ أَوْ لِدَلَالَةِ آيَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ عَلَى مَا بُيِّنَ فِي الْكُتُبِ الطِّوَالِ فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الرَّأْيُ عِنْدَهُمْ مُقَدَّمًا عَلَى السُّنَّةِ كَمَا ظَنَّهُ الطَّاعِنُ فَكَلَّا قَوْلُهُ (لَا يَسْتَقِيمُ الْحَدِيثُ إلَّا بِالرَّأْيِ) أَيْ بِاسْتِعْمَالِ الرَّأْيِ فِيهِ بِأَنْ يُدْرِكَ مَعَانِيَهُ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْأَحْكَامِ وَلَا يَسْتَقِيمُ الرَّأْيُ إلَّا بِالْحَدِيثِ أَيْ لَا يَسْتَقِيمُ الْعَمَلُ بِالرَّأْيِ وَالْأَخْذِ بِهِ إلَّا بِانْضِمَامِ الْحَدِيثِ إلَيْهِ، مِثَالُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ سُئِلَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ عَنْ صَبِيَّيْنِ ارْتَضَعَا لَبَنَ شَاةٍ هَلْ ثَبَتَتْ بَيْنَهُمَا حُرْمَةُ الرَّضَاعِ فَأَجَابَ بِأَنَّهَا ثَبَتَتْ عَمَلًا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كُلُّ صَبِيَّيْنِ اجْتَمَعَا عَلَى ثَدْيٍ وَاحِدٍ حَرُمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَأَخْطَأَ لِفَوَاتِ الرَّأْيِ. وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَتَأَمَّلْ أَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَثْبُتُ بَيْنَ الْآدَمِيَّيْنِ لَا بَيْنَ الشَّاةِ وَالْآدَمِيِّ، وَسَمِعْت

وَلَا يَسْتَقِيمُ الرَّأْيُ إلَّا بِالْحَدِيثِ حَتَّى أَنَّ مَنْ لَا يُحْسِنُ الْحَدِيثَ أَوْ عِلْمَ الْحَدِيثِ وَلَا يُحْسِنُ الرَّأْيَ فَلَا يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ وَالْفَتْوَى وَقَدْ مَلَأَ كُتُبَهُ مِنْ الْحَدِيثِ، وَمَنْ اسْتَرَاحَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ عَنْ بَحْثِ الْمَعَانِي وَنَكَلَ عَنْ تَرْتِيبِ الْفُرُوعِ عَلَى الْأُصُولِ انْتَسَبَ إلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَهَذَا الْكِتَابُ لِبَيَانِ النُّصُوصِ بِمَعَانِيهَا وَتَعْرِيفِ الْأُصُولِ بِفُرُوعِهَا عَلَى شَرْطِ الْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاَللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْت وَإِلَيْهِ أُنِيبُ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَنْ شَيْخِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ كَانَ وَاحِدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ يُوتِرُ بَعْدَ الِاسْتِنْجَاءِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَنْ اسْتَنْجَى فَلْيُوتِرْ، وَنَظِيرُ الثَّانِي أَنَّ الرَّأْيَ يَقْتَضِي أَنْ لَا تُنْتَقَضَ الطَّهَارَةُ بِالْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِخَارِجَةٍ نَجِسَةٍ كَمَا هِيَ لَيْسَتْ بِحَدَثٍ خَارِجَ الصَّلَاةِ لَكِنْ ثَبَتَ بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهَا حَدَثٌ فَوَجَبَ تَرْكُهُ بِهِ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِسْقَاءُ فِي الصَّوْمِ لَا يَكُونُ نَاقِضًا لَهُ بِمُقْتَضَى الرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ وَلَيْسَ بِدَاخِلٍ وَالصَّوْمُ إنَّمَا يَفْسُدُ مِمَّا يَدْخُلُ لَكِنْ ثَبَتَ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلصَّوْمِ فَيُتْرَكُ الرَّأْيُ بِهِ فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَا يَسْتَقِيمُ بِدُونِ الْآخَرِ، وَلَا يَتَخَالَجَنَّ فِي وَهْمِك مَا وَقَعَ فِي وَهْمِ بَعْضِ الطَّلَبَةِ أَنَّ قَوْلَهُ لَا يَسْتَقِيم الْحَدِيثُ إلَّا بِالرَّأْيِ وَلَا الرَّأْيُ إلَّا بِالْحَدِيثِ مُقْتَضٍ لِلدَّوْرِ فَيَكُونُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الدَّوْرِ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي وُجُودِهِ مُفْتَقِرًا إلَى الْآخَرِ كَمَا إذَا قِيلَ لَا يُوجَدُ الْخَمْرُ إلَّا بِالْعِنَبِ وَلَا الْعِنَبُ إلَّا بِالْخَمْرِ فَيَبْطُلُ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ هَهُنَا؛ لِأَنَّ الرَّأْيَ لَيْسَ بِمُفْتَقِرٍ فِي وُجُودِهِ إلَى الْحَدِيثِ وَلَا الْحَدِيثُ إلَى الرَّأْيِ وَلَكِنَّ افْتِقَارَ كُلِّ وَاحِدٍ إلَى الْآخَرِ فِي أَمْرٍ آخَرَ هُوَ إثْبَاتُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فِي الْحَادِثَةِ كَعِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ يَفْتَقِرُ كُلُّ وَصْفٍ إلَى الْآخَرِ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الدَّوْرِ فِي شَيْءٍ. وَهُوَ كَمَا يُقَالُ لَا يَصِيرُ السُّكْرُ سَكَنْجَبِينًا إلَّا بِالْخَلِّ وَلَا يَصِيرُ الْخَلُّ كَذَلِكَ إلَّا بِالسُّكَّرِ فَكَانَ تَوَقُّفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ فِي صَيْرُورَتِهِ سَكَنْجَبِينًا لَا فِي وُجُودِهِ فَكَذَا هَهُنَا فَصَارَ مَعْنَى الْكَلَامِ لَا يَسْتَقِيمُ الْحَدِيثُ إلَّا بِالرَّأْيِ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَلَا الرَّأْيُ إلَّا بِالْحَدِيثِ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ أَيْضًا وَلَيْسَ فِيهَا دَوْرٌ كَمَا تَرَى، يُقَالُ اسْتَرَاحَ فُلَانٌ بِزَيْدٍ عَنْ عَمْرٍو أَيْ طَلَبَ رَاحَةَ نَفْسِهِ بِالِاشْتِغَالِ بِزَيْدٍ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ عَمْرٍو وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «مُسْتَرِيحٌ أَوْ مُسْتَرَاحٌ مِنْهُ» ، فَمَنْ اسْتَرَاحَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، أَيْ اكْتَفَى بِهِ وَأَعْرَضَ عَنْ بَحْثِ الْمَعَانِي، وَنَكَلَ عَنْ تَرْتِيبِ الْفُرُوعِ، أَيْ أَعْرَضَ مِنْ نَكَلَ عَنْ الْعَدُوِّ وَعَنْ الْيَمِينِ إذَا جَبُنَ، لِبَيَانِ النُّصُوصِ بِمَعَانِيهَا، أَيْ مَعَ مَعَانِيهَا الدَّالَّةِ عَلَى الْأَحْكَامِ مِثْلُ الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ وَالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ إلَى تَمَامِ الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ، وَتَعْرِيفِ الْأُصُولِ بِفُرُوعِهَا، يَعْنِي بَيَّنَ فِيهِ الْأُصُولَ ثُمَّ بَنَى عَلَى كُلِّ أَصْلٍ فُرُوعَهُ مِمَّا يَلِيقُ ذِكْرُهُ فِيهِ، عَلَى شَرْطِ الْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ، قَدْ صَنَّفَ الشَّيْخُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ كِتَابًا أَطْوَلَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَبَسَطَ فِيهِ الْكَلَامَ بَسْطًا، وَكَانَ فِي مُطَالَعَةِ شَيْخِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَوَعَدَ أَنَّ هَذَا التَّصْنِيفَ أَوْجَزَ مِنْهُ، وَمَا تَوْفِيقِي، مِنْ بَابِ إضَافَةِ الصَّدْرِ إلَى الْمَفْعُولِ الْقَائِمِ مَقَامَ الْفَاعِلِ، فَإِنَّ التَّوْفِيقَ هَهُنَا مَصْدَرُ وُفِّقَ الْمَبْنِيُّ لِلْمَفْعُولِ لَا مَصْدَرُ وَفَّقَ أَيْ وَمَا كَوْنِي مُوَفَّقًا لِإِصَابَةِ الْحَقِّ فِيمَا قَصَدْت مِنْ تَصْنِيفِ هَذَا الْكِتَابِ وَوُقُوعِهِ مُوَافِقًا لِرِضَاءِ اللَّهِ إلَّا بِمَعُونَتِهِ وَتَأْيِيدِهِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ اسْتَوْفَقَ رَبَّهُ فِي إمْضَاءِ الْأَمْرِ عَلَى سُنَنِهِ وَطَلَبَ مِنْهُ التَّأْيِيدَ فِي ذَلِكَ، وَالتَّوْفِيقُ جَعْلٌ الشَّيْءِ مُوَافِقًا لِلشَّيْءِ وَتَوْفِيقُ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ أَنْ يَجْعَلَ أَفْعَالَهُ الظَّاهِرَةَ مُوَافِقَةً لِأَوَامِرِهِ مَعَ بَقَاءِ اخْتِيَارِهِ فِيهَا وَأَنَّ نِيَّاتِ قَلْبِهِ مُوَافِقَةٌ لِمَا يُحِبُّهُ، إلَيْهِ أُشِيرَ فِي حِصَصِ الْأَتْقِيَاءِ، وَالتَّوَكُّلُ تَفْوِيضُ الْأَمْرِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ مَعَ رِعَايَةِ الْأَسْبَابِ، وَالْإِنَابَةُ الْإِقْبَالُ إلَيْهِ. وَقِيلَ التَّوْبَةُ الرُّجُوعُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ إلَى اللَّهِ وَالْأَوْبَةُ الرُّجُوعُ عَنْ الطَّاعَةِ إلَيْهِ بِأَنْ لَا يَعْتَمِدَ عَلَى طَاعَتِهِ بَلْ عَلَى فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ وَالْإِنَابَةُ

[أصول الشرع ثلاثة الكتاب والسنة والإجماع]

اعْلَمْ أَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ ثَلَاثَةٌ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالرُّجُوعُ إلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ فَكَانَتْ أَعَمَّ مِنْ الْأُولَيَيْنِ، وَفِي تَقْدِيمِ عَلَيْهِ وَإِلَيْهِ عَلَى الْفِعْلِ أَشَارَ إلَى التَّخْصِيصِ كَمَا فِي إيَّاكَ نَعْبُدُ أَيْ أَخُصُّهُ بِتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إلَيْهِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ وَأَخُصُّهُ بِالْإِقْبَالِ إلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ وَالْأَحْوَالِ [أُصُولَ الشَّرْعِ ثَلَاثَةٌ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ] قَوْلُهُ (اعْلَمْ أَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ ثَلَاثَةٌ إلَى قَوْلِهِ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ) اعْلَمْ كَلِمَةٌ تُذْكَرُ فِي ابْتِدَاءِ الْكَلَامِ تَنْبِيهًا لِلسَّامِعِ عَلَى أَنَّ مَا يُلْقَى إلَيْهِ مِنْ الْقَوْلِ كَلَامٌ يَلْزَمُ حِفْظُهُ وَيَجِبُ ضَبْطُهُ فَيَتَنَبَّهُ السَّامِعُ لَهُ وَيُصْغِي إلَيْهِ وَيُحْضِرُ قَلْبَهُ وَفَهْمَهُ وَيُقْبِلُ عَلَيْهِ بِكُلِّيَّتِهِ وَلَا يُضَيِّعُ الْكَلَامَ فَحَسُنَ مَوْقِعُهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَمَا حَسُنَ مَوْقِعُ وَاسْتَمِعْ فِي قَوْله تَعَالَى {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} [ق: 41] ، وَهُوَ كَمَا يُرْوَى عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ سَبْعَةُ أَيَّامٍ لِمُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْمَعْ مَا أَقُولُ لَك ثُمَّ حَدَّثَهُ بَعْدَ ذَلِكَ» ، وَالْأُصُولُ هَهُنَا الْأَدِلَّةُ إذْ أَصْلُ كُلِّ عِلْمٍ مَا يَسْتَنِدُ إلَيْهِ تَحَقُّقُ ذَلِكَ الْعِلْمِ وَيُرْجَعُ فِيهِ إلَيْهِ وَمَرْجِعُ الْأَحْكَامِ إلَى هَذِهِ الْأَدِلَّةِ، وَالشَّرْعُ الْإِظْهَارُ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ إمَّا بِمَعْنَى الشَّارِعِ كَالْعَدْلِ وَالزَّوْرِ بِمَعْنَى الْعَادِلِ وَالزَّائِرِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَدِلَّةُ الشَّارِعِ أَيْ الْأَدِلَّةُ الَّتِي نَصَبَهَا الشَّارِعُ عَلَى الْمَشْرُوعَاتِ أَرْبَعَةٌ وَيَكُونُ اللَّامُ لِلْعَهْدِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْإِضَافَةِ تَعْظِيمُ الْمُضَافِ كَقَوْلِك بَيْتُ اللَّهِ وَنَاقَةُ اللَّهِ، أَوْ بِمَعْنَى الْمَشْرُوعِ كَالضَّرْبِ بِمَعْنَى الْمَضْرُوبِ وَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَدِلَّةُ الْمَشْرُوعِ أَيْ الْأَدِلَّةُ الَّتِي تُثْبِتُ الْمَشْرُوعَاتِ أَرْبَعَةٌ وَيَكُونُ اللَّامُ لِلْجِنْسِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْإِضَافَةِ تَعْظِيمُ الْمُضَافِ إلَيْهِ كَقَوْلِك أُسْتَاذِي فُلَانٌ وَكَقَوْلِنَا اللَّهُ إلَهُنَا وَمُحَمَّدٌ نَبِيُّنَا أَيْ الْمَشْرُوعَاتُ الَّتِي تَثْبُتُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ مُعَظَّمَةٌ يَلْزَمُ رِعَايَتُهَا وَيَجِبُ تَلَقِّيهَا بِالْقَبُولِ. ثُمَّ الْمَشْرُوعُ يَتَنَاوَلُ الْعِلَلَ وَالْأَسْبَابَ وَالشُّرُوطَ كَمَا يَتَنَاوَلُ الْأَحْكَامَ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْجَمِيعَ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْقِيَاسَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي إثْبَاتِ مَا سِوَى الْأَحْكَامِ فَالْمَعْنَى مَجْمُوعُ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَثْبُتُ بِهَا الْمَشْرُوعَاتُ أَرْبَعَةٌ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُثْبِتُ الْجَمِيعَ أَوْ الْبَعْضَ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْأَحْكَامَ لَا غَيْرَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ فَالْمَعْنَى الْأَدِلَّةُ الَّتِي تَثْبُتُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا الْأَحْكَامُ أَرْبَعَةٌ، أَوْ هُوَ اسْمٌ لِهَذَا الدِّينِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَغَيْرِهِمَا كَالشَّرِيعَةِ يُقَالُ شَرْعُ مُحَمَّدٍ كَمَا يُقَالُ شَرِيعَتُهُ، وَكَأَنَّهُ إنَّمَا عَدَلَ عَنْ لَفْظِ الْفِقْهِ إلَى لَفْظِ الشَّرْعِ مُخَالِفًا لِسَائِرِ الْأُصُولِيِّينَ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ تُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ، وَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ سِوَى الْقِيَاسِ لَا تَخْتَصُّ بِالْفِقْهِ بَلْ هِيَ حُجَّةٌ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَلَفْظَةُ الشَّرْعِ أَعَمُّ وَيُطْلَقُ عَلَى أُصُولِ الدِّينِ كَإِطْلَاقِهِ عَلَى فُرُوعِهِ قَالَ تَعَالَى {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13] الْآيَةَ فَيَكُونُ إضَافَةُ الْأُصُولِ إلَى الشَّرْعِ أَعَمَّ فَائِدَةً وَأَكْثَرَ تَعْظِيمًا لِلْأُصُولِ، ثُمَّ قَدَّمَ الْكِتَابَ عَلَى الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ فِي الشَّرْعِ أَصْلٌ مُطْلَقٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَبِكُلِّ اعْتِبَارٍ، وَأَعْقَبَهُ بِالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهَا حُجَّةً ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ كَمَا سَتَعْرِفُ، وَأَخَّرَ الْإِجْمَاعَ عَنْهُمَا لِتَوَقُّفِ مُوجِبِيَّتِهِ عَلَيْهِمَا وَلَكِنَّ الثَّلَاثَةَ مَعَ تَفَاوُتِ دَرَجَاتِهَا حُجَجٌ مُوجِبَةٌ لِلْأَحْكَامِ قَطْعًا وَلَا تَتَوَقَّفُ فِي إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ عَلَى شَيْءٍ فَقُدِّمَتْ عَلَى الْقِيَاسِ الَّذِي يَتَوَقَّفُ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ عَلَى الْمَقِيسِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ بِقَوْلِهِ وَالْأَصْلُ الرَّابِعُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَوَقَّفَ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ عَلَى الْمَقِيسِ عَلَيْهِ وَلَمْ يُمْكِنْ إثْبَاتُ الْحُكْمِ بِهِ ابْتِدَاءً كَانَ فَرْعًا لَهُ. وَإِلَى هَذِهِ الْفَرْعِيَّةِ أَشَارَ

وَالْأَصْلُ الرَّابِعُ الْقِيَاسُ بِالْمَعْنَى الْمُسْتَنْبَطِ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِقَوْلِهِ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ احْتِرَازٌ عَنْ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ أَيْضًا، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ ثَابِتًا فِي مَحَلِّ الْقِيَاسِ بِدُونِهِ كَانَ أَصْلًا لِلْحُكْمِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ وَالْأَصْلُ الرَّابِعُ فَلَمَّا كَانَ أَصْلًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْمُطْلَقِ؛ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْكَامِلَ الَّذِي هُوَ مَوْجُودٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُ ظَنِّيٌّ فِي الْأَصْلِ وَقَطْعِيَّتُهُ بِعَارِضٍ وَمَا سِوَاهُ مِنْ الْأُصُولِ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ وَبَعْدَ كَوْنِهِ ظَنِّيًّا أَثَرُهُ فِي تَغْيِيرِ وَصْفِ الْحُكْمِ مِنْ الْخُصُوصِ إلَى الْعُمُومِ لَا فِي إثْبَاتِ أَصْلِهِ وَأَثَرُ مَا سِوَاهُ مِنْ الْأُصُولِ فِي إثْبَاتِ أَصْلِ الْحُكْمِ؛ فَلِهَذَا وَجَبَ تَمْيِيزُهُ عَنْهَا، وَالِاسْتِنْبَاطُ اسْتِخْرَاجُ الْمَاءِ مِنْ الْعَيْنِ يُقَالُ نَبَطَ الْمَاءُ مِنْ الْعَيْنِ إذَا خَرَجَ وَالنَّبَطُ الْمَاءُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ الْبِئْرِ أَوَّلَ مَا تُحْفَرُ وَسُمِّيَ النَّبَطُ بِهَذَا الِاسْمِ لِاسْتِخْرَاجِهِمْ مِيَاهَ الْقِنَى فَاسْتُعِيرَ لِمَا يَسْتَخْرِجُهُ الرَّجُلُ بِفَرْطِ ذِهْنِهِ مِنْ الْمَعَانِي وَالتَّدَابِيرِ فِيمَا يَعْضُلُ وَيُهِمُّ فَكَانَ فِي الْعُدُولِ عَنْ لَفْظِ الِاسْتِخْرَاجِ إلَى لَفْظِ الِاسْتِنْبَاطِ إشَارَةً إلَى الْكُلْفَةِ فِي اسْتِخْرَاجِ الْمَعْنَى مِنْ النُّصُوصِ الَّتِي بِهَا عَظُمَتْ أَقْدَارُ الْعُلَمَاءِ وَارْتَفَعَتْ دَرَجَاتُهُمْ، فَإِنَّهُ، لَوْلَا الْمَشَقَّةُ سَادَ النَّاسُ كُلُّهُمْ ، وَإِلَى أَنَّ حَيَاةَ الرُّوحِ وَالدِّينِ بِالْعِلْمِ وَالْغَوْصِ فِي بِحَارِهِ كَمَا أَنَّ حَيَاةَ الْجَسَدِ وَالْأَرْضِ بِالْمَاءِ قَالَ تَعَالَى {فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} [فاطر: 9] {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [فاطر: 9] ، {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} [ق: 11] . وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] أَيْ كَافِرًا فَهَدَيْنَاهُ، وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ النَّبَوِيَّةُ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «النَّاسُ كُلُّهُمْ مَوْتَى إلَّا الْعَالِمُونَ» الْحَدِيثَ، ثُمَّ مِثَالُ الِاسْتِنْبَاطِ مِنْ الْكِتَابِ انْتِقَاضُ الطَّهَارَةِ فِي الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ بِكَوْنِهِ خَارِجًا نَجِسًا قِيَاسًا عَلَى الْخَارِجِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ الثَّابِتِ حُكْمُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] ، وَمِنْ السُّنَّةِ جَرَيَانُ الرِّبَا فِي الْجِصِّ وَالنُّورَةِ وَالْحَدِيدِ وَالصُّفْرِ بِالْقَدْرِ وَالْجِنْسِ قِيَاسًا عَلَى الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ» الْحَدِيثَ، وَمِنْ الْإِجْمَاعِ سُقُوطُ تَقَوُّمِ مَنَافِعِ الْمَغْصُوبِ بِعِلَّةِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُحَرَّزَةٍ قِيَاسًا عَلَى سُقُوطِ تَقَوُّمِ مَنَافِعِ الْبَدَلِ فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ الثَّابِتِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَوْجَبُوا قِيمَةَ الْوَلَدِ وَسَكَتُوا عَنْ تَقَوُّمِ مَنَافِعِ الْبَدَنِ صَارَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى سُقُوطِ تَقَوُّمِهَا؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ بَيَانٌ، قَدْ قِيلَ فِي وَجْهِ انْحِصَارِ الْأُصُولِ عَلَى الْأَرْبَعَةِ أَنَّ الْحُكْمَ إمَّا أَنْ يَثْبُتَ بِالْوَحْيِ أَوْ بِغَيْرِهِ وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَتْلُوًّا، وَهُوَ الَّذِي تَعَلَّقَ بِنَظْمِهِ الْإِعْجَازُ وَجَوَازُ الصَّلَاةِ وَحُرْمَةُ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْكِتَابُ وَالثَّانِي هُوَ السُّنَّةُ، وَإِنْ ثَبَتَ بِغَيْرِهِ فَإِمَّا أَنْ يَثْبُتَ بِالرَّأْيِ الصَّحِيحِ أَوْ بِغَيْرِهِ وَالْأَوَّلُ إنْ كَانَ رَأْيَ الْجَمِيعِ فَهُوَ الْإِجْمَاعُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ الْقِيَاسُ وَالثَّانِي الِاسْتِدْلَالَاتُ الْفَاسِدَةُ. وَأَفْعَالُ النَّبِيِّ دَاخِلَةٌ فِيهَا، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ حَصَرَهَا بِوَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ إمَّا أَنْ يَكُونَ وَارِدًا مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَالْأَوَّلُ إنْ كَانَ مَتْلُوًّا فَهُوَ الْكِتَابُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ السُّنَّةُ وَيَدْخُلُ فِيهَا أَقْوَالُ النَّبِيِّ وَأَفْعَالُهُ، وَالثَّانِي إنْ شُرِطَ فِيهِ عِصْمَةُ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ فَهُوَ الْإِجْمَاعُ، وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ فَهُوَ الْقِيَاسُ، وَلَكِنْ الْأَوْلَى أَنْ يُضَافَ ذَلِكَ إلَى الِاسْتِقْرَاءِ الصَّحِيحِ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ الْمُوجِبَةَ لِلْأَصَالَةِ لَمْ تَقُمْ إلَّا عَلَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ يُوجِبُ حَصْرَهَا عَلَى الْأَرْبَعَةِ

أَمَّا الْكِتَابُ فَالْقُرْآنُ ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ. (أَمَّا الْكِتَابُ فَالْقُرْآنُ) اعْلَمْ أَنَّ الْحَدَّ وَنَعْنِي بِهِ الْمُعَرِّفَ لِلشَّيْءِ لَفْظِيٌّ وَرَسْمِيٌّ وَحَقِيقِيٌّ، فَاللَّفْظِيُّ هُوَ مَا أَنْبَأَ عَنْ الشَّيْءِ بِلَفْظٍ أَظْهَرَ عِنْدَ السَّائِلِ مِنْ اللَّفْظِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ مُرَادِفٍ لَهُ كَقَوْلِنَا الْعُقَارُ الْخَمْرُ وَالْغَضَنْفَرُ الْأَسَدُ لِمَنْ يَكُونُ الْخَمْرُ وَالْأَسَدُ أَظْهَرَ عِنْدَهُ مِنْ الْعُقَارِ وَالْغَضَنْفَرِ، وَالرَّسْمِيُّ هُوَ مَا أَنْبَأَ عَنْ الشَّيْءِ بِلَازِمٍ لَهُ مُخْتَصٍّ بِهِ كَقَوْلِك الْإِنْسَانُ ضَاحِكٌ مُنْتَصِبُ الْقَامَةِ عَرِيضُ الْأَظْفَارِ بَادِي الْبَشَرَةِ، وَالْحَقِيقِيُّ مَا أَنْبَأَ عَنْ مَاهِيَّةِ تَمَامِ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتِهِ كَقَوْلِك فِي جَسَدِ الْإِنْسَانِ هُوَ جِسْمٌ نَامٍ حَسَّاسٌ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ نَاطِقٌ، فَالْأَوَّلَانِ مُؤْنَتُهَا خَفِيفَةٌ إذْ الْمَطْلُوبُ مِنْهُمَا تَبْدِيلُ لَفْظٍ بِلَفْظٍ أَوْ ذِكْرُ وَصْفٍ يَتَمَيَّزُ بِهِ الْمَحْدُودُ عَنْ غَيْرِهِ. وَأَمَّا الْحَقِيقِيُّ فَمِنْ شَرَائِطِهِ أَنْ يُذْكَرَ جَمِيعُ أَجْزَاءِ الْحَدِّ مِنْ الْجِنْسِ وَالْفُصُولِ وَأَنْ يُذْكَرَ جَمِيعُ ذَاتِيَّاتِهِ بِحَيْثُ لَا يَشِذُّ وَاحِدٌ وَأَنْ يُقَدَّمَ الْأَعَمُّ عَلَى الْأَخَصِّ وَأَنْ لَا يُذْكَرَ الْجِنْسُ الْبَعِيدُ مَعَ وُجُودِ الْجِنْسِ الْقَرِيبِ وَأَنْ يُحْتَرَزَ عَنْ الْأَلْفَاظِ الْوَحْشِيَّةِ الْغَرِيبَةِ وَالْمَجَازِيَّةِ الْبَعِيدَةِ وَالْمُشْتَرَكَةِ الْمُتَرَدِّدَةِ وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْإِيجَازِ فَإِنْ أَتَى بِلَفْظٍ مُسْتَعَارٍ أَوْ مُشْتَرَكٍ وَعَرَفَ مُرَادَهُ بِالتَّصْرِيحِ أَوْ بِالْقَرِينَةِ فَلَا يَسْتَعْظِمُ ذَلِكَ إنْ كَانَ قَدْ كَشَفَ عَنْ الْحَقِيقَةِ بِذِكْرِ جَمِيعِ الذَّاتِيَّاتِ إذْ هُوَ الْمَقْصُودُ وَغَيْرُهُ تَزْيِينَاتٌ وَتَحْسِينَاتٌ فَلَا يُبَالِي بِتَرْكِهَا لَكِنْ مِنْ شَرْطِ الْجَمِيعِ الِاطِّرَادُ. وَهُوَ أَنَّهُ مَتَى وُجِدَ الْحَدُّ وُجِدَ الْمَحْدُودُ وَالِانْعِكَاسُ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا عُدِمَ الْحَدُّ عُدِمَ الْمَحْدُودُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُطَّرِدًا لَمَا كَانَ مَانِعًا لِكَوْنِهِ أَعَمَّ مِنْ الْمَحْدُودِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُنْعَكِسًا لَمَا كَانَ جَامِعًا لِكَوْنِهِ أَخَصَّ مِنْ الْمَحْدُودِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَحْصُلُ التَّعْرِيفُ، إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ بِحَدٍّ حَقِيقِيٍّ سَوَاءٌ أَرَادَ بِهِ تَعْرِيفَ مَجْمُوعِ الْكِتَابِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ أَوْ تَعْرِيفُ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْكِتَابِ فِي الشَّرْعِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا حَتَّى دَخَلَ فِيهِ الْكُلُّ وَالْبَعْضُ؛ لِأَنَّهُ تَعَرَّضَ فِيهِ لِلْكِتَابَةِ فِي الْمُصْحَفِ وَالنَّقْلِ وَهُمَا مِنْ الْعَوَارِضِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قُرْآنًا بِدُونِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْإِعْجَازِ وَهُوَ مَعْنًى ذَاتِيٌّ لِهَذَا الْكِتَابِ الْمَحْدُودِ، ثُمَّ قِيلَ هُوَ حَدٌّ رَسْمِيٌّ وَأَحْسَنُ الْحُدُودِ الرَّسْمِيَّةِ مَا وُضِعَ فِيهِ الْجِنْسُ الْأَقْرَبُ وَأُتِمَّ بِاللَّوَازِمِ الْمَشْهُورَةِ فَلَا جَرَمَ قَالَ فَالْقُرْآنُ وَهُوَ مَصْدَرٌ كَالْقِرَاءَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] ، أَيْ قِرَاءَتَهُ وَأَنَّهُ بِمَعْنَى الْمَقْرُوءِ هَهُنَا فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا يُقْرَأُ مِنْ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَغَيْرِهَا، فَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ الْمُنَزَّلِ عَنْ غَيْرِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَعَنْ الْوَحْيِ الَّذِي لَيْسَ بِمَتْلُوٍّ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمُنَزَّلِ مَا أُنْزِلَ نَظْمُهُ وَمَعْنَاهُ وَالْوَحْيُ الَّذِي لَيْسَ بِمَتْلُوٍّ لَمْ يُنَزَّلْ إلَّا مَعْنَاهُ، وَبِقَوْلِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ عَمَّا أُنْزِلَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - مِنْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ أَوْ نَحْوِهَا. وَبِقَوْلِهِ الْمَكْتُوبُ فِي الْمَصَاحِفِ عَمَّا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ وَبَقِيَتْ أَحْكَامُهُ مِثْلُ الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ، وَبِقَوْلِهِ الْمَنْقُولُ عَنْهُ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا عَمَّا اخْتَصَّ بِمِثْلِ مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَغَيْرِهِ مِمَّا نُقِلَ بِطَرِيقِ الْآحَادِ نَحْوُ قَوْلِهِ: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مُتَتَابِعَاتٍ، وَبِقَوْلِهِ بِلَا شُبْهَةٍ عَمَّا اخْتَصَّ بِمِثْلِ مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِمَّا نُقِلَ بِطَرِيقِ الشُّهْرَةِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ الْجَصَّاصِ ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ جَعَلَ الْمَشْهُورَ أَحَدَ قِسْمَيْ الْمُتَوَاتِرِ وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ يَكُونُ قَوْلُهُ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا احْتِرَازًا عَنْهُمَا وَقَوْلُهُ بِلَا شُبْهَةٍ تَأْكِيدًا، وَهَذَا

الْمُنَزَّلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ الْمَكْتُوبُ فِي الْمَصَاحِفِ الْمَنْقُولُ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَقْلًا مُتَوَاتِرًا بِلَا شُبْهَةٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَوْضِعُ صَالِحٌ لِلتَّأْكِيدِ لِقُوَّةِ شَبَهِ الْمَشْهُورِ بِالْمُتَوَاتِرِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ هَذَا تَعْرِيفَ الْكِتَابِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي فَيَدْخُلُ فِيهِ الْكُلُّ وَالْبَعْضُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْإِعْجَازِ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ لَا عَلَى كَوْنِهِ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى إذْ يُتَصَوَّرُ الْإِعْجَازُ بِمَا لَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى إلَيْهِ أُشِيرَ فِي التَّقْوِيم؛ وَلِأَنَّ بَعْضَ الْآيَةِ لَيْسَ بِمُعْجِزٍ، وَهُوَ مِنْ الْكِتَابِ كَذَا قِيلَ؛ وَلِأَنَّ أَصَالَتَهُ لِلْأَحْكَامِ وَكَوْنُهُ حُجَّةً فِيهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِصِفَةِ الْإِعْجَازِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَا ذُكِرَ مِنْ الْأَوْصَافِ، وَقِيلَ هُوَ حَدٌّ لَفْظِيٌّ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ اسْمٌ عَلَمٌ لِلْمُنَزَّلِ عَلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْوَحْيِ الْمَتْلُوِّ كَالتَّوْرَاةِ اسْمٌ لِلْمُنَزَّلِ عَلَى مُوسَى وَالْإِنْجِيلِ اسْمٌ لِلْمُنَزَّلِ عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2] ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ فِي الْمِيزَانِ أَمَّا الْكِتَابُ فَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْقُرْآنِ وَأَنَّهُ. وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بِالِاشْتِرَاكِ أَوْ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِنَا الْقُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لَكِنَّهُ مِنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ أَوْضَحُ مِنْ لَفْظِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُطْلَقُ إلَّا عَلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ بِخِلَافِ الْكِتَابِ؛ فَلِهَذَا فَسَّرَهُ بِهِ، ثُمَّ قَيَّدَهُ بِالْمُنَزَّلِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ احْتِرَازًا عَنْ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالذَّاتِ وَبِالْمَكْتُوبِ احْتِرَازًا عَنْ الْمَنْسُوخِ تِلَاوَتُهُ لَا عَنْ الْوَحْيِ الْغَيْرِ الْمَتْلُوِّ كَمَا ظَنَّهُ الْبَعْضُ؛ لِأَنَّهُ بِدَاخِلٍ لِيَجِبَ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَالْبَاقِي عَلَى مَا فَسَّرْنَا فَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ الْمُنَزَّلُ عَلَى الرَّسُولِ قَيْدٌ وَاحِدٌ بِخِلَافِ الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ وَيَكُونُ هَذَا تَعْرِيفًا لِلْكِتَابِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْبَعْضُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْقُرْآنُ حَقِيقَةً وَعَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ اسْمَ الْقُرْآنِ حَقِيقَةً لِلْبَعْضِ كَمَا هُوَ حَقِيقَةٌ لِلْكُلِّ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَعْرِيفًا لَفْظِيًّا لِلْكِتَابِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي إنْ كَانَ لِلْمُشْتَرَكِ عُمُومٌ عِنْدَهُ، قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ هَذَا تَحْدِيدٌ لِلشَّيْءِ بِمَا يَتَوَقَّفُ تَصَوُّرُهُ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ؛ لِأَنَّ الْوُجُودَ الذِّهْنِيَّ لِلْمُصْحَفِ فَرْعُ تَصَوُّرِ الْقُرْآنِ فَيَكُونُ دَوْرٌ أَوْ هُوَ بَاطِلٌ، قُلْت لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ؛ لِأَنَّ الْأَصْحَافَ لُغَةً جَمْعُ الصَّحَائِفِ فِي شَيْءٍ لَا جَمْعَ صَحَائِفِ الْقُرْآنِ لَا غَيْرَ يُقَالُ أَصْحَفَ أَيْ جُمِعَتْ فِيهِ الصُّحُفُ كَذَا فِي الصِّحَاحِ وَالْمُصْحَفُ حَقِيقَتُهُ مَجْمَعُ الصُّحُفِ وَعَلَى هَذَا لَا يَتَوَقَّفُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى تَصَوُّرِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ مَعْرِفَتَهُ كَانَتْ ثَابِتَةً لَهُمْ قَبْلَ كِتَابَةِ الْقُرْآنِ فِي الْمُصْحَفِ بَلْ قَبْلَ إنْزَالِ الْقُرْآنِ؛ وَلِكَوْنِ مَعْنَاهُ مَعْلُومًا سَمَّوْهُ مُصْحَفًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَفَرِّقًا فِي صَحَائِفَ أَوَّلًا فَجَمَعُوهُ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ وَسَمَّوْهُ بِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى غَيْرُهُ بِهَذَا الِاسْمِ إذَا وُجِدَ هَذَا الْمَعْنَى وَإِنِّي قَدْ رَأَيْت دَفَاتِرَ مِنْ الْجَامِعِ الصَّحِيحِ لِلْبُخَارِيِّ مَكْتُوبًا عَلَيْهَا الْمُصْحَفُ الْأَوَّلُ الْمُصْحَفُ الثَّانِي فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ الْمَكْتُوبُ فِي الْمَصَاحِفِ احْتِرَازًا عَمَّا لَمْ يُكْتَبْ مِنْ الْقُرْآنِ أَصْلًا إنْ جَازَ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ مِثْلُ مَا ارْتَفَعَ بِالنِّسْيَانِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ سُورَةَ الْأَحْزَابِ كَانَتْ تَعْدِلُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ الْمُصْحَفُ عَلَى الْمَعْهُودِ وَأَنْ يُمْنَعَ لُزُومُ الدَّوْرِ عَلَى هَذَا الْحَدِّ، فَإِنَّهُ تَعْرِيفٌ لِلْكِتَابِ وَتَوَقُّفُ وُجُودِ الْمُصْحَفِ فِي الذِّهْنِ عَلَى تَصَوُّرِ الْقُرْآنِ لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهُ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ مَعْلُومٌ عِنْدَ السَّامِعِ مُتَصَوَّرٌ فِي ذِهْنِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْكِتَابُ مَعْلُومًا لَهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْقُرْآنُ مَعْلُومًا لَهُ لَمَا صَحَّ جَعْلُ الْقُرْآنِ مَطْلَعَ الْحَدِّ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الدَّوْرُ الْمَذْكُورُ عَلَى تَعْرِيفِ الْقُرْآنِ بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِّ كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ قَالَ الْقُرْآنُ مَا نُقِلَ إلَيْنَا بَيْنَ دَفَّاتِ الْمَصَاحِفِ مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ عَنْهُ أَيْضًا بِأَنْ يَقُولَ الْمُرَادُ مِنْ الْمَصَاحِفِ مَا جَمَعَتْهُ الصَّحَابَةُ مِنْ الْوَحْيِ الْمَتْلُوِّ فِي الْمُصْحَفِ فَيَنْدَفِعُ

، وَهُوَ النَّظْمُ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا ـــــــــــــــــــــــــــــQالدَّوْرُ. فَإِنْ قِيلَ يَلْزَمُ عَلَى اطِّرَادِ هَذَا الْحَدِّ التَّسْمِيَةُ سِوَى الَّتِي فِي سُورَةِ النَّمْلِ، فَإِنَّهَا دَخَلَتْ تَحْتَ الْحَدِّ وَلَيْسَتْ بِقُرْآنٍ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا جَوَازُ الصَّلَاةِ وَلَا حُرْمَةُ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ، وَمَنْ أَنْكَرَهَا لَا يَكْفُرُ وَانْتِفَاءُ اللَّوَازِمِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ، قُلْنَا الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ عِنْدَنَا بَلْ هِيَ آيَةٌ مُنَزَّلَةٌ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّوَرِ كَذَا ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ وَمِثْلُهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ وَلِهَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي الْمُصَلِّي يَتَعَوَّذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ثُمَّ يَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ وَيُخْفِي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَفَصَلُوهَا عَنْ الثَّنَاءِ وَوَصَلُوهَا بِالْقِرَاءَةِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْأَمْرُ بِالْإِخْفَاءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ، وَإِنَّهَا تُقْرَأُ تَبَرُّكًا كَالْقِرَاءَةِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ أَنَّهَا كُتِبَتْ مَعَ الْقُرْآنِ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَعْرِفُ خَتْمَ سُورَةٍ وَابْتِدَاءَ أُخْرَى حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ» وَكَذَا انْتَقَلَتْ إلَيْنَا بَيْنَ دَفَّاتِ الْمَصَاحِفِ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُبَالِغُونَ فِي حِفْظِ الْقُرْآنِ حَتَّى كَانُوا يُمْنَعُونَ مِنْ كِتَابَةِ أَسَامِي السُّوَرِ مَعَ الْقُرْآنِ وَمِنْ التَّعْشِيرِ وَالنَّقْطِ كَيْ لَا يَخْتَلِطَ بِالْقُرْآنِ غَيْرُهُ فَلَوْ أَبْدَعَ لَاسْتَحَالَ فِي الْعَادَةِ سُكُوتُ أَهْلِ الدِّينِ عَنْهُ مَعَ تَصَلُّبِهِمْ فِي الدِّينِ لَا سِيَّمَا وَرَأْسُ السُّوَرِ يُكْتَبُ بِخَطٍّ يَتَمَيَّزُ عَنْ الْقُرْآنِ بِالْحُمْرَةِ أَوْ الصُّفْرَةِ عَادَةً وَالتَّسْمِيَةُ تُكْتَبُ بِخَطِّ الْقُرْآنِ بِحَيْثُ لَا تَتَمَيَّزُ عَنْهُ فَيُحِيلُ الْعَادَةُ السُّكُوتَ عَلَى مَنْ يُبْدِعُهَا لَوْلَا أَنَّهُ بِأَمْرِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنَّ النَّقْلَ الْمُتَوَاتِرَ لَمَّا لَمْ يُثْبِتْ أَنَّهَا مِنْ السُّورَةِ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ وَأَئِمَّةُ الْقِرَاءَةِ فِي كَوْنِهَا مِنْ السُّورَةِ وَأَدْنَى أَحْوَالِ الِاخْتِلَافِ الْمُعْتَبَرِ إيرَاثُ الشَّبَهِ؛ فَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ كَوْنُهَا مِنْ كُلِّ سُورَةٍ وَحَدِيثُ الْقِسْمَةِ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى مَا قُلْنَاهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكْفُرْ مَنْ أَنْكَرَ كَوْنَهَا مِنْ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهَا أُنْزِلَتْ وَكُتِبَتْ لِلتَّيَمُّنِ بِهَا كَمَا تُكْتَبُ عَلَى صُدُورِ الْكُتُبِ وَتُذْكَرُ عِنْدَ كُلِّ أَمْرٍ ذِي خَطَرٍ لَا لِكَوْنِهَا مِنْ الْقُرْآنِ وَالتَّمَسُّكِ بِمِثْلِهِ يَمْنَعُ الْإِكْفَارَ. وَأَمَّا عَدَمُ جَوَازِ الصَّلَاةِ فَقَدْ ذَكَرَ التُّمُرْتَاشِيُّ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَوْ اكْتَفَى بِهَا يَجُوزُ الصَّلَاةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّ فِي كَوْنِهَا آيَةً تَامَّةً شُبْهَةٌ إذْ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهَا مَعَ مَا بَعْدَهَا إلَى رَأْسِ الْآيَةِ آيَةٌ تَامَّةٌ فَأَوْرَثَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي كَوْنِهَا آيَةً فَلَا يَتَأَدَّى بِهَا الْفَرْضُ الْمَقْطُوعُ بِهِ. وَأَمَّا جَوَازُ قِرَاءَتِهَا لِلْحَائِضِ وَالْجُنُبِ فَذَلِكَ عِنْدَ قَصْدِ التَّيَمُّنِ كَمَا جَازَ لَهُمَا قِرَاءَةُ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] عَلَى قَصْدِ الشُّكْرِ فَأَمَّا عِنْدَ قَصْدِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَلَا؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهَا آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ حُرْمَةَ قِرَاءَتِهَا عَلَيْهِمَا. قَوْلُهُ (وَهُوَ النَّظْمُ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا) إلَى قَوْلِهِ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ أَيْ الْمَبْسُوطِ، أَرَادَ بِالنَّظْمِ الْعِبَارَاتِ وَبِالْمَعْنَى مَدْلُولَاتِهَا، ثُمَّ فِي الْعُدُولِ عَنْ ذِكْرِ اللَّفْظِ الَّذِي مَعْنَاهُ الرَّمْيُ يُقَالُ لَفَظَ النَّوَى أَيْ رَمَاهُ وَلَفَظَتْ الرَّحَى بِالدَّقِيقِ أَيْ رَمَتْ بِهِ إلَى ذِكْرِ النَّظْمِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ التَّرْتِيبِ فِي أَنْفَسِ الْجَوَاهِرِ رِعَايَةً لِلْأَدَبِ وَتَعْظِيمٍ لِعِبَارَاتِ الْقُرْآنِ، وَفِي تَعْرِيفِ الْخَاصِّ وَغَيْرِهِ ذَكَرَ اللَّفْظَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَعْرِيفٌ لَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَاصٌّ لَا مِنْ حَيْثُ، إنَّهُ خَاصُّ الْقُرْآنِ

فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عِنْدَنَا إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ النَّظْمَ رُكْنًا لَازِمًا فِي حَقِّ جَوَازِ الصَّلَاةِ خَاصَّةً عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQفَلَا يَجِبُ فِيهِ رِعَايَةُ الْأَدَبِ، وَالْمُرَادُ مِنْ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ جُمْهُورُهُمْ وَمُعْظَمُهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ اسْمٌ لِلْمَعْنَى دُونَ النَّظْمِ، وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِدَلِيلِ جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ عِنْدَهُ فِي الصَّلَاةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ مَعَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِيهَا فَرْضٌ مَقْطُوعٌ بِهِ فَرَدَّ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَلِكَ، وَأَشَارَ إلَى فَسَادِهِ بِقَوْلِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ عِنْدَنَا أَيْ الْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنَّ مَذْهَبَهُ مِثْلُ مَذْهَبِ الْعَامَّةِ فِي أَنَّهُ اسْمٌ لِلنَّظْمِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا. وَأَجَابَ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الزَّاعِمُ بِقَوْلِهِ، إلَّا أَنَّهُ أَيْ لَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ، لَمْ يَجْعَلْ النَّظْمَ رُكْنًا لَازِمًا؛ لِأَنَّهُ قَالَ مَبْنَى النَّظْمِ عَلَى التَّوْسِعَةِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ خُصُوصًا فِي حَالَةِ الصَّلَاةِ إذْ هِيَ حَالَةُ الْمُنَاجَاةِ، وَكَذَا مَبْنَى فَرْضِيَّةِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى التَّيْسِيرِ قَالَ تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] ، وَلِهَذَا تَسْقُطُ عَنْ الْمُقْتَدِي بِتَحَمُّلِ الْإِمَامِ عِنْدَنَا وَبِخَوْفِ فَوْتِ الرَّكْعَةِ عِنْدَ مُخَالِفِنَا بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَرْكَانِ فَيَجُوزُ أَنْ يُكْتَفَى فِيهِ بِالرُّكْنِ الْأَصْلِيّ وَهُوَ الْمَعْنَى، يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ نَزَلَ أَوَّلًا بِلُغَةِ قُرَيْشٍ؛ لِأَنَّهَا أَفْصَحُ اللُّغَاتِ فَلَمَّا تَعَسَّرَ تِلَاوَتُهُ بِتِلْكَ اللُّغَةِ عَلَى سَائِرِ الْعَرَبِ نَزَلَ التَّخْفِيفُ بِسُؤَالِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَذِنَ فِي تِلَاوَتِهِ بِسَائِرِ لُغَاتِ الْعَرَبِ وَسَقَطَ وُجُوبُ رِعَايَةِ تِلْكَ اللُّغَةِ أَصْلًا وَاتَّسَعَ الْأَمْرُ حَتَّى جَازَ لِكُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أَنْ يَقْرَءُوا بِلُغَتِهِمْ وَلُغَةِ غَيْرِهِمْ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ كُلُّهَا كَافٍ شَافٍ» فَلَمَّا جَازَ لِلْعَرَبِيِّ تَرْكُ لُغَتِهِ إلَى لُغَةِ غَيْرِهِ مِنْ الْعَرَبِ حَتَّى جَازَ لِلْقُرَشِيِّ أَنْ يَقْرَأَ بِلُغَةِ تَيْمٍ مَثَلًا مَعَ كَمَالِ قُدْرَتِهِ عَلَى لُغَةِ نَفْسِهِ جَازَ لِغَيْرِ الْعَرَبِيِّ أَيْضًا تَرْكُ لُغَةِ الْعَرَبِ مَعَ قُصُورِ قُدْرَتِهِ عَنْهَا وَالِاكْتِفَاءُ بِالْمَعْنَى الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ، فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ سُقُوطَ لُزُومِ النَّظْم عِنْدِهِ رُخْصَةُ إسْقَاطٍ كَمَسْحِ الْخُفِّ وَالسَّلَمِ وَسُقُوطِ شَطْرِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ اللُّزُومُ أَصْلًا فَاسْتَوَى فِيهِ حَالُ الْعَجْزِ وَالْقُدْرَةِ. وَفِي قَوْلِهِ خَاصَّةً تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْأَحْكَامِ مِنْ وُجُوبِ الِاعْتِقَادِ حَتَّى يَكْفُرَ كَوْنُ مَنْ أَنْكَرَ النَّظْمَ مُنَزَّلًا 1 - وَحُرْمَةَ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ بِالْفَارِسِيَّةِ وَحُرْمَةَ الْمُدَاوَمَةِ وَالِاعْتِيَادِ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ النَّظْمُ لَازِمٌ كَالْمَعْنَى، وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ وُجُوبُ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ بِالْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ وَحُرْمَةُ مَسِّ مُصْحَفٍ كُتِبَ بِالْفَارِسِيَّةِ عَلَى غَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ وَحُرْمَةُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ عَلَى اخْتِيَارِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ مِنْهُمْ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِيهَا رِوَايَةٌ مَنْصُوصَةٌ وَمَا ذَكَرْنَا جَوَابُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَالشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَنَى عَلَى أَصْلِهِمْ لَا عَلَى مُخْتَارِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَإِنَّمَا بَنَوْهُ عَلَى أَنَّ النَّظْمَ إنْ فَاتَ فَالْمَعْنَى الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ قَائِمٌ فَيَثْبُتُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ احْتِيَاطًا لَا عَلَى أَنَّ النَّظْمَ لَيْسَ بِلَازِمٍ لِلْقُرْآنِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا فِيهَا اخْتِلَافًا بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ طَرِيقُ ثُبُوتِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مَا ذَكَرْنَا لَمْ يَسْتَقِمْ هَذَا الْجَوَابُ عَلَى قَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ النَّظْمَ عِنْدَهُمَا كَالْمَعْنَى، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: جَوَازُ الصَّلَاةِ حُكْمٌ يَخْتَصُّ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَيَتَعَلَّقُ بِالْمُنَزَّلِ عَلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيَاسًا عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي حَقِّ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ يَعْنِي حُرْمَةَ التِّلَاوَةِ تَتَعَلَّقُ بِالنَّظْمِ وَالْمَعْنَى حَتَّى لَوْ قَرَأَ الْجُنُبُ أَوْ الْحَائِضُ بِالْفَارِسِيَّةِ جَازَ. وَأُجِيبَ أَيْضًا عَنْ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ بِأَنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِالصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ السَّجْدَةَ مِنْ أَرْكَانِ

وَجَعْلُ الْمَعْنَى رُكْنًا لَازِمًا وَالنَّظْمِ رُكْنًا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ رُخْصَةٌ بِمَنْزِلَةِ التَّصْدِيقِ فِي الْإِيمَانِ أَنَّهُ رُكْنٌ أَصْلِيٌّ وَالْإِقْرَارُ رُكْنٌ زَائِدٌ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ـــــــــــــــــــــــــــــQالصَّلَاةِ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ مُشَارَكَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَهُوَ مُطْلَقُ السُّجُودِ فَيَجُوزُ أَنْ تُلْحَقَ بِالصَّلَاةِ بِوَاسِطَتِهَا وَرُكْنِيَّةُ النَّظْمِ قَدْ سَقَطَتْ فِي الصَّلَاةِ فَتَسْقُطُ فِيمَا أُلْحِقَ بِهَا، وَعَنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِأَنَّ الْمَكْتُوبَ أَوْ الْمَقْرُوءَ بِالْفَارِسِيَّةِ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا فَيَحْرُمُ مَسُّهُ لِغَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ وَقِرَاءَتُهُ لِلْحَائِضِ وَالْجُنُبِ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ وَأَشْمَلُ، ثُمَّ الْخِلَافُ فِيمَنْ لَا يُتَّهَمُ بِشَيْءٍ مِنْ الْبِدَعِ وَقَدْ تَكَلَّمَ بِالْفَارِسِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ بِكَلِمَةٍ أَوْ أَكْثَرَ غَيْرُ مُؤَوَّلَةٍ وَلَا مُحْتَمَلَةٍ لِلْمَعَانِي وَزَادَ بَعْضُهُمْ وَلَمْ يَخْتَلَّ نَظْمُ الْقُرْآنِ زِيَادَةَ اخْتِلَالٍ بِأَنْ قَرَأَ مَكَانَ قَوْله تَعَالَى {مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124] مَعِيشَةً تَنْكًا أَوْ مَكَانَ {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] سَزَاءً أَمَّا لَوْ قَرَأَ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ فَلَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ، وَعَنْ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ أَنَّ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ أَمَّا مَنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ فَيَكُونُ مَجْنُونًا أَوْ زِنْدِيقًا وَالْمَجْنُونُ يُدَاوَى وَالزِّنْدِيقُ يُقْتَلُ. وَقِيلَ الْخِلَافُ فِي الْفَارِسِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا قَرُبَتْ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ فِي الْفَصَاحَةِ فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِغَيْرِهَا فَلَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ وَقَدْ صَحَّ رُجُوعُهُ إلَى قَوْلِ الْعَامَّةِ وَرَوَاهُ نُوحُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْهُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ الْمَبْسُوطِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ وَعَامَّةِ الْمُحَقِّقِينَ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى قَوْلُهُ (وَجَعَلَ الْمَعْنَى رُكْنًا لَازِمًا) إلَى قَوْلِهِ يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ أَيْ جَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمَعْنَى لَازِمًا فِي حَالَةِ الْقُدْرَةِ لَا فِي حَالَةِ الْعَجْزِ وَالنَّظْمِ رُكْنًا قَابِلًا لِلسُّقُوطِ رُخْصَةً فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ كَمَا جَعَلَ التَّصْدِيقَ فِي الْإِيمَانِ لَازِمًا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْإِقْرَارَ رُكْنًا زَائِدًا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ عِنْدَ الْعُذْرِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَقْصُودَ إظْهَارُ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ فِي إحْدَى الْحَالَتَيْنِ فِي الصُّورَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إظْهَارُ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالَةِ الْأُخْرَى فِيهِمَا؛ لِأَنَّ النَّظْمَ وَالْمَعْنَى لَا يَفْتَرِقَانِ فِي السُّقُوطِ حَالَةَ الْعَجْزِ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا لَا يَفْتَرِقُ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ فِي اللُّزُومِ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ؛ فَلِهَذَا وَجَبَ إظْهَارُ التَّفَاوُتِ بَيْنَ النَّظْمِ وَالْمَعْنَى حَالَةَ الْقُدْرَةِ كَمَا وَجَبَ فِي الْإِقْرَارِ وَالتَّصْدِيقِ حَالَةَ الِاضْطِرَارِ، ثُمَّ الْغَرَضُ مِنْ إعَادَةِ قَوْلِهِ وَالنَّظْمِ رُكْنًا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بَعْدَمَا ذُكِرَ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ النَّظْمَ رُكْنًا لَازِمًا تَحْقِيقُ كَوْنِهِ زَائِدًا بِإِتْمَامِ تَشْبِيهِ الرُّكْنَيْنِ بِالرُّكْنَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَتَسْمِيَةُ الْإِقْرَارِ رُكْنًا مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ فَأَمَّا عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ فَهُوَ شَرْطُ إجْرَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَلَا يُسْتَبْعَدُ تَسْمِيَةُ النَّظْمِ رُكْنًا مَعَ جَوَازِ تَرْكِهِ حَالَةَ الْقُدْرَةِ كَمَا لَا يُسْتَبْعَدُ تَسْمِيَةُ مَا هُوَ زَائِدٌ عَلَى أَصِلْ الْفَرْضِ فِي أَرْكَانِ الصَّلَاةِ رُكْنًا بَعْدَمَا صَارَ مَوْجُودًا مَعَ جَوَازِ تَرْكِهِ فِي الِابْتِدَاءِ. فَإِنْ قِيلَ لَمَّا جَازَ الِاكْتِفَاءُ بِالْمَعْنَى عِنْدَهُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قُرْآنًا إذْ لَا جَوَازَ لِلصَّلَاةِ بِدُونِ الْقُرْآنِ بِالْإِجْمَاعِ وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ الْحَدُّ الْمَذْكُورُ مُتَنَاوِلًا لَهُ لِعَدَمِ إمْكَانِ كِتَابَةِ الْمَعْنَى الْمُجَرَّدِ فِي الْمُصْحَفِ وَنَقْلِهِ بِالتَّوَاتُرِ وَمَا تَعَلَّقَ الْمَعْنَى بِهِ مِنْ الْعِبَارَةِ الْفَارِسِيَّةِ مَثَلًا لَيْسَ بِمَكْتُوبٍ فِي الْمُصْحَفِ وَلَا مَنْقُولٍ بِالتَّوَاتُرِ أَيْضًا فَلَا يَكُونُ الْحَدُّ جَامِعًا أَوْ لَا يَكُونُ الْمَعْنَى بِدُونِ النَّظْمِ قُرْآنًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ الصَّلَاةُ، قُلْنَا إنَّمَا جَازَ الِاكْتِفَاءُ عِنْدَهُ بِالْمَعْنَى إمَّا لِقِيَامِ الْمَعْنَى الْمُجَرَّدِ فِي حَالَةِ الصَّلَاةِ قِيَامَ النَّظْمِ وَالْمَعْنَى أَوْ لِقِيَامِ الْعِبَارَةِ الْفَارِسِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعْنَى الْقُرْآنِ مَقَامَ النَّظْمِ الْمَنْقُولِ كَمَا

[ما يعرف به أحكام الشرع أربعة أقسام]

وَإِنَّمَا يُعْرَفُ أَحْكَامُ الشَّرْعِ بِمَعْرِفَةِ أَقْسَامِ النَّظْمِ وَالْمَعْنَى وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فِي وُجُوهِ النَّظْمِ صِيغَةً وَلُغَةً وَالثَّانِي فِي وُجُوهِ الْبَيَانِ بِذَلِكَ النَّظْمِ وَالثَّالِثُ فِي وُجُوهِ اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ النَّظْمِ وَجَرَيَانِهِ فِي بَابِ الْبَيَانِ ـــــــــــــــــــــــــــــQقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي حَالَةِ الْعُذْرِ فَيَكُونُ النَّظْمُ الْمَكْتُوبُ الْمَنْقُولُ مَوْجُودًا تَقْدِيرًا وَحُكْمًا فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْحَدِّ وَيَكُونُ الْحَدُّ جَامِعًا وَيُفَسَّرُ قَوْلُهُ الْمَكْتُوبُ فِي الْمَصَاحِفِ الْمَنْقُولُ عَنْهُ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا بِالْكِتَابَةِ وَالنَّقْلِ حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا أَوْ نَقُولُ هُوَ يُسَلِّمُ أَنَّ الْمَعْنَى بِدُونِ النَّظْمِ لَيْسَ بِقُرْآنٍ وَلَكِنَّهُ لَا يُسَلِّمُ أَنَّ جَوَازَ الصَّلَاةِ مُتَعَلِّقٌ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْمَحْدُودِ بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَعْنَاهُ وَيُحْمَلُ قَوْله تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ وُجُوبُ رِعَايَةِ الْمَعْنَى دُونَ النَّظْمِ لِدَلِيلٍ لَاحَ لَهُ فَلَا يَرِدُ الْإِشْكَالُ. [مَا يَعْرِف بِهِ أَحْكَامُ الشَّرْعِ أَرْبَعَة أَقْسَام] [الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي وُجُوهِ النَّظْمِ صِيغَةً وَلُغَةً] قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا يُعْرَفُ أَحْكَامَ الشَّرْعِ) أَيْ لَا يُعْرَفُ أَحْكَامَ الشَّرْعِ الثَّابِتَةِ بِالْقُرْآنِ أَوْ أَحْكَامِ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ الثَّابِتَةِ بِالْقُرْآنِ إلَّا بِمَعْرِفَةِ أَقْسَامِ النَّظْمِ وَالْمَعْنَى فَيَجِبُ مَعْرِفَةُ الْأَقْسَامِ لِتَحْصُلَ مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ، وَذَلِكَ، أَيْ الْمَذْكُورُ، وَهُوَ أَقْسَامُ النَّظْمِ وَالْمَعْنَى، فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ احْتِرَازًا عَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ مِنْ الْقَصَصِ وَالْأَمْثَالِ وَالْحِكَمِ وَغَيْرِهَا إذْ هُوَ بَحْرٌ عَمِيقٌ لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلَا تَنْتَهِي غَرَائِبُهُ، وَلَا يُقَالُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، فَإِنَّ وُجُوبَ اعْتِقَادِ الْحَقِّيَّةِ وَجَوَازَ الصَّلَاةِ وَحُرْمَةَ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِجَمِيعِ عِبَارَاتِ الْقُرْآنِ فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الِاحْتِرَازُ، لِأَنَّا نَقُولُ: هَذِهِ الْأَحْكَامُ، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْجَمِيعِ لَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ مَعْرِفَتُهَا بِالْجَمِيعِ بَلْ تَثْبُتُ بِبَعْضِ النُّصُوصِ مِنْ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ فَيَصِحُّ هَذَا الِاحْتِرَازُ قَوْلُهُ (الْأَوَّلُ فِي وُجُوهِ النَّظْمِ) وَجْهُ الشَّيْءِ طَرِيقُهُ يُقَالُ مَا وَجْهُ هَذَا الْأَمْرِ أَيْ مَا طَرِيقُهُ. وَقَدَّمَ النَّظْمَ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي اللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لِلْمَعْنَى مُقَدَّمٌ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمَعْنَى طَبْعًا فَيُقَدَّمُ وَضْعًا وَكَذَا قُدِّمَ الْمُفْرَدُ عَلَى الْمُرَكَّبِ لِهَذَا، صِيغَةً وَلُغَةً، قِيلَ لِكُلِّ لَفْظٍ مَعْنًى لُغَوِيٌّ، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ مَادَّةِ تَرْكِيبِهِ وَمَعْنًى صِيَغِيٌّ، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ هَيْئَتِهِ أَيْ حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ وَتَرْتِيبِ حُرُوفِهِ؛ لِأَنَّ الصِّيغَةَ اسْمٌ مِنْ الصَّوْغِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْهَيْئَةِ لَا فِي الْمَادَّةِ فَالْمَفْهُومُ مِنْ حُرُوفِ ضَرَبَ اسْتِعْمَالُ آلَةِ التَّأْدِيبِ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لَهُ وَمِنْ هَيْئَتِهِ وُقُوعُ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي وَتَوَحُّدُ الْمُسْنَدِ إلَيْهِ وَتَذْكِيرُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا يَخْتَلِفُ كُلُّ مَعْنًى بِاخْتِلَافِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَفَتَحَ وَيَضْرِبُ إلَّا أَنَّ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ يَخْتَصُّ الْهَيْئَةُ بِمَادَّةٍ فَلَا تَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى فِي غَيْرِ تِلْكَ الْمَادَّةِ كَمَا فِي رَجُلٍ مَثَلًا، فَإِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ حُرُوفِهِ ذَكَرٌ مِنْ بَنِي آدَمَ جَاوَزَ حَدَّ الْبُلُوغِ وَمِنْ هَيْئَتِهِ كَوْنُهُ مُكَبَّرًا غَيْرَ مُصَغَّرٍ وَوَاحِدٌ غَيْرُ جَمْعٍ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَلَا تَدُلُّ هَذِهِ الْهَيْئَةُ فِي أَسَدٍ وَنِمْرٍ عَلَى شَيْءٍ وَفِي بَعْضِهَا كِلَاهُمَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهِيَ الْحُرُوفُ ثُمَّ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ دَلَالَةُ اللُّغَةِ وَالصِّيغَةِ فِي الْخَاصِّ دَلَالَةُ حُرُوفِ أَسَدٍ مَثَلًا عَلَى الْهَيْكَلِ الْمَعْرُوفِ وَدَلَالَةُ هَيْئَتِهِ عَلَى تَوَحُّدِهِ وَكَوْنِهِ مُكَبَّرًا وَغَيْرَ ذَلِكَ وَلَا يَخْرُجُ الْخَاصُّ عَنْ الْخُصُوصِ بِالتَّعَرُّضِ لِمِثْلِ هَذِهِ الْعَوَارِضِ فَافْهَمْ، وَفِي الْعَامِّ دَلَالَةُ حُرُوفِ أَسَدٍ عَلَى ذَلِكَ، وَدَلَالَةُ هَيْئَتِهِ عَلَى تَكَثُّرِهِ وَعُمُومِهِ، وَفِي الْمُشْتَرَكِ دَلَالَةُ حُرُوفِ الْقُرْءِ عَلَى الْحَيْضِ أَوْ الطُّهْرِ، وَدَلَالَةُ الْهَيْئَةِ عَلَى التَّوَحُّدِ وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمَا تَرَادُفٌ وَالْمَقْصُودُ تَقْسِيمُ النَّظْمِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا بِاعْتِبَارِ الْمُتَكَلِّمِ وَالسَّامِعِ فَالشَّيْخُ أَجَلُّ قَدْرًا مِنْ أَنْ يَلْتَفِتَ إلَى مِثْلِ هَذِهِ التَّكَلُّفَاتِ الَّتِي لَا تَلِيقُ بِهَذَا الْفَنِّ، الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي تَقْسِيمِ النَّظْمِ نَفْسِهِ بِحَسَبِ تَوَحُّدِ مَعْنَاهُ وَتَعَدُّدِهِ، وَالثَّانِي فِي تَقْسِيمِهِ

وَالرَّابِعُ فِي مَعْرِفَةِ وُجُوهِ الْوُقُوفِ عَلَى الْمُرَادِ وَالْمَعَانِي عَلَى حَسَبِ الْوُسْعِ وَالْإِمْكَانِ وَإِصَابَةِ التَّوْفِيقِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبَعْدَ التَّرْكِيبِ بِحَسَبِ ظُهُورِ الْمَعْنَى لِلسَّامِعِ وَخَفَائِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْبَيَانِ هَهُنَا إظْهَارُ الْمَعْنَى أَوْ ظُهُورُهُ لِلسَّامِعِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ التَّرْكِيبِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ الْبَيَانُ بِذَلِكَ النَّظْمِ، وَالثَّالِثُ فِي تَقْسِيمِ النَّظْمِ بِحَسَبِ اسْتِعْمَالِ الْمُتَكَلِّمِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ بِسَبَبِ الِاسْتِعْمَالِ يَتَّصِفُ بِكَوْنِهِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا لَا بِالْوَضْعِ وَأَشَارَ إلَى جَانِبِ الْمُتَكَلِّمِ بِقَوْلِهِ فِي اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ النَّظْمِ وَإِلَى جَانِبِ اللَّفْظِ وَاتِّصَافِهِ بِالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ بِقَوْلِهِ: وَجَرَيَانِهِ فِي بَابِ الْبَيَانِ، وَالرَّابِعُ فِي وُجُوهِ الْوُقُوفِ أَيْ وُقُوفِ السَّامِعِ عَلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ وَمَعَانِي الْكَلَامِ، وَقِيلَ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ أَقْسَامُ النَّظْمِ، وَهَذَا قِسْمُ الْمَعْنَى بِدَلِيلِ أَنَّ الشَّيْخَ ذَكَرَ النَّظْمَ فِي الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ فَقَالَ: فِي وُجُوهِ النَّظْمِ فِي وُجُوهِ الْبَيَانِ بِذَلِكَ النَّظْمِ فِي اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ النَّظْمِ وَذَكَرَ الْمَعَانِي فِي هَذَا الْقِسْمِ وَكَوْنُ الدَّلَالَةِ وَالِاقْتِضَاءِ مِنْ أَقْسَامِ الْمَعْنَى ظَاهِرٌ، وَكَذَا كَوْنُ الْعِبَارَةِ وَالْإِشَارَةِ؛ لِأَنَّ الْعِبَارَةَ، وَإِنْ كَانَتْ نَظْمًا إلَّا أَنَّ نَظَرَ الْمُسْتَدِلِّ إلَى الْمَعْنَى دُونَ النَّظْمِ إذْ الْحُكْمُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْمَعْنَى دُونَ النَّظْمِ نَفْسِهِ، فَإِنَّ إبَاحَةَ قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ مَثَلًا ثَبَتَ بِالْمَعْنَى الثَّابِتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] لَا بِعَيْنِ النَّظْمِ إلَّا أَنَّ الْمَعْنَى لَمَّا كَانَ مَفْهُومًا مِنْ النَّظْمِ وَالْعِبَارَةِ سُمِّيَ الِاسْتِدْلَال بِهِ اسْتِدْلَالًا بِالْعِبَارَةِ، وَلَكِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ اسْتِدْلَالٌ بِالْمَعْنَى الثَّابِتِ بِالْعِبَارَةِ فَصَلَحَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَقْسَامِ الْمَعْنَى بِهَذَا الطَّرِيقِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْأَقْسَامِ لِلنَّظْمِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا عَلَى أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْأَقْسَامِ لِلنَّظْمِ وَبَعْضُهَا لِلْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَيَّنَ الْقِسْمُ الرَّابِعُ لَهُ فَيَكُونُ الدَّلَالَةُ وَالِاقْتِضَاءُ رَاجِعَيْنِ إلَى الْمَعْنَى وَالْبَاقِي أَقْسَامُ النَّظْمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّظْمُ، وَالْمَعْنَى دَاخِلَيْنِ فِي كُلِّ قِسْمٍ إذْ هُوَ فِي بَيَانِ أَقْسَامِ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ النَّظْمُ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا فَكَانَ الْخَاصُّ اسْمًا لِلنَّظْمِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ، وَكَذَا الْعَامُّ وَسَائِرُ الْأَقْسَامِ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ الدَّلَالَةَ وَالِاقْتِضَاءَ مِنْ أَقْسَامِ النَّظْمِ وَالْمَعْنَى أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِمَا لَا يُفْهَمُ بِدُونِ اللَّفْظِ أَيْضًا، وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ كُلُّهَا لَا يَخْلُو عَنْ تَكَلُّفٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ، ثُمَّ إنَّ الشَّيْخَ جَعَلَ مَعْرِفَةَ وُجُوهِ الْوُقُوفِ عَلَى الْمَعَانِي مِنْ جُمْلَةِ أَقْسَامِ الْكِتَابِ وَفِيهِ تَسَاهُلٌ وَتَسَامُحٌ؛ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ هِيَ الَّتِي دَخَلَتْ فِي أَقْسَامِ الْكِتَابِ دُونَ مَعْرِفَةِ وُجُوهِ الْوُقُوفِ عَلَيْهَا وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ تُعَدَّ الْمَعَانِي بِدُونِ الْوُقُوفِ عَلَيْهَا جَعَلَ مَعْرِفَةَ وُجُوهِ الْوُقُوفِ عَلَيْهَا مِنْ أَقْسَامِ الْكِتَابِ تَسَامُحًا، ثُمَّ ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ لِلْكَلَامِ مَعْنًى بِحَسَبِ الْوَضْعِ وَمَعْنًى بِحَسَبِ التَّرْكِيبِ وَتَقَرُّرًا عَلَى الْمَعْنَى الْوَضْعِيِّ أَوْ تَجَاوُزًا عَنْهُ بِحَسَبِ إرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَاسْتِعْمَالِهِ فَإِذَا قُلْت زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ مَثَلًا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْنًى بِحَسَبِ الْوَضْعِ وَلَهُمَا جَمِيعًا مَعْنًى بِحَسَبِ التَّرْكِيبِ، وَهُوَ إسْنَادُ الِانْطِلَاقِ إلَى زَيْدٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقِيقَةٌ بِحَسَبِ إرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَتَقْرِيرُهُ إيَّاهُمَا فِي مَوْضُوعِهِمَا فَبِقَوْلِهِ الْمُرَادُ أَشَارَ إلَى هَذَا الْقِسْمِ وَبِقَوْلِهِ وَالْمَعَانِي إلَى الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، الْوُسْعِ وَالْإِمْكَانِ. مُتَرَادِفَانِ هَهُنَا أَيْ عَلَى قَدْرِ طَاقَةِ الْعَبْدِ، وَإِصَابَةِ التَّوْفِيقِ، مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَيْهِ أَشَارَ قَوْلُهُ جَلَّ جَلَالُهُ {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] ، قِيلَ الْمَاءُ الْقُرْآنُ، نَزَلَ لِحَيَاةِ الْجَنَانِ، كَالْمَاءِ لِلْأَبْدَانِ، وَالْأَوْدِيَةُ الْقُلُوبُ يَخْتَلِفُ فِي ضِيقِهَا وَسِعَتِهَا وَأَصْلِهَا وَصِفَتِهَا، فَيُقَرُّ فِيهَا بِقَدَرِ إقْرَارِهَا وَالْيَقِينِ، وَتَوْفِيقِ رَبِّهَا وَالتَّلْقِينِ، مَا هُوَ أَصْفَى مِنْ الْمَاءِ الْمُعَيَّنِ، وَمِنْهُ قِيلَ: جَمِيعُ الْعِلْمِ فِي الْقُرْآنِ لَكِنْ

أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، فَأَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ وَالْمُشْتَرَكُ وَالْمُؤَوَّلُ وَالْقِسْمُ الثَّانِي أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ أَيْضًا الظَّاهِرُ وَالنَّصُّ وَالْمُفَسَّرُ وَالْمُحْكَمُ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ مَعْرِفَةُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ بِأَرْبَعَةٍ أُخْرَى فِي مُقَابَلَتِهَا وَهِيَ الْخَفِيُّ وَالْمُشْكَلُ وَالْمُجْمَلُ وَالْمُتَشَابِهُ وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ أَيْضًا الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ وَالصَّرِيحُ وَالْكِنَايَةُ، وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ أَيْضًا الِاسْتِدْلَال بِعِبَارَتِهِ وَبِإِشَارَتِهِ وَبِدَلَالَتِهِ وَبِاقْتِضَائِهِ وَبَعْدَ مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ قِسْمٌ خَامِسٌ، وَهُوَ وُجُوهٌ أَرْبَعَةٌ أَيْضًا مَعْرِفَةُ مَوَاضِعِهَا ـــــــــــــــــــــــــــــQتَقَاصَرَ عَنْهُ أَفْهَامُ الرِّجَالِ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ قَدْ تَتَأَكَّدُ مَعْرِفَةُ الشَّيْءِ بِذِكْرِ مُقَابِلِهِ وَتَسْتَفِيدُ بِهِ زِيَادَةَ وُضُوحٍ، وَإِنْ كَانَتْ ثَابِتَةً فِي نَفْسِهَا؛ وَلِهَذَا قِيلَ، وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ، ثُمَّ فِي هَذَا الْقِسْمِ لَمَّا لَمْ يُخَالِفْ بَعْضُهُ بَعْضًا؛ لِأَنَّ الْكُلَّ ظُهُورٌ وَلَكِنَّ بَعْضَهُ أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ بِخِلَافِ غَيْرِهِ إذْ الْخَاصُّ يُخَالِفُ الْعَامَّ وَالْحَقِيقَةُ تُخَالِفُ الْمَجَازَ اخْتَصَّهُ بِذِكْرِ مَا يُقَابِلُهُ فِي قِسْمٍ آخَرَ عَلَى حِدَةٍ دُونَ غَيْرِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ ذُكِرَ فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ فِي انْحِصَارِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ وُجُوهٌ وَأَحْسَنُهَا مَا أَذْكُرُهُ وَهُوَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ النَّظْمِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَى نَفْسِ النَّظْمِ فَقَطْ أَوْ إلَى غَيْرِهِ فَالْأَوَّلُ هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، وَالثَّانِي لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَى تَصَرُّفِ الْمُتَكَلِّمِ أَوْ إلَى غَيْرِهِ، فَالْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفُهُ تَصَرُّفَ بَيَانٍ أَيْ إلْقَاءُ مَعْنًى إلَى السَّامِعِ، وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَالثَّانِي هُوَ الْقِسْمُ الرَّابِعُ ثُمَّ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ نَفْسُ النَّظْمِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَدْلُولٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْخَاصُّ أَوْ أَكْثَرَ بِطَرِيقِ الشُّمُولِ وَهُوَ الْعَامُّ، أَوْ بِطَرِيقِ الْبَدَلِ مِنْ غَيْرِ تَرَجُّحِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَاقِي وَهُوَ الْمُشْتَرَكُ، أَوْ مَعَ تَرَجُّحِهِ وَهُوَ الْمُؤَوَّلُ. وَلَا يُفِيدُ التَّرَجُّحَ بِالدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ احْتِرَازًا عَنْ الْمُفَسَّرِ كَمَا قَيَّدَهُ الْبَعْضُ فَقَالَ مِنْ غَيْرِ تَرَجُّحِ الْبَعْضِ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ، وَهُوَ الْمُشْتَرَكُ أَوْ مَعَ تَرَجُّحِهِ بِهِ، وَهُوَ الْمُؤَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى حِينَئِذٍ دَاخِلًا فِي قِسْمِ الْمُشْتَرَكِ بَلْ الْأَوْلَى تَرْكُ التَّقْيِيدِ وَمَنْعُ التَّرَجُّحِ فِي الْمُفَسَّرِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ فِيمَا يَبْقَى فِيهِ احْتِمَالُ غَيْرِهِ وَفِي الْمُفَسَّرِ بَطَلَ جَانِبُ الْمَرْجُوحِ بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى صَارَ كَالْخَاصِّ بَلْ أَقْوَى فَلَا يَدْخُلُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَى بَيَانِ الْمُتَكَلِّمِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُ الْمُرَادِ لِلسَّامِعِ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَالْأَوَّلُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَقْرُونًا بِقَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ فَهُوَ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ مَقْرُونًا بِهِ فَإِنْ احْتَمَلَ التَّخْصِيصَ وَالتَّأْوِيلَ فَهُوَ النَّصُّ وَإِلَّا، فَإِنَّ قَبِلَ النَّسْخَ فَهُوَ الْمُفَسَّرُ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ فَهُوَ الْمُحْكَمُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ظَاهِرَ الْمُرَادِ فَإِمَّا إنْ كَانَ عَدَمُ ظُهُورِهِ لِغَيْرِ الصِّيغَةِ أَوْ لِنَفْسِهَا وَالْأَوَّلُ هُوَ الْخَفِيُّ وَالثَّانِي فَإِنْ أَمْكَنَ دَرْكُهُ بِالتَّأَمُّلِ فَهُوَ الْمُشْكِلُ وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ الْبَيَانُ مَرْجُوًّا فِيهِ فَهُوَ الْمُجْمَلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَرْجُوًّا فَهُوَ الْمُتَشَابِهُ، وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَى الِاسْتِعْمَالِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَوْضُوعِهِ وَهُوَ الْحَقِيقَةُ أَوْ لَا، وَهُوَ الْمَجَازُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنْ كَانَ ظَاهِرَ الْمُرَادِ بِسَبَبِ الِاسْتِعْمَالِ فَهُوَ الصَّرِيحُ وَإِلَّا فَهُوَ الْكِنَايَةُ، وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ، وَهُوَ قِسْمُ الِاسْتِثْمَارِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُسْتَدَلَّ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ بِالنَّظْمِ أَوْ غَيْرِهِ وَالْأَوَّلُ إنْ كَانَ مَسُوقًا لَهُ فَهُوَ الْعِبَارَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ الْإِشَارَةُ وَالثَّانِي إنْ كَانَ مَفْهُومًا لُغَةً فَهُوَ الدَّلَالَةُ، وَإِنْ كَانَ مَفْهُومًا شَرْعًا فَهُوَ الِاقْتِضَاءُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَفْهُومًا لُغَةً وَلَا شَرْعًا فَهِيَ التَّمَسُّكَاتُ الْفَاسِدَةُ، وَلَكِنَّ الْأَوْلَى أَنْ نَضْرِبَ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ التَّكَلُّفَاتِ صَفْحًا؛ لِأَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الِانْحِصَارَاتِ غَيْرُ تَامٍّ يَظْهَرُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ بَلْ يُتَمَسَّكُ فِيهِ بِالِاسْتِقْرَاءِ التَّامِّ الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ قَطْعًا؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ مَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ فِي حَقِّ هَذِهِ التَّقْسِيمَاتِ وَالِاسْتِقْرَاءُ فِيمَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ قَوْلُهُ (مَعْرِفَةُ مَوَاضِعِهَا) أَيْ مَآخِذُ اشْتِقَاقِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي هِيَ أَسْمَاءٌ لِأَقْسَامِ الْكِتَابِ، فَهَذَا يَرْجِعُ إلَى أَسْمَاءٍ لِلْأَقْسَامِ وَقَوْلُهُ صِيغَةً وَلُغَةً إلَى نَفْسِ ذَلِكَ الْقِسْمِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ الْمُؤْمِنُونَ

وَمَعَانِيهَا وَتَرْتِيبِهَا وَأَحْكَامِهَا ـــــــــــــــــــــــــــــQمَثَلًا يَدُلُّ عَلَى مُسَمَّيَيْنِ مَوْصُوفَيْنِ بِالْإِيمَانِ صِيغَةً وَلُغَةً ثُمَّ سُمِّيَ هَذَا اللَّفْظُ بِالْعَامِّ فَمَأْخَذُ اشْتِقَاقِ هَذَا الْقِسْمِ الْعُمُومُ وَقِسْ عَلَيْهِ، وَتَرْتِيبِهَا. أَيْ تَقْدِيمِ بَعْضِهَا عَلَى الْبَعْضِ عِنْدَ التَّعَارُضِ كَمَا فِي النَّصِّ مَعَ الظَّاهِرِ أَوْ فِي الْوُجُودِ كَمَا فِي الْعَامِّ مَعَ الْخَاصِّ، وَمَعَانِيهَا، أَيْ حَقَائِقِهَا وَحُدُودِهَا فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ، وَأَحْكَامِهَا، أَيْ الْآثَارِ الثَّابِتَةِ بِهَا مِنْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِهَا قَطْعًا أَوْ ظَنًّا وَوُجُوبِ التَّوَقُّفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، قَالَ عَامَّةُ الشَّارِحِينَ: لَمَّا انْقَسَمَ مَا يَرْجِعُ إلَى مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مِنْ الْكِتَابِ عِشْرِينَ قِسْمًا ثُمَّ انْقَسَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِاعْتِبَارِ هَذَا الْقِسْمِ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ صَارَ أَقْسَامُ الْكِتَابِ ثَمَانِينَ قِسْمًا، وَلَكِنَّهُ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ التَّقْسِيمَ عَلَى أَنْوَاعٍ، تَقْسِيمُ الْجِنْسِ إلَى أَنْوَاعِهِ بِأَنْ يُؤْخَذَ بِزِيَادَةِ قَيْدٍ قَيْدٌ، وَهُوَ التَّقْسِيمُ الْمُصْطَلَحُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَوْرِدُ التَّقْسِيمِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ أَقْسَامٍ، فَإِنَّك إذَا قَسَّمْت الْجِسْمَ إلَى جَمَادٍ وَحَيَوَانٍ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِسْمًا، وَإِذَا قَسَّمْت الْحَيَوَانَ إلَى إنْسَانٍ وَفَرَسٍ وَطَيْرٍ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِسْمًا وَحَيَوَانًا، وَتَقْسِيمُ الْكُلِّ إلَى أَجْزَائِهِ كَتَقْسِيمِ الْإِنْسَانِ إلَى الْحَيَوَانِ وَالنَّاطِقِ. وَلَا يَسْتَقِيمُ فِيهِ إطْلَاقُ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى كُلِّ قِسْمٍ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ اسْمَ الْإِنْسَانِ لَا يُطْلَقُ عَلَى الْحَيَوَانِ وَالنَّاطِقِ بَلْ يُطْلَقُ عَلَى الْمَجْمُوعِ، وَتَقْسِيمُ الشَّيْءِ بِاعْتِبَارِ أَوْصَافِهِ كَتَقْسِيمِ الْإِنْسَانِ إلَى عَالِمٍ وَكَاتِبٍ وَأَبْيَضَ وَأَسْوَدَ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ اشْتِرَاكِ مَوْرِدِ التَّقْسِيمِ أَيْضًا، وَمِنْ أَنْ يُوجَدَ فِي الْجَمِيعِ مَنْ يُوصَفُ بِالْكِتَابَةِ دُونَ الْعِلْمِ وَبِالْبَيَاضِ دُونَ السَّوَادِ وَبِالْعَكْسِ لِيَتَمَيَّزَ كُلُّ قِسْمٍ عَنْ غَيْرِهِ فِي الْخَارِجِ، وَلَيْسَ مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ مِنْ قَبِيلِ الْأَوَّلِ لِعَدَمِ اشْتِرَاكِ مَوْرِدِ التَّقْسِيمِ فِيهِ بَيْنَ الْأَقْسَامِ إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحْكَمَ عَلَى مَأْخَذِ الْعَامِّ مَثَلًا بِأَنَّهُ عَامٌّ وَلَا عَلَى مَأْخَذِ الْمَجَازِ بِأَنَّهُ مَجَازٌ بَلْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحْكَمَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَأَصْلُ مَوْرِدِ التَّقْسِيمِ الْكِتَابُ، وَلَا مِنْ قَبِيلِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ مَوْضِعِ الِاشْتِقَاقِ لَيْسَ مِنْ أَجْزَاءِ الْخَاصِّ وَكَذَا مَعْرِفَةُ مَعْنَاهُ وَحُكْمِهِ وَتَرْتِيبِهِ وَقِسْ عَلَيْهِ سَائِرَ الْأَقْسَامِ وَلَا مِنْ قَبِيلِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّ مَوْرِدَ التَّقْسِيمِ لَيْسَ بِمُشْتَرَكٍ؛ وَلِأَنَّ مَعْرِفَةَ مَأْخَذِ اشْتِقَاقِ لَفْظِ الْخَاصِّ لَيْسَ وَصْفًا لِحَقِيقَةِ الْخَاصِّ، وَهُوَ لَفْظُ الطَّوَافِ أَوْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَثَلًا كَمَا أَنَّ مَعْرِفَةَ مَأْخَذِ اشْتِقَاقِ لَفْظِ الْإِنْسَانِ لَا يَكُونُ وَصْفًا لِحَقِيقَةِ الْإِنْسَانِ وَكَذَا مَعْرِفَةُ مَعْنَاهُ وَحُكْمِهِ وَتَرْتِيبِهِ لَيْسَتْ مِنْ أَوْصَافِهِ فَلَا يَسْتَقِيمُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ أَيْضًا كَمَا لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يُقَالَ الْإِنْسَانُ أَقْسَامٌ قِسْمٌ مِنْهُ أَنَّ مَأْخَذَ اسْمِهِ الْإِنْسُ وَقِسْمٌ مِنْهُ أَنَّ مَعْنَاهُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ وَقِسْمٌ مِنْهُ أَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْفَرَسِ فِي الشَّرَفِ. وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمَعَانِيَ الْمَذْكُورَةَ مِنْ أَوْصَافِ كُلِّ فَرْدٍ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهَا بِهِ إذْ صَحَّ أَنْ يُقَالَ الْخَاصُّ الَّذِي مَأْخَذُ اشْتِقَاقِ اسْمِهِ كَذَا أَوْ مَعْنَاهُ كَذَا أَوْ حُكْمُهُ كَذَا لَا يَسْتَقِيمُ أَيْضًا إذْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَمَيَّزَ كُلُّ قِسْمٍ عَنْ غَيْرِهِ بِمَا يَخُصُّهُ لِيَظْهَرَ فَائِدَةُ التَّقْسِيمِ وَيُمْكِنُ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْخَاصَّ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ وَالْعَامَّ كَذَلِكَ إلَى آخِرِ الْأَقْسَامِ وَقَدْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ هَهُنَا؛ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ الْمَذْكُورَةَ لَازِمَةٌ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ كُلِّ قِسْمٍ إذْ مَا مِنْ خَاصٍّ إلَّا وَلِاسْمِهِ مَأْخَذٌ وَلَهُ مَعْنًى وَحُكْمٌ وَتَرْتِيبٌ فَكَيْفَ يَتَمَيَّزُ خَاصٌّ عَنْ خَاصٍّ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْمَعَانِي، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ الْإِنْسَانُ قِسْمَانِ قِسْمٌ مِنْهُ عَرِيضُ الْأَظْفَارِ وَقِسْمٌ مِنْهُ مُسْتَوِي الْقَامَةِ وَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَيَيْنِ مِنْ لَوَازِمِ كُلِّ فَرْدٍ فِيمَ

[تعريف الخاص]

وَأَصْلُ الشَّرْعِ هُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَصِّرَ فِي هَذَا الْأَصْلِ بَلْ يَلْزَمُهُ مُحَافَظَةُ النَّظْمِ وَمَعْرِفَةُ أَقْسَامِهِ وَمَعَانِيهِ مُفْتَقِرًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَعِينًا بِهِ رَاجِيًا أَنْ يُوَفِّقَهُ بِفَضْلِهِ. أَمَّا الْخَاصُّ فَكُلُّ لَفْظٍ وُضِعَ لِمَعْنًى وَاحِدٍ عَلَى الِانْفِرَادِ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَتَمَيَّزُ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ عَنْ الْآخَرِ، وَلَا يُقَالُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ ثَابِتٌ فِي الْعَقْلِ فَيَكْفِي ذَلِكَ لِصِحَّةِ التَّقْسِيمِ، لِأَنَّا نَقُولُ ذَلِكَ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ فِي التَّقْسِيمِ إذْ التَّكَلُّفُ إلَى هَذَا الْحَدِّ فِي التَّقْسِيمِ لَيْسَ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِنَّك لَا تَجِدُ تَقْسِيمًا فِي نَوْعٍ مِنْ الْعُلُومِ خُصُوصًا فِي الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَثَبَتَ أَنَّ تَقْسِيمَ الْكِتَابِ عَلَى ثَمَانِينَ قِسْمًا غَيْرُ مُتَّضِحٍ بَلْ الْأَقْسَامُ عِشْرُونَ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ وَلَكِنْ لِكُلِّ قِسْمٍ مَعْنًى وَحُكْمٌ وَتَرْتِيبٌ وَلِاسْمِهِ مَأْخَذٌ عَلَى أَنَّ فِي كَوْنِهَا عِشْرِينَ قِسْمًا كَلَامًا أَيْضًا. وَاعْلَمْ بِأَنَّ الشَّيْخَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ قِسْمٌ خَامِسٌ أَنَّهُ قَسِيمُ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ لِمَا ذَكَرْنَا بَلْ أَرَادَ أَنَّ مَعْرِفَةَ تِلْكَ الْأَقْسَامِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى هَذَا الْقِسْمِ فَكَأَنَّهُ قِسْمٌ خَامِسٌ لَهَا، وَهُوَ كَمَا يُقَالُ الْمُفَصَّلُ هُوَ السُّبْعُ الثَّامِنُ مِنْ الْكَشَّافِ لِتَوَقُّفِ مَعْرِفَةِ الْكَشَّافِ عَلَيْهِ لَا أَنَّهُ مِنْهُ حَقِيقَةً. قَوْلُهُ (وَأَصْلُ الشَّرْعِ هُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ) خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَقْسَامَ تُوجَدُ فِيهِمَا دُونَ الْإِجْمَاعِ؛ وَلِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَحْكَامِ تَثْبُتُ بِهِمَا؛ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلٌ لِلْبَاقِي عَلَى مَا قِيلَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ وَقَوْلُ الرَّسُولِ لَيْسَ بِحُكْمٍ بَلْ هُوَ مُخْبِرٌ عَنْ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ وَالْكِتَابُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ هُوَ أَصْلَ الْكُلِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَكِنَّا لَا نَعْرِفُ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا بِقَوْلِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِأَنَّا لَا نَسْمَعُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا مِنْ جَبْرَائِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَيَكُونُ مَعْرِفَةُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى قَوْلِ الرَّسُولِ فَيَكُونُ هُوَ الْأَصْلُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَفَرْعٌ لَهُمَا ثُبُوتًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَإِنْ كَانَ فِي إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ أَصْلًا مُطْلَقًا، ثُمَّ قَالَ فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَصِّرَ فِي هَذَا الْأَصْلِ، أَيْ الْكِتَابِ وَلَمْ يَقُلْ فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ مَعَ سَبْقِ ذِكْرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُ الْآنَ فِي بَيَانِ الْكِتَابِ دُونَ السُّنَّةِ؛ فَلِهَذَا أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ، وَمُحَافَظَةُ النَّظْمِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ الْحِفْظِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النِّسْيَانِ أَيْ يَحْفَظُهُ وَيَضْبِطُ أَقْسَامَهُ وَمَعَانِيَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ الْمُحَافَظَةِ الَّتِي هِيَ ضِدُّ التَّرْكِ وَالتَّضْيِيعِ أَيْ بِجَعْلِهِ نُصْبَ عَيْنِهِ وَأَمَامَ نَفْسِهِ جَاهِدًا فِي مَعْرِفَةِ أَقْسَامِهِ وَمَعَانِيهِ غَيْرِ مُجَاوِزٍ عَنْ حُدُودِهِ، وَقَوْلُهُ مُفْتَقِرًا مُسْتَعِينًا رَاجِيًا أَحْوَالٌ عَنْ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي يَلْزَمُهُ. [تَعْرِيف الْخَاصُّ] قَوْلُهُ (أَمَّا الْخَاصُّ إلَى آخِرِهِ) فَقَوْلُهُ كُلُّ لَفْظٍ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمُسْتَعْمَلَاتِ وَالْمُهْمَلَاتِ وَمَا يَكُونُ دَلَالَتُهُ بِالطَّبْعِ كَأَخِ عَلَى الْوَجَعِ وَأَحْ عَلَى السُّعَالِ، وَهُوَ جَارٍ مَجْرَى الْجِنْسِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا ذَكَرْنَا، فَبِقَوْلِهِ وُضِعَ لِمَعْنًى، خَرَجَ غَيْرُ الْمُسْتَعْمَلَاتِ عَنْ الْحَدِّ، وَالْمُرَادُ بِالْوَضْعِ، وَهُوَ تَخْصِيصُ اللَّفْظِ بِإِزَاءِ الْمَعْنَى أَوْ تَعْيِينُ اللَّفْظَةِ بِإِزَاءِ مَعْنًى بِنَفْسِهَا لَازَمَتْهُ، وَهِيَ الدَّلَالَةُ عَلَى الْمَعْنَى النَّاشِئَةِ مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ، وَبِقَوْلِهِ وَاحِدٍ خَرَجَ، الْمُشْتَرَكُ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ وَخَرَجَ الْمُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ الْمُطْلَقَ خَاصًّا وَلَا عَامًّا، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لِأَنَّ الْمُطْلَقَ لَيْسَ بِمُتَعَرِّضٍ لِلْوَحْدَةِ وَلَا لِلْكَثْرَةِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ الصِّفَاتِ، وَهُوَ مُتَعَرِّضٌ لِلذَّاتِ دُونَ الصِّفَاتِ، وَبِقَوْلِهِ عَلَى الِانْفِرَادِ، خَرَجَ الْعَامُّ، فَإِنَّهُ وُضِعَ لِمَعْنًى وَاحِدٍ شَامِلٍ لِلْأَفْرَادِ إذْ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى الِانْفِرَادِ كَوْنُ اللَّفْظِ مُتَنَاوِلًا لِمَعْنًى وَاحِدٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ وَاحِدٌ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ

وَانْقِطَاعِ الْمُشَارَكَةِ وَكُلُّ اسْمٍ وُضِعَ لِمُسَمًّى مَعْلُومٍ عَلَى الِانْفِرَادِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ اخْتَصَّ فُلَانٌ بِكَذَا أَيْ انْفَرَدَ بِهِ وَفُلَانٌ خَاصُّ فُلَانٍ أَيْ مُنْفَرِدٌ بِهِ وَالْخَاصَّةُ اسْمٌ لِلْحَاجَةِ الْمُوجِبَةِ لِلِانْفِرَادِ عَنْ الْمَالِ وَعَنْ أَسْبَابِ نَيْلِ الْمَالِ فَصَارَ الْخُصُوصُ عِبَارَةً عَمَّا يُوجِبُ الِانْفِرَادَ وَيَقْطَعُ الشَّرِكَةَ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي الْخَارِجِ أَفْرَادٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَقَوْلُهُ وَانْقِطَاعِ الْمُشَارَكَةِ، تَأْكِيدٌ لِلِانْفِرَادِ وَبَيَانٌ لِلَازِمِهِ وَبَيْنَهُمَا نَوْعُ تَغَايُرٍ؛ لِأَنَّ الِانْفِرَادَ بِالنَّظَرِ إلَى ذَاتِهِ وَانْقِطَاعُ الْمُشَارَكَةِ بِالنَّظَرِ إلَى غَيْرِهِ. وَلَوْ قِيلَ الْمُرَادُ بِالْوَضْعِ حَقِيقَتُهُ، وَهُوَ الْوَضْعُ الْأَوَّلُ لَكَانَ أَحْسَنَ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ أَوْ الْمَجَازَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْإِرَادَةِ لَا بِأَصْلِ الْوَضْعِ وَالْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ إنَّمَا يَثْبُتُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنَّظَرِ إلَى أَصِلْ الْوَضْعِ فَلَا يَكُونُ الْحَقِيقَةُ أَوْ الْمَجَازُ دَاخِلًا فِيهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ بَلْ إنَّمَا يَصِيرُ الْخَاصُّ أَوْ الْعَامُّ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ إرَادَةُ مَوْضُوعِهِ أَوْ غَيْرُ مَوْضُوعِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرَكَ الَّذِي هُوَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ إنَّمَا يَكُونُ مُشْتَرَكًا إذَا اُعْتُبِرَ مُجَرَّدًا عَنْ الْإِرَادَةِ، فَإِنَّهُ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ إرَادَةٌ لَمْ يَبْقَ مُشْتَرَكًا؛ لِأَنَّ إرَادَةَ الْجَمِيعِ لَا يَصِحُّ وَبِإِرَادَةِ الْبَعْضِ لَمْ يَبْقَ الِاشْتِرَاكُ وَلَكِنَّ الِاشْتِرَاكَ بِالنَّظَرِ إلَى الْوَضْعِ وَصَلَاحِيَّةُ اللَّفْظِ لِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى السَّوَاءِ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الْمُؤَوَّلُ، فَإِنَّهُ مَعَ انْضِمَامِ الْإِرَادَةِ إلَيْهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ؛ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ لَمْ يَثْبُتْ يَقِينًا فَلَمْ تُخْرِجْهُ مِنْ الِاشْتِرَاكِ مُطْلَقًا بِخِلَافِ الْمُفَسَّرِ، فَإِنْ قِيلَ إنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ الْوَضْعِ الْأَوَّلَ فَلَا حَاجَةَ إلَى الِاحْتِرَازِ عَنْ الْمُشْتَرَكِ؛ لِأَنَّهُ عَارِضٌ لَمْ يَكُنْ فِي الْوَضْعِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ كَانَ مُطْلَقُ الْوَضْعِ فَقَدْ حَصَلَ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ لِمَعْنًى؛ لِأَنَّهُ صِيغَةُ فَرْدٍ كَرَجُلٍ فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مَعْنًى وَاحِدٍ كَمَا لَا يَدُلُّ رَجُلٌ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مُسَمًّى وَاحِدٍ، قُلْنَا الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ يُقَالُ عَنَى يَعْنِي عِنَايَةً وَمَعْنًى وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ هَهُنَا فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَأْخُوذُ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَمِنْ جِهَتَيْنِ فَصَاعِدًا؛ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ جِنْسٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان: 14] وَزَوَالُ مَعْنَى الْمَصْدَرِيَّةِ بِإِرَادَةِ الْمَفْعُولِ لَا يَمْنَعُ مَا ذَكَرْنَا، فَإِنَّ رَتْقًا فِي قَوْله تَعَالَى {كَانَتَا رَتْقًا} [الأنبياء: 30] لَمْ يُثَنِّ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى مَرْتُوقَتَيْنِ لِبَقَاءِ صِيغَةِ الْمَصْدَرِ فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ تَأْكِيدُهُ بِالْوَاحِدِ. قَوْلُهُ (وَكُلُّ اسْمٍ) إنَّمَا ذَكَرَ الِاسْم هَهُنَا دُونَ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُشَخَّصِ الْمُعَيَّنِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ الْمُسَمَّى الْمَعْلُومِ لَا يَكُونُ إلَّا اسْمًا بِخِلَافِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى الْمَعْنَى تَحْصُلُ بِالْأَفْعَالِ وَالْحُرُوفِ أَيْضًا، وَقَوْلُهُ عَلَى الِانْفِرَادِ هُنَا احْتِرَازٌ عَنْ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْمُشَخَّصَاتِ؛ لِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ اسْمٌ وُضِعَ لِمُسَمًّى مَعْلُومٍ، وَلَكِنْ لَا عَلَى الِانْفِرَادِ ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ وُضِعَ لِمَعْنًى إنْ كَانَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُشَخَّصَاتُ وَغَيْرُهَا فَيَكُونُ الْحَدُّ تَامًّا مُتَنَاوِلًا خُصُوصَ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالْعَيْنِ وَيَكُونُ إفْرَادُ خُصُوصِ الْعَيْنِ بِالذِّكْرِ لِقُوَّةِ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ إذْ لَا شَرِكَةَ فِي مَفْهُومِهِ أَصْلًا بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْخُصُوصِ، وَهَذَا كَتَخْصِيصِ أُولِي الْعِلْمِ بِالذِّكْرِ فِي قَوْله تَعَالَى {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] بَعْدَ دُخُولِهِمْ فِي قَوْلِهِ الَّذِينَ آمَنُوا لِقُوَّةِ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدَّرَجَةِ وَالشَّرَفِ وَكَتَخْصِيصِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ بِالذِّكْرِ فِي قَوْله تَعَالَى {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] بَعْدَ دُخُولِهِمَا فِي عُمُومِ قَوْلِهِ وَمَلَائِكَتِهِ لِقُوَّةِ مَنْزِلَتِهِمَا وَشَرَفِهِمَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَا هُوَ كَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ يَكُونُ هَذَا تَعْرِيفًا لِقِسْمَيْ الْخَاصِّ الِاعْتِبَارِيِّ وَالْحَقِيقِيِّ لَا تَعْرِيفَ

فَإِذَا أُرِيدَ خُصُوصُ الْجِنْسِ قِيلَ إنْسَانٌ؛ لِأَنَّهُ خَاصٌّ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَجْنَاسِ، وَإِذَا أُرِيدَ خُصُوصُ النَّوْعِ قِيلَ رَجُلٌ، وَإِذَا أُرِيدَ خُصُوصُ الْعَيْنِ قِيلَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو فَهَذَا بَيَانُ اللُّغَةِ وَالْمَعْنَى. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْخَاصِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَاصٌّ، وَقِيلَ تَعْرِيفُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ فَصَارَ الْخُصُوصُ عِبَارَةً عَمَّا يُوجِبُ الِانْفِرَادَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيُسْرِ الْخَاصُّ اسْمٌ لِفَرْدٍ كَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ. وَالْغَرَضُ مِنْ تَحْدِيدِ كُلِّ قِسْمٍ بِحَدٍّ عَلَى حِدَةٍ بَيَانُ أَنَّ الْخُصُوصَ يَجْرِي فِي الْمَعَانِي وَالْمُسَمَّيَاتِ جَمِيعًا بِخِلَافِ الْعُمُومِ، فَإِنَّهُ لَا يَجْرِي إلَّا فِي الْمُسَمَّيَاتِ فَيَكُونُ فِي هَذَا تَحْقِيقٌ لِنَفْيِ الْعُمُومِ عَنْ الْمَعَانِي؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ فِي حَدِّ الْمُشْتَرَكِ، وَهُوَ مَا اشْتَرَكَ فِيهِ مَعَانٍ أَوْ أَسَامٍ لِيَكُونَ إشَارَةً إلَى أَنَّ الِاشْتِرَاكَ يَجْرِي فِي الْقِسْمَيْنِ كَالْخُصُوصِ بِخِلَافِ الْعُمُومِ، ثُمَّ ذَكَرَ هَهُنَا لِمَعْنًى وَاحِدٍ وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِمَعْنًى مَعْلُومٍ مَكَانَ وَاحِدٍ فَعَلَى مَا ذَكَرَ هُنَا يَكُونُ الْمُجْمَلُ دَاخِلًا فِيهِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ خَاصٌّ سَوَاءٌ كَانَ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا؛ لِأَنَّ خُصُوصِيَّةَ اللَّفْظِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوَاقِعِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَائِلِ وَالسَّامِعِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعِلْمُ، وَعَلَى مَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَدْخُلُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ الشَّيْخَيْنِ اتَّفَقَا فِي بَيَانِ حُكْمِ الْخَاصِّ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بَيَانًا؛ لِأَنَّهُ بَيَّنَ بِنَفْسِهِ وَالْمُجْمَلُ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْبَيَانِ فَيَكُونُ خِلَافَ الْخَاصِّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمُجْمَلُ لَا يَدْخُلُ فِي الْحَدِّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَرَّضَ لِلْوَحْدَةِ بِقَوْلِهِ وَاحِدٍ وَالْمُجْمَلُ لَا يُعْرَفُ وَحْدَةُ مَفْهُومِهِ وَكَثْرَتِهِ فَلَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالْوَحْدَةِ كَمَا لَا يُمْكِنُ بِالْكَثْرَةِ فَلَا يَدْخُلُ وَبَعْدَ لُحُوقِ الْبَيَانِ بِهِ وَمَعْرِفَةِ وَحْدَةِ مَعْنَاهُ لَمْ يَبْقَ مُجْمَلًا فَيَدْخُلُ. قَوْلُهُ (فَإِذَا أُرِيدَ خُصُوصُ الْجِنْسِ قِيلَ إنْسَانٌ) الْجِنْسُ أَعْلَى مِنْ النَّوْعِ اصْطِلَاحًا، وَتَسْمِيَةُ الْإِنْسَانِ جِنْسًا وَالرَّجُلِ نَوْعًا عَلَى لِسَانِ أَهْلِ الشَّرْعِ وَاصْطِلَاحِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَبِرُونَ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الذَّاتِيِّ وَالْعَرَضِيِّ الَّذِي اعْتَبَرَهُ الْفَلَاسِفَةُ وَلَا يَلْتَفِتُونَ إلَى اصْطِلَاحَاتِهِمْ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرُوا حُدُودَهُمْ فِي تَصَانِيفِهِمْ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُونَ تَعْرِيفَاتٍ تُوقَفُ بِهَا عَلَى مَعْنَى اللَّفْظِ وَيَحْصُلُ بِهَا التَّمْيِيزُ تَرْكًا مِنْهُمْ لِلتَّكَلُّفِ وَاحْتِرَازًا عَمَّا لَا يَعْنِيهِمْ لِحُصُولِ مَقْصُودِهِمْ دُونَهَا، قَالَ السَّيِّدُ الْإِمَامُ نَاصِرُ الدِّينِ السَّمَرْقَنْدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أُصُولِ الْفِقْهِ هَذَا كِتَابٌ فِقْهِيٌّ لَا نَشْتَغِلُ فِيهِ بِصَنْعَةِ التَّحْدِيدِ فِي كُلِّ لَفْظٍ بَلْ نَذْكُرُ مَا يُعَرِّفُ مَعَانِيَهَا وَيَدُلُّ عَلَى حَقَائِقِهَا وَأَسْرَارِهَا بِالْكُشُوفِ وَالرُّسُومِ. وَقَالَ فِيهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَنَحْنُ لَا نَذْكُرُ الْحُدُودَ الْمَنْطِقِيَّةَ، وَإِنَّمَا نَذْكُرُ رُسُومًا شَرْعِيَّةً يُوقَفُ بِهَا عَلَى مَعْنَى اللَّفْظِ كَمَا هُوَ اللَّائِقُ بِالْفِقْهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إلَى اسْتِبْعَادِهِمْ ذَكَرَ كَلِمَةَ كُلَّ فِي الْحُدُودِ بِأَنَّهَا لِإِحَاطَةِ الْأَفْرَادِ وَالتَّعْرِيفِ لِلْحَقِيقَةِ لَا لِلْأَفْرَادِ وَلَا إلَى اسْتِنْكَارِهِمْ كَوْنُ الرَّجُلِ نَوْعًا لِلْإِنْسَانِ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ نَوْعُ الْأَنْوَاعِ إذْ لَيْسَ بَعْدَهُ نَوْعٌ عِنْدَهُمْ فَحَكَمُوا تَارَةً عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ نَظَرًا إلَى فُحْشِ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَقَاصِدِ وَالْأَحْكَامِ فَقَالُوا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا فَظَهَرَ أَنَّهُ أَمَةٌ لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِخِلَافِ الْبَهَائِمِ مَعَ أَنَّ اخْتِلَافَ النَّوْعِ لَا يَمْنَعُ الِانْعِقَادَ وَحَكَمُوا تَارَةً بِكَوْنِهِمَا نَوْعَيْ الْإِنْسَانِ نَظَرًا إلَى اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْإِنْسَانِيَّةِ وَاخْتِلَافِهِمَا فِي الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ، فَهَذَا بَيَانُ اللُّغَةِ وَالْمَعْنَى أَيْ مَا ذَكَرْنَا بَيَانُ مَعْنَى الْخَاصِّ لُغَةً وَبَيَانُ مَعْنَاهُ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ فَأَمَّا بَيَانُ تَرْتِيبِهِ وَحُكْمِهِ فَسَيَأْتِي.

[تعريف العام]

ثُمَّ الْعَامُّ بَعْدَهُ وَهُوَ كُلُّ لَفْظٍ يَنْتَظِمُ جَمْعًا مِنْ الْأَسْمَاءِ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى وَمَعْنَى قَوْلِنَا مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُسَمَّيَاتِ هُنَا وَمَعْنَى قَوْلِنَا لَفْظًا أَوْ مَعْنًى هُوَ تَفْسِيرٌ لِلِانْتِظَامِ يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ إنَّمَا يَنْتَظِمُ الْأَسْمَاءَ مَرَّةً لَفْظًا مِثْلُ قَوْلِنَا زَيْدُونَ وَنَحْوُهُ أَوْ مَعْنًى مِثْلُ قَوْلِنَا مِنْ وَمَا وَنَحْوِهِمَا وَالْعُمُومُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الشُّمُولُ يُقَالُ مَطَرٌ عَامٌّ أَيْ شَمِلَ الْأَمْكِنَةَ كُلَّهَا وَخِصْبٌ عَامٌّ أَيْ عَمَّ الْأَعْيَانَ وَوَسِعَ الْبِلَادَ ـــــــــــــــــــــــــــــQ [تَعْرِيف الْعَامُّ] قَوْلُهُ (ثُمَّ الْعَامُّ بَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ الْخَاصِّ فِي الْوُجُودِ لَا عِنْدَ التَّعَارُضِ؛ لِأَنَّ الْمُفْرَدَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُرَكَّبِ وُجُودًا فِي الذِّهْنِ، كُلُّ لَفْظٍ فَتَخْصِيصُ اللَّفْظِ بِالذِّكْرِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْعُمُومَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ دُونَ الْمَعَانِي، وَالْمُرَادُ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ بِقَرِينَةِ مَوْرِدِ التَّقْسِيمِ فَيَخْرُجُ مِنْهُ مَا يَدُلُّ بِالطَّبْعِ، وَقَوْلُهُ يَنْتَظِمُ، أَيْ يَشْمَلُ احْتِرَازٌ عَنْ الْمُشْتَرَكِ، فَإِنَّهُ لَا يَشْمَلُ مَعْنَيَيْنِ بَلْ يَحْتَمِلُ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى السَّوَاءِ، وَقَوْلُهُ جَمْعًا، احْتِرَازٌ عَنْ التَّثْنِيَةِ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِعَامَّةٍ بَلْ هِيَ مِثْلُ سَائِرِ أَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ فِي الْخُصُوصِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ حَدُّ الْعَامِّ هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الشَّيْئَيْنِ فَصَاعِدًا فَقَدْ اُحْتُرِزَ عَنْهَا أَيْضًا بِقَوْلِهِ فَصَاعِدًا، وَعَنْ اشْتِرَاطِ الِاسْتِغْرَاقِ، فَإِنَّهُ عِنْدَ أَكْثَرِ مَشَايِخِ دِيَارِنَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَعِنْدَ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَعَامَّةِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ هُوَ شَرْطٌ وَحَدُّ الْعَامِّ عِنْدَهُمْ هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَغْرِقُ لِجَمِيعِ مَا يَصْلُحُ لَهُ بِحَسَبِ وَضْعٍ وَاحِدٍ وَاحْتَرَزُوا بِقَوْلِهِمْ الْمُسْتَغْرِقُ لِجَمِيعِ مَا يَصْلُحُ لَهُ عَنْ النَّكِرَاتِ فِي الْإِثْبَاتِ وُحْدَانًا وَتَثْنِيَةً وَجَمْعًا؛ لِأَنَّ رَجُلًا يَصْلُحُ لِكُلِّ ذَكَرٍ مِنْ بَنِي آدَمَ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَغْرِقٍ وَقِسْ عَلَيْهِ رَجُلَيْنِ وَرِجَالًا، وَبِقَوْلِهِمْ بِحَسَبِ وَضْعٍ وَاحِدٍ عَلَى اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ أَوْ الَّذِي لَهُ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ إذَا عَمَّ كَالْعُيُونِ وَالْأَسْوَدِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ مَفْهُومَيْهِ مَعًا، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاسْتِغْرَاقَ شَرْطٌ عِنْدَهُمْ وَالِاجْتِمَاعُ عِنْدَنَا وَيَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي الْعَامِّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ فَعِنْدَهُمْ لَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِعُمُومِهِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَامًّا وَعِنْدَنَا يَجُوزُ لِبَقَاءِ الْعُمُومِ بِاعْتِبَارِ الْجَمْعِيَّةِ. وَلِهَذَا ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْعَامَّ لَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَفْرَادِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ لِقَوْلِهِ جَمْعًا مِنْ الْأَسْمَاءِ، وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ فَيَتَنَاوَلُ جَمْعًا مِنْ الْجُمُوعِ لَا الْكُلَّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الشَّيْخَ قَدْ نَصَّ فِي بَابِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ أَنَّهُ شَامِلٌ لِكُلِّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَشْتَرِطْ لِحَقِيقَةِ الْعُمُومِ تَنَاوُلَ الْكُلِّ قَالَ جَمْعًا مِنْ الْأَسْمَاءِ. قَوْلُهُ (وَمَعْنَى قَوْلِنَا مِنْ الْأَسْمَاءِ) يَعْنِي مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ، فَقَوْلُهُ يَعْنِي لَمْ يَقَعْ مَوْقِعَهُ إلَّا أَنْ يُؤَوَّلُ بِمَعْنَى أَيْ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي مَحَلِّ التَّفْسِيرِ كَكَلِمَةٍ أَيْ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَيْ مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ عِبَارَةُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ، فَإِنَّهُ قَالَ وَنَعْنِي بِالْأَسْمَاءِ هَهُنَا الْمُسَمَّيَاتِ، ثُمَّ قِيلَ تَفْسِيرُ الْأَسْمَاءِ بِالْمُسَمَّيَاتِ مَعَ أَنَّ الِاسْمَ وَالْمُسَمَّى وَاحِدٌ عِنْدَنَا احْتِرَازٌ عَنْ التَّسْمِيَاتِ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ التَّسْمِيَةُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180] أَيْ التَّسْمِيَاتُ وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا» وَيُقَالُ مَا اسْمُك أَيْ مَا تَسْمِيَتُك فَإِذَا احْتَمَلَ الِاسْمُ التَّسْمِيَةَ اُحْتُرِزَ عَنْهَا وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ، وَإِلَّا ظَهَرَ أَنَّهُ احْتِرَازٌ عَنْ الْمَعَانِي، فَإِنَّ الِاسْمَ كَمَا يَدُلُّ عَلَى الْمُشَخَّصِ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى وَقَدْ اخْتَارَ أَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لَا يَنْتَظِمُ جَمْعًا مَعَ الْمَعَانِي كَمَا سَيَأْتِي؛ فَلِذَلِكَ فَسَّرَ الْأَسْمَاءَ بِالْمُسَمَّيَاتِ. قَوْلُهُ (لَفْظًا) أَيْ صِيغَتُهُ تَدُلُّ عَلَى الشُّمُولِ كَصِيَغِ الْجُمُوعِ مِثْلُ زَيْدُونَ وَرِجَالٌ، أَوْ مَعْنًى أَيْ عُمُومُهُ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى دُونَ الصِّيغَةِ كَمِنْ وَمَا وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فَإِنَّهَا عَامَّةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى حَيْثُ تَنَاوَلَتْ جَمْعًا مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ دُونَ الصِّيغَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِاسْمِ جَمْعٍ كَذَا قَالَ أَبُو الْيُسْرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَا يُقَالُ الْحَدُّ الْمَذْكُورُ لَيْسَ بِجَامِعٍ؛ لِأَنَّ النَّكِرَةَ الْمَنْفِيَّةَ وَنَحْوَهَا عَامَّةٌ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا

وَنَخْلَةٌ عَمِيمَةٌ أَيْ طَوِيلَةٌ وَالْقَرَابَةُ إذَا تَوَسَّعَتْ انْتَهَتْ إلَى صِفَةِ الْعُمُومَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْكِتَابِ وَسَائِرِ الْكُتُبِ وَلَمْ يَتَنَاوَلْهَا هَذَا الْحَدُّ إذْ هِيَ لَيْسَتْ بِلَفْظٍ مَوْضُوعٍ لِانْتِظَامِ جَمْعٍ مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ بَلْ عُمُومُهَا ضَرُورِيٌّ كَمَا عُرِفَ، لِأَنَّا نَقُولُ الْحُدُودُ لِبَيَانِ الْحَقَائِقِ وَعُمُومُهَا مَجَازِيٌّ لِصِدْقِ حَدِّ الْمَجَازِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ رَجُلًا فِي قَوْلِهِ مَا رَأَيْت رَجُلًا لَفْظٌ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ مَا وُضِعَ لَهُ لِعَلَاقَةٍ بَيْنَ الْمَحَلَّيْنِ إذْ الرَّجُلُ وُضِعَ لِلْفَرْدِ وَأُرِيدَ بِهِ غَيْرُ مَوْضُوعِهِ، وَهُوَ الْعُمُومُ هَهُنَا بِقَرِينَةِ النَّفْيِ كَمَا أُرِيدَ بِالْأَسَدِ الشُّجَاعُ فِي قَوْلِهِ رَأَيْت أَسَدًا يَرْمِي بِقَرِينَةِ الرَّمْيِ لِلْعَلَاقَةِ بَيْنَهُمَا. وَقَدْ نَصَّ عَلَى مَجَازِيَّتِهِ فِي شَرْحِ أُصُولِ الْفِقْهِ لِابْنِ الْحَاجِبِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ عَدَمُ دُخُولِهَا فِي الْحَدِّ صِحَّتَهُ، عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ عُمُومَهَا حَقِيقِيٌّ لَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ الْحَدِّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ الْمَذْكُورَ لِبَيَانِ الْعَامِّ صِيغَةً وَلُغَةً بِدَلَالَةِ مَوْرِدِ التَّقْسِيمِ لَا لِمُطْلَقِ الْعَامِّ، وَعُمُومُ النَّكِرَةِ الْمَنْفِيَّةِ لَمْ يَثْبُتْ بِالصِّيغَةِ بَلْ بِالضَّرُورَةِ وَالْحَدُّ الْمَذْكُورُ جَامِعٌ مَانِعٌ لِلْعَامِّ الصِّيغِيِّ فَيَكُونُ صَحِيحًا، وَلَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ الْوَضْعُ فِي اللَّفْظِ بِأَنْ أُجْرِيَ عَلَى إطْلَاقِهِ وَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَى مَوْرِدِ التَّقْسِيمِ لَكَانَ الْحَدُّ مَتْنًا لَا لَهَا إذْ هِيَ لَفْظٌ يَنْتَظِمُ جَمْعًا مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ مَعْنًى فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَدَّ جَامِعٌ كَمَا أَنَّهُ مَانِعٌ قَوْلُهُ (وَنَخْلَةٌ عَمِيمَةٌ أَيْ طَوِيلَةٌ) قِيلَ لَمَّا كَانَتْ أَجْزَاؤُهَا كَثِيرَةً شَمِلَتْ الْهَوَاءَ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا، وَقِيلَ إذَا طَالَتْ تَشَعَّبَتْ أَكْثَرَ مِمَّا إذَا لَمْ تَطُلْ، وَالْقَرَابَةُ إذَا تَوَسَّعَتْ انْتَهَتْ إلَى صِفَةِ الْعُمُومِيَّةِ، فَأَوَّلُ دَرَجَاتِ الْقَرَابَةِ الْبُنُوَّةُ ثُمَّ الْأُبُوَّةُ ثُمَّ الْأُخُوَّةُ ثُمَّ الْعُمُومَةُ فَبِهَا تَنْتَهِي وَتَتَوَسَّعُ وَلَيْسَ بَعْدَهَا قَرَابَةٌ أُخْرَى إذْ سَائِرُ الْقَرَابَاتِ بَعْدَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فَرْعٌ لِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ؛ وَلِهَذَا انْتَهَتْ الْمَحْرَمِيَّةُ الَّتِي هِيَ مِنْ أَحْكَامِ الْقَرَابَةِ إلَى الْعُمُومَةِ وَلَمْ تَتَعَدَّ إلَى فُرُوعِهَا، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الشَّيْخُ لِلْخُؤُولَةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ قَرَابَةُ الْأَبِ إذْ النَّسَبُ إلَى الْأَبَاءِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِيَ الْإِمَامَ أَبَا زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَرَّفَ الْعَامَّ كَمَا عَرَّفَهُ الشَّيْخُ لَكِنَّهُ فَسَّرَ الْأَسْمَاءَ بِالتَّسْمِيَاتِ. كَذَا قَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ وَالِانْتِظَامَ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى بِطَرِيقٍ آخَرَ فَقَالَ: وَأَمَّا الْعَامُّ فَمَا يَنْتَظِمُ جَمْعًا مِنْ الْأَسْمَاءِ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى كَقَوْلِك الشَّيْءُ، فَإِنَّهُ اسْمٌ لِكُلِّ مَوْجُودٍ وَلِكُلِّ مَوْجُودٍ اسْمٌ عَلَى حِدَةٍ وَالْإِنْسَانُ اسْمٌ عَامٌّ فِي جِنْسِهِ؛ لِأَنَّ جِنْسَهُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَفْرَادٍ وَلِكُلِّ فَرْدٍ اسْمٌ عَلَى حِدَةٍ، وَنَقُولُ مَطَرٌ عَامٌّ إذَا عَمَّ الْأَمْكِنَةَ فَيَكُونُ عَامًّا بِمَعْنَاهُ، وَهُوَ الْحُلُولُ بِالْأَمْكِنَةِ لَا بِأَسْمَاءٍ يَجْمَعُهَا الْمَطَرُ، فَسِيَاقُ كَلَامِهِ هَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ التَّسْمِيَاتُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَلِكُلِّ مَوْجُودٍ اسْمٌ عَلَى حِدَةٍ وَلِكُلِّ فَرْدٍ اسْمٌ عَلَى حِدَةٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَيُشِيرُ أَيْضًا إلَى أَنَّ الِانْتِظَامَ لَفْظًا أَنْ يَشْمَلَ اللَّفْظُ أَسْمَاءً مُخْتَلِفَةً كَالشَّيْءِ، فَإِنَّهُ يَشْمَلُ الْأَرْضَ وَالسَّمَاءَ وَالْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَغَيْرَهَا وَالِانْتِظَامُ مَعْنًى أَنْ يَحِلَّ الْمَعْنَى مَحَالَّ كَثِيرَةً فَدَخَلَ الْمَحَالُّ الْمُخْتَلِفَةُ تَحْتَ الْعُمُومِ بِوَاسِطَةِ الْمَعْنَى كَمَعْنَى الْمَطَرِ لَمَّا حَلَّ مَحَالَّ كَثِيرَةً دَخَلَتْ الْمَحَالُّ تَحْتَ لَفْظِ الْمَطَرِ دُخُولَ الْمَوْجُودَاتِ تَحْتَ لَفْظِ الشَّيْءِ لَكِنْ بِوَاسِطَةِ مَعْنَاهُ، وَهُوَ حُلُولُهُ بِهَا لَا بِلَفْظِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى الْمَحَالِّ بِخِلَافِ الشَّيْءِ، فَإِنَّ لَفْظَهُ يَدُلُّ عَلَى مَا انْتَظَمَهُ. فَالشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا رَأَى أَنَّ انْتِظَامَ اللَّفْظِ لِمَدْلُولَاتِ الْأَسْمَاءِ لَا لِلْأَسْمَاءِ وَأَنَّ دُخُولَ الْمَحَالِّ تَحْتَ لَفْظِ الْمَطَرِ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ وَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي التَّعْرِيفَاتِ فَسَّرَ الْأَسْمَاءَ بِالْمُسَمَّيَاتِ وَالِانْتِظَامَ اللَّفْظِيَّ وَالْمَعْنَوِيَّ بِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ احْتِرَازًا عَمَّا اخْتَارَهُ

وَهُوَ كَالشَّيْءِ اسْمٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَوْجُودٍ عِنْدَنَا وَلَا يَتَنَاوَلُ الْمَعْدُومَ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ مَوْجُودٍ يَنْفَرِدُ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْقَاضِي الْإِمَامُ وَاخْتِيَارًا لِلْأَصْوَبِ وَوَافَقَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَصَدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيُسْرِ وَغَيْرُهُمَا، فَالشَّيْءُ وَالْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَنَحْوُهَا عَامٌّ لَفْظِيٌّ فِي اخْتِيَارِ الْقَاضِي الْإِمَامِ وَعَامٌّ مَعْنَوِيٌّ فِي اخْتِيَارِهِمْ. قَوْلُهُ (وَهُوَ كَالشَّيْءِ) هَذَا مِنْ نَظَائِرِ الْعَامِّ الْمَعْنَوِيِّ وَالْغَرَضُ مِنْ إيرَادِهِ بَعْدَمَا أَوْرَدَ نَظِيرَ الْمَعْنَوِيِّ مَرَّةً أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ عَامٌّ مَعْنَوِيٌّ لَا لَفْظِيٌّ كَمَا ظَنَّهُ الْقَاضِي وَأَنَّهُ عَامٌّ لَا مُشْتَرَكٌ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا تَمَسَّكُوا فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16] وَقَالُوا الشَّيْءُ اسْمٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَوْجُودٍ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْأَعْيَانُ وَالْأَعْرَاضُ اعْتَرَضَ الْخُصُومُ وَقَالُوا قَدْ خُصَّ مِنْهُ ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ فَلَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ بَعْدَ الْخُصُوصِ لِخُرُوجِهِ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً أَوْ لِصَيْرُورَتِهِ ظَنِّيًّا، فَأَجَابَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ عَامٌّ بَلْ هُوَ مُشْتَرَكٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ أَفْرَادًا مُخْتَلِفَةَ الْحَقَائِقِ وَلَئِنْ اُعْتُبِرَ مَعْنَى الْوُجُودِ؛ فَلِذَلِكَ أَيْضًا مُخْتَلِفٌ؛ لِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ وَاجِبُ الْوُجُودِ وَعَلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ جَائِزُ الْوُجُودِ وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْوُجُودَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الشَّمْسِ وَالْيَنْبُوعِ وَالْبَاصِرَةِ لِجَوَازِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَعَانِي وَاسْتِحَالَتِهَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمُحْدَثُ يَمْتَنِعُ دُخُولُ الْقَدِيمِ تَحْتَهُ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ. وَالْعَامَّةُ سَلَّمُوا عُمُومَهُ وَقَالُوا: إنَّهُ عَامٌّ بِاعْتِبَارِ مُطْلَقِ الْوُجُودِ، فَإِنَّهُ مُتَّحِدٌ وَاخْتِلَافُ الْحَقَائِقِ لَا يَمْنَعُ الدُّخُولَ تَحْتَ أَمْرٍ عَامٍّ، فَإِنَّ لَفْظَ الْعَرَضِ يَتَنَاوَلُ الْأَضْدَادَ وَكَذَا لَفْظُ اللَّوْنِ يَتَنَاوَلُ السَّوَادَ وَالْبَيَاضَ بِمَعْنًى أَعَمَّ مِنْهُمَا، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الِاشْتِرَاكُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ مَوْجُودٍ يَتَعَرَّفُ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ، وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ مَنَعُوا التَّخْصِيصَ فِيهِ، وَقَالُوا التَّخْصِيصُ إنَّمَا يَجْرِي فِيمَا يُوجِبُ ظَاهِرُ الْكَلَامِ دُخُولَ الْمَخْصُوصِ فِيهِ لَوْلَا الْمُخَصِّصُ، وَهَذَا الْكَلَامُ لَا يُوجِبُ دُخُولَ الْمُخَاطَبِ فِيهِ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ دَخَلْت الدَّارَ وَضَرَبْت جَمِيعَ مَنْ فِيهَا وَأَخْرَجْتهمْ مِنْهَا لَا يُوجِبُ ذَلِكَ دُخُولَهُ فِي عُمُومِ كَلَامِهِ لِيَصِيرَ ضَارِبًا نَفْسَهُ وَمُخْرِجًا لَهَا فَلَا يُعَدُّ هَذَا تَخْصِيصًا، وَكَذَا فِي الْأَحْكَامِ إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ طَلِّقِي مِنْ نِسَائِي مَنْ شِئْت وَلَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ لَا يَدْخُلُ الْمُخَاطَبَةُ فِي هَذَا الْخِطَابِ حَتَّى لَوْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا لَا يَقَعُ فَكَذَا هَذَا، وَحَاصِلُ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ دَلِيلَ الْعَقْلِ لَا يَصْلُحُ مُخَصِّصًا؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ لِإِخْرَاجِ مَا يُمْكِنُ دُخُولُهُ تَحْتَ اللَّفْظِ، وَخِلَافُ الْمَعْقُولِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ. وَلِأَنَّ التَّخْصِيصَ يَكُونُ مُتَأَخِّرًا مُتَّصِلًا أَوْ مُنْفَصِلًا، وَهَذَا سَابِقٌ، وَأَكْثَرُهُمْ سَلَّمُوا كَوْنَهُ مَخْصُوصًا؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْعَقْلِ يَصْلُحُ مُخَصِّصًا عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ لَكِنَّهُمْ لَمْ يُسَلِّمُوا صَيْرُورَتَهُ ظَنِّيًّا بِمِثْلِ هَذَا التَّخْصِيصِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي تَخْصِيصٍ يَقْبَلُ التَّعْلِيلَ أَوْ التَّفْسِيرَ كَمَا سَتَعْرِفُ، فَأَمَّا فِيمَا لَا يَقْبَلُهُ فَلَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَامَّ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَهُوَ مِنْ دَلَائِلِ التَّخْصِيصِ عِنْدَهُمْ كَدَلِيلِ الْعَقْلِ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْقَطْعِ إلَى الظَّنِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيلَ، فَكَذَا هَذَا، وَقَوْلُهُ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ مَوْجُودٍ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ

وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْعَامَّ مَا يَنْتَظِمُ جَمْعًا مِنْ الْأَسْمَاءِ أَوْ الْمَعَانِي وَقَوْلُهُ أَوْ الْمَعَانِي سَهْوٌ مِنْهُ أَوْ مُؤَوَّلٌ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ لَا تَتَعَدَّدُ إلَّا عِنْدَ اخْتِلَافِهَا وَتَغَايُرِهَا وَعِنْدَ اخْتِلَافِهَا وَتَغَايُرِهَا لَا يَنْتَظِمُهَا لَفْظٌ وَاحِدٌ بَلْ يَحْتَمِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى الِانْفِرَادِ وَهَذَا يُسَمَّى مُشْتَرَكًا وَقَدْ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا أَنَّ الْمُشْتَرَكَ لَا عُمُومَ لَهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ سَهْوٌ أَوْ مُؤَوَّلٌ وَتَأْوِيلُهُ أَنَّ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ لَمَّا تَعَدَّدَ مَحَلُّهُ يُسَمَّى مَعَانِيَ مَجَازًا لِاجْتِمَاعِ مَحَالِّهِ لَكِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ وَالْمَعَانِي ـــــــــــــــــــــــــــــQيَتَنَاوَلُ كُلَّ مَوْجُودٍ عِنْدَنَا، وَقَوْلُهُ وَلَا يَتَنَاوَلُ الْمَعْدُومَ مُعْتَرِضٌ بَيْنَهُمَا وَفِيهِ احْتِرَازٌ عَنْ مَذْهَبِهِمْ، وَقَوْلُهُ عِنْدَنَا احْتِرَازٌ عَنْ الْقَوْلِ بِالِاشْتِرَاكِ لَا عَنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فَافْهَمْ. قَوْلُهُ (وَهَذَا سَهْوٌ مِنْهُ) أَيْ قَوْلُهُ أَوْ الْمَعَانِي سَهْوٌ مِنْهُ، وَفِي ذِكْرِ السَّهْوِ دُونَ الْخَطَإِ رِعَايَةُ الْأَدَبِ إذْ لَا عَيْبَ فِي السَّهْوِ لِلْإِنْسَانِ وَالسَّهْوُ مَا يَنْتَبِهُ صَاحِبُهُ بِأَدْنَى تَنْبِيهٍ وَالْخَطَأُ مَا لَا يَتَنَبَّهُ صَاحِبُهُ أَوْ يَنْتَبِهْ بَعْدَ إتْعَابٍ كَذَا قَالَ صَاحِبُ الْمِفْتَاحِ: ثُمَّ مَعْنَى قَوْلِهِ سَهْوٌ أَوْ مُؤَوَّلٌ أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ أَرَادَ مِنْ قَوْلِهِ جَمْعًا مِنْ الْمَعَانِي تَعَدُّدَهَا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، فَإِنْ أَرَادَ الْأَوَّلَ فَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّ تَعَدُّدَ الْمَعَانِي حَقِيقَةً لَا يَكُونُ بِتَعَدُّدِ أَفْرَادِهَا فِي الْخَارِجِ بَلْ بِتَعَدُّدِهَا فِي الذِّهْنِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا عِنْدَ اخْتِلَافِهَا، فَإِنَّك إذَا رَأَيْت إنْسَانًا وَثَبَتَ فِي ذِهْنِك مَعْنَاهُ ثُمَّ رَأَيْت آخَرَ وَآخَرَ لَا يَثْبُتُ مَعْنًى آخَرُ فِي ذِهْنِك. وَإِنْ كَانَ إنْسَانِيَّةُ زَيْدٍ فِي الْخَارِجِ غَيْرَ إنْسَانِيَّةِ عَمْرٍو وَخَالِدٍ وَلَكِنْ إذَا رَأَيْت أَسَدًا أَوْ ذِئْبًا أَوْ فَرَسًا أَوْ غَيْرَهَا يَثْبُتُ مَعْنًى آخَرُ فِي ذِهْنِك غَيْرَ الْأَوَّلِ فَثَبَتَ أَنَّ تَعَدُّدَ الْمَعَانِي إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا، وَحِينَئِذٍ لَا يَتَنَاوَلُهَا لَفْظٌ وَاحِدٌ عَلَى سَبِيلِ الشُّمُولِ؛ لِأَنَّ أَفْرَادَ الْعَامِّ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُتَّفِقَةً، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ الْمَعَانِي اخْتَلَفَتْ أَفْرَادُ الْعَامِّ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ لَفْظٍ وَاحِدٍ إلَّا بِطَرِيقِ الْبَدَلِ وَذَلِكَ يُسَمَّى مُشْتَرَكًا وَلَا عُمُومَ لَهُ عِنْدَهُ أَيْضًا، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا لَفْظُ الْعَرَضِ أَوْ الْأَعْرَاضِ بِأَنَّهُ يَشْمَلُ الْمَعَانِيَ الْمُخْتَلِفَةَ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ تَنَاوُلَهُ لَيْسَ لِكَوْنِهَا مَعَانِيَ مُخْتَلِفَةً فِي ذَوَاتِهَا بَلْ لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَرْضًا، وَهَذَا مَعْنًى وَاحِدٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْبَيَاضَ أَوْ السَّوَادَ أَوْ الْحَرَكَةَ أَوْ السُّكُونَ؛ لِأَنَّهُ سَوَادٌ أَوْ بَيَاضٌ أَوْ حَرَكَةٌ أَوْ سُكُونٌ بَلْ لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُسْتَحِيلَ الْبَقَاءِ فَيَكُونُ كَالشَّيْءِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَوْجُودٍ بِمَعْنَى الْمَوْجُودِ لَا غَيْرُ، تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ بِإِزَاءِ السَّوَادِ أَوْ الْبَيَاضِ، فَإِنَّهُ لَوْ فُسِّرَ مَعْنَاهُ بِأَنَّهُ السَّوَادُ أَوْ الْبَيَاضُ أَوْ نَحْوُهُ يُخْطِئُ لُغَةً، وَقَوْلُهُ اخْتِلَافُهَا وَتَغَايُرُهَا تَرَادُفٌ هَهُنَا، وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَخَصَّ مِنْ التَّغَايُرِ لِاسْتِلْزَامِهِ التَّغَايُرَ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، وَإِنْ أَرَادَ الثَّانِي أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى مَعَانِيَ مَجَازًا لِتَعَدُّدِهِ فِي الْخَارِجِ بِسَبَبِ تَعَلُّقِهِ بِالْمَحَالِّ الْمُتَعَدِّدَةِ كَالْخِصْبِ يُوصَفُ بِالْعُمُومِ مَجَازًا لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَا بُدَّ لِلْعَامِّ مِنْ مَعْنًى مُتَّحِدٍ يَشْتَرِك فِيهِ أَفْرَادُ الْعَامِّ لِيَصِحَّ شُمُولُهُ إيَّاهَا بِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِنَا أَفْرَادُ الْعَامِّ مُتَّفِقَةُ الْحُدُودِ وَذَلِكَ كَلَفْظَةِ مُسْلِمُونَ مَثَلًا، فَإِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْأَشْخَاصَ الدَّاخِلَةَ تَحْتَهَا إلَّا بِمَعْنَى الْإِسْلَامِ ثُمَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَمَّا كَانَ مُتَعَدِّدًا فِي الْخَارِجِ، فَإِنَّ إسْلَامَ زَيْدٍ غَيْرُ إسْلَامِ عَمْرٍو. وَإِنْ كَانَ مُتَّحِدًا حَقِيقَةً سَمَّاهُ مَعَانِيَ مَجَازًا فَيَصِيرُ مَا ذُكِرَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مُوَافِقًا لِمَا ذَكَرْنَا فِي التَّحْقِيقِ، وَلَكِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: وَالْمَعَانِي بِالْوَاوِ الَّتِي هِيَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ لِيَصِحَّ هَذَا التَّأْوِيلُ وَيَصِيرُ تَقْدِيرُ كَلَامِهِ الْعَامِّ مَا يَتَنَاوَلُ جَمْعًا مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ مَعَ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ صَارَتْ مُتَّفِقَةً، وَلَكِنَّهُ سَمَّاهُ مَعَانِيَ مَجَازًا، وَهَذَا هُوَ تَفْسِيرُ الْعَامِّ عِنْدَنَا أَيْضًا، قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَكَذَا رَأَيْت فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ كِتَابِهِ أَيْ بِالْوَاوِ لَكِنَّ قَوْلَهُ أَوْ يَأْبَى هَذَا

[تعريف المشترك]

وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ سَهْوٌ. وَأَمَّا الْمُشْتَرَكُ فَكُلُّ لَفْظٍ احْتَمَلَ مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّأْوِيلَ؛ لِأَنَّ أَوْ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ وَالْعَامُّ يَشْمَلُ كِلَيْهِمَا فَلَا يَصِحُّ هَذَا التَّأْوِيلُ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَفِيهِ بُعْدٌ؛ فَلِهَذَا قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ سَهْوٌ، هَذَا مَعْنَى كَلَامِ الشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَمْ يُجَوِّزْ أَنْ يَشْمَلَ اللَّفْظُ مَعَانِيَ مُخْتَلِفَةً لِئَلَّا يَلْزَمَ الْقَوْلُ بِعُمُومِ الْمَعَانِي وَجَعْلِ الْمَعَانِيَ مَجَازًا عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ وَلَكِنَّ أَخَاهُ صَدْرَ الْإِسْلَامِ أَبَا الْيُسْرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْجَصَّاصَ بِقَوْلِهِ أَوْ الْمَعَانِي لَمْ يُرِدْ عُمُومَ الْمَعَانِي وَلَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالْمَعَانِي مَا يَنْتَظِمُ جَمْعًا مِنْ الْأَعْيَانِ وَالْأَعْرَاضِ، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ الْمُسْلِمُونَ عَمَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعَ. وَإِذَا قَالَ الْحَرَكَاتُ عَمَّ الْحَرَكَاتِ كُلَّهَا، وَهِيَ الْمَعَانِي فَيَجْعَلُ أَبُو الْيُسْرِ الْمَعَانِيَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَهَذَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ مَعَانِيَ مُخْتَلِفَةً بِمَعْنًى أَعَمَّ مِنْهَا كَمَا فِي قَوْلِنَا الْمَعَانِي وَالْعُلُومُ وَالْأَعْرَاضُ وَنَحْوُهَا، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهَا عَامٌّ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِكَوْنِهِ مَوْضُوعًا لِجَمْعٍ مِنْ مَدْلُولَاتِهِ وَلَكِنْ بِمَعْنًى مُتَّحِدٍ يَشْمَلُ الْكُلَّ، وَهُوَ مُطْلَقُ الْمَعْنَى وَالْعِلْمِ وَالْعَرَضِ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّيْءَ يَتَنَاوَلُ الْمَعَانِيَ الْمُخْتَلِفَةَ بِمَعْنَى الْمَوْجُودِ كَمَا يَتَنَاوَلُ الْأَعْيَانَ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ لَفْظٌ آخَرُ مَعَانِيَ مُخْتَلِفَةً بِمَعْنًى يَشْمَلُهَا فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْعَامُّ قِسْمَيْنِ: مَا يَتَنَاوَلُ الْأَعْيَانَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَمَا يَتَنَاوَلُ الْمَعَانِيَ بِمَعْنًى يَعُمُّهَا فَيَصِحُّ قَوْلُهُ أَوْ الْمَعَانِي وَيَكُونُ حَدُّهُ مُتَعَرِّضًا لِلْقِسْمَيْنِ فَيَكُونُ جَامِعًا وَلَا يَتَعَرَّضُ حَدُّ الْمُصَنِّفُ إلَّا لِقِسْمٍ وَاحِدٍ فَلَا يَكُونُ جَامِعًا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الْمُسَمَّى مَفْهُومُ اللَّفْظِ فَحِينَئِذٍ يَتَنَاوَلُهَا، وَعَنْ هَذَا قِيلَ فِي تَحْدِيدِ الْعَامِّ هُوَ لَفْظٌ يَنْتَظِمُ جَمْعًا مِنْ الْمَفْهُومَاتِ بِالْوَضْعِ، وَلَكِنَّ طَعْنَهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الْجَصَّاصِ يَأْبَى هَذَا الْحَمْلَ فَافْهَمْ. وَلَا يَلْزَمُ مِمَّا ذَكَرْنَا الْقَوْلُ بِعُمُومِ الْمَعَانِي؛ لِأَنَّ الْعُمُومَ وَصْفٌ لِلْمُشْتَمِلِ لَا لِلْمُشْتَمِلِ عَلَيْهِ إذْ الْعَامُّ نَعْتٌ فَاعِلٌ كَمَا فِي قَوْلِنَا الرِّجَالُ، فَإِنَّهُ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِالْعُمُومِ لَا الْأَفْرَادُ الدَّاخِلَةُ تَحْتَهُ وَهَهُنَا الشَّامِلُ هُوَ اللَّفْظُ سَوَاءٌ اشْتَمَلَ عَلَى أَعْيَانٍ أَوْ عَلَى مَعَانٍ فَيَجُوزُ وَصْفُهُ بِالْعُمُومِ بِالِاتِّفَاقِ، فَأَمَّا الْمَعْنَى إذَا شَمِلَ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدُلَّ لَفْظُهُ عَلَى الشُّمُولِ كَمَعْنَى الْمَطَرِ أَوْ الْخِصْبِ إذَا شَمِلَ الْأَمْكِنَةَ وَالْبِلَادَ، فَهَذَا هُوَ مَحَلُّ الِاخْتِلَافِ فَعِنْدَ الْعَامَّةِ لَا يُوصَفُ بِالْعُمُومِ إلَّا مَجَازًا، وَعِنْدَ الْبَعْضِ يُوصَفُ بِهِ حَقِيقَةً، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي شَيْءٍ، وَلَا يُقَالُ حَدُّهُ لَيْسَ بِمَانِعٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَا يَنْتَظِمُ يَتَنَاوَلُ الْمَعْنَى كَمَا يَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ، وَالْمَعْنَى لَا يُوصَفُ بِالْعُمُومِ حَقِيقَةً؛ وَلِهَذَا تَعَرَّضَ الْمُصَنِّفُ لِلَّفْظِ فَقَالَ كُلُّ لَفْظٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ يَجُوزُ عِنْدَهُ وَصْفُ الْمَعْنَى بِالْعُمُومِ حَقِيقَةً، فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِهِ بِالْعُمُومِ حَقِيقَةً فِي الْمَعَانِي كَمَا هُوَ فِي الْأَلْفَاظِ يُقَالُ عَمَّهُمْ الْخِصْبُ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَامًّا كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ. - رَحِمَهُ اللَّهُ - [تَعْرِيف الْمُشْتَرَكُ] قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْمُشْتَرَكُ) أَيْ الْمُشْتَرَكُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَاتِ مُشْتَرَكَةٌ وَالصِّيغَةُ مُشْتَرَكٌ فِيهَا، وَقَوْلُهُ احْتَمَلَ كَذَا أَيْ بِالْوَضْعِ عُرِفَ ذَلِكَ بِمَوْرِدِ التَّقْسِيمِ؛ لِأَنَّ هَذَا تَقْسِيمُ نَفْسِ اللَّفْظِ وَدَلَالَتِهِ عَلَى الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى إرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ. وَالْمَجَازُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِإِرَادَتِهِ، وَقَوْلُهُ

أَوْ اسْمًا مِنْ الْأَسْمَاءِ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَعَانِي عَلَى وَجْهٍ لَا يَثْبُتُ إلَّا وَاحِدٌ مِنْ الْجُمْلَةِ مُرَادًا بِهِ مِثْلُ الْعَيْنِ اسْمٌ لِعَيْنِ النَّاظِرِ وَعَيْنِ الشَّمْسِ وَعَيْنِ الْمِيزَانِ وَعَيْنِ الرُّكْبَةِ وَعَيْنِ الْمَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمِثْلُ الْمَوْلَى ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ الْمَعَانِي أَوْ الْأَسْمَاءِ يُوهِمُ أَنَّ عَدَدَ الثَّلَاثِ شَرْطٌ فِي الِاشْتِرَاكِ كَمَا هُوَ شَرْطٌ فِي الْعُمُومِ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الِاشْتِرَاكُ يَثْبُتُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ أَوْ الِاسْمَيْنِ أَيْضًا كَالْقُرْءِ؛ وَلِهَذَا قِيلَ فِي حَدِّهِ هُوَ اللَّفْظَةُ الْمَوْضُوعَةُ لِحَقِيقَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ وَضْعًا أَوَّلًا مِنْ حَيْثُ هُمَا مُخْتَلِفَتَانِ، فَاحْتُرِزَ بِالْمَوْضُوعَةِ لِحَقِيقَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ عَنْ الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ، وَبِقَوْلِهِ وَضْعًا أَوَّلًا عَنْ الْمَنْقُولِ، وَبِقَوْلِهِ مِنْ حَيْثُ هُمَا مُخْتَلِفَتَانِ عَنْ مِثْلِ الشَّيْءِ، فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْمَاهِيَّاتِ الْمُخْتَلِفَةَ لَكِنْ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَوْلُهُ أَوْ اسْمًا مِنْ الْأَسْمَاءِ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَعَانِي مَعْنَاهُ أَوْ مُسَمًّى مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمَعَانِي بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِهِمَا لَا بِاعْتِبَارِ مَعْنًى يَشْمَلُهَا بِخِلَافِ الْعَامِّ، فَإِنَّهُ قَدْ يَشْمَلُ الْمُسَمَّيَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ الْمَعَانِي لَكِنْ لَا لِاخْتِلَافِهَا فِي ذَوَاتِهَا بَلْ بِمَعْنًى يَشْمَلُهَا كَمَا ذَكَرْنَا، وَاعْلَمْ أَنَّ ذِكْرَ كَلِمَةِ أَوْ فِي التَّحْدِيدِ إنْ كَانَ يُؤَدِّي إلَى تَقْسِيمِ الْحَدِّ فَهُوَ بَاطِلٌ لِعَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ التَّعْرِيفُ، وَإِنْ كَانَ يُؤَدِّي إلَى تَقْسِيمِ الْمَحْدُودِ لَا إلَى تَقْسِيمِ الْحَدِّ، فَهُوَ جَائِزٌ لِعَدَمِ الِاخْتِلَالِ فِي التَّعْرِيفِ، ثُمَّ إنْ تَنَاوَلَ الْقِسْمَيْنِ لَفْظٌ مِنْ أَلْفَاظِ الْحَدِّ فَهُوَ تَقْسِيمُ الْمَحْدُودِ وَإِلَّا فَهُوَ تَقْسِيمُ الْحَدِّ كَمَا لَوْ قِيلَ الْجِسْمُ مَا يَتَرَكَّبُ مِنْ جَوْهَرَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ يَكُونُ تَقْسِيمًا لِلْمَحْدُودِ لِتَنَاوُلِ التَّرْكِيبِ إيَّاهُمَا وَلَوْ قِيلَ الْجِسْمُ مَا يَتَرَكَّبُ مِنْ جَوْهَرَيْنِ أَوْ مَا لَهُ أَبْعَادٌ ثَلَاثَةٌ يَكُونُ تَقْسِيمًا لِلْحَدِّ لِعَدَمِ دُخُولِهِمَا تَحْتَ لَفْظٍ مِنْ أَلْفَاظِ الْحَدِّ فَيَفْسُدُ فَقَوْلُهُ أَوْ اسْمًا مِنْ الْأَسْمَاءِ مِنْ قَبِيلِ تَقْسِيمِ الْمَحْدُودِ لَا مِنْ تَقْسِيمِ الْحَدِّ لِدُخُولِهِمَا تَحْتَ قَوْلِهِ كُلُّ لَفْظٍ اُحْتُمِلَ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ الْمُشْتَرَكُ مَا احْتَمَلَ وَاحِدًا مِنْ مَفْهُومَاتِ اللَّفْظِ كَمَا إنَّ قَوْلَهُ فِي تَحْدِيدِ الْعَامِّ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى تَقْسِيمٌ لِلْمَحْدُودِ لِدُخُولِهِمَا تَحْتَ قَوْلِهِ يَنْتَظِمُ، وَقَوْلُهُ عَلَى اخْتِلَافِ حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ، وَعَلَى بِمَعْنَى مَعَ كَمَا فِي قَوْلِك تَبَحَّرَ فُلَانٌ فِي الْعُلُومِ عَلَى صِغَرِ سِنِّهِ أَيْ مَعَ. وَالْعَامِلُ فِيهِ الْفِعْلُ الْمُقَدَّرُ فِي الظَّرْفِ، وَمَحَلُّ الظَّرْفِ النَّصْبُ عَلَى الصِّفَةِ لِ " اسْمًا "، وَاللَّامُ فِي الْمَعَانِي بَدَلٌ مِنْ الْإِضَافَةِ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ احْتَمَلَ اسْمًا اسْتَقَرَّ هُوَ مِنْ الْأَسْمَاءِ مُخْتَلِفَةً مَعَانِيهَا، وَقَوْلُهُ عَلَى وَجْهٍ حَالٌ مِنْ الْمَعَانِي وَمِنْ الْأَسْمَاءِ جَمِيعًا بِمَعْنَى الشَّرْطِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ احْتَمَلَ، وَاللَّامُ فِي الْجُمْلَةِ بَدَلٌ مِنْ الْإِضَافَةِ، وَالتَّقْدِيرُ احْتَمَلَ مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي أَوْ اسْمًا مِنْ الْأَسْمَاءِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَثْبُتَ إلَّا وَاحِدٌ مِنْ الْمَعَانِي أَوْ الْأَسْمَاءِ أَيْ وَاحِدٌ مِنْ مَفْهُومَاتِهِ، " وَمُرَادًا " تَمْيِيزٌ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ رَاجِعٌ إلَى اللَّفْظِ، ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ الْمَعَانِي إنْ كَانَ مَفْهُومَاتُ الْأَلْفَاظِ فَالْمُرَادُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَيْهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْكَرْدَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّ لَفْظَ الْعَيْنِ إنْ كَانَ مَوْضُوعًا بِإِزَاءِ لَفْظِ الشَّمْسِ وَالْيَنْبُوعِ وَالذَّهَبِ فَهُوَ نَظِيرُ اشْتِرَاكِ الْأَسْمَاءِ، وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعًا بِإِزَاءِ مَفْهُومَاتِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فَهُوَ نَظِيرُ اشْتِرَاكِ الْمَعَانِي، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هَهُنَا الْمَعَانِي الذِّهْنِيَّةُ كَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فَالْمُرَادُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُسَمَّيَاتُ أَيْ الْأَعْيَانُ فَالْعَيْنُ عَلَى هَذَا نَظِيرُ الْأَسْمَاءِ، وَكَذَا الْمَوْلَى وَالْقُرْءُ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَنَظِيرُ الْمُشْتَرَكِ فِي الْمَعَانِي الْإِخْفَاءُ لِلْإِظْهَارِ وَالسِّرِّ وَالنَّهَلُ لِلرَّيِّ وَالْعَطَشِ وَلَفْظُ بَانَ بِمَعْنَى انْفَصَلَ وَظَهَرَ وَبَعُدَ. وَقَوْلُهُ

وَالْقُرْءُ مِنْ الْأَسْمَاءِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ الِاشْتِرَاكِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ الْأَسْمَاءِ قِيلَ يَتَعَلَّقُ بِالْقُرْءِ أَيْ مِثْلُ الْقُرْءِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، فَإِنَّهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْجَامِدَةِ، وَهُوَ الْمُشْتَرَكُ دُونَ الْقُرْءِ الَّذِي بِمَعْنَى الْجَمْعِ وَالِانْتِقَالِ، وَالْأَوْجَهُ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْجُمُوعِ أَيْ هَذِهِ النَّظَائِرُ مِنْ الْأَسْمَاءِ لَا مِنْ الْمَعَانِي كَمَا بَيَّنَّا، قَوْلُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ اسْمٌ أَيْضًا لِلدِّينَارِ وَالْمَالِ النَّقْدِ وَالْجَاسُوسِ وَالدَّيْدَبَانِ وَالْمَطَرِ الَّذِي لَا يَقْلَعُ وَوَلَدِ الْبَقَرِ الْوَحْشِ وَخِيَارِ الشَّيْءِ وَنَفْسُ الشَّيْءِ يُقَالُ هُوَ هُوَ بِعَيْنِهِ، وَالنَّاسُ الْقَلِيلُ يُقَالُ بَلَدٌ قَلِيلُ الْعَيْنِ أَيْ قَلِيلُ النَّاسِ وَمَاءٌ عَنْ يَمِينِ قِبْلَةِ الْعِرَاقِ يُقَالُ نَشَأَتْ سَحَابَةٌ مِنْ قِبَلِ الْعَيْنِ وَحَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ وَعَيْبٌ فِي الْجِلْدِ يُقَالُ فِي الْجِلْدِ عَيْنٌ، وَأَعَادَ لَفْظَةَ مِثْلَ فِي الْمَوْلَى لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ عَطْفُهُ عَلَى مَفْهُومَاتِ الْعَيْنِ فَيَفْسُدُ الْمَعْنَى إذًا؛ وَلِأَنَّ الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ قَدْ تَكُونُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ بَيْنَهُمَا غَايَةُ الْخِلَافِ كَالضِّدَّيْنِ وَقَدْ لَا تَكُونُ كَذَلِكَ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَذْهَبَ الْوَهْمُ إلَى أَنَّ اللَّفْظَ إذَا دَلَّ عَلَى شَيْءٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى ضِدِّهِ لِغَايَةِ الْبُعْدِ بَيْنَهُمَا بِخِلَافِ الْقِسْمِ الْآخَرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْعُمُومَ بِالِاتِّفَاقِ فَالشَّيْخُ أَزَالَ ذَلِكَ الْوَهْمَ بِإِيرَادِ هَذَيْنِ النَّظِيرَيْنِ وَبَيَّنَ أَنَّ الِاشْتِرَاكَ يَثْبُتُ فِي النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ أَنْ لَا عُمُومَ لِلْمُشْتَرَكِ أَوْرَدَ نَظِيرًا مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، وَهُوَ الصَّرِيمُ تَوْضِيحًا لِمَا ادَّعَاهُ إذْ هُوَ أَشَدُّ دَلَالَةً عَلَى انْتِفَاءِ الْعُمُومِ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يَقُلْ بِالْعُمُومِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمُشْتَرَكِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ عَلَى الِاحْتِمَالِ لَا عَلَى الْعُمُومِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الِاشْتِرَاكَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّ اللَّفْظَ إذَا دَارَ بَيْنَ الِاشْتِرَاكِ وَعَدَمِهِ كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ عَدَمَهُ؛ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ يُخِلُّ بِالْفَهْمِ فِي حَقِّ السَّامِعِ لِتَرَدُّدِ الذِّهْنِ بَيْنَ مَفْهُومَاتِهِ، وَقَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الِاسْتِكْشَافُ إمَّا لِهَيْبَةِ الْمُتَكَلِّمِ أَوْ لِلِاسْتِنْكَافِ مِنْ السُّؤَالِ فَيَحْمِلُهُ عَلَى غَيْرِ الْمُرَادِ فَيَقَعُ فِي الْجَهْلِ وَرُبَّمَا ذَكَرَهُ لِغَيْرِهِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِجَهْلِ جَمْعٍ كَثِيرٍ، وَمِنْ هَذَا قِيلَ السَّبَبُ الْأَعْظَمُ فِي وُقُوعِ الْأَغْلَاطِ حُصُولُ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ، وَكَذَا فِي حَقِّ الْقَائِلِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي تَفْسِيرِهِ إلَى أَنْ يَذْكُرَهُ بِاسْمٍ خَاصٍّ فَيَقَعُ تَلَفُّظُهُ بِالْمُشْتَرَكِ عَبَثًا؛ وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا ظَنَّ أَنَّ السَّامِعَ تَنَبَّهَ لِلْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُرَادِ مَعَ أَنَّ السَّامِعَ لَمْ يَتَنَبَّهْ لَهَا فَيَتَضَرَّرُ كَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَعْطِ فُلَانًا عَيْنًا، وَأَرَادَ بِهِ خُبْزًا أَوْ شَيْئًا آخَرَ مِنْ الْأَعْيَانِ فَأَعْطَاهُ دِينَارًا فَيَتَضَرَّرُ السَّيِّدُ، فَهَذَا يَقْتَضِي امْتِنَاعَ الْوَضْعِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ جَمَاعَةٌ، وَلَكِنَّ وُقُوعَهُ لَمَّا أَبَى ذَلِكَ بَقِيَ اقْتِضَاءُ الْمَرْجُوحِيَّةِ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِكَوْنِهِ غَيْرَ أَصْلٍ، يُوَضِّحُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُشْتَرَكِ اسْمًا خَاصًّا آخَرَ بِهِ يَصِيرُ اللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ مُرَادِفًا لِذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ وَلَكِنَّهُ إنَّمَا وَقَعَ إمَّا لِغَفْلَةٍ مِنْ الْوَاضِعِ إنْ كَانَتْ اللُّغَاتُ اصْطِلَاحِيَّةً كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو هَاشِمٍ وَأَتْبَاعُهُ بِأَنْ نَسِيَ وَضْعَهُ الْأَوَّلَ، وَقَدْ اشْتَهَرَ فِي قَوْمٍ فَوَضَعَهُ ثَانِيًا لِمَعْنًى آخَرَ وَاشْتُهِرَ فِي آخَرِينَ ثُمَّ تَرَاضَى الْكُلُّ عَلَى الْوَضْعَيْنِ أَوْ لِاخْتِلَافِ الْوَاضِعِينَ بِأَنَّ مَا وَضَعَهُ وَاضِعٌ لِمَعْنًى وَضَعَهُ آخَرُ لِآخَرَ ثُمَّ اشْتَهَرَ كَلَامُهُمَا بَيْنَ الْأَقْوَامِ أَوْ لِلْقَصْدِ إلَى تَعْرِيفِ الشَّيْءِ لِغَيْرِهِ مُجْمَلًا غَيْرَ مُفَصَّلٍ إذْ هُوَ مَقْصُودٌ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ كَالتَّفْصِيلِ فِي عَامَّةِ الْأَحْوَالِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَيْفَ أَجْمَلَ عَلَى الْكَافِرِ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقْتَ ذَهَابِهِمَا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَى الْغَارِ وَقَالَ مَنْ هُوَ فَقَالَ هُوَ رَجُلٌ يَهْدِينِي السَّبِيلَ. وَإِنْ كَانَتْ تَوْقِيفِيَّةً كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَشْعَرِيُّ وَابْنُ فُورَكٍ فَلِلِابْتِلَاءِ كَمَا فِي إنْزَالِ الْمُتَشَابِهِ فَيَلْزَمُ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ بِالْوَضْعِ خِلَافًا لِقَوْمٍ لِمَا سَنَذْكُرُ، وَاعْلَمْ أَنَّ النِّزَاعَ فِيمَا إذَا أُرِيدَ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ مَعْنَيَيْهِ لَا الْمَجْمُوعُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَنَازَعٍ فِيهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ثَابِتٌ إذْ مِنْ شَرْطِ الْإِرَادَةِ الْخُطُورُ بِالْبَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِهَذَا وَلِذَاكَ وَيَكُونُ غَافِلًا عَنْ الْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ لِغَفْلَتِهِ عَنْ الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَحَدُ أَجْزَاءِ الْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ، وَيَتَّضِحُ الْفَرْقُ بِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ الْجَمْعِيَّةِ يَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ جُزْءَ الْمَعْنَى وَبِدُونِ هَذَا الِاعْتِبَارِ يَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ كَأَنَّهُ هُوَ الْمَعْنَى بِتَمَامِهِ أَلَا تَرَى أَنَّك لَوْ قُلْت كُلُّ مَنْ دَخَلَ دَارِي فَلَهُ دِرْهَمٌ يَسْتَحِقُّ كُلُّ دَاخِلٍ دِرْهَمًا وَلَوْ قُلْت جَمِيعُ مَنْ دَخَلَ دَارِي فَلَهُ دِرْهَمٌ فَيَسْتَحِقُّ جَمِيعُ الدَّاخِلِينَ دِرْهَمًا وَاحِدًا، وَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ كَالْجُبَّائِيِّ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ وَغَيْرِهِمْ أَنْ يُرَادَ بِالْمُشْتَرَكِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ إذَا صَحَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَاسْتِعْمَالِ الْعَيْنِ فِي الْبَاصِرَةِ وَالشَّمْسِ لَا كَاسْتِعْمَالِ الْقُرْءِ فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ مَعًا أَوْ اسْتِعْمَالِ أَفْعَلَ فِي الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ وَالتَّهْدِيدِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، إلَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ مَتَى تَجَرَّدَ الْمُشْتَرَكُ عَنْ الْقَرَائِنِ الصَّارِفَةِ إلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ، وَعِنْدَ الْبَاقِينَ لَا يَجِبُ فَصَارَ الْعَامُّ عِنْدَهُمَا قِسْمَيْنِ قِسْمٌ مُتَّفِقُ الْحَقِيقَةِ وَقِسْمٌ مُخْتَلِفُهَا. وَعِنْدَ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ يَجُوزُ إطْلَاقُهُ عَلَيْهِمَا مَجَازًا لَا حَقِيقَةً، وَعِنْدَ أَصْحَابِنَا وَبَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجَمِيعِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَبِي هَاشِمٍ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ لَا يَصِحُّ ذَلِكَ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، فَمَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ حَقِيقَةً تَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج: 18] فَقِيلَ أُرِيدَ بِالسُّجُودِ، وَهُوَ لَفْظٌ وَاحِدٌ مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ؛ لِأَنَّ سُجُودَ النَّاسِ، وَهُوَ وَضْعُ الْجَبْهَةِ غَيْرُ سُجُودِ الدَّوَابِّ، وَهُوَ الْخُشُوعُ وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ سُجُودِ النَّاسِ وَضْعُ الْجَبْهَةِ لَا الْخُشُوعُ تَخْصِيصُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ بِالسُّجُودِ دُونَ مَنْ عَدَاهُمْ مِمَّنْ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ مَعَ اسْتِوَائِهِمْ فِي السُّجُودِ بِمَعْنَى الْخُشُوعِ، وَبِقَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] أُرِيدَ بِهِ مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى رَحْمَةٌ وَمِنْ الْمَلَائِكَةِ اسْتِغْفَارٌ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، وَمَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً قَالَ لَا يَسْبِقُ الْمَجْمُوعُ إلَى الْفَهْمِ عِنْدَ إطْلَاقِ الْمُشْتَرَكِ بَلْ يَسْبِقُ أَحَدُ مَفْهُومَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ فَيَكُونُ حَقِيقَةً فِي أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ فَلَوْ أَطْلَقَ عَلَيْهِمَا كَانَ مَجَازًا لِكَوْنِهِ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ لِعَلَاقَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ تَسْمِيَةُ الْكُلِّ بِاسْمِ الْجُزْءِ وَفِيهِ تَقْلِيلُ الِاشْتِرَاكِ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً فِيهِمَا صَارَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ ثَلَاثَةِ مَعَانٍ. وَأَمَّا الْعَامَّةُ فَقَالُوا لَوْ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِمَا مَعًا يَلْزَمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَنَافِيَيْنِ لِكَوْنِ الْمُسْتَعْمَلِ مُرِيدًا لِأَحَدِ مَفْهُومَيْهِ خَاصَّةً ضَرُورَةَ كَوْنِهِ مُرِيدًا لَهُمَا غَيْرَ مُرِيدٍ إيَّاهُ أَيْضًا لِاسْتِعْمَالِهِ فِي الْمَفْهُومِ

وَلَا عُمُومَ لِهَذَا اللَّفْظِ وَهُوَ مِثْلُ الصَّرِيمِ اسْمٌ لِلَّيْلِ وَالصُّبْحِ جَمِيعًا عَلَى الِاحْتِمَالِ لَا عَلَى الْعُمُومِ، وَهَذَا يُفَارِقُ الْمُجْمَلَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْآخَرِ الْمُسْتَلْزِمِ لِعَدَمِ إرَادَةِ الْأَوَّلِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْوَضْعِ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ مَفْهُومَيْهِ مُرَادًا وَغَيْرَ مُرَادٍ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ اللَّفْظَ بِمَنْزِلَةِ الْكِسْوَةِ لِلْمَعَانِي وَالْكِسْوَةُ الْوَاحِدَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكْتَسِبَهَا شَخْصَانِ كُلُّ وَاحِدٍ بِكَمَالِهَا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ فَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَدُلَّ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ عَلَى أَحَدِ مَفْهُومَيْهِ بِحَيْثُ يَكُونُ هُوَ تَمَامَ مَعْنَاهُ وَيَدُلُّ عَلَى الْمَفْهُومِ الْآخَرِ كَذَلِكَ أَيْضًا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ نَعَمْ إنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ مَفْهُومَيْهِ جُزْءًا لِمَعْنًى فَيَكُونُ دَلَالَتُهُ عَلَى الْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ وَقَدْ اتَّفَقُوا أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ مَقْصُودُ الْوَاضِعِ؛ لِأَنَّهُ مَا وَضَعَهُ إلَّا لِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ مَفْهُومَاتِهِ فَقَطْ وَلَا يَحْصُلُ الِابْتِلَاءُ وَلَا التَّعْرِيفُ الْإِجْمَالِيُّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَعْلُومًا حِينَئِذٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَأَمَّا تَمَسُّكُهُمْ بِالْآيَةِ الْأُولَى فَضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ السُّجُودِ هُوَ الْخُشُوعُ وَالِانْقِيَادُ عَلَى مَا قِيلَ، وَهُوَ يَعُمُّ الْجَمِيعَ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَعْنَى، وَالْأَوْجَهُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى وَكَثِيرٌ مَرْفُوعٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ يَسْجُدُ الْأَوَّلُ أَيْ وَيَسْجُدُ لَهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ سُجُودَ طَاعَةٍ وَعِبَادَةٍ فَيَكُونُ يَسْجُدُ الْأَوَّلُ بِمَعْنَى الِانْقِيَادِ وَالْخُضُوعِ وَالثَّانِي بِمَعْنَى الْعِبَادَةِ فَيَخْتَلِفُ الْمَعْنَى لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ. وَكَذَا تَمَسُّكُهُمْ بِالْآيَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الصَّلَاةِ هُوَ الْعِنَايَةُ بِأَمْرِ الرَّسُولِ إظْهَارًا لِشَرَفِهِ فَيَعُمُّ الرَّحْمَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ، أَوْ تَقْدِيرُ الْآيَةِ إنَّ اللَّهَ يُصَلِّي وَمَلَائِكَتُهُ يُصَلُّونَ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ يَجُوزُ ذَلِكَ مَجَازًا تَسْمِيَةً لِلْكُلِّ بِاسْمِ الْجُزْءِ فَفَاسِدٌ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ وَعَكْسُهُ إنَّمَا يَجُوزُ لِمُلَازَمَةٍ بَيْنَهُمَا إذْ الْجُزْءُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْكُلِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ جُزْءٌ وَالْكُلُّ مُسْتَلْزِمٌ لِلْجُزْءِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَإِنَّ الْوَجْهَ مُسْتَلْزِمٌ لِلذَّاتِ وَالذَّاتُ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ أَيْضًا فَيَجُوزُ ذِكْرُ الْوَجْهِ وَإِرَادَةُ لَازِمِهِ وَعَكْسُهُ فَأَمَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ لِأَنَّ الْيَنْبُوعَ الَّذِي هُوَ مِنْ مَفْهُومَاتِ الْعَيْنِ لَا يَسْتَلْزِمُ الشَّمْسَ وَلَا الْبَاصِرَةَ وَلَا الذَّهَبَ بِوَجْهٍ، وَكَذَا الْعَكْسُ، وَكَيْفَ يَسْتَلْزِمُهَا وَلَا اتِّصَالَ لَهُ بِهَا بِوَجْهٍ لَا مِنْ حَيْثُ الْوُجُودُ وَلَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مَفْهُومَ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنْ مَفْهُومَاتِ الْعَيْنِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِ الْبَاقِي مَفْهُومًا مِنْهُ فَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَاقَةٌ بِوَجْهٍ فَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُهُ عَلَيْهِمَا مَجَازًا كَمَا لَا يَجُوزُ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ ذِكْرُ الْمَلْزُومِ وَإِرَادَةُ اللَّازِمِ، وَقِيلَ إنَّهُ يَعُمُّ فِي النَّفْيِ دُونَ الْإِثْبَاتِ كَالنَّكِرَةِ وَالْجَامِعُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَنَاوَلُ وَاحِدًا مِنْ الْجُمْلَةِ غَيْرَ عَيْنٍ، وَقِيلَ لَا يَعُمُّ فِيهِ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا، وَالْجَوَابُ عَنْ الِاعْتِبَارِ بِالنَّكِرَةِ أَنَّ عُمُومَهَا فِي النَّفْيِ إنَّمَا يَثْبُتُ ضَرُورَةً صِدْقُ خَبَرِهِ لَا بِمُوجِبِ اللَّفْظِ وَمِثْلُ تِلْكَ الضَّرُورَةِ لَمْ يُوجَدْ فِي الْمُشْتَرَكِ، فَإِنَّك لَوْ قُلْت مَا رَأَيْت عَيْنًا وَأَرَدْت بِهِ الْيَنْبُوعَ دُونَ سَائِرِ مَفْهُومَاتِهِ لَكُنْت صَادِقًا وَإِنْ تَعَمَّمَ فِي ذَلِكَ الْمَفْهُومِ، بِخِلَافِ قَوْلِك مَا رَأَيْت رَجُلًا كَذَا فِي الْمِيزَانِ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ مَوَالِيَهُ حَيْثُ يَتَنَاوَلُ يَمِينَهُ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ وَفِيهِ تَعْمِيمُ الْمُشْتَرَكِ فِي النَّفْيِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِوُقُوعِهِ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ بَلْ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي دَعَاهُ إلَى الْيَمِينِ، وَهُوَ بُغْضُهُ إيَّاهُمْ غَيْرُ مُخْتَلَفٍ فِيهَا فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ بَلْ اللَّفْظُ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِّ، فَإِنَّ اسْمَ الشَّيْءِ يَتَنَاوَلُ الْمَوْجُودَاتِ كُلَّهَا بِاعْتِبَارِ مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ صِفَةُ الْوُجُودِ، فَكَانَ مُنْتَظِمًا لِلْكُلِّ كَذَا هَذَا هَكَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَمَالَ إلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي الْمَبْسُوطِ وَشَرْحِ الْجَامِعِ قَوْلُهُ (وَهَذَا يُفَارِقُ الْمُجْمَلَ) إنَّمَا

لِأَنَّ الْمُشْتَرَكَ يَحْتَمِلُ الْإِدْرَاكَ بِالتَّأَمُّلِ فِي مَعْنَى الْكَلَامِ لُغَةً ـــــــــــــــــــــــــــــQذُكِرَ هَذَا؛ لِأَنَّ بَعْضَ مَنْ صَنَّفَ فِي هَذَا الْفَنِّ جَعَلَ الْكِتَابَ قِسْمَيْنِ مُحْكَمًا وَمُتَشَابِهًا، وَجَعَلَ كُلَّ كَلَامٍ فِيهِ ظُهُورٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُحْكَمِ وَجَعَلَ كُلَّ كَلَامٍ فِيهِ خَفَاءٌ مِنْ أَقْسَامِ الْمُتَشَابِهِ وَجَعَلَ الْمُشْتَرَكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُجْمَلِ وَجَعَلَ الْمُجْمَلَ مِمَّا يُعْرَفُ بِالتَّأَمُّلِ فِي الْقَرَائِنِ إذْ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ مَعَ جَمِيعِ أَقْسَامِهِ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَعْلَمَهُ الرَّاسِخُ فِي الْعِلْمِ فَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَفَى ذَلِكَ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِمَا ذُكِرَ كَذَا سَمِعْت مِنْ شَيْخِي قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ. فَإِنْ قُلْت هَذَا تَقْسِيمٌ مَعْقُولٌ سَهْلُ الْمَأْخَذِ مُوَافِقٌ لِلْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى، {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] ، فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ هَذِهِ التَّقَاسِيمُ الْمُعْضِلَةُ الْمُخَالِفَةُ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا، قُلْت كَمْ مِنْ شَيْءٍ يَتَرَاءَى أَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ، فَإِذَا كُشِفَ عَنْهُ الْغِطَاءُ بِالتَّأَمُّلِ ظَهَرَ أَنَّ الْحَقَّ غَيْرُهُ فَأَنْعِمْ النَّظَرَ إنَّ الْأَقْسَامَ الْمَذْكُورَةَ هَلْ هِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْكِتَابِ أَمْ لَا؟ فَإِذَا وَجَدْتهَا فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَبُولِ إذْ لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ ثُمَّ إذَا اشْتَبَهَ عَلَيْك النَّصُّ فَتَأَمَّلْ فِيهِ هَلْ هُوَ مُقْتَضٍ لِقَصْرِ الْكِتَابِ عَلَى الْقِسْمَيْنِ أَوْ لَا وَلَعَمْرِي أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران: 7] مَعْنَاهُ بَعْضُهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ. وَقَوْلُهُ وَأُخَرُ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ، وَهُوَ آيَاتٌ وَتَقْدِيرُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَمِنْهُ آيَاتٌ أُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُ مُحْكَمٌ وَبَعْضَهُ مُتَشَابِهٌ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَيْسَ فِيهِ غَيْرُهُمَا كَيْفَ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ طُرُقِ الْقَصْرِ، وَهِيَ الْعَطْفُ كَقَوْلِك زَيْدٌ شَاعِرٌ لَا مُنَجِّمٌ أَوْ النَّفْيُ وَالِاسْتِثْنَاءُ كَقَوْلِك مَا زَيْدٌ إلَّا شَاعِرٌ أَوْ إنَّمَا كَقَوْلِك إنَّمَا زَيْدٌ ذَاهِبٌ أَوْ التَّقْدِيمِ كَقَوْلِك تَمِيمِيٌّ أَنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ شَيْءٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَطَفَ عَلَيْهِ وَآيَاتٌ أُخَرُ مُفَسَّرَاتٌ وَآيَاتُ أُخَرُ مُجْمَلَاتٌ لَاسْتَقَامَ وَلَوْ اقْتَضَى الْكَلَامُ الْأَوَّلُ الْقَصْرَ عَلَى الْقِسْمَيْنِ لَمْ يَسْتَقِمْ الْعَطْفُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ قِيلَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ وَالْبَاقِي مُتَشَابِهَاتٌ. وَأُجِيبَ عَنْهُ أَيْضًا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ، {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] ، وَالْمُحْكَمُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ وَالْمُتَشَابِهُ لَا يُرْجَى بَيَانُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ قِسْمٌ آخَرُ يَتَوَقَّفُ عَلَى بَيَانِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِيَصِحَّ إسْنَادُ الْبَيَانِ، إلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى، {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُقْتَصِرٍ عَلَى الْقِسْمَيْنِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الْبَيَانِ مَا زَعَمْت بَلْ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّبْلِيغُ إذْ هُوَ بَيَانٌ أَيْضًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أُمِرَ بِبَيَانِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِ وَالْبَيَانُ الَّذِي أُضِيفَ إلَى جَمِيعِ مَا نُزِّلَ لَيْسَ إلَّا التَّبْلِيغُ فَأَمَّا بَيَانُ الْمُجْمَلِ فَهُوَ بَيَانٌ لِبَعْضِ مَا نُزِّلَ لَا لِكُلِّهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إنَّ فِي الْكِتَابِ قِسْمًا يَتَوَقَّفُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى بَيَانِ الرَّسُولِ كَالصَّلَاةِ وَالرِّبَا وَالْمُتَشَابِهُ لَا يُرْجَى بَيَانُهُ وَالْمُحْكَمُ لَا يَتَوَقَّفُ مَعْرِفَةُ مَعْنَاهُ عَلَى الْبَيَانِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْقِسْمَيْنِ وَحَاصِلُهُ حِينَئِذٍ يَرْجِعُ إلَى مَا ذَكَرْته أَوَّلًا، وَبَيَانُ الْفَرْقِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُشْتَرَكَ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يُمْكِنُ تَرْجِيحُ بَعْضِ وُجُوهِهِ بِالتَّأَمُّلِ فِي مَعْنَاهُ لُغَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ آخَرَ وَقِسْمٌ لَا يُمْكِنُ التَّرْجِيحُ فِيهِ إلَّا بِالْبَيَانِ، فَهَذَا الْقِسْمُ الْأَخِيرُ مِنْ أَقْسَامِ الْمُجْمَلِ دُونَ الْأَوَّلِ كَمَا زَعَمَ الْمُخَالِفُ، وَالثَّانِي أَنَّ الْمُشْتَرَكَ هُوَ مَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى الْمُرَادِ مِنْهُ بِالتَّأَمُّلِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى مُشْتَرَكًا بَلْ هُوَ مِنْ أَقْسَامِ الْمُجْمَلِ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يُسَمَّى الْقِسْمُ الْأَخِيرُ مُشْتَرَكًا مَعَ كَوْنِهِ مُجْمَلًا وَعَلَى

[تعريف المؤول]

بِرُجْحَانِ بَعْضِ الْوُجُوهِ عَلَى الْبَعْضِ فَقَبْلَ ظُهُورِ الرُّجْحَانِ سُمِّيَ مُشْتَرَكًا. فَأَمَّا الْمُجْمَلُ فَمَا لَا يُدْرَكُ لُغَةً لِمَعْنًى زَائِدٍ ثَبَتَ شَرْعًا أَوْ لِانْسِدَادِ بَابِ التَّرْجِيحِ لُغَةً فَوَجَبَ الرُّجُوعُ فِيهِ إلَى بَيَانِ الْمُجْمَلِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الْمُؤَوَّلُ فَمَا تَرَجَّحَ مِنْ الْمُشْتَرَكِ بَعْضُ وُجُوهِهِ بِغَالِبِ الرَّأْيِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالثَّانِي لَا يُسَمَّى مُشْتَرَكًا أَصْلًا، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ يُشِيرُ إلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لِدُخُولِ هَذَا الْقِسْمِ فِي حَدِّ الْمُشْتَرَكِ وَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ هَذَا الْقِسْمُ مِنْ الْمُشْتَرَكِ لَمْ يَكُنْ الْحَدُّ مَانِعًا. وَالْبَاءُ فِي " بِالتَّأَمُّلِ " لِلِاسْتِعَانَةِ وَفِي " بِرُجْحَانِ " لِلسَّبَبِيَّةِ وَكِلَاهُمَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِدْرَاكِ، وَلُغَةً تَمْيِيزٌ لِلْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ مَعْنَى الْكَلَامِ مِنْ بَابِ مَلَأَ الْإِنَاءَ عَسَلًا. وَقَوْلُهُ لُغَةً بَعْدَهُ تَمْيِيزٌ عَنْ النِّسْبَةِ، وَنَظِيرُ مَا يَحْتَمِلُ الْإِدْرَاكَ بِالتَّأَمُّلِ فِي مَعْنَاهُ لُغَةً قَوْله تَعَالَى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] ، فَإِنَّ أَصْحَابَنَا تَأَمَّلُوا فِي مَعْنَى الْقُرْءِ فَوَجَدُوهُ دَالًّا عَلَى الْجَمْعِ وَالِانْتِقَالِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ وَذَلِكَ فِي الْحَيْضِ دُونَ الطُّهْرِ؛ لِأَنَّ الْمُجْتَمِعَ هُوَ الدَّمُ وَالِانْتِقَالُ يَحْصُلُ بِالْحَيْضِ إذْ الطُّهْرُ هُوَ الْأَصْلُ، وَتَأَمَّلُوا فِي لَفْظِ الثَّلَاثَةِ فَوَجَدُوهُ دَالًّا عَلَى الْأَفْرَادِ الْكَامِلَةِ وَذَلِكَ فِي الْحَمْلِ عَلَى الْحَيْضِ فَحَمَلُوهُ عَلَيْهِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ مَعْنَى الْجَمْعِ يَدُلُّ عَلَى الطُّهْرِ لَا عَلَى الْحَيْضِ؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ هُوَ الْجَامِعُ وَالدَّمُ لَيْسَ بِجَامِعٍ بَلْ هُوَ مُجْتَمِعٌ. قَوْلُهُ (لِمَعْنًى زَائِدٍ) ثَبَتَ شَرْعًا كَالرِّبَا، فَإِنَّهُ اسْمٌ لِلزِّيَادَةِ وَهِيَ بِنَفْسِهَا لَيْسَتْ بِمُرَادَةٍ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ وُضِعَ لِلِاسْتِرْبَاحِ وَكَالصَّلَاةِ، فَإِنَّهَا اسْمٌ لِلدُّعَاءِ أَوْ تَحْرِيكُ الصَّلَوَيْنِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُرَادٍ بِنَفْسِهِ أَوْ لِانْسِدَادِ بَابِ التَّرْجِيحِ لُغَةً كَالنَّاهِلِ لِلْعَطْشَانِ وَالرَّيَّانِ وَالصَّرِيمِ لِلصُّبْحِ وَاللَّيْلِ وَكَمَا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِمَوَالِيهِ وَلَهُ مَوَالٍ أَعْتَقُوهُ وَمَوَالٍ أَعْتَقَهُمْ وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مُشْتَرَكٌ يَتَنَاوَلُ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ حَقِيقَةً وَاسْتِعْمَالًا وَلَا يُمْكِنُ إدْخَالُهُمَا جَمِيعًا فِي الْإِيجَابِ لِاخْتِلَافِ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْأَعْلَى مُنْعِمٌ وَالْأَسْفَلُ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ وَلَا يُمْكِنُ التَّعْيِينُ؛ لِأَنَّ مَقَاصِدَ النَّاسِ مُخْتَلِفَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْصِدُ الْأَعْلَى بِالْوَصِيَّةِ مُجَازَاةً وَشُكْرًا لِإِنْعَامِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْصِدُ الْأَسْفَلَ إتْمَامًا لِلْإِنْعَامِ فَلَا يُوقَفُ عَلَى مُرَادِ الْمُوصِي وَرُبَّمَا يُؤَدِّي التَّعْيِينُ إلَى إبْطَالِ مُرَادِهِ فَلِذَلِكَ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ، وَقَالَ زُفَرُ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْفَرِيقَيْنِ وَجَعَلَهُ قِيَاسَ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ مَوَالِيَهُ حَيْثُ يَتَنَاوَلُ يَمِينَهُ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْإِيصَاءِ مُخْتَلِفٌ فَأَمَّا الْمَقْصُودُ فِي الْيَمِينِ فَلَا يَخْتَلِفُ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كَلَامُهُ مَجَازًا عَنْ أَحَدِهِمَا بِالنَّظَرِ إلَى اتِّحَادِ الْمَقْصُودِ وَيَتَعَمَّمُ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَجَازِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ أَجَازَ الْوَصِيَّةَ وَصَرَفَهَا إلَى الْمَوَالِي الَّذِينَ أَعْتَقُوهُ؛ لِأَنَّ شُكْرَ الْإِنْعَامِ وَاجِبٌ وَإِتْمَامُهُ مَنْدُوبٌ فَصَارَ صَرْفُهَا إلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ أَوْلَى، وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَا يَدْخُلُ فِي الْحُكْمِ فَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ فِي الْحُكْمِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ إذَا اصْطَلَحُوا عَلَى حَدِّهِ صَحَّ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ تَزُولُ بِهِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ لِأَحَدِ هَذَيْنِ كَذَا فِي جَامِعِ الْمُصَنِّفِ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُجْمَلَ قِسْمَانِ مَا لَيْسَ لَهُ ظُهُورٌ أَصْلًا كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالرِّبَا وَمَا لَهُ ظُهُورٌ مِنْ وَجْهٍ كَالْمُشْتَرَكِ الَّذِي انْسَدَّ فِيهِ بَابُ التَّرْجِيحِ، فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ أَرَادَ هَذَا أَوْ ذَاكَ وَلَمْ يُرِدْ شَيْئًا آخَرَ وَلَكِنَّهُ مُجْمَلٌ فِي تَعْيِينِ مَا أَرَادَهُ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ فَقَوْلُهُ لِمَعْنًى زَائِدٍ ثَبَتَ شَرْعًا إشَارَةٌ إلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَقَوْلُهُ أَوْ لِانْسِدَادِ بَابِ التَّرْجِيحِ لُغَةً إشَارَةٌ إلَى الْقِسْمِ الثَّانِي. [تَعْرِيف الْمُؤَوَّلُ] [الفرق بَيْن التَّفْسِير وَالتَّأْوِيل] قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْمُؤَوَّلُ فَكَذَا) قُيِّدَ بِقَوْلِهِ مِنْ الْمُشْتَرَكِ وَبِغَالِبِ الرَّأْيِ وَهُمَا لَيْسَا

وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ آلَ يَئُولُ إذَا رَجَعَ وَأَوَّلْتُهُ إذَا رَجَعْتَهُ وَصَرَفْتَهُ؛ لِأَنَّك لَمَّا تَأَمَّلْت فِي مَوْضِعِ اللَّفْظِ فَصَرَفْت اللَّفْظَ إلَى بَعْضِ الْمَعَانِي خَاصَّةً ـــــــــــــــــــــــــــــQبِلَازِمَيْنِ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْمِيزَانِ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ الْخَفِيَّ وَالْمُشْكِلَ وَالْمُشْتَرَكَ وَالْمُجْمَلَ إذَا لَحِقَهَا الْبَيَانُ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ يُسَمَّى مُفَسَّرًا، وَإِذَا زَالَ الْإِشْكَالُ أَيْ الْخَفَاءُ بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةٌ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ يُسَمَّى مُؤَوَّلًا، وَذَكَرَ فِي التَّقْوِيمِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمُؤَوَّلِ وَتَفْسِيرُهُ كَمَا فَسَّرَهُ الشَّيْخُ هُنَا وَكَذَا الْمُرَادُ مِنْ الْكَلَامِ مَتَى خَفِيَ لِدِقَّتِهِ فَأَوْضَحَ بِالرَّأْيِ كَانَ مُؤَوَّلًا، وَقَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ الْمُؤَوَّلُ اسْمٌ لِمُشْتَرَكٍ تَنَاوَلَ بَعْضَ مَا دَخَلَ تَحْتَهُ بِدَلِيلٍ غَيْرِ مَقْطُوعٍ بِهِ مِنْ الْقِيَاسِ وَنَحْوِهِ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَيْدَيْنِ لَيْسَا بِلَازِمَيْنِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ الْمُشْتَرَكِ مَا فِيهِ نَوْعُ خَفَاءٍ وَمِنْ غَالِبِ الرَّأْيِ مَا يُوجِبُ الظَّنَّ فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ الْمُؤَوَّلِ مَا تَرَجَّحَ مِمَّا فِيهِ خَفَاءُ بَعْضِ وُجُوهِهِ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ فَقَوْلُهُ مَا تَرَجَّحَ بَعْضُ وُجُوهِهِ بِمَنْزِلَةِ الْجِنْسِ فَدَخَلَ فِيهِ الْمُفَسَّرُ بِقَوْلِهِ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ اُحْتُرِزَ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ مِمَّا فِيهِ خَفَاءٌ لَيْسَ بِلَازِمٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ وَالنَّصَّ يَقْبَلَانِ التَّأْوِيلَ أَيْضًا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: الْمُفَسَّرُ فَوْقَ الظَّاهِرِ وَالنَّصِّ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ التَّأْوِيلِ قَائِمٌ فِيهِمَا فِي الْمُفَسَّرِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ مِنْ الْمُشْتَرَكِ زَائِدًا لَا عِبَارَةً عَمَّا فِيهِ خَفَاءٌ أَوْ يُجْعَلَ بِمَعْنَى الْمُحْتَمَلِ أَيْ الْمُؤَوَّلِ مَا تَرَجَّحَ مِنْ اللَّفْظِ الْمُحْتَمَلِ بَعْضُ مُحْتَمَلَاتِهِ لِيَتَنَاوَلَ الْجَمِيعَ، وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، فَإِنَّ سِيَاقَ كَلَامِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْمُشْتَرَكُ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ، فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ إذَا أُعِيدَتْ مَعْرِفَةً كَانَتْ الثَّانِيَةُ عَيْنَ الْأُولَى، وَقِيلَ فِي حَدِّ التَّأْوِيلِ هُوَ اعْتِبَارُ احْتِمَالٍ يُعَضِّدُهُ دَلِيلٌ يَصِيرُ بِهِ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ مِنْ الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ، ثُمَّ قِيلَ إنَّمَا دَخَلَ الْمُؤَوَّلُ فِي أَقْسَامِ النَّظْمِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بَعْدَ التَّأْوِيلِ يُضَافُ إلَى الصِّيغَةِ وَاللُّغَةِ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الْحُكْمِ إلَى الدَّلِيلِ الْأَقْوَى أَوْلَى؛ وَلِهَذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مُضَافًا إلَى النَّصِّ لَا إلَى الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النَّصِّ مُضَافًا إلَى الْعِلَّةِ بِخِلَافِ الْمُفَسَّرِ؛ لِأَنَّ التَّفْسِيرَ اللَّاحِقَ بِهِ مِثْلُهُ فِي الْقُوَّةِ فَيَجُوزُ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى الْمُفَسَّرِ، وَهَذَا كَالْمُجْمَلِ إذَا لَحِقَهُ الْبَيَانُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ يَكُونُ ذَلِكَ ثَابِتًا قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ قَطْعًا؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْبَيَانِ يُضَافُ الْحُكْمُ إلَى الْمُفَسَّرِ لِكَوْنِهِ أَقْوَى لَا إلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ أَلَا تَرَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذَا قُلْت هَذَا أَوْ فَعَلْت هَذَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُك لِمَا اُلْتُحِقَ بَيَانًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى، {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام: 72] ، ثَبَتَتْ فَرْضِيَّةُ الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ لِمَا ذَكَرْنَا. قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ أَصْلَحَ اللَّهُ شَأْنَهُ أَمَّا قَوْلُهُمْ الْمُؤَوَّلُ مِنْ أَقْسَامِ النَّظْمِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي ذَكَرُوا فَمُشْكِلٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ يَسْتَقِيمُ فِيمَا إذَا تَرَجَّحَ بَعْضُ وُجُوهِ الْمُشْتَرَكِ بِالرَّأْيِ فَلَا يَسْتَقِيمُ فِيمَا إذَا ظَهَرَ الْمُرَادُ مِنْ الْخَفِيِّ أَوْ الْمُشْكِلِ بِالرَّأْيِ وَلَا فِيمَا إذَا حُمِلَ الظَّاهِرُ أَوْ النَّصُّ عَلَى بَعْضِ مُحْتَمَلَاتِهِ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَقْسَامِ الصِّيغَةِ وَاللُّغَةِ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ مِنْ الْمُشْتَرَكِ قَيْدًا لَازِمًا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَفِيهِ تَعَسُّفٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ الْمُجْمَلُ إذَا لَحِقَهُ الْبَيَانُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ يَكُونُ الثَّابِتُ بِهِ قَطْعِيًّا فَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا؛ وَلِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْبَيَانِ لَا يُوجِبُ الْكَشْفَ لِكَوْنِهِ ظَنِّيًّا مِثْلُ الْقِيَاسِ فَكَيْفَ تَثْبُتُ بِهِ الْفَرْضِيَّةُ، فَإِنَّهَا لَا تَثْبُتُ إلَّا بِمَا هُوَ قَطْعِيُّ الدَّلَالَةِ

فَقَدْ أَوَّلْته إلَيْهِ وَصَارَ ذَلِكَ عَاقِبَةُ الِاحْتِمَالِ بِوَاسِطَةِ الرَّأْيِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ} [الأعراف: 53] أَيْ عَاقِبَتَهُ وَلَيْسَ هَذَا كَالْمُجْمَلِ إذَا عَرَفْت بَعْضَ وُجُوهِهِ بِبَيَانِ الْمُجْمَلِ فَإِنَّهُ يُسَمَّى مُفَسَّرًا لِأَنَّهُ عُرِفَ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ فَسُمِّيَ مُفَسَّرًا أَيْ مَكْشُوفًا كَشْفًا بِلَا شُبْهَةٍ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ أَسْفَرَ الصُّبْحُ إذَا أَضَاءَ إضَاءَةً لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَسَفَرَتْ الْمَرْأَةُ عَنْ وَجْهِهَا إذَا كَشَفَتْ النِّقَابَ فَيَكُونُ هَذَا اللَّفْظُ مَقْلُوبًا مِنْ التَّفْسِيرِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالثُّبُوتِ، فَإِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُثْبِتُ الْفَرْضِيَّةَ وَإِنْ كَانَ قَطْعِيَّ الدَّلَالَةِ، وَكَذَا الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ، وَإِنْ كَانَ قَطْعِيَّ الثُّبُوتِ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ مَعْرِفَةِ الْمُرَادِ مِنْ الْمُشْتَرَكِ بِالرَّأْيِ الَّذِي هُوَ ظَنِّيٌّ وَبَيْنَ مَعْرِفَةِ الْمُرَادِ مِنْ الْمُجْمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الَّذِي هُوَ ظَنِّيٌّ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْقَعْدَةِ فَفَاسِدٌ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا فَرِيضَةٌ بَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ وَلَكِنَّ الْوَاجِبَ نَوْعَانِ: وَاجِبٌ فِي قُوَّةِ الْفَرْضِ فِي الْعَمَلِ كَالْوِتْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَتَّى مُنِعَ تَذَكُّرُهُ صِحَّةَ الْفَجْرِ كَتَذَكُّرِ الْعِشَاءِ، وَوَاجِبٌ دُونَ الْفَرْضِ فِي الْعَمَلِ فَوْقَ السُّنَّةِ كَتَعْيِينِ الْفَاتِحَةِ حَتَّى وَجَبَ سُجُودُ السَّهْوِ بِتَرْكِهَا وَلَكِنْ لَا تَفْسُدُ الصَّلَاةُ فَالْقَعْدَةُ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ؛ فَلِذَلِكَ سَمَّيْنَاهَا فَرْضًا فَأَمَّا أَنْ يَجِبَ اعْتِقَادُ فَرْضِيَّتِهَا بِحَيْثُ يَكْفُرُ جَاحِدُهَا أَوْ يُضَلَّلُ فَلَا، أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الْأَصَمِّ وَمَالِكًا لَمْ يَكْفُرَا بِإِنْكَارِهِمَا فَرْضِيَّتَهَا وَلَمْ يَكْفُرْ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِإِنْكَارِهِ رِبَا النَّقْدِ مَعَ لُحُوقِ الْبَيَانِ بِآيَةِ الرِّبَا فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ. وَلَمْ يَكْفُرْ مَنْ أَنْكَرَ تَقْدِيرَ فَرْضِ الْمَسْحِ بِالرُّبْعِ مَعَ لُحُوقِ خَبَرِ الْمُغِيرَةِ بَيَانًا بِمُجْمَلِ الْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] حَتَّى قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِالتَّقْدِيرِ بِثَلَاثَةِ أَصَابِعَ وَالشَّافِعِيُّ بِالْقَطْرِ وَمَالِكٌ بِالِاسْتِيعَابِ وَكَيْفَ يَثْبُتُ الْحُكْمُ قَطْعًا بِمِثْلِ هَذَا الْبَيَانِ وَفِي ثُبُوتِهِ بَيَانًا شُبْهَةٌ، أَوَّلْتُهُ بِضَمِّ التَّاءِ إذَا رَجَعْتَهُ وَصَرَفْته بِفَتْحِ التَّاءَيْنِ، وَصَارَ ذَلِكَ عَاقِبَةَ الِاحْتِمَالِ أَيْ احْتِمَالِ اللَّفْظِ إيَّاهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ} [الأعراف: 53] ، أَيْ عَاقِبَةَ أَمْرِ الْكِتَابِ وَمَا يَئُولُ إلَيْهِ مِنْ تَبَيُّنِ صِدْقِهِ وَظُهُورِ صِحَّةِ مَا نَطَقَ بِهِ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. قَوْلُهُ (وَلَيْسَ هَذَا كَالْمُجْمَلِ) أَيْ لَيْسَ الْمُؤَوَّلُ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي قُلْنَا كَالْمُجْمَلِ الَّذِي عُرِفَ مَعْنَاهُ بِبَيَانِ الْمُجْمَلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُفَسَّرٌ وَلَيْسَ بِمُؤَوَّلٍ وَكَذَا الظَّاهِرُ أَوْ النَّصُّ أَوْ الْمُشْكِلُ أَوْ غَيْرُهَا إذَا الْتَحَقَ بِهِ بَيَانٌ قَاطِعٌ فَهُوَ مُفَسَّرٌ لَا مُؤَوَّلٌ فَلَا يَكُونُ مَا ذُكِرَ مُخْتَصًّا بِالْمُجْمَلِ لَكِنَّ غَرَضَهُ إثْبَاتُ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ يَقْتَضِي حُرْمَةَ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ بِآكَدِ الْوُجُوهِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مِنْ حَيْثُ الْعَمَلُ عَلَى اسْتِخْرَاجِ مَعَانِي الْقُرْآنِ بِالرَّأْيِ يَقْتَضِي الْجَوَازَ وَلَا بُدَّ مِنْ التَّوْفِيقِ فَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا وَقَالُوا النَّهْيُ وَارِدٌ عَنْ التَّفْسِيرِ دُونَ التَّأْوِيلِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْفَرْقِ فَقِيلَ التَّفْسِيرُ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ شَأْنِ مَنْ نُزِّلَ فِيهِ وَعَنْ سَبَبِ نُزُولِهِ وَذَلِكَ عِلْمُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا ذَلِكَ فَهُمْ يَقُولُونَ فِيهِ بِالْعِلْمِ وَغَيْرُهُمْ بِالرَّأْيِ وَالتَّأْوِيلِ، وَهُوَ تَبْيِينُ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ مِنْ الْمَعَانِي وَلِهَذَا قِيلَ التَّفْسِيرُ لِلصَّحَابَةِ وَالتَّأْوِيلُ لِلْفُقَهَاءِ، وَقِيلَ التَّفْسِيرُ بَيَانُ لَفْظٍ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا وَالتَّأْوِيلُ تَوْجِيهُ لَفْظٍ يَتَوَجَّهُ إلَى مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ إلَى وَاحِدٍ مِنْهَا بِمَا ظَهَرَ عِنْدَهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هُوَ الْقَطْعُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ هَذَا فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ عَلَى الْمُرَادِ يَكُونُ تَفْسِيرًا صَحِيحًا مُسْتَحْسَنًا، وَإِنْ قَطَعَ عَلَى الْمُرَادِ لَا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ فَهُوَ تَفْسِيرٌ بِالرَّأْيِ، وَهُوَ حَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا، فَأَمَّا التَّأْوِيلُ فَهُوَ بَيَانُ عَاقِبَةِ الِاحْتِمَالِ بِالرَّأْيِ دُونَ الْقَطْعِ فَيُقَالُ يَتَوَجَّهُ اللَّفْظُ إلَى كَذَا وَكَذَا، وَهَذَا الْوَجْهُ أَوْجَهُ لِشَهَادَةِ الْأُصُولِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ شَهَادَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى كَذَا فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ فَالْمُصَنِّفُ اخْتَارَ قَوْلَ الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. قَوْلُهُ (مَأْخُوذٌ مِنْ كَذَا) مَدَارُ تَرْكِيبِ السَّفَرِ يَدُلُّ عَلَى الْكَشْفِ لِمَا ذُكِرَ، وَمِنْهُ يُقَالُ سَفَرْت الْبَيْتَ أَيْ كَنَسْته،

[القسم الثاني في وجوه بيان النظم]

وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ فَسَّرَ الْقُرْآنَ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» أَيْ قَضَى بِتَأْوِيلِهِ وَاجْتِهَادِهِ عَلَى أَنَّهُ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ نَصَّبَ نَفْسَهُ صَاحِبَ وَحْيٍ وَفِي هَذَا إبْطَالُ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ لِأَنَّهُ يَصِيرُ الثَّابِتُ بِالِاجْتِهَادِ تَفْسِيرًا وَقَطْعًا عَلَى حَقِّيَّتِهِ مُرَادًا، وَهَذَا بَاطِلٌ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَإِنَّ الظَّاهِرَ اسْمٌ لِكُلِّ كَلَامٍ ظَهَرَ الْمُرَادُ بِهِ لِلسَّامِعِ بِصِيغَتِهِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] هَذَا ظَاهِرٌ فِي الْإِحْلَالِ وَأَمَّا النَّصُّ فَمَا ازْدَادَ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَمِنْهُ السَّفِيرُ؛ لِأَنَّهُ يَكْشِفُ مُرَادَ اثْنَيْنِ وَسَافَرَ الرَّجُلُ انْكَشَفَ عَنْ الْبُنْيَانِ وَمِنْهُ السَّفَرُ؛ لِأَنَّهُ يَكْشِفُ عَنْ أَخْلَاقِ الْمَرْءِ وَأَحْوَالِهِ، فَيَكُونُ هَذَا اللَّفْظُ أَيْ التَّفْسِيرُ مَقْلُوبًا مِنْ التَّسْفِيرِ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ الْكَشْفُ وَالْإِظْهَارُ عَلَى وَجْهٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الِاشْتِقَاقِ الْكَبِيرِ كَجَبَذَ وَجَذَبَ وَطَسَمَ وَطَمَسَ إلَّا أَنَّهُ قِيلَ السَّفَرُ كَشْفُ الظَّاهِرِ لِمَا ذَكَرْنَا وَالْفَسْرُ كَشْفُ الْبَاطِنِ وَمِنْهُ التَّفْسِرَةُ لِلْقَارُورَةِ الَّتِي يُؤْتَى بِهَا عِنْدَ الطَّبِيبِ؛ لِأَنَّهَا يَكْشِفُ عَنْ بَاطِنِ الْعَلِيلِ فَسُمِّيَ كَشْفُ الْمَعَانِي تَفْسِيرًا؛ لِأَنَّهُ كَشْفُ بَاطِنِ الْأَلْفَاظِ. قَوْلُهُ (وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ) أَيْ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّفْسِيرَ هُوَ الْكَشْفُ بِلَا شُبْهَةٍ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فَلْيَتَبَوَّأْ» أَمْرٌ بِمَعْنَى الْخَبَرِ أَيْ فَقَدْ تَبَوَّأَ أَيْ اتَّخَذَ النَّارَ مَنْزِلًا، قُضِيَ بِتَأْوِيلِهِ الْبَاءُ لِلِاسْتِعَانَةِ، وَالضَّمِيرُ فِي أَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الْحَاصِلِ بِالتَّأْوِيلِ وَالِاجْتِهَادِ أَيْ حُكِمَ بِأَنْ مَا صَرَفْت اللَّفْظَ إلَيْهِ وَاجْتَهَدْت فِي اسْتِخْرَاجِهِ، وَهُوَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي هَذَا أَيْ الْحَدِيثِ إبْطَالُ قَوْلِهِمْ لِمَا ذُكِرَ، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ أَرَادَ بِهِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ أَيْ يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَيُؤْجَرُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ أَرَادَ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فِي الْمُقَدِّمَاتِ وَلَكِنَّهُ يَقَعُ فِي الْخَطَإِ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ أَصَابَ الْحَقَّ غَيْرُهُ. [الْقِسْمُ الثَّانِي فِي وُجُوهِ بَيَانِ النَّظْم] [تَعْرِيف الظَّاهِرَ وَالنَّصّ] قَوْلُهُ (الظَّاهِرُ اسْمٌ لِكُلِّ) الْمُرَادُ مِنْ الظَّاهِرِ هُوَ الْمُصْطَلَحُ أَيْ الشَّيْءُ الَّذِي يُسَمَّى ظَاهِرًا فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ، وَمِنْ قَوْلِهِ مَا ظَهَرَ الظُّهُورَ اللُّغَوِيَّ فَلَا يَكُونُ فِيهِ تَعْرِيفُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ إذْ الْأَوَّلُ بِمَنْزِلَةِ الْعِلْمِ فَلَا يُرَاعَى فِيهِ الْمَعْنَى، وَقِيلَ هُوَ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى بِالْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ أَوْ الْعُرْفِيِّ وَيُحْتَمَلُ غَيْرُهُ احْتِمَالًا مَرْجُوحًا، وَقِيلَ هُوَ مَا لَا يَفْتَقِرُ فِي إفَادَتِهِ لِمَعْنَاهُ إلَى غَيْرِهِ قَوْلُهُ (وَأَمَّا النَّصُّ فَكَذَا) اعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ مَنْ تَصَدَّى لِشَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ وَالْمُخْتَصَرِ ذَكَرُوا أَنَّ قَصْدَ الْمُتَكَلِّمِ إذَا اقْتَرَنَ بِالظَّاهِرِ صَارَ نَصًّا وَشَرْطٌ فِي الظَّاهِرِ أَنْ لَا يَكُونَ مَعْنَاهُ مَقْصُودًا بِالسَّوْقِ أَصْلًا فَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّصِّ، قَالُوا لَوْ قِيلَ رَأَيْت فُلَانًا حِينَ جَاءَنِي الْقَوْمُ ظَاهِرًا فِي مَجِيءِ الْقَوْمِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَقْصُودٍ بِالسَّوْقِ وَلَوْ قِيلَ ابْتِدَاءً جَاءَنِي الْقَوْمُ كَانَ نَصًّا فِي مَجِيءِ الْقَوْمِ لِكَوْنِهِ مَقْصُودًا بِالسَّوْقِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ إذَا سِيقَ لِمَقْصُودٍ كَانَ فِيهِ زِيَادَةُ ظُهُورٍ وَجَلَاءٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِ الْمَسُوقِ لَهُ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ عِبَارَةُ النَّصِّ رَاجِحَةً عَلَى إشَارَتِهِ، قَالُوا وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ بِمَعْنًى مِنْ الْمُتَكَلِّمِ لَا فِي نَفْسِ الصِّيغَةِ وَبِقَوْلِهِ فَازْدَادَ وُضُوحًا عَلَى الْأَوَّلِ بِأَنْ قُصِدَ بِهِ وَسِيقَ لَهُ. قُلْت هَذَا الْكَلَامُ حَسَنٌ وَلَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِعَامَّةِ الْكُتُبِ، فَإِنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ الظَّاهِرُ مَا يُعْرَفُ الْمُرَادُ مِنْهُ بِنَفْسِ السَّمَاعِ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ، مِثَالُهُ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء: 1] . وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ، {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] ، وَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ، {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، فَهَذَا وَنَحْوُهُ ظَاهِرٌ يُوقَفُ عَلَى الْمُرَادِ مِنْهُ بِسَمَاعِ الصِّيغَةِ. وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ فِي التَّقْوِيمِ وَصَدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيُسْرِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَيْضًا، وَرَأَيْت فِي نُسْخَةٍ أُخْرَى مِنْ تَصَانِيفِ أَصْحَابِنَا

وُضُوحًا عَلَى الظَّاهِرِ بِمَعْنًى مِنْ الْمُتَكَلِّمِ لَا فِي نَفْسِ الصِّيغَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ نَصَّصْت الدَّابَّةَ إذَا اسْتَخْرَجْت بِتَكَلُّفِك مِنْهَا سَيْرًا فَوْقَ سَيْرِهَا الْمُعْتَادِ وَسُمِّيَ مَجْلِسُ الْعَرُوسِ مِنَصَّةً لِأَنَّهُ ازْدَادَ ظُهُورًا عَلَى سَائِرِ الْمَجَالِسِ بِفَضْلِ تَكْلِيفٍ اتَّصَلَ بِهِ وَمِثَالُهُ قَوْله تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] فَإِنَّ هَذَا ظَاهِرٌ فِي الْإِطْلَاقِ نَصٌّ فِي بَيَانِ الْعَدَدِ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ الْكَلَامُ لِلْعَدَدِ وَقُصِدَ بِهِ فَازْدَادَ ظُهُورًا عَلَى الْأَوَّلِ بِأَنْ قُصِدَ بِهِ وَسِيقَ لَهُ وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ لِلتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ نَصٌّ لِلْفَصْلِ مِنْ الْبَيْعِ وَالرِّبَا لِأَنَّهُ سِيقَ الْكَلَامُ لِأَجْلِهِ فَازْدَادَ وُضُوحًا بِمَعْنًى مِنْ الْمُتَكَلِّمِ لَا بِمَعْنًى فِي صِيغَتِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي أُصُولِ الْفِقْهِ الظَّاهِرُ اسْمٌ لِمَا يَظْهَرُ الْمُرَادُ مِنْهُ بِمُجَرَّدِ السَّمْعِ مِنْ غَيْرِ إطَالَةٍ فِكْرَةٍ وَلَا إجَالَةِ رُؤْيَةٍ نَظِيرُهُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ قَوْله تَعَالَى، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء: 1] ، وقَوْله تَعَالَى، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] ، وَذَكَرَ السَّيِّدُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ أَبُو الْقَاسِمِ السَّمَرْقَنْدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الظَّاهِرُ مَا ظَهَرَ الْمُرَادُ مِنْهُ لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ احْتِمَالًا بَعِيدًا نَحْوُ الْأَمْرُ يُفْهَمُ مِنْهُ الْإِيجَابُ، وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ التَّهْدِيدَ وَكَالنَّهْيِ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ التَّنْزِيهَ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ عَدَمَ السَّوْقِ فِي الظَّاهِرِ لَيْسَ بِشَرْطٍ بَلْ هُوَ مَا ظَهَرَ الْمُرَادُ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ مَسُوقًا أَوْ لَمْ يَكُنْ أَلَا تَرَى كَيْفَ جَمَعَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَغَيْرُهُ فِي إيرَادِ النَّظَائِرِ بَيْنَ مَا كَانَ مَسُوقًا وَغَيْرَ مَسُوقٍ وَأَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأُصُولِيِّينَ لَمْ يَذْكُرْ فِي تَحْدِيدِهِ لِلظَّاهِرِ هَذَا الشَّرْطَ، وَلَوْ كَانَ مَنْظُورًا إلَيْهِ لَمَا غَفَلَ عَنْهُ الْكُلُّ، لَيْسَ ازْدِيَادُ وُضُوحِ النَّصِّ عَلَى الظَّاهِرِ بِمُجَرَّدِ السَّوْقِ كَمَا ظَنُّوا إذْ لَيْسَ بَيْنَ قَوْله تَعَالَى، {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] ، مَعَ كَوْنِهِ مَسُوقًا فِي إطْلَاقِ النِّكَاحِ وَبَيْنَ قَوْله تَعَالَى، {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] ، مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مَسُوقٍ فِيهِ فَرْقٌ فِي فَهْمِ الْمُرَادِ لِلسَّامِعِ، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ لِأَحَدِهِمَا بِالسَّوْقِ قُوَّةٌ يَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ عِنْدَ التَّعَارُضِ كَالْخَبَرَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ فِي الظُّهُورِ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ لِأَحَدِهِمَا مَزِيَّةٌ عَلَى الْآخَرِ بِالشُّهْرَةِ أَوْ التَّوَاتُرِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ الْمَعَانِي، بَلْ ازْدِيَادُهُ بِأَنْ يُفْهَمَ مِنْهُ مَعْنًى لَمْ يُفْهَمْ مِنْ الظَّاهِرِ بِقَرِينَةٍ نُطْقِيَّةٍ تَنْضَمُّ إلَيْهِ سِبَاقًا أَوْ سِيَاقًا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَصْدَ الْمُتَكَلِّمِ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِالسَّوْقِ كَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرِّبَا لَمْ تُفْهَمْ مِنْ ظَاهِرِ الْكَلَامِ بَلْ بِسِيَاقِ الْكَلَامِ. وَهُوَ قَوْله تَعَالَى، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، عُرِفَ أَنَّ الْغَرَضَ إثْبَاتُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] فَأَنَّى يَتَمَاثَلَانِ، وَلَمْ يُعْرَفْ هَذَا الْمَعْنَى بِدُونِ تِلْكَ الْقَرِينَةِ بِأَنْ قِيلَ ابْتِدَاءً {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا مَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَمَّا النَّصُّ فَمَا يَزْدَادُ بَيَانًا بِقَرِينَةٍ تَقْتَرِنُ بِاللَّفْظِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ ظَاهِرًا بِدُونِ تِلْكَ الْقَرِينَةِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ وَقَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ النَّصُّ فَوْقَ الظَّاهِرِ فِي الْبَيَانِ لِدَلِيلٍ فِي عَيْنِ الْكَلَامِ، وَقَالَ الْإِمَامُ اللَّامِشِيُّ: النَّصُّ مَا فِيهِ زِيَادَةُ ظُهُورٍ سِيقَ الْكَلَامُ لِأَجْلِهِ وَأُرِيدَ بِالْإِسْمَاعِ بِاقْتِرَانِ صِيغَةٍ أُخْرَى بِصِيغَةِ الظَّاهِرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] ، نَصٌّ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرِّبَا حَيْثُ أُرِيدَ بِالْإِسْمَاعِ ذَلِكَ بِقَرِينَةِ دَعْوَى الْمُمَاثَلَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ بِمَعْنًى مِنْ الْمُتَكَلِّمِ لَا فِي نَفْسِ الصِّيغَةِ فَمَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ ازْدَادَ النَّصُّ وُضُوحًا عَلَى الظَّاهِرِ لَيْسَ لَهُ صِيغَةٌ فِي الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَضْعًا بَلْ يُفْهَمُ بِالْقَرِينَةِ الَّتِي اقْتَرَنَتْ بِالْكَلَامِ أَنَّهُ هُوَ الْغَرَضُ لِلْمُتَكَلِّمِ مِنْ السَّوْقِ كَمَا أَنَّ فَهْمَ التَّفْرِقَةِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ صِيغَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ لُغَةً بَلْ بِالْقَرِينَةِ السَّابِقَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَصْدَ الْمُتَكَلِّمِ هُوَ التَّفْرِقَةُ وَلَوْ ازْدَادَ وُضُوحًا بِمَعْنًى يَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ بَصِيرٍ مُفَسَّرًا فَيَكُونُ هَذَا احْتِرَازًا عَنْ الْمُفَسَّرِ. يُقَالُ الْمَاشِطَةُ تَنِضُّ الْعَرُوسَ فَتُقْعِدُهَا عَلَى الْمَنَصَّةِ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَهِيَ كُرْسِيُّهَا لِتُرَى بَيْنَ النِّسَاءِ قَوْله تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] ، أَيْ مَا حَلَّ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ مِنْهُنَّ مَا حَرَّمَ كَاَللَّاتِي فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ،

وَحُكْمُ الْأَوَّلِ ثُبُوتُ مَا انْتَظَمَهُ يَقِينًا وَكَذَلِكَ الثَّانِي إلَّا أَنَّ هَذَا عِنْدَ التَّعَارُضِ أَوْلَى مِنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQوَقِيلَ مَا ذَهَابًا إلَى الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ مَا سُؤَالٌ عَنْ الصِّفَةِ كَمَا أَنَّ مَنْ سُؤَالٌ عَنْ الذَّاتِ؛ وَلِأَنَّ الْإِنَاثَ مِنْ الْعُقَلَاءِ يَجْرِينَ مَجْرَى غَيْرِ الْعُقَلَاءِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المعارج: 30] ، مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ، مَعْدُولَةٌ عَنْ أَعْدَادٍ مُكَرَّرَةٍ، وَإِنَّمَا مُنِعَتْ التَّصْرِيفَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْعَدْلَيْنِ عَدْلُهَا عَنْ صِيغَتِهَا وَعَدْلُهَا عَنْ تَكَرُّرِهَا، وَهِيَ نَكِرَاتٌ يُعَرَّفْنَ فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ تَقُولُ فُلَانٌ يَنْكِحُ الْمَثْنَى وَالثُّلَاثَ وَالرُّبَاعَ وَمَحَلُّهُنَّ النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ مِمَّا طَابَ تَقْدِيرُهُ فَانْكِحُوا الطَّيِّبَاتِ لَكُمْ مَعْدُودَاتِ هَذَا الْعَدَدِ ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثًا ثَلَاثًا وَأَرْبَعًا أَرْبَعًا كَذَا فِي الْكَشَّافِ، وَقِيلَ مَا طَابَ أَيْ مَا أَدْرَكَ مِنْ طَابَتْ الثَّمَرَةُ إذَا أَدْرَكَتْ وَالْوَجْهُ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الصَّغَائِرِ جَائِزٌ، ظَاهِرٌ فِي الْإِطْلَاقِ أَيْ فِي إبَاحَةِ نِكَاحِ مَا يَسْتَطِيبُهُ الْمَرْءُ مِنْ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ أَدْنَى دَرَجَاتِ الْأَمْرِ الْإِبَاحَةُ، وَقِيلَ فِي اخْتِيَارِهِ لَفْظَ الْإِطْلَاقِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي النِّكَاحِ الْحَظْرُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ رِقٌّ وَكَوْنُهَا حُرَّةً يُنَافِي صَيْرُورَتَهَا مَمْلُوكَةً؛ وَلِأَنَّهَا مُكَرَّمَةٌ بِالتَّكْرِيمِ الْإِلَهِيِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] ، وَصَيْرُورَتُهَا مَوْطُوءَةً مَصَبَّةٌ لِلْمَاءِ الْمَهِينِ يُنَافِي التَّكْرِيمَ إلَّا أَنَّهُ أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ عَلَى مَا عُرِفَ فَفِي قَوْلِهِ الْإِطْلَاقُ إشَارَةٌ إلَى إزَالَةِ هَذِهِ الْحُرْمَةِ، الضَّمِيرُ فِي لِأَنَّهُ لِلشَّأْنِ. وَقُصِدَ بِهِ أَيْ قُصِدَ الْعَدَدُ بِالسَّوْقِ، فَازْدَادَ هَذَا الْكَلَامُ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى، {فَانْكِحُوا} [النساء: 3] إلَى قَوْلِهِ رُبَاعَ، وُضُوحًا عَلَى الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ عَدَدٍ بِسَبَبِ أَنَّ قَصْدَ الْعَدَدِ بِالْكَلَامِ وَسِيقَ الْكَلَامُ لِلْعَدَدِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ مَفْهُومًا مِنْ الْأَوَّلِ. قَوْلُهُ (وَحُكْمُ الْأَوَّلِ) ، وَهُوَ الظَّاهِرُ ثُبُوتُ مَا انْتَظَمَهُ يَقِينًا عَامًّا كَانَ أَوْ خَاصًّا وَكَذَا الثَّانِي، وَهُوَ النَّصُّ عَامًّا كَانَ أَوْ خَاصًّا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ وَمَنْ تَابَعَهُ وَعَامَّةُ الْمُعْتَزِلَةِ وَقَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِ دِيَارِنَا مِنْهُمْ: الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حُكْمُ الظَّاهِرِ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِمَا وُضِعَ لَهُ اللَّفْظُ ظَاهِرًا لَا قَطْعًا وَوُجُوبُ اعْتِقَادِ حَقِّيَّةَ مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ وَكَذَا حُكْمُ النَّصِّ وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَامَّ الْخَالِيَ مِنْ قَرِينَةِ الْخُصُوصِ يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ قَطْعًا عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ بِخِلَافِهِ لِاحْتِمَالِ الْخُصُوصِ فِي الْجُمْلَةِ وَكَذَا كُلُّ حَقِيقَةٍ مُحْتَمِلٌ لِلْمَجَازِ وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَثْبُتُ الْقَطْعُ كَذَا فِي الْمِيزَانِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَا دَخَلَ تَحْتَ الِاحْتِمَالِ. وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بَلْ يُوجِبُ الْعَمَلَ عِنْدَهُمْ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ وَعِنْدَنَا لَا عِبْرَةَ لِلِاحْتِمَالِ الْبَعِيدِ، وَهُوَ الَّذِي لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ قَرِينَةٌ؛ لِأَنَّ النَّاشِئَ عَنْ إرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ، وَهِيَ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ وَالْأَحْكَامُ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَعَانِي الْبَاطِنَةِ كَرُخَصِ الْمُسَافِرِ لَا تَتَعَلَّقُ بِحَقِيقَةِ الْمَشَقَّةِ وَالنَّسَبِ بِالْأَعْلَاقِ وَالتَّكْلِيفِ بِاعْتِدَالِ الْعَقْلِ لِكَوْنِهَا أُمُورًا بَاطِنَةً بَلْ بِالسَّفَرِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْمَشَقَّةِ وَالْفِرَاشِ الَّذِي هُوَ دَلِيلُ الْأَعْلَاقِ وَالِاحْتِلَامِ الَّذِي هُوَ دَلِيلُ اعْتِدَالِ الْعَقْلِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُسْتَصْفَى الظَّاهِرُ هُوَ الَّذِي يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ وَالنَّصُّ هُوَ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُهُ ثُمَّ قَالَ النَّصُّ يُطْلَقُ فِي تَعْرِيفِ الْعُلَمَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ مَا أَطْلَقَهُ الشَّافِعِيُّ، فَإِنَّهُ سَمَّى الظَّاهِرَ نَصًّا فَهُوَ

[تعريف المفسر]

وَأَمَّا الْمُفَسَّرُ فَمَا ازْدَادَ وُضُوحًا عَلَى النَّصِّ سَوَاءٌ كَانَ بِمَعْنًى فِي النَّصِّ أَوْ بِغَيْرِهِ بِأَنْ كَانَ مُجْمَلًا فَلَحِقَهُ بَيَانٌ قَاطِعٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQمُنْطَلِقٌ عَلَى اللُّغَةِ وَلَا مَانِعَ فِي الشَّرْعِ وَالنَّصُّ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الظُّهُورِ تَقُولُ الْعَرَبُ نَصَّتْ الظَّبْيَةُ رَأْسَهَا إذَا رَفَعَتْ وَأَظْهَرَتْ فَعَلَى هَذَا حَدُّهُ حَدُّ الظَّاهِرِ، وَهُوَ اللَّفْظُ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ فَهْمُ مَعْنًى مِنْهُ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ فَهُوَ بِالْإِضَافَةِ إلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى الْغَالِبِ ظَاهِرٌ وَنَصٌّ. الثَّانِي: وَهُوَ الْأَشْهَرُ هُوَ مَا لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ احْتِمَالٌ أَصْلًا لَا عَلَى قُرْبٍ وَلَا عَلَى بُعْدٍ كَالْخَمْسَةِ مَثَلًا، فَإِنَّهُ نَصٌّ فِي مَعْنَاهُ لَا يَحْتَمِلُ شَيْئًا آخَرَ فَكُلُّ مَا كَانَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى مَعْنَاهُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ سُمِّيَ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَعْنَاهُ نَصًّا فِي طَرَفَيْ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ أَعْنِي فِي إثْبَاتِ الْمُسَمَّى وَنَفْيِ مَا لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ فَعَلَى هَذَا حَدُّهُ اللَّفْظُ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْهُ عَلَى الْقَطْعِ مَعْنًى فَهُوَ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَعْنَاهُ الْمَقْطُوعِ بِهِ نَصٌّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ نَصًّا وَظَاهِرًا وَمُجْمَلًا لَكِنْ بِالْإِضَافَةِ إلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ لَا إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ. الثَّالِثُ التَّعْبِيرُ: بِالنَّصِّ عَمَّا لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ احْتِمَالٌ مَقْبُولٌ يُعَضِّدُهُ دَلِيلٌ أَمَّا الِاحْتِمَالُ الَّذِي لَا يُعَضِّدُهُ دَلِيلٌ فَلَا يَخْرُجُ اللَّفْظُ عَنْ كَوْنِهِ نَصًّا فَكَانَ شَرْطُ النَّصِّ بِالْوَضْعِ الثَّانِي أَنْ لَا يَتَطَرَّقَ إلَيْهِ احْتِمَالٌ أَصْلًا وَبِالْوَضْعِ الثَّالِثِ أَنْ لَا يَتَطَرَّقَ إلَيْهِ احْتِمَالٌ مَخْصُوصٌ، وَهُوَ الْمُعْتَضَدُ بِدَلِيلٍ وَلَا حَجْرَ فِي إطْلَاقِ النَّصِّ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ لَكِنَّ الْإِطْلَاقَ الثَّانِي أَوْجَهُ وَأَشْهَرُ وَعَنْ الِاشْتِبَاهِ بِالظَّاهِرِ أَبْعَدُ، فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ مُوجِبَ الظَّاهِرِ وَالنَّصِّ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي اخْتَارَهُ مَشَايِخُنَا ظَنِّيٌّ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فَأَمَّا عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي اخْتَارُوهُ فَقَطْعِيٌّ كَالْمُفَسَّرِ. (وَقَوْلُهُ إلَّا أَنَّ هَذَا) أَيْ النَّصَّ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مِنْ الْمُسَاوَاةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ، وَكَذَا الثَّانِي فَيَكُونُ بِمَعْنَى لَكِنْ، أَوْلَى مِنْهُ أَيْ مِنْ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ لَمَّا كَانَ أَوْضَحَ بَيَانًا كَانَ الْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ بِخِلَافِ الْعَكْسِ لِإِمْكَانِ حَمْلِ الظَّاهِرِ عَلَى مَعْنًى يُوَافِقُ النَّصَّ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ؛ وَلِأَنَّا إنَّمَا لَمْ نَعْتَبِرْ الِاحْتِمَالَ الَّذِي فِي الظَّاهِرِ لِعَدَمِ دَلِيلٍ يُعَضِّدُهُ فَلَمَّا تَأَيَّدَ ذَلِكَ الِاحْتِمَالُ بِمُعَارَضَةِ النَّصِّ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ. وَنَظِيرُ التَّعَارُضِ بَيْنَ الظَّاهِرِ وَالنَّصِّ مِنْ الْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] ، مَعَ: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ ظَاهِرٌ عَامٌّ فِي إبَاحَةِ نِكَاحِ غَيْرِ الْمُحَرَّمَاتِ فَيَقْتَضِي بِعُمُومِهِ وَإِطْلَاقِهِ جَوَازَ نِكَاحِ مَا وَرَاءَ الْأَرْبَعِ وَالثَّانِي نَصٌّ يَقْتَضِي اقْتِصَارَ الْجَوَازِ عَلَى الْأَرْبَعِ فَيَتَعَارَضَانِ فِيمَا وَرَاءَ الْأَرْبَعِ فَيُرَجَّحُ النَّصُّ وَيُحْمَلُ الظَّاهِرُ عَلَيْهِ، وَمِنْ السُّنَّةِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» مَعَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ» فَالْأَوَّلُ ظَاهِرٌ فِي نَفْيِ الْجَوَازِ عَامٌّ فِي كُلِّ صَلَاةٍ؛ لِأَنَّ لَا هَذِهِ لِنَفْيِ الْجِنْسِ فَيَتَنَاوَلُ صَلَاةَ الْمُقْتَدِي وَالْمُنْفَرِدِ وَالثَّانِي نَصٌّ؛ لِأَنَّهُ أَشَدُّ وُضُوحًا فِي إفَادَةِ مَعْنَاهُ مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ لَا لِنَفْيِ الْفَضِيلَةِ وَاسْتِعْمَالِ الْعَامِّ فِي بَعْضِ مَفْهُومَاتِهِ شَائِعٌ ذَائِعٌ فَيَتَعَارَضَانِ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي فَيُعْمَلُ بِالنَّصِّ وَيُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى الْمُنْفَرِدِ أَوْ عَلَى نَفْيِ الْفَضِيلَةِ. [تَعْرِيف الْمُفَسَّرُ] قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْمُفَسَّرُ فَمَا ازْدَادَ) أَيْ فَكَلَامٌ ازْدَادَ وُضُوحًا عَلَى النَّصِّ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ التَّأْوِيلِ مُنْقَطِعٌ فِيهِ بِخِلَافِ النَّصِّ، فَإِنَّ احْتِمَالَهُ قَائِمٌ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْوُضُوحُ بِسَبَبِ مَعْنًى فِي النَّصِّ، بِأَنْ كَانَ أَيْ النَّصُّ مُجْمَلًا، وَهُوَ تَسَامُحٌ فِي الْعِبَارَةِ

فَانْسَدَّ بِهِ التَّأْوِيلُ أَوْ كَانَ عَامًّا فَلَحِقَهُ مَا انْسَدَّ بِهِ بَابُ التَّخْصِيصِ مَأْخُوذًا مِمَّا ذَكَرْنَا وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ جَمْعٌ عَامٌّ مُحْتَمَلٌ لِلتَّخْصِيصِ فَانْسَدَّ بَابُ التَّخْصِيصِ بِذِكْرِ الْكُلِّ وَذِكْرُ الْكُلِّ احْتَمَلَ تَأْوِيلَ التَّفَرُّقِ فَقَطَعَهُ بِقَوْلِهِ أَجْمَعُونَ فَصَارَ مُفَسَّرًا وَحُكْمُهُ الْإِيجَابُ قَطْعًا بِلَا احْتِمَالِ تَخْصِيصٍ وَلَا تَأْوِيلٍ إلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ النَّسْخَ وَالتَّبْدِيلَ. ـــــــــــــــــــــــــــــQلِأَنَّ النَّصَّ لَا يَكُونُ مُجْمَلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ اللَّفْظَ أَوْ الْكَلَامَ هَهُنَا. وَقَوْلُهُ بِأَنْ كَانَ مُجْمَلًا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ بِمَعْنًى فِي النَّصِّ بِتَكْرِيرِ الْعَامِلِ، فَلَحِقَهُ بَيَانٌ قَاطِعٌ احْتِرَازٌ عَمَّا لَيْسَ بِقَاطِعٍ ثُبُوتًا أَوْ دَلَالَةً حَتَّى لَا يَصِيرُ الْمُجْمَلُ مُفَسَّرًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ كَانَ قَطْعِيَّ الدَّلَالَةِ وَلَا بِبَيَانٍ فِيهِ احْتِمَالٌ، وَإِنْ كَانَ قَطْعِيَّ الثُّبُوتِ بَلْ هُوَ بُعْدٌ فِي حَيِّزِ التَّأْوِيلِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ عَنْ حَيِّزِ الْإِجْمَالِ، وَلِهَذَا قَالَ فَانْسَدَّ بِهِ بَابُ التَّأْوِيلِ نَتِيجَةً لِقَوْلِهِ بَيَانٌ قَاطِعٌ أَيْ بَيَانٌ قَاطِعٌ لَا يَحْتَمِلُ الْكَلَامُ التَّأْوِيلَ بَعْدَ لُحُوقِهِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ النَّصُّ أَيْ اللَّفْظُ عَامًّا، وَهُوَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ بِغَيْرِهِ عَلَى طَرِيقَةِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ وَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يُعَادَ حَرْفُ الْجَرِّ وَيُقَالُ بِأَنْ كَانَ عَامًّا إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى ذَلِكَ نَظَرًا إلَى حُصُولِ فَهْمِ الْمَعْنَى بِدُونِهِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْبَيَانَ كَمَا يَلْتَحِقُ بِالْكَلَامِ لِلتَّفْسِيرِ يَلْتَحِقُ بِهِ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّقْرِيرِ وَبَيَانُ التَّفْسِيرِ سَبَبُهُ مَعْنًى فِي نَفْسِ الْكَلَامِ وَهُوَ الْإِجْمَالُ أَمَّا بَيَانُ التَّقْرِيرِ فَسَبَبُهُ إرَادَةُ الْمُتَكَلِّمِ لَا مَعْنًى فِي الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي إفَادَةِ مَعْنَاهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى بَيَانٍ وَلَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ غَيْرُ ظَاهِرِهِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِإِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ فَالْتِحَاقُ الْبَيَانِ بِهِ يَقْطَعُ ذَلِكَ الِاحْتِمَالَ، وَقِيلَ مَعْنَى قَوْلِهِ بِمَعْنًى فِي النَّصِّ أَنَّ الْبَيَانَ يَكُونُ مُتَّصِلًا بِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى، {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج: 19] {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} [المعارج: 20] {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 21] ، فُسِّرَ الْهَلُوعُ الَّذِي كَانَ مُجْمَلًا بِبَيَانٍ مُتَّصِلٍ بِهِ. سُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى مَا الْهَلَعُ فَقَالَ قَدْ فَسَّرَهُ اللَّهُ وَلَا يَكُونُ تَفْسِيرٌ أَبَيْنَ مِنْ تَفْسِيرِهِ وَهُوَ الَّذِي إذَا نَالَهُ شَرٌّ أَظْهَرَ شِدَّةَ الْجَزَعِ، وَإِذَا نَالَهُ خَيْرٌ بَخِلَ بِهِ وَمَنَعَهُ النَّاسَ وَكَمَا فِي النَّظِيرِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ بِغَيْرِهِ أَنْ لَا يَكُونَ بَيَانُهُ مُتَّصِلًا بِهِ بَلْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِكَلَامٍ آخَرَ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ثَبَتَ تَفْسِيرُهُمَا بِأَقْوَالِ النَّبِيِّ وَأَفْعَالِهِ لَا بِبَيَانٍ مُتَّصِلٍ بِهِ فَالْمِثَالُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي وَعَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ وَالْهَلُوعُ عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. قَوْلُهُ (جَمْعٌ) أَيْ صِيغَةٌ، عَامٌّ أَيْ مَعْنًى، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُمَا؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ قَدْ يُسْلَبُ عَنْهَا مَعْنَى الْعُمُومِ بِدُخُولِ اللَّازِمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَقَدْ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ مَجَازًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ} [آل عمران: 42] قِيلَ الْمُرَادُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَيَصْلُحُ هَذَا الْمِثَالُ نَظِيرًا لِلْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ ظَاهِرٌ فِي سُجُودِ الْمَلَائِكَةِ وَبِقَوْلِهِ كُلُّهُمْ ازْدَادَ وُضُوحًا عَلَى الْأَوَّلِ فَصَارَ نَصًّا وَبِقَوْلِهِ أَجْمَعُونَ انْقَطَعَ الِاحْتِمَالُ بِالْكُلِّيَّةِ فَصَارَ مُفَسَّرًا، وَهُوَ إخْبَارٌ لَا يَقْبَلُ النَّسْخَ فَيَكُونُ مُحْكَمًا، وَحُكْمُهُ الْإِيجَابُ قَطْعًا، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. (قَوْلُهُ بِلَا احْتِمَالِ تَخْصِيصٍ وَلَا تَأْوِيلٍ) إشَارَةٌ إلَى رُجْحَانِهِ عَلَى النَّصِّ قَالَ الْمُصَنِّفُ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ وَحُكْمُهُ اعْتِقَادًا مَا فِي النَّصِّ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ فَيَكُونُ أَوْلَى مِنْ النَّصِّ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِثَالُهُ مَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً شَهْرًا يَكُونُ ذَلِكَ مُتْعَةً لَا نِكَاحًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَزَوَّجْت نَصٌّ لِلنِّكَاحِ وَلَكِنَّ احْتِمَالَ الْمُتْعَةِ فِيهِ قَائِمٌ. وَقَوْلُهُ شَهْرًا مُفَسَّرٌ فِي الْمُتْعَةِ لَيْسَ فِيهِ احْتِمَالُ النِّكَاحِ، فَإِنَّ النِّكَاحَ لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ بِحَالٍ فَإِذَا اجْتَمَعَا رَجَّحْنَا الْمُفَسَّرَ وَحَمَلْنَا النَّصَّ

[تعريف المحكم]

فَإِذَا ازْدَادَ قُوَّةً وَأُحْكِمَ الْمُرَادُ بِهِ عَنْ احْتِمَالِ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ سُمِّيَ مُحْكَمًا مِنْ أَحْكَامِ الْبِنَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75] وَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ الَّتِي تُقَابِلُ هَذِهِ الْوُجُوهَ فَالْخَفِيُّ اسْمٌ لِكُلِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى ذَلِكَ الْمُفَسَّرِ فَكَانَ مُتْعَةً لَا نِكَاحًا وَذَكَرَ غَيْرُهُ نَظِيرَ التَّعَارُضِ بَيْنَهُمَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ» مَعَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ» قَالَ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَسُوقٌ فِي مَفْهُومِهِ فَكَانَ نَصًّا وَلَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ إذَا اللَّامُ يُسْتَعَارُ لِلْوَقْتِ وَالثَّانِي لَا يَحْتَمِلُهُ فَيَكُونُ مُفَسَّرًا فَيُرَجَّحُ وَيُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ هَذَا نَظِيرُ تَعَارُضِ الظَّاهِرِ مَعَ النَّصِّ أَوْ الْمُفَسَّرِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِازْدِيَادِ الْوُضُوحِ لَا لِلسَّوْقِ، إلَّا أَنَّهُ أَيْ الْمُفَسَّرَ يَحْتَمِلُ النَّسْخَ أَيْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا هَذَا الْمِثَالُ، فَإِنَّهُ مِنْ الْإِخْبَارَاتِ وَالْخَبَرُ لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ وَنَعْنِي بِهِ الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِاللَّفْظِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي حِينَئِذٍ إلَى الْكَذِبِ أَوْ الْغَلَطِ، وَهُوَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَأَمَّا اللَّفْظُ فَيَجُوزُ أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ النَّسْخُ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ مُحْكَمًا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهَذَا النَّظْمِ جَوَازُ الصَّلَاةِ وَحُرْمَةُ الْقِرَاءَةِ لِلْجُنُبِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ نَسْخِ اللَّفْظِ وَكَذَا يَحْتَمِلُ الِاسْتِثْنَاءَ، فَإِنَّ إبْلِيسَ اُسْتُثْنِيَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ} [الحجر: 30] لَكِنَّ الشَّيْخَ لَمْ يَذْكُرْهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ يَنْقَطِعُ بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَصِحُّ مُتَرَاخِيًا فَأَمَّا احْتِمَالُ النَّسْخِ فَبَاقٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا مُتَرَاخِيًا [تَعْرِيف المحكم] فَإِذَا ازْدَادَ، أَيْ الْمُفَسَّرُ، قُوَّةً وَأُحْكِمَ الْمُرَادُ بِهِ، الْبَاءُ يَتَعَلَّقُ بِالْإِرَادَةِ وَضُمِّنَ " أُحْكِمَ " مَعْنَى امْتَنَعَ أَوْ أُمِنَ أَيْ امْتَنَعَ الْمَعْنَى الَّذِي أُرِيدَ بِالْمُفَسَّرِ عَنْ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ وَهُمَا مُتَرَادِفَانِ هَهُنَا، سُمِّيَ مُحْكَمًا فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْكَلَامِ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ فِي إفَادَةِ مَعْنَاهُ وَكَوْنِهِ غَيْرَ قَابِلٍ لِلنَّسْخِ لِيُسَمَّى مُحْكَمًا، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ كَوْنَهُ غَيْرَ قَابِلٍ لِلنَّسْخِ، وَقَالَ هُوَ مَا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا، وَقِيلَ مَا فِي الْعَقْلِ بَيَانُهُ، وَقِيلَ هُوَ النَّاسِخُ وَقِيلَ هُوَ مَا يُوقَفُ عَلَيْهِ وَيُفْهَمُ مُرَادُهُ، وَقِيلَ هُوَ مَا ظَهَرَ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ حَتَّى لَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ، وَالْمُتَشَابِهُ عَلَى أَضْدَادِهَا، وَقِيلَ هُوَ مَا فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالْحُدُودُ، وَقِيلَ مَا فِيهِ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ مَأْخَذَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ النَّسْخَ يُقَالُ بِنَاءٌ مُحْكَمٌ أَيْ مَأْمُونُ الِانْتِقَاضِ وَأَحْكَمْت الصَّنْعَةَ أَيْ أَمِنْت نَقْضَهَا وَتَبْدِيلَهَا، وَقِيلَ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ أَحْكَمْت فُلَانًا عَنْ كَذَا أَيْ مَنَعْته، قَالَ الشَّاعِرُ: أَبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ ... إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ أَغْضَبَا وَمِنْهُ حَكَمَةُ الْفَرَسِ؛ لِأَنَّهَا تَمْنَعُهُ مِنْ الْعِثَارِ وَالْفَسَادِ فَالْمُحْكَمُ مُمْتَنِعٌ مِنْ احْتِمَالِ التَّأْوِيلِ، وَمِنْ أَنْ يَرِدَ عَلَيْهِ النَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ؛ وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْمُحْكَمَاتِ أُمَّ الْكِتَابِ أَيْ الْأَصْلَ الَّذِي يَكُونُ الْمَرْجِعُ إلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ لِلْوَلَدِ وَسُمِّيَتْ مَكَّةُ أُمَّ الْقُرَى؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَرْجِعُونَ إلَيْهَا لِلْحَجِّ وَفِي آخِرِ الْأَمْرِ وَالْمَرْجِعُ مَا لَيْسَ فِيهِ احْتِمَالُ التَّأْوِيلِ وَلَا احْتِمَالُ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ثُمَّ انْقِطَاعُ احْتِمَالِ النَّسْخِ قَدْ يَكُونُ لِمَعْنًى فِي ذَاتِهِ بِأَنْ لَا يَحْتَمِلَ التَّبَدُّلَ عَقْلًا كَالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَصِفَاتِهِ جَلَّ جَلَالُهُ وَحُدُوثُ الْعَالَمِ، وَيُسَمَّى هَذَا مُحْكَمًا لِعَيْنِهِ، وَقَدْ يَكُونُ بِانْقِطَاعِ الْوَحْيِ بِوَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُسَمَّى هَذَا مُحْكَمًا لِغَيْرِهِ [تَعْرِيف الخفي] قَوْلُهُ (تُقَابِلُ هَذِهِ الْوُجُوهِ) إنَّمَا اخْتَارَ لَفْظَ الْمُقَابَلَةِ الَّذِي هُوَ أَعَمُّ مِنْ التَّضَادِّ الَّذِي ذَكَرَهُ غَيْرُهُ لِيُمْكِنَهُ بَيَانُ تَحْقِيقِ

[تعريف المشكل]

مَا اشْتَبَهَ مَعْنَاهُ وَخَفِيَ مُرَادُهُ بِعَارِضٍ غَيْرِ الصِّيغَةِ لَا يُنَالُ إلَّا بِالطَّلَبِ، وَذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ اخْتَفَى فُلَانٌ أَيْ اسْتَتَرَ فِي مِصْرِهِ بِحِيلَةٍ عَارِضَةٍ مِنْ غَيْرِ تَبْدِيلٍ فِي نَفْسِهِ فَصَارَ لَا يُدْرَكُ إلَّا بِالطَّلَبِ وَذَلِكَ مِثْلُ النَّبَّاشِ وَالطَّرَّارِ، وَهَذَا فِي مُقَابَلَةِ الظَّاهِرِ ثُمَّ الْمُشْكِلُ، وَهُوَ الدَّاخِلُ فِي إشْكَالِهِ وَأَمْثَالُهُ مِثْلُ قَوْلِهِمْ أَحْرَمَ أَيْ دَخَلَ فِي الْحَرَمِ وَأَشْتَى أَيْ دَخَلَ فِي الشِّتَاءِ وَهَذَا فَوْقَ الْأَوَّلِ لَا يُنَالُ بِالطَّلَبِ بَلْ بِالتَّأَمُّلِ بَعْدَ الطَّلَبِ لِيَتَمَيَّزَ عَنْ إشْكَالِهِ، وَهَذَا لِغُمُوضٍ فِي الْمَعْنَى ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُقَابَلَةِ وَنِهَايَةُ الْخِلَافِ بِقَوْلِهِ بِعَارِضٍ غَيْرِ الصِّيغَةِ، وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ السُّؤَالِ مَا وَرَدَ عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى جَوَابٍ ضَعِيفٍ لَا يَقْبَلُهُ السَّائِلُ. (قَوْلُهُ مَا اشْتَبَهَ مَعْنَاهُ وَخَفِيَ مُرَادُهُ) قِيلَ مَا اشْتَبَهَ مَعْنَاهُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ وَخَفِيَ مُرَادُهُ أَيْ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ كَمَا أَنَّ مَعْنَى السَّارِقِ لُغَةً، وَهُوَ آخِذُ مَالِ الْغَيْرِ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ اشْتَبَهَ فِي حَقِّ الطَّرَّارِ وَالنَّبَّاشِ، وَكَذَا حُكْمُهُ، وَهُوَ وُجُوبُ الْقَطْعِ خَفِيَ فِي حَقِّهِمَا. وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُمَا يُنْبِئَانِ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَرَادِفَيْنِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ الْأَوَّلَ فِي الْمُخْتَصَرِ وَالتَّقْوِيمِ، بِعَارِضٍ غَيْرِ الصِّيغَةِ أَيْ خَفِيَ بِسَبَبٍ عَارِضٍ لَا أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ خَفِيًّا فِي نَفْسِهِ فَإِنَّ آيَةَ السَّرِقَةِ ظَاهِرَةٌ فِي كُلِّ سَارِقٍ لَمْ يُعْرَفْ بِاسْمٍ آخَرَ وَلَكِنَّهَا خَفِيَّةٌ فِي الطَّرَّارِ وَالنَّبَّاشِ لِعَارِضِ اخْتِصَاصِهِمَا بِاسْمَيْنِ آخَرَيْنِ يُعْرَفَانِ بِهِمَا وَاخْتِلَافُ الْأَسْمَاءِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَعَانِي فَبَعُدَا بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ عَنْ اسْمِ السَّرِقَةِ؛ فَلِهَذَا خَفِيَتْ الْآيَةُ فِي حَقِّهِمَا، (وَقَوْلُهُ لَا يُنَالُ إلَّا بِالطَّلَبِ) تَأْكِيدٌ. وَفِي قَوْلِهِ، وَذَلِكَ أَيْ الْخَفِيُّ مِثْلُ الطَّرَّارِ وَالنَّبَّاشِ تَسَامُحٌ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِخَفِيَّيْنِ بَلْ آيَةُ السَّرِقَةِ خَفِيَّةٌ فِي حَقِّهِمَا وَلَكِنْ لَمَّا حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ فَهْمُ الْمَعْنَى لَمْ يَلْتَفِتْ الشَّيْخُ إلَى جَانِبِ اللَّفْظِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ، وَذَلِكَ مِثْلُ آيَةِ السَّرِقَةِ فِي حَقِّ الطَّرَّارِ وَالنَّبَّاشِ كَمَا ذَكَرَ هُوَ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ وَغَيْرِهِ فِي تَصَانِيفِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إشَارَةً إلَى الْعَارِضِ أَيْ الْعَارِضِ الَّذِي صَارَتْ الْآيَةُ خَفِيَّةً بِسَبَبِهِ مِثْلُ اسْمِ الطَّرَّارِ وَالنَّبَّاشِ وَلَكِنْ فِيهِ بُعْدٌ، وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ بِعَارِضٍ فِي الصِّيغَةِ مَكَانَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ بِعَارِضٍ غَيْرِ الصِّيغَةِ وَعَنَى بِهِ أَنَّ الْخَفَاءَ فِي الصِّيغَةِ، وَهُوَ السَّارِقُ مَثَلًا بِالْعَارِضِ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا لَا أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ خَفِيًّا فَيَكُونَ مُوَافِقًا لِمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْ الصِّيغَةِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ نَظْمُ الْآيَةِ وَالْمُرَادُ مِنْهَا فِي كَلَامِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ صِيغَةُ الطَّرَّارِ وَالنَّبَّاشِ مَثَلًا وَلَا اخْتِلَافَ إذًا بَيْنَ كَلَامَيْهِمَا وَلَكِنَّ الْوَجْهَ هُوَ الْأَوَّلُ [تَعْرِيف الْمُشْكِلُ] (قَوْلُهُ ثُمَّ الْمُشْكِلُ) ، فِي ثُمَّ إشَارَةٌ إلَى تَبَاعُدِ رُتْبَةِ الْمُشْكِلِ فِي الْخَفَاءِ عَنْ الْخَفِيِّ؛ لِأَنَّهُ فِي أَدْنَى دَرَجَاتِ الْخَفَاءِ وَفَوْقَ الْمُشْكِلِ. (وَقَوْلُهُ، وَهُوَ الدَّاخِلُ فِي إشْكَالِهِ) إشَارَةٌ إلَى مَأْخَذِهِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: الْمُشْكِلُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ أَشْكَلَ عَلَى كَذَا أَيْ دَخَلَ فِي أَشْكَالِهِ وَأَمْثَالِهِ، وَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُشْتَبَهُ الْمُرَادُ مِنْهُ بِدُخُولِهِ فِي أَشْكَالِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُعْرَفُ الْمُرَادُ إلَّا بِدَلِيلٍ يَتَمَيَّزُ بِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَشْكَالِ. وَقَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: هُوَ الَّذِي أَشْكَلَ عَلَى السَّامِعِ طَرِيقَ الْوُصُولِ إلَى الْمَعَانِي لِدِقَّةِ الْمَعْنَى فِي نَفْسِهِ لَا بِعَارِضٍ فَكَانَ خَفَاؤُهُ فَوْقَ الَّذِي كَانَ بِعَارِضٍ حَتَّى كَادَ الْمُشْكِلُ يُلْتَحَقُ بِالْمُجْمَلِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَا يَهْتَدُونَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. قَوْلُهُ (وَهَذَا لِغُمُوضٍ فِي الْمَعْنَى) أَيْ الْإِشْكَالُ إنَّمَا يَقَعُ لِغُمُوضٍ فِي الْمَعْنَى، قِيلَ نَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى، {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ، فَإِنَّهُ مُشْكِلٌ فِي حَقِّ الْفَمِ وَالْأَنْفِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِغَسْلِ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَالْبَاطِنُ خَارِجٌ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ لِلتَّعَذُّرِ فَبَقِيَ الظَّاهِرُ مُرَادًا وَلِلْفَمِ وَالْأَنْفِ شَبَهٌ بِالظَّاهِرِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَشَبَهٌ بِالْبَاطِنِ كَذَلِكَ عَلَى مَا عُرِفَ فَأُشْكِلَ

أَوْ لِاسْتِعَارَةٍ بَدِيعَةٍ وَذَلِكَ يُسَمَّى غَرِيبًا مِثْلُ رَجُلٍ اغْتَرَبَ عَنْ وَطَنِهِ فَاخْتَلَطَ بِأَشْكَالِهِ مِنْ النَّاسِ فَصَارَ خَفِيًّا بِمَعْنًى زَائِدٍ عَلَى الْأَوَّلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَمْرُهُمَا بِاعْتِبَارِ هَذَيْنِ الشَّبَهَيْنِ فَبَعْدَ الطَّلَبِ أَلْحَقْنَاهُمَا بِالظَّاهِرِ احْتِيَاطًا ثُمَّ وَجَدْنَا دَاخِلَ الْعَيْنِ خَارِجًا مِنْ الْوُجُوبِ مَعَ أَنَّ لَهُ شَبَهًا بِالظَّاهِرِ وَشَبَهًا بِالْبَاطِنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا أَمَّا حَقِيقَةً فَظَاهِرٌ وَأَمَّا حُكْمًا؛ فَلِأَنَّ الْمَاءَ لَوْ دَخَلَ عَيْنَ الصَّائِمِ أَوْ اكْتَحَلَ لَا يُفْسِدُ صَوْمَهُ وَلَوْ خَرَجَ دَمٌ مِنْ قُرْحَةٍ فِي عَيْنِهِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْعَيْنِ لَا يَفْسُدُ وُضُوءُهُ وَأَنْ يُجَاوِزَ عَنْ الْقُرْحَةِ فَتَأَمَّلْنَا فِيهِ فَوَجَدْنَاهُ خَارِجًا لِلتَّعَذُّرِ كَالْبَاطِنِ؛ لِأَنَّ إيصَالَ الْمَاءِ إلَى دَاخِلِ الْعَيْنِ سَبَبٌ لِلْعَمَى، وَلَيْسَ فِي إيصَالِهِ إلَى دَاخِلِ الْفَمِ وَالْأَنْفِ حَرَجٌ فَبَقِيَ دَاخِلًا تَحْتَ الْوُجُوبِ هَذَا هُوَ مَعْنَى التَّأَمُّلِ بَعْدَ الطَّلَبِ، قُلْت هَذَا مَعْنًى فِقْهِيٌّ لَطِيفٌ إلَّا أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ لَا يَصْلُحُ نَظِيرًا لِلْمُشْكِلِ؛ لِأَنَّ الْمُشْكِلَ مَا كَانَ فِي نَفْسِهِ اشْتِبَاهٌ، وَلَيْسَ مَا ذَكَرُوهُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّطَهُّرِ لُغَةً وَشَرْعًا مَعْلُومٌ، وَلَكِنَّهُ اشْتَبَهَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَمِ وَالْأَنْفِ كَاشْتِبَاهِ لَفْظِ السَّارِقِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الطَّرَّارِ وَالنَّبَّاشِ فَكَانَ مِنْ نَظَائِرِ الْخَفِيِّ لَا مِنْ نَظَائِرِ الْمُشْكِلِ، وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْكَرْدَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مِنْ نَظَائِرِهِ قَوْله تَعَالَى {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] . وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تُوجَدَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي كُلِّ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا فَيُؤَدِّي إلَى تَفْضِيلِ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ بِثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ مَرَّةً فَكَانَ مُشْكِلًا فَبَعْدَ التَّأَمُّلِ عُرِفَ أَنَّ الْمُرَادَ أَلْفُ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَا أَلْفُ شَهْرٍ عَلَى الْوَلَاءِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ خَيْرٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً؛ لِأَنَّهَا تُوجَدُ فِي كُلِّ سَنَةٍ لَا مَحَالَةَ فَيُؤَدِّي إلَى مَا ذَكَرْنَا قُلْت وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ قَرَأَ يس يُرِيدُ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَأُعْطِيَ مِنْ الْأَجْرِ كَأَنَّمَا قَرَأَ الْقُرْآنَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ مَرَّةً» وَفِي رِوَايَةٍ «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ يس كَانَ كَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ عَشْرَ مَرَّاتٍ» فَفِيهِ تَفْضِيلُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ أَيْضًا فَبَعْدَ التَّأَمُّلِ عُرِفَ أَنَّ مَعْنَاهُ فَكَأَنَّمَا قَرَأَ الْقُرْآنَ عَشْرَ مَرَّاتٍ أَوْ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ مَرَّةً بِدُونِهَا لَا مَعَهَا، وَمِنْ نَظَائِرِهِ قَوْله تَعَالَى، {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] ، اشْتَبَهَ مَعْنَاهُ عَلَى السَّامِعِ أَنَّهُ بِمَعْنَى كَيْفَ أَوْ بِمَعْنَى أَيْنَ فَعُرِفَ بَعْدَ الطَّلَبِ وَالتَّأَمُّلِ أَنَّهُ بِمَعْنَى كَيْفَ بِقَرِينَةِ الْحَرْثِ وَبِدَلَالَةِ حُرْمَةِ الْقُرْبَانِ فِي الْأَذَى الْعَارِضِ، وَهُوَ الْحَيْضُ فَفِي الْأَذَى اللَّازِمِ أَوْلَى. وَأَمَّا نَظِيرُ الِاسْتِعَارَةِ الْبَدِيعَةِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى، {قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان: 16] ، فَالْقَوَارِيرُ لَا يَكُونُ مِنْ الْفِضَّةِ وَمَا كَانَ مِنْ الْفِضَّةِ لَا يَكُونُ قَوَارِيرَ وَلَكِنْ لِلْفِضَّةِ صِفَةُ كَمَالٍ، وَهِيَ نَفَاسَةُ جَوْهَرِهِ وَبَيَاضُ لَوْنِهِ وَصِفَةُ نُقْصَانٍ وَهِيَ أَنَّهَا لَا تَصْفُو وَلَا تَشِفُّ وَلِلْقَارُورَةِ صِفَةُ كَمَالٍ أَيْضًا. وَهِيَ الصَّفَاءُ وَالشَّفِيفُ وَصِفَةُ نُقْصَانٍ، وَهِيَ خَسَاسَةُ الْجَوْهَرِ فَعُرِفَ بَعْدَ التَّأَمُّلِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كُلٍّ وَاحِدٍ صِفَةُ كَمَالِهِ وَأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَهِيَ مَعَ بَيَاضِ الْفِضَّةِ فِي صَفَاءِ الْقَوَارِيرِ وَشَفِيفِهَا. وَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ، {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر: 13] ، فَلِلصَّبِّ دَوَامٌ وَلَا يَكُونُ لَهُ شِدَّةٌ وَلِلسَّوْطِ عَكْسُهُ فَاسْتُعِيرَ الصَّبُّ لِلدَّوَامِ وَالسَّوْطُ لِلشِّدَّةِ أَيْ أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ عَذَابًا شَدِيدًا دَائِمًا، وَقِيلَ ذَكَرَ الصَّبَّ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ مِنْ السَّمَاءِ أَيْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَذَكَرَ السَّوْطَ إشَارَةً إلَى أَنَّ مَا أَحَلَّ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ بِالْقِيَاسِ إلَى مَا أَعَدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ كَالسَّوْطِ إذَا قِيسَ إلَى سَائِرِ

[تعريف المجمل]

ثُمَّ الْمُجْمَلُ، وَهُوَ مَا ازْدَحَمَتْ فِيهِ الْمَعَانِي وَاشْتَبَهَ الْمُرَادُ اشْتِبَاهًا لَا يُدْرَكُ بِنَفْسِ الْعِبَارَةِ بَلْ بِالرُّجُوعِ إلَى الِاسْتِفْسَارِ ثُمَّ الطَّلَبُ ثُمَّ التَّأَمُّلُ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] فَإِنَّهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا يُعَذَّبُ بِهِ. وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ، {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: 112] ، فَاللِّبَاسُ لَا يُذَاقُ وَلَكِنَّهُ يَشْمَلُ الظَّاهِرَ وَلَا أَثَرَ لَهُ فِي الْبَاطِنِ وَالْإِذَاقَةُ أَثَرُهَا فِي الْبَاطِنِ وَلَا شُمُولَ لَهَا فَاسْتُعِيرَتْ الْإِذَاقَةُ لِمَا يَصِلُ مِنْ أَثَرِ الضَّرَرِ إلَى الْبَاطِنِ وَاللِّبَاسُ بِالشُّمُولِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ فَأَذَاقَهُمْ مَا غَشِيَهُمْ مِنْ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ أَيْ أَثَرُهُمَا وَاصِلٌ إلَى بَوَاطِنِهِمْ مَعَ كَوْنِهِ شَامِلًا لَهُمْ، وَبَيَانُ النَّظَائِرِ الثَّلَاثَةِ مَنْقُولٌ مِنْ الْعَلَّامَةِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْكَرْدَرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى الطَّلَبِ وَالتَّأَمُّلِ أَنْ يَنْظُرَ أَوَّلًا فِي مَفْهُومَاتِ اللَّفْظِ جَمِيعًا فَيَضْبِطُهَا ثُمَّ يَتَأَمَّلَ فِي اسْتِخْرَاجِ الْمُرَادِ مِنْهَا كَمَا إذَا نَظَرَ فِي كَلِمَةِ " أَنَّى " فَوَجَدَهَا مُشْتَرَكَةً بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا فَهَذَا هُوَ الطَّلَبُ ثُمَّ تَأَمَّلَ فِيهِمَا فَوَجَدَهَا بِمَعْنَى كَيْفَ فِي هَذَا الْمَوْقِعِ دُونَ أَيْنَ فَحَصَلَ الْمَقْصُودُ وَكَمَا إذَا نَظَرَ فِي قَوْله تَعَالَى، {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] ، فَوَجَدَهُ دَالًّا عَلَى مَفْهُومَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مُتَوَالِيَةٍ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ غَيْرِ مُتَوَالِيَةٍ وَلَا ثَالِثَ لَهُمَا ثُمَّ تَأَمَّلَ فِيهِمَا فَوَجَدَهُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي لِفَسَادٍ فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَظَهَرَ الْمُرَادُ وَقِسْ عَلَيْهِ الْبَاقِي [تَعْرِيف الْمُجْمَلُ] قَوْلُهُ (ثُمَّ الْمُجْمَلُ) أَيْ بَعْدَ الْمُشْكِلِ الْمُجْمَلُ وَمَعْنَاهُ فَوْقَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَدَأَ بِبَيَانِ أَدْنَى دَرَجَاتِ الْخَفَاءِ أَوَّلًا كَانَ كُلُّ مَا بَعْدَهُ أَعْلَى رُتْبَةً مِنْهُ فِي الْخَفَاءِ، مَا ازْدَحَمَتْ فِيهِ الْمَعَانِي أَيْ تَدَافَعَتْ يَعْنِي يَدْفَعُ كُلُّ وَاحِدٍ سِوَاهُ لَا أَنَّهُ شَمَلَ مَعَانِيَ كَثِيرَةً، وَقَوْلُهُ الْمَعَانِي، لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصَيْرُورَتِهِ مُجْمَلًا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ قَدْ يَصِيرُ مُجْمَلًا إذَا انْسَدَّ فِيهِ بَابُ التَّرْجِيحِ كَمَا مَرَّ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْمَعْنَى هَهُنَا مَفْهُومُ اللَّفْظِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنْ ازْدِحَامِ الْمَعَانِي تَوَارُدُهَا عَلَى اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ رُجْحَانٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْبَاقِي كَمَا فِي الْمُشْتَرَكِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ إلَّا أَنَّ التَّوَارُدَ هَهُنَا أَعَمُّ مِنْهُ فِي الْمُشْتَرَكِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْمُشْتَرَكِ بِاعْتِبَارِ الْوَضْعِ فَقَطْ وَهَهُنَا بِاعْتِبَارِهِ وَبِاعْتِبَارِ غَرَابَةِ اللَّفْظِ وَتَوَحُّشِهِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاكٍ فِيهِ وَبِاعْتِبَارِ إبْهَامِ الْمُتَكَلِّمِ الْكَلَامَ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُجْمَلَ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ نَوْعٌ لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ لُغَةً كَالْهَلُوعِ قَبْلَ التَّفْسِيرِ وَنَوْعٌ مَعْنَاهُ مَفْهُومٌ لُغَةً وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ كَالرِّبَا وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَنَوْعٌ مَعْنَاهُ مَعْلُومٌ لُغَةً إلَّا أَنَّهُ مُتَعَدِّدٌ وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ مِنْهَا وَلَمْ يُمْكِنْ تَعْيِينُهُ لِانْسِدَادِ بَابِ التَّرْجِيحِ فِيهِ كَمَا مَرَّ فَفِي الْقِسْمِ الْأَخِيرِ تَوَارُدُ الْمَعْنَى بِاعْتِبَارِ الْوَضْعِ وَفِي الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِاعْتِبَارِ غَرَابَةِ اللَّفْظِ وَإِبْهَامِ التَّكَلُّمِ، وَقِيلَ قَوْلُهُ مَا ازْدَحَمَتْ فِيهِ الْمَعَانِي زَائِدٌ فِي التَّحْدِيدِ إذْ يَكْفِيه أَنْ يَقُولَ هُوَ مَا اشْتَبَهَ الْمُرَادُ اشْتِبَاهًا لَا يُدْرَكُ إلَّا بِالِاسْتِفْسَارِ كَمَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ هُوَ لَفْظٌ لَا يُفْهَمُ الْمُرَادُ مِنْهُ إلَّا بِالِاسْتِفْسَارِ الْمُجْمَلِ، وَقَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: هُوَ الَّذِي لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ أَصْلًا وَلَكِنَّهُ احْتَمَلَ الْبَيَانَ. وَقَالَ آخَرُ هُوَ مَا لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ بِبَيَانٍ يَقْتَرِنُ بِهِ، قُلْت لَمَّا حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ فَهْمُ الْمَعْنَى لَا ضَيْرَ فِي تَرْكِ التَّكَلُّفِ وَبَيَانِ سَبَبِ الِاشْتِبَاهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْبَيَانَ اللَّاحِقَ بِالْمُجْمَلِ قَدْ يَكُونُ بَيَانًا شَافِيًا، وَيَصِيرُ الْمُجْمَلُ بِهِ مُفَسَّرًا كَبَيَانِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ شَافٍ وَيَصِيرُ الْمُجْمَلُ بِهِ مُؤَوَّلًا كَبَيَانِ الرِّبَا بِالْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ: - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - خَرَجَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ الدُّنْيَا وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَبْوَابَ الرِّبَا، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْبَيَانِ قَدْ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الطَّلَبِ وَالتَّأَمُّلِ؛ لِأَنَّ الْمُجْمَلَ بِمِثْلِ هَذَا الْبَيَانِ

[تعريف المتشابه]

لَا يُدْرَكُ بِمَعَانِي اللُّغَةِ بِحَالٍ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْجُمْلَةِ، وَهُوَ كَرَجُلٍ اغْتَرَبَ عَنْ وَطَنِهِ بِوَجْهٍ انْقَطَعَ بِهِ أَثَرُهُ وَالْمُشْكِلُ يُقَابِلُ النَّصَّ وَالْمُجْمَلُ يُقَابِلُ الْمُفَسَّرَ، فَإِذَا صَارَ الْمُرَادُ مُشْتَبَهًا عَلَى وَجْهٍ لَا طَرِيقَ لِدَرْكِهِ حَتَّى سَقَطَ طَلَبُهُ وَوَجَبَ اعْتِقَادُ الْحَقِّيَّةِ فِيهِ سُمِّيَ مُتَشَابِهًا بِخِلَافِ الْمُجْمَلِ فَإِنَّ طَرِيقَ دَرْكِهِ مُتَوَهِّمٌ وَطَرِيقُ دَرْكِ الْمُشْكِلِ قَائِمٌ فَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ فَلَا طَرِيقَ لِدَرْكِهِ إلَّا التَّسْلِيمُ فَيَقْتَضِي اعْتِقَادَ الْحَقِّيَّةِ قَبْلَ الْإِصَابَةِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] وَعِنْدَنَا أَنْ لَا حَظَّ لِلرَّاسِخَيْنِ فِي الْعِلْمِ مِنْ الْمُتَشَابِهِ إلَّا التَّسْلِيمُ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَخْرُجُ عَنْ حَيِّزِ الْإِجْمَالِ إلَى حَيِّزِ الْإِشْكَالِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَإِلَى مَا ذَكَرْنَا أَشَارَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي التَّقْوِيمِ بِقَوْلِهِ ثُمَّ بَعْدَ الْبَيَانِ يَلْزَمُهُ مَا يَلْزَمُ بِالْمُفَسَّرِ أَوْ الظَّاهِرِ عَلَى حَسَبِ اقْتِرَانِ الْبَيَانِ بِهِ، فَالشَّيْخُ لَمَّا أَرَادَ تَوْضِيحَ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْكِلِ قَالَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الِاسْتِفْسَارِ أَوَّلًا ثُمَّ قَدْ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْمُشْكِلِ، وَهُوَ الطَّلَبُ وَالتَّأَمُّلُ. وَلِهَذَا قَدَّمَ نَظِيرَ الْمُجْمَلِ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَى الطَّلَبِ وَالتَّأَمُّلِ بَعْدَ الْبَيَانِ، وَهُوَ الرِّبَا عَلَى الْمُجْمَلِ الَّذِي لَمْ يَحْتَجْ إلَى أَمْرٍ آخَرَ بَعْدَ الْبَيَانِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَبَيَانُ مَا قُلْنَا أَنَّهُ يَصِيرُ مُشْكِلًا بَعْدَ الْبَيَانِ أَنَّ الرِّبَا مَعَ إجْمَالِهِ اسْمُ جِنْسٍ مُحَلَّى بِاللَّامِ فَيَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ أَنْوَاعِهِ وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَيَّنَ الْحُكْمَ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ مِنْ غَيْرِ قَصْرٍ عَلَيْهَا بِالْإِجْمَاعِ فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيمَا وَرَاءَ السُّنَّةِ غَيْرَ مَعْلُومٍ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْبَيَانِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُجْمَلًا فِيمَا سِوَاهَا إلَّا أَنَّهُ لَمَّا احْتَمَلَ أَنْ يُوقَفَ عَلَى مَا وَرَاءَهَا بِالتَّأَمُّلِ فِي هَذَا الْبَيَانِ نُسَمِّيه مُشْكِلًا فِيهِ لَا مُجْمَلًا، وَبَعْدَ الْإِدْرَاكِ بِالتَّأَمُّلِ وَالْوُقُوفِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرِ صَارَ مُؤَوَّلًا فِيهِ أَيْضًا فَصَارَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ لَا بُدَّ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى الِاسْتِفْسَارِ فِي كُلِّ أَنْوَاعِهِ [تَعْرِيف الْمُتَشَابِه] ثُمَّ الطَّلَبُ وَالتَّأَمُّلُ فِي الْبَعْضِ، قِيلَ مَعْنَى الطَّلَبِ طَلَبُ الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرِ وَالتَّأَمُّلُ هُوَ التَّأَمُّلُ فِي صَلَاحِهِ لِلتَّعْدِيَةِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الطَّلَبُ وَالتَّأَمُّلُ فِي اللَّفْظِ لِإِزَالَةِ الْخَفَاءِ كَمَا فِي الْمُشْكِلِ؛ لِأَنَّ الطَّلَبَ وَالتَّأَمُّلَ كَمَا ذَكَرُوا لَا يَخْتَصَّانِ بِالْمُجْمَلِ بَلْ يَكُونَانِ فِي الْمُفَسَّرِ وَالنَّصِّ أَيْضًا قَوْلُهُ (لَا يُدْرَكُ بِمَعَانِي اللُّغَةِ بِحَالٍ) ، فَإِنَّ مُطْلَقَ الزِّيَادَةِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الرِّبَا، وَكَذَا الدُّعَاءُ وَالنَّمَاءُ اللَّذَانِ يَدُلُّ عَلَيْهِمَا لَفْظَا الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ لَمْ يَبْقَيَا مُرَادَيْنِ بِيَقِينٍ وَنُقِلَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ إلَى مَعَانٍ أُخَرَ شَرْعِيَّةٍ أَمَّا مَعَ رِعَايَةِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، أَوْ بِدُونِهَا فَلَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا بِالتَّوْقِيفِ كَمَا فِي الْوَضْعِ الْأَوَّلِ، انْقَطَعَ بِهِ أَيْ بِالِاغْتِرَابِ أَثَرُهُ، فَلَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الِاسْتِفْسَارِ. وَذَكَرَ فِي نُسْخَةٍ وَأَنَّهُ عَلَى مِثَالِ رَجُلٍ غَابَ عَنْ بَلْدَتِهِ وَدَخَلَ بَلْدَةً أُخْرَى لَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ تِلْكَ الْبَلْدَةِ بِالتَّأَمُّلِ فِيهِ بَلْ بِالرُّجُوعِ إلَى أَهْلِ بَلْدَتِهِ حَتَّى لَوْ شَهِدَ لَا يَحِلُّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِشَهَادَتِهِ وَلَا لِلْمُزَكِّي أَنْ يُعَدِّلَهُ إلَّا بِالرُّجُوعِ إلَى أَهْلِ بَلْدَتِهِ لِتُعْرَفَ حَالُهُ، فَإِنَّ طَرِيقَ دَرْكِهِ مُتَوَهِّمٌ أَيْ مَرْجُوٌّ مِنْ جِهَةِ الْمُجْمَلِ وَطَرِيقُ دَرْكِ الْمُشْكِلِ قَائِمٌ أَيْ ثَابِتٌ بِدُونِ بَيَانٍ يُلْتَحَقُ بِهِ بَلْ يُعْرَفُ بِالتَّأَمُّلِ فِي مَوَاضِعِ اللُّغَةِ. قَوْلُهُ (إلَّا التَّسْلِيمُ) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مِنْ لَا طَرِيقَ، قَبْلَ الْإِصَابَةِ أَيْ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ الْمُتَشَابِهَاتِ تَنْكَشِفُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَفْسِيرِ الْمُتَشَابِهِ، وَهُوَ الَّذِي لَا طَرِيقَ لِدَرْكِهِ أَصْلًا قَوْلُهُ (وَعِنْدَنَا لَا حَظَّ لِلرَّاسِخِينَ إلَّا التَّسْلِيمُ) اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ لَا حَظَّ أَيْ لَيْسَ لَهُ مُوجِبٌ سِوَى اعْتِقَادِ الْحَقِّيَّةِ فِيهِ وَالتَّسْلِيمِ، وَعَلَى بِمَعْنَى مَعَ، وَهَذَا بَيَانُ حُكْمِ الْمُتَشَابِهِ، وَأَنَّ الْوَقْفَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لَا حَظَّ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَعِنْدَنَا أَنْ لَا حَظَّ، وَهُوَ أَصَحُّ وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الرَّاسِخَ فِي الْعِلْمِ هَلْ يَعْلَمُ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ فَذَهَبَ عَامَّةُ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إلَى أَنَّهُ لَا حَظَّ لِأَحَدٍ فِي ذَلِكَ؛ وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ فِيهِ التَّسْلِيمُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ اعْتِقَادِ حَقِّيَّةَ الْمُرَادِ عِنْدَهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ مُتَقَدِّمِي أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ وَعِنْدَنَا، وَعَلَى هَذَا الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ إلَّا اللَّهُ وَاجِبٌ

عَلَى اعْتِقَادِ حَقِّيَّةَ الْمُرَادِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَإِنَّ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 7] وَاجِبٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِأَنَّهُ لَوْ وَصَلَ فُهِمَ أَنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ فَيَتَغَيَّرُ الْكَلَامُ، وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ إلَى أَنَّ الرَّاسِخَ يَعْلَمُ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ وَأَنَّ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ لَا عَلَى مَا قَبْلَهُ وَالْوَاوُ فِيهِ لِلْعَطْفِ لَا لِلِاسْتِئْنَافِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ، قَالُوا لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلرَّاسِخِ حَظٌّ فِي الْعِلْمِ بِالْمُتَشَابِهِ إلَّا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فَضْلٌ عَلَى الْجُهَّالِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ أَيْضًا، قَالُوا وَلَمْ يَزَلْ الْمُفَسِّرُونَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا يُفَسِّرُونَ وَيُؤَوِّلُونَ كُلَّ آيَةٍ وَلَمْ نَرَهُمْ وَقَفُوا عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَقَالُوا هَذَا مُتَشَابِهٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ بَلْ فَسَرُّوا الْكُلَّ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَعْلَمُ كُلَّ الْقُرْآنِ إلَّا أَرْبَعَةً: الْغِسْلِينُ وَالْحَنَّانُ وَالرَّقِيمُ وَالْأَوَّاهُ ثُمَّ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ وَأَنَا مِمَّنْ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ وَقَدْ اُشْتُهِرَ عَنْ الصَّحَابَةِ تَفْسِيرُ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، وَقَالَ الْقُتَبِيُّ لَمْ يُنَزِّلْ اللَّهُ تَعَالَى شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا لِيَنْتَفِعَ بِهِ عِبَادُهُ وَيَدُلُّ عَلَى مَعْنًى أَرَادَهُ فَلَوْ كَانَ الْمُتَشَابِهُ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ لَلَزِمَ لِلطَّاعِنِ فِيهِ مَقَالٌ وَلَزِمَ مِنْهُ الْخِطَابُ بِمَا لَا يُفْهَمُ وَلَمْ يَبْقَ فِيهِ فَائِدَةٌ وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَعْرِفْ الْمُتَشَابِهَ وَإِذَا جَازَ أَنْ يَعْرِفَهُ مَعَ قَوْلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ جَازَ أَنْ يَعْرِفَ الرَّبَّانِيُّونَ مِنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -. وَأَمَّا الْعَامَّةُ فَقَالُوا الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ إلَّا اللَّهُ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ أَكَّدَ أَوَّلًا بِالنَّفْيِ ثُمَّ خَصَّصَ اسْمَ اللَّهِ بِالِاسْتِثْنَاءِ فَيَقْتَضِي أَنَّهُ مِمَّا لَا يُشَارِكُهُ فِي عَلْمِهِ سِوَاهُ فَلَا يَجُوزُ الْعَطْفُ عَلَى قَوْلِهِ إلَّا اللَّهُ كَمَا عَلَى لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَوْلُهُ وَالرَّاسِخُونَ يَكُونُ ثَنَاءً مُبْتَدَأً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ وَالتَّسْلِيمِ بِأَنَّ الْكُلَّ مِنْ عِنْدِهِ لَا عَطْفًا عَلَى اسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَذَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ تَأْوِيلَهُ إلَّا عِنْدَ اللَّهِ وَقِرَاءَةُ أُبَيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ طَاوُسٍ عَنْهُ وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ. وَلِأَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ مَنْ اتَّبَعَ الْمُتَشَابِهَ ابْتِغَاءَ التَّأْوِيلِ كَمَا ذَمَّ عَلَى اتِّبَاعِهِ لَهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ بِأَنْ يُجْرِيَهُ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ وَمَدَحَ الرَّاسِخِينَ بِقَوْلِهِمْ {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] وَبِقَوْلِهِمْ {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران: 8] أَيْ لَا تَجْعَلْنَا كَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَاتَّبَعُوا الْمُتَشَابِهَ مُؤَوِّلِينَ أَوْ غَيْرَ مُؤَوِّلِينَ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ إلَّا اللَّهُ لَازِمٌ، وَرُوِيَ «عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ إذَا رَأَيْتُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ» أَمْرٌ بِالْحَذَرِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مُتَابِعٍ وَمُتَابِعٍ فَيَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ، وَرُوِيَ عَنْهَا أَيْضًا أَنَّ «النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يُفَسِّرْ مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا آيَاتٍ عَلَّمَهُنَّ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -» فَمَنْ قَالَ أَنَا أُفَسِّرُ الْجَمِيعَ فَقَدْ تَكَلَّفَ فِيهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّفْهُ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ثُمَّ قِيلَ لَا اخْتِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الرَّاسِخَ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ أَرَادَ أَنَّهُ يَعْلَمُهُ ظَاهِرًا لَا حَقِيقَةً، وَمَنْ قَالَ إنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ حَقِيقَةً؛ وَإِنَّمَا ذَلِكَ إلَى الْقَدِيمِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَقِيلَ كُلُّ

[بيان الحكمة في إنزال الآيات المتشابهات]

وَأَهْلُ الْإِيمَانِ عَلَى طَبَقَتَيْنِ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ مَنْ يُطَالِبُ بِالْإِمْعَانِ فِي السَّيْرِ لِكَوْنِهِ مُبْتَلًى بِضَرْبٍ مِنْ الْجَهْلِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُطَالِبُ بِالْوَقْفِ لِكَوْنِهِ مُكَرَّمًا بِضَرْبٍ مِنْ الْعِلْمِ فَأَنْزَلَ الْمُتَشَابِهَ تَحْقِيقًا لِلِابْتِلَاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمُتَشَابِهٍ يُمْكِنُ رَدُّهُ إلَى مُحْكَمٍ فَإِنَّ الرَّاسِخَ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى، {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] ، فَهَذَا مُتَشَابِهٌ يُمْكِنُ رَدُّهُ إلَى قَوْله تَعَالَى {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه: 52] ، الَّذِي هُوَ مُحْكَمٌ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ جَازَاهُمْ النِّسْيَانَ، وَهُوَ التَّرْكُ وَالْإِعْرَاضُ وَكُلُّ مُتَشَابِهٍ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ إلَى مُحْكَمٍ فَالرَّاسِخُ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} [الأعراف: 187] ، ثُمَّ الرَّاسِخُ فِي الْعِلْمِ هُوَ الثَّابِتُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا يَتَهَيَّأُ اسْتِزْلَالُهُ وَتَشْكِيكُهُ، وَقِيلَ هُوَ الَّذِي حَقَّقَ الْعِلْمَ لِبَسْطِ الْفُرُوعِ بِالِاجْتِهَادِ حَتَّى رَسَخَ فِي قَلْبِهِ. وَقِيلَ هُوَ الَّذِي حَقَّقَ الْعِلْمَ بِالْمَعْرِفَةِ وَالْقَوْلِ بِالْعَمَلِ، وَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «الرَّاسِخُ مِنْ بَرَّتْ يَمِينُهُ وَصَدَقَ لِسَانُهُ وَاسْتَقَامَ قَلْبُهُ وَعَفَّ بَطْنُهُ وَفَرْجُهُ» [بَيَان الْحِكْمَة فِي إنْزَال الْآيَات الْمُتَشَابِهَات] قَوْلُهُ (وَأَهْلُ الْإِيمَانِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْخِطَابُ الْمُنَزَّلُ إمَّا لِلتَّعْرِيفِ أَوْ لِلتَّكْلِيفِ وَلَا بُدَّ فِيهِمَا مِنْ عِلْمِ الْمُخَاطَبِ لِيُمْكِنَهُ الْعَمَلُ بِهِ أَوْ يَحْصُلَ لَهُ الْمَعْرِفَةُ بِهِ، فَإِذَا انْسَدَّ بَابُ الْعِلْمِ بِهِ أَصْلًا خَلَا عَنْ الْحِكْمَةِ؛ لِأَنَّ مَنْ خَاطَبَ عَبْدَهُ بِشَيْءٍ لَا يَفْهَمُهُ لَا يُعَدُّ مِنْ الْحِكْمَةِ وَلَمْ يَكُنْ إذْ ذَاكَ فَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْوَاتِ الطُّيُورِ فَبَيَّنَ الْحِكْمَةَ بِقَوْلِهِ وَأَهْلُ الْإِيمَانِ عَلَى طَبَقَتَيْنِ أَيْ مَنْزِلَتَيْنِ فِي الْعِلْمِ، مِنْهُمْ مَنْ يُطَالَبُ أَيْ يُؤْمَرُ، بِالْإِمْعَانِ أَيْ الْمُبَالَغَةِ فِي السَّيْرِ أَيْ فِي الطَّلَبِ مِنْ أَمْعَنَ الْفَرَسُ إذَا تَبَاعَدَ فِي عَدْوِهِ، لَكَوَّنَهُ مُبْتَلًى بِضَرْبٍ مِنْ الْجَهْلِ إنَّمَا قَالَ بِضَرْبٍ وَلَمْ يَقُلْ بِالْجَهْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَكْلِيفُ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ شَيْئًا أَصْلًا فَأُنْزِلَ الْمُحْكَمُ وَالْمُفَسَّرُ وَنَحْوُهُمَا ابْتِلَاءً لِمِثْلِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُطَالَبُ بِالْوَقْفِ أَيْ بِالْوُقُوفِ عَنْ الطَّلَبِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى اللَّازِمِ؛ وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا يُقَالُ عَلَى رَأْسِ هَذِهِ الْآيَةِ وَقْفٌ أَيْ وُقُوفٌ أَوْ مَعْنَاهُ وَقْفُ النَّفْسِ عَنْ الطَّلَبِ أَيْ حَبْسِهَا. فَأُنْزِلَ الْمُتَشَابِهُ تَحْقِيقًا لِلِابْتِلَاءِ أَيْ فِي حَقِّهِ أَوْ تَتْمِيمًا لِلِابْتِلَاءِ فِي حَقِّ الْكُلِّ وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى فِي الِابْتِلَاءِ بِإِنْزَالِ الْمُجْمَلِ وَالْمُشْكِلِ وَالْخَفِيِّ فَإِنَّ الْكُلَّ لَوْ كَانَ ظَاهِرًا جَلِيًّا بَطَلَ مَعْنَى الِامْتِحَانِ وَنَيْلُ الثَّوَابِ بِالْجَهْدِ فِي الطَّلَبِ وَلَوْ كَانَ الْكُلُّ مُشْكِلًا خَفِيًّا لَمْ يُعْلَمْ شَيْءٌ حَقِيقَةً فَجَعَلَ بَعْضَهَا جَلِيًّا ظَاهِرًا وَبَعْضَهَا خَفِيًّا لِيَتَوَسَّلَ بِالْجَلِيِّ إلَى مَعْرِفَةِ الْخَفِيِّ بِالِاجْتِهَادِ وَإِتْعَابِ النَّفْسِ وَإِعْمَالِ الْفِكْرِ فَيَتَبَيَّنُ الْمُجِدُّ مِنْ الْمُقَصِّرِ وَالْمُجْتَهِدُ مِنْ الْمُفَرِّطِ فَيَكُونُ ثَوَابُهُمْ بِقَدْرِ اجْتِهَادِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ عَلَى قَدْرِ عُلُومِهِمْ فَيَظْهَرُ فَضِيلَةُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى الرُّجُوعِ إلَيْهِمْ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاسْتَوَتْ الْأَقْدَامُ وَلَمْ يَتَمَيَّزْ الْخَاصُّ مِنْ الْعَامِّ وَلَذَهَبَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ النَّاسِ وَلَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا تَفَاوَتُوا، فَإِذَا اسْتَوَوْا هَلَكُوا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى، {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام: 165] ، وَوَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ تَعَالَى ابْتَلَى عِبَادَهُ بِضُرُوبٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ بَعْضُهَا عَلَى كُلِّ الْبَدَنِ كَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا وَبَعْضُهَا مُتَفَرِّقٌ عَلَى الْأَعْضَاءِ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِكُلِّ عُضْوٍ إقْدَامًا وَامْتِنَاعًا وَالْقَلْبُ أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ فَابْتَلَاهُ بِإِنْزَالِ الْخَفِيِّ وَالْمُشْكِلِ وَالْمُتَشَابِهِ لِيَتْعَبَ بِالتَّفَكُّرِ فِيمَا سِوَى الْمُتَشَابِهِ فَيُخَرِّجَهُ عَلَى مُوَافَقَةِ الظَّاهِرِ الْجَلِيِّ وَيَمْتَنِعَ عَنْ التَّفَكُّرِ فِي الْمُتَشَابِهِ مُعْتَقِدًا حَقِّيَّتَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ عِبَادَةً مِنْهُ كَعِبَادَاتِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ بِالْإِقْدَامِ وَالِامْتِنَاعِ، وَذَكَرَ فِي عَيْنِ الْمَعَانِي الْحِكْمَةُ فِي إنْزَالِ الْمُتَشَابِهِ ابْتِلَاءُ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ فِي تَكْلِيفِ الْأَحْكَامِ ابْتِلَاءَ الْعَاقِلِ وَلَهُ مِنْ

وَهَذَا أَعْظَمُ الْوَجْهَيْنِ بَلْوَى وَأَعَمُّهُمَا نَفْعًا وَجَدْوَى وَهَذَا يُقَابِلُ الْمُحْكَمَ وَمِثَالُهُ الْمُقَطَّعَاتُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ ـــــــــــــــــــــــــــــQتَفَهُّمِ مَعَانِيهَا وَحُكْمِهَا مَفْزَعٌ إلَى الْعَقْلِ فَلَوْ لَمْ يُبْتَلَ الْعَقْلُ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْخَلَائِقِ لَاسْتَمَرَّ الْعَالَمُ فِي أُبَّهَةِ الْعِلْمِ عَلَى الْمُرُودَةِ، وَمَا اسْتَأْنَسَ إلَى التَّذَلُّلِ لِعِزِّ الْعُبُودَةِ. وَالْحَكِيمُ إذَا صَنَّفَ كِتَابًا رُبَّمَا أَجْمَلَ فِيهِ إجْمَالًا وَأَبْهَمَ فِيمَا أَفْهَمَ مِنْهُ إشْكَالًا لِيَكُونَ مَوْضِعَ جَثْوَةِ التِّلْمِيذِ لِأُسْتَاذِهِ انْقِيَادًا فَلَا يُحْرَمَ بِاسْتِغْنَائِهِ بِرَأْيِهِ هِدَايَةً مِنْهُ وَإِرْشَادًا فَالْمُتَشَابِهُ هُوَ مَوْضِعُ جَثْوَةِ الْعُقُولِ لِبَارِئِهَا اسْتِسْلَامًا وَاعْتِرَافًا بِقُصُورِهَا وَالْتِزَامًا. قَوْلُهُ (وَهَذَا أَعْظَمُ الْوَجْهَيْنِ بَلْوَى) أَيْ الْوَقْفُ عَنْ الطَّلَبِ أَعْظَمُ ابْتِلَاءً مِنْ الْإِمْعَانِ فِي الطَّلَبِ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ جُبِلَ عَلَى صِفَةٍ يَتَأَمَّلُ فِي غَوَامِضِ الْأَشْيَاءِ لِيَقِفَ عَلَى حَقَائِقِهَا فَكَانَ مَنْعُهُ عَنْ ذَلِكَ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى تَحْصِيلِ مَا يَمِيلُ إلَيْهِ كَمَا أَنَّ الِابْتِلَاءَ بِالتَّرْكِ فِي حَقِّ سَائِرِ الْجَوَارِحِ أَشَدُّ مِنْ الِابْتِلَاءِ بِالْعَمَلِ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ مَائِلَةٌ إلَى الشَّهَوَاتِ فَكَانَ امْتِنَاعُهَا عَنْهَا أَشَقُّ عَلَيْهَا مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْعَمَلِ؛ وَلِهَذَا كَانَ ثَوَابُهُ أَجْزَلَ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ، «لَتَرْكُ ذَرَّةٍ مِمَّا نَهَى اللَّهُ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ الثَّقَلَيْنِ» وَلِهَذَا اُخْتُصَّ بِهِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ ابْتِلَاءَ الرَّجُلِ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «إنَّ أَشَدَّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَوْلِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ» ، وَأَعَمُّهَا نَفْعًا أَيْ فِي الدُّنْيَا بِالْأَمْنِ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الزَّيْغِ وَالزَّلَلِ بِسَبَبِ الِاتِّبَاعِ، وَجَدْوَى أَيْ فِي الْآخِرَةِ بِكَثْرَةِ الثَّوَابِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَعْظَمَ ابْتِلَاءً كَانَ الصَّبْرُ فِيهِ أَشَدَّ فَيَكُونُ الثَّوَابُ فِيهِ أَكْثَرَ، وَبَلْوَى وَجَدْوَى كِلَاهُمَا بِلَا تَنْوِينٍ كَدَعْوَى ثُمَّ الْخَلَفُ مَعَ كَوْنِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَسْلَمَ وَأَعَمَّ نَفْعًا عَدَلُوا عَنْهَا وَاشْتَغَلُوا بِتَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهِ لِظُهُورِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ بَعْدَ انْقِرَاضِ زَمَانِ السَّلَفِ وَتَمَسُّكِهِمْ بِالْمُتَشَابِهَاتِ فِي إثْبَاتِ مَذَاهِبِهِمْ الْبَاطِلَةِ فَاضْطَرَّ الْخَلَفُ إلَى إلْزَامِهِمْ وَإِبْطَالِ دَلَائِلِهِمْ فَاحْتَاجُوا إلَى التَّأْوِيلِ. وَلِهَذَا قِيلَ طَرِيقَةُ السَّلَفِ أَسْلَمُ وَطَرِيقَةُ الْخَلَفِ أَحْكَمُ قَوْلُهُ (وَمِثَالُهُ الْمُقَطَّعَاتُ) أَيْ مِثَالُ الْمُتَشَابِهِ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ أَيْ الْحُرُوفُ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يُقَطَّعَ فِي التَّكَلُّمِ كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا عَنْ الْبَاقِي بِأَنْ يُؤْتَى بِاسْمِ كُلٍّ مِنْهَا عَلَى هَيْئَتِهِ كَقَوْلِهِ أَلِفْ لَامْ مِيمْ بِخِلَافِ قَوْلِهِ " أَلَمْ " فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُوصَلَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ لِيُفِيدَ الْمَعْنَى وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ؛ وَإِنْ كَانَ اسْمًا حَقِيقَةً لَكِنَّهَا تُسَمَّى حُرُوفًا بِاعْتِبَارِ مَدْلُولَاتِهَا تَجَوُّزًا، ثُمَّ قِيلَ هِيَ مِنْ الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي لَمْ يُطْلِعْ اللَّهُ عَلَيْهِ الْخَلَائِقَ إلَّا مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ فَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا وَلَا يُطْلَبُ لَهَا التَّأْوِيلُ، وَقِيلَ هِيَ مِنْ أَلْسُنِ الْمَلَائِكَةِ الَّتِي تَفْهَمُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَأَلْسُنِ الطُّيُورِ وَالدَّوَابِّ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِمَّا لَا يُطْلِعُنَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَعْرِفُهُ الرَّسُولُ بِتَعْلِيمِ الْمَلَائِكَةِ إيَّاهُ، وَقِيلَ إنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْمُتَشَابِهِ بَلْ هِيَ مِنْ جِنْسِ التَّكَلُّمِ بِالرَّمْزِ فَيُحْتَمَلُ التَّأْوِيلُ فَيُقْبَلُ كُلُّ تَأْوِيلٍ احْتَمَلَهُ ظَاهِرُ الْكَلَامِ لُغَةً وَلَا يَرُدُّهُ الشَّرْعُ وَلَا يُقْبَلُ تَأْوِيلَاتُ الْبَاطِنِيَّةِ الَّتِي خَرَجَتْ عَنْ الْوُجُوهِ الَّتِي يَحْتَمِلُهَا ظَاهِرُ اللُّغَةِ وَأَكْثَرُهَا مُخَالَفَةً لِلْعَقْلِ وَالْآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ؛ لِأَنَّهَا تَرْكٌ لِلْقُرْآنِ لَا تَأْوِيلٌ كَذَا فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْمُتَشَابِهَاتِ تَأْوِيلُ بَعْضِ السَّلَفِ مِثْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ هَذِهِ الْحُرُوفَ مِنْ غَيْرِ رَدٍّ؛ وَإِنْكَارٍ عَلَيْهِمْ مِنْ الْبَاقِينَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ تَأْوِيلُ الْوَجْهِ وَالْيَدِ وَالِاسْتِوَاءِ بَلْ كَانُوا يَزْجُرُونَ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حِينَ سُئِلَ عَنْ قَوْله تَعَالَى، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] ، الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَالْكَيْفُ

وَمِثَالُهُ إثْبَاتُ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَبْصَارِ حَقًّا فِي الْآخِرَةِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22] {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] ، لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ بِصِفَةِ الْكَمَالِ وَأَنْ يَكُونَ مَرْئِيًّا لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْمُؤْمِنُ لِإِكْرَامِهِ بِذَلِكَ أَهْلٌ لَكِنَّ إثْبَاتَ الْجِهَةِ مُمْتَنِعٌ فَصَارَ بِوَصْفِهِ مُتَشَابِهًا فَوَجَبَ تَسْلِيمُ الْمُتَشَابِهِ عَلَى اعْتِقَادِ الْحَقِّيَّةِ فِيهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالشَّكُّ فِيهِ شِرْكٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ، وَلَمَّا كَانَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ قَوْلَ الْأَكْثَرِ اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ. ثُمَّ قَالَ (وَمِثَالُهُ إثْبَاتُ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى) وَلَمْ يَقُلْ، وَكَذَلِكَ إثْبَاتُ رُؤْيَةِ اللَّهِ كَمَا قَالَ، وَكَذَلِكَ إثْبَاتُ الْوَجْهِ وَالْيَدِ فَرْقًا بَيْنَ مَا هُوَ مُخْتَلِفٌ فِي كَوْنِهِ مُتَشَابِهًا وَبَيْنَ مَا هُوَ مُتَشَابِهٌ بِالِاتِّفَاقِ أَوْ فَرْقًا بَيْنَ مَا تَشَابَهَ لَفْظُهُ وَبَيْنَ مَا تَشَابَهَ مَعْنَاهُ. وَقَوْلُهُ إثْبَاتُ رُؤْيَةِ اللَّهِ أَيْ إثْبَاتُ كَيْفِيَّتِهَا؛ لِأَنَّ نَفْسَ الرُّؤْيَةِ لَيْسَتْ بِمُتَشَابِهَةٍ كَذَا قِيلَ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْإِثْبَاتِ إثْبَاتُهَا فِي الِاعْتِقَادِ لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إذْ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْحُدُوثِ بَلْ هِيَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ثَابِتَةٌ، وَقَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ بِصِفَةِ الْكَمَالِ إشَارَةٌ إلَى عِلَّةِ جَوَازِ الرُّؤْيَةِ؛ فَإِنَّهَا الْوُجُودُ عِنْدَنَا عَلَى مَا عُرِفَ، وَقَوْلُهُ وَأَنْ يَكُونَ مَرْئِيًّا لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ؛ لِأَنَّ فِي الشَّاهِدِ عَدَمَ رُؤْيَةِ مَا عُرِفَ مَوْجُودًا أَمَارَةَ الْعَجْزِ وَالنُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ مَنْ يَتَسَتَّرُ عَنْ النَّاسِ إنَّمَا يَتَسَتَّرُ لِعَيْبٍ بِهِ وَلِنُقْصَانٍ حَلَّ فِيهِ أَوْ لِعَجْزِهِ عَنْ مُقَاوَمَةِ النَّاسِ فِي إيذَائِهِمْ إيَّاهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى غَالِبٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ أَجْمَلُ مِنْ كُلِّ جَمِيلٍ مُنَزَّهٌ عَنْ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرْئِيًّا؛ لِأَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَقَوْلُهُ وَالْمُؤْمِنُ لِإِكْرَامِهِ بِذَلِكَ أَهْلٌ أَيْ الْمُؤْمِنُ أَهْلٌ لَأَنْ يُكْرَمَ بِتِلْكَ الْكَرَامَةِ؛ وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَمْتَنِعُ لِعَدَمِ الْأَهْلِ. وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ مُمْكِنًا فَقَالَ الرُّؤْيَةُ مُمْكِنَةٌ عَقْلًا وَالْمُؤْمِنُ أَهْلٌ لَهَا كَمَا هُوَ أَهْلٌ لِغَيْرِهَا مِنْ الْكَرَامَاتِ الَّتِي لَمْ تَخْطِرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ وَقَدْ وَرَدَ بِهَا السَّمْعُ فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِثُبُوتِهَا، وَاعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ الْمُعْتَزِلَةِ يَقُولُونَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرَى ذَاتَه وَلَكِنْ لَا يُرَى وَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْكَرُوا أَنْ يَرَى وَيُرَى فَقَوْلُهُ أَنْ يَكُونَ مَرْئِيًّا لِنَفْسِهِ رَدٌّ لِقَوْلِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ وَإِشَارَةٌ إلَى الْإِلْزَامِ عَلَى الْأَكْثَرِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ يَرَى ذَاتَه كَانَتْ رُؤْيَةُ ذَاتِهِ مُمْكِنَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِمَا هُوَ مُسْتَحِيلٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ يَرَى الْمَعْدُومَ؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْمَعْدُومِ مُسْتَحِيلَةٌ وَلَمَّا كَانَتْ مُمْكِنَةً يَجُوزُ أَنْ يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ بِلَا كَيْفٍ وَجِهَةٍ كَمَا يَرَى هُوَ نَفْسَهُ بِلَا كَيْفٍ وَجِهَةٍ قَوْلُهُ (لَكِنَّ إثْبَاتَ الْجِهَةِ مُمْتَنِعٌ) ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الرُّؤْيَةِ فِي الشَّاهِدِ أَنْ يَكُونَ الْمَرْئِيُّ فِي جِهَةٍ مِنْ الرَّائِي وَأَنْ يَكُونَ مُقَابِلًا لَهُ وَمُحَاذِيًا وَيَكُونَ بَيْنَهُمَا مَسَافَةٌ مُقَدَّرَةٌ لَا فِي غَايَةِ الْقُرْبِ وَلَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ فَصَارَ إثْبَاتُ الرُّؤْيَةِ بِوَصْفِهِ أَيْ بِكَيْفِيَّتِهِ مُتَشَابِهًا أَيْ بِحَيْثُ لَا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ فَنُسَلِّمُ ذَلِكَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَا نَشْتَغِلُ بِالتَّأْوِيلِ، وَمَنْ جَوَّزَ التَّأْوِيلَ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ قَالَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَا ذَكَرُوا مِنْ الْقَرَائِنِ اللَّازِمَةِ بَلْ هِيَ مِنْ الْأَوْصَافِ الِاتِّفَاقِيَّةِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَرْئِيَّ فِي الشَّاهِدِ ذُو جِهَةٍ يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّهِ الْمُقَابَلَةُ فَيُرَى كَذَلِكَ فَأَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَمُنَزَّهٌ عَنْ الْجِهَةِ وَالْمُقَابَلَةِ وَالْمَسَافَةِ فَيُرَى كَمَا هُوَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ تَحَقُّقُ الشَّيْءِ بِالْبَصَرِ كَمَا هُوَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرَانَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14] ، وَقَدْ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَرُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى إيَّانَا مِنْ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ وَلَا جِهَةٍ فَعُلِمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْقَرَائِنِ اللَّازِمَةِ لِلرُّؤْيَةِ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ الْقَرَائِنِ اللَّازِمَةِ الذَّاتِيَّةِ لَا يَتَبَدَّلُ بَيْنَ الشَّاهِدِ وَالْغَائِبِ بَلْ هِيَ

وَكَذَلِكَ إثْبَاتُ الْيَدِ وَالْوَجْهِ حَقٌّ عِنْدَنَا مَعْلُومٌ بِأَصْلِهِ مُتَشَابِهٌ بِوَصْفِهِ، وَلَنْ يَجُوزَ إبْطَالُ الْأَصْلِ بِالْعَجْزِ عَنْ دَرْكِ الْوَصْفِ؛ وَإِنَّمَا ضَلَّتْ الْمُعْتَزِلَةُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَإِنَّهُمْ رَدُّوا الْأُصُولَ لِجَهْلِهِمْ بِالصِّفَاتِ فَصَارُوا مُعَطِّلَةً ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ الْأَوْصَافِ الِاتِّفَاقِيَّةِ كَكَوْنِ الثَّانِي فِي الشَّاهِدِ مُحْدَثًا وَذَا صُورَةٍ وَدَمٍ وَلَحْمٍ مَعَ فَوَاتِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ فِي الْغَائِبِ بِالِاتِّفَاقِ لِكَوْنِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ اتِّفَاقِيَّةً فَعَلَى هَذَا لَمْ يَبْقَ التَّشَابُهُ فِي الْوَصْفِ أَيْضًا لِزَوَالِهِ بِالتَّأْوِيلِ وَاَللَّهُ الْهَادِي. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَكَإِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ إثْبَاتُ الْوَجْهِ وَالْيَدِ لِلَّهِ تَعَالَى حَقٌّ عِنْدَنَا فَبِقَوْلِهِ عِنْدَنَا احْتَرَزَ عَنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ لَا يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى سُبْحَانَهُ بِالْوَجْهِ وَالْيَدِ بَلْ الْمُرَادُ مِنْ الْوَجْهِ الرِّضَاءُ أَوْ الذَّاتُ وَنَحْوُهُمَا وَمِنْ الْيَدِ الْقُدْرَةُ أَوْ النِّعْمَةُ وَنَحْوُهَا فَقَالَ الشَّيْخُ: بَلْ اللَّهُ تَعَالَى يُوصَفُ بِصِفَةِ الْوَجْهِ وَالْيَدِ مَعَ تَنْزِيهِهِ جَلَّ جَلَالُهُ عَنْ الصُّورَةِ وَالْجَارِحَةِ؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ وَالْيَدَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ فِي الشَّاهِدِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا وَجْهَ لَهُ أَوْ لَا يَدَ يُعَدُّ نَاقِصًا، وَهُوَ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ فَيُوصَفُ بِهِمَا أَيْضًا إلَّا أَنَّ إثْبَاتَ الصُّورَةِ وَالْجَارِحَةِ مُسْتَحِيلٌ، وَكَذَا إثْبَاتُ الْكَيْفِيَّةِ فَتَشَابَهَ وَصْفُهُ فَيَجِبُ تَسْلِيمُهُ عَلَى اعْتِقَادِ الْحَقِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ اشْتِغَالٍ بِالتَّأْوِيلِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي أَمْثَالِ مَا ذَكَرْنَا يَتْبَعُ اللَّفْظُ الَّذِي وَرَدَ بِهِ النَّصُّ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَا يُشْتَقُّ مِنْهُ الِاسْمُ وَلَا يُقَالُ: اللَّهُ تَعَالَى مُتَوَجِّهٌ إلَى فُلَانٍ بِنَظَرِ الرَّحْمَةِ أَوْ الْعِنَايَةِ وَلَا يُبَدَّلُ بِلَفْظٍ آخَرَ لَا بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَا بِغَيْرِهَا فَلَا يُبَدَّلُ لَفْظُ الْعَيْنِ بِالْبَاصِرَةِ وَلَا لَفْظُ الْقَدَمِ بِالرِّجْلِ وَلَا يُقَالُ بِالْفَارِسِيَّةِ أَيْضًا " جثم خداي وروى خداي ودست خداي " وَغَيْرُ ذَلِكَ. قَوْلُهُ (وَلَنْ يَجُوزَ إبْطَالُ الْأَصْلِ) أَيْ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِأَنَّ الْقَوْلَ الرُّؤْيَةُ وَالْوَجْهُ وَالْيَدُ بَاطِلٌ بِالْعَجْزِ عَنْ دَرْكِ الْوَصْفِ أَيْ الْكَيْفِيَّةِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ الْمَتْبُوعِ بِالتَّبَعِ وَالْأَصْلِ بِالْفَرْعِ وَذَلِكَ كَمَنْ رَأَى شَخْصًا عَلَى شَطِّ نَهْرٍ عَظِيمٍ لَا يُتَصَوَّرُ الْعُبُورُ مِنْهُ بِدُونِ سَفِينَةٍ وَمَلَّاحٍ ثُمَّ رَأَى ذَلِكَ الشَّخْصَ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشَاهِدَ سَفِينَةً وَمَلَّاحًا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُنْكِرَ عُبُورَهُ مِنْ النَّهْرِ؛ وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ كَيْفِيَّةَ الْعُبُورِ، فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِمَا ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ جَوَازُ الرُّؤْيَةِ وَصِفَةُ الْوَجْهِ وَالْيَدِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ لَا يَجُوزُ إنْكَارُهَا بِالْعَجْزِ عَنْ دَرْكِ أَوْصَافِهَا وَالْجَهْلِ بِطَرِيقِ ثُبُوتِهَا، فَإِنَّهُمْ رَدُّوا الْأُصُولَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ رَدُّوا أَصْلَ الرُّؤْيَةِ وَالْوَجْهِ وَالْيَدِ لِجَهْلِهِمْ بِالصِّفَاتِ اللَّامُ فِي الصِّفَاتِ بَدَلُ الْمُضَافِ إلَيْهِ أَيْ بِكَيْفِيَّاتِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ رَدُّوا الْأُصُولَ أَيْ الصِّفَاتِ جَمْعٌ بِأَنْ قَالُوا لَيْسَ لَهُ صِفَةُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحَيَاةِ وَغَيْرِهَا لِجَهْلِهِمْ بِالصِّفَاتِ أَيْ بِكَيْفِيَّةِ ثُبُوتِهَا بِأَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ طَرِيقُهُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصَّانِعَ الْقَدِيمَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالصِّفَاتُ لَوْ ثَبَتَتْ لَكَانَتْ غَيْرَ الذَّاتِ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ إذَا لَمْ تَكُنْ هِيَ الذَّاتُ فَهِيَ غَيْرُ الذَّاتِ لَا مَحَالَةَ كَزَيْدٍ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَمْرًا كَانَ غَيْرَ عَمْرٍ وَلَا مَحَالَةَ وَالْقَوْلُ بِإِثْبَاتِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَغَايِرَةِ فِي الْأَزَلِ مُنَافٍ لِلتَّوْحِيدِ وَمِنْ هَذَا سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ أَهْلَ التَّوْحِيدِ وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ أَبْطَلُوا تَوْحِيدَهُمْ بِتَوْحِيدِهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ فَصَارُوا مُعَطِّلَةً أَيْ فِرْقَةً مُعَطِّلَةً أَيْ قَائِلَةً بِخُلُوِّ الذَّاتِ عَنْ الصِّفَاتِ، وَالتَّعْطِيلُ فِي الْأَصْلِ نَزْعُ الْحُلِيِّ مِنْ امْرَأَةٍ مَأْخُوذٌ مِنْ عُطِّلَتْ الْمَرْأَةُ عَطَلًا إذَا خَلَا جِيدُهَا مِنْ الْقَلَائِدِ إلَّا أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي التَّخْلِيَةِ عَنْ الصِّفَاتِ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الزِّينَةِ وَلِهَذَا يُقَالُ حِلْيَتُهُ كَذَا أَيْ هَيْئَتُهُ الَّتِي هِيَ صِفَتُهُ؛ لِأَنَّ تَزَيُّنَهُ بِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ الْعُطْلَةِ أَيْ عَطَّلُوا

[القسم الثالث وجوه استعمال النظم]

وَتَفْسِيرُ الْقِسْمِ الثَّالِثِ أَنَّ الْحَقِيقَةَ اسْمٌ لِكُلِّ لَفْظٍ أُرِيدَ بِهِ مَا وُضِعَ لَهُ مَأْخُوذٌ مِنْ حَقِّ الشَّيْءِ يَحِقُّ حَقًّا، فَهُوَ حَقٌّ وَحَاقٌّ وَحَقِيقٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQالنُّصُوصَ وَتَرَكُوهَا بِلَا عَمَلٍ فَصَارُوا مُعَطِّلَةً لَهَا. [الْقِسْمِ الثَّالِثِ وُجُوه اسْتِعْمَال النَّظْم] [تَعْرِيف الْحَقِيقَةَ] [أَقْسَام الْحَقِيقَة] قَوْلُهُ (وَتَفْسِيرُ الْقِسْمِ الثَّالِثِ) أَيْ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَصْلِ التَّقْسِيمِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الرَّابِعِ أَيْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقِسْمِ الْمُقَابِلِ، الْحَقِيقَةُ كُلُّ لَفْظٍ أُرِيدَ بِهِ مَا وُضِعَ لَهُ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ذِكْرَ كَلِمَةِ كُلِّ فِي التَّعْرِيفِ مُسْتَبْعَدٌ وَاعْتَذَرْنَا عَنْهُ. وَقَوْلُهُ كُلُّ لَفْظٍ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْحَقِيقَةَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ لَا الْمَعَانِي، وَكَذَا الْمَجَازُ إذْ الْمُرَادُ مِنْ كَلِمَةِ مَا فِي تَعْرِيفِهِ اللَّفْظَ أَيْضًا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَقِيقَةَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ لُغَوِيَّةٌ وَشَرْعِيَّةٌ وَعُرْفِيَّةٌ وَالسَّبَبُ فِي انْقِسَامِهَا هَذَا هُوَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ وَضْعٍ وَالْوَضْعُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَاضِعٍ فَمَتَى تَعَيَّنَ نُسِبَتْ إلَيْهِ الْحَقِيقَةُ فَقِيلَ لُغَوِيَّةٌ إنْ كَانَ صَاحِبُ وَضْعِهَا وَاضِعَ اللُّغَةِ كَالْإِنْسَانِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْحَيَوَانِ النَّاطِقِ وَقِيلَ شَرْعِيَّةٌ إنْ كَانَ صَاحِبُ وَضْعِهَا الشَّارِعَ كَالصَّلَاةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي الْعِبَادَةِ الْمَخْصُوصَةِ وَمَتَى لَمْ يَتَعَيَّنْ قِيلَ عُرْفِيَّةٌ سَوَاءٌ كَانَ عُرْفًا عَامًّا كَالدَّابَّةِ لِذَوَاتِ الْأَرْبَعِ أَوْ خَاصًّا كَمَا لِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ الِاصْطِلَاحَاتِ الَّتِي تَخُصُّهُمْ كَالنَّقْضِ وَالْقَلْبِ وَالْجَمْعِ وَالْفَرْقِ لِلْفُقَهَاءِ وَالْجَوْهَرُ وَالْعَرَضُ وَالْكَوْنُ لِلْمُتَكَلِّمِينَ وَالرَّفْعُ وَالنَّصْبُ وَالْجَرُّ لِلنُّحَاةِ، وَلَا يُسْتَرَابُ فِي انْقِسَامِ الْمَجَازِ إلَى نَحْوِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي النَّاطِقِ مَجَازٌ لُغَوِيٌّ وَالصَّلَاةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي الدُّعَاءِ مَجَازٌ شَرْعِيٌّ؛ وَإِنْ كَانَتْ حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً وَالدَّابَّةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي كُلِّ مَا يَدِبُّ مَجَازٌ عُرْفِيٌّ؛ وَإِنْ كَانَتْ حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً، وَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْوَضْعِ، وَهُوَ تَعْيِينُ اللَّفْظَةِ بِإِزَاءِ مَعْنًى بِنَفْسِهَا فِي التَّعْرِيفَيْنِ مُطْلَقُ الْوَضْعِ فَيَدْخُلُ فِيهِمَا الْأَقْسَامُ السِّتَّةُ وَلَا بُدَّ فِي تَعْرِيفِ الْمَجَازِ مِنْ قَيْدٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لِعَلَاقَةٍ مَخْصُوصَةٍ بَيْنَ الْمَحَلَّيْنِ أَوْ نَحْوِهِ كَمَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْمُخْتَصَرِ لِاتِّصَالٍ بَيْنَهُمَا مَعْنًى أَوْ ذَاتًا وَإِلَّا يُنْتَقَضْ بِمَا إذَا اسْتَعْمَلَ لَفْظَ السَّمَاءِ فِي الْأَرْضِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَجَازٍ؛ وَإِنْ كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ بَلْ هُوَ وَضْعٌ جَدِيدٌ. وَلَا يُقَالُ تَعْرِيفُ الْمَجَازِ بِمَا ذُكِرَ مَعَ هَذَا الْقَيْدِ الَّذِي شَرَطْت غَيْرُ جَامِعٍ لِخُرُوجِ التَّجَوُّزِ بِتَخْصِيصِ الِاسْمِ بِبَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ فِي اللُّغَةِ كَتَخْصِيصِ الدَّابَّةِ بِذَوَاتِ الْأَرْبَعِ عَنْهُ إذْ لَيْسَ هُوَ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ وَخُرُوجُ التَّجَوُّزِ بِزِيَادَةِ الْكَافِ فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، عَنْهُ لِعَدَمِ اسْتِعْمَالِهَا فِي شَيْءٍ أَصْلًا وَغَيْرُ مَانِعٍ لِدُخُولِ الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ فِيهِ لِكَوْنِهِمَا مُسْتَعْمَلَتَيْنِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَتَا لَهُ وَالْحَقِيقَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ حَقِيقَةٌ لَا تَكُونُ مَجَازًا لِأَنَّا نُجِيبُ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمُطْلَقِ مُخَالِفَةٌ لِحَقِيقَةِ الْمُقَيَّدِ مِنْ حَيْثُ هُمَا كَذَلِكَ وَإِذَا كَانَ لَفْظُ الدَّابَّةِ حَقِيقَةً فِي مُطْلَقِ كُلِّ دَابَّةٍ فَاسْتِعْمَالُهُ فِي الدَّابَّةِ الْمُقَيَّدَةِ عَلَى الْخُصُوصِ يَكُونُ اسْتِعْمَالًا لَهُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْكَافَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَعْنًى كَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً لَا فِيمَا وُضِعَتْ لَهُ أَوَّلًا وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّهُمَا؛ وَإِنْ كَانَتَا حَقِيقَتَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى تَوَاضُعِ أَهْلِ الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ فَلَا يَخْرُجَانِ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِمَا مُجَازَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى اسْتِعْمَالِهِمَا فِي غَيْرِ مَا وُضِعَتَا لَهُ أَوَّلًا فِي اللُّغَةِ إذْ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَ كَوْنِ اللَّفْظِ حَقِيقَةً بِاعْتِبَارٍ وَمَجَازًا بِاعْتِبَارٍ آخَرَ، وَاخْتَارَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ فِي تَعْرِيفِهِمَا أَنَّ الْحَقِيقَةَ مَا أُفِيدَ بِهَا مَا وُضِعَتْ لَهُ فِي أَصْلِ الِاصْطِلَاحِ الَّذِي وَقَعَ التَّخَاطُبُ بِهِ وَقَدْ دَخَلَ فِيهِ الْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ وَالشَّرْعِيَّةُ وَالْعُرْفِيَّةُ. [تَعْرِيف الْمَجَاز] (وَالْمَجَازُ) مَا أُفِيدَ بِهِ غَيْرُ مَا اُصْطُلِحَ عَلَيْهِ فِي أَصْلِ تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ الَّتِي وَقَعَ

وَالْمَجَازُ اسْمٌ لِمَا أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ مَا وُضِعَ لَهُ مُفْعَلٌ مِنْ جَازَ يَجُوزُ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أَيْ مُتَعَدٍّ عَنْ أَصْلِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّخَاطُبِ بِهَا لِعَلَاقَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ وَقَدْ دَخَلَ فِيهِ الْمَجَازُ اللُّغَوِيُّ وَالشَّرْعِيُّ وَالْعُرْفِيُّ أَيْضًا وَلَكِنْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هَذَا التَّعْرِيفُ يَقْتَضِي خُرُوجَ الِاسْتِعَارَةِ عَنْهُ، وَكَذَا التَّعْرِيفُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّا إذَا قُلْنَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ هَذَا أَسَدٌ قَدَّرْنَا صَيْرُورَتَهُ فِي نَفْسِهِ أَسَدًا لِبُلُوغِهِ فِي الشَّجَاعَةِ الَّتِي هِيَ خَاصَّةُ الْأَسَدِ إلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى ثُمَّ أَطْلَقْنَا عَلَيْهِ اسْمَ الْأَسَدِ فَلَا يَكُونُ هَذَا اسْتِعْمَالًا لِلَّفْظِ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ، وَيُجَابُ عَنْهُ أَنَّ تَعْظِيمَهُ بِتَقْدِيرِ حُصُولِ قُوَّةٍ لَهُ مِثْلَ قُوَّةِ الْأَسَدِ لَا يُوجِبُ تَحْقِيقَ ذَلِكَ وَالتَّعْرِيفُ لِلْحَقَائِقِ فَيَكُونُ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْأَسَدِ فِيهِ اسْتِعْمَالًا لَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ حَقِيقَةً، وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمِفْتَاحِ فِيهِ أَنَّ الْحَقِيقَةَ هِيَ الْكَلِمَةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِيمَا هِيَ مَوْضُوعَةٌ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ فِي الْوَضْعِ كَاسْتِعْمَالِ الْأَسَدِ فِي الْهَيْكَلِ الْمَخْصُوصِ فَلَفْظُ الْأَسَدِ مَوْضُوعٌ لَهُ بِالتَّحْقِيقِ وَلَا تَأْوِيلَ فِيهِ، قَالَ؛ وَإِنَّمَا ذَكَرْت هَذَا الْقَيْدَ لِيُحْتَرَزَ بِهِ عَنْ الِاسْتِعَارَةِ فَفِي الِاسْتِعَارَةِ تُعَدُّ الْكَلِمَةُ مُسْتَعْمَلَةً فِيمَا هِيَ مَوْضُوعَةٌ لَهُ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ وَلَا نُسَمِّيهَا حَقِيقَةً لِبِنَاءِ دَعْوَى الْمُسْتَعَارِ مَوْضُوعًا لِلْمُسْتَعَارِ لَهُ عَلَى ضَرْبٍ مِنْ التَّأْوِيلِ، قَالَ وَالْمَجَازُ هُوَ الْكَلِمَةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي غَيْرِ مَا هِيَ مَوْضُوعَةٌ لَهُ بِالتَّحْقِيقِ اسْتِعْمَالًا فِي الْغَيْرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَوْعِ حَقِيقَتِهَا مَعَ قَرِينَةٍ مَانِعَةٍ عَنْ إرَادَةِ مَعْنَاهَا فِي ذَلِكَ النَّوْعِ، قَالَ وَقَوْلِي بِالتَّحْقِيقِ احْتِرَازٌ مِنْ خُرُوجِ الِاسْتِعَارَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ نَظَرًا إلَى دَعْوَى اسْتِعْمَالِهَا فِيمَا هِيَ مَوْضُوعَةٌ لَهُ، وَقَوْلِي مَعَ قَرِينَةٍ مَانِعَةٍ إلَى آخِرِهِ احْتِرَازٌ عَنْ الْكِنَايَةِ فَإِنَّ الْكِنَايَةَ تُسْتَعْمَلُ وَتُرَادُ بِهَا الْمُكَنَّى فَتَقَعُ مُسْتَعْمَلَةً فِي غَيْرِ مَا هِيَ مَوْضُوعَةٌ لَهُ مَعَ أَنَّا لَا نُسَمِّيهَا مَجَازًا لِعَرَائِهَا عَنْ هَذَا الْقَيْدِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فَعِيلًا إذَا كَانَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ يَلْحَقُهُ تَاءُ التَّأْنِيثِ لِقُرْبِ الْفَاعِلِ مِنْ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِي لُحُوقِ تَاءِ التَّأْنِيثِ بِهِ وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ غَيْرُ جَارٍ عَلَى مَوْصُوفٍ، فَكَذَلِكَ تَقُولُ مَرَرْت بِقَتِيلِ بَنِي فُلَانٍ وَقَتِيلَتِهِمْ رَفْعًا لِلِالْتِبَاسِ؛ وَإِنْ كَانَ جَارِيًا عَلَى مَوْصُوفٍ لَا يَلْحَقُهُ التَّاءُ تَقُولُ رَجُلٌ قَتِيلٌ وَامْرَأَةٌ جَرِيحٌ، ثُمَّ الْحَقِيقَةُ إمَّا فَعَيْلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ مِنْ حَقَّ الشَّيْءُ يَحِقُّ إذَا وَجَبَ وَثَبَتَ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ، وَإِمَّا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنْ حَقَّقْت الشَّيْءَ أُحِقُّهُ إذَا أَثْبَتُّهُ فَيَكُونُ مَعْنَاهَا الثَّابِتَةُ أَوْ الْمُثَبَّتَةُ فِي مَوْضِعِهَا الْأَصْلِيِّ، وَالتَّاءُ لِلتَّأْنِيثِ إذَا كَانَتْ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَلِشَبَهِ التَّأْنِيثِ، وَهُوَ نَقْلُ اللَّفْظِ مِنْ الْوَصْفِيَّةِ إلَى الِاسْمِيَّةِ الصِّرْفَةِ كَالنَّطِيحَةِ وَالْأَكِيلَةِ إذَا كَانَتْ بِالْمَعْنَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ النَّقْلَ ثَانٍ كَمَا أَنَّ التَّأْنِيثَ ثَانٍ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمِفْتَاحِ: هِيَ عِنْدِي لِلتَّأْنِيثِ فِي الْوَجْهَيْنِ بِتَقْدِيرِ لَفْظِ الْحَقِيقَةِ قَبْلَ التَّسْمِيَةَ صِفَةَ مُؤَنَّثٍ غُيِّرَ مُجْرَاةٌ عَلَى الْمَوْصُوفِ، وَالْمَجَازُ مَفْعَلُ بِمَعْنَى فَاعِلٍ مِنْ الْجَوَازِ بِمَعْنَى الْعُبُورِ وَالتَّعَدِّي؛ لِأَنَّ الْكَلِمَةَ إذَا اسْتَعْمَلَتْ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهَا فَقَدْ تَعَدَّتْ مَوْضِعَهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ مُتَعَدٍّ مِنْ أَصْلِهِ أَيْ عَنْ مَوْضِعِهِ الْأَصْلِيِّ؛ وَلِهَذَا قِيلَ إنَّهُ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ فِي مَعْنَاهُ مَجَازٌ لُغَوِيٌّ؛ لِأَنَّ بِنَاءَ الْمَفْعَلِ لِلْمَوْضِعِ أَوْ لِلْمَصْدَرِ حَقِيقَةً لَا لِلْفَاعِلِ فَإِطْلَاقُهُ عَلَى اللَّفْظِ الْمُنْتَقِلِ لَا يَكُونُ إلَّا مَجَازًا؛ وَلِأَنَّ حَقِيقَةَ مَعْنَى الْعُبُورِ وَالتَّعَدِّي إنَّمَا تَحْصُلُ فِي انْتِقَالِ الْجِسْمِ مِنْ حَيِّزٍ إلَى حَيِّزٍ فَأَمَّا فِي الْأَلْفَاظِ فَلَا فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ. وَكَذَا لَفْظُ الْحَقِيقَةِ فِي مَفْهُومِهِ مَجَازٌ لُغَوِيٌّ حَقِيقَةٌ

وَلَا يَنَالُ الْحَقِيقَةَ إلَّا بِالسَّمَاعِ وَلَا تَسْقُطُ عَنْ الْمُسَمَّى أَبَدًا وَالْمَجَازُ يُنَالُ بِالتَّأَمُّلِ فِي طَرِيقِهِ لِيُعْتَبَرَ بِهِ وَيُحْتَذَى بِمِثَالِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQعُرْفِيَّةٌ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْحَقِّ، وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الثَّابِتِ ثُمَّ إنَّهُ نُقِلَ إلَى الْعَقْدِ الْمُطَابِقِ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِالْوُجُودِ مِنْ الْعَقْدِ الْغَيْرِ الْمُطَابِقِ ثُمَّ نُقِلَ إلَى الْقَوْلِ الْمُطَابِقِ لِعَيْنِ هَذِهِ الْعِلَّةِ ثُمَّ نُقِلَ إلَى اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَوْضُوعِهِ الْأَصْلِيِّ إذْ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ تَحْقِيقٌ لِذَلِكَ الْوَضْعِ فَظَهَرَ أَنَّهُ مَجَازٌ وَاقِعٌ فِي الرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ بِحَسَبِ اللُّغَةِ الْأَصْلِيَّةِ كَذَا قِيلَ، وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى أَنَّ لَفْظَةَ الْحَقِيقَةِ مُشْتَرَكَةٌ قَدْ يُرَادُ بِهَا ذَاتُ الشَّيْءِ وَحْدَهُ وَلَكِنْ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي الْأَلْفَاظِ أُرِيدَ بِهَا مَا اُسْتُعْمِلَ فِي مَوْضُوعِهِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْحَقِيقَةِ فِي مَفْهُومِهِ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ أَيْضًا، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ اسْمٌ لِلثَّابِتَةِ لُغَةً وَاللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضُوعِهِ ثَابِتٌ فِيهِ فَيَكُونُ إطْلَاقُ الْحَقِيقَةِ عَلَيْهِ بِالْحَقِيقَةِ لَا بِالْمَجَازِ، وَاعْلَمْ أَيْضًا أَنَّ اللَّفْظَ بَعْدَ الْوَضْعِ قَبْلَ الِاسْتِعْمَالِ لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ وَلَا مَجَازٍ؛ لِأَنَّ شَرْطَهُمَا اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ بَعْدَ الْوَضْعِ أَمَّا فِي مَوْضُوعِهِ أَوْ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ لِلْعَلَاقَةِ كَمَا بَيَّنَّا وَانْتِفَاءُ الْمَشْرُوطِ بِانْتِفَاءِ الشَّرْطِ غَنِيٌّ عَنْ الْبَيَانِ، وَإِلَى مَا ذَكَرْنَا إشَارَةٌ فِي قَوْلِهِ أُرِيدَ بِهِ مَا وُضِعَ لَهُ وَأُرِيدَ بِهِ غَيْرُ مَا وُضِعَ لَهُ قَوْلُهُ (وَلَا يَنَالُ الْحَقِيقَةَ إلَّا بِالسَّمَاعِ) أَيْ لَا يُوجَدُ وَلَا يُعْرَفُ كَوْنُ اللَّفْظِ حَقِيقَةً فِيمَا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ إلَّا بِالسَّمَاعِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ فِيمَا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ بِخِلَافِ الْمَجَازِ فَإِنَّهُ يُوقَفُ عَلَيْهِ بِالتَّأَمُّلِ فِي طَرِيقِهِ أَوْ مَعْنَاهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ اللَّفْظُ فِي مَوْضُوعِهِ إلَّا بِالسَّمَاعِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ فِيهِ بِخِلَافِ الْمَجَازِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ اللَّفْظُ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ مِنْ غَيْرِ سَمَاعِ أَنَّهُمْ اسْتَعْمَلُوهُ فِيهِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي مَفْهُومِهِ الْحَقِيقِيِّ لِغَيْرِ الْوَاضِعِ مَوْقُوفٌ عَلَى السَّمَاعِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ دَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ لَمَّا لَمْ تَكُنْ ذَاتِيَّةً إذْ لَوْ كَانَتْ ذَاتِيَّةً لَمَا اخْتَلَفَتْ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ وَالْأُمَمِ وَلَاهْتَدَى كُلُّ إنْسَانٍ إلَى كُلِّ لُغَةٍ وَبُطْلَانُ اللَّازِمِ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْمَلْزُومِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْوَضْعِ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ السَّمَاعِ فَأَمَّا اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ فَلَا يَفْتَقِرُ فِي كُلِّ فَرْدٍ إلَى السَّمَاعِ؛ وَإِنْ كَانَ يَفْتَقِرُ فِي مَعْرِفَةِ طَرِيقِهِ إلَيْهِ كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ وَالسَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ وَالْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ وَعَكْسُهُمَا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَالْمَجَازُ يُنَالُ بِالتَّأَمُّلِ فِي طَرِيقِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى اشْتِرَاطِ السَّمَاعِ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ الْمَجَازِ مُحْتَجِّينَ بِأَنَّ السَّمَاعَ لَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ لَجَازَ إطْلَاقُ النَّخْلَةِ عَلَى طَوِيلٍ غَيْرِ إنْسَانٍ كَمَنَارَةٍ مَثَلًا لِوُجُودِ الْعَلَاقَةِ الْمُعْتَبَرَةِ الَّتِي هِيَ كَافِيَةٌ فِي جَوَازِ الْإِطْلَاقِ عِنْدَكُمْ وَهِيَ الْمُشَابَهَةُ الصُّورِيَّةُ وَلَجَازَ إطْلَاقُ الشَّبَكَةِ عَلَى الصَّيْدِ وَإِطْلَاقُ الِابْنِ عَلَى الْأَبِ وَعَكْسِهِمَا لِلْمُجَاوَرَةِ وَالْمُلَازَمَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ إطْلَاقُ الِاسْمِ عَلَى الشَّيْءِ لِلْعَلَاقَةِ مِنْ غَيْرِ السَّمْعِ كَإِطْلَاقِ النَّخْلَةِ عَلَى الْمَنَارَةِ مَثَلًا؛ فَإِنْ كَانَ هَذَا الْإِطْلَاقُ؛ لِأَنَّهَا أُطْلِقَتْ عَلَى الْإِنْسَانِ لِلطُّولِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْمَنَارَةِ لَكَانَ هَذَا قِيَاسًا فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ بَاطِلٌ وَإِلَّا كَانَ اخْتِرَاعًا مِنْ الْمُطْلِقِ وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ وَكَلَامُنَا فِيهَا، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِأَنَّا نَجِدُ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ إذَا وَجَدُوا بَيْنَ مَحَلِّيِّ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ الْعَلَاقَةَ الْمُعْتَبَرَةَ يُطْلِقُونَ الِاسْمَ؛ وَإِنْ لَمْ يُسْمَعْ مِنْ الْعَرَبِ اسْتِعْمَالُ تِلْكَ اللَّفْظَةِ فِيهِ وَلَوْ كَانَ السَّمَاعُ شَرْطًا لَتَوَقَّفُوا فِي الْإِطْلَاقِ عَلَى النَّقْلِ لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ الْمَشْرُوطِ بِدُونِ الشَّرْطِ. وَبِأَنَّ الْكُلَّ اتَّفَقُوا عَلَى

وَمِثَالُ الْمَجَازِ مِنْ الْحَقِيقَةِ مِثَالُ الْقِيَاسِ مِنْ النَّصِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي مَفْهُومِهِ الْمَجَازِيِّ مُفْتَقِرٌ إلَى النَّظَرِ فِي الْعَلَاقَةِ الْمُعْتَبَرَةِ وَمَا يَكُونُ نَقْلِيًّا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ إذْ يَكْفِي فِي اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِيهِ كَوْنُهُ مَنْقُولًا عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ كَمَا فِي جَمِيعِ الْمُسْتَعْمَلَاتِ فَإِنَّا إذَا رَأَيْنَاهُمْ اسْتَعْمَلُوا لَفْظًا بِإِزَاءِ مَعْنًى تَابَعْنَاهُمْ فِي إطْلَاقِهِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى شَيْءٍ آخَرَ، وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوا مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الْإِطْلَاقَاتِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ وُجُودَ الْعَلَاقَةِ إنَّمَا يَكْفِي لِلْإِطْلَاقِ إذَا كَانَتْ الْعَلَاقَةُ مُعْتَبَرَةً وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مَانِعٌ وَفِي الصُّورَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ الْعَلَاقَةُ لَيْسَتْ بِمُعْتَبَرَةٍ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الطُّولِ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ إذْ هُوَ مَعْنًى عَامٌّ وَلَمْ يُطْلَقْ عَلَى الْإِنْسَانِ لِمُجَرَّدِ الطُّولِ بَلْ لَهُ وَلِغَيْرِهِ مِنْ الْأَوْصَافِ، وَكَذَا لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ الشَّبَكَةِ وَالصَّيْدِ إذْ الصَّيْدُ قَدْ يَحْصُلُ بِدُونِ الشَّبَكَةِ وَالشَّبَكَةُ قَدْ لَا يَحْصُلُ بِهَا الصَّيْدُ وَفِي الصُّورَةِ الْأَخِيرَةِ الْمَانِعُ مَوْجُودٌ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْمُتَقَابِلَاتِ وَفِي مِثْلِهِ لَا يُعْتَبَرُ الْمُجَاوَرَةُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَوْ جَازَ لَكَانَ قِيَاسًا أَوْ اخْتِرَاعًا فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ قِيَاسًا لَكَانَ اخْتِرَاعًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا مِنْ مَجَارِي كَلَامِهِمْ صِحَّةُ الْإِطْلَاقِ لَكِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّا قَدْ اسْتَقْرَأْنَا كَلَامَهُمْ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْعَلَاقَةَ مُصَحِّحَةٌ لِلْإِطْلَاقِ كَمَا فِي رَفْعِ الْفَاعِلِ وَنَصْبِ الْمَفْعُولِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَعْلُومَةِ وَإِلَّا لَزِمَ مِمَّا ذَكَرْتُمْ كَوْنُ رَفْعِ الْفَاعِلِ فِيمَا لَمْ يُسْمَعْ عَنْهُمْ قِيَاسًا أَوْ اخْتِرَاعًا وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهِ. وَقَوْلُهُ (وَلَا تَسْقُطُ عَنْ الْمُسَمَّى أَبَدًا) مِنْ إحْدَى الْعَلَامَاتِ الَّذِي يُمَيَّزُ بِهَا الْحَقِيقَةُ عَنْ الْمَجَازِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْحَقِيقَةَ لَا يَنْفِي عَنْ مُسَمَّاهَا بِحَالٍ بِخِلَافِ الْمَجَازِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ نَفْيُهُ عَنْ مَفْهُومِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ وَلِهَذَا لَمَّا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَنْفِيَ لَفْظَ الْأَسَدِ عَنْ الْهَيْكَلِ الْمَخْصُوصِ وَصَحَّ أَنْ يَنْفِيَ عَنْ الْإِنْسَانِ الشُّجَاعِ عَلِمْنَا أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْأَوَّلِ مَجَازٌ فِي الثَّانِي وَقِيلَ التَّعْرِيفُ بِهَذِهِ الْعَلَامَةِ غَيْرُ مُفِيدٍ لِاسْتِلْزَامِهِ الدَّوْرَ وَذَلِكَ لِتَوَقُّفِ النَّفْيِ وَامْتِنَاعِهِ عَلَى كَوْنِ اللَّفْظِ مَجَازًا أَوْ حَقِيقَةً فَإِنَّ مَنْ تَرَدَّدَ فِي كَوْنِ اللَّفْظِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا إنَّمَا يَصِحُّ مِنْهُ النَّفْيُ لَوْ عَلِمَ كَوْنَهُ مَجَازًا وَيَمْتَنِعُ مِنْهُ لَوْ عَلِمَ كَوْنَهُ حَقِيقَةً فَلَوْ تَوَقَّفَ كَوْنُهُ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا عَلَى صِحَّةِ النَّفْيِ وَامْتِنَاعِهِ لَزِمَ الدَّوْرُ. وَلَوْ قِيلَ الْمُرَادُ مِنْ صِحَّةِ النَّفْيِ وَعَدَمِ صِحَّتِهِ وِجْدَانُهُ فِي مَجَارِي اسْتِعْمَالَاتِهِمْ وَعَدَمِ وِجْدَانِهِ فِيهَا لِيَنْدَفِعَ الدَّوْرُ فَهُوَ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ الْوِجْدَانَ إنْ صَلُحَ عَلَامَةً لِلْمَجَازِ ح فَعَدَمُ الْوِجْدَانِ لَا يَصْلُحُ عَلَامَةً لِلْحَقِيقَةِ إذْ عَدَمُ الْوِجْدَانِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُودِ الَّذِي هُوَ الْمَطْلُوبُ فَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ امْتِنَاعُ النَّفْيِ فِي الْحَقِيقَةِ وَصِحَّتُهُ فِي الْمَجَازِ مِنْ الْخَوَاصِّ لَا مِنْ الْعَلَامَاتِ، بَلْ الْمُعْتَبَرُ مِنْ الْعَلَامَاتِ أَنَّ اللَّفْظَ إذَا تَبَادَرَ مَدْلُولُهُ إلَى الْفَهْمِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ بِلَا قَرِينَةٍ فَهُوَ حَقِيقَةٌ؛ وَإِنْ لَمْ يَتَبَادَرْ إلَيْهِ إلَّا بِالْقَرِينَةِ فَهُوَ مَجَازٌ؛ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ إذَا أَرَادُوا إفْهَامَ الْمَعْنَى لِلْغَيْرِ اقْتَصَرُوا عَلَى عِبَارَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، وَإِذَا عَبَّرُوا عَنْهُ بِعِبَارَاتٍ أُخَرَ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَيْهَا بَلْ ذَكَرُوا مَعَهَا قَرِينَةً. قَوْلُهُ (وَمِثَالُ الْمَجَازِ إلَى آخِرِهِ) يَعْنِي كَمَا أَنَّ النَّصَّ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالتَّوْقِيفِ وَلَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُوقَفَ عَلَى حُكْمِ الْفَرْعِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ بِسُلُوكِ طَرِيقِهِ، وَهُوَ التَّأَمُّلُ فِي النَّصِّ وَاسْتِخْرَاجِ الْوَصْفِ الْمُؤَثِّرِ، فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ فِي الْفَرْعِ يُعَدَّى الْحُكْمُ إلَيْهِ، فَكَذَلِكَ الْحَقِيقَةُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ فِي مَحَلٍّ إلَّا بِالسَّمَاعِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَكِنَّ الْمَجَازَ يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ

[تعريف الصريح]

وَأَمَّا الصَّرِيحُ فَمَا ظَهَرَ الْمُرَادُ بِهِ ظُهُورًا بَيِّنًا زَائِدًا وَمِنْهُ سُمِّيَ الْقَصْرُ صَرْحًا لِارْتِفَاعِهِ عَنْ سَائِرِ الْأَبْنِيَةِ وَالصَّرِيحُ الْخَالِصُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ وَأَنْتِ طَالِقٌ وَالْكِنَايَةُ خِلَافُ الصَّرِيحِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي مَحَلٍّ بِالتَّأَمُّلِ فِي طَرِيقِهِ مِنْ غَيْرِ سَمَاعٍ، وَهُوَ التَّأَمُّلُ فِي مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ وَاسْتِخْرَاجِ الْمَعْنَى الْمَشْهُورِ اللَّازِمِ لَهُ، فَإِذَا وُجِدَ فِي مَحَلٍّ آخَرَ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعَارَ اللَّفْظُ لَهُ فَيَصِحُّ هَذَا مِنْ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ كَمَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ مِنْ كُلِّ مُجْتَهِدٍ إلَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقِيَاسِ الْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةُ وَفِي الْمَجَازِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةُ [تَعْرِيف الصَّرِيحُ] قَوْلُهُ (وَأَمَّا الصَّرِيحُ فَمَا ظَهَرَ الْمُرَادُ مِنْهُ ظُهُورًا بَيِّنًا) أَيْ انْكَشَفَ انْكِشَافًا تَامًّا، وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ الظَّاهِرِ، وَقِيلَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَيْدٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ بِالِاسْتِعْمَالِ أَوْ بِالْعُرْفِ وَنَحْوِهِمَا لِيَتَمَيَّزَ عَنْ الْمُفَسَّرِ وَالنَّصِّ إذْ الْفَرْقُ بَيْنَ الصَّرِيحِ وَبَيْنَ مَا ذَكَرْنَا لَيْسَ إلَّا بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي الصَّرِيحِ وَعَدَمِهِ فِي الْمُفَسَّرِ وَالنَّصِّ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْمِيزَانِ إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَرَكَ ذِكْرَهُ لِدَلَالَةِ مَوْرِدِ التَّقْسِيمِ عَلَيْهِ إذْ هَذَا الْقِسْمُ فِي بَيَانِ وُجُوهِ الِاسْتِعْمَالِ فَعَلَى هَذَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ إلَّا الْحَقَائِقُ الْعُرْفِيَّةُ، وَقِيلَ لَا حَاجَةَ إلَى هَذَا الْقَيْدِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ انْكِشَافِ الْمَعْنَى قَدْ يَحْصُلُ بِالتَّنْصِيصِ وَالتَّفْسِيرِ كَمَا يَحْصُلُ بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ فَكَمَا يَدْخُلُ فِيهِ الْحَقَائِقُ الْعُرْفِيَّةُ يَدْخُلُ فِيهِ النَّصُّ وَالْمُفَسَّرُ وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ قِسْمًا مِنْ أَقْسَامِ الصَّرِيحِ وَلَكِنْ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ فِيهِ كَوْنُ الظُّهُورِ بَيِّنًا أَيْ تَامًّا وَلَيْسَ هُوَ فِي الظَّاهِرِ كَذَلِكَ بَلْ فِيهِ مُجَرَّدُ الظُّهُورِ وَلِهَذَا تُوصَفُ الْإِشَارَةُ بِالظُّهُورِ فَيُقَالُ هَذِهِ إشَارَةٌ ظَاهِرَةٌ وَهَذِهِ غَامِضَةٌ وَلَا تُوصَفُ بِالصَّرَاحَةِ أَصْلًا لِعَدَمِ تَمَامِ الِانْكِشَافِ فِيهَا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ السَّيِّدُ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الصَّرِيحَ هُوَ الَّذِي يُعْرَفُ مُرَادُهُ مَعْرِفَةً جَلِيَّةً وَمَا ذَكَرَ الشَّيْخُ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الصَّرِيحَ اسْمٌ لِكَلَامٍ مَكْشُوفِ الْمَعْنَى كَالنَّصِّ سَوَاءٌ كَانَ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، قُلْت هَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ إذْ لَا اسْتِبْعَادَ فِي تَسْمِيَةِ النَّصِّ أَوْ الْمُفَسَّرِ صَرِيحًا وَقَدْ رَأَيْت فِي كَثِيرٍ مِنْ الْكُتُبِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّ مَوْرِدَ التَّقْسِيمِ هَهُنَا يُوجِبُ اشْتِرَاطَ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي النَّصِّ وَالْمُفَسَّرِ إذْ ظُهُورُهُمَا بِاللُّغَةِ لَا بِالِاسْتِعْمَالِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا أَصَحُّ، ثُمَّ لَمَّا اسْتَوَى فِي الصَّرِيحِ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ جَمَعَ الشَّيْخُ فِي إيرَادِ النَّظَائِرِ بَيْنَ مَا هُوَ مَجَازٌ لُغَوِيٌّ وَبَيْنَ مَا هُوَ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ فَقَوْلُهُ أَنْتَ حُرٌّ وَأَنْتِ طَالِقٌ وَنَكَحْت مِنْ قَبِيلِ الْأَوَّلِ. وَقَوْلُهُ بِعْت مِنْ قَبِيلِ الثَّانِي وَقَوْلُهُ (وَهَذَا اللَّفْظُ) أَيْ الصَّرِيحُ مَوْضُوعٌ لِهَذَا الْمَعْنَى أَيْ لَمَّا ظَهَرَ الْمُرَادُ مِنْهُ ظُهُورًا بَيِّنًا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُقَرَّرَةِ، وَهِيَ الَّتِي قُرِّرَتْ عَلَى مَوْضُوعِهَا اللُّغَوِيِّ فِي الْعُرْفِ أَوْ الشَّرْعِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لَا مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُغَيَّرَةِ، وَهِيَ الَّتِي غُيِّرَتْ عَنْ مَوْضُوعِهَا فِيهِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَهِيَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ مِنْ صَرَّحَ يُصَرِّحُ صَرَاحَةً وَصُرُوحَةً إذْ خَلَصَ وَانْكَشَفَ، وَتَصْرِيحُ الْخَمْرِ أَنْ يَذْهَبَ عَنْهُ الزَّبَدُ، وَصَرَّحَ فُلَانٌ بِمَا فِي نَفْسِهِ أَيْ أَظْهَرَهُ قَوْلُهُ (وَالصَّرِيحُ الْخَالِصُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) كَلِمَةُ مِنْ مُتَعَلِّقَةٌ بِالصَّرِيحِ أَيْ الصَّرِيحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَالِصُهُ قِيلَ فِي الصِّحَاحِ وَكُلُّ خَالِصٍ صَرِيحٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَعَلِّقَةً بِالْخَالِصِ أَيْ الَّذِي خَلَصَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ الصَّرِيحُ وَكِلَاهُمَا وَاحِدٌ فَلَمَّا خَلَصَ هَذَا اللَّفْظُ عَنْ مُحْتَمَلَاتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُفَسَّرِ سُمِّيَ صَرِيحًا. [تَعْرِيف الْكِنَايَةُ] قَوْلُهُ (وَهُوَ

وَهُوَ مَا اسْتَتَرَ، الْمُرَادُ بِهِ مِثْلُ هَاءِ الْغَائِبَةِ وَسَائِرُ أَلْفَاظِ الضَّمِيرِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا اسْتَتَرَ الْمُرَادُ بِهِ) أَيْ خِلَافُ الصَّرِيحِ لَفْظُ " اسْتَتَرَ " الْمَعْنَى الَّذِي أُرِيدَ بِهِ؛ وَإِنَّمَا فُسِّرَ خِلَافُ الصَّرِيحِ بِهِ لِأَنَّ خِلَافَ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ نَقِيضَهُ وَقَدْ يَكُونُ ضِدَّهُ؛ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ الْخِلَافِ هَهُنَا نَقِيضُهُ فَهُوَ مَا لَمْ يَظْهَرْ الْمُرَادُ بِهِ ظُهُورًا بَيِّنًا وَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الظَّاهِرَ، وَهُوَ لَيْسَ بِكِنَايَةٍ، وَكَذَا يَتَنَاوَلُ النَّصَّ وَالْمُفَسَّرَ وَالْخَفِيَّ وَالْمُشْكِلَ وَغَيْرَهَا إنْ قُدِّرَ قَيْدُ الِاسْتِعْمَالِ وَقِيلَ هُوَ مَا لَمْ يَظْهَرْ الْمُرَادُ بِهِ بِالِاسْتِعْمَالِ ظُهُورًا بَيِّنًا وَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ؛ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ ضِدُّهُ فَهُوَ مَا اسْتَتَرَ الْمُرَادُ بِهِ اسْتِتَارًا تَامًّا وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ إلَّا فِي الْمُجْمَلِ فَلَا يَكُونُ التَّعْرِيفُ جَامِعًا وَلَا مَانِعًا فَالشَّيْخُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ خِلَافِ الصَّرِيحِ ضِدُّهُ، وَهُوَ الِاسْتِتَارُ لَا نَقِيضُهُ إذْ هُوَ أَوْلَى بِالتَّعْرِيفِ بِهِ مِنْ نَقِيضِهِ، وَهُوَ عَدَمُ الظُّهُورِ لِكَوْنِ الْأَوَّلِ وُجُودِيًّا وَالثَّانِي عَدَمِيًّا وَبَيَّنَ أَيْضًا بِتَرْكِ قَوْلِهِ اسْتِتَارًا تَامًّا أَنَّ قَوْلَهُ ظُهُورًا بَيِّنًا فِي تَعْرِيفِ الصَّرِيحِ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ إذْ هُوَ مَفْهُومٌ مِنْ تَقْدِيرِ قَيْدِ الِاسْتِعْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِهِ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الْقَيْدِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا عِنْدَ مَنْ قَالَ بِاشْتِرَاطِهِ فِي الصَّرِيحِ بِأَنْ يُقَالَ هُوَ مَا اسْتَتَرَ الْمُرَادُ بِهِ بِالِاسْتِعْمَالِ أَيْ يَحْصُلُ الِاسْتِتَارُ بِالِاسْتِعْمَالِ بِأَنْ يَسْتَعْمِلُوهُ قَاصِدِينَ لِلِاسْتِتَارِ فَإِنَّهُ مَقْصُودٌ عِنْدَهُمْ لِأَغْرَاضٍ صَحِيحَةٍ. وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ ظَاهِرًا فِي اللُّغَةِ كَمَا أَنَّ الِانْكِشَافَ يَحْصُلُ فِي الصَّرِيحِ بِاسْتِعْمَالِهِمْ؛ وَإِنْ كَانَ خَفِيًّا فِي اللُّغَةِ، وَعِنْدَ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِاشْتِرَاطِهِ فِي الصَّرِيحِ لَا يُشْتَرَطُ هَهُنَا فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُشْتَرَكُ وَالْمُشْكِلُ وَأَمْثَالُهُمَا وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ الْقَاضِي الْإِمَامِ فَإِنَّهُ قَالَ كُلُّ كَلَامٍ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا يُسَمَّى كِنَايَةً وَلِهَذَا سُمِّيَ الْمَجَازُ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مُتَعَارَفًا كِنَايَةً لِاحْتِمَالِ الْحَقِيقَةِ وَغَيْرِهَا إلَّا أَنَّ الصَّحِيحَ هُوَ الْأَوَّلُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ اشْتِرَاطِ اشْتِرَاكِ مَوْرِدِ التَّقْسِيمِ بَيْنَ الْأَقْسَامِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِاشْتِرَاطِ هَذَا الْقَيْدِ، ثُمَّ إذَا تَأَمَّلْت عَلِمْت أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الِاسْتِعْمَالِ، وَهُوَ التَّلَفُّظُ بِكَلَامٍ لِإِفَادَةِ مَعْنًى فِي مَوْرِدِ التَّقْسِيمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ فِي وُجُوهِ اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ النَّظْمِ مُطْلَقُ الِاسْتِعْمَالِ إذْ الِاسْتِعْمَالُ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ غَيْرُ الِاسْتِعْمَالِ فِي الصَّرِيحِ إذْ هُوَ فِيهِ مُقَيَّدٌ بِالْكَثْرَةِ وَفِي الْحَقِيقَةِ مُقَيَّدٌ بِالْمَوْضُوعِ وَفِي الْمَجَازِ بِغَيْرِ الْمَوْضُوعِ، وَهُوَ فِي الْكِنَايَةِ غَيْرُهُ فِي الصَّرِيحِ إذْ هُوَ فِيهَا مُقَيَّدٌ بِقَصْدِ الِاسْتِتَارِ فَلَا بُدَّ حِينَئِذٍ مِنْ قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ أَيْ مَعْنًى جَامِعٍ لِيَسْتَقِيمَ التَّقْسِيمُ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا مُطْلَقُ الِاسْتِعْمَالِ فَافْهَمْ وَقَالَ صَاحِبُ الْمِفْتَاحِ فِي تَعْرِيفِ الْكِنَايَةِ هِيَ تَرْكُ التَّصْرِيحِ بِذَكَرِ الشَّيْءِ إلَى مَا يَلْزَمُهُ لِيَنْتَقِلَ مِنْ الْمَذْكُورِ إلَى الْمَتْرُوكِ كَمَا تَقُولُ فُلَانٌ طَوِيلُ النِّجَادِ لِيُنْتَقَلَ مِنْهُ إلَى مَا هُوَ مَلْزُومُهُ، وَهُوَ طُولُ الْقَامَةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَجَازِ وَالْكِنَايَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْكِنَايَةَ لَا تُنَافِي إرَادَةَ الْحَقِيقَةِ بِلَفْظِهَا فَلَا يَمْتَنِعُ فِي قَوْلِك فُلَانٌ طَوِيلُ النِّجَادِ أَنْ تُرِيدَ طُولَ نِجَادِهِ مِنْ غَيْرِ ارْتِكَابِ تَأْوِيلٍ مَعَ إرَادَةِ طُولِ قَامَتِهِ وَالْمَجَازُ يُنَافِي ذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ فِي نَحْوِ قَوْلِك فِي الْحَمَّامِ أَسَدٌ أَنْ تُرِيدَ مَعْنَى الْأَسَدِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ. وَالثَّانِي أَنَّ مَبْنَى الْكِنَايَةِ عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْ اللَّازِمِ إلَى الْمَلْزُومِ وَمَبْنَى الْمَجَازِ عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْ الْمَلْزُومِ إلَى اللَّازِمِ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْمَجَازِ مِنْ اتِّصَالٍ وَتَنَاسُبٍ بَيْنَ الْمَحَلَّيْنِ وَفِي

[القسم الرابع وجوه وقوف السامع على مراد المتكلم ومعانى الكلام]

أُخِذَتْ مِنْ قَوْلِهِمْ كَنَّيْت وَكَنَوْتُ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَإِنِّي لَأَكْنُو عَنْ قَذُورٍ بِغَيْرِهَا ... وَأُعْرِبُ أَحْيَانًا بِهَا فَأُصَارِحُ وَهَذِهِ جُمْلَةٌ يَأْتِي تَفْسِيرُهَا فِي بَابِ بَيَانِ الْحُكْمِ. وَتَفْسِيرُ الْقِسْمِ الرَّابِعِ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِعِبَارَةِ النَّصِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْكِنَايَةِ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ فَإِنَّ الْعَرَبَ تَكُنِّي عَنْ الْحَبَشِيِّ بِأَبِي الْبَيْضَاءِ وَعَنْ الضَّرِيرِ بِأَبِي الْعَيْنَاءِ وَلَا اتِّصَالَ بَيْنَهُمَا بَلْ بَيْنَهُمَا تَضَادٌّ، مِثْلُ هَاءِ الْمُغَايَبَةِ وَسَائِرِ أَلْفَاظِ الضَّمِيرِ مِثْلُ أَنَا وَأَنْتَ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّهَا لَمَّا لَمْ تُمَيِّزْ بَيْنَ اسْمٍ وَاسْمٍ إلَّا بِدَلَالَةٍ أُخْرَى لَمْ تَكُنْ صَرِيحَةً وَلَمَّا احْتَمَلَتْ التَّمْيِيزَ بِدَلَالَةٍ اسْتَقَامَتْ كِنَايَةً عَنْ الصَّرِيحِ فَكَانَتْ أَلْفَاظُ الْكِنَايَةِ مِنْ الصَّرِيحِ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ الْمُفَسَّرِ مِنْ حَيْثُ إنَّ أَلْفَاظَ الْكِنَايَةِ مِمَّا لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهَا إلَّا بِدَلَالَةٍ أُخْرَى وَالصَّرِيحُ اسْمٌ لِمَا فُهِمَ مَعْنَاهُ مِنْهُ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى قَوْلِ مَنْ زَادَ قَيْدَ الِاسْتِعْمَالِ فِي التَّعْرِيفِ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ كِنَايَاتٌ بِالْوَضْعِ لَا بِالِاسْتِعْمَالِ فَلَا تَكُونُ دَاخِلَةً فِي التَّعْرِيفِ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ إنَّهَا إنَّمَا وُضِعَتْ لِيَسْتَعْمِلَهَا الْمُتَكَلِّمُ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ إذَا أَرَادَ أَنْ لَا يُصَرِّحَ بِاسْمِ زَيْدٍ مَثَلًا يَكُنِّي عَنْهُ بِهُوَ كَمَا يَكُنِّي عَنْهُ بِأَبِي فُلَانٍ لَا أَنَّهَا كِنَايَاتٌ قَبْلَ الِاسْتِعْمَالِ فَكَمَا أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْمَوْضُوعَةَ لَا تَكُونُ حَقِيقَةً قَبْلَ الِاسْتِعْمَالِ لَا يَكُونُ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ كِنَايَاتٍ قَبْلَ الِاسْتِعْمَالِ أَيْضًا فَتَكُونُ دَاخِلَةً فِي التَّعْرِيفِ قَوْلُهُ (أُخِذَتْ أَيْ الْكِنَايَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ كَنَّيْت وَكَنَوْتُ) وَقَعَ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ فَإِنَّ الْمَصْدَرَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْفِعْلِ عِنْدَهُمْ وَالْفِعْلُ هُوَ الْأَصْلُ فَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ فَالْمَصْدَرُ هُوَ الْأَصْلُ وَالْفِعْلُ مُشْتَقٌّ مِنْهُ. ثُمَّ إنْ كَانَتْ لَامُ الْكَلِمَةِ يَاءً، وَهُوَ الْمَشْهُورُ، فَهِيَ فِي الْكِنَايَةِ أَصْلِيَّةٌ كَمَا فِي النِّهَايَةِ وَالسِّقَايَةِ؛ وَإِنْ كَانَتْ وَاوًا وَهِيَ لُغَةٌ فِيهَا غَيْرُ مَشْهُورَةٍ؛ وَلِهَذَا اسْتَشْهَدَ لَهَا دُونَ الْيَاءِ فَهِيَ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ الْوَاوِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ كَمَا انْقَلَبَتْ الْوَاوُ عَنْهَا فِي جَبَيْت الْخَرَاجَ جِبَاوَةً وَالْأَصْلُ جِبَايَةً، وَالْكِنَايَةُ لُغَةً أَنْ تَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ وَتُرِيدُ بِهِ غَيْرَهُ فَهِيَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُقَرَّرَةِ، وَالْقَذُورُ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَجْتَنِبُ الْأَقْذَارَ وَالرِّيَبَ، وَأَعْرَبَ بِحُجَّتِهِ أَيْ أَفْصَحَ بِهَا مِنْ غَيْرِ تُقْيَةٍ مِنْ أَحَدٍ، وَالْمُصَارَحَةُ الْمُجَاهَرَةُ، يَعْنِي أَنِّي رُبَّمَا أَذْكُرُ غَيْرَهَا وَأُرِيدُهَا خَوْفًا مِنْ عَشِيرَتِهَا وَإِخْفَاءً لِمَحَبَّتِي إيَّاهَا وَرُبَّمَا غَلَبَنِي سُكْرُ الْمَحَبَّةِ فَأُفْصِحُ بِهَا مِنْ غَيْرِ تُقْيَةٍ مِنْ أَحَدٍ وَأَذْكُرُهَا صَرِيحًا، وَهَذِهِ جُمْلَةٌ أَيْ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ وَالصَّرِيحُ وَالْكِنَايَةُ يَأْتِي تَفْسِيرُهَا أَيْ تَمَامُ تَفْسِيرِهَا [الْقَسْم الرَّابِع وُجُوه وُقُوف السَّامِع عَلَى مُرَاد الْمُتَكَلِّم ومعانى الْكَلَام] [الِاسْتِدْلَالَ بِعِبَارَةِ النَّصِّ] قَوْلُهُ (وَتَفْسِيرُ الْقِسْمِ الرَّابِعِ) أَيْ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ التَّقْسِيمِ أَوْ الْخَامِسِ بِاعْتِبَارِ الْمُقَابِلِ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِعِبَارَةِ النَّصِّ أَيْ بِعَيْنِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: الثَّابِتُ بِعَيْنِ النَّصِّ مَا أَوْجَبَهُ نَفْسُ الْكَلَامِ وَسِيَاقُهُ، وَكَذَا ذَكَرَ أَبُو الْيُسْرِ أَيْضًا فَتَكُونُ هَذِهِ الْإِضَافَةُ مِنْ بَابِ إضَافَةِ الْعَامِّ إلَى الْخَاصِّ كَمَا فِي قَوْلِك جَمِيعُ الْقَوْمِ وَكُلُّ الدَّرَاهِمِ وَنَفْسُ الشَّيْءِ، وَالِاسْتِدْلَالُ انْتِقَالُ الذِّهْنِ مِنْ الْأَثَرِ إلَى الْمُؤَثِّرِ وَقِيلَ عَلَى الْعَكْسِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هَهُنَا، وَالْعِبَارَةُ لُغَةً تَفْسِيرُ الرُّؤْيَا يُقَالُ عَبَرْت الرُّؤْيَا أَعْبُرُهَا عِبَارَةً أَيْ فَسَّرْتهَا، وَكَذَا عَبَرْتهَا، وَعَبَرْت عَنْ فُلَانٍ إذَا تَكَلَّمْت عَنْهُ فَسُمِّيَتْ الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَعَانِي عِبَارَاتٍ؛ لِأَنَّهَا تُفَسِّرُ مَا فِي الضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ مَسْتُورٌ كَمَا أَنَّ الْمُعَبِّرَ يُفَسِّرُ مَا هُوَ مَسْتُورٌ، وَهُوَ عَاقِبَةُ الرُّؤْيَا؛ وَلِأَنَّهَا تَكَلُّمٌ عَمَّا فِي الضَّمِيرِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ اسْمَ النَّصِّ عَلَى كُلِّ مَلْفُوظٍ مَفْهُومِ الْمَعْنَى مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ سَوَاءٌ كَانَ ظَاهِرًا أَوْ مُفَسَّرًا أَوْ نَصًّا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا خَاصًّا كَانَ أَوْ عَامًّا اعْتِبَارًا مِنْهُمْ لِلْغَالِبِ؛ لِأَنَّ عَامَّةَ مَا وَرَدَ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ نُصُوصٌ فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ النَّصِّ

[الاستدلال بإشارة اللفظ]

هُوَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ مَا سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ وَالِاسْتِدْلَالُ بِإِشَارَتِهِ هُوَ الْعَمَلُ بِمَا ثَبَتَ بِنَظْمِهِ لُغَةً لَكِنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ وَلَا سِيقَ لَهُ النَّصُّ وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَسَمَّيْنَاهُ إشَارَةً ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي هَذَا الْفَصْلِ دُونَ مَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ حَتَّى كَانَ التَّمَسُّكُ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ بِظَاهِرٍ أَوْ مُفَسَّرٍ أَوْ خَاصٍّ أَوْ عَامٍّ أَوْ صَرِيحٍ أَوْ كِنَايَةٍ أَوْ غَيْرِهَا اسْتِدْلَالًا بِعِبَارَةِ النَّصِّ لَا غَيْرُ، هُوَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ مَا سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ الْمُرَادُ مِنْ الْعَمَلِ عَمَلُ الْمُجْتَهِدِ، وَهُوَ إثْبَاتُ الْحُكْمِ لَا الْعَمَلُ بِالْجَوَارِحِ كَمَا إذَا قِيلَ الصَّلَاةُ فَرِيضَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام: 72] ، وَالزِّنَا حَرَامٌ لِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ، {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32] ، فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ هُوَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ النَّصِّ وَالِاسْتِدْلَالُ بِعِبَارَتِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ دَلَالَةَ الْكَلَامِ عَلَى الْمَعْنَى بِاعْتِبَارِ النَّظْمِ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ، إحْدَاهَا أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْمَعْنَى وَيَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْهُ كَالْعَدَدِ فِي قَوْله تَعَالَى، {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] ، وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَعْنَى وَلَا يَكُونُ مَقْصُودًا أَصْلِيًّا فِيهِ كَإِبَاحَةِ النِّكَاحِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. وَالثَّالِثَة أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَعْنَى هُوَ مِنْ لَوَازِمِ مَدْلُولِ اللَّفْظِ وَمَوْضُوعِهِ كَانْعِقَادِ بَيْعِ الْكَلْبِ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «إنَّ مِنْ السُّحْتِ ثَمَنَ الْكَلْبِ» ، الْحَدِيثَ، فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ مَسُوقٌ لَيْسَ إلَّا وَالْقِسْمُ الْأَخِيرُ لَيْسَ بِمَسُوقٍ أَصْلًا وَالْمُتَوَسِّطُ مَسُوقٌ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ قَصَدَ إلَى التَّلَفُّظِ بِهِ لِإِفَادَةِ مَعْنَى غَيْرِ مَسُوقٍ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا سَاقَهُ لِإِتْمَامِ بَيَانِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ إذْ لَا يَتَأَتَّى لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِهِ يُوَضِّحُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ أَنَّ الْمُتَوَسِّطَ يَصْلُحُ أَنْ يَصِيرَ مَقْصُودًا أَصْلِيًّا فِي السُّوقِ بِأَنْ انْفَرَدَ عَنْ الْقَرِينَةِ وَالْقِسْمُ الْأَخِيرُ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ أَصْلًا، وَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ هَهُنَا مِنْ كَوْنِ الْكَلَامِ مَسُوقًا لِمَعْنًى أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَفْهُومِهِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ مَقْصُودًا أَصْلِيًّا أَوْ لَمْ يَكُنْ وَفِيمَا سَبَقَ فِي بَيَانِ النَّصِّ وَالظَّاهِرُ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ مَسُوقًا أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَفْهُومِهِ مُقَيَّدًا بِكَوْنِهِ مَقْصُودًا أَصْلِيًّا فَيَدْخُلُ الْقِسْمُ الْمُتَوَسِّطُ هَهُنَا فِي السَّوْقِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ فِيمَا سَبَقَ، فَإِذَا تَمَسَّكَ أَحَدٌ فِي إبَاحَةِ النِّكَاحِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى، {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] ، أَوْ فِي إبَاحَةِ الْبَيْعِ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] كَانَ اسْتِدْلَالًا بِعِبَارَةِ النَّصِّ لَا بِإِشَارَتِهِ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا مَا قَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ فِي أُصُولِهِ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِعَيْنِ النَّصِّ أَيْ بِعِبَارَتِهِ مَا أَثْبَتَهُ النَّصُّ بِنَفْسِهِ وَسِيَاقُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] فَعَيْنُ النَّصِّ يُوجِبُ إبَاحَةَ الْبَيْعِ وَحُرْمَةَ الرِّبَا وَالتَّفْرِقَةَ، فَسَوَّى بَيْنَ مَا هُوَ مَقْصُودٌ أَصْلِيٌّ، وَهُوَ الْفَرْقُ وَبَيْنَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَهُوَ حِلُّ الْبَيْعِ وَحُرْمَةُ الرِّبَا فَجَعَلَهُمَا ثَابِتَيْنِ بِعِبَارَةِ النَّصِّ لَا بِإِشَارَتِهِ [الِاسْتِدْلَال بِإِشَارَةِ اللَّفْظِ] قَوْلُهُ (وَالِاسْتِدْلَالُ بِإِشَارَتِهِ) الْإِشَارَةُ الْإِيمَاءُ فَكَأَنَّ السَّامِعَ غَفَلَ عَنْ الْمَعْنَى الْمَضْمُونِ فِي النَّصِّ لِإِقْبَالِهِ إلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْكَلَامِ فَالنَّصُّ يُشِيرُ إلَيْهِ، وَقَوْلُهُ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ تَعَرُّضٌ لِجَانِبِ الْمَعْنَى وَقَوْلُهُ وَلَا سِيقَ لَهُ النَّصُّ تَعَرُّضٌ لِجَانِبِ اللَّفْظِ، وَالضَّمِيرُ فِي لَكِنَّهُ وَلَهُ رَاجِعٌ إلَى مَا، وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُسَقْ لَهُ الْكَلَامُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ نَوْعُ غُمُوضٍ فَيَحْتَاجُ إلَى ضَرْبِ تَأَمُّلٍ وَلِهَذَا لَا يَقِفُ عَلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْإِشَارَةُ مِنْ الْعِبَارَةِ بِمَنْزِلَةِ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضُ مِنْ الصَّرِيحِ أَوْ الْمُشْكِلِ مِنْ الْوَاضِحِ، ثُمَّ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْغُمُوضُ بِحَيْثُ يَزُولُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ يُقَالُ هَذِهِ إشَارَةٌ ظَاهِرَةٌ؛ وَإِنْ كَانَ يَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ فِكْرَةٍ يُقَالُ هَذِهِ إشَارَةٌ غَامِضَةٌ. (قَوْلُهُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ) لَيْسَ مِنْ تَمَامِ التَّعْرِيفِ

كَرَجُلٍ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ إلَى شَيْءٍ وَيُدْرِكُ مَعَ ذَلِكَ غَيْرَهُ بِإِشَارَةِ لَحَظَاتِهِ وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8] إنَّمَا سَبَقَ النَّصُّ لِاسْتِحْقَاقِ سَهْمٍ مِنْ الْغَنِيمَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّرْجَمَةِ لِمَا سَبَقَ وَاسْمُ الْفُقَرَاءِ إشَارَةٌ إلَى زَوَالِ مِلْكِهِمْ عَمَّا خَلَّفُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبَلْ هُوَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ وَالْغَرَضُ مِنْهُ الْإِشَارَةُ إلَى تَعْلِيلِ تَسْمِيَةِ هَذَا الْقِسْمِ إشَارَةً؛ وَلِهَذَا قَالَ فَسَمَّيْنَاهُ إشَارَةً بِالْفَاءِ. وَقَوْلُهُ كَرَجُلٍ إلَى آخِرِهِ تَشْبِيهٌ لِمَا ثَبَتَ بِالنَّظْمِ غَيْرُ مَقْصُودٍ فِي ضِمْنِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِمَا أُدْرِكَ بِالْبَصَرِ غَيْرُ مَقْصُودٍ فِي ضِمْنِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى كَوْنِ هَذَا الْقِسْمِ مِنْ مَحَاسِنِ الْكَلَامِ وَأَقْسَامِ الْبَلَاغَةِ كَمَا أَنَّ إدْرَاكَ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ بِالنَّظَرِ مَعَ إدْرَاكِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِهِ مِنْ كَمَالِ قُوَّةِ الْإِبْصَارِ، وَاللَّحْظُ النَّظَرُ بِمُؤَخِّرِ الْعَيْنِ وَيُدْرِكُ غَيْرَهُ بِإِشَارَةِ لَحَظَاتِهِ أَيْ بِلَحَظَاتِهِ وَكَأَنَّهَا تُشِيرُ النَّاظِرَ إلَى مَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ لِيُدْرِكَهُ، الضَّمِيرُ فِي نَظِيرِهِ رَاجِعٌ إلَى مَا فِي قَوْلِهِ مَا ثَبَتَ بِنَظْمِهِ لُغَةً، عَلَى سَبِيلِ التَّرْجَمَةِ بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ التَّفْسِيرِ وَمِنْهُ التُّرْجُمَانُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْجِيمِ وَضَمِّهِمَا لِمَنْ يُفَسِّرُ كَلَامَ الْغَيْرِ، لِمَا سَبَقَ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى، {وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] ، لَا لِمَا قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ، {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: 7] ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {لِلْفُقَرَاءِ} [الحشر: 8] بَدَلٌ مِمَّا ذَكَرْنَا بِتَكْرِيرِ الْعَامِلِ لَا مِنْ قَوْلِهِ {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: 7] وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْغَنِيُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَرَسُولُهُ أَجَلُّ قَدْرًا مِنْ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْفَقِيرِ كَيْفَ وَأَنَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَ رَسُولَهُ عَنْ الْفُقَرَاءِ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ، {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر: 8] ، إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْكَشَّافِ. وَقِيلَ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ وَاوٍ كَمَا يُقَالُ هَذَا الْمَالُ لِزَيْدٍ لِبَكْرٍ لِعَمْرٍو كَذَا فِي التَّيْسِير فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ تَرْجَمَةً لِمَا سَبَقَ بَلْ يَكُونُ بَيَانًا لِمَصْرِفٍ آخَرَ، وَعَلَى التَّفْسِيرَيْنِ السَّوْقُ لِبَيَانِ مَصَارِفِ الْخُمُسِ، وَاسْمُ الْفُقَرَاءِ أَيْ وَذَكَرَ هَذَا الِاسْمَ دُونَ غَيْرِهِ إشَارَة إلَى أَنَّ الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ مَكَّةَ قَدْ زَالَتْ أَمْلَاكُهُمْ عَمَّا خَلَفُوا بِهَا بِاسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِالْفَقْرِ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا مَيَاسِيرَ بِمَكَّةَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ، {أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8] ، وَالْفَقْرُ عَلَى الْحَقِيقَةِ بِزَوَالِ الْمِلْكِ لَا يُبْعِدُ الْيَدَ عَنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّ ضِدَّهُ الْغِنَى، وَهُوَ مِلْكُ الْمَالِ لَا قُرْبُ الْيَدِ مِنْ الْمَالِ أَلَا تَرَى أَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ غَنِيٌّ حَقِيقَةً؛ وَإِنْ بَعُدَتْ يَدُهُ عَنْ الْمَالِ لِقِيَامِ الْمِلْكِ؛ وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَالْمُكَاتَبُ فَقِيرٌ حَقِيقَةً وَلَوْ أَصَابَ مَالًا عَظِيمًا لِعَدَمِ الْمِلْكِ حَقِيقَةً؛ فَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ اسْتِيلَاءَهُمْ بِشَرْطِ الْأَحْرَارِ سَبَبٌ لِلْمِلْكِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَسَمَّاهُمْ أَبْنَاءَ السَّبِيلِ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَنْ بَعُدَتْ يَدُهُ عَنْ الْمَالِ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ فِيهِ، وَهَذِهِ مِنْ الْإِشَارَاتِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي تُعْرَفُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يَعْمَلْ بِهَا، وَقَالَ إنَّمَا سَمَّاهُمْ فُقَرَاءَ وَلَمْ يُسَمِّهِمْ أَبْنَاءَ السَّبِيلِ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَنْ لَهُ مَالٌ فِي وَطَنِهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْهُ وَيَطْمَعُ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُسَافِرِينَ بِالْمَدِينَةِ بَلْ تَوَطَّنُوا بِهَا وَانْقَطَعَتْ أَطْمَاعُهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ عَنْ أَمْوَالِهِمْ فَلَمْ يَسْتَقِمْ أَنْ يُسَمَّوْا بِابْنِ السَّبِيلِ وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا مُحْتَاجِينَ حَقِيقَةً وَانْقَطَعَ عَنْهُمْ ثَمَرَاتُ أَمْوَالِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ؛ وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى مِلْكِهِمْ صَحَّتْ تَسْمِيَتُهُمْ فُقَرَاءَ تَجَوُّزًا كَأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُمْ أَصْلًا كَمَا صَحَّتْ تَسْمِيَةُ الْكَافِرِ أَصَمَّ وَأَعْمَى وَأَبْكَمَ وَعَدِيمَ الْعَقْلِ فِي قَوْله تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ، {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171] . بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صَرْفِهِ إلَى الْمَجَازِ قَوْله تَعَالَى، {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيُ السَّبِيلِ الْحِسِّيِّ بِالْإِجْمَاعِ فَيَرْجِعُ النَّفْيُ إلَى السَّبِيلِ الشَّرْعِيِّ وَالتَّمَلُّكِ بِالْقَهْرِ الَّذِي هُوَ عُدْوَانٌ مَحْضٌ أَقْوَى جِهَاتُ السَّبِيلِ،

وَقَوْلُهُ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة: 233] سِيقَ لِإِثْبَاتِ النَّفَقَةِ وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} [البقرة: 233] إلَى أَنَّ النَّسَبَ إلَى الْآبَاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَمَا رُوِيَ «أَنَّ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ أَغَارَ عَلَى سَرْحٍ بِالْمَدِينَةِ وَفِيهَا نَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ الْعَضْبَاءُ وَأَسَرَ امْرَأَةَ الرَّاعِي قَالَتْ الْمَرْأَةُ فَلَمَّا جَنَّ اللَّيْلُ قَصَدْت الْفِرَارَ فَمَا وَضَعْت يَدِي عَلَى بَعِيرٍ إلَّا رَغَا حَتَّى وَضَعْت يَدِي عَلَى نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ الْعَضْبَاءَ فَرَكَنَتْ إلَيَّ فَرَكِبْتهَا وَقُلْت إنْ نَجَّانِي اللَّهُ عَلَيْهَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَنْحَرَهَا فَلَمَّا أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَصَصْت عَلَيْهِ الْقِصَّةَ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، بِئْسَ مَا جَازَيْتِهَا لَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ وَإِنَّهَا نَاقَةٌ مِنْ إبِلِي ارْجِعِي إلَى أَهْلِك عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى» ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ سَبِيلِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لَا عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَهُمْ لَا يَمْلِكُونَنَا بِالِاسْتِيلَاءِ أَيْضًا إنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْأَمْوَالِ، أَوْ الْمُرَادُ نَفْيُ السَّبِيلِ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِدَلِيلِ قَوْلِهِ، {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة: 113] ، أَوْ نَفْيُ الْحُجَّةِ كَمَا قَالَ السُّدِّيَّ وَلَا فِيمَا ذُكِرَ مِنْ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ أَلَا تَنْزِلْ دَارَك يَعْنِي الدَّارَ الَّتِي وَرِثَهَا النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَقَدْ كَانَ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا عَقِيلٌ بَعْدَ هِجْرَتِهِ فَقَالَ وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ دَارٍ» . وَلَا يُقَالُ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ خَرَّبَهَا وَلَمْ تَبْقَ صَالِحَةً لِلنُّزُولِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَلَا تَنْزِلْ دَارَك يَأْبَى ذَلِكَ، وَمُؤَوَّلٌ بِأَنَّ عُيَيْنَةَ لَمْ يُحْرِزْهَا بِدَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ يَمْلِكْهَا وَلَا مَلَكَتْ الْمَرْأَةُ؛ فَلِهَذَا اسْتَرَدَّهَا مِنْهَا وَجَعَلَ نَذْرَهَا فِيمَا لَا تَمْلِكُ فَلَمَّا لَمْ يَصْلُحْ مَا ذَكَرَ مِنْ الْقَرَائِنِ صَارِفًا لِلَفْظِ الْفُقَرَاءِ إلَى الْمَجَازِ يُحْمَلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ إذْ هِيَ الْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِشَارَةَ قَدْ تَكُونُ مُوجِبَةً لِمُوجِبِهَا قَطْعًا مَثَلُ الْعِبَارَةِ مَثَلُهَا فِي قَوْله تَعَالَى، {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة: 233] ، وَقَدْ لَا تُوجِبَ قَطْعًا وَذَلِكَ عِنْدَ اشْتِرَاكِ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مُرَادًا بِالْكَلَامِ، فَأَمَّا كَوْنُهَا حُجَّةً فَلَا خِلَافَ فِيهِ. قَوْلُهُ (وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ) إمَّا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ قَوْله تَعَالَى لِلْفُقَرَاءِ وَقَوْلُهُ سِيقَ لِكَذَا جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنْ الْإِعْرَابِ وَإِمَّا مُبْتَدَأٌ وَسِيقَ خَبَرُهُ فَيَكُونُ مَرْفُوعَ الْمَحَلِّ وَأَشَارَ عُطِفَ عَلَى سِيقَ وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِيهِمَا يَرْجِعُ إلَى الْقَوْلِ، وَكَذَا الْبَارِزُ فِي بِقَوْلِهِ أَيْ سِيقَ هَذَا الْقَوْلُ لِكَذَا وَأَشَارَ هَذَا الْمَسُوقُ بِقَوْلِهِ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ إلَى كَذَا فَكَأَنَّهُ قَدَّرَ الْمَسُوقَ قَائِلًا هَذَا الْكَلَامَ، أَوْ الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُ فِي أَشَارَ وَالْبَارِزُ فِي بِقَوْلِهِ يَرْجِعَانِ إلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سِيقَ مِنْ السَّائِقِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى إنْ جَازَ ذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ هُوَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ أَيْ سِيقَ هَذَا الْقَوْلُ لِكَذَا وَأَشَارَ السَّائِقُ هَذَا الْقَوْلَ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} [البقرة: 233] إلَى كَذَا، أَوْ الْبَاءُ فِي بِقَوْلِهِ زَائِدَةٌ وَأَشَارَ مُسْنَدٌ إلَى الْقَوْلِ وَالضَّمِيرُ الْبَارِزُ رَاجِعٌ إلَى اللَّهِ أَيْ سِيقَ قَوْلُ اللَّهِ، وَهُوَ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} [البقرة: 233] إلَى آخِرِهِ لِكَذَا وَأَشَارَ قَوْلُهُ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} [البقرة: 233] إلَى كَذَا وَفِي الْكُلِّ بُعْدٌ. وَلَوْ قِيلَ أُشِيرَ لَكَانَ أَحْسَنَ. قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} [البقرة: 233] أَيْ وَعَلَى الَّذِي وُلِدَ لَهُ، وَهُوَ الْأَبُ، وَلَهُ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ نَحْوُ عَلَيْهِمْ فِي {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] ، {رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة: 233] أَيْ طَعَامُ الْوَالِدَاتِ وَلِبَاسُهُنَّ، {بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] أَيْ مِنْ غَيْرِ إسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ، أَوْ تَفْسِيرُهُ مَا ذُكِرَ بَعْدَهُ فِي الْآيَةِ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ الْوَالِدَاتِ

وَإِلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» وَقَوْلُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي أَوَّلِ الْآيَةِ الْمُطَلَّقَاتُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ بِدَلِيلِ أَنَّ مَا قَبْلَ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا فِي ذِكْرِ الْمُطَلَّقَاتِ فَالْمُرَادُ إيجَابُ أَصْلِ الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ عَلَى طَرِيقِ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّهُنَّ يَحْتَجْنَ إلَى مَا يُقِمْنَ بِهِ أَبْدَانَهُنَّ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا يَغْتَذِي بِاللَّبَنِ؛ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ لَهَا ذَلِكَ بِالِاغْتِذَاءِ وَتَحْتَاجُ هِيَ إلَى التَّسَتُّرِ فَكَانَ هَذَا مِنْ الْحَوَائِجِ الضَّرُورِيَّةِ كَذَا فِي التَّيْسِيرِ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهَا الْمَنْكُوحَاتُ بِدَلِيلِ ذِكْرِ الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ دُونَ الْأَجْرِ فَالْمُرَادُ إيجَابُ فَضْلِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ الَّذِي تَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي حَالَةِ الرَّضَاعِ لَا أَصْلُ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ بِالنِّكَاحِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ الْكَلَامُ مَسُوقٌ لِبَيَانِ إيجَابِ أَصْلِ النَّفَقَةِ أَوْ فَضْلِهَا عَلَى الْأَبِ، وَفِي ذِكْرِ الْمَوْلُودِ لَهُ دُونَ ذِكْرِ الْوَالِدِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ النَّسَبَ إلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ الْوَلَدَ إلَيْهِ بِحَرْفِ الِاخْتِصَاصِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْأَبُ قُرَشِيًّا وَالْأُمُّ أَعْجَمِيَّةً يُعَدُّ الْوَلَدُ قُرَشِيًّا فِي بَابِ الْكَفْأَةِ وَالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى وَفِي الْعَكْسِ بِالْعَكْسِ، وَلِهَذَا قِيلَ: وَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أَوْعِيَةٌ ... مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلْأَنْسَابِ آبَاءُ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ أَيْضًا عَلَى عِلَّةِ إيجَابِ هَذِهِ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ عَلَى الْآبَاءِ أَيْ الْوَالِدَاتِ لَمَّا وَلَدْنَ لَهُمْ فَكَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْزُقُوهُنَّ وَيَكْسُوهُنَّ إذَا أَرْضَعْنَ أَوْلَادَهُمْ كَالْأَظْآرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَهُ بِاسْمِ الْوَالِدِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى، {وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} [لقمان: 33] ، الْآيَةَ. قَوْلُهُ (وَإِلَى قَوْلِهِ) أَيْ قَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» ، رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ إنَّ لِي مَالًا؛ وَإِنَّ وَالِدِي يَحْتَاجُ إلَى مَالِي قَالَ أَنْتَ وَمَالُك لِوَالِدِك، وَفِي رِوَايَةٍ لِوَالِدَيْك» كَذَا فِي الْمَصَابِيحِ، وَذَكَرَ فِي الْكَشَّافِ «شَكَا رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَبَاهُ وَأَنَّهُ يَأْخُذُ مَالَهُ فَدَعَا بِهِ، فَإِذَا هُوَ شَيْخٌ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَصًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ إنَّهُ كَانَ ضَعِيفًا وَأَنَا قَوِيٌّ، وَفَقِيرًا وَأَنَا غَنِيٌّ فَكُنْت لَا أَمْنَعُهُ شَيْئًا مِنْ مَالِي وَالْيَوْمَ أَنَا ضَعِيفٌ. وَهُوَ قَوِيٌّ، وَأَنَا فَقِيرٌ وَهُوَ غَنِيٌّ وَيَبْخَلُ عَلَيَّ بِمَالِهِ فَبَكَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَالَ مَا مِنْ حَجَرٍ وَلَا مَدَرٍ يَسْمَعُ هَذَا إلَّا بَكَى ثُمَّ قَالَ لِلْوَلَدِ أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ ظَهِيرُ الدِّينِ الْبُخَارِيُّ فِي فَوَائِدِهِ «أَنَّ شَيْخًا أَتَى النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَالَ إنَّ ابْنِي هَذَا لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ؛ وَإِنَّهُ لَا يُنْفِقُ عَلَيَّ مِنْ مَالِهِ فَنَزَلَ جَبْرَائِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَالَ إنَّ هَذَا الشَّيْخَ قَدْ أَنْشَأَ فِي ابْنِهِ أَبْيَاتًا مَا قُرِعَ سَمْعٌ بِمِثْلِهَا فَاسْتَنْشَدَهَا فَأَنْشَدَهَا الشَّيْخُ وَقَالَ: غَذَوْتُك مَوْلُودًا وَمُنْتُك يَافِعًا ... تُعَلُّ بِمَا أَحْنِي عَلَيْك وَتَنْهَلُ إذَا لَيْلَةٌ ضَاقَتْك بِالسُّقْمِ لَمْ أَبِتْ ... لِسُقْمِك إلَّا بَاكِيًا أَتَمَلْمَلُ كَأَنِّي أَنَا الْمَطْرُوقُ دُونَك بِاَلَّذِي ... طُرِقْت بِهِ دُونِي وَعَيْنِي تَهْمُلُ فَلَمَّا بَلَغْت السِّنَّ وَالْغَايَةَ الَّتِي ... إلَيْهَا مَدَى مَا كُنْت فِيك أُؤَمِّلُ جَعَلْت جَزَائِي غِلْظَةً وَفَظَاظَةً ... كَأَنَّك أَنْتَ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ فَلَيْتَك إذْ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أُبُوَّتِي ... فَعَلْت كَمَا الْجَارُ الْمُجَاوِرُ يَفْعَلُ تَرَاهُ مُعِدًّا لِلْخِلَافِ كَأَنَّهُ ... بِرَدٍّ عَلَى أَهْلِ الصَّوَابِ مُؤَكَّلُ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» ، فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْأَبِ حَقُّ التَّمَلُّكِ فِي مَالِ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ؛ وَإِنْ دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ لَهُ لَكِنَّهُ لَمَّا تَخَلَّفَ بِالْإِجْمَاعِ وَبِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «الرَّجُلُ أَحَقُّ بِمَالِهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» ، ثَبَتَ بِهِ حَقُّ التَّمَلُّكِ لَهُ فِي مَالِهِ فَيَتَمَلَّكُهُ

{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] سِيقَ لِإِثْبَاتِ مِنَّةِ الْوَالِدَةِ عَلَى الْوَلَدِ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ أَقَلِّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ إذَا رُفِعَتْ مُدَّةُ الرَّضَاعِ وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الثَّابِتُ بِعَيْنِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQعِنْدَ الْحَاجَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ إنْ كَانَتْ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وَبِعِوَضٍ إنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ وَإِنَّ لَهُ تَأْوِيلًا فِي نَفْسِهِ فَلَا يُعَاقَبُ بِإِتْلَافِ وَلَدِهِ كَمَا لَا يُعَاقَبُ بِإِتْلَافِ عَبْدِهِ وَقَدْ عُرِفَ تَحْقِيقُهُ فِي مَوْضِعِهِ فَالنَّصُّ الْمَذْكُورُ بِإِشَارَتِهِ أَيَّدَ هَذَا الْحَدِيثَ وَآزَرَهُ؛ لِأَنَّ مُوَافَقَةَ الْحَدِيثِ الْكِتَابَ مِنْ دَلَائِلِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «وَمَا وَافَقَ فَاقْبَلُوهُ» . فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ وَأَشَارَ إلَى قَوْلِهِ «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» قَوْله تَعَالَى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ} [الأحقاف: 15] الْمُرَادُ بَيَانُ مُدَّةِ الرَّضَاعِ لَا الْفِطَامِ وَلَكِنْ عَبَّرَ عَنْ الرَّضَاعِ بِهِ؛ لِأَنَّ الرَّضَاعَ يَلِيه الْفِصَالُ وَيُلَابِسُهُ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَهِي بِهِ وَالْغَرَضُ هُوَ الدَّلَالَةُ عَلَى الرَّضَاعِ التَّامِّ الْمُنْتَهِي بِالْفِصَالِ وَوَقْتِهِ، ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ الْحَمْلِ إنْ كَانَ هُوَ الْحَمْلُ بِالْأَيْدِي إذْ الطِّفْلُ يُحْمَلُ بِالْيَدِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ غَالِبًا فَالْمُدَّةُ الْمَذْكُورَةُ لِلْحَمْلِ وَالْفِصَالِ جَمِيعًا وَلَا تَعَرُّضَ لِلْحَمْلِ فِي الْبَطْنِ حِينَئِذٍ فِي الْآيَةِ، فَلَا يَكُونُ الْإِشَارَةُ الْمَذْكُورَةُ ثَابِتَةً فِيهَا، وَيَكُونُ الْآيَةُ حُجَّةً لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ الرَّضَاعِ ثَلَاثُونَ شَهْرًا، وَيُحْمَلُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ قَوْله تَعَالَى {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] ، {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] ، عَلَى بَيَانِ مُدَّةِ وُجُوبِ أَجْرِ الرَّضَاعِ عَلَى الْأَبِ دَفْعًا لِلتَّعَارُضِ؛ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْحَمْلُ فِي الْبَطْنِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَالْإِشَارَةُ ثَابِتَةٌ وَلَا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِهَا فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بَلْ يُتَمَسَّكُ لَهُ بِالْمَعْقُولِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّبَنَ كَمَا يُغَذِّي الصَّبِيَّ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ يُغَذِّيه بَعْدَهُمَا وَالْفِطَامُ لَا يَحْصُلُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ بَلْ يُفْطَمُ دَرَجَةً فَدَرَجَةً حَتَّى يَيْبَسَ اللَّبَنُ وَيَتَعَوَّدَ الصَّبِيُّ الطَّعَامَ فَلَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةٍ عَلَى حَوْلَيْنِ لِمُدَّةِ الْفِطَامِ، فَإِذَا وَجَبَتْ الزِّيَادَةُ قَدَّرْنَا تِلْكَ الزِّيَادَةَ بِأَدْنَى مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَذَلِكَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ اعْتِبَارًا لِلِانْتِهَاءِ بِالِابْتِدَاءِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، ثُمَّ هَذَا النَّصُّ مَسُوقٌ لِبَيَانِ مِنَّةِ الْوَالِدَةِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إلَى الْوَالِدَيْنِ ثُمَّ بَيَّنَ السَّبَبَ فِي جَانِبِ الْأُمِّ بِقَوْلِهِ، {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا} [الأحقاف: 15] أَيْ ذَاتَ كُرْهٍ عَلَى الْحَالِ أَوْ حَمْلًا ذَا كُرْهٍ عَلَى الصِّفَةِ لِلْمَصْدَرِ وَالْكُرْهُ الْمَشَقَّةُ. ثُمَّ زَادَ فِي الْبَيَانِ بِقَوْلِهِ، {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] ، أَيْ مَشَقَّةُ الْحَمْلِ لَمْ تَكُنْ مُقْتَصِرَةً عَلَى زَمَانٍ قَلِيلٍ بَلْ هِيَ مَعَ مَشَقَّاتِ الرَّضَاعِ مُمْتَدَّةٌ هَذِهِ الْمُدَّةَ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ أَوْ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِيمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ التَّزَوُّجِ فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ وَفِي رِوَايَةٍ إلَى عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَهَمَّ بِرَجْمِهَا فَقَالَ عَلِيٌّ: أَوْ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَمَا إنَّهَا لَوْ خَاصَمَتْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ لَخَصِمَتكُمْ أَيْ غَلَبَتْكُمْ فِي الْخُصُومَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] وَقَالَ عَزَّ اسْمُهُ {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] ، فَبَقِيَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ لِحَمْلِهَا فَأَخَذَ عُمَرُ بِقَوْلِهِ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ قَالَ أَبُو الْيُسْرِ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذِهِ إشَارَةٌ غَامِضَةٌ وَقَفَ عَلَيْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ بِدِقَّةِ فَهْمِهِ وَقَدْ اخْتَفَى هَذَا الْحُكْمُ عَلَى الصَّحَابَةِ فَلَمَّا أَظْهَرَهُ قَبِلُوا مِنْهُ، وَلَا يُقَالُ لَا بُدَّ فِي الْإِشَارَةِ مِنْ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الْمُشَارِ إلَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِيمَا ذَكَرْت بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ بَيَانِ الضَّرُورَةِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّا نَقُولُ قَوْلُهُ ثَلَاثُونَ يَشْمَلُ أَفْرَادَهُ مُطَابَقَةً فَيَكُونُ السِّتَّةُ بَعْضَ مَدْلُولِهِ فَيَكُونُ ثَابِتًا بِالنَّظْمِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ بَيَانِ الضَّرُورَةِ وَالْإِشَارَةِ فَلْيَكُنْ بَيَانَ ضَرُورَةٍ أَيْضًا

[الثابت بدلالة النص]

وَأَمَّا الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ فَمَا ثَبَتَ بِمَعْنَى النَّصِّ لُغَةً لَا اجْتِهَادًا وَلَا اسْتِنْبَاطًا مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] هَذَا قَوْلٌ مَعْلُومٌ بِظَاهِرِهِ مَعْلُومٌ بِمَعْنَاهُ، وَهُوَ الْأَذَى ـــــــــــــــــــــــــــــQ (فَإِنْ قِيلَ) الْعَادَةُ الْمُسْتَمِرَّةُ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ فَكَانَ الْمُنَاسِبُ فِي مَقَامِ بَيَانِ الْمِنَّةِ ذِكْرُ الْأَكْثَرِ الْمُعْتَادِ لَا ذِكْرُ الْأَقَلِّ النَّادِرِ كَمَا فِي جَانِبِ الْفِصَالِ (قُلْنَا) قَدْ قِيلَ نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَمَلَتْهُ أُمُّهُ بِمَشَقَّةٍ ثُمَّ وَضَعَتْهُ عَلَى تَمَامِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي الْحَسَنِ أَوْ الْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَضَعَتْهُ أُمُّهُ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ الْمُدَّةِ كَذَا فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ ذِكْرُ مَا وَرَائِهَا لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى الْكَذِبِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ إذْ الْإِنْسَانُ لَا يَعِيشُ إذَا وُلِدَ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَيَكُونُ مَشَقَّةُ الْحَمْلِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مَوْجُودَةً لَا مَحَالَةَ فِي حَقِّ كُلِّ مُخَاطَبٍ فَيَكُونُ اعْتِبَارُ مَا هُوَ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ؛ لِكَوْنِهِ مُلْزِمًا لِلْمِنَّةِ لَا مَحَالَةَ أَدْخَلُ فِي بَابِ الْمُنَاسَبَةِ بِخِلَافِ الْفِصَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَدَّ لِجَانِبِ الْقِلَّةِ فِيهِ بَلْ لَا تَيَقُّنَ فِي نَفْسِ الرَّضَاعِ إذْ يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ الْإِنْسَانُ بِدُونِ ارْتِضَاعٍ مِنْ الْأُمِّ فَلَا جَرَمَ اُعْتُبِرَ فِيهِ الْأَكْثَرُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْغَالِبُ فِيهِ إذْ الرَّضَاعُ اخْتِيَارِيٌّ وَالشَّفَقَةُ حَامِلَةٌ عَلَى تَكْمِيلِ الْمُدَّةِ فَصَارَ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ قِيلَ قَدْ حَمَلَتْهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ لَا مَحَالَةَ إنْ لَمْ تَحْمِلْهُ أَكْثَرَ مِنْهَا وَأَرْضَعَتْهُ سَنَتَيْنِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْإِحْسَانُ إلَيْهَا، دَلَالَةُ النَّصِّ هِيَ فَهْمُ غَيْرِ الْمَنْطُوقِ مِنْ الْمَنْطُوقِ بِسِيَاقِ الْكَلَامِ وَمَقْصُودِهِ، وَقِيلَ هِيَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَنْصُوصِ وَغَيْرِ الْمَنْصُوصِ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَيُسَمِّيهَا عَامَّةُ الْأُصُولِيِّينَ فَحْوَى الْخِطَابِ؛ لِأَنَّ فَحْوَى الْكَلَامِ مَعْنَاهُ كَذَا فِي الصِّحَاحِ، وَفِي الْأَسَاسِ عَرَفْت فِي فَحْوَى كَلَامِهِ أَيْ فِيمَا تَنَسَّمْت مِنْ مُرَادِهِ بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ مَأْخُوذٌ مِنْ الْفِحَاءِ، وَهُوَ أَبْزَارُ الْقِدْرِ، وَيُسَمِّيهَا بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ؛ لِأَنَّ مَدْلُولَ اللَّفْظِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ مُوَافِقٌ لِمَدْلُولِهِ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ [الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ] قَوْلُهُ (بِمَعْنَى النَّصِّ لُغَةً) أَيْ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ لَا بِمَعْنَاهُ الشَّرْعِيُّ، وَلُغَةً تَمْيِيزٌ، لَا اجْتِهَادًا وَلَا اسْتِنْبَاطًا تَرَادُفٌ وَهَذَا نَفْيُ كَوْنِهِ قِيَاسًا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُكْمَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالدَّلَالَةِ إذَا عُرِفَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ مِنْ الْحُكْمِ الْمَنْصُوصِ كَمَا عُرِفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ وَالنَّهْرِ كَفُّ الْأَذَى عَنْ الْوَالِدَيْنِ؛ لِأَنَّ سَوْقَ الْكَلَامِ لِبَيَانِ احْتِرَامِهِمَا فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ وَكَمَا عُرِفَ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ تَحْرِيمِ أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ فِي قَوْله تَعَالَى، {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] ، تَرْكُ التَّعَرُّضِ لَهَا فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي الْإِحْرَاقِ وَالْإِهْلَاكِ أَيْضًا وَلَوْلَا هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ لَمَا لَزِمَ مِنْ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ تَحْرِيمُ الضَّرْبِ إذْ قَدْ يَقُولُ السُّلْطَانُ لِلْجَلَّادِ إذَا أَمَرَهُ بِقَتْلِ مَلِكٍ مُنَازِعٍ لَهُ لَا تَقُلْ لَهُ أُفٍّ وَلَكِنْ اُقْتُلْهُ لِكَوْنِ الْقَتْلِ أَشَدَّ فِي دَفْعِ مَحْذُورِ الْمُنَازَعَةِ مِنْ التَّأْفِيفِ وَيَقُولُ الرَّجُلُ وَاَللَّهِ مَا قُلْت لِفُلَانٍ أُفٌّ وَقَدْ ضَرَبَهُ، وَاَللَّهِ مَا أَكَلْت مَالَ فُلَانٍ وَقَدْ أَحْرَقَهُ فَلَا يَحْنَثُ، ثُمَّ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ مَعْلُومًا قَطْعًا كَمَا فِي تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ فَالدَّلَالَةُ قَطْعِيَّةٌ؛ وَإِنْ اُحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ هُوَ الْمَقْصُودُ كَمَا فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمُفْطِرِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَهِيَ ظَنِّيَّةٌ، وَلَمَّا تَوَقَّفَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِالدَّلَالَةِ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمَعْنَى وَلَا بُدَّ فِي مَعْرِفَتِهِ مِنْ نَوْعِ نَظَرٍ ظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ الدَّلَالَةَ قِيَاسٌ جَلِيٌّ فَقَالُوا لَمَّا تَوَقَّفَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَقَدْ وُجِدَ أَصْلٌ كَالتَّأْفِيفِ مَثَلًا وَفَرْعٌ كَالضَّرْبِ وَعِلَّةٌ جَامِعَةٌ مُؤَثِّرَةٌ كَدَفْعِ الْأَذَى يَكُونُ قِيَاسًا إذْ لَا مَعْنَى لِلْقِيَاسِ إلَّا ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ ظَاهِرًا سَمَّيْنَاهُ جَلِيًّا، وَلَيْسَ كَمَا ظَنُّوا

وَهَذَا مَعْنًى يُفْهَمُ مِنْهُ لُغَةً حَتَّى شَارَكَ فِيهِ غَيْرُ الْفُقَهَاءِ أَهْلَ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ كَمَعْنَى الْإِيلَامِ مِنْ الضَّرْبِ ثُمَّ يَتَعَدَّى حُكْمُهُ إلَى الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ بِذَلِكَ الْمَعْنَى فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ كَانَ مَعْنًى لَا عِبَارَةً لَمْ نُسَمِّهِ نَصًّا، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ ثَبَتَ بِهِ لُغَةً لَا اسْتِنْبَاطًا يُسَمَّى دَلَالَةً وَأَنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَ النَّصِّ، ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا مِنْ الْفَرْعِ بِالْإِجْمَاعِ. وَقَدْ يَكُونُ فِي هَذَا النَّوْعِ مَا تَخَيَّلُوهُ أَصْلًا جُزْءًا مِمَّا تَخَيَّلُوهُ فَرْعًا كَمَا لَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: لَا تُعْطِ زَيْدًا ذَرَّةً فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَنْعِهِ مِنْ إعْطَاءِ مَا فَوْقَ الذَّرَّةِ مَعَ أَنَّ الذَّرَّةَ الْمَنْصُوصَةَ دَاخِلَةٌ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا؛ وَلِأَنَّهُ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ شَرْعِ الْقِيَاسِ فَعُلِمَ أَنَّهُ مِنْ الدَّلَالَاتِ اللَّفْظِيَّةِ وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ، وَلِهَذَا اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ مِنْ مُثْبِتِي الْقِيَاسِ وَنُفَاتِهِ إلَّا مَا نُقِلَ عَنْ دَاوُد الظَّاهِرِيِّ لِفَهْمِ الْمَعْنَى مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ أَوْ الظَّنِّ قَوْلُهُ (وَهَذَا مَعْنًى يُفْهَمُ مِنْهُ لُغَةً) أَيْ الْأَذَى يُفْهَمُ مِنْ التَّأْفِيفِ لُغَةً لَا رَأْيًا كَمَعْنَى الْإِيلَامِ مِنْ الضَّرْبِ يَعْنِي إذَا قِيلَ اضْرِبْ فُلَانًا أَوْ لَا تَضْرِبْهُ يُفْهَمُ مِنْهُ لُغَةً أَنَّ الْمَقْصُودَ إيصَالُ الْأَلَمِ بِهَذَا الطَّرِيقِ إلَيْهِ أَوْ مَنْعُهُ عَنْهُ؛ وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُهُ فَضَرَبَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ حَلَفَ لَيَضْرِبُهُ فَلَمْ يَضْرِبْهُ إلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَبَرَّ، فَكَذَلِكَ مَعْنَى الْأَذَى مِنْ التَّأْفِيفِ، ثُمَّ تَعَدَّى حُكْمُهُ أَيْ حُكْمُ التَّأْفِيفِ، وَهُوَ الْحُرْمَةُ إلَى الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ بِذَلِكَ الْمَعْنَى لِلتَّيَقُّنِ بِتَعَلُّقِ الْحُرْمَةِ بِهِ لَا بِالصُّورَةِ حَتَّى إنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ هَذَا اللَّفْظِ أَوْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ هَذَا فِي لُغَتِهِمْ إكْرَامٌ لَمْ يُثْبِتْ الْحُرْمَةَ فِي حَقِّهِ، وَلَمَّا تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْإِيذَاءِ فِي التَّأْفِيفِ صَارَ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنْ قِيلَ لَا تُؤْذِهِمَا فَثَبَتَ الْحُرْمَةُ عَامَّةً. وَلَا يُقَالُ يَنْبَغِي أَنْ يُحَرِّمَ التَّأْفِيفَ لِلْوَالِدَيْنِ؛ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الْمُتَكَلِّمُ مَعْنَاهُ أَوْ اسْتَعْمَلَهُ بِجِهَةِ الْإِكْرَامِ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي مَحَلِّ النَّصِّ لَا لِلْمَعْنَى كَمَا فِي أَدَاءِ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ قِيمَتُهُ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ عَنْ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّا نَقُولُ: ذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَعْنَى ثَابِتًا بِالِاجْتِهَادِ فَيَكُونُ ظَنِّيًّا وَأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ الْقَطْعِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَعْنَى ثَابِتًا بِالنَّصِّ وَعُرِفَ قَطْعًا أَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ فَالْحُكْمُ يَدُورُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا غَيْرُ كَطَهَارَةِ سُؤْرِ الْهِرَّةِ لِمَا تَعَلَّقَتْ بِالطَّوْفِ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْهِرَّةُ لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ» الْحَدِيثُ كَانَ سُؤْرُ الْهِرَّةِ الْوَحْشِيَّةِ نَجِسًا مَعَ قِيَامِ النَّصِّ لِعَدَمِ الطَّوْفِ، وَحَاصِلٌ فَرْقِ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الْمَفْهُومَ بِالْقِيَاسِ نَظَرِيٌّ وَلِهَذَا شُرِطَ فِي الْقَائِسِ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ أَوْ بِمَنْزِلَتِهِ؛ لِأَنَّا نَجِدُ أَنْفُسَنَا سَاكِنَةً إلَيْهِ فِي أَوَّلِ سَمَاعِنَا هَذِهِ اللَّفْظَةَ وَلِهَذَا شَارَكَ أَهْلُ الرَّأْيِ غَيْرَهُمْ فِيهِ فَلَا يَكُونُ قِيَاسًا لِانْتِفَاءِ الْمَشْرُوطِ بِانْتِفَاءِ الشَّرْطِ. قَوْلُهُ (وَأَنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَ النَّصِّ) أَيْ هَذَا النَّوْعُ، وَهُوَ دَلَالَةُ النَّصِّ يَثْبُتُ بِهِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ مَا يَثْبُتُ بِالنُّصُوصِ حَتَّى الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَكَذَا عِنْدَ مَنْ جَعَلَهُ قِيَاسًا مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ عِنْدَهُمْ، فَأَمَّا عِنْدَ مَنْ جَعَلَهُ قِيَاسًا مِنْ أَصْحَابِنَا فَلَا يُثْبِتُ بِهِ الْحُدُودَ وَالْكَفَّارَاتِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ عِنْدَنَا فَهَذَا هُوَ فَائِدَةُ الْخِلَافِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ فِيمَا بَعْدُ. وَسَمِعْت عَنْ شَيْخِي قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَهُوَ كَانَ أَعْلَى كَعْبًا مِنْ أَنْ يُجَازِفَ أَوْ يَتَكَلَّمَ مِنْ غَيْرِ تَحْقِيقٍ أَنَّهَا تَثْبُتُ بِمِثْلِ هَذَا الْقِيَاسِ عِنْدَهُمْ كَمَا تَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ الَّذِي عِلَّتُهُ مَنْصُوصَةٌ فَعَلَى هَذَا لَا يَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ وَيَكُونُ الْخِلَافُ لَفْظِيًّا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي تَسْمِيَةِ هَذَا الْقِسْمِ قِيَاسًا وَيَبْعُدُ تَسْمِيَتُهُ قِيَاسًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى فِكْرَةٍ وَاسْتِنْبَاطِ عِلَّةٍ، وَمَنْ سَمَّاهُ قِيَاسًا اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الْأَسَامِي فَمَنْ كَانَ الْقِيَاسُ عِنْدَهُ

[الثابت باقتضاء النص]

وَأَمَّا الثَّابِتُ بِاقْتِضَاءِ النَّصِّ فَمَا لَمْ يَعْمَلْ إلَّا بِشَرْطٍ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ اقْتَضَاهُ النَّصُّ لِصِحَّةِ مَا تَنَاوَلَهُ، فَصَارَ هَذَا مُضَافًا إلَى النَّصِّ بِوَاسِطَةِ الْمُقْتَضَى، وَكَانَ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQعِبَارَةً عَنْ نَوْعٍ مِنْ الْإِلْحَاقِ يَشْمَلُ هَذِهِ الصُّورَةَ وَلَا مُشَاحَّةَ فِي عِبَارَةِ [الثَّابِتُ بِاقْتِضَاءِ النَّصِّ] قَوْلُهُ (وَأَمَّا الثَّابِتُ بِاقْتِضَاءِ النَّصِّ إلَى آخِرِهِ) الِاقْتِضَاءُ الطَّلَبُ وَمِنْهُ اقْتَضَى الدَّيْنَ وَتَقَاضَاهُ أَيْ طَلَبَهُ، قِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْمُقْتَضَى هُوَ مَا أُضْمِرَ فِي الْكَلَامِ ضَرُورَةَ صِدْقِ الْمُتَكَلِّمِ وَنَحْوَهُ، وَقِيلَ هُوَ الَّذِي لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَلَا يَكُونُ مَنْطُوقًا لَكِنْ يَكُونُ مِنْ ضَرُورَةِ اللَّفْظِ، وَقَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: هُوَ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ لَمْ يَتَحَقَّقْ مَعْنَى النَّصِّ بِدُونِهَا فَاقْتَضَاهَا النَّصُّ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَاهُ وَلَا يَلْغُو، وَهَذِهِ الْعِبَارَاتُ تُؤَدِّي مَعْنًى وَاحِدًا وَلَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةِ قَيْدٍ فِي التَّعْرِيفِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ جَعَلَ الْمَحْذُوفَ قِسْمًا آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ هُوَ مَا ثَبَتَ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ لِتَصْحِيحِهِ شَرْعًا، وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّرْعَ مَتَى دَلَّ عَلَى زِيَادَةِ شَيْءٍ فِي الْكَلَامِ لِصِيَانَتِهِ عَنْ اللَّغْوِ وَنَحْوِهِ فَالْحَامِلُ عَلَى الزِّيَادَةِ، وَهُوَ صِيَانَةُ الْكَلَامِ هُوَ الْمُقْتَضِي وَالْمَزِيدُ هُوَ الْمُقْتَضَى وَدَلَالَةُ الشَّرْعِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالزِّيَادَةِ هُوَ الِاقْتِضَاءُ كَذَا ذَكَرَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ، وَقِيلَ الْكَلَامُ الَّذِي لَا يَصِحُّ شَرْعًا إلَّا بِالزِّيَادَةِ هُوَ الْمُقْتَضِي وَطَلَبُهُ الزِّيَادَةَ هُوَ الِاقْتِضَاءُ وَالْمَزِيدُ هُوَ الْمُقْتَضَى وَمَا ثَبَتَ بِهِ هُوَ حُكْمُ الْمُقْتَضَى. وَمِثَالُهُ الْمَشْهُورُ قَوْلُك لِغَيْرِك اعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِأَلْفٍ فَنَفْسُ هَذَا الْكَلَامِ هُوَ الْمُقْتَضَى لِعَدَمِ صِحَّتِهِ فِي نَفْسِهِ شَرْعًا وَطَلَبُهُ مَا يَصِحُّ بِهِ اقْتِضَاءٌ وَمَا زِيدَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْبَيْعُ مُقْتَضًى وَمَا ثَبَتَ بِالْبَيْعِ، وَهُوَ الْمِلْكُ حُكْمُ الْمُقْتَضَى وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ لَفْظَةِ الثَّابِتِ إنْ كَانَ الْمُقْتَضِي؛ لِأَنَّهُ هُوَ الثَّابِتُ بِاقْتِضَاءِ النَّصِّ فَمَعْنَى قَوْلِهِ وَأَمَّا الثَّابِتُ بِاقْتِضَاءِ النَّصِّ وَأَمَّا الْمُقْتَضَى، وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُ فِي لَمْ يَعْمَلْ وَالْبَارِزُ فِي عَلَيْهِ رَاجِعَانِ إلَى النَّصِّ، وَيُقْرَأُ بِشَرْطِ تَقَدُّمٍ عَلَى الْإِضَافَةِ وَيَكُونُ التَّنْوِينُ فِي تَقَدُّمٍ عِوَضًا عَنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ، وَهُوَ الضَّمِيرُ الْعَائِدُ إلَى مَا أَيْ بِشَرْطِ تَقَدُّمِهِ كَمَا يَقْتَضِيه هَذَا الْمَقَامُ، وَكَذَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِيمَا بَعْدُ، وَذَلِكَ وَهَذَا إشَارَتَانِ إلَى الثَّابِتِ، وَالْمُقْتَضَى بِالْفَتْحِ فِي قَوْلِهِ بِوَاسِطَةِ الْمُقْتَضَى بِمَعْنَى الِاقْتِضَاءِ؛ لِأَنَّ زِنَةَ الْمَفْعُولِ مِنْ أَوْزَانِ الْمَصَادِرِ فِي الْمُنْشَعِبَاتِ، وَاللَّامُ فِيهِ بَدَلُ الْإِضَافَةِ، وَالْفَاءُ فِي فَإِنَّ " إشَارَةٌ " إلَى تَعْلِيلِ تَسْمِيَتِهِ بِهَذَا الِاسْمِ أَوْ إلَى تَعْلِيلِ اشْتِرَاطِ تَقَدُّمِهِ عَلَيْهِ. وَهِيَ فِي فَصَارَ لِبَيَانِ كَوْنِهِ نَتِيجَةً لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ وَأَمَّا الْمُقْتَضَى فَالشَّيْءُ الَّذِي لَمْ يَعْمَلْ النَّصَّ أَيْ لَمْ يُفِدْ شَيْئًا وَلَمْ يُوجِبْ حُكْمًا إلَّا بِشَرْطِ تَقَدُّمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ عَلَى النَّصِّ؛ وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا الشَّيْءُ بِالْمُقْتَضَى؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ اقْتَضَاهُ النَّصِّ؛ وَإِنَّمَا شُرِطَ تَقَدُّمُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرُ اقْتِضَاءِ النَّصِّ لِصِحَّةِ مَا تَنَاوَلَ النَّصُّ إيَّاهُ فَتَكُونُ صِحَّةُ النَّصِّ مُتَوَقِّفَةً عَلَيْهِ تَوَقُّفَ الْمَشْرُوطِ عَلَى الشَّرْطِ فَيُقَدَّمُ لَا مَحَالَةَ وَلَمَّا اقْتَضَى النَّصُّ ذَلِكَ الشَّيْءَ لِصِحَّتِهِ صَارَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مُضَافًا إلَى النَّصِّ بِوَاسِطَةِ اقْتِضَاءِ النَّصِّ إيَّاهُ، وَيُؤَكِّدُ هَذَا الْوَجْهَ مَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمُقْتَضَى عِبَارَةٌ عَنْ زِيَادَةٍ عَلَى الْمَنْصُوصِ بِشَرْطِ تَقْدِيمِهِ لِيَصِيرَ الْمَنْظُومُ مُفِيدًا أَوْ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ وَبِدُونِهِ لَا يُمْكِنُ إعْمَالُ الْمَنْظُومِ، وَرَأَيْت فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ وَأَمَّا الثَّابِتُ بِطَلَبِ النَّصِّ لِنَفْسِهِ فَشَيْءٌ لَمْ يَعْمَلْ النَّصُّ بِدُونِ تَقَدُّمِهِ

وَعَلَامَتُهُ أَنْ يَصِحَّ بِهِ الْمَذْكُورُ، وَلَا يُلْغَى عِنْدَ ظُهُورِهِ وَيَصْلُحُ لِمَا أُرِيدَ بِهِ فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] فَإِنَّ الْأَهْلَ غَيْرُ مُقْتَضًى لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي الْقَرْيَةِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ بَلْ هَذَا ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى النَّصِّ فَإِنَّ النَّصَّ اقْتَضَاهُ لِيَكُونَ مُتَنَاوَلُهُ صَحِيحًا فَصَارَ مُتَنَاوَلُ النَّصِّ مُضَافًا إلَى النَّصِّ لَكِنْ بِوَاسِطَةِ الْمُقْتَضَى إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُقْتَضَى لَمَا صَحَّ مَا تَنَاوَلَهُ النَّصُّ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ لَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى النَّصِّ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «شِرَاءُ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ» ، أَضَافَ الْإِعْتَاقَ إلَى الشِّرَاءِ بِوَاسِطَةِ مُقْتَضَاهُ، وَهُوَ الْمِلْكُ هُوَ الَّذِي يُوجِبُ الْعِتْقَ فِي الْقَرِيبِ لَا الشِّرَاءُ وَلَوْلَا الْمُقْتَضَى لَمَا صَحَّ إضَافَةُ الْإِعْتَاقِ إلَى الشِّرَاءِ فَجَعَلَ هَذَا الشَّارِحُ اسْمَ الْإِشَارَةِ رَاجِعًا إلَى مَا فِي مُتَنَاوَلِهِ وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ أَيْضًا؛ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ الثَّابِتِ حُكْمُ الْمُقْتَضَى كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الثَّابِتِ الْحُكْمُ فِيمَا تَقَدَّمَ فَالِاقْتِضَاءُ بِمَعْنَى الْمُقْتَضَى وَيُقْرَأُ بِشَرْطٍ بِالتَّنْوِينِ وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ صِفَةٌ لَهُ. وَذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى الشَّرْطِ وَهَذَا إلَى الثَّابِتِ، وَالْمُقْتَضَى بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَالْفَاءُ فِي فَإِنَّ لِلْإِشَارَةِ إلَى تَعْلِيلِ التَّقَدُّمِ لَا غَيْرُ، وَهِيَ فِي فَصَارَ لِلْإِشَارَةِ إلَى كَوْنِ إضَافَةِ الْحُكْمِ نَتِيجَةً لِلِاقْتِضَاءِ، وَتَقْدِيرُهُ وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِمُقْتَضَى النَّصِّ فَمَا لَمْ يَعْمَلْ النَّصُّ فِي إثْبَاتِهِ أَيْ لَمْ يُوجِبْهُ إلَّا بِشَرْطِ تَقَدُّمٍ عَلَى النَّصِّ؛ وَإِنَّمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ الشَّرْطُ؛ لِأَنَّهُ أَمْرُ اقْتِضَاءِ النَّصِّ لِصِحَّةِ مُتَنَاوَلِهِ وَلَمَّا كَانَ مُثْبِتُ ذَلِكَ الْحُكْمِ مُضَافًا إلَى النَّصِّ؛ لِأَنَّ النَّصَّ اقْتَضَاهُ صَارَ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَى النَّصِّ أَيْضًا بِوَاسِطَتِهِ فَلَا يَكُونُ ثَابِتًا بِالرَّأْيِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ فَكَانَ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ أَيْ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْمُقْتَضِي أَوْ الْمُقْتَضَى عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ، قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الثَّابِتَ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لَا بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ مَا قَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيُسْرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِمُقْتَضَى النَّصِّ فَمَا ثَبَتَ بِشَيْءٍ زَائِدٍ عَلَى النَّصِّ اقْتَضَاهُ النَّصُّ فَيَكُونُ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِالنَّصِّ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضَى ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَالْحُكْمُ ثَبَتَ بِالْمُقْتَضَى فَيَكُونُ الْمُقْتَضَى مَعَ حُكْمِهِ ثَابِتَيْنِ بِالنَّصِّ. قَوْلُهُ (وَعَلَامَتُهُ إلَى آخِرِهِ) اعْلَمْ أَنَّ عَامَّةَ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَجَمِيعَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجَمِيعَ الْمُعْتَزِلَةِ جَعَلُوا مَا يُضْمَرُ فِي الْكَلَامِ لِتَصْحِيحِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ، مَا أُضْمِرَ ضَرُورَةَ صِدْقِ الْمُتَكَلِّمِ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ» الْحَدِيثَ، وَمَا أُضْمِرَ لِصِحَّتِهِ عَقْلًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى إخْبَارًا، {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] ، وَمَا أُضْمِرَ لِصِحَّتِهِ شَرْعًا كَقَوْلِ الرَّجُلِ اعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِأَلْفٍ وَسَمَّوْا الْكُلَّ مُقْتَضًى؛ وَلِهَذَا قَالُوا فِي تَحْدِيدِهِ هُوَ جَعْلُ غَيْرِ الْمَنْطُوقِ مَنْطُوقًا لِتَصْحِيحِ الْمَنْطُوقِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ الْعُمُومِ فِي الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَبَعْضُهُمْ إلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ جَوَازِهِ فِي جَمِيعِهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي الْإِمَامِ. وَخَالَفَهُمْ الْمُصَنِّفُ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَصَدْرُ الْإِسْلَامِ وَصَاحِبُ الْمِيزَانِ فِي ذَلِكَ فَأَطْلَقُوا اسْمَ الْمُقْتَضَى عَلَى مَا أُضْمِرَ لِصِحَّةِ الْكَلَامِ شَرْعًا فَقَطْ وَجَعَلُوا مَا وَرَاءَهُ قِسْمًا وَاحِدًا وَسَمَّوْهُ مَحْذُوفًا أَوْ مُضْمَرًا وَقَالُوا: بِجَوَازِ الْعُمُومِ فِي الْمَحْذُوفِ دُونَ الْمُقْتَضَى إلَّا أَبَا الْيُسْرِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِعُمُومِ الْمَحْذُوفِ أَيْضًا؛ وَإِنْ سَلَّمَ أَنَّهُ غَيْرُ الْمُقْتَضَى وَسَيَأْتِيك الْكَلَامُ فِيهِ مَشْرُوحًا إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ أَرَادَ الشَّيْخُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْمُقْتَضَى وَالْمَحْذُوفِ بِبَيَانِ الْعَلَامَةِ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQفَقَالَ وَعَلَامَتُهُ أَيْ عَلَامَةُ الْمُقْتَضَى أَنْ يَصِحَّ بِهِ أَيْ بِالْمُقْتَضَى الْمَذْكُورِ أَيْ يَصِيرَ مُفِيدًا لِمَعْنَاهُ، وَمُوجِبًا لِمَا تَنَاوَلَهُ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَلَا يُلْغَى عِنْدَ ظُهُورِهِ أَيْ لَا يَتَغَيَّرُ ظَاهِرُ الْكَلَامِ عَنْ حَالِهِ وَإِعْرَابُهُ عِنْدَ التَّصْرِيحِ بِهِ كَذَا قِيلَ بَلْ يَبْقَى كَمَا كَانَ قَبْلَهُ، وَيَصْلُحَ بِنَصْبِ الْحَاءِ أَيْ الْمَذْكُورُ لَمَّا أُرِيدَ بِهِ مِنْ الْمَعْنَى أَيْ لَا يَتَغَيَّرُ مَعْنَاهُ أَيْضًا، وَبِمَجْمُوعِ مَا ذُكِرَ يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَحْذُوفِ؛ لِأَنَّ بِالْمَحْذُوفِ؛ وَإِنْ كَانَ يَصِحُّ الْمَذْكُورُ إلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا يَتَغَيَّرُ بِهِ ظَاهِرُ الْكَلَامِ عَنْ حَالِهِ وَإِعْرَابُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] وَرُبَّمَا لَمْ يَتَغَيَّرْ وَلَكِنَّهُ لَا يَبْقَى صَالِحًا لِمَا أُرِيدَ بِهِ لِتَغَيُّرِ مَعْنَاهُ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ عَبْدٌ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ فَأَخْبَرَ الْمَوْلَى فَقَالَ طَلِّقْهَا لَا يُثْبِتُ الْإِجَازَةَ اقْتِضَاءً؛ وَإِنْ كَانَ يَصِحُّ الْمَذْكُورُ بِهِ وَلَا يَتَغَيَّرُ ظَاهِرُهُ عَنْ حَالِهِ لَكِنَّهُ لَا يَبْقَى صَالِحًا لِمَا أُرِيدَ بِهِ؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ حَالِ الْعَبْدِ، وَهُوَ تَمَرُّدُهُ عَلَى مَوْلَاهُ بِهَذَا التَّزَوُّجِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَرَضَ الْمَوْلَى رَدُّ الْعَقْدِ وَالْمُتَارَكَةُ، فَإِنَّهُ يُسَمَّى طَلَاقًا لَا إبْقَاءُ النِّكَاحِ وَأَنَّهُ فِي وِلَايَتِهِ فَيَصِحُّ الْأَمْرُ فَلَوْ ثَبَتَتْ الْإِجَازَةُ اقْتِضَاءً لَمْ يَبْقَ قَوْلُهُ طَلِّقْهَا صَالِحًا لِمَا أُرِيدَ بِهِ. وَهُوَ إيجَابُ الْمُتَارَكَةِ بَلْ يَصِيرُ أَمْرًا لِلْعَبْدِ بِالطَّلَاقِ وَلَيْسَ فِي وِلَايَتِهِ ذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ الْأَمْرُ، بِخِلَافِ مَا إذَا زَوَّجَهُ فُضُولِيٌّ فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ فَقَالَ: طَلِّقْهَا حَيْثُ يَثْبُتُ الْإِجَازَةُ اقْتِضَاءً؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى الْكَلَامُ صَالِحًا لِمَا أُرِيدَ بِهِ كَمَا كَانَ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ التَّطْلِيقَ بَعْدَ الْإِجَازَةِ كَمَا كَانَ يَمْلِكُهُ قَبْلَهَا فَيَمْلِكُ الْأَمْرَ بِهِ أَيْضًا؛ وَإِنْ قُرِئَ وَلَا يَصْلُحُ بِالرَّفْعِ وَيُجْعَلُ الضَّمِيرُ عَائِدًا إلَى الْمُقْتَضَى مَعَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ انْتِشَارُ الضَّمِيرِ فَمَعْنَاهُ وَيَصْلُحُ الْمُقْتَضَى لِمَا أُرِيدَ بِهِ مِنْ تَصْحِيحِ الْكَلَامِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُمْكِنَ إثْبَاتُهُ تَبَعًا لِلْمُقْتَضَى، قَالَ أَبُو الْيُسْرِ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - الشَّيْءُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ إذَا كَانَ تَابِعًا لِلْمُصَرِّحِ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضَى يَصِيرَ تَابِعًا لِلْمُصَرِّحِ فِي الثُّبُوتِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ تَابِعًا فِي الْجُمْلَةِ حَتَّى يَصْلُحَ أَنْ يَصِيرَ تَابِعًا لَهُ فِي الثُّبُوتِ أَوْ يَكُونَ مِثْلَهُ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصْلًا لَهُ أَلْبَتَّةَ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَدُك طَالِقٌ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَلَا يَقْتَضِي ذِكْرُ الْيَدِ ذِكْرَ النَّفْسِ؛ وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ لَا يَقَعُ عَلَى الْيَدِ إلَّا بَعْدَ وُقُوعِهِ عَلَى النَّفْسِ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ أَصْلُ الْيَدِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَصِيرَ تَابِعَةً لَهَا فِي الذِّكْرِ وَالثُّبُوتِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَصِيرَ الْأَصْلُ تَبَعًا وَالتَّبَعُ أَصْلًا، وَكَذَا حُكْمُ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ إلَّا أَنَّ عِنْدَهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِإِضَافَتِهِ إلَى الْيَدِ بِطَرِيقٍ آخَرَ؛ وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي عُمُومِهِ، هَذَا لَفْظُهُ وَعَنْ هَذَا قُلْنَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ كَفِّرْ بِهَذَا الْعَبْدِ عَنْ يَمِينِك لَا يَثْبُتُ الْإِعْتَاقُ اقْتِضَاءً؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْإِعْتَاقِ أَصْلٌ لِسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ فَلَا تَثْبُتُ تَبَعًا. وَكَذَلِكَ قُلْنَا إنَّ الْكُفَّارَ لَا يُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ إذْ لَوْ خُوطِبُوا بِهَا لَثَبَتَ الْإِيمَانُ مُقْتَضًى تَبَعًا لَهَا وَلَا يَصِحُّ إذْ جَمِيعُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ تَبَعٌ لِلْإِيمَانِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ فِي دَعْوَى الْجَامِعِ إذَا ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّك أَخِي لِأَبِي وَأُمِّي؛ فَإِنْ كَانَ يَدَّعِي عَلَيْهِ حَقًّا صَحَّتْ الدَّعْوَى، وَقُبِلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ الْأُخُوَّةَ حَقٌّ يُبْتَنَى عَلَى الْبُنُوَّةِ عَلَى الْغَائِبِ، وَذَلِكَ أَصْلٌ وَهَذَا تَابِعٌ لَهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ مُقْتَضَى هَذَا فَبَقِيَ هَذَا حَقًّا عَلَى غَائِبٍ فَلَمْ يُسْمَعْ؛ فَإِنْ ادَّعَى حَقًّا مَقْصُودًا صَارَتْ الْأُخُوَّةُ وَالْبُنُوَّةُ مُقْتَضَاهُ وَتَبَعًا لَهُ فَوَجَبَ الْقَضَاءُ بِهِ غَيْرَ مُقْتَضًى

مِنْ بَابِ الْإِضْمَارِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْمُقْتَضِي إنَّمَا يَكُونُ لِصِحَّةِ الْمُقْتَضَى وَمِثَالُهُ الْأَمْرُ بِالتَّحْرِيرِ لِلتَّكْفِيرِ مُقْتَضٍ لِلْمِلْكِ وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْبَيَانَ مَعْرِفَةُ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْأُصُولِ لُغَةً وَتَفْسِيرُ مَعَانِيهَا وَبَيَانُ تَرْتِيبِهَا وَالْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي بَيَانِ أَحْكَامِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَإِنْ كَانَ يُشْبِهُ الْمُقْتَضَى مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ أَيْ؛ لِأَنَّ الْأَهْلَ إذَا ثَبَتَ أَيْ صَرَّحَ بِهِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ أَيْ السُّؤَالُ الَّذِي نُسِبَ إلَى الْقَرْيَةِ وَتَعَلَّقَ بِهَا، وَالضَّمِيرُ فِي إلَيْهِ رَاجِعٌ إلَى الْقَرْيَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ أَوْ الْمَسْئُولِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي مِثْلِ هَذَا الضَّمِيرِ وَلَكِنَّ التَّحْقِيقَ فِيهِ أَنَّ التَّأْنِيثَ إنَّمَا يَجِبُ مُرَاعَاةَ حَقِّهِ إذَا كَانَ مُرَتَّبًا عَلَى الْمُذَكَّرِ بِزِيَادَةِ حَرْفٍ عَلَى صِيغَةِ التَّذْكِيرِ كَضَارِبٍ وَضَارِبَةٍ أَوْ بِصِيغَةٍ غَيْرِ صِيغَةِ التَّذْكِيرِ أَيْ يَكُونُ لَهُ مُذَكَّرٌ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَلْزَمُ مُرَاعَاةُ حَقِّ التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ سَقَطَ اعْتِبَارُهُ لِعَدَمِ التَّرْتِيبِ وَتَعَذُّرِ الْمُرَاعَاةِ كَمَا فِي لَفْظِ الْمَعْرِفَةِ وَالنَّكِرَةِ مَثَلًا فَإِنَّ تَأْنِيثَهُمَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُرَتَّبًا عَلَى التَّذْكِيرِ إذْ لَيْسَ لَهُمَا مُذَكَّرٌ لَا بِنُقْصَانِ حَرْفِ التَّأْنِيثِ وَلَا بِصِيغَةٍ أُخْرَى اسْتَوَى فِيهِمَا التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ سَوَاءٌ وَصَفْت بِهِ نَحْوَ: اسْمٌ مَعْرِفَةٌ وَاسْمٌ نَكِرَةٌ أَوْ جَعَلْته خَبَرًا نَحْوَ: زَيْدٌ مَعْرِفَةٌ وَالرَّجُلُ مَعْرِفَةٌ بِخِلَافِ الْمُعَرَّفَةِ وَالْمُنَكَّرَةِ؛ لِأَنَّ تَأْنِيثَهُمَا مُرَتَّبٌ فَأَمْكَنَ الْمُرَاعَاةُ وَنَظِيرُهُمَا لَفْظُ اسْمٍ وَشَيْءٍ فَتَقُولُ هَذَا اسْمٌ وَهَذِهِ اسْمٌ، وَهَذَا شَيْءٌ وَهَذِهِ شَيْءٌ. وَكَذَا الْفِعْلُ وَالْحَرْفُ تَقُولُ: ضَرَبْت: فِعْلٌ، وَضَرَبَ: فِعْلٌ وَرُبَّتْ: حَرْفٌ، وَمِنْ: حَرْفٌ، فَلَا تَقُولُ هَذَا اسْمٌ وَهَذِهِ سِمَةٌ وَهَذَا شَيْءٌ وَهَذِهِ شِيئَةٌ وَضَرَبَ: فِعْلٌ، وَضَرَبْت: فِعْلَةٌ وَمِنْ: حَرْفٌ، وَرُبَّتَ: حَرْفَةٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّ التَّذْكِيرَ وَالتَّأْنِيثَ إذَا لَمْ يَكُونَا مُرَتَّبَيْنِ لَمْ يُرَاعَ حَقُّهُمَا كَذَا فِي الْمُحَصَّلِ فِي شَرْحِ الْمُفَصَّلِ، وَلِهَذَا قَالَ جَارُ اللَّهِ فِي الْمُفَصَّلِ فِي الْمُضْمَرَاتِ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِمْ رُبَّهُ رَجُلًا نَكِرَةٌ مُبْهَمٌ وَلَمْ يَقُلْ مُبْهَمَةٌ وَلَمَّا كَانَ تَأْنِيثُ الْقَرْيَةِ غَيْرَ مُرَتَّبٍ اسْتَوَى فِيهِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ، وَلْيَكُنْ هَذَا عَلَى ذِكْرٍ مِنْك فَإِنَّك تَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي هَذَا الْكِتَابِ كَثِيرًا قَوْلُهُ (مِنْ بَابِ الْإِضْمَارِ) جَعَلَهُ مِنْ بَابِ الْإِضْمَارِ هُنَا وَسَمَّاهُ فِيمَا بَعْدُ مَحْذُوفًا، وَإِلَّا صَارَ مَا لَهُ أَثَرٌ فِي اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ وَبَلْدَةٍ أَيْ وَرُبَّ بَلْدَةٍ وَقَوْلُهُ اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ بِالْجَرِّ وَالْحَذْفُ بِخِلَافِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى، {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] ، أَيْ مِنْ قَوْمِهِ وَقَوْلِ الرَّجُلِ اللَّهَ لَأَفْعَلَنَّ بِالنَّصْبِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ النَّظِيرِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَكَانَ تَسْمِيَتُهُ بِالْمَحْذُوفِ أَوْلَى وَمَا ذَكَرَهُ هَهُنَا تَوَسُّعٌ، وَمِثَالُهُ أَيْ مِثَالُ الْمُقْتَضَى الْأَمْرُ بِالتَّحْرِيرِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ أَيْ فَحَرِّرُوا رَقَبَةً مُقْتَضٍ لِلْمِلْكِ؛ لِأَنَّ تَحْرِيرَ الْحُرِّ لَا يُتَصَوَّرُ، وَكَذَا تَحْرِيرُ مِلْكِ الْغَيْرِ عَنْ نَفْسِهِ فَصَارَ التَّقْدِيرُ فَعَلَيْهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ ثُمَّ إذَا قَدَّرَ مَذْكُورًا لَمْ يَتَغَيَّرْ مُوجِبُ الْكَلَامِ وَبَقِيَ صَالِحًا لِمَا أُرِيدَ بِهِ، وَهُوَ التَّكْفِيرُ، وَذَكَرَ السَّيِّدُ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالثَّابِتُ مُقْتَضًى نَحْوُ قَوْله تَعَالَى، {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْمُصَاحَبَةُ إلَّا بِالِاتِّفَاقِ وَتَرْكِ الْقَتْلِ فَيَثْبُتُ حُرْمَةُ الْقَتْلِ وَوُجُوبُ الِاتِّفَاقِ مُقْتَضَاهُ سَابِقًا عَلَيْهِ. هَذَا إشَارَةٌ إلَى مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ الْخَاصِّ كَذَا إلَى مَا انْتَهَى إلَيْهِ، وَبَيَانُ تَرْتِيبِهَا أَيْ فِي الْبَعْضِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ التَّرْتِيبُ فِي الْكُلِّ، وَالْفَصْلُ الرَّابِعُ أَيْ مِنْ الْبَيَانِ فَكَأَنَّهُ جَعَلَ بَيَانَ مَعَانِيهَا لُغَةً فَصْلًا وَبَيَانَ مَعَانِيهَا شَرْعًا فَصْلًا وَبَيَانَ تَرْتِيبِهَا عِنْدَ التَّعَارُضِ فَصْلًا وَبَيَانَ الْأَحْكَامِ رَابِعَ الْفُصُولِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

[باب معرفة أحكام الخصوص]

بَابُ مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْخُصُوصِ: اللَّفْظُ الْخَاصُّ يَتَنَاوَلُ الْمَخْصُوصَ قَطْعًا وَيَقِينًا بِلَا شُبْهَةٍ لِمَا أُرِيدَ بِهِ مِنْ الْحُكْمِ وَلَا يَخْلُو الْخَاصُّ عَنْ هَذَا فِي أَصْلِ الْوَضْعِ؛ وَإِنْ احْتَمَلَ التَّغَيُّرَ عَنْ أَصْلِ وَضْعِهِ لَكِنْ لَا يُحْتَمَلُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِطَرِيقِ الْبَيَانِ لِكَوْنِهِ بَيِّنًا لِمَا وُضِعَ لَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQ [بَابُ مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْخُصُوصِ] الْبَابُ: النَّوْعُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «مَنْ تَعَلَّمَ بَابًا مِنْ الْعِلْمِ» ، أَيْ نَوْعًا مِنْهُ قَوْلُهُ (يَتَنَاوَلُ الْمَخْصُوصَ) أَيْ مَدْلُولُهُ، قَطْعًا تَمْيِيزٌ أَيْ عَلَى وَجْهٍ انْقَطَعَ إرَادَةُ الْغَيْرِ عَنْهُ، وَيَقِينًا أَيْ ثُبُوتًا فِي ذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ، وَالْيَقِينُ الْعِلْمُ وَزَوَالُ الشَّكِّ فَعِيلٌ مِنْ يَقِنَ الْأَمْرَ يَقَنًا لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ، بِلَا شُبْهَةٍ تَأْكِيدٌ آخَرُ بِبَيَانِ النَّتِيجَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ فِي ذَاتِهِ وَانْقَطَعَ عَنْهُ إرَادَةُ الْغَيْرِ لَا تَبْقَى فِيهِ شُبْهَةٌ لَا مَحَالَةَ، وَالْغَرَضُ مِنْ التَّأْكِيدِ مَرَّتَيْنِ الْمُبَالَغَةُ فِي نَفْيِ قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّهُ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ لِبَقَاءِ الِاحْتِمَالِ وَلِهَذَا قَدَّمَ قَطْعًا عَلَى يَقِينًا؛ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكَلَامِ تَقْدِيمُ الْيَقِينِ عَلَى الْقَطْعِ؛ لِأَنَّ الْمُنَازَعَةَ لَمْ تَقَعْ فِي ثُبُوتِ مَوْضُوعِهِ بَلْ هِيَ وَقَعَتْ فِي قَطْعِ الِاحْتِمَالِ فَكَانَ هَذَا هُوَ الْغَرَضُ الْأَصْلِيُّ؛ فَلِهَذَا قَدَّمَهُ، لِمَا أُرِيدَ بِهِ أَيْ لِأَجْلِ مَا أُرِيدَ بِالْمَخْصُوصِ مِنْ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَمِنْ لِلْبَيَانِ وَذَلِكَ كَلَفْظَةِ الثَّلَاثَةِ يَتَنَاوَلُ مَخْصُوصَهَا. وَهُوَ الْأَفْرَادُ الْمَعْلُومَةُ لِمَا أُرِيدَ بِهِ مِنْ تَعَلُّقِ وُجُوبِ التَّرَبُّصِ بِهِ، يُوَضِّحُهُ مَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: حُكْمُ الْخَاصِّ مَعْرِفَةُ الْمُرَادِ بِاللَّفْظِ وَوُجُوبُ الْعَمَلِ بِهِ فِيمَا هُوَ مَوْضُوعٌ لَهُ لُغَةً؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ فِيمَا وُضِعَ لَهُ بِلَا شُبْهَةٍ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْمُصَنِّفِ، وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ نَفْسَ الِاحْتِمَالِ قَادِحًا فِي الْيَقِينِ فَأَمَّا عِنْدَ مَنْ اعْتَبَرَهُ كَذَلِكَ، فَهُوَ يُوجِبُ الْعَمَلَ بِظَاهِرِهِ وَلَكِنْ لَا يُوجِبُ الْيَقِينَ، لَا يَخْلُو الْخَاصُّ عَنْ هَذَا أَيْ عَنْ تَنَاوُلِ الْمَخْصُوصِ بِطَرِيقِ الْقَطْعِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِذَلِكَ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ دَلَالَةَ الْخَاصِّ عَلَى الْمَخْصُوصِ بِاعْتِبَارِ أَصِلْ الْوَضْعِ لَا بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ بَابِ الِاسْتِعْمَالِ وَالْخُصُوصُ مِنْ بَابِ الْوَضْعِ وَالْوَضْعُ مُقَدَّمٌ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ؛ وَإِنْ احْتَمَلَ التَّغَيُّرَ أَيْ قَبْلَ أَنْ يُرَادَ بِهِ غَيْرُ مَوْضُوعِهِ مَجَازًا إذَا قَامَ الدَّلِيلُ؛ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَثْبُتُ الْقَطْعُ مَعَ الِاحْتِمَالِ قُلْنَا لَمَّا لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلُ الْحَقِّ بِالْعَدَمِ فَلَا يَمْتَنِعُ الْقَطْعُ بِهِ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَمْ يَمْتَنِعْ أَحَدٌ مِنْ دُخُولِ الْمُسَقَّفِ مَعَ أَنَّ احْتِمَالَ السُّقُوطِ ثَابِتٌ جَزْمًا لَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ أُلْحِقَ بِالْعَدَمِ هَذَا هُوَ الْمَسْمُوعُ مِنْ الثِّقَاتِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الِاحْتِمَالَ صِفَةُ اللَّفْظِ، وَهُوَ صَلَاحِيَّتُهُ لَأَنْ يُرَادَ بِهِ غَيْرُ الْمَوْضُوعِ لَهُ وَإِرَادَةُ الْغَيْرِ هُوَ الْمُحْتَمَلُ فَقَوْلُنَا قَطْعًا رَاجِعٌ إلَى الْمُحْتَمَلِ لَا إلَى الِاحْتِمَالِ بَيَانُهُ أَنَّ لَفْظَ الْأَسَدِ الْمَوْضُوعَ لِلْحَيَوَانِ الْمَخْصُوصِ فِي قَوْلِك رَأَيْت أَسَدًا مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ يُقْبَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الشُّجَاعُ مَجَازًا فَهَذَا هُوَ الِاحْتِمَالُ وَإِرَادَةُ الشُّجَاعِ هِيَ الْمُحْتَمَلُ، فَإِذَا قُلْنَا الْمُرَادُ مِنْهُ مَوْضُوعُهُ قَطْعًا فَالْمُرَادُ بِالْقَطْعِ قَطْعُ الْمُحْتَمَلِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى قِيَامِ الدَّلِيلِ وَلَمْ يُوجَدْ فَيَكُونُ مُنْقَطِعًا لَا مَحَالَةَ لَا قَطْعَ الِاحْتِمَالِ إذْ صَلَاحِيَّةُ اللَّفْظِ بَاقِيَةٌ حَتَّى لَوْ انْقَطَعَ الِاحْتِمَالُ أَيْضًا يُسَمَّى مُحْكَمًا فَثَبَتَ أَنَّ الْقَطْعَ يَجْتَمِعُ مَعَ الِاحْتِمَالِ. قَوْلُهُ (لَكِنْ لَا يَحْتَمِلُ التَّصَرُّفَ) اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ وَاحْتَمَلَ التَّغَيُّرَ بِطَرِيقِ الْبَيَانِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْبَيَانَ إمَّا إثْبَاتُ الظُّهُورِ، وَهُوَ حَقِيقَتُهُ أَوْ إزَالَةُ الْخَفَاءِ، وَهِيَ لَازِمَتُهُ فَلَوْ احْتَمَلَ التَّصَرُّفَ بِطَرِيقِ الْبَيَانِ مَعَ كَوْنِهِ بَيِّنًا يَلْزَمُ إثْبَاتُ الثَّابِتِ أَوْ نَفْيُ الْمَنْفِيِّ وَكِلَاهُمَا فَاسِدٌ، مِنْ ذَلِكَ أَيْ مِنْ الْخَاصِّ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ

مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] قُلْنَا الْمُرَادُ بِهِ الْحَيْضُ لِأَنَّا إذَا حَمَلْنَا عَلَى الْأَطْهَارِ انْتَقَصَ الْعَدَدُ عَنْ الثَّلَاثَةِ فَصَارَتْ الْعِدَّةُ قُرْأَيْنِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ وَإِذَا حَمَلْنَا عَلَى الْحَيْضِ كَانَتْ ثَلَاثَةً كَامِلَةً وَالثَّلَاثَةُ اسْمٌ خَاصٌّ لِعَدَدٍ مَعْلُومٍ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ كَالْفَرْدِ لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ وَالْوَاحِدُ لَا يَحْتَمِلُ الِاثْنَيْنِ فَكَانَ هَذَا بِمَعْنَى الرَّدِّ وَالْإِبْطَالِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعَمَلَ يَجِبُ بِمُوجِبِهِ وَلَا يَحْتَمِلُ الْبَيَانَ قَوْله تَعَالَى، {وَالْمُطَلَّقَاتُ} [البقرة: 228] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ قُلْنَا نَحْنُ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنْ الْإِعْرَابِ قَوْله تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] ، خَبَرٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ أَيْ وَلْيَتَرَبَّصْ الْمُطَلَّقَاتُ الْمَدْخُولُ بِهِنَّ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ، {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] أَيْ مُضِيَّ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولٌ بِهِ كَقَوْلِك الْمُحْتَكِرُ يَتَرَبَّصُ الْغَلَاءَ، أَوْ مُدَّةَ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ عَلَى أَنَّهَا ظَرْفٌ، وَالْمُرَادُ بِالْقُرُوءِ الْحِيَضُ عِنْدَنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْمُرَادُ بِهَا الْأَطْهَارُ، وَهُوَ مَذْهَبُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُهَا بِالِاتِّفَاقِ وَالشَّأْنُ فِي التَّرْجِيحِ فَقُلْنَا لَوْ حُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى الْأَطْهَارِ انْتَقَصَ الْعَدَدُ عَنْ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا فِي الطُّهْرِ؛ وَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِهِ يُنْتَقَصُ ذَلِكَ الطُّهْرُ فِي حَقِّ الْعِدَّةِ لَا مَحَالَةَ إذْ الْمُرَادُ مِنْ الطُّهْرِ هُوَ الطُّهْرُ الشَّرْعِيُّ الْمُتَخَلِّلُ بَيْنَ دَمَيْ تَرْكٍ بِالِاتِّفَاقِ لَا مُسَمَّى الطُّهْرِ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَانْقَضَتْ الْعِدَّةُ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ أَوْ أَقَلَّ وَلَمَا انْقَضَتْ عِدَّةُ الْمُسْتَحَاضَةِ ثُمَّ هُوَ مَحْسُوبٌ مِنْ الْعِدَّةِ عِنْدَ مَنْ حَمَلَ الْقُرُوءَ عَلَى الْأَطْهَارِ فَيُصَيِّرُ الْعِدَّةَ قُرْأَيْنِ وَبَعْضَ قُرْءٍ وَالثَّلَاثَةُ اسْمٌ خَاصٌّ لِعَدَدٍ مَعْلُومٍ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ سَوَاءٌ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْخَمْسَةِ الْأَرْبَعَةُ وَلَا السِّتَّةُ مَعَ أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ وَبِالْعَكْسِ جَائِزٌ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَسْمَاءَ الْأَعْدَادِ أَعْلَامٌ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ سِتَّةٌ ضِعْفُ ثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعَةٌ نِصْفُ ثَمَانِيَةٍ مِنْ غَيْرِ انْصِرَافٍ لِلْعِلْمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ وَالنَّقْلُ لَا يَجْرِي فِي الْإِعْلَامِ بِخِلَافِ مَا إذَا حَمَلْنَا عَلَى الْحَيْضِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ لَا تُحْتَسَبُ تِلْكَ الْحَيْضَةُ بِالِاتِّفَاقِ فَيُكَمِّلُ الْأَقْرَاءَ لَا مَحَالَةَ فَيَكُونُ عَمَلًا بِهَذَا اللَّفْظِ الْخَاصِّ، وَهُوَ الثَّلَاثَةُ فَيَكُونُ الْحَمْلُ عَلَى وَجْهٍ يُوَافِقُ الْكِتَابَ أَوْلَى مِنْ الْحَمْلِ عَلَى وَجْهٍ يُخَالِفُهُ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى، {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] ، حَيْثُ أُرِيدَ شَهْرَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ، وَهُوَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ مَعَ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَشْهُرَ اسْمٌ عَامٌّ فَيَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ وَيُرَادَ بِهِ الْبَعْضُ كَمَا أُرِيدَ مِنْ قَوْله تَعَالَى، {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ} [آل عمران: 42] ، جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمِنْ قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] قَلْبَاكُمَا فَأَمَّا أَسْمَاءُ الْأَعْدَادِ فَأَعْلَامٌ فَلَا يَجُوزُ فِيهَا ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا جَازَ إذَا رَأَى رَجُلَيْنِ أَنْ يَقُولَ رَأَيْت رِجَالًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ رَأَيْت ثَلَاثَةَ رِجَالٍ {فَإِنْ قِيلَ} فِي الْحَمْلِ عَلَى الْحِيَضِ مُخَالَفَةٌ لِلنَّصِّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ ازْدِيَادُ الْحَيْضِ عَلَى الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ لَا يَحْتَسِبُ تِلْكَ الْحَيْضَةَ بِالْإِجْمَاعِ فَيَجِبُ التَّرَبُّصُ حِينَئِذٍ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ وَبَعْضِ الرَّابِعِ وَاسْمُ الثَّلَاثَةِ كَمَا لَا يَحْتَمِلُ النُّقْصَانَ لَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ، وَالثَّانِي أَنَّ الْهَاءَ عَلَامَةُ التَّذْكِيرِ فِي مِثْلِ هَذَا الْعَدَدِ يُقَالُ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ وَثَلَاثُ نِسْوَةٍ وَالْحَيْضَةُ مُؤَنَّثَةٌ وَالطُّهْرُ مُذَكَّرٌ فَدَلَّتْ الْعَلَامَةُ فِي الثَّلَاثَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْقُرُوءِ الْأَطْهَارُ {قُلْنَا} الْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ ذَلِكَ الِازْدِيَادَ ثَبَتَ ضَرُورَةَ وُجُوبِ التَّكْمِيلِ فَلَا يُعْبَأُ بِهِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ وَلِهَذَا قُلْنَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا حِضْت نِصْفَ حَيْضَةٍ لَا تَطْلُقُ حَتَّى تَطْهُرَ كَمَا لَوْ قَالَ حَيْضَةً وَقَدْ وَجَبَ تَكْمِيلُ الْأَوْلَى بِالرَّابِعَةِ فَوَجَبَ بِتَمَامِهَا ضَرُورَةً عَدَمُ

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] وَالرُّكُوعُ اسْمٌ لِفِعْلٍ مَعْلُومٍ، وَهُوَ الْمَيَلَانُ عَنْ الِاسْتِوَاءِ بِمَا يَقْطَعُ اسْمَ الِاسْتِوَاءِ فَلَا يَكُونُ إلْحَاقُ التَّعْدِيلِ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ حَتَّى تَفْسُدَ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ بَيَانًا صَحِيحًا لِأَنَّهُ بَيِّنٌ بِنَفْسِهِ بَلْ يَكُونُ رَفْعًا لِحُكْمِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَكِنَّهُ يُلْحَقُ بِهِ إلْحَاقَ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ لِيَصِيرَ وَاجِبًا مُلْحَقًا بِالْفَرْضِ كَمَا هُوَ مَنْزِلَةُ خَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ الْكِتَابِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّجَزُّؤِ وَالْعِدَّةُ قَدْ يَحْتَمِلُ مِثْلَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ احْتِرَازًا عَنْ النُّقْصَانِ كَمَا أَنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ عِدَّةِ الْحُرَّةِ بِالْإِجْمَاعِ ثُمَّ جُعِلَتْ قُرْأَيْنِ وَفِيهِ زِيَادَةُ نِصْفِ الْقُرْءِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ. وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الْحَيْضَةَ؛ وَإِنْ كَانَتْ مُؤَنَّثَةً فَالْقُرْءُ الْمُضَافُ إلَيْهِ الثَّلَاثَةُ مُذَكَّرٌ وَلَا اسْتِبْعَادَ فِي تَسْمِيَةِ شَيْءٍ وَاحِدٍ بِاسْمِ التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ كَالْبُرِّ وَالْحِنْطَةِ وَالذَّهَبِ وَالْعَيْنِ فَلَمَّا أُضِيفَ إلَى الْمُذَكَّرِ رُوعِيَ عَلَامَةُ التَّذْكِيرِ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْقُرُوءِ الْحِيَضُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِك» وَقَوْلُهُ «طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» وَلَمْ يَقُلْ طُهْرَانِ وقَوْله تَعَالَى، {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4] ، الْآيَةَ فَأَقَامَ الْأَشْهُرَ مَقَامَ الْحِيَضِ دُونَ الْأَطْهَارِ وَأَنَّ الْغَرَضَ الْأَصِيلَ فِي الْعِدَّةِ اسْتِبْرَاءُ الرَّحِمِ وَالْحَيْضُ هُوَ الَّذِي يُسْتَبْرَأُ بِهِ الْأَرْحَامُ دُونَ الطُّهْرِ وَلِذَلِكَ كَانَ الِاسْتِبْرَاءُ مِنْ الْأَمَةِ بِالْحَيْضَةِ بِالِاتِّفَاقِ وَيُقَالُ أَقْرَأَتْ الْمَرْأَةُ إذَا حَاضَتْ كَذَا فِي الْكَشَّافِ. قَوْلُهُ (وَالْوَاحِدُ لَا يَحْتَمِلُ الْمُثَنَّى) تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ كَالْفَرْدِ لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ؛ وَإِنَّمَا أَكَّدَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْفَرْدَ يُطْلَقُ عَلَى الْأَعْدَادِ الَّتِي لَيْسَتْ بِزَوْجٍ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ يُقَالُ ثَلَاثَةٌ عَدَدٌ فَرْدٌ وَأَرْبَعَةٌ عَدَدٌ زَوْجٌ فَلَمَّا احْتَمَلَ الْفَرْدُ الْعَدَدَ أَزَالَ الْإِبْهَامَ بِقَوْلِهِ وَالْوَاحِدُ لَا يَحْتَمِلُ الْمُثَنَّى وَمَعْنَاهُ لَفْظُ الْفَرْدِ لَا يَتَنَاوَلُ الْعَدَدَ وَاسْمُ الْوَاحِدِ لَا يَتَنَاوَلُ الْمُثَنَّى، فَكَانَ هَذَا أَيْ الْحَمْلُ عَلَى الْأَطْهَارِ بِمَعْنَى الرَّدِّ وَالْإِبْطَالِ أَيْ بِمُوجِبِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ يَقْتَضِي التَّكْمِيلَ وَالتَّنْقِيصُ ضِدُّهُ قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِنْ الْخَاصِّ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ التَّصَرُّفَ بِطَرِيقِ الْبَيَانِ قَوْله تَعَالَى، وَارْكَعُوا، قِيلَ هُوَ أَمْرٌ لِلْيَهُودِ بِالرُّكُوعِ أَيْ أُقِيمُوا صَلَاةَ الْمُسْلِمِينَ وَزَكَاتَهُمْ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ مِنْهُمْ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ لَا رُكُوعَ فِي صَلَاتِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالرُّكُوعِ الصَّلَاةُ كَمَا يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالسُّجُودِ وَيَكُونُ أَمْرًا بِأَنْ يُصَلِّيَ مَعَ الْمُصَلِّينَ يَعْنِي فِي الْجَمَاعَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَصَلُّوهَا مَعَ الْمُصَلِّينَ لَا مُنْفَرِدِينَ كَذَا فِي الْكَشَّافِ فَعَلَى هَذَا فَرْضِيَّةُ الرُّكُوعِ بِهَذِهِ الْآيَةِ ثَابِتَةٌ عَلَيْنَا بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ أَوْ الدَّلَالَةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ الرُّكُوعَ عَلَيْهِمْ مُتَابَعَةً لَنَا فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَيْنَا أَوْجَبَ، وَإِيرَادُ قَوْله تَعَالَى ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا، لِإِثْبَاتِ فَرْضِيَّةِ الرُّكُوعِ كَمَا أَوْرَدَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَحْسَنُ، وَقَوْلُهُ ارْكَعُوا خَاصٌّ فِي حَقِّ الْمَأْمُورِ بِهِ؛ وَإِنْ كَانَ عَامًّا فِي حَقِّ الْمَأْمُورِ. قَوْلُهُ (وَهُوَ الْمَيَلَانُ عَنْ الِاسْتِوَاءِ) يُقَالُ رَكَعَتْ النَّخْلَةُ إذَا مَالَتْ وَرَكَعَ الْبَعِيرُ إذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ، وَرَكَعَ الشَّيْخُ إذَا انْحَنَى قَامَتُهُ مِنْ الْكِبَرِ، بِمَا يَقْطَعُ اسْمَ الِاسْتِوَاءِ حَتَّى لَوْ طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَلِيلًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إنْ كَانَ إلَى الْقِيَامِ أَقْرَبَ مِنْهُ إلَى الرُّكُوعِ لَمْ يُجْزِهِ لِعَدَمِ انْقِطَاعِ الِاسْتِوَاءِ. وَإِنْ كَانَ إلَى الرُّكُوعِ أَقْرَبَ جَازَ، وَفِي الْمَبْسُوطِ قَدْرُ الرُّكْنِ مِنْ الرُّكُوعِ أَدْنَى الِانْحِطَاطِ عَلَى وَجْهٍ يُسَمَّى لَهُ فِي النَّاسِ رَاكِعًا، فَلَا يَكُونُ إلْحَاقُ التَّعْدِيلِ، وَهُوَ الطُّمَأْنِينَةُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَإِتْمَامُ الْقِيَامِ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقَعْدَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، بِهِ أَيْ بِالرُّكُوعِ أَوْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى، وَارْكَعُوا، بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ حَدِيثُ تَعْلِيمِ الْأَعْرَابِيِّ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ فَرْضًا كَالرُّكُوعِ، بَيَانًا صَحِيحًا؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْتِحَاقِ خَبَرِ الْوَاحِدِ بَيَانًا بِالْكِتَابِ

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] وَهَذَا فِعْلٌ خَاصٌّ وُضِعَ لِمَعْنًى خَاصٍّ، وَهُوَ الدَّوَرَانُ حَوْلَ الْبَيْتِ، فَلَا يَكُونُ وَقَفَهُ عَلَى الطَّهَارَةِ عَنْ الْحَدَثِ حَتَّى لَا يَنْعَقِدَ إلَّا بِهَا عَمَلًا بِالْكِتَابِ وَلَا بَيَانًا بَلْ نَسْخًا مَحْضًا فَلَا يَصِحُّ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَكِنَّهُ يُزَادُ عَلَيْهِ وَاجِبًا مُلْحَقًا بِالْفَرْضِ كَمَا هُوَ مَنْزِلَةُ خَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ الْكِتَابِ لِيَثْبُتَ الْحُكْمُ بِقَدْرِ دَلِيلِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنْ يَكُونَ فِيمَا اُلْتُحِقَ بِهِ إجْمَالٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ يَلْزَمُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَقَدْ عُدِمَ هُنَا؛ لِأَنَّهُ بَيِّنٌ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَصِحَّ لِعَدَمِ شَرْطِهِ. وَقَوْلُهُ لَكِنَّهُ اسْتِدْرَاكٌ مِنْ مَفْهُومِ هَذَا الْكَلَامِ وَتَقْدِيرُهُ أَنَّ إلْحَاقَهُ بِالنَّصِّ عَلَى وَجْهِ التَّسْوِيَةِ فَاسِدٌ فَلَا يُلْحَقُ لَكِنَّهُ أَيْ التَّعْدِيلَ يُلْحَقُ بِالنَّصِّ أَوْ بِالرُّكُوعِ إلْحَاقَ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ، وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى إبْطَالِ الْأَصْلِ، لِيَصِيرَ وَاجِبًا مُلْحَقًا بِالْفَرْضِ حَتَّى يَنْتَقِصَ الصَّلَاةَ بِدُونِهِ وَيَأْثَمَ هُوَ بِتَرْكِهِ وَلَكِنْ لَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ عَلَى حَسَبِ الدَّلِيلِ، كَمَا هُوَ مَنْزِلَةُ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِلْكِتَابِ لَا مُبْطِلًا لَهُ. قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِنْ الْخَاصِّ الَّذِي ذَكَرْنَا قَوْله تَعَالَى، {وَلْيَطَّوَّفُوا} [الحج: 29] ، أَيْ طَوَافَ الزِّيَارَةِ وَطَافَ وَتَطَوَّفَ بِمَعْنًى، بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ أَيْ مِنْ الْجَبَابِرَةِ وَالْغَرَقِ؛ لِأَنَّهُ رُفِعَ إلَى السَّمَاءِ وَقْتَ الطُّوفَانِ، أَوْ الْكَرِيمِ وَكَرْمُهُ وَشَرَفُهُ ظَاهِرٌ، أَوْ الْقَدِيمُ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ. وَهَذَا فِعْلٌ، أَيْ الطَّوَافُ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ وَلْيَطَّوَّفُوا وَتَسْمِيَتُهُ فِعْلًا تَوَسُّعٌ إذْ الْمُرَادُ مِنْهُ لَفْظُ الطَّوَافِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ وُضِعَ لِكَذَا، قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: الطَّوَافُ مَوْضُوعٌ لُغَةً لِمَعْنًى مَعْلُومٍ، فَلَا يَكُونُ وَقْفُهُ أَيْ الْحُكْمُ بِأَنَّ الطَّوَافَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الطَّهَارَةِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، عَمَلًا بِالْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ سَاكِتٌ عَنْ اشْتِرَاطِهَا، وَلَا بَيَانًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إجْمَالٌ، وَذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ إنَّمَا يُقَالُ إنَّهُ بَيَانٌ إذَا كَانَ النَّصُّ يَحْتَمِلُهُ بِوَجْهٍ وَالْأَمْرُ بِالطَّوَافِ لَا يَحْتَمِلُ الطَّهَارَةَ، بَلْ كَانَ نَسْخًا مَحْضًا؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ يَقْتَضِي جَوَازَ الطَّوَافِ مَعَ الْحَدَثِ وَاشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ يَنْفِيه فَيَكُونُ نَسْخًا مَحْضًا فَلَا يَصِحُّ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَلَا لَا يَطُوفَنَّ بِهَذَا الْبَيْتِ مُحْدِثٌ وَلَا عُرْيَانُ» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الطَّوَافُ صَلَاةٌ إلَّا أَنَّهُ أُبِيحَ فِيهِ الْكَلَامُ» ، لَكِنَّهُ أَيْ شَرْطَ الطَّهَارَةِ يُزَادُ عَلَى الطَّوَافِ وَاجِبًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ بِدَلِيلِ إيجَابِ الدَّمِ عِنْدَ تَرْكِهِ، وَكَانَ ابْنُ شُجَاعٍ يَقُولُ إنَّهُ سُنَّةٌ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ {؛ فَإِنْ قِيلَ} النَّصُّ مُجْمَلٌ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الطَّوَافِ لَيْسَ بِمُرَادٍ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُ قُدِّرَ بِسَبْعَةِ أَشْوَاطٍ وَشُرِطَ فِيهِ الِابْتِدَاءُ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ حَتَّى لَوْ ابْتَدَأَ مِنْ غَيْرِهِ لَا يُعْتَدُّ بِذَلِكَ الْقَدْرِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى الْحَجَرِ، وَكَذَا يَلْزَمُ إعَادَةُ طَوَافِ الْجُنُبِ وَالْعُرْيَانِ وَالطَّوَافِ الْمَنْكُوسِ فَثَبَتَ أَنَّهُ مُجْمَلٌ لِمَعْنًى زَائِدٍ ثَبَتَ شَرْعًا عَلَيْهِ كَالرِّبَا فَيَجُوزُ أَنْ يُلْتَحَقَ خَبَرُ الطَّهَارَةِ بَيَانًا بِهِ {قُلْنَا} أَمَّا التَّقْدِيرُ بِسَبْعَةِ أَشْوَاطٍ فَقَدْ ثَبَتَ بِالْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ فَكَانَ كَالْمَنْصُوصِ فِي الْقُرْآنِ فَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ بِهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَجُوزُ النُّقْصَانُ عَنْ هَذَا الْعَدَدِ كَالْحُدُودِ إلَّا أَنَّ عُلَمَاءَنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَالُوا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ بِهِ لِلْإِكْمَالِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلِاعْتِدَادِ بِهِ فَيَثْبُتُ الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ. وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ شَرْطَ الْإِتْمَامِ وَلَئِنْ كَانَ شَرْطَ الِاعْتِدَادِ فَالْأَكْثَرُ مِنْهُ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ لِتَرَجُّحِ جَانِبِ الْوُجُودِ فِيهِ عَلَى جَانِبِ الْعَدَمِ كَالنِّيَّةِ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ فِي الصَّوْمِ الْمُتَعَيِّنِ وَكَمَا أَنَّ الْمُعَظَّمَ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي حَقِّ الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ حَتَّى لَمْ يَفْسُدْ الْحَجُّ بَعْدَ عَرَفَةَ بِوَجْهٍ كَأَنَّهُ أُتِيَ بِالْكُلِّ. وَأَمَّا الِابْتِدَاءُ مِنْ غَيْرِ الْحَجَرِ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ بِأَنَّهُ مُعْتَدٌّ بِهِ وَلَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَلَئِنْ

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] فَإِنَّمَا الْوُضُوءُ غَسْلٌ وَمَسْحٌ وَهُمَا لَفْظَانِ خَاصَّانِ لِمَعْنًى مَعْلُومٍ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، فَلَا يَكُونُ شَرْطُ النِّيَّةِ فِي ذَلِكَ عَمَلًا بِهِ وَلَا بَيَانًا لَهُ، وَهُوَ بَيِّنٌ لِمَا وُضِعَ لَهُ بَلْ يَجِبُ أَنْ يُلْحَقَ بِهِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَبَطَلَ شَرْطُ الْوَلَاءِ وَالتَّرْتِيبِ وَالتَّسْمِيَةِ كَمَا ذَكَرْنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQسَلَّمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ كَمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الرُّقَيَّاتِ فَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ قَالَ لِإِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - ائْتِنِي بِحَجَرٍ أَجْعَلُهُ عَلَامَةَ افْتِتَاحِ الطَّوَافِ فَأَتَاهُ بِحَجَرٍ فَأَلْقَاهُ ثُمَّ بِالثَّانِي ثُمَّ بِالثَّالِثِ فَنَادَاهُ قَدْ أَتَانِي بِالْحَجَرِ مَنْ أَغْنَانِي عَنْ حَجَرِك وَوَجَدَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ فِي مَوْضِعِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ ابْتِدَاءَ الطَّوَافِ مِنْهُ فَمَا أَدَّاهُ قَبْلَ الِافْتِتَاحِ بِهِ لَا يَكُونُ مُعْتَدًّا بِهِ كَذَا ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ، وَلَكِنْ لَا تَزُولُ الشُّبْهَةُ بِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَيْضًا، وَالْأَشْبَهُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ لَيْسَ بِمُجْمَلٍ فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ فِي حَقِّ الْمُبَالَغَةِ وَابْتِدَاءِ الْفِعْلِ مُجْمَلٌ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ صَدَرَ بِصِيغَةِ التَّطَوُّفِ وَتَاءُ التَّفَعُّلِ لِلتَّكَلُّفِ وَالْمُبَالَغَةِ، وَذَلِكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ وَمِنْ حَيْثُ الْإِسْرَاعُ فِي الْمَشْيِ فَالْتُحِقَ خَبَرُ الْعَدَدِ وَالِابْتِدَاءِ بَيَانًا بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ لِبَيَانِ إجْمَالِهِ فَأَمَّا خَبَرُ الطَّهَارَةِ فَلَا يَصْلُحُ لِلْبَيَانِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الطَّوَافَ لَا يَحْتَمِلُ الطَّهَارَةَ بَلْ هُوَ شَرْطٌ زَائِدٌ فَلَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. وَنَظِيرُهُ مَسْحُ الرَّأْسِ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي حَقِّ الْمِقْدَارِ مُجْمَلًا الْتَحَقَ فِعْلُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَيَانًا بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُبَيِّنُ إجْمَالَهُ دُونَ خَبَرِ التَّثْلِيثِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَحْتَمِلُهُ. وَأَمَّا وُجُوبُ إعَادَةِ طَوَافِ الْجُنُبِ وَالْعُرْيَانِ وَالطَّوَافِ الْمَنْكُوسِ فَلَيْسَ لِعَدَمِ الْجَوَازِ بَلْ لِتَمَكُّنِ النُّقْصَانِ الْفَاحِشِ فِيهِ كَوُجُوبِ إعَادَةِ الصَّلَاةِ الَّتِي أُدِّيَتْ مَعَ الْكَرَاهَةِ؛ وَلِهَذَا يَنْجَبِرُ بِالدَّمِ إذَا رَجَعَ مِنْ غَيْرِ إعَادَةِ انْجِبَارِ نُقْصَانِ الصَّلَاةِ بِالسَّجْدَةِ قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِنْ الْخَاصِّ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَالْفَاءُ فِي فَإِنَّمَا إشَارَةٌ إلَى تَعْلِيلِ كَوْنِ مَفْهُومِ الْآيَةِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَهُمَا لَفْظَانِ خَاصَّانِ لِمَعْنًى مَعْلُومٍ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَعْنًى كَمَا فِي قَوْلِ الْمُتَنَبِّي: حَشَايَ عَلَى جَمْرٍ ذَكِيٍّ مِنْ الْهَوَى ... وَعَيْنَايَ فِي رَوْضٍ مِنْ الْحُسْنِ تَرْتَعُ أَيْ كُلُّ وَاحِدَةٍ وَالْمَعْنَى الْمَعْلُومُ الْإِسَالَةُ لِلْغُسْلِ وَالْإِصَابَةُ لِلْمَسْحِ، فَلَا يَكُونُ شَرْطَ النِّيَّةِ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، فِي ذَلِكَ أَيْ فِي الْوُضُوءِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، أَوْ بِالْقِيَاسِ عَلَى التَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَهَا فِي الْبَدَلِ يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِهَا فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ فِي الشُّرُوطِ، عَمَلًا بِالْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ سَاكِتٌ، وَلَا بَيَانًا؛ لِأَنَّهُ بَيِّنٌ، وَالْوَاوُ فِي " وَهُوَ " لِلْحَالِ، وَالنِّيَّةُ عِنْدَهُ أَنْ يَقْصِدَ بِقَلْبِهِ عِنْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ إزَالَةَ الْحَدَثِ أَوْ اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ أَوْ فَرْضَ الْوُضُوءِ حَتَّى لَوْ تَوَضَّأَ لِلتَّبَرُّدِ أَوْ لِلتَّعْلِيمِ أَوْ نَوَى غَيْرَ مُقَارِنٍ لِغَسْلِ الْوَجْهِ لَا يُعْتَدُّ بِذَلِكَ الْوُضُوءِ عِنْدَهُ، بَلْ إضْرَابٌ عَنْ مَفْهُومِ الْكَلَامِ. عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَيْ إلْحَاقُ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ وَذَلِكَ بِأَنْ يُجْعَلَ وَاجِبًا أَوْ سُنَّةً عَلَى حَسَبِ اقْتِضَاءِ الدَّلِيلِ لَا فَرْضًا كَمَا قَالَهُ الْخَصْمُ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا اشْتِرَاطُ النِّيَّةِ فِي التَّيَمُّمِ مَعَ أَنَّهُ خَاصٌّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ثَبَتَ بِإِشَارَةِ النَّصِّ إذْ التَّيَمُّمُ الْقَصْدُ، وَبَطَلَ شَرْطُ الْوَلَاءِ، وَهُوَ أَنْ يُتَابَعَ فِي الْأَفْعَالِ، وَلَا يُفَرَّقَ وَاَلَّذِي يَقْطَعُ التَّتَابُعَ جَفَافُ الْعُضْوِ مَعَ اعْتِدَالِ الْهَوَاءِ؛ وَإِنَّمَا شَرَطَهُ مَالِكٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ بِفِعْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَاظَبَ عَلَى الْمُوَالَاةِ قَالُوا فَلَوْ جَازَ تَرْكُهُ لَفَعَلَهُ مَرَّةً تَعْلِيمًا لِلْجَوَازِ، قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: إنْ اشْتَغَلَ بِطَلَبِ الْمَاءِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْوُضُوءِ؛ وَإِنْ أَخَذَ فِي عَمَلٍ آخَرَ غَيْرِ ذَلِكَ وَجَفَّ أَعَادَ مَا جَفَّ وَجَعَلَهُ قِيَاسَ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ إذَا اشْتَغَلَ فِي خِلَالِهَا بِعَمَلٍ آخَرَ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، وَالتَّرْتِيبُ، وَهُوَ أَنْ يُرَاعِيَ النَّسَقَ

وَصَارَ مَذْهَبُ الْمُخَالِفِ فِي هَذَا الْأَصْلِ غَلَطًا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ حَطَّ مَنْزِلَةَ الْخَاصِّ مِنْ الْكِتَابِ عَنْ رُتْبَتِهِ وَالثَّانِي أَنَّهُ رَفَعَ حُكْمَ الْخَبَرِ الْوَاحِدِ فَوْقَ مَنْزِلَتِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَذْكُورَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ شَرَطَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا يَقْبَلُ اللَّهَ صَلَاةَ امْرِئٍ حَتَّى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ فَيَغْسِلَ وَجْهَهُ ثُمَّ يَدَيْهِ أَوْ قَالَ ذِرَاعَيْهِ» وَحَرْفُ ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ، وَالتَّسْمِيَةُ. وَهِيَ أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى فِي ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ وَمُخْتَارُ الْمَشَايِخِ بِسْمِ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى الْإِسْلَامِ؛ وَإِنَّمَا شَرَطَ التَّسْمِيَةَ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ أَيْضًا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يُسَمِّ» ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِعَمَلٍ بِالْكِتَابِ وَلَا بِبَيَانٍ لَهُ بَلْ هُوَ نَسْخٌ لِمُوجِبِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ {فَإِنْ قِيلَ} فَهَلَّا قُلْتُمْ بِوُجُوبِ النِّيَّةِ وَأَخَوَاتِهَا كَمَا قُلْتُمْ بِوُجُوبِ التَّعْدِيلِ فِي الصَّلَاةِ وَالطَّهَارَةِ فِي الطَّوَافِ (قُلْنَا) لِلْمَانِعِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ، وَهُوَ لُزُومُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ التَّبَعَيْنِ مَعَ ثُبُوتِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْأَصْلَيْنِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ أَحَطُّ رُتْبَةً مِنْ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ فَرْضٌ لِغَيْرِهِ إذْ هُوَ شَرْطٌ وَالشُّرُوطُ أَتْبَاعٌ وَلِهَذَا تَسْقُطُ بِسُقُوطِ الْمَشْرُوطِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ وَالصَّلَاةُ فَرْضٌ لِعَيْنِهِ فَلَوْ قُلْنَا بِالْوُجُوبِ فِي مُكَمِّلِ الْوُضُوءِ كَمَا قُلْنَا بِالْوُجُوبِ فِي مُكَمِّلِ الصَّلَاةِ يَلْزَمُ التَّسْوِيَةُ إذْ يَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاجِبًا لِغَيْرِهِ فَقُلْنَا بِالسُّنَّةِ فِي مُكَمِّلِ الْوُضُوءِ إظْهَارًا لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا كَذَا قَالُوا وَشَبَّهُوا هَذَا بِأَنَّ غُلَامَ الْوَزِيرِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَدْوَنَ حَالًا مِنْ غُلَامِ الْأَمِيرِ لِكَوْنِ الْوَزِيرِ أَدْنَى رُتْبَةً مِنْ الْأَمِيرِ قُلْت وَالْأَقْرَبُ إلَى التَّحْقِيقِ أَنَّ ذَلِكَ التَّفَاوُتَ دَرَجَاتُ الدَّلَائِلِ فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ السَّمْعِيَّةَ أَنْوَاعٌ أَرْبَعَةٌ: قَطْعِيُّ الثُّبُوتِ وَالدَّلَالَةِ كَالنُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَقَطْعِيُّ الثُّبُوتِ ظَنِّيُّ الدَّلَالَةِ كَالْآيَاتِ الْمُؤَوَّلَةِ، وَظَنِّيُّ الثُّبُوتِ قَطْعِيُّ الدَّلَالَةِ كَأَخْبَارِ الْآحَادِ الَّتِي مَفْهُومُهَا قَطْعِيٌّ وَظَنِّيُّ الثُّبُوتِ وَالدَّلَالَةِ كَأَخْبَارِ الْآحَادِ الَّتِي مَفْهُومُهَا ظَنِّيٌّ فَبِالْأَوَّلِ يَثْبُتُ الْفَرْضُ وَبِالثَّانِي وَالثَّالِثِ يَثْبُتُ الْوُجُوبُ وَبِالرَّابِعِ يَثْبُتُ السُّنَّةُ وَالِاسْتِحْبَابُ لِيَكُونَ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِقَدْرِ دَلِيلِهِ. فَخَبَرُ التَّعْدِيلِ مِنْ الْقِسْمِ الثَّالِثِ؛ «لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَمَرَ الْأَعْرَابِيَّ بِالْإِعَادَةِ ثَلَاثًا فَقَالَ لَهُ كُلَّ مَرَّةٍ ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ ثُمَّ عَلَّمَهُ» وَمِثْلُهُ لَوْ كَانَ قَطْعِيَّ الثُّبُوتِ يَثْبُتُ بِهِ الْفَرْضُ لِانْقِطَاعِ الِاحْتِمَالِ عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ ظَنِّيَّ الثُّبُوتِ يَثْبُتُ بِهِ الْوُجُوبُ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيهِ أَخْشَى أَنْ لَا تَجُوزَ صَلَاتُهُ يَعْنِي إذَا تَرَكَهُ، وَكَذَا خَبَرُ الطَّهَارَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا يَطُوفَنَّ بِهَذَا الْبَيْتِ مُحْدِثٌ» لِتَأَكُّدِهِ بِالنُّونِ الْمُؤَكِّدَةِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» فَمِنْ الْقِسْمِ الرَّابِعِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ إمَّا ثَوَابُ الْأَعْمَالِ أَوْ اعْتِبَارُ الْأَعْمَالِ عَلَى مَا سَتَعْرِفُهُ فَيَكُونُ مُشْتَرَكَ الدَّلَالَةِ، وَكَذَا خَبَرُ التَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ تَوَضَّأَ وَسَمَّى كَانَ طَهُورًا لِجَمِيعِ أَعْضَائِهِ وَمَنْ تَوَضَّأَ وَلَمْ يُسَمِّ كَانَ طَهُورًا لِمَا أَصَابَهُ الْمَاءُ» فَلَمْ يَبْقَ قَطْعِيَّ الدَّلَالَةِ كَيْفَ وَاسْتِعْمَالُ مِثْلِهِ فِي نَفْيِ الْفَضِيلَةِ شَائِعٌ، وَكَذَا دَلِيلُ الْمُوَالَاةِ؛ لِأَنَّ الْمُوَاظَبَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى الرُّكْنِيَّةِ «فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ كَمَا كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى غَسْلِ الْوَجْهِ» ، وَخَبَرُ التَّرْتِيبِ أَيْضًا مُعَارَضٌ بِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَسِيَ مَسْحَ الرَّأْسِ فِي وُضُوئِهِ فَتَذَكَّرَ بَعْدَ فَرَاغِهِ فَمَسَحَهُ بِبَلَلٍ فِي كَفِّهِ» فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الدَّلَائِلُ ظَنِّيَّةَ الثُّبُوتِ وَالدَّلَالَةُ يَثْبُتُ بِهَا السُّنَّةُ لَا الْوُجُوبُ. قَوْلُهُ (وَصَارَ مَذْهَبُ الْمُخَالِفِ غَلَطًا مِنْ وَجْهَيْنِ) ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الرُّتْبَةِ حَيْثُ أَثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مَا أَثَبَتَ بِالْكِتَابِ لَزِمَ حَطُّ دَرَجَةِ الْكِتَابِ بِالنَّظَرِ إلَى رُتْبَةِ الْخَبَرِ أَوْ رَفْعُ دَرَجَةِ الْخَبَرِ بِالنَّظَرِ إلَى رُتْبَةِ الْكِتَابِ كَمَنْ

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] قَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: قَوْلُهُ حَتَّى تَنْكِحَ كَلِمَةٌ وُضِعَتْ لِمَعْنًى خَاصٍّ، وَهُوَ لِلْغَايَةِ وَالنِّهَايَةِ فَمَنْ جَعَلَهُ مُحْدِثًا حِلًّا جَدِيدًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَمَلًا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ وَلَا بَيَانًا؛ لِأَنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِيمَا وُضِعَتْ لَهُ بَلْ كَانَ إبْطَالًا، وَلَكِنَّهَا تَكُونُ غَايَةً وَنِهَايَةً وَالْغَايَةُ وَالنِّهَايَةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَعْضِ لِمَا وُصِفَ بِهَا وَبَعْضُ الشَّيْءِ لَا يَنْفَصِلُ عَنْ كُلِّهِ فَيَلْغُو قَبْلَ وُجُودِ الْأَصْلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQسَوَّى بَيْنَ شَرِيفٍ، وَمَنْ هُوَ أَدْنَى مِنْهُ فِي الْمَكَانِ يَلْزَمُ رَفْعُ دَرَجَةِ الْأَدْنَى إنْ أَجْلَسَهُ فِي مَكَانِ الشَّرِيفِ أَوْ حَطُّ دَرَجَةِ الشَّرِيفِ إنْ أَجْلَسَهُ فِي مَكَانِ الْأَدْنَى، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لَوْ قُلْنَا بِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ثَابِتٌ عِلْمًا وَعَمَلًا وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِهِ بَلْ نَقُولُ مَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ قَطْعِيٌّ مُوجِبٌ لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَمَا ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مُوجِبٌ لِلْعَمَلِ دُونَ الْعِلْمِ حَتَّى لَا يَكْفُرَ جَاحِدُهُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِفَرْضِيَّةِ الْوِتْرِ وَفَرْضِيَّةِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْفَوَائِتِ فَأَنَّى يَلْزَمُ مَا ذَكَرْتُمْ وَجَوَابُهُ سَيَأْتِي فِي بَابِ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِنْ الْخَاصِّ الَّذِي ذَكَرْنَا، اعْلَمْ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةِ الْهَدْمِ وَصُورَتُهَا مَشْهُورَةٌ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَطْءُ الزَّوْجِ الثَّانِي يَهْدِمُ حُكْمَ مَا مَضَى مِنْ الطَّلْقَاتِ وَاحِدًا كَانَ أَمْ ثَلَاثَةً وَبِهِ قَالَ إبْرَاهِيمُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَعِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ وَأَبُو هُرَيْرَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -: لَا يَهْدِمُ مَا دُونَ الثَّلَاثِ وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَمَبْنَى الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِيَ أَيْ إصَابَتَهُ فِي الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ مُثْبِتٌ حِلًّا جَدِيدًا أَمْ هُوَ غَايَةٌ لِلْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِهَا فَقَطْ فَعِنْدَ الْأَوَّلِينَ هُوَ مُثْبِتٌ لِلْحِلِّ، وَعِنْدَ الْآخَرِينَ هُوَ غَايَةٌ، تَمَسَّكَ الْفَرِيقُ الْآخَرُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الزَّوْجَ الثَّانِيَ غَايَةً لِلْحُرْمَةِ بِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] أَيْ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ، {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} [البقرة: 230] أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ التَّطْلِيقِ، {حَتَّى تَنْكِحَ} [البقرة: 230] أَيْ تَتَزَوَّجَ زَوْجًا غَيْرَهُ أَيْ رَجُلًا أَجْنَبِيًّا وَسَمَّاهُ زَوْجًا بِاعْتِبَارِ الْعَاقِبَةِ كَتَسْمِيَةِ الْعِنَبِ خَمْرًا وَكَلِمَةُ حَتَّى لِلْغَايَةِ وَضْعًا وَلَا تَأْثِيرَ لِلْغَايَةِ فِي إثْبَاتِ مَا بَعْدَهَا بَلْ هِيَ مَنْهِيَّةٌ فَقَطْ، فَإِذَا انْتَهَى الْمُغَيَّا ثَبَتَ الْحُكْمُ فِيمَا بَعْدُ بِالسَّبَبِ السَّابِقِ كَمَا فِي الْأَيْمَانِ الْمُوَقَّتَةِ يَنْتَهِي الْحُرْمَةُ الثَّابِتَةُ بِهَا بِالْغَايَةِ ثُمَّ يَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ بِالسَّبَبِ السَّابِقِ وَكَمَا فِي الصَّوْمِ يَنْتَهِي حُرْمَةُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِاللَّيْلِ ثُمَّ يَثْبُتُ الْحِلُّ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَكَذَا الْحُكْمُ فِي تَحْرِيمِ الْبَيْعِ إلَى قَضَاءِ الْجُمُعَةِ وَتَحْرِيمِ الِاصْطِيَادِ عَلَى الْمُحْرِمِ إلَى انْتِهَاءِ الْإِحْرَامِ وَالظِّهَارِ الْمُوَقَّتِ التَّكْفِيرُ، فَكَذَا هَهُنَا بِإِصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي يَنْتَهِي الْحُرْمَةُ ثُمَّ يَثْبُتُ الْحِلُّ بِالسَّبَبِ السَّابِقِ، وَهُوَ كَوْنُهَا مِنْ بَنَاتِ آدَمَ خَالِيَةً عَنْ أَسْبَابِ الْحُرْمَةِ، وَلَا يُقَالُ قَدْ اضْمَحَلَّ الْحِلُّ الْأَوَّلُ بِضِدِّهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَثْبُتَ حِلٌّ آخَرُ يَضْمَحِلُّ بِهِ الْحُرْمَةُ لِاسْتِحَالَةِ عَوْدِ الْحِلِّ الْأَوَّلِ، لِأَنَّا نَقُولُ نَحْنُ لَا نُنْكِرُ ذَلِكَ لَكِنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالسَّبَبِ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنَّهَا مِنْ بَنَاتِ آدَمَ لَا بِالزَّوْجِ الثَّانِي الَّذِي هُوَ غَايَةٌ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الْحُكْمِ إلَى السَّبَبِ الَّذِي ظَهَرَ أَثَرُهُ مَرَّةً أَوْلَى مِنْ إضَافَتِهِ إلَى سَبَبٍ لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهُ أَصْلًا كَمَنْ آجَرَ دَارِهِ فَخَرَجَتْ الْمَنَافِعُ عَنْ مِلْكِهِ ثُمَّ انْتَهَتْ الْإِجَارَةُ صَارَتْ الْمَنَافِعُ مَمْلُوكَةً لَهُ بِمِلْكٍ جَدِيدٍ غَيْرِ الْأَوَّلِ لِزَوَالِ الْأَوَّلِ بِالتَّمْلِيكِ وَعَدَمِ ارْتِفَاعِ سَبَبِ الزَّوَالِ وَلَكِنْ بِالسَّبَبِ السَّابِقِ، وَهُوَ مِلْكُ الدَّارِ لَا بِانْتِهَاءِ الْإِجَارَةِ، فَمَنْ جَعَلَ الزَّوْجَ الثَّانِيَ مُثْبِتًا حِلًّا جَدِيدًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَمَلًا بِالْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ بَلْ يَقْتَضِي كَوْنَهُ غَايَةً فَقَطْ، بَلْ كَانَ إبْطَالًا؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ الثَّانِي غَايَةً وَكَوْنُهُ غَايَةً يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ قَبْلَ الثَّلَاثِ بِمَنْزِلَةٍ وَجَعْلُهُ مُثْبِتًا حِلًّا جَدِيدًا يَقْتَضِي

وَالْجَوَابُ أَنَّ النِّكَاحَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْوَطْءُ، وَهُوَ أَصْلُهُ وَيُحْتَمَلُ الْعَقْدُ عَلَى مَا يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ وَقَدْ أُرِيدَ بِهِ الْعَقْدُ هُنَا بِدَلَالَةِ إضَافَتِهِ إلَى الْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا فِي فِعْلِ مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ مِثْلُ الرَّجُلِ فَصَحَّتْ الْإِضَافَةُ إلَيْهَا وَأَمَّا فِعْلُ الْوَطْءِ فَلَا يُضَافُ إلَيْهَا مُبَاشَرَتُهُ أَبَدًا لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ ذَلِكَ؛ وَإِنَّمَا ثَبَتَ الدُّخُولُ بِالسُّنَّةِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِامْرَأَةِ رِفَاعَةَ وَقَدْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ نَكَحَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ ثُمَّ جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَتَّهِمُهُ بِالْعُنَّةِ وَقَالَتْ مَا وَجَدْته إلَّا كَهُدْبَةِ ثَوْبِي هَذَا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتُرِيدِينَ أَنْ تَعُودِي إلَى رِفَاعَةَ فَقَالَتْ نَعَمْ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا حَتَّى تَذُوقِي مِنْ عُسَيْلَتِهِ وَيَذُوقَ مِنْ عُسَيْلَتِك» ـــــــــــــــــــــــــــــQخِلَافَهُ فَيَكُونُ إبْطَالًا. وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِيَ غَايَةٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِبْرَةٌ قَبْلَ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ غَايَةَ الشَّيْءِ بِمَنْزِلَةِ الْبَعْضِ لِذَلِكَ الشَّيْءِ لِتَوَقُّفِ صَيْرُورَتِهَا غَايَةً عَلَيْهِ تَوَقُّفَ الْبَعْضِ عَلَى الْكُلِّ وَبَعْضُ الشَّيْءِ لَا يَنْفَصِلُ عَنْ كُلِّهِ إذْ لَوْ انْفَصَلَ لَمْ يَبْقَ بَعْضًا حَقِيقَةً، فَتَلْغُوا بِالتَّاءِ أَيْ الْغَايَةُ قَبْلَ وُجُودِ الْأَصْلِ، وَهُوَ الْمُغَيَّا كَرَجُلٍ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا فِي رَجَبٍ حَتَّى يَسْتَشِيرَ إيَّاهُ فَاسْتَشَارَهُ قَبْلَ دُخُولِ رَجَبٍ لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْيَمِينِ حَتَّى لَوْ كَلَّمَهُ فِي رَجَبٍ قَبْلَ الِاسْتِشَارَةِ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ أَوْجَبَتْ تَحْرِيمَ الْكَلَامِ بَعْدَ دُخُولِ رَجَبٍ إلَى غَايَةِ الِاسْتِشَارَةِ فَالِاسْتِشَارَةُ وَعَدَمُهَا قَبْلَ دُخُولِ رَجَبٍ بِمَنْزِلَةٍ، وَلَا يُقَالُ النَّصُّ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ نَفْسُ التَّزَوُّجِ غَايَةً كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ الْإِصَابَةُ بَعْدَهُ شَرْطٌ لِلْحِلِّ بِالْإِجْمَاعِ وَقَوْلُ سَعِيدٍ مَرْدُودٌ حَتَّى لَوْ قَضَى الْقَاضِي بِهِ لَا يَنْفُذُ فَلَا يَسْتَقِيمُ التَّمَسُّكُ بِهِ، لِأَنَّا نَقُولُ قَدْ زِيدَ عَلَى النَّصِّ الْإِصَابَةُ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ حَتَّى صَارَ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ كَوْنَ الْحُرْمَةِ مُوَقَّتَةً وَكَوْنَ الزَّوْجِ الثَّانِي مَعَ الْإِصَابَةِ غَايَةً، فَكَأَنَّهُ قِيلَ هَذِهِ الْحُرْمَةُ مُغَيَّاةٌ إلَى التَّزَوُّجِ وَالْإِصَابَةِ فَيَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ، " فَمَنْ جَعْلَهُ " الضَّمِيرَ الْبَارِزَ رَاجِعٌ إلَى الزَّوْجِ الْمَفْهُومِ مِنْ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَالتَّقْدِيرُ كَلِمَةُ حَتَّى وُضِعَتْ لِمَعْنًى خَاصٍّ، وَهُوَ الْغَايَةُ وَالنِّهَايَةُ فَيَكُونُ الزَّوْجُ الثَّانِي غَايَةَ فَمَنْ جَعَلَ الزَّوْجَ، وَلَكِنَّهَا اسْتِدْرَاكٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَيْضًا كَمَا ذَكَرْنَا، وَالْهَاءُ رَاجِعَةٌ إلَى كَلِمَةِ حَتَّى وَالْمُرَادُ الزَّوْجُ أَوْ نِكَاحُهُ بِطَرِيقِ التَّوَسُّعِ؛ لِأَنَّ حَتَّى لَا يَكُونُ غَايَةً بَلْ الْغَايَةُ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ حَتَّى، وَالتَّقْدِيرُ فَمَنْ جَعَلَهُ مُحْدِثًا حِلًّا جَدِيدًا لَا يَكُونُ عَمَلًا بَلْ يَكُونُ إبْطَالًا فَلَا يَكُونُ الزَّوْجُ مُحْدِثًا حِلًّا جَدِيدًا لَكِنَّهُ يَكُونُ غَايَةً وَنِهَايَةً. وَالنِّهَايَةُ تَأْكِيدٌ لِلْغَايَةِ وَوَقَعَ فِي مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّهُ فِي بَيَانِ الْخِلَافِ كَمَا مَرَّ مِثْلُهُ قَوْلُهُ (وَالْجَوَابُ إلَى آخِرِهِ) اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ سِوَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَلَى اشْتِرَاطِ الْوَطْءِ لِلتَّحْلِيلِ لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ أَوْ بِالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ إلَى أَنَّهُ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إلَى أَنَّهُ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ مُتَمَسِّكِينَ بِأَنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ فَيُحْمَلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ إلَّا أَنَّهُ أُسْنِدَ إلَى الْمَرْأَةِ هَهُنَا بِاعْتِبَارِ التَّمْكِينِ كَمَا أُسْنِدَ الزِّنَا الَّذِي هُوَ الْوَطْءُ الْحَرَامُ إلَيْهَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَيَكُونُ الْإِسْنَادُ مَجَازًا كَمَا يُقَالُ نَهَارُك صَائِمٌ وَلَيْلُك قَائِمٌ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ زَوْجًا يَأْبَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُزَوِّجُ نَفْسَهَا زَوْجَهَا فَصَارَ مَعْنَاهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ حَتَّى تُمَكِّنَ مِنْ وَطْئِهَا زَوْجًا فَكَانَ ذِكْرُ الزَّوْجِ اشْتِرَاطًا لِلْعَقْدِ وَذِكْرُ النِّكَاحِ اشْتِرَاطًا لِلْوَطْءِ، قَالُوا: وَفِيهِ تَقْلِيلُ الْمَجَازِ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ إلَّا فِي الْإِسْنَادِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ، وَتَمَسَّكَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ النِّكَاحَ؛ وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً فِي الْوَطْءِ إلَّا أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْعَقْدُ هَهُنَا بِدَلِيلِ إضَافَتِهِ إلَى الْمَرْأَةِ وَالنِّكَاحُ الْمُضَافُ إلَى الْمَرْأَةِ لَيْسَ إلَّا الْعَقْدَ يُقَالُ نَكَحَتْ أَيْ تَزَوَّجَتْ، وَهِيَ نَاكِحٌ فِي بَنِي فُلَانٍ أَيْ هِيَ ذَاتُ زَوْجٍ مِنْهُمْ كَذَا فِي الصِّحَاحِ؛ وَإِنَّمَا يَجُوزُ إرَادَةُ الْوَطْءِ مِنْهُ إذَا أُضِيفَ إلَى الرَّجُلِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا يَجُوزُ إضَافَةُ الْوَطْءِ إلَيْهَا أَلْبَتَّةَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ فِي كَلَامِهِمْ إضَافَةُ

وَفِي ذِكْرِ الْعَوْدِ دُونَ الِانْتِهَاءِ إشَارَةٌ إلَى التَّحْلِيلِ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْوَطْءِ وَالنِّكَاحِ الَّذِي بِمَعْنَاهُ إلَى الْمَرْأَةِ وَلَوْ جَازَ أَنْ تُسَمَّى وَاطِئَةً بِالتَّمْكِينِ لَجَازَ أَنْ يُسَمَّى الْمَرْكُوبُ رَاكِبًا وَالْمَضْرُوبُ ضَارِبًا، وَهِيَ خِلَافُ اللُّغَةِ. وَأَمَّا إضَافَةُ الزِّنَا إلَيْهَا، فَلَيْسَ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ بَلْ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلتَّمْكِينِ الْحَرَامِ مِنْ الْمَرْأَةِ كَمَا هُوَ اسْمٌ لِلْوَطْءِ الْحَرَامِ مِنْ الرَّجُلِ؛ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ نَفْيُ الزِّنَا عَنْهَا إذَا زَنَتْ كَمَا لَا يَصِحُّ نَفْيُ التَّمْكِينِ عَنْهَا، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ النِّكَاحَ هَهُنَا بِمَعْنَى التَّمْكِينِ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ مُتَعَلِّقٌ بِالْوَطْءِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الزَّوْجِ وَلَا يَلْزَمُ الْوَطْءُ مِنْ التَّمْكِينِ لَا مَحَالَةَ فَثَبَتَ أَنَّهُ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ، ثُمَّ فِي هَذَا الطَّرِيقِ إعْمَالُ السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ جَمِيعًا فَكَانَ أَوْلَى مِمَّا قَالُوا؛ لِأَنَّ فِيهِ إعْمَالُ أَحَدِهِمَا وَفِيهِ عَمَلٌ بِالْحَقِيقَةِ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ إنَّمَا سُمِّيَ بِالنِّكَاحِ لِمَعْنَى الضَّمِّ وَفِي الْعَقْدِ ضَمُّ كَلَامٍ إلَى كَلَامٍ شَرْعًا، وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْخَ إنَّمَا اخْتَارَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ بَعْدَ كَوْنِهَا أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ الْأُولَى؛ لِأَنَّ كَلَامَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ لَا يَتَّضِحُ إلَّا بِأَنْ يُجْعَلَ الْوَطْءُ مُثْبِتًا لِلْحِلِّ وَلَوْ ثَبَتَ الْوَطْءُ بِالْكِتَابِ كَمَا ذَكَرُوا لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ إذْ لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَيَتَأَكَّدُ كَلَامُ الْخُصُومِ حِينَئِذٍ؛ وَإِنَّمَا ثَبَتَ الدُّخُولُ بِالسُّنَّةِ، وَهِيَ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ، وَالْمَرْأَةُ هِيَ تَمِيمَةُ بِنْتُ أَبِي عُبَيْدٍ الْقُرَظِيَّةُ، وَقِيلَ عَائِشَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَتِيكٍ النَّضِيرِيَّةُ، وَرِفَاعَةُ هُوَ ابْنُ وَهْبِ بْنِ عَتِيكٍ ابْنُ عَمِّهَا. وَقِيلَ ابْنُ سَمَوْأَلٍ، وَالزَّبِيرُ بِفَتْحِ الزَّايِ لَا غَيْرُ وَاتِّهَامُهَا لَهُ بِالْعُنَّةِ قَوْلُهَا مَا مَعَهُ إلَّا مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا حَكَتْ امْرَأَةٌ عَنْ عِنِّينٍ فَقَالَتْ حَلَلْت مِنْهُ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، وَالْعُسَيْلَتَانِ كِنَايَتَانِ عَنْ الْعُضْوَيْنِ لِكَوْنِهِمَا مَظِنَّتِي الِالْتِذَاذِ. وَصُغِّرَتْ بِالْهَاءِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْعَسَلِ التَّأْنِيثُ؛ وَإِنْ كَانَ يُذَكَّرُ أَيْضًا، وَيُقَالُ إنَّمَا أَنَّثَ؛ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْعَسَلَةُ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنْهُ كَمَا يُقَالُ لِلْقِطْعَةِ مِنْ الذَّهَبِ ذَهَبَةٌ، وَالتَّأْكِيدُ بِالتَّعَرُّضِ لِلْجَانِبَيْنِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي بَابِ التَّحْلِيلِ. وَقَوْلُهُ تَذُوقِي وَيَذُوقَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الشِّبَعَ، وَهُوَ الْإِنْزَالُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَكَذَا التَّصْغِيرُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْقَدْرَ الْقَلِيلَ كَافٍ وَرَاوِي الْحَدِيثِ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وَكَذَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْ غَيْرِ قِصَّةِ رِفَاعَةَ، وَفِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ أَنْ تَرْجِعِي مَقَامَ أَنْ تَعُودِي وَكِلَاهُمَا وَاحِدٌ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «أَنَّهَا جَاءَتْ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَالَتْ كَانَ غَشِيَنِي فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَهَا كَذَبْت فِي قَوْلِك الْأَوَّلِ فَلَنْ أُصَدِّقَك فِي الْآخَرِ فَلَبِثَتْ حَتَّى قُبِضَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ثُمَّ أَتَتْ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَتْ: أَرْجِعُ إلَى زَوْجِي الْأَوَّلِ فَإِنَّ زَوْجِي الْآخَرَ قَدْ مَسَّنِي فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ عَهِدْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَالَ لَك مَا قَالَ فَلَا تَرْجِعِي إلَيْهِ فَلَمَّا قُبِضَ أَبُو بَكْرٍ أَتَتْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ لَهَا لَئِنْ أَتَيْتنِي بَعْدَ مَرَّتِك هَذِهِ لَأَرْجُمَنَّكِ فَمَنَعَهَا» كَذَا فِي التَّيْسِيرِ قَوْلُهُ (وَفِي ذِكْرِ الْعَوْدِ) إضَافَةُ الْمَصْدَرِ إلَى الْمَفْعُولِ أَيْ وَفِي ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ الْعَوْدَ وَتَرْكِهِ لَفْظَ الِانْتِهَاءِ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ الْكِتَابِ بِأَنْ لَمْ يَقُلْ أَتُرِيدِينَ أَنْ تَنْتَهِيَ حُرْمَتُك إشَارَةٌ إلَى أَنَّ ذَوْقَ الْعُسَيْلَةِ تَحْلِيلٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ عَنِيَ عَدَمَ الْعَوْدِ إلَى ذَوْقِ الْعُسَيْلَةِ، فَإِذَا وُجِدَ الذَّوْقُ يَثْبُتُ الْعَوْدُ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ يُخَالِفُ مَا قَبْلَهَا، وَهُوَ أَمْرٌ حَادِثٌ؛ لِأَنَّهُ

لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَمْ يَكُنْ قَبْلُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ وَقَدْ ثَبَتَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَيُضَافُ إلَيْهِ بِخِلَافِ أَصْلِ الْحِلِّ؛ لِأَنَّهُ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الْحُرْمَةِ الْغَلِيظَةِ وَسَبَبُهُ كَوْنُهَا مِنْ بَنَاتِ آدَمَ إلَّا أَنَّ حُكْمَهُ تَخَلَّفَ بِاعْتِرَاضِ الْحُرْمَةِ، فَإِذَا انْتَهَتْ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ ثَبَتَ الْحِلُّ بِالسَّبَبِ السَّابِقِ، فَأَمَّا الْعَوْدُ فَلَمْ يَكُنْ ثَابِتًا قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَدْ حَدَثَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ فَيَكُونُ حَادِثًا بِهِ، وَعِبَارَةُ بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ الْعَوْدَ هُوَ الرَّدُّ إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى وَفِي الْحَالَةِ الْأُولَى كَانَ الْحِلُّ ثَابِتًا مُطْلَقًا، وَلَمْ يَبْقَ فَيَكُونُ فِعْلُ الزَّوْجِ الثَّانِي مُثْبِتًا لِلْحِلِّ الَّذِي عُدِمَ؛ لِأَنَّهُ حَدَثَ بَعْدَهُ، وَهُوَ مَعْنَى مَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَفِي اشْتِرَاطِ الْوَطْءِ لِلْعَوْدِ إشَارَةٌ إلَى السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْحِلِّ. قَوْلُهُ (لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ) سَمَّاهُ مُحَلِّلًا وَالْمُحَلِّلُ حَقِيقَةً مَنْ يُثْبِتُ الْحِلَّ كَالْمُحْرِمِ مَنْ يُثْبِتُ الْحُرْمَةَ وَالْمُبَيِّضُ مَنْ يُثْبِتُ الْبَيَاضَ فَيَثْبُتُ لَهُ هَذِهِ الصِّفَةُ بِعِبَارَةِ النَّصِّ كَذَا قِيلَ، وَالْأَوْجَهُ أَنَّهُ إشَارَةٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَمْ يُسَقْ لَهُ بَلْ لِإِثْبَاتِ اللَّعْنِ إلَّا أَنَّ هَذِهِ إشَارَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَالْأُولَى غَامِضَةٌ، وَإِلْحَاقُ اللَّعْنِ بِهِ لَا يَمْنَعُ الِاسْتِدْلَالَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِلتَّحْلِيلِ بَلْ لِشَرْطٍ فَاسِدٍ أَلْحَقَهُ بِالنِّكَاحِ، وَهُوَ ذِكْرُ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ إنْ تَزَوَّجَهَا بِشَرْطِ التَّحْلِيلِ أَوْ لِقَصْدِهِ تَغْيِيرَ الْمَشْرُوعِ إنْ لَمْ يَشْرِطْ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ لِلتَّنَاسُلِ وَالْبَقَاءِ، وَهُوَ إنَّمَا قَصَدَ غَيْرَهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ ذَوَّاقٍ مِطْلَاقٍ» . وَأَمَّا إلْحَاقُ اللَّعْنِ بِالْمُحَلَّلِ لَهُ فَلِأَنَّهُ مُسَبِّبٌ لِمِثْلِ هَذَا النِّكَاحِ وَالْمُسَبِّبُ شَرِيكُ الْمُبَاشِرِ فِي الْإِثْمِ وَالثَّوَابِ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ اللَّعْنِ إظْهَارُ خَسَاسَةِ الْمُحَلِّلِ بِمُبَاشَرَةِ مِثْلِ هَذَا النِّكَاحِ وَالْمُحَلَّلِ لَهُ بِمُبَاشَرَةِ مَا يَنْفِرُ عَنْهُ الطِّبَاعُ مِنْ عَوْدِهَا إلَيْهِ بَعْدَ مُضَاجَعَةِ غَيْرِهِ إيَّاهَا وَاسْتِمْتَاعِهِ بِهَا لَا حَقِيقَةُ اللَّعْنِ إذْ هُوَ الْأَلْيَقُ بِكَلَامِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَقِّ أُمَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا بُعِثَ لَعَّانًا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ» وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَيُقْطَعُ يَدُهُ» ثُمَّ هَذَا الْحَدِيثُ؛ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْآحَادِ لَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ نَسْخُهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ أَثْبَتَ كَوْنَ الزَّوْجِ الثَّانِي غَايَةً وَلَمْ يَنْفِ كَوْنَهُ مُثْبِتًا لِلْحِلِّ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِ كَوْنِهِ غَايَةً أَيْضًا إذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِهِ غَايَةً وَبَيْنَ كَوْنِهِ مُثْبِتًا لِلْحِلِّ؛ لِأَنَّ انْتِهَاءَ الشَّيْءِ كَمَا يَكُونُ بِنَفْسِهِ يَكُونُ بِثُبُوتِ ضِدِّهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى، {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] ، فَالِاغْتِسَالُ مُثْبِتٌ لِلطَّهَارَةِ وَمُنْهٍ لِلْجَنَابَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَتْ الطَّهَارَةُ لَمْ تَبْقَ الْجَنَابَةُ وَكَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] أَيْ تَسْتَأْذِنُوا وَالِاسْتِئْذَانُ مُنْهٍ لِحُرْمَةِ الدُّخُولِ بِإِثْبَاتِ الْحِلِّ ابْتِدَاءً وَالْحَدِيثُ أَثْبَتَ كَوْنَهُ مُثْبِتًا لِلْحِلِّ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَلَمَّا ثَبَتَ الْحِلُّ لِمَا ذَكَرْنَا لَمْ يَزُلْ إلَّا بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ كَالْحِلِّ الْأَوَّلِ (فَإِنْ قِيلَ) الْمُثْبِتُ لِلْحِلِّ رَافِعٌ لِلْحُرْمَةِ ضَرُورَةً وَالرَّافِعُ لِلشَّيْءِ لَا يَكُونُ غَايَةً لَهُ كَالطَّلَاقِ لِلنِّكَاحِ. (قُلْنَا) مَا يَرْفَعُ الشَّيْءَ قَصْدًا فَهُوَ قَاطِعٌ لَهُ وَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْغَايَةِ كَالطَّلَاقِ، فَأَمَّا مَا يُثْبِتُ حُكْمًا آخَرَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِهِ انْتِفَاءَ الثَّابِتِ لِتَضَادٍّ بَيْنَهُمَا فَهُوَ غَايَةٌ لِمَا كَانَ ثَابِتًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّيْءَ يَنْتَهِي بِضِدِّهِ كَاللَّيْلِ بِالنَّهَارِ وَعَكْسِهِ وَمَسْأَلَتُنَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ (فَإِنْ قِيلَ) سَلَّمْنَا أَنَّهُ مُثْبِتٌ لِلْحِلِّ وَلَكِنَّهُ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحِلِّ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ الثَّابِتِ مُحَالٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ مَنْكُوحَتَهُ

فَثَبَتَ الدُّخُولُ زِيَادَةً بِخَبَرٍ مَشْهُورٍ يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ بِمِثْلِهِ وَمَا ثَبَتَ الدُّخُولُ بِدَلِيلِهِ إلَّا بِصِفَةِ التَّحْلِيلِ وَثَبَتَ شَرْطُ الدُّخُولِ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَمَنْ صِفَتُهُ التَّحْلِيلُ وَأَنْتُمْ أَبْطَلْتُمْ هَذَا الْوَصْفَ عَنْ دَلِيلِهِ عَمَلًا بِمَا هُوَ سَاكِتٌ، وَهُوَ نَصُّ الْكِتَابِ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ أَعَنَى الدُّخُولَ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ جَمِيعًا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] الْآيَةَ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَمْ يَنْعَقِدْ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ ثَابِتٌ فَلَا يَمْلِكُ إثْبَاتَهُ ثَانِيًا وَهَهُنَا الْحِلُّ ثَابِتٌ بِكَمَالِهِ غَيْرُ مُنْتَقِصٍ؛ لِأَنَّ زَوَالَهُ مُعَلَّقٌ بِالثَّلَاثِ فَقَبْلُهُ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ أَجْزَاءَ الْحُكْمِ لَا تَتَوَزَّعُ عَلَى أَجْزَاءِ الشَّرْطِ وَالْعِلَّةِ، قُلْنَا السَّبَبُ إذَا وُجِدَ وَأَمْكَنَ إظْهَارُ فَائِدَتِهِ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ، وَقَدْ وُجِدَ السَّبَبُ وَفِي اعْتِبَارِهِ فَائِدَةٌ، وَهِيَ أَنْ لَا تَحْرُمَ عَلَيْهِ إلَّا بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ مُسْتَقْبَلَاتٍ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ كَالْيَمِينِ بَعْدَ الْيَمِينِ وَالظِّهَارُ بَعْدَ الظِّهَارِ مُنْعَقِدٌ؛ وَإِنْ تَمَّ الْمَنْعُ عَنْ الْفِعْلِ بِالْيَمِينِ الْأُولَى وَالْحُرْمَةُ بِالظِّهَارِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ فِي الِانْعِقَادِ فَائِدَةٌ وَهِيَ تَكَرُّرُ التَّكْفِيرِ، وَكَذَا إذَا اشْتَرَى مَالَهُ مِنْ الْمُضَارِبِ قَبْلَ ظُهُورِ الرِّبْحِ أَوْ ضَمَّ مَالِهِ إلَى مَالِ الْغَيْرِ فَاشْتَرَاهُمَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يُفِيدُ مِلْكَ التَّصَرُّفِ أَوْ جَوَازَ الْعَقْدِ فِي مَالِ الْغَيْرِ (فَإِنْ قِيلَ) فَعَلَى هَذَا وَجَبَ أَنْ يَمْلِكَ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا مِنْ التَّطْلِيقَاتِ ثَلَاثًا بِهَذَا الْحَادِثِ وَوَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ بِالْأَوَّلِ (قُلْنَا) إذَا وَجَبَ إثْبَاتُ الْحِلِّ بِهَذَا السَّبَبِ الثَّانِي لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَائِدَةِ اقْتَضَى انْتِفَاءَ الْأَوَّلِ إذْ لَمْ يَبْقَ فِيهِ فَائِدَةٌ فَيَنْتَفِي بِهِ اقْتِضَاءً كَمَا إذَا عَقَدَا الْبَيْعَ بِأَلْفٍ ثُمَّ جَدَّدَاهُ بِأَنْقَصَ أَوْ أَكْثَرَ يَصِحُّ الثَّانِي وَيَنْفَسِخُ الْأَوَّلُ اقْتِضَاءً. أَوْ يُقَالُ لَمَّا عَرَفَنَا الثَّلَاثَ مُحَرِّمًا لِلْمُحَلِّ بِالنَّصِّ حَكَمْنَا بِتَأْثِيرِهِ فِي الْحِلَّيْنِ فَيَرْفَعُهُمَا جَمِيعًا الْأَوَّلُ بِالطَّلْقَةِ أَوْ الطَّلْقَتَيْنِ لِتَمَامِ عِلَّةِ زَوَالِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي بِالْبَاقِي كَمَا قُلْنَا فِي تَدَاخُلِ الْعِدَّتَيْنِ، وَهُوَ مَشْهُورٌ. قَوْلُهُ (فَثَبَتَ الدُّخُولُ زِيَادَةً) أَيْ عَلَى النَّصِّ؛ وَإِنَّمَا تَرَكَهُ لِكَوْنِهِ مَفْهُومًا، بِخَبَرٍ مَشْهُورٍ، وَهُوَ حَدِيثُ امْرَأَةِ رِفَاعَةَ، يُحْتَمَلُ، الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ " زِيَادَةً "، وَهُوَ النَّصُّ، وَمَا ثَبَتَ أَيْ لَمْ يَثْبُتْ الدُّخُولُ، بِدَلِيلِهِ، وَهُوَ الْحَدِيثُ إلَّا بِصِفَةِ التَّحْلِيلِ، وَثَبَتَ شَرْطُ الدُّخُولِ بِهِ أَيْ بِالْحَدِيثِ، بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ ثَابِتٌ بِالْحَدِيثِ وَإِثْبَاتُهُ بِالْكِتَابِ تَخْرِيجُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَمِنْ صِفَتِهِ أَيْ صِفَةِ الدُّخُولِ التَّحْلِيلُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَثَبَتَ وَقَوْلُهُ وَمِنْ صِفَتِهِ لِلْحَالِ أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ الدُّخُولَ ثَبَتَ بِالْحَدِيثِ مَوْصُوفًا بِصِفَةِ التَّحْلِيلِ، وَأَنْتُمْ أَبْطَلْتُمْ هَذَا الْوَصْفَ، وَهُوَ التَّحْلِيلُ، عَنْ دَلِيلِهِ، وَهُوَ الْحَدِيثُ حَيْثُ قُلْتُمْ بِاشْتِرَاطِ الدُّخُولِ وَأَنْكَرْتُمْ صِفَةَ التَّحْلِيلِ، عَمَلًا أَيْ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِمَا هُوَ سَاكِتٌ، وَهُوَ نَصُّ الْكِتَابِ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ فَكَانَ الطَّعْنُ عَائِدًا عَلَيْكُمْ، قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَتَى نَظَرْت إلَى السُّنَّةِ كَانَ الْأَمْرُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَتَى نَظَرْت إلَى مُوجِبِ نَصِّ الْآيَةِ أَشْكَلَ وَأَنَّهُ أَوْلَى الْأَمْرَيْنِ قَوْلًا بِظَاهِرِ كَلِمَةِ حَتَّى وَمَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا كِبَارُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَصْعُبُ الْخُرُوجُ عَنْهَا وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِنْ الْخَاصِّ الَّذِي مَرَّ ذِكْرُهُ قَوْله تَعَالَى، {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] أَيْ التَّطْلِيقُ الشَّرْعِيُّ تَطْلِيقَةً بَعْدَ تَطْلِيقَةٍ عَلَى التَّفْرِيقِ دُونَ الْجَمْعِ وَالْإِرْسَالِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَلَمْ يُرِدْ بِالْمَرَّتَيْنِ التَّثْنِيَةَ وَلَكِنَّ التَّكْرِيرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى، {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] ، أَيْ كَرَّةً بَعْدَ كَرَّةٍ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُمْ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَحَنَانَيْكَ. وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ، {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] ، تَخْيِيرٌ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ عَلَّمَهُمْ كَيْفَ يُطَلِّقُونَ بَيْنَ أَنْ يُمْسِكُوا النِّسَاءَ بِحُسْنِ الْعِشْرَةِ وَالْقِيَامِ بِوَاجِبِهِنَّ وَبَيْنَ أَنْ يُسَرِّحُوهُنَّ السَّرَاحَ الْجَمِيلَ الَّذِي عَلَّمَهُمْ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ مَرَّتَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا رَجْعَةَ بَعْدَ الثَّلَاثِ فَيَكُونُ

فَاَللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الطَّلَاقَ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ وَأَعْقَبَهُمَا بِإِثْبَاتِ الرَّجْعَةِ ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِالْخُلْعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] فَإِنَّمَا بَدَأَ بِفِعْلِ الزَّوْجِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ ثُمَّ زَادَ فِعْلَ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ الِافْتِدَاءُ وَتَحْتَ الْأَفْرَادِ تَخْصِيصُ الْمَرْأَةِ بِهِ وَتَقْرِيرُ فِعْلِ الزَّوْجِ عَلَى مَا سَبَقَ فَإِثْبَاتُ فِعْلِ الْفَسْخِ مِنْ الزَّوْجِ بِطَرِيقِ الْخُلْعِ لَا يَكُونُ عَمَلًا بِهِ بَلْ يَكُونُ رَفْعًا ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُرَادُ بِالْمَرَّتَيْنِ حَقِيقَةً التَّثْنِيَةُ، وَإِلَى هَذَا الْوَجْهِ مَالَ الْمُصَنِّفُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى، {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229] ، أَيْ رَجْعَةٌ بِرَغْبَةٍ لَا عَلَى قَصْدِ إضْرَارٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ بِأَنْ لَا يُرَاجِعَهَا حَتَّى تَبِينَ بِالْعِدَّةِ أَوْ بِأَنْ لَا يُرَاجِعَهَا مُرَاجَعَةً يُرِيدُ بِهَا تَطْوِيلَ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا وَضِرَارَهَا، وَقِيلَ بِأَنْ تُطَلِّقَهَا الثَّالِثَةَ فِي الطُّهْرِ الثَّالِثِ، وقَوْله تَعَالَى {فَإِنْ خِفْتُمْ} [البقرة: 229] أَيْ عَلِمْتُمْ أَوْ ظَنَنْتُمْ، وَهُوَ خِطَابٌ لِلْحُكَّامِ، أَنْ لَا يُقِيمَا أَيْ الزَّوْجَانِ حُدُودَ اللَّهِ أَيْ حُقُوقَ الزَّوْجِيَّةِ بِمَا يَحْدُثُ مِنْ نُشُوزِهَا أَوْ نُشُوزِهِمَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَيْ لَا إثْمَ عَلَى الرَّجُلِ فِيمَا أَخَذَ، وَلَا عَلَى الْمَرْأَةِ فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ نَفْسَهَا أَيْ لَا يَكُونُ دَفْعُهَا إسْرَافًا وَأَخْذُهُ ظُلْمًا. هَذَا تَفْسِيرُ الْآيَةِ، ثُمَّ اعْلَمْ بِأَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ عِنْدَنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ: هُوَ فَسْخٌ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي انْتِقَاصِ عَدَدِ الثَّلَاثِ بِهِ تَمَسَّك الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ عَقْدٌ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ فَإِنَّهُ يُفْسَخُ بِخِيَارِ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ وَخِيَارِ الْعِتْقِ وَخِيَارِ الْبُلُوغِ عِنْدَكُمْ فَيَنْفَسِخُ بِالتَّرَاضِي، وَذَلِكَ بِالْخُلْعِ قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ فَالشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَمَسَّك فِي إثْبَاتِ كَوْنِهِ طَلَاقًا بِالنَّصِّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ. قَوْلُهُ (ذَكَرَ الطَّلَاقَ مَرَّةً) يَعْنِي بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] وَذَكَرَهُ مَرَّتَيْنِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَعْقَبَهُمَا الضَّمِيرَ الْبَارِزَ رَاجِعٌ إلَى الْمَرَّةِ وَالْمَرَّتَيْنِ لَا إلَى الْمَرَّتَيْنِ فَحَسْبُ أَيْ أَعْقَبَ الْمَرَّةَ بِإِثْبَاتِ الرَّجْعَةِ بِقَوْلِهِ {وَبُعُولَتُهُنَّ} [البقرة: 228] وَالْمَرَّتَيْنِ بِقَوْلِهِ {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229] لِيَعْلَمَ أَنَّ الرَّجْعَةَ مَشْرُوعَةٌ بَعْدَ تَطْلِيقَتَيْنِ كَمَا هِيَ مَشْرُوعَةٌ بَعْدَ تَطْلِيقَةٍ كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ الذِّكْرِ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ الذِّكْرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا غَيْرُ إذْ السَّوْقُ يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فِي بَيَانِ قَوْله تَعَالَى، {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] ، وَدَلَالَتُهُ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ لَا فِي بَيَانِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ، {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] ، إذْ لَا حَاجَةَ لَهُ إلَى التَّمَسُّكِ بِهِ؛ وَإِنَّمَا يَحْسُنُ ذَلِكَ التَّفْسِيرُ لَوْ قَالَ مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] وَقَوْلُهُ {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] اللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الطَّلَاقَ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ وَلَمْ يَقُلْ كَذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا بَيَانُ وَجْهِ التَّمَسُّكِ أَيْضًا، وَالْغَرَضُ مِنْ ضَمِّ الْمَرَّةِ إلَى الْمَرَّتَيْنِ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ يَتِمُّ بِدُونِهِ الْإِشَارَةُ إلَى أَنَّ التَّثْنِيَةَ؛ وَإِنْ كَانَتْ مَقْصُودَةً كَمَا ذَكَرْنَا فَالتَّفْرِيقُ فِيهَا مَقْصُودٌ أَيْضًا حَتَّى لَا يَحِلُّ إرْسَالُ التَّطْلِيقَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ مَرَّتَانِ وَإِرْسَالُهُمَا جَمْعًا لَا يُسَمَّى مَرَّتَيْنِ كَمَنْ أَعْطَى فَقِيرًا دِرْهَمَيْنِ لَا يُقَالُ أَعْطَاهُ مَرَّتَيْنِ إلَّا أَنْ يُفَرِّقَ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ وَمَرَّتَيْنِ أَيْ مَعَ الْأُولَى لَا بِدُونِهَا كَمَا يُقَالُ نَصَحْتُك مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ فَلَمْ تَسْمَعْ وَأَتَيْت بَابَك مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ فَمَا صَادَفْتُك وَيُرَادُ مَعَ الْأُولَى لَا أَنَّهُ نَصَحَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَأَتَاهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي وَأَعْقَبَهُمَا رَاجِعًا إلَى الْمَرَّةِ وَالْمَرَّتَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَأَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَى الْمَرَّتَيْنِ فَحَسْبُ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ إثْبَاتُ الرَّجْعَةِ بِقَوْلِهِ، فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ لَا غَيْرُ، فَافْهَمْ. قَوْلُهُ (فَإِنَّمَا بَدَأَ) بَيَانَ وَجْهِ التَّمَسُّكِ أَيْ بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْآيَةِ بِذِكْرِ فِعْلِ الزَّوْجِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ ثُمَّ زَادَ فِعْلَ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ الِافْتِدَاءُ، وَبَحَثَ الْإِفْرَادَ أَيْ إفْرَادَ الْمَرْأَةِ بِالذِّكْرِ تَخْصِيصُهَا بِالِافْتِدَاءِ

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى بَعْدَ هَذَا {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} [البقرة: 230] وَالْفَاءُ حَرْفٌ خَاصٌّ لِمَعْنًى مَخْصُوصٍ، وَهُوَ الْوَصْلُ وَالتَّعْقِيبُ؛ وَإِنَّمَا وَصَلَ الطَّلَاقَ بِالِافْتِدَاءِ بِالْمَالِ فَأَوْجَبَ صِحَّتَهُ بَعْدَ الْخُلْعِ فَمَنْ وَصَلَهُ بِالرَّجْعِيِّ وَأَبْطَلَ وُقُوعَهُ بَعْدَ الْخُلْعِ لَمْ يَكُنْ عَمَلًا بِهِ وَلَا بَيَانًا ـــــــــــــــــــــــــــــQأَيْ لَا يَكُونُ الِافْتِدَاءُ إلَّا مِنْ جَانِبِهَا؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُحْتَاجَةُ إلَى الْخَلَاصِ وَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا اخْتَصَّتْ هِيَ بِهِ، وَهُوَ الِافْتِدَاءُ، وَفِيهِ أَيْ فِي الْإِفْرَادِ تَقْرِيرُ فِعْلِ الزَّوْجِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي سَبَقَ، وَهُوَ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا جَمَعَهُمَا فِي قَوْلِهِ أَنْ لَا يُقِيمَا ثُمَّ خَصَّ جَانِبَهَا مَعَ أَنَّهَا لَا تَتَخَلَّصُ بِالِافْتِدَاءِ إلَّا بِفِعْلِ الزَّوْجِ كَانَ بَيَانًا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ أَنَّ فِعْلَهُ هُوَ الَّذِي سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ وَمِثْلُ هَذَا الْبَيَانِ فِي حُكْمِ الْمَنْطُوقِ كَمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ، {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] ، فَصَارَ كَأَنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّ فِعْلَهُ فِي الْخُلْعِ طَلَاقٌ، فَمَنْ جَعَلَ فِعْلَهُ فِي الْخُلْعِ فَسْخًا لَا يَكُونُ ذَلِكَ عَمَلًا بِهَذَا الْخَاصِّ الْمَنْطُوقِ حُكْمًا، وَهُوَ الطَّلَاقُ بَلْ يَكُونُ رَفْعًا. (فَإِنْ قِيلَ) ذَكَرَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ الطَّلَاقَ لَا فِعْلَ الزَّوْجِ صَرِيحًا فَيَثْبُتُ بِالْبَيَانِ السُّكُوتِيِّ هَذَا الْقَدْرُ وَيَصِيرُ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ قِيلَ؛ فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَلَا يُطَلِّقُهَا مَجَّانًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ لِتَحْصِيلِ الطَّلَاقِ فَيَكُونُ الْآيَةُ بَيَانَ الطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ لَا بَيَانُ الْخُلْعِ وَكَلَامُنَا فِي الْخُلْعِ (قُلْنَا) بَلْ هِيَ بَيَانُ الْخُلْعِ بِدَلِيلِ سَبَبِ النُّزُولِ، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي «جَمِيلَةَ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ كَانَتْ تُبْغِضُ زَوْجَهَا ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ، وَكَانَ يُحِبُّهَا فَتَخَاصَمَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَطَلَبَتْ التَّفْرِيقَ فَقَالَ ثَابِتٌ قَدْ أَعْطَيْتهَا حَدِيقَةً فَلْتَرُدَّ عَلَيَّ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ وَتَمْلِكِينَ فَقَالَتْ: نَعَمْ وَأَزِيدُهُ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا بَلْ حَدِيقَتُهُ فَقَطْ ثُمَّ قَالَ يَا ثَابِتُ خُذْ مِنْهَا مَا أَعْطَيْتهَا وَخَلِّ سَبِيلَهَا فَفَعَلَ» فَكَانَ أَوَّلَ خُلْعٍ فِي الْإِسْلَامِ (فَإِنْ قِيلَ) لَوْ كَانَ الْخُلْعُ طَلَاقًا صَارَتْ التَّطْلِيقَاتُ أَرْبَعًا فِي سِيَاقِ الْآيَةِ (قُلْنَا) الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] بَيَانُ الشَّرْعِيَّةِ لَا بَيَانُ الْوُقُوعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الطَّلَاقَ فِي مَوَاضِعَ وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ مُتَعَدِّدًا بِتَعَدُّدِ الذِّكْرِ، فَكَذَلِكَ هَهُنَا كَذَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إنَّهُ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَإِنَّ النِّكَاحَ بَعْدَ تَمَامِهِ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ بِالْهَلَاكِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، وَأَنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ بِهِ ضَرُورِيٌّ لَا يَظْهَرُ إلَّا فِي حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ أَمَّا الْفَسْخُ بِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ فَفَسْخٌ قَبْلَ التَّمَامِ، فَكَانَ فِي مَعْنَى الِامْتِنَاعِ مِنْ الْإِتْمَامِ، وَكَذَلِكَ فِي خِيَارِ الْعِتْقِ وَالْبُلُوغِ. فَأَمَّا الْخُلْعُ فَإِنَّمَا يَقَعُ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ وَالنِّكَاحِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ فَسْخًا فَيُجْعَلَ قَطْعًا لِلنِّكَاحِ فِي الْحَالِ فَيَكُونَ طَلَاقًا قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى) {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] الْآيَةُ الصَّرِيحُ يَلْحَقُ الْبَائِنَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَلْحَقُهُ؛ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ فِي الْمُخْتَلِعَةِ وَالْمُطَلَّقَةِ عَلَى مَالٍ إذْ لَا بَيْنُونَةَ فِيمَا سِوَاهُمَا عِنْدَهُ هَكَذَا سَمِعْت مِنْ الثِّقَاتِ، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ لَفْظُ التَّهْذِيبِ فَقَدْ ذَكَرَ فِيهِ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا ثُمَّ طَلَّقَهَا فِي الْعِدَّةِ يَقَعُ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ النِّكَاحِ بَاقِيَةٌ؛ وَإِنْ حُرِّمَ الْوَطْءُ أَمَّا الْمُخْتَلِعَةُ إذَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا فِي الْعِدَّةِ فَلَا يَلْحَقُهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً مِنْهُ بِالْخُلْعِ، وَرَأَيْت فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقَعُ الطَّلَاقُ بَعْدَ الطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ فَلَوْ صَحَّ هَذَا لَمْ يَبْقَ الْخِلَافُ إلَّا فِي الْمُخْتَلِعَةِ وَمَا ذَكَرْته أَوَّلًا أَصَحُّ، قَالَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مَشْرُوعٌ لِإِزَالَةِ مِلْكِ النِّكَاحِ، وَقَدْ زَالَ بِالْخُلْعِ، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بَعْدَهُ كَمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَاسْتَدَلَّ الشَّيْخُ بِالْآيَةِ

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ} [النساء: 24] فَإِنَّمَا أَحَلَّ الِابْتِغَاءَ بِالْمَالِ، وَالِابْتِغَاءُ لَفْظٌ خَاصٌّ وُضِعَ لِمَعْنًى مَخْصُوصٍ، وَهُوَ الطَّلَبُ وَالطَّلَبُ بِالْعَقْدِ يَقَعُ فَمَنْ جَوَّزَ تَرَاخِي الْبَدَلِ عَنْ الطَّلَبِ الصَّحِيحِ إلَى الْمَطْلُوبِ، وَهُوَ فِعْلُ الْوَطْءِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ إبْطَالًا فَبَطَلَ بِهِ مَذْهَبُ الْخَصْمِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَقَالَ: وَصَلَ الطَّلَاقَ بِالِافْتِدَاءِ بِالْمَالِ، وَهُوَ الْخُلْعُ بِحَرْفِ الْفَاءِ، وَهُوَ لِلْوَصْلِ وَالتَّعْقِيبِ فَيَكُونُ هَذَا تَنْصِيصًا عَلَى صِحَّةِ إيقَاعِ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ بَعْدَ الْخُلْعِ مُتَّصِلًا بِهِ، وَصَارَ مَعْنَى الْآيَةِ؛ فَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْخُلْعِ، فَمَنْ وَصَلَهُ أَيْ الطَّلَاقَ أَوْ قَوْلُهُ؛ فَإِنْ طَلَّقَهَا بِالرَّجْعِيِّ يَعْنِي بِأَوَّلِ الْآيَةِ لَا يَكُونُ وَصْلُهُ عَمَلًا بِالْفَاءِ وَلَا بَيَانًا، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ مُشْكِلٌ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ: هَذِهِ الْآيَةُ رَجَعَتْ إلَى الْآيَةِ الْأُولَى، وَهِيَ قَوْلُهُ {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] أَيْ؛ فَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ التَّطْلِيقَتَيْنِ تَطْلِيقَةً أُخْرَى، وَذَكَرَ فِي الْكَشَّافِ؛ فَإِنْ طَلَّقَهَا الطَّلَاقَ الْمَذْكُورَ الْمَوْصُوفَ بِالتَّكْرَارِ فِي قَوْلِهِ {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] وَاسْتَوْفَى نَصًّا بِهِ أَوْ؛ فَإِنْ طَلَّقَهَا مَرَّةً ثَالِثَةً بَعْدَ الْمَرَّتَيْنِ فَوَصَلَاهُ بِالْآيَةِ الْأُولَى. وَكَذَا فِي عَامَّةِ التَّفَاسِيرِ، ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ؛ {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] إمَّا بَيَانُ مُبَاشَرَةِ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ إنْ كَانَتْ شَرْعِيَّتُهَا ثَابِتَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] عَلَى مَا رَوَى أَبُو رَزِينٍ الْعُقَيْلِيُّ «- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ فَقَالَ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ أَوْ بَيَانُ الشَّرْعِيَّةِ» كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ يَجِبُ وَصْلُهُ بِأَوَّلِ الْآيَةِ لَا بِالْخُلْعِ، فَلَا يَبْقَى التَّمَسُّكُ بِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ كَيْفَ وَالتَّرْتِيبُ فِي الذِّكْرِ لَا يُوجِبُ التَّرْتِيبَ فِي الْحُكْمِ وَالْمَشْرُوعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ ذَلِكَ لَمَا تُصُوِّرَ شَرْعِيَّةُ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ قَبْلَ الْخُلْعِ عَمَلًا بِالْفَاءِ وَأَنَّهَا ثَابِتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَا الْخُلْعُ مُتَصَوِّرٌ وَمَشْرُوعٌ قَبْلَ الطَّلْقَتَيْنِ فَعَرَفْنَا أَنَّ مُوجِبَ حَرْفِ الْفَاءِ سَاقِطٌ، وَأَنَّهَا لِمُطْلَقِ الْعَطْفِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَ التَّرْتِيبُ وَالْوَصْلُ كَمَا هُوَ مُوجِبُ حَرْفِ الْفَاءِ لَصَارَ عَدَدُ الطَّلَاقِ أَرْبَعًا؛ لِأَنَّهُ يُصَيِّرُ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ مُرَتَّبَةً عَلَى الْخُلْعِ وَالْخُلْعَ مُرَتَّبًا عَلَى الطَّلْقَتَيْنِ وَذَلِكَ خِلَافُ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ. وَأَجَابَ الْإِمَامُ الْبُرْغَرِيُّ فِي طَرِيقَتِهِ عَنْ هَذَا بِأَنَّ بَيَانَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ فِي قَوْلِهِ {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ} [البقرة: 230] لَا فِي قَوْلِهِ {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وَأَنَّ قَوْلَهُ {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] يَنْصَرِفُ إلَى الطَّلْقَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ لَا أَنَّهُ بَيَانُ طَلْقَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ تَطْلِيقٌ آخَرُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ فِي الطَّلَاقَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ ثُمَّ رَتَّبَ عَلَى الِافْتِدَاءِ الثَّالِثَةَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ أَكْثَرَ مِنْ الثَّلَاثِ وَيَبْقَى النَّصُّ حُجَّةً مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي الْأَسْرَارِ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ مَعَ بُعْدِهِ عَنْ سِيَاقِ النَّظْمِ وَمُخَالَفَتِهِ لِأَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ لَا يَسْتَقِيمُ هَهُنَا؛ لِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَبْقَ حُجَّةً فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْخُلْعُ لَا الطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ بِدَلِيلِ سَبَبِ النُّزُولِ، فَإِذَا كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَتَمَسَّكَ فِي الْمَسْأَلَةِ بِمَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْمُخْتَلِعَةُ يَلْحَقُهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ» وَبِالْمَعَانِي الْفِقْهِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ قَوْلُهُ قَوْله تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] أَيْ سِوَى هَؤُلَاءِ الْمُحَرَّمَاتِ أَنْ تَبْتَغُوا مَفْعُولٌ لَهُ بِمَعْنَى بَيَّنَ لَكُمْ مَا يَحِلُّ مِمَّا يَحْرُمُ إرَادَةَ أَنْ يَكُونَ ابْتِغَاؤُكُمْ بِأَمْوَالِكُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْ تَبْتَغُوا بَدَلًا مِمَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ، وَالْأَمْوَالُ الْمُهُورُ، مُحْصِنِينَ فِي حَالِ كَوْنِكُمْ نَاكِحِينَ غَيْرَ زَانِينَ لِئَلَّا تُضَيِّعُوا أَمْوَالَكُمْ وَتُفْقِرُوا

فِي مَسْأَلَةِ الْمُفَوِّضَةِ وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50] وَالْفَرْضُ لَفْظٌ خَاصٌّ وُضِعَ لِمَعْنًى مَخْصُوصٍ، وَهُوَ التَّقْدِيرُ فَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ الْمَهْرَ مُقَدَّرًا شَرْعًا كَانَ مُبْطِلًا، وَكَذَلِكَ الْكِنَايَةُ فِي قَوْله تَعَالَى مَا فَرَضْنَا لَفْظٌ خَاصٌّ يُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْمُتَكَلِّمِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنْفُسَكُمْ فِيمَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ فَتَخْسَرُوا دُنْيَاكُمْ وَدِينَكُمْ، وَمَفْعُولُ أَنْ تَبْتَغُوا مُقَدَّرٌ، وَهُوَ النِّسَاءُ، فَاَللَّهُ تَعَالَى أَحَلَّ الِابْتِغَاءَ أَيْ الطَّلَبَ بِالْمَالِ وَالْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الطَّلَبُ مُلْصَقًا بِالْمَالِ وَالطَّلَبُ بِالْعَقْدِ يَقَعُ لَا بِالْإِجَارَةِ وَالْمُتْعَةِ وَغَيْرِهِمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24] ، فَيَجِبُ الْمَالُ عِنْدَ الْعَقْدِ إمَّا تَسْمِيَةً وَإِمَّا وُجُوبًا بِإِيجَابِ الشَّرْعِ. وَقَوْلُهُ عَنْ الطَّلَبِ الصَّحِيحِ احْتِرَازٌ عَنْ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهِ الْمَهْرُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ بِالْإِجْمَاعِ بَلْ يَتَرَاخَى إلَى الْوَطْءِ قَوْلُهُ (فِي الْمُفَوِّضَةِ) بِكَسْرِ الْوَاوِ وَبِفَتْحِهَا، وَاعْلَمْ أَنَّ التَّفْوِيضَ هُوَ التَّزْوِيجُ بِلَا مَهْرٍ، وَهُوَ عِنْدَهُ صَحِيحٌ وَفَاسِدٌ فَالصَّحِيحُ هُوَ أَنْ تَأْذَنَ الْمَرْأَةُ الْمَالِكَةُ لِأَمْرِهَا ثَيِّبًا كَانَتْ أَوْ بِكْرًا لِوَلِيِّهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا بِلَا مَهْرٍ أَوْ تَقُولَ زَوِّجْنِي وَلَا تَذْكُرُ الْمَهْرَ فَيُزَوِّجَهَا وَلِيُّهَا وَيَقُولُ زَوَّجْتُكهَا بِلَا مَهْرٍ أَوْ يَسْكُتَ عَنْ ذِكْرِ الْمَهْرِ أَوْ السَّيِّدُ يُزَوِّجُ أَمَتَهُ بِلَا مَهْرٍ أَوْ يَسْكُتُ عَنْ ذِكْرِهِ فَيَصِحُّ النِّكَاحُ وَلَا يَجِبُ الْمَهْرُ بِالْعَقْدِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَلَوْ دَخَلَ بِهَا وَجَبَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ وَلَهَا مُطَالَبَتُهُ بِالْفَرْضِ وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْمَسِيسِ وَالْفَرْضِ لَا مَهْرَ لَهَا، وَالْفَاسِدُ هُوَ أَنْ يُزَوِّجَ الْأَبُ الصَّغِيرَةَ أَوْ الْمَجْنُونَةَ مُفَوِّضَةً أَوْ الْأَبُ زَوَّجَ الْبِكْرَ الْبَالِغَةَ دُونَ رِضَاهَا مُفَوِّضَةً فَفِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا يَصِحُّ وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ بِالْعَقْدِ كَذَا فِي التَّهْذِيبِ لِلْإِمَامِ مُحْيِي السُّنَّةِ، ثُمَّ فِي التَّفْوِيضِ الصَّحِيحِ يَجُوزُ أَنْ تُسَمَّى الْمَرْأَةُ الْمَالِكَةُ لِأَمْرِهَا مُفَوِّضَةً بِكَسْرِ الْوَاوِ؛ لِأَنَّهَا فَوَّضَتْ أَيْ أَذِنَتْ فِي التَّزْوِيجِ بِلَا مَهْرٍ وَمُفَوَّضَةً بِفَتْحِهَا؛ لِأَنَّ وَلِيَّهَا فَوَّضَهَا أَيْ زَوَّجَهَا بِلَا مَهْرٍ وَالْأَمَةُ الْمُزَوَّجَةُ بِلَا مَهْرٍ لَا تُسَمَّى إلَّا مُفَوَّضَةً بِالْفَتْحِ فَهَذَا مَعْنَى فَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا. فَأَمَّا مَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ الْمُفَوِّضَةَ بِالْكَسْرِ هِيَ الَّتِي زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ مَهْرٍ وَبِالْفَتْحِ هِيَ الصَّغِيرَةُ الَّتِي زَوَّجَهَا وَلِيُّهَا بِلَا مَهْرٍ فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْأُولَى فَاسِدٌ عِنْدَهُ لِعَدَمِ الْوَلِيِّ فَلَا يَكُونُ مِنْ بَابِ التَّفْوِيضِ وَفِي نِكَاحِ الثَّانِيَةِ يَجِبُ الْمَهْرُ بِالْعَقْدِ كَمَا ذَكَرْنَا فَلَا يَتَأَتَّى الْخِلَافُ، وَذَكَرَ فِي الطَّرِيقَةِ الْمَنْسُوبَةِ إلَى الصَّدْرِ الْحَجَّاجِ قُطْبِ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ التَّمَسُّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَصْحَابِنَا لَا يَسْتَقِيمُ فِي الْمُفَوِّضَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِهِ مَشْرُوعًا بِمَالٍ وَلَيْسَ فِيهِ نَفْيُ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا بِلَا مَالٍ بَلْ هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ مَوْقُوفٌ إلَى قِيَامِ الدَّلِيلِ وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهِ مَشْرُوعًا بِلَا عِوَضٍ، وَهُوَ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ وَانْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُم فَإِنَّهُ بِإِطْلَاقِهِ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَالْمُطْلَقُ يَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ وَالْمُقَيَّدُ عَلَى تَقْيِيدِهِ. قُلْت الْمُطْلَقُ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي الْحُكْمِ الْوَاحِدِ فِي الْحَادِثَةِ الْوَاحِدَةِ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَهَهُنَا كَذَلِكَ فَيَجِبُ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِالْمَالِ أَلَا يُرَى أَنَّهُ شُرِطَ فِيهِ الْإِشْهَادُ مَعَ أَنَّ إطْلَاقَهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَكَذَا يُشْتَرَطُ الْمَالُ (قَوْله تَعَالَى {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} [الأحزاب: 50] أَيْ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ مَا يَجِبُ فَرْضُهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الْأَزْوَاجِ وَالْإِمَاءِ كَذَا فِي الْكَشَّافِ وَقِيلَ النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ وَالْمَهْرُ، وَفِي التَّيْسِيرِ أَيْ مَا أَوْجَبْنَا مِنْ الْمُهُورِ فِي أُمَّتِك فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمِنْ الْعِوَضِ فِي إمَائِهِمْ وَأَحْلَلْنَا لَك الْوَاهِبَةَ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ مَهْرٍ وَأَطْلَقْنَا لَك الِاصْطِفَاءَ مِنْ الْغَنِيمَةِ مَا شِئْت، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ اسْتَدَلَّ الشَّيْخُ فِي تَقْدِيرِ الْمَهْرِ فَقَالَ الْفَرْضُ

فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِلْإِيجَابِ وَالتَّقْدِيرِ؛ وَإِنَّ تَقْدِيرَ الْعَبْدِ امْتِثَالٌ بِهِ فَمَنْ جَعَلَ إلَى الْعَبْدِ اخْتِيَارَ الْإِيجَابِ وَالتَّرْكِ فِي الْمَهْرِ وَالتَّقْدِيرِ فِيهِ كَانَ إبْطَالًا لِمُوجِبِ هَذَا اللَّفْظِ الْخَاصِّ لَا عَمَلًا بِهِ وَلَا بَيَانًا لَهُ لِأَنَّهُ بَيِّنٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَفْظٌ خَاصٌّ لِمَعْنًى مَخْصُوصٍ، وَهُوَ التَّقْدِيرُ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ مُقَدَّرًا بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ النُّقْصَانُ عَنْهُ إلَّا أَنَّهُ فِي تَعْيِينِ الْمِقْدَارِ مُجْمَلٌ فَالْتُحِقَ السُّنَّةُ بَيَانًا بِهِ، وَهِيَ مَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا يُزَوِّجُ النِّسَاءَ إلَّا الْأَوْلِيَاءُ وَلَا يُزَوَّجْنَ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ وَلَا مَهْرَ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ» فَصَارَتْ الْعَشَرَةُ تَقْدِيرًا لَازِمًا فَمَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ مُقَدَّرًا كَانَ مُبْطِلًا لَهُ لَا عَامِلًا بِهِ، وَلَكِنْ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ لَا أُسَلِّمُ أَنَّ الْفَرْضَ خَاصٌّ فِي الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْت بَلْ الْفَرْضُ الْجَزُّ فِي الشَّيْءِ وَمِنْهُ قِيلَ فَرْضُ الْقَوْسِ لِلْجَزِّ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الْوَتَرُ، وَالْمِفْرَضُ لِلْحَدِيدَةِ الَّتِي يُجَزُّ بِهَا، وَالْفَرِيضُ لِلسَّهْمِ الْمَفْرُوضِ الَّذِي فُرِضَ فَوْقَهُ وَفُرْضَةُ النَّهْرِ لِثُلْمَتِهِ الَّتِي مِنْهَا يُسْتَقَى، وَالْفَرْضُ الْإِيجَابُ أَيْضًا، وَهُوَ مَشْهُورٌ، وَالْفَرْضُ الْبَيَانُ أَيْضًا قَالَ تَعَالَى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور: 1] أَيْ بَيَّنَّاهَا فِي قَوْلِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَ، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ، أَيْ بَيَّنَ فِي قَوْلِ جَمَاعَةٍ. وَالْفَرْضُ التَّقْدِيرُ كَمَا ذَكَرْت فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا لَا خَاصًّا، أَوْ هُوَ خَاصٌّ فِي الْقَطْعِ حَقِيقَةٌ فِيهِ عَلَى مَا قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النُّورِ أَصْلُ الْفَرْضِ الْقَطْعُ، وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ ثُمَّ نُقِلَ إلَى الْإِيجَابِ وَالتَّقْدِيرِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَكَذَا الْمُقَدَّرُ مَقْطُوعٌ عَنْ الْغَيْرِ فَكَانَ مَجَازًا فِيهِمَا ثُمَّ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ حَمَلَهُ عَلَى مَعْنَى الْإِيجَابِ هَهُنَا بِقَرِينَةِ {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [الأحزاب: 50] أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى التَّقْدِيرِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِيجَابِ يَسْتَقِيمُ فِي حَقِّ الْإِمَاءِ كَمَا يَسْتَقِيمُ فِي الْأَزْوَاجِ؛ لِأَنَّ مَا بِهِ قَوَامُهُنَّ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَاجِبٌ لَهُنَّ عَلَيْهِمْ كَوُجُوبِهِ وَوُجُوبِ الْمَهْرِ لِلْأَزْوَاجِ عَلَيْهِمْ وَلِهَذَا فَسَّرَهُ عَامَّةُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ بِالْإِيجَابِ هَهُنَا فَأَمَّا مَعْنَى التَّقْدِيرِ فَلَا يَسْتَقِيمُ فِي حَقِّ الْإِمَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَدِّرْ عَلَى الْمَوَالِي لِلْإِمَاءِ شَيْءٌ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْإِيجَابَ هُوَ الْمُرَادُ هَهُنَا كَلِمَةُ عَلَى، فَإِنَّهَا صِلَةُ الْإِيجَابِ لَا صِلَةُ التَّقْدِيرِ يُقَالُ فَرَضَ عَلَيْهِ أَيْ أَوْجَبَ وَلَا يُقَالُ فَرَضَ عَلَيْهِ بِمَعْنَى قَدَّرَ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْإِيجَابِ أَوْلَى لَا يَكُونُ تَرْكُ الْقَوْلِ بِالتَّقْدِيرِ فِي الْمَهْرِ إبْطَالًا. قَوْلُهُ (قَبْلَ ذَلِكَ) أَيْ مَجْمُوعُ قَوْلِهِ فَرَضْنَا عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِلْإِيجَابِ بِالْإِضَافَةِ إلَى ذَاتِهِ، وَالتَّقْدِيرُ بِلَفْظِ الْفَرْضِ وَأَنَّ تَقْدِيرَ الْعَبْدِ امْتِثَالٌ بِهِ قِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ مُهُورَ النِّسَاءِ مُقَدَّرَةٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّهَا غَيْبٌ عَنَّا فَبِاصْطِلَاحِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى مُقَدَّرٍ يَظْهَرُ ذَلِكَ الْمُقَدَّرُ الْمَعْلُومُ لَا أَنَّهُمْ يُقَدِّرُونَ مَا لَيْسَ بِمَقْدُورٍ اُعْتُبِرَ هَذَا بِقِيَمِ الْأَشْيَاءِ فَإِنَّهَا مُقَدَّرَةٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ تَظْهَرُ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ وَنَظِيرُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ مَعْلُومٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مَسْتُورٌ عَنَّا وَيَظْهَرُ فِي ضِمْنِ الْفِعْلِ وَلَكِنْ فِيهِ بُعْدٌ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ إثْبَاتُ تَقْدِيرِ الْمَهْرِ، وَأَنَّهُ مَعْلُومٌ قَبْلَ الْفِعْلِ لِيَتَحَقَّقَ الِامْتِثَالُ كَتَقْدِيرِ نِصَابِ السَّرِقَةِ وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يُفِيدُ هَذَا الْغَرَضَ وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُمَا لَوْ اصْطَلَحَا عَلَى الْخَمْسَةِ يَكُونُ ذَلِكَ إظْهَارًا لِلْمُقَدَّرِ أَيْضًا كَمَا لَوْ اصْطَلَحَا عَلَى الْعِشْرِينَ. وَاَلَّذِي يَخْطُرُ بِبَالِي أَنَّ هَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَوْ كَانَ الْمَهْرُ مُقَدَّرًا بِمَا ذَكَرْتُمْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ كَمَا لَا يَجُوزُ النُّقْصَانُ عَنْهُ اعْتِبَارًا بِأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَلَمَّا جَازَتْ الزِّيَادَةُ جَازَ النُّقْصَانُ أَيْضًا فَلَا يَكُونُ الْمَهْرُ مُقَدَّرًا؟ ، فَأَجَابَ بِأَنَّهُ مِنْ الْمَقَادِيرِ الَّتِي تَمْنَعُ النُّقْصَانَ دُونَ الزِّيَادَةِ كَمَقَادِيرِ الزَّكَوَاتِ

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْقَطْعُ لَفْظٌ خَاصٌّ لِمَعْنًى مَخْصُوصٍ، فَأَنَّى يَكُونُ إبْطَالُ عِصْمَةِ الْمَالِ عَمَلًا بِهِ فَقَدْ وَقَعْتُمْ فِي الَّذِي أَبَيْتُمْ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَلَا يُرَى أَنَّهُ تَعَرَّضَ لِجَانِبِ الْقِلَّةِ بِالنَّفْيِ فَقَالَ لَا مَهْرَ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ دُونَ الْكَثْرَةِ إذْ لَمْ يَقُلْ وَلَا أَكْثَرَ مِنْهَا فَيَكُونُ الْتِزَامُ الْأَكْثَرِ امْتِثَالًا بِهَذَا التَّقْدِيرِ لَا مَحَالَةَ كَالْتِزَامِ الزِّيَادَةِ فِي الزَّكَاةِ بِخِلَافِ جَانِبِ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّهُ تَرْكٌ لِلِامْتِثَالِ بِهِ، فَلَا يَجُوزُ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ، وَأَنَّ تَقْدِيرَ الْعَبْدِ امْتِثَالٌ بِهِ أَيْ بِتَقْدِيرِ الشَّرْعِ، فَمَنْ جَعَلَ إلَى الْعَبْدِ اخْتِيَارَ الْإِيجَابِ وَالتَّرْكِ فِي الْمَهْرِ أَيْ إثْبَاتَ الْمَهْرِ وَتَرْكَهُ كَمَا جَعَلَهُ مَالِكٌ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ حَيْثُ قَالَا إنْ شَاءَ أَوْجَبَ الْمَهْرَ فِي الْعَقْدِ أَوْ سَكَتَ فَيَجِبُ الْمَهْرُ، وَيَصِحُّ الْعَقْدُ؛ وَإِنْ شَاءَ نَفَاهُ فَيَصِحُّ نَفْيُهُ أَيْضًا وَيُؤَثِّرُ فِي فَسَادِ الْعَقْدِ كَنَفْيِ الثَّمَنِ عَنْ الْبَيْعِ يَصِحُّ وَيَفْسُدُ الْبَيْعُ، وَالتَّقْدِيرُ فِيهِ أَيْ فِي الْمَهْرِ كَمَا جَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ حَيْثُ قَالَ: إيجَابُ أَصْلِهِ بِالْعَقْدِ وَبَيَانُ مِقْدَارِهِ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الزَّوْجَيْنِ كَانَ إبْطَالًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مَنْصُوبًا عَطْفًا عَلَى الِاخْتِيَارِ وَأَنْ يَكُونَ مَجْرُورًا عَطْفًا عَلَى الْإِيجَابِ أَيْ مَنْ جَعَلَ إلَى الْعَبْدِ اخْتِيَارَ الْإِيجَابِ وَاخْتِيَارَ التَّقْدِيرِ. قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِنْ الْخَاصِّ الْمَذْكُورِ قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] الْآيَةَ، رَفَعَهُمَا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ كَأَنَّهُ قِيلَ وَفِيمَا فُرِضَ عَلَيْكُمْ السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ أَيْ حُكْمُهُمَا أَوْ الْخَبَرُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا وَدُخُولُ الْفَاءِ لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى الشَّرْطِ، أَيْدِيَهُمَا، وَنَحْوُهُ {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] اكْتَفَى بِتَثْنِيَةِ الْمُضَافِ إلَيْهِ عَنْ تَثْنِيَةِ الْمُضَافِ، وَأُرِيدَ بِالْيَدَيْنِ الْيَمِينَانِ بِدَلِيلِ قِرَاءَةِ عَبْدُ اللَّهِ وَالسَّارِقُونَ وَالسَّارِقَاتُ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمْ جَزَاءً وَنَكَالًا مَفْعُولٌ لَهُمَا كَذَا فِي الْكَشَّافِ، وَذَكَرَ فِي التَّيْسِيرِ إنَّمَا جَمَعَ الْأَيْدِي؛ لِأَنَّ السَّارِقَ اسْمُ جِنْسٍ، وَكَذَا السَّارِقَةُ أُرِيدَ بِهِمَا الْجَمْعُ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ الْأَيْدِي؛ لِأَنَّهَا أَفْرَادٌ مُضَافَةٌ إلَى الْجَمْعِ وَقَالَ أَيْدِيَهُمَا عَلَى التَّثْنِيَةِ وَلَمْ يَقُلْ أَيْدِيهِمْ لِظَاهِرِ اللَّفْظِ وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ اعْتِبَارِ اللَّفْظِ وَاعْتِبَارِ الْمَعْنَى فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ شَائِعٌ لُغَةً كَالْجَمْعِ بَيْنَ تَذْكِيرِ الْمَعْنَى وَتَأْنِيثِ اللَّفْظِ، وَفِي عَيْنِ الْمَعَانِي وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسَّارِقُونَ وَالسَّارِقَاتُ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا وَالصَّوَابُ أَيْمَانَهُمْ إلَّا أَنَّهُ أَرَادَ أَيْمَانَ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ وَالْعُضْوُ أَنْ يُجْمَعَ مِنْ اثْنَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا اثْنَانِ مِنْ اثْنَيْنِ، وَاعْلَمْ بِأَنَّ عِنْدَنَا حُكْمُ السَّرِقَةِ قَطْعٌ يَنْفِي الضَّمَانَ عَنْ السَّارِقِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَسْرُوقُ عِنْدَهُ قَبْلَ الْقَطْعِ أَوْ بَعْدَهُ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ لَا يَضْمَنُ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ خَمْرًا، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يَضْمَنُ إذَا اسْتَهْلَكَهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِ الْقَطْعُ لَا يَنْفِي ضَمَانَ الْعَيْنِ عَنْهُ بَلْ الْعَيْنُ فِي حَقِّ الضَّمَانِ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ قَطْعٌ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي السَّرِقَةِ الْكُبْرَى وَحَدِّ الزِّنَا قَالَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْقَطْعِ بِقَوْلِهِ {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وَلَمْ يَنْفِ الضَّمَانَ صَرِيحًا وَلَا دَلَالَةً؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ اسْمٌ لِفِعْلٍ مَعْلُومٍ، وَهُوَ الْإِبَانَةُ وَلَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى انْتِفَاءِ الضَّمَانِ وَانْقِطَاعِ الْعِصْمَةِ أَصْلًا، وَلَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ، اسْمًا، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَمَقْصُودًا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا شُرِعَ جَبْرًا لِلْمَحَلِّ وَالْآخَرُ شُرِعَ زَاجِرًا بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ وَمَحَلًّا؛ لِأَنَّ مَحَلَّ أَحَدِهِمَا الْيَدُ وَمَحَلَّ الْآخَرِ الذِّمَّةُ، وَسَبَبًا؛ لِأَنَّ سَبَبَ أَحَدِهِمَا الْجِنَايَةُ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَسَبَبَ الْآخَرِ الْجِنَايَةُ عَلَى حَقِّ الْعَبْدِ وَاسْتِحْقَاقًا، فَإِنَّ مُسْتَحِقَّ الْقَطْعِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَمُسْتَحِقُّ الْآخَرِ الْعَبْدُ وَإِذَا

وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ ثَبَتَ بِنَصٍّ مَقْرُونٍ بِهِ عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ الْمُطْلَقَ اسْمٌ لِمَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مُقَابَلَةِ فِعْلِ الْعَبْدِ؛ وَإِنْ يَجِبْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى يَدُلَّ عَلَى خُلُوصِ الْجِنَايَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى الْجَزَاءِ وَاقِعَةٌ عَلَى حَقِّهِ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ تَحَوُّلُ الْعِصْمَةِ إلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ الْجَزَاءَ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْمَشْرُوعِ لِمَا شُرِعَ لَهُ مَأْخُوذٌ مِنْ جَزَى أَيْ قَضَى وَجَزَاءٌ بِالْهَمْزَةِ أَيْ كَفَى وَكَمَالُهُ يَسْتَدْعِي كَمَالَ الْجِنَايَةِ وَلَا كَمَالَ مَعَ قِيَامِ حَقِّ الْعَبْدِ فِي الْعِصْمَةِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ حَرَامًا لِمَعْنًى يَكُونُ فِي غَيْرِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQاخْتَلَفَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يَقْتَضِي ثُبُوتُ أَحَدِهِمَا ثُبُوتَ الْآخَرِ وَلَا انْتِفَاءَهُ وَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِهِ، وَهُوَ الْعُمُومَاتُ الْمُوجِبَةُ لِلضَّمَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى، {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ، وَكَقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ، {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وَكَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ» ، فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِهِ فَمَنْ قَالَ بِأَنَّ الْقَطْعَ يُوجِبُ انْتِفَاءَ الضَّمَانِ وَإِبْطَالَ الْعِصْمَةِ لَا يَكُونُ هَذَا عَمَلًا بِهَذَا اللَّفْظِ الْخَاصِّ بَلْ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَيْهِ بِالرَّأْيِ أَوْ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «لَا غُرْمَ عَلَى سَارِقٍ بَعْدَمَا قُطِعَتْ يَمِينُهُ» ، وَقَدْ أَبَيْتُمْ ذَلِكَ، وَفِيهِ تَرْكُ الْعَمَلِ بِالْعُمُومَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلضَّمَانِ أَيْضًا. وَقَوْلُهُ: أَنَّى بِمَعْنَى كَيْفَ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى النَّفْيِ أَيْ لَا يَكُونُ إبْطَالُ عِصْمَةِ الْمَالِ عَمَلًا بِهِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ أَيْ إبْطَالُ الْعِصْمَةِ ثَبَتَ بِنَصٍّ يُشِيرُ إلَى إبْطَالِهَا، " مَقْرُونٍ " بِقَوْلِهِ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَغَيَّرَ النَّصُّ بِدَلِيلٍ يَقْتَرِنُ بِهِ كَقَوْلِك أَنْتَ حُرٌّ نَصٌّ فِي إثْبَاتِ الْحُرِّيَّةِ، فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ الِاسْتِثْنَاءُ أَوْ الشَّرْطُ تَغَيَّرَ مُوجِبُهُ، فَكَذَلِكَ هَهُنَا غَيَّرْنَا هَذَا النَّصَّ الَّذِي لَمْ يُوجِبْ سُقُوطَ عِصْمَةِ الْمَحَلِّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، بِدَلِيلٍ زَائِدٍ اُقْتُرِنَ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ جَزَاءً، وَفِي قَوْلِهِ مَقْرُونٍ بِهِ إشَارَةٌ إلَى نَوْعٍ مِنْ التَّشْنِيعِ عَلَى الْخَصْمِ، وَهُوَ أَنَّهُ غَفَلَ عَنْ الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ الْمُتَّصِلِ بِهَذَا الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَى إشَارَتِهِ ثُمَّ طَعَنَ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ فَيَكُونُ الطَّعْنُ عَائِدًا عَلَيْهِ، ثُمَّ بَيَانُ إشَارَتِهِ إلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْجَزَاءَ قَدْ أُطْلِقَ هَهُنَا وَالْجَزَاءُ إذَا أُطْلِقَ فِي مَعْرِضِ الْعُقُوبَاتِ يُرَادُ بِهِ مَا يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى بِمُقَابَلَةِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ وُجُوبَ الْقَطْعِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَتَقَيَّدْ بِالْمِثْلِ وَمَا يَجِبُ حَقًّا لِلْعَبْدِ يَتَقَيَّدُ بِهِ مَالًا كَانَ أَوْ عُقُوبَةً كَالْغَصْبِ وَالْقِصَاصِ؛ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ الْخُصُومَةَ بِدَعْوَى الْحَدِّ وَإِثْبَاتِهِ وَلَا يَمْلِكُ الْعَفْوَ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَلَا يُورَثُ عَنْهُ وَمَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ إنَّمَا يَجِبُ بِهَتْكِ حُرْمَةٍ هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ؛ لِيَكُونَ الْجَزَاءُ وِفَاقًا وَذَلِكَ بِأَنْ يُثْبِتَ الْحُرْمَةَ لِمَعْنًى فِي ذَاتِهِ كَحُرْمَةِ شُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا لَا لِحَقِّ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ حَرَامًا لِغَيْرِهِ مُبَاحًا فِي ذَاتِهِ بِالْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَمِثْلُ هَذِهِ الْحُرْمَةِ لَا يُوجِبُ الْجَزَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى كَشُرْبِ عَصِيرِ الْغَيْرِ وَالْوَطْءِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ. ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ هَذَا الْمَالَ قَبْلَ السَّرِقَةِ مُحْتَرَمًا لِحَقِّ الْعَبْدِ عَلَى الْخُلُوصِ وَلَمْ يَسْتَبْقِ لِذَاتِهِ حَقًّا حَتَّى صَحَّ بَذْلُ الْعَبْدِ وَإِبَاحَتُهُ وَيَجِبُ الضَّمَانُ لَهُ بِإِتْلَافٍ وَلَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى ضَمَانٌ ثُمَّ أَوْجَبَ الْجَزَاءَ، وَهُوَ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ حَقًّا لِنَفْسِهِ خَالِصًا فَعَرَفْنَا ضَرُورَةَ أَنَّهُ اسْتَخْلَصَ الْحُرْمَةَ لِنَفْسِهِ وَإِذَا اسْتَخْلَصَهَا لِذَاتِهِ وَهِيَ حُرْمَةٌ وَاحِدَةٌ لَا تَبْقَى لِلْعَبْدِ ضَرُورَةٌ كَالْعَصِيرِ إذَا تَخَمَّرَ وَصَارَ مُحْتَرَمًا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا يَبْقَى حَقًّا لِلْعَبْدِ وَكَالْأَرْضِ تُتَّخَذُ مَسْجِدًا وَصَارَتْ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَبْقَى لِلْعَبْدِ وَكَمَا لَا يَبْقَى لِلْبَائِعِ إذَا ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي بِالْبَيْعِ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ تَحْوِيلُ الْعِصْمَةِ إلَيْهِ، وَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ إبْطَالُ الْعِصْمَةِ إبْطَالُهَا عَلَى الْعَبْدِ بِنَقْلِهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا إبْطَالُهَا مُطْلَقًا (فَإِنْ قِيلَ) لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحُرْمَةَ وَاحِدَةٌ بَلْ الْمَالُ مُحْتَرَمٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِوُجُودِ النَّهْيِ فَيَجِبُ الْقَطْعُ وَمُحْتَرَمٌ أَيْضًا لِحَقِّ الْعَبْدِ

وَلَا يَلْزَمُ أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَبْطُلُ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْجِنَايَةِ الْعِصْمَةُ، وَهِيَ الْحِفْظُ وَلَا عِصْمَةَ إلَّا بِكَوْنِهِ مَمْلُوكًا ـــــــــــــــــــــــــــــQكَمَا كَانَ لِبَقَاءِ حَاجَتِهِ إلَيْهِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ كَمَا فِي قَتْلِ الصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ فِي الْحَرَمِ أَوْ الْإِحْرَامِ وَشُرْبِ خَمْرِ الذِّمِّيِّ عِنْدَكُمْ وَكَوُجُوبِ الدِّيَةِ مَعَ الْكَفَّارَةِ (قُلْنَا) بَلْ الْحُرْمَةُ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّا لَا نَجِدُ الْقَطْعَ يَجِبُ إلَّا بِمَالٍ مُحْتَرَمٍ حَقًّا لِلْعَبْدِ؛ وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَطْعَ بِهِ لِنَفْسِهِ تَحْقِيقًا لِصِيَانَتِهِ عَلَى الْعَبْدِ وَانْتَقَلَتْ تِلْكَ الْحُرْمَةُ إلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَا فَلَمْ يَبْقَ مَعْنًى لِلْعَبْدِ يُضَافُ وُجُوبُ الضَّمَانِ إلَيْهِ بِخِلَافِ جَزَاءِ الصَّيْدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ بِالْجِنَايَةِ عَلَى حَقِّ الْعَبْدِ فِي الصَّيْدِ بَلْ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ أَوْ الْحَرَمِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجِبُ فِي الصَّيْدِ الَّذِي لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ. وَإِذَا لَمْ يَصِرْ حَقُّهُ مَقْضِيًّا بِهِ وَجَبَ الضَّمَانُ، وَكَذَلِكَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِالْجِنَايَةِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِحَقِّ الْعَبْدِ، فَإِنَّهَا تَجِبُ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَقُّهُ مَضْمُونًا بِالدِّيَةِ، وَكَذَلِكَ شُرْبُ خَمْرِ الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ بِشُرْبِهَا لَمْ يَجِبْ لِحَقِّ الْعَبْدِ، فَإِنَّهُ لَوْ شَرِبَ خَمْرَ نَفْسِهِ يَجِبُ الْحَدُّ أَيْضًا وَإِذَا لَمْ يَجِبْ لِحَقِّهِ وَجَبَ جَبْرُ حَقِّهِ بِالضَّمَانِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِوَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ؛ وَلِأَنَّ الْجَزَاءَ يَدُلُّ يَعْنِي لُغَةً، عَلَى كَمَالِ الْمَشْرُوعِ، وَهُوَ الْقَطْعُ فِي مَسْأَلَتِنَا مَثَلًا، لِمَا شُرِعَ لَهُ، وَهُوَ السَّرِقَةُ أَوْ الزَّجْرُ، وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُ رَاجِعٌ إلَى الْمَشْرُوعِ وَالْبَارِزُ إلَى مَا، يَعْنِي تَسْمِيَةَ الشَّيْءِ جَزَاءً يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَامِلٌ وَتَامٌّ فِي الْمَقْصُودِ الَّذِي شُرِعَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ جُزِيَ بِالْيَاءِ أَيْ قُضِيَ وَالْقَضَاءُ الْإِحْكَامُ وَالْإِتْمَامُ قَالَ: وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا ... دَاوُد أَوْ صَنَعَ السَّوَابِغَ تُبَّعُ أَيْ أَحْكَمَهُمَا وَأَتَمَّهُمَا كَذَا قِيلَ، فَعَلَى هَذَا أَصْلُهُ جَزَايٌ بِالْيَاءِ إلَّا أَنَّهَا قُلِبَتْ هَمْزَةً لِوُقُوعِهَا بَعْدَ الْأَلِفِ كَالْقَضَاءِ أَصْلُهُ قَضَايٌ، وَأَجْزَأَ بِالْهَمْزِ أَيْ كَفَى وَالشَّيْءُ إنَّمَا يَكُونُ كَافِيًا إذَا كَانَ تَامًّا وَكَامِلًا فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْهَمْزَةُ أَصْلِيَّةً وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ مَصْدَرُ جَزَى يَجْزِي يُقَالُ جِزْيَتُهُ بِمَا صَنَعَ جَزَاءً فَأَمَّا كَوْنُهُ مَهْمُوزًا فَمَا وَجَدْته فِي كُتُبِ اللُّغَةِ الَّتِي عِنْدِي وَلَعَلَّ الشَّيْخَ وَقَفَ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَلَّ لَفْظُ الْجَزَاءِ عَلَى الْكَمَالِ لُغَةً اسْتَدْعَى كَمَالَ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ كَمَالَ الشَّيْءِ بِاعْتِبَارِ كَمَالِ سَبَبِهِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ حَرَامًا لِعَيْنِهِ وَمَعَ بَقَاءِ الْعِصْمَةِ حَقًّا لِلْعَبْدِ لَا يَكُونُ الْفِعْلُ حَرَامًا لِعَيْنِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ. وَهُوَ حَقُّ الْمَالِكِ فَيَبْقَى مُبَاحًا بِالنَّظَرِ إلَى ذَاتِهِ وَذَلِكَ أَعْظَمُ شُبْهَةٍ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ فَلَا يَجِبُ مَعَهَا الْحَدُّ كَمَا لَا يَجِبُ بِالْغَصْبِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ النُّكْتَتَيْنِ أَنَّ الْأُولَى اسْتِدْلَالٌ بِإِطْلَاقِ لَفْظِ الْجَزَاءِ وَالثَّانِيَةَ اسْتِدْلَالٌ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، وَحَاصِلُهُمَا يَرْجِعُ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ الِاسْتِدْلَال بِكَمَالِ الْجَزَاءِ عَلَى كَمَالِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ يَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ أَيْضًا، وَاسْتَدَلَّ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمَبْسُوطِ بِوَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ فِي لَفْظِ الْجَزَاءِ إشَارَةٌ إلَى الْكَمَالِ فَلَوْ أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ مَعَهُ لَمْ يَكُنْ الْقَطْعُ جَمِيعَ مُوجِبِ الْفِعْلِ فَكَانَ نَسْخًا لِمَا هُوَ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ. قَوْلُهُ (وَلَا يَلْزَمُ أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَبْطُلُ) جَوَابُ سُؤَالٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: أَتِلْكَ شَرْطٌ لِانْعِقَادِ السَّرِقَةِ مُوجِبَةٌ لِلْقَطْعِ كَالْعِصْمَةِ؛ وَلِهَذَا لَا يُقْطَعُ النَّبَّاشُ عِنْدَكُمْ بِاعْتِبَارِ شُبْهَةٍ فِي الْمِلْكِ ثُمَّ لَمْ يَقْتَضِ وُجُوبُ الْقَطْعِ نَقْلَ الْمِلْكِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بَلْ بَقِيَ لِلْعَبْدِ كَمَا كَانَ حَتَّى يَثْبُتَ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ إنْ كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ، فَكَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي نَقْلَ الْعِصْمَةِ حَتَّى يَثْبُتَ لَهُ وِلَايَةُ

فَأَمَّا تَعَيُّنُ الْمَالِكِ فَشَرْطٌ لِيَصِيرَ خَصْمُهُ مُتَعَيِّنًا لَا لِعَيْنِهِ حَتَّى إذَا وُجِدَ الْخَصْمُ بِلَا مِلْكٍ كَانَ كَافِيًا كَالْمُكَاتَبِ وَمُتَوَلِّي الْوَقْفِ وَنَحْوِهِمَا؛ فَلِذَلِكَ تَحَوَّلَتْ الْعِصْمَةُ دُونَ الْمِلْكِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْجِنَايَةَ تَقَعُ عَلَى الْمَالِ وَالْعِصْمَةُ صِفَةٌ لِلْمَالِ مِثْلُ كَوْنِهِ مَمْلُوكًا فَأَمَّا الْمِلْكُ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ لِلْمَالِكِ كَيْفَ يَكُونُ مَحَلًّا لِلْجِنَايَةِ لِيَنْتَقِلَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّضْمِينِ إنْ كَانَ هَالِكًا، فَأَجَابَ وَقَالَ: اشْتِرَاطُ الْمِلْكِ لَيْسَ بِعَيْنِهِ؛ وَإِنَّمَا هُوَ لِتَحْقِيقِ الْعِصْمَةِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ لَمْ يَجِبْ جَزَاءً عَلَى الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَحَلِّ بِوَصْفِ كَوْنِهِ مَمْلُوكًا بَلْ بِكَوْنِهِ مَعْصُومًا مُتَقَوِّمًا إلَّا أَنَّ الْعِصْمَةَ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ مَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لِلْعَبْدِ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ فَثَبَتَ أَنَّ اشْتِرَاطَهُ لِتَحْقِيقِ الْعِصْمَةِ لَا لِذَاتِهِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِقَالِ الْعِصْمَةِ انْتِقَالُهُ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ، وَهِيَ تَحَقُّقُ الْجِنَايَةِ الْكَامِلَةِ قَدْ انْدَفَعَتْ بِهِ. وَذَلِكَ كَالْعَصِيرِ إذَا تَخَمَّرَ بَقِيَ الْمِلْكُ لِصَاحِبِهَا؛ وَإِنْ انْتَقَلَتْ عِصْمَتُهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَكَالشَّاةِ إذَا مَاتَتْ بَقِيَ مِلْكُ صَاحِبِهَا فِي الْجِلْدِ؛ وَإِنْ صَارَتْ مُحَرَّمَةَ الْعَيْنِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى قَوْلُهُ: (قَوْلُهُ فَأَمَّا تَعَيُّنُ الْمَالِكِ فَشَرْطٌ) جَوَابُ سُؤَالٍ آخَرَ يَرُدُّ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَمَّا كَانَ الْمِلْكُ شَرْطًا لِغَيْرِهِ، وَالْأَصْلُ هُوَ الْعِصْمَةُ فِي تَحَقُّقِ الْجِنَايَةِ، وَقَدْ انْتَقَلَتْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى صَارَ كَالْخَمْرِ عَلَى مَا قُلْتُمْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُشْتَرَطَ فِيهِ دَعْوَى الْمَالِكِ وَيَثْبُتَ بِالْبَيِّنَةِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَسَائِرِ مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ: تَعَيُّنُ الْمَالِكِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِعَيْنِهِ أَيْضًا بَلْ لِيَظْهَرَ السَّبَبُ بِخُصُومَتِهِ عِنْدَ الْإِمَامِ فَإِنَّ السَّرِقَةَ هِيَ الْجِنَايَةُ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ وَلَا يُتَصَوَّرُ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْحَدِّ إلَّا بِذَلِكَ الْمَحَلِّ، وَهُوَ الْمَالُ الْمُتَقَوِّمُ الْمُحْرَزُ، وَمَالُ الْغَيْرِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِخُصُومَةِ الْغَيْرِ وَإِثْبَاتِهِ فَكَانَتْ الدَّعْوَى شَرْطًا لِإِثْبَاتِ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ لَا غَيْرُ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَلِهَذَا لَوْ وَجَدَ الْخَصْمُ بِلَا مِلْكٍ كَانَ كَافِيًا عِنْدَنَا كَالْمُكَاتَبِ وَمُتَوَلِّي الْوَقْفِ وَالْغَاصِبِ وَالْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَوْدِعِ وَالْعَبْدِ الْمُسْتَغْرِقِ بِالدَّيْنِ وَالْمُضَارِبِ وَالْمُرْتَهِنِ، وَوَجْهٌ آخَرُ لِتَقْرِيرِ الْجَوَابِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ إنَّمَا لَا يَبْطُلُ الْمِلْكُ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْجِنَايَةِ الْعِصْمَةُ وَلَا عِصْمَةَ إلَّا بِكَوْنِ الْمَسْرُوقِ مَمْلُوكًا لِلْعَبْدِ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا لَا يُوصَفُ بِالْعِصْمَةِ بَلْ يُوصَفُ بِالْإِبَاحَةِ فَلَوْ قُلْنَا بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ إلَيْهِ لَبَطَلَتْ الْعِصْمَةُ أَصْلًا وَفِي بُطْلَانِهَا بُطْلَانُ الْجِنَايَةِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ النَّقْلِ تَحْقِيقُهَا لَا إبْطَالُهَا فَامْتَنَعَ الْقَوْلُ بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ بِخِلَافِ الْعِصْمَةِ. وَقَوْلُهُ؛ وَلِذَلِكَ تَحَوَّلَتْ الْعِصْمَةُ دُونَ الْمِلْكِ مُتَّصِلٌ بِأَوَّلِ الْكَلَامِ وَمَعْنَاهُ عَلَى التَّقْرِيرِ الْأَوَّلِ؛ فَلِكَوْنِ الْعِصْمَةِ مَحَلَّ الْجِنَايَةِ دُونَ الْمِلْكِ انْتَقَلَتْ الْعِصْمَةُ دُونَ الْمِلْكِ وَعَلَى التَّقْرِيرِ الثَّانِي فَلِعَدَمِ إمْكَانِ انْتِقَالِ الْمِلْكِ تَحَوَّلَتْ الْعِصْمَةُ دُونَ الْمِلْكِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَوْفَقُ لِظَاهِرِ اللَّفْظِ (فَإِنْ قِيلَ) قَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَنَّهُ لَا عِصْمَةَ إلَّا بِكَوْنِهِ مَمْلُوكًا وَقَدْ وُجِدَتْ الْعِصْمَةُ بِدُونِ الْمِلْكِ؛ فَإِنَّهُ إذَا سَرَقَ مَالَ الْوَقْفِ مِنْ الْمُتَوَلِّي يَجِبُ الْقَطْعُ وَلَا مِلْكَ فِيهِ لِأَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَمَّ الْوَقْفُ خَرَجَ مِنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ (قُلْنَا) الْفَتْوَى عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ حُكْمًا؛ وَلِهَذَا يَرْجِعُ الثَّوَابُ إلَيْهِ وَالْغَلَّةُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ أَهْلًا لِلْمِلْكِ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَهُ كَالْمَسْجِدِ وَالرِّبَاطِ يَبْقَى عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ أَيْضًا تَبَعًا لِأَصْلِهِ كَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ أُسْتَاذُ الْأَئِمَّةِ حَمِيدُ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي فَوَائِدِهِ وَقَوْلُهُ حُجَّةٌ؛ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الْبُرْغَرِيُّ فِي طَرِيقَتِهِ فِي جَوَابِ سَرِقَةِ مَالِ الْوَقْفِ وَسَرِقَةِ التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ بِالدَّيْنِ فَإِنَّهَا تُوجِبُ الْقَطْعَ وَلَا مِلْكَ فِيهَا لِغَرِيمٍ وَلَا وَارِثٍ إنَّ الْمِلْكَ مَا شُرِطَ لِعَيْنِهِ؛ وَإِنَّمَا شُرِطَ لِمَكَانِ الْخُصُومَةِ فَإِنَّهَا شَرْطٌ لِظُهُورِ

وَكَيْفَ يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ، وَهُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَأَمَّا نَقْلُ الْعِصْمَةِ فَمَشْرُوعٌ كَمَا فِي الْخَمْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالسَّرِقَةِ وَفِيمَا ذَكَرْنَا أَنَّ عَدَمَ الْمِلْكِ فَالْيَدُ ثَابِتَةٌ، وَهِيَ كَافِيَةٌ لِلْخُصُومَةِ، ثُمَّ اسْتَوْضَحَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْعِصْمَةِ وَالْمِلْكِ فَقَالَ أَلَا تَرَى إلَى آخِرِهِ أَيْ النَّقْلُ إنَّمَا يُثْبِتُ ضَرُورَةً تَكَامُلَ الْجِنَايَةِ وَأَنَّهَا وَاقِعَةٌ عَلَى الْمَالِ فَيَنْتَقِلُ مَا هُوَ مِنْ أَوْصَافِ الْمَالِ، وَهُوَ الْعِصْمَةُ فَأَمَّا الْمِلْكُ فَصِفَةٌ لِلْمَالِكِ وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْجِنَايَةِ فَكَيْفَ يَنْتَقِلُ أَيْ لَا يَنْتَقِلُ. وَهَكَذَا ذَكَرَ أَبُو الْيُسْرِ فَقَالَ الْجَزَاءُ: إنَّمَا يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْمَالِ لَا عَلَى الْمَالِكِ وَالْمِلْكُ صِفَةُ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُدْرَةِ، وَهُوَ مِنْ أَوْصَافِ الْقَادِرِ لَا مِنْ أَوْصَافِ الْمَالِ فَجَازَ أَنْ لَا يَسْقُطَ الْمِلْكُ فَأَمَّا الْعِصْمَةُ، وَهِيَ الِاحْتِرَامُ فَوَصْفُ الْمَحَلِّ وَهَذِهِ جِنَايَةٌ عَلَى الْمَحَلِّ فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ كَمَا فِي الْخَمْرِ (فَإِنْ قِيلَ) الْعِصْمَةُ صِفَةٌ لِلْعَاصِمِ لَا لِلْمَالِ كَالْمِلْكِ صِفَةٌ لِلْمَالِكِ وَلِهَذَا يُقَالُ مَالٌ مَعْصُومٌ وَلَا يُقَالُ مَالٌ عَاصِمٌ كَمَا يُقَالُ مَالٌ مَمْلُوكٌ لَا مَالِكٌ، فَأَنَّى يَسْتَقِيمُ هَذَا الْفَرْقُ (قُلْنَا) تَقْرِيرُهُ يَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ كَشْفٍ، وَهُوَ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُتَعَدِّي كَالضَّرْبِ مَثَلًا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْفَاعِلِ، وَهُوَ تَعَلُّقُ التَّأْثِيرِ وَتَعَلُّقٌ بِالْمَفْعُولِ، وَهُوَ تَعَلُّقُ التَّأَثُّرِ؛ وَلِهَذَا يُوصَفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِذَلِكَ الْفِعْلِ فَيُقَالُ زَيْدٌ الضَّارِبُ وَعَمْرٌو الْمَضْرُوبُ، فَإِذَا وُصِفَ بِهِ الْفَاعِلُ فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُؤَثِّرَ قَامَ بِهِ، وَإِذَا وُصِفَ بِهِ الْمَفْعُولُ فَمَعْنَاهُ أَنَّ التَّأَثُّرَ بِذَلِكَ الْفِعْلِ قَامَ بِهِ وَالْمَصْدَرُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لُغَةً مُنَاسِبٌ لَهُ لَا مَحَالَةَ فَمَصْدَرُ الضَّارِبِ ضَرْبٌ بِمَعْنَى التَّأْثِيرِ، وَمَصْدَرُ الْمَضْرُوبِ ضَرْبٌ بِمَعْنَى التَّأَثُّرِ، ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الْمَقْصُودُ تَعَلُّقُهُ بِالْفَاعِلِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى جَانِبِ الْمَفْعُولِ كَمَا فِي قَوْلِك فُلَانٌ يُعْطِي وَيَمْنَعُ أَيْ سَجِيَّتُهُ الْإِعْطَاءُ وَالْمَنْعُ وَقَدْ يَكُونُ الْمَقْصُودُ تَعَلُّقُهُ بِالْمَفْعُولِ دُونَ الْفَاعِلِ كَمَا إذَا بُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ. ثُمَّ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ الْعِصْمَةِ التَّعَلُّقُ بِالْمَفْعُولِ، وَهُوَ الْمَالُ لَا بِالْفَاعِلِ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ هِيَ الْحِفْظُ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ صَيْرُورَةُ الْمَالِ مَحْفُوظًا لَا اتِّصَافُ الْفَاعِلِ بِهِ؛ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْمِلْكِ عَكْسُهُ، وَهُوَ تَعَلُّقُهُ بِالْفَاعِلِ وَاتِّصَافُهُ بِهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى جَانِبِ الْمَفْعُولِ؛ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ اتِّصَافُ الْعَبْدِ بِالْمَالِكِيَّةِ لَا اتِّصَافُ الْمَالِ بِالْمَمْلُوكِيَّةِ؛ فَلِهَذَا جَعَلَ الشَّيْخُ الْعِصْمَةَ صِفَةَ الْمَالِ وَالْمِلْكَ صِفَةَ الْمَالِكِ. قَوْلُهُ (وَكَيْفَ يَنْتَقِلُ، وَهُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ) يَعْنِي لَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مُتَصَوَّرَةَ الْوُقُوعِ عَلَى الْمِلْكِ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِانْتِقَالِهِ فَكَيْفَ إذَا لَمْ يُتَصَوَّرْ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّا لَمْ نَعْهَدْ فِي الشَّرْعِ انْتِقَالَ مِلْكِ الْعَبْدِ إلَى اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ لَا سَائِبَةَ فِي الْإِسْلَامِ كَيْفَ وَأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ إثْبَاتَ الثَّابِتِ إذْ جَمِيعُ الْأَشْيَاءِ مِلْكُهُ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ هَذَا مَمْلُوكُ الْعَبْدِ لَا مَمْلُوكُ اللَّهِ تَعَالَى إذْ الْعَبْدُ وَمَا فِي يَدِهِ لِمَوْلَاهُ، فَأَمَّا الْعِصْمَةُ الَّتِي تَثْبُتُ لِلْعَبْدِ فَقَدْ عُهِدَ فِي الشَّرْعِ انْتِقَالُهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَالْعَصِيرِ إذَا تَخَمَّرَ؛ وَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ هَذَا مَعْصُومٌ لِلْعَبْدِ لَا لِلَّهِ تَعَالَى؛ فَلِهَذَا قُلْنَا بِانْتِقَالِ الْعِصْمَةِ دُونَ الْمِلْكِ، وَاعْلَمْ بِأَنَّ انْتِقَالَ الْعِصْمَةِ عِنْدَنَا إنَّمَا يَثْبُتُ حَالَ انْعِقَادِ السَّرِقَةِ مُوجِبَةً لِلْقَطْعِ لِمِسَاسِ الْحَاجَةِ إلَى الْحِفْظِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَلِيَصِيرَ الْفِعْلُ فِيهَا مَضْمُونًا بِالْعُقُوبَةِ الزَّاجِرَةِ وَلَكِنْ إنَّمَا يَتَقَرَّرُ هَذَا بِالِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّ مَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى تَمَامُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ فَكَانَ حُكْمُ الْأَخْذِ مُرَاعًى إنْ اسْتَوْفَى الْقَطْعَ تَبَيَّنَ أَنَّ حُرْمَةَ الْمَحَلِّ قَدْ كَانَتْ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ لِلْعَبْدِ؛ وَإِنْ

[باب الأمر]

وَمِنْ هَذَا الْأَصْلِ (بَابُ الْأَمْرِ) ـــــــــــــــــــــــــــــQتَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ لِلْعَبْدِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ لَهُ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ كَثِيرٌ مِنْ الْأَسْئِلَةِ. ثُمَّ هَذَا الِانْتِقَالُ ضَرُورِيٌّ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لِتَحَقُّقِ الْجِنَايَةِ فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ حَتَّى لَوْ وَهَبَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ الْعَيْنَ الْمَسْرُوقَةَ لِلسَّارِقِ أَوْ بَاعَهَا مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ صَحَّ وَلَوْ أَتْلَفَهُ غَيْرُ السَّارِقِ يَضْمَنُ، وَكَذَا لَوْ أَتْلَفَهُ السَّارِقُ بَعْدَ الْقَطْعِ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ فِعْلٌ آخَرُ غَيْرُ السَّرِقَةِ فَيَظْهَرُ حُكْمُ التَّقَوُّمِ فِي حَقِّ هَذَا الْفِعْلِ، وَلَا يُقَالُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَظْهَرَ الِانْتِقَالُ فِي الضَّمَانِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ انْدَفَعَتْ بِإِثْبَاتِهِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْقَطْعِ، لِأَنَّا نَقُولُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعِصْمَةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَقَدْ ظَهَرَ انْتِقَالُهَا وَإِبْطَالُهَا فِي حَقِّ أَحَدِ الضَّمَانَيْنِ فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا فِي حَقِّ الضَّمَانِ الْآخَرِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى تَكْرَارِ الضَّمَانِ بِإِزَاءِ شَيْءٍ وَاحِدٍ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا اسْتَهْلَكَهُ لَا يَضْمَنُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ إتْمَامٌ لِلْمَقْصُودِ بِالسَّرِقَةِ فَيَظْهَرُ سُقُوطُ حَقِّ الْعَبْدِ فِي حَقِّهِ أَيْضًا بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِإِتْمَامٍ لِلْمَقْصُودِ بِالسَّرِقَةِ بَلْ هُوَ تَصَرُّفٌ آخَرُ ابْتِدَاءً كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ (فَإِنْ قِيلَ) لَوْ انْتَقَلَتْ الْعِصْمَةُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي الْخَمْرِ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَجِبَ الْقَطْعُ كَمَا فِي سَرِقَةِ الْخَمْرِ (قُلْنَا) إنَّمَا لَا يَجِبُ الْقَطْعُ فِي الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مَعْصُومًا حَقًّا لِلْعَبْدِ قَبْلَ السَّرِقَةِ؛ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ وَحَشِيشِهِ وَالْخَمْرُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَعَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ شَرْطِهِ فَأَمَّا الْمَالُ الْمَسْرُوقُ فَقَدْ كَانَ مَعْصُومًا قَبْلَ السَّرِقَةِ حَقًّا لِلْعَبْدِ مُفْتَقِرًا إلَى الصِّيَانَةِ فَوَجَبَ الْقَطْعُ لِوُجُودِ شَرْطِهِ (فَإِنْ قِيلَ) الْقَطْعُ شُرِعَ لِصِيَانَةِ حَقِّ الْعَبْدِ وَفِي الْقَوْلِ بِسُقُوطِ الْعِصْمَةِ وَبُطْلَانِ الضَّمَانِ إبْطَالُ حَقِّهِ فَيَمْتَنِعُ الْقَوْلُ بِهِ. (قُلْنَا) إنْ كَانَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّهِ صُورَةً فَفِيهِ تَكْمِيلُ مَعْنَى الْحِفْظِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ وَاحِدَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا كَانَ الْقَطْعُ أَنْفَعَ مِنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَحْقِيقَ الْحِفْظِ حَالَةَ السَّرِقَةِ بِجَعْلِ الْمَحَلِّ مُحَرَّمَ التَّنَاوُلِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَيَصِيرُ تَنَاوُلُهُ مَضْمُونًا بِالْقَطْعِ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْحِفْظِ، وَهَذَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ حِفْظِ مَالِهِ بِإِيجَابِ الضَّمَانِ لَهُ كَمَا أَنَّ إيجَابَ الْقِصَاصِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ إيجَابِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الزَّجْرَ وَصِيَانَةَ النَّفْسِ فِيهِ أَتَمُّ وَلِهَذَا سُمِّيَ حَيَاةً، فَكَذَلِكَ هَذَا، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ سُقُوطِ الضَّمَانِ فِي الْحُكْمِ فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَيُفْتِي بِالضَّمَانِ فِيمَا رَوَاهُ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ قَدْ لَحِقَهُ النُّقْصَانُ وَالْخُسْرَانُ مِنْ جِهَتِهِ بِسَبَبٍ هُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ وَلَكِنْ تَعَذَّرَ عَلَى الْقَاضِي الْقَضَاءُ بِالضَّمَانِ لَمَّا اُعْتُبِرَ الْمَالِيَّةُ وَالتَّقَوُّمُ فِي حَقِّ اسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ فَلَا يَقْضِي بِالضَّمَانِ وَلَكِنْ يُفْتِي بِرَفْعِ النُّقْصَانِ وَالْخُسْرَانِ الَّذِي أُلْحِقَ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ: (وَمِنْ هَذَا الْأَصْلِ) أَيْ وَمِنْ الْقِسْمِ الَّذِي نَحْنُ فِي بَيَانِهِ وَهُوَ الْخَاصُّ [بَابُ الْأَمْرِ] [تَعْرِيف الْأَمْر] (بَابُ الْأَمْرِ) ذَكَرَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَوَّلِ الْبَابِ لَفْظَةَ ذَلِكَ، وَهُوَ لِلْإِشَارَةِ إلَى الْبَعِيدِ وَلَمَّا طَالَ الْكَلَامُ

فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ يَخْتَصُّ بِصِيغَةٍ لَازِمَةٍ عِنْدَنَا وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ صِيغَةً لَازِمَةً وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ أَفْعَالَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عِنْدَهُمْ مُوجِبَةٌ كَالْأَمْرِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَبَعْدَ ذِكْرِ الْأَصْلِ ذَكَرَ لَفْظَ هَذَا، وَهُوَ لِلْإِشَارَةِ إلَى الْقَرِيبِ، وَكَذَا ذَكَرَ قُبَيْلَ بَابِ النَّهْيِ، وَكَانَ عَكْسُهُ أَوْلَى إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّ مِمَّا لَا يُحَسُّ بِالْبَصَرِ فَالْإِشَارَةُ إلَيْهِ بِلَفْظِ ذَلِكَ وَهَذَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ لَا يُحَسُّ بِالْبَصَرِ أَشْبَهَ الْمَحْسُوسَ الْغَائِبَ وَمِنْ حَيْثُ هُوَ مُدْرَكٌ بِالْعَقْلِ أَوْ بِالسَّمْعِ أَشْبَهَ الْمَحْسُوسَ الْحَاضِرَ فَصَحَّ فِيهِ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظَيْنِ وَذَلِكَ كَمَا يُقَالُ دَخَلَ الْأَمِيرُ الْبَلْدَةَ فَيَقُولُ السَّامِعُ سَمِعْت هَذَا أَوْ سَمِعْت ذَلِكَ كَانَ صَحِيحًا؛ لِأَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى الْإِخْبَارِ عَنْ دُخُولِ الْأَمِيرِ، وَهُوَ مَا لَا يُحَسُّ بِالْبَصَرِ، وَلِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالْكِسَائِيُّ وَالْأَخْفَشُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى ذَلِكَ الْكِتَابُ هَذَا الْكِتَابُ وَاعْلَمْ أَنَّ عِبَارَاتِ الْقَوْمِ اخْتَلَفَتْ فِي تَعْرِيفِ الْأَمْرِ الَّذِي بِمَعْنَى الْقَوْلِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ الشَّيْخُ تَعْرِيفَهُ كَمَا ذَكَرَ تَعْرِيفَ الْأَقْسَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَقِيلَ هُوَ الْقَوْلُ الْمُقْتَضِي طَاعَةَ الْمَأْمُورِ بِإِتْيَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَفِيهِ تَعْرِيفُ الْأَمْرِ بِالْمَأْمُورِ وَالْمَأْمُورِ بِهِ الْمُتَوَقِّفِ مَعْرِفَتُهُمَا عَلَى مَعْرِفَةِ الْأَمْرِ لِاشْتِقَاقِهِمَا مِنْهُ، وَبِالطَّاعَةِ الْمُتَوَقِّفَةِ مَعْرِفَتُهَا عَلَى مَعْرِفَةِ الْأَمْرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا لَا تُعْرَفُ إلَّا بِمُوَافَقَةِ الْأَمْرِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَلْزَمُ الدَّوْرُ. وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ لِمَنْ دُونَهُ افْعَلْ وَنَحْوُهُ، وَهُوَ غَيْرُ مُطَّرِدٍ لِصِدْقِهِ عَلَى التَّهْدِيدِ وَالتَّعْجِيزِ وَالْإِهَانَةِ وَنَحْوِهَا، وَقِيلَ هُوَ اللَّفْظُ الدَّاعِي إلَى تَحْصِيلِ الْفِعْلِ بِطَرِيقِ الْعُلُوِّ وَيَلْزَمُ عَلَى اطِّرَادِهِ وَاطِّرَادِ الْأَوَّلِ أَيْضًا أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ لَوْ صَدَرَتْ مِنْ الْأَعْلَى نَحْوَ الْأَدْنَى عَلَى سَبِيلِ التَّضَرُّعِ وَالشَّفَاعَةِ لَا تُسَمَّى أَمْرًا، وَعَلَى انْعِكَاسِهِمَا أَنَّهَا لَوْ صَدَرَتْ مِنْ الْأَدْنَى نَحْوَ الْأَعْلَى بِطَرِيقِ الِاسْتِعْلَاءِ تُسَمَّى أَمْرًا؛ وَلِهَذَا يُنْسَبُ قَائِلُهَا إلَى الْحُمْقِ وَسُوءِ الْأَدَبِ، وَقِيلَ هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى طَلَبِ الْفِعْلِ بِطَرِيقِ الِاسْتِعْلَاءِ وَاحْتَرَزَ بِلَفْظِ الِاسْتِعْلَاءِ عَنْ الِالْتِمَاسِ وَالدُّعَاءِ. وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْأَمْرَ اقْتِضَاءُ فِعْلٍ غَيْرُ كَفٍّ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ فَأَرَادَ بِالِاقْتِضَاءِ مَا يَقُومُ بِالنَّفْسِ مِنْ الطَّلَبِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْحَقِيقَةِ هُوَ ذَلِكَ الِاقْتِضَاءُ وَالصِّيغَةُ سُمِّيَتْ بِهِ مَجَازًا، وَبِقَوْلِهِ: فِعْلٍ غَيْرِ كَفٍّ احْتَرَزَ عَنْ النَّهْيِ، وَبِقَوْلِهِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ عَنْ الِالْتِمَاسِ وَالدُّعَاءِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَذَكَرَ فِي الْقَوَاطِعِ أَنَّ حَقِيقَةَ الْكَلَامِ مَعْنًى قَائِمٌ فِي نَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ كَلَامٌ فَيَكُونُ قَوْلُهُ افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ عِبَارَةً عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَا يَكُونُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَكِنْ لَا يَعْرِفُهُ الْفُقَهَاءُ؛ وَإِنَّمَا يَعْرِفُونَ قَوْلَهُ افْعَلْ حَقِيقَةً فِي الْأَمْرِ وَقَوْلُهُ لَا تَفْعَلْ حَقِيقَةً فِي النَّهْيِ. قَوْلُهُ (فَإِنَّ الْمُرَادَ) الْفَاءُ فِي فَإِنَّ إشَارَةٌ إلَى تَعْلِيلِ كَوْنِ الْأَمْرِ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ، وَهُوَ الْخَاصُّ، الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ أَيْ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ عِنْدَنَا وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ الْمُخَالِفِينَ لَا مُوجِبَ لَهُ إلَّا الْوُجُوبُ، يَخْتَصُّ بِصِيغَةٍ لَازِمَةٍ أَيْ لَازِمَةٍ مُخْتَصَّةٍ بِذَلِكَ الْمُرَادِ، فَإِنَّ اللَّازِمَ قَدْ يَكُونُ خَاصًّا، وَقَدْ يَكُونُ عَامًا، وَالْمُرَادُ هُوَ الْخَاصُّ هُنَا لِمَا سَنُشِيرُ إلَيْهِ، ثُمَّ اللَّفْظُ قَدْ يَكُونُ مُخْتَصًّا بِالْمَعْنَى وَلَا يَكُونُ الْمَعْنَى مُخْتَصًّا بِهِ كَالْأَلْفَاظِ الْمُتَرَادِفَةِ وَقَدْ يَكُونُ عَلَى الْعَكْسِ كَبَعْضِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَقَدْ يَكُونُ الِاخْتِصَاصُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَمَا فِي الْأَلْفَاظِ الْمُتَبَايِنَةِ فَالشَّيْخُ بِالتَّعَرُّضِ لِلْجَانِبَيْنِ أَشَارَ إلَى أَنَّهُ مِنْ الْقِسْمِ الْأَخِيرِ، وَالْغَرَضُ مِنْ تَعَرُّضِ جَانِبِ اللَّفْظِ وَهُوَ قَوْلُهُ بِصِيغَةٍ لَازِمَةٍ هُوَ إثْبَاتُ كَوْنِهِ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ فِي بَيَانِ خُصُوصِ اللَّفْظِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQوَلَا يَلْزَمُ مِنْ خُصُوصِ الْمَعْنَى خُصُوصُ اللَّفْظِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ لِيَسْتَقِيمَ التَّعْلِيلُ، وَمِنْ التَّعَرُّضِ لِجَانِبِ الْمَعْنَى، وَهُوَ قَوْلُهُ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ يَخْتَصُّ هُوَ الْإِشَارَةُ إلَى أَنَّ الْخِلَافَ الَّذِي يُذْكَرُ بَعْدُ فِي خُصُوصِ الْمَعْنَى لَا فِي خُصُوصِ اللَّفْظِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُخَالِفُونَا فِي أَنَّ صِيغَةَ افْعَلْ خَاصَّةٌ فِي الْوُجُوبِ وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا إنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ غَيْرِ الصِّيغَةِ أَيْضًا كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْهَا، وَلِهَذَا قَدَّمَ ذِكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ الْكُلِّيُّ مِنْ هَذَا الْبَابِ لَا بَيَانُ كَوْنِهِ مِنْ الْخَاصِّ، وَهَذَا هُوَ الْغَرَضُ مِنْ الْعُدُولِ عَنْ لَفْظَةِ الْمَخْصُوصَةِ إلَى لَفْظَةِ اللَّازِمَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الصِّيغَةَ لَمَّا كَانَتْ لَازِمَةً لَهُ لَا يُوجَدُ بِدُونِهَا فَكَانَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ أَدَلَّ عَلَى الْمَقْصُودِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الشَّيْخَ جَعَلَ الْأَمْرَ مِنْ الْخَاصِّ بِاعْتِبَارِ اخْتِصَاصِ الْمَعْنَى بِالصِّيغَةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى جَانِبِ اخْتِصَاصِ اللَّفْظِ بِالْمَعْنَى. وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ فَعَلَى هَذَا كَانَ ذِكْرُ اللَّازِمَةِ فِي قَوْلِهِ يَخْتَصُّ بِصِيغَةٍ لَازِمَةٍ تَأْكِيدًا إذْ اللُّزُومُ يُسْتَفَادُ مِنْ الِاخْتِصَاصِ بِالصِّيغَةِ أَمَّا ذِكْرُهَا فِي قَوْلِهِ لَيْسَ لِلْمُرَادِ بِالْأَمْرِ صِيغَةٌ لَازِمَةٌ فَلَازِمٌ إذْ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ اللَّازِمَةَ هَهُنَا لَمْ يُفْهَمْ نَفْيُ اخْتِصَاصِ الْوُجُوبِ بِالصِّيغَةِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ فَيَخْتَلُّ الْكَلَامُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُخَالِفِينَ وَافَقُونَا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ اسْمٌ لِمَا هُوَ مُوجِبٌ وَأَنَّ الْإِيجَابَ لَا يُسْتَفَادُ إلَّا بِالْأَمْرِ فَصَارَا مُتَلَازِمَيْنِ وَأَنَّ الصِّيغَةَ الْمَخْصُوصَةَ تُسَمَّى أَمْرًا حَقِيقَةً فَيَحْصُلُ بِهَا الْإِيجَابُ وَلَكِنَّ الِاخْتِلَافَ فِي أَنَّ الْفِعْلَ هَلْ يُسَمَّى أَمْرًا حَقِيقَةً حَتَّى يَحْصُلَ بِهِ الْإِيجَابُ فَعِنْدَنَا لَا يُسَمَّى أَمْرًا عَلَى الْحَقِيقَةِ فَلَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ الْإِيجَابُ وَعِنْدَهُمْ يُسَمَّى أَمْرًا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ فَيُفِيدُ الْإِيجَابَ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَيْ حَاصِلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ أَفْعَالَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عِنْدَهُمْ أَيْ عِنْدَ ذَلِكَ الْبَعْضِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ مِنْ النَّاسِ مُوجِبَةٌ كَالْأَمْرِ أَيْ كَالْأَمْرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَهُوَ صِيغَةُ افْعَلْ، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إذَا نُقِلَ إلَيْنَا فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الَّتِي لَيْسَتْ بِسَهْوٍ مِثْلُ الزَّلَّاتِ وَلَا طَبْعٍ مِثْلُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَلَا هِيَ مِنْ خَصَائِصِهِ مِثْلُ وُجُوبِ الضُّحَى وَالسِّوَاكِ وَالتَّهَجُّدِ وَالزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ وَلَا بِبَيَانٍ لِمُجْمَلٍ مِثْلُ قَطْعِهِ يَدَ السَّارِقِ مِنْ الْكُوعِ فَإِنَّهُ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وَتَيَمُّمِهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ فَإِنَّهُ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43] هَلْ يَسَعُنَا أَنْ نَقُولَ فِيهِ أَمَرَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِكَذَا وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا فَعِنْدَ مَالِكٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ شُرَيْحٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ يَصِحُّ إطْلَاقُ الْأَمْرِ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَيَجِبُ عَلَيْنَا الِاتِّبَاعُ فِيهِ وَعِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لَا يَصِحُّ إطْلَاقُهُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَلَا يَجِبُ الِاتِّبَاعُ. وَأَمَّا إذَا كَانَ بَيَانًا لِمُجْمَلٍ، فَيَجِبُ الِاتِّبَاعُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا يَجِبُ فِي الْأَقْسَامِ الْأُخَرِ بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَفْظُ الْأَمْرِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الصِّيغَةِ الْمَخْصُوصَةِ وَالْفِعْلِ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ كَاشْتِرَاكِ لَفْظِ الْعَيْنِ بَيْنَ مُسَمَّيَاتِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مُشْتَرَكٌ بِالِاشْتِرَاكِ الْمَعْنَوِيِّ كَاشْتِرَاكِ الْحَيَوَانِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِيجَابَ مَعَ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ مُتَلَازِمَانِ يَثْبُتُ كُلُّ وَاحِدٍ بِثُبُوتِ الْآخَرِ وَيَنْتَفِي بِانْتِفَائِهِ فَيَلْزَمُ مِنْ انْحِصَارِ الْإِيجَابِ عَلَى الصِّيغَةِ انْتِفَاءُ الِاشْتِرَاكِ فِي لَفْظِ

وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] أَيْ فِعْلُهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ مُسْتَفَادًا بِالْفِعْلِ لَمَا سُمِّيَ بِهِ وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» فَجَعَلُوا الْمُتَابَعَةَ لَازِمَةً ـــــــــــــــــــــــــــــQالْأَمْرِ، وَمِنْ ثُبُوتِهِ بِغَيْرِ الصِّيغَةِ ثُبُوتُ الِاشْتِرَاكِ؛ فَلِهَذَا يَتَعَرَّضُ فِي الدَّلَائِلِ تَارَةً لِنَفْيِ الِاشْتِرَاكِ وَإِثْبَاتِهِ وَتَارَةً لِنَفْيِ الْوُجُوبِ عَنْ غَيْرِ الصِّيغَةِ وَإِثْبَاتِهِ فَافْهَمْ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ بِالْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] أَيْ فِعْلُهُ وَطَرِيقَتُهُ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِالرُّشْدِ وَالْفِعْلُ إنَّمَا يُوصَفُ بِهِ لَا الْقَوْلُ، وَقَوْلُهُ عَزَّ ذِكْرُهُ {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] أَيْ فِعْلُهُمْ، وَقَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 152] أَيْ فِيمَا تُقَدِّمُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْفِعْلِ. وَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ إخْبَارًا {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود: 73] أَيْ صُنْعِهِ فَأَطْلَقَ لَفْظَ الْأَمْرِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى الْفِعْلِ وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ فَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ وَجْهِ التَّمَسُّكِ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَمَا ذَكَرَ الشَّيْخُ رَاجِعٌ إلَيْهِ أَيْضًا وَقَوْلُهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ أَيْ مَعْنَى الْأَمْرِ، وَهُوَ الطَّلَبُ أَوْ الْإِيجَابُ مُسْتَفَادًا بِالْفِعْلِ أَيْ حَاصِلًا بِهِ وَمَفْهُومًا مِنْهُ لَمَا سُمِّيَ الْفِعْلُ بِالْأَمْرِ أَيْ لَمَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ إذْ ذَاكَ لَغْوًا مِنْ الْكَلَامِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَعْنَى الْأَمْرِ مُسْتَفَادٌ مِنْهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ؛ لِأَنَّهُ لَا اتِّصَالَ بَيْنَهُمَا صُورَةً بِلَا شُبْهَةٍ وَلَا مَعْنًى؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْأَمْرِ الطَّلَبُ وَمَعْنَى الْفِعْلِ تَحْقِيقُ الشَّيْءِ وَلَا اتِّصَالَ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ ثَبَتَ أَنَّهُ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ حَقِيقَةً فِي الْفِعْلِ ثَبَتَ كَوْنُ الْفِعْلِ مُوجِبًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا جَوَازَ الْإِطْلَاقِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ فَالْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ، وَبِالسُّنَّةِ، وَهِيَ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شُغِلَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَقَضَاهَا مُرَتَّبَةً وَقَالَ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ» فَجَعَلَ الْمُتَابَعَةَ لَازِمَةً فَثَبَتَ بِالتَّنْصِيصِ أَنَّ فِعْلَهُ مُوجِبٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِذَاتِهِ كَمَا ثَبَتَ بِالتَّنْصِيصِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] إنَّ قَوْلَهُ مُوجِبٌ؛ وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِذَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَبِأَنَّ اخْتِلَافَ الْجَمْعِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ بِاعْتِبَارِ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنَّ الْعُودَ بِمَعْنَى الْخَشَبِ يُجْمَعُ عَلَى عِيدَانِ وَبِمَعْنَى اللَّهْوِ عَلَى أَعْوَادٍ وَقَدْ يُجْمَعُ الْأَمْرُ بِمَعْنَى الْفِعْلِ عَلَى أُمُورٍ وَبِمَعْنَى الْقَوْلِ عَلَى أَوَامِرَ فَيَكُونُ الْأَمْرُ حَقِيقَةً فِيهِمَا، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِالِاشْتِرَاكِ الْمَعْنَوِيِّ بِأَنَّ الْقَوْلَ الْمَخْصُوصَ وَالْفِعْلَ مُشْتَرِكَانِ فِي عَامٍّ كَالشَّيْئِيَّةِ وَالشَّأْنِ فَيَجِبُ جَعْلُ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ الْأَمْرُ لِلْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَجَازِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خِلَافُ الْأَصْلِ. وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ فِي نَفْيِ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ بِأَنَّ الْأَمْرَ لَوْ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ وَالْفِعْلِ لَمَا سَبَقَ أَحَدُهُمَا إلَى الْفَهْمِ دُونَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ تَنَاوُلَ الْمُشْتَرَكِ لِلْمَعَانِي عَلَى السَّوَاءِ وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ، وَبِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ حَقِيقَةً فِي غَيْرِهِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ، وَفِي نَفْيِ الِاشْتِرَاكِ الْمَعْنَوِيِّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُشْتَرَكًا بِالِاشْتِرَاكِ الْمَعْنَوِيِّ لَمَا فَهِمَ مِنْهُ أَحَدُهُمَا عَيْنًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ مُسَمَّاهُ حِينَئِذٍ أَعَمُّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا دَلَالَةَ لِلْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ كَمَا لَا دَلَالَةَ لِلْحَيَوَانِ عَلَى الْإِنْسَانِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ الْمَذْكُورُ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ، وَهُوَ تَعَرُّضٌ لِنَفْيِ الِاشْتِرَاكِ عَنْ الْأَمْرِ وَانْتِفَاءُ الْإِيجَابِ عَنْ الْفِعْلِ مِنْ لَوَازِمِهِ وَلَكِنَّ الشَّيْخَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَرَّضَ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ الدَّلِيلِ لِنَفْيِ الْإِيجَابِ مِنْ غَيْرِ الصِّيغَةِ عَلَى عَكْسِ مَا

وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بِأَنَّ الْعِبَارَاتِ إنَّمَا وُضِعَتْ دَلَالَاتٍ عَلَى الْمَعَانِي الْمَقْصُودَةِ وَلَا يَجُوزُ قُصُورُ الْعِبَارَاتِ عَنْ الْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي، وَقَدْ وَجَدْنَا كُلَّ مَقَاصِدِ الْفِعْلِ مِثْلَ الْمَاضِي وَالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ مُخْتَصَّةً بِعِبَارَاتٍ وُضِعَتْ لَهَا فَالْمَقْصُودُ بِالْأَمْرِ كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِالْعِبَارَةِ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ أَعْظَمُ الْمَقَاصِدِ فَهُوَ بِذَلِكَ الْأَوْلَى ـــــــــــــــــــــــــــــQذَكَرُوا لِيُطَابِقَ مَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، فَقَالَ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الْعِبَارَاتِ إنَّمَا وُضِعَتْ دَلَالَاتٍ عَلَى الْمَعَانِي الْمَقْصُودَةِ فَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِذِكْرِ كَلِمَةِ إنَّمَا حَصْرَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْعِبَارَاتِ؛ وَإِنْ كَانَ لَا يَنْقَادُ لَهُ اللَّفْظُ وَأَرَادَ بِالْمَعَانِي مَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ يَعْنِي الْمَوْضُوعَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعَانِي الَّتِي قَصَدَ الْمُتَكَلِّمُ إلْقَاءَهَا إلَى السَّامِعِ، وَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَهَا لَهُ هِيَ الْعِبَارَاتُ لَا غَيْرُ، وَلَا يَجُوزُ قُصُورُ الْعِبَارَاتِ عَنْ الْمَعَانِي أَيْ وَلَا يَجُوزُ عَقْلًا أَنْ يُوجَدَ مَعْنًى بِلَا لَفْظٍ فَيَحْتَاجُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ إلَى شَيْءٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْمُهْمَلَاتِ أَكْثَرُ مِنْ الْمُسْتَعْمَلَاتِ وَكَذَا فِي الْمُتَرَادِفَاتِ كَثْرَةٌ فَأَمَّا وُقُوعُ الْمُشْتَرَكِ فِي اللُّغَةِ فَلَيْسَ مِنْ قَبِيلِ قُصُورِ الْعِبَارَةِ أَلَا يَرَى أَنَّ لِكُلِّ مَعْنًى مِنْ الْمُشْتَرَكِ اسْمًا عَلَى حِدَةٍ إذَا ضُمَّ إلَى الْمُشْتَرَكِ صَارَا مُتَرَادِفَيْنِ. وَكَأَنَّهُ جَوَابُ سُؤَالٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ قَدْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْعِبَارَاتِ هِيَ الْمَوْضُوعَةُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعَانِي إلَّا أَنَّ الْعِبَارَاتِ قَاصِرَةٌ عَنْهَا؛ لِأَنَّهَا مُتَنَاهِيَةٌ لِتَرَكُّبِهَا مِنْ حُرُوفٍ مُتَنَاهِيَاتٍ وَالْمَعَانِي غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ الْعِبَارَةِ دَالًّا عَلَيْهَا أَيْضًا ضَرُورَةً فَقَالَ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّا نَجِدُ الْمُهْمَلَاتِ أَكْثَرَ مِنْ الْمُسْتَعْمَلَاتِ وَلَا نَجِدُ مَعْنًى لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِلَفْظٍ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي تَعَقَّلَهَا الذِّهْنُ وَاحْتِيجَ إلَى التَّعْبِيرِ عَنْهَا غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ لِاسْتِحَالَةِ تَعَقُّلِ الذِّهْنِ مَا لَا يَتَنَاهَى، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ الْمَعَانِي الْمَقْصُودَةُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَضْعَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعَانِي الْمَقْصُودَةِ مَحْصُورٌ عَلَى الْعِبَارَاتِ، وَأَنَّهَا لَا تَقْصُرُ عَنْ الْمَعَانِي لَا يَكُونُ لِلْفِعْلِ دَلَالَةٌ عَلَى مَعْنَى الْأَمْرِ وَلَا يُسْتَفَادُ ذَلِكَ مِنْهُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ اُسْتُفِيدَ مِنْهُ لَمْ يَبْقَ الْحَصْرُ فِي الْعِبَارَاتِ وَقَدْ تَمَّ الِاسْتِدْلَال، وَلَكِنَّ الشَّيْخَ أَدْرَجَ دَلِيلًا آخَرَ لِلتَّوْضِيحِ فَقَالَ: وَقَدْ وَجَدْنَا كُلَّ مَقَاصِدِ الْفِعْلِ مِثْلَ الْمَاضِي وَالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ مُخْتَصَّةً بِعِبَارَاتٍ وُضِعَتْ لَهَا مِثْلَ ضَرَبَ وَيَضْرِبُ وَسَيَضْرِبُ، قَالُوا وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْفُقَهَاءِ، فَإِنَّ عِنْدَهُمْ صِيغَةَ الْمُضَارِعِ لِلْحَالِ وَإِذَا انْضَمَّ إلَيْهِ سَوْفَ أَوْ السِّينُ صَارَتْ لِلِاسْتِقْبَالِ وَقَدْ تَعْرِفُ ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْمُصَنِّفِ، وَلَكِنْ لَا حَاجَةَ إلَى هَذَا التَّأْوِيلِ هَهُنَا؛ لِأَنَّهُ فِي بَيَانِ خُصُوصِ الْمَعْنَى لَا فِي بَيَانِ خُصُوصِ اللَّفْظِ؛ وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي خُصُوصِ اللَّفْظِ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ ضَرَبَ مُخْتَصٌّ بِالْمَاضِي وَيَضْرِبُ بِالْحَالِ وَسَيَضْرِبُ بِالِاسْتِقْبَالِ وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ مُخْتَصَّةً بِعِبَارَاتٍ أَنَّ مَعْنَى الْمَاضِي مُخْتَصٌّ بِالصِّيغَةِ الْمَوْضُوعَةِ لَهُ. وَكَذَا مَعْنَى الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ نَفْيًا لِلتَّرَادُفِ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْأَمْرِ، وَهُوَ الطَّلَبُ أَوْ الْإِيجَابُ مُخْتَصًّا بِالْعِبَارَةِ الْمَوْضُوعَةِ لَهُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمَقَاصِدِ إذْ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ مَبْنِيَّانِ عَلَيْهِ وَثُبُوتُ أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ بِهِ فَهُوَ بِالِاخْتِصَاصِ بِالصِّيغَةِ أَوْلَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَخْتَصَّ بِالصِّيَغِ وَثَبَتَ بِالْفِعْلِ كَمَا يَثْبُتُ بِالصِّيغَةِ لَزِمَ مِنْهُ الِاشْتِرَاكُ فِي لَفْظِ الْأَمْرِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ وَإِذَا ثَبَتَ اخْتِصَاصُهُ بِالصِّيغَةِ لَمْ يَثْبُتْ بِالْفِعْلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَلِمَةُ إنَّمَا لِلتَّأْكِيدِ لَا لِلْحَصْرِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَيَكُونُ الْكُلُّ دَلِيلًا وَاحِدًا، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعِبَارَاتِ وُضِعَتْ دَلَالَاتٍ عَلَى الْمَعَانِي الْمَقْصُودَةِ وَالْعِبَارَةُ غَيْرُ قَاصِرَةٍ عَنْهَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُهْمَلَاتِ أَكْثَرُ مِنْ الْمُسْتَعْمَلَاتِ فَيَكُونُ لِلْمَعْنَى الْمُثْبَتِ بِالْأَمْرِ صِيغَةٌ مَوْضُوعَةٌ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى مَقْصُودٌ بَلْ هُوَ أَعْظَمُ الْمَقَاصِدِ وَإِذَا كَانَ لَهُ صِيغَةٌ مَوْضُوعَةٌ

وَإِذَا ثَبَتَ أَصْلُ الْمَوْضُوعِ كَانَ حَقِيقَةً فَتَكُونُ لَازِمَةً إلَّا بِدَلِيلٍ أَلَا تَرَى أَنَّ أَسْمَاءَ الْحَقَائِقِ لَا تَسْقُطُ عَنْ مُسَمَّيَاتِهَا أَبَدًا أَوْ أَمَّا الْمَجَازُ فَيَصِحُّ نَفْيُهُ يُقَالُ لِلْأَبِ الْأَقْرَبُ أَبٌ لَا يَنْفِي عَنْهُ بِحَالٍ وَيُسَمَّى الْجَدُّ أَبًا وَيَصِحُّ نَفْيُهُ ثُمَّ هَهُنَا صَحَّ أَنْ يُقَالَ إنَّ فُلَانًا لَمْ يَأْمُرْ الْيَوْمَ بِشَيْءٍ مَعَ كَثْرَةِ أَفْعَالِهِ وَإِذَا تَكَلَّمَ بِعِبَارَةِ الْأَمْرِ لَمْ يَسْتَقِمْ نَفْيُهُ وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حِينَ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَخَلَعَ النَّاسُ نِعَالَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ مَا لَكُمْ خَلَعْتُمْ نِعَالَكُمْ» «وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ الْمُوَافَقَةَ فِي وِصَالِ الصَّوْمِ فَقَالَ إنِّي أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» فَثَبَتَ أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ لَازِمَةٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQكَانَ هُوَ مُخْتَصًّا بِهَا؛ لِأَنَّا وَجَدْنَا كُلَّ مَقَاصِدِ الْفِعْلِ مُخْتَصَّةً بِالْعِبَارَاتِ الْمَوْضُوعَةِ لَهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْأَمْرِ مُخْتَصًّا بِالْعِبَارَةِ الْمَوْضُوعَةِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَقَاصِدِ وَإِذَا صَارَ مُخْتَصًّا بِهَا لَا يَثْبُتُ بِالْفِعْلِ قَوْلُهُ (وَإِذَا ثَبَتَ أَصْلُ الْمَوْضُوعِ كَانَ حَقِيقَةً) يَعْنِي وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِهَذَا الْمَعْنَى عِبَارَةً مَوْضُوعَةً فِي أَصْلِ اللُّغَةِ، وَهِيَ صِيغَةُ افْعَلْ مَثَلًا كَانَتْ حَقِيقَةً فِي هَذَا الْمَعْنَى لَا مَحَالَةَ فَتَكُونُ لَازِمَةً لَهُ، وَالضَّمِيرُ فِي كَانَ وَيَكُونُ عَائِدٌ إلَى أَصْلِ الْمَوْضُوعِ. وَإِنَّمَا قَالَ لَازِمَةٌ دُونَ لَازِمًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْمَوْضُوعَ هُوَ الصِّيغَةُ الْمَخْصُوصَةُ فَأَنَّثَ عَلَى تَأْوِيلِ الصِّيغَةِ وَإِذَا كَانَتْ الصِّيغَةُ الَّتِي هِيَ أَصْلُ الْمَوْضُوعِ لَازِمَةً لِهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ بِدُونِهَا فَيُمْتَنَعُ ثُبُوتُهُ بِالْفِعْلِ ضَرُورَةً قَوْلُهُ (إلَّا بِدَلِيلٍ) أَيْ لُزُومُ الصِّيغَةِ الْمَخْصُوصَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى ثَابِتٌ نَظَرًا إلَى أَصْلِ الْوَضْعِ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ أَنَّهُ قَدْ يُسْتَفَادُ بِغَيْرِ الصِّيغَةِ كَمَا يُسْتَفَادُ بِهَا فَحِينَئِذٍ يَنْتَفِيَ اللُّزُومُ وَيَثْبُتَ بِدُونِ الصِّيغَةِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، ثُمَّ تَعَرَّضَ الشَّيْخُ لِنَفْيِ الِاشْتِرَاكِ عَنْ لَفْظِ الْأَمْرِ الْمُسْتَلْزِمِ لِنَفْيِ الْإِيجَابِ عَنْ الْفِعْلِ بِطَرِيقِ التَّوْضِيحِ فَقَالَ أَلَا تَرَى إلَى آخِرِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ: الْفِعْلُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لِطَلَبِ الْوُجُودِ مِنْ الْغَيْرِ وَالْفِعْلُ تَحْقِيقُ الْوُجُودِ وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلُ طَلَبِ الْوُجُودِ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِطَلَبِ الْوُجُودِ؛ وَإِنْ دَامَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ الْوُجُودِ أَصْلًا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ وَإِنْ كَثُرَ إلَّا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُرْضِيًّا مَحْمُودًا عِنْدَهُ قَوْلُهُ (وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) هَذِهِ مُعَارَضَةٌ لِمَا تَمَسَّكُوا بِهِ مِنْ السُّنَّةِ، وَهِيَ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «خَلَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَعْلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي فَخَلَعَ مَنْ خَلْفَهُ فَقَالَ مَا حَمَلَكُمْ عَلَى خَلْعِ نِعَالِكُمْ فَقَالُوا رَأَيْنَاك خَلَعْت فَخَلَعْنَا قَالَ إنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَنِي أَنَّ فِي أَحَدَيْهِمَا قَذَرًا فَخَلَعْتُهُمَا لِذَلِكَ فَلَا تَخْلَعُوا نِعَالَكُمْ» كَذَا فِي شَرْحِ الْآثَارِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ إذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْقَوْمُ أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إلْقَائِكُمْ نِعَالَكُمْ قَالُوا رَأَيْنَاك أَلْقَيْت نَعْلَيْك فَقَالَ إنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَنْظُرْ فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا فَلْيَمْسَحْهُ وَلِيُصَلِّ فِيهِمَا» كَذَا فِي الْمَصَابِيحِ. وَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَاصَلَ فَوَاصَلَ أَصْحَابُهُ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ وَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ وَأَيُّكُمْ مِثْلِي يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» فَفِي إنْكَارِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَيْهِمْ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ لَيْسَ بِمُوجِبٍ إذْ لَوْ كَانَ مُوجِبًا كَالْأَمْرِ لَمْ يَكُنْ لِإِنْكَارِهِ مَعْنًى كَمَا لَوْ كَانَ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ وَامْتَثَلُوا بِهِ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّهُمْ لَمْ يَتَّبِعُوهُ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ فَكَيْفَ صَارَ اتِّبَاعُهُمْ لِلْبَعْضِ دَلِيلًا وَلَمْ يَصِرْ مُخَالَفَتُهُمْ فِي الْبَعْضِ دَلِيلًا، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَقِيقَةَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ لِمَنْ دُونَهُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَمَّا تَتَقَوَّى بِهِ الرُّوحُ مِنْ الْقُرْبَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ وَالْأُنْسِ بِذِكْرِهِ وَطَاعَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: وَذِكْرُك لِلْمُشْتَاقِ خَيْرُ شَرَابٍ ... وَكُلُّ شَرَابٍ دُونَهُ كَسَرَابِ

[باب موجب الأمر]

وَلَا نُنْكِرُ تَسْمِيَتَهُ مَجَازًا؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَجِبُ بِهِ فَسُمِّيَ بِهِ مَجَازًا أَوْ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دَعَا إلَى الْمُوَافَقَةِ بِلَفْظِ الْأَمْرِ بِقَوْلِهِ «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي» فَدَلَّ أَنَّ الصِّيغَةَ لَازِمَةٌ وَمِنْ ذَلِكَ (بَابُ مُوجِبِ الْأَمْرِ) ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ (وَلَا نُنْكِرُ تَسْمِيَتَهُ مَجَازًا) جَوَابٌ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] فَقَالَ إنَّا لَا نُنْكِرُ تَسْمِيَةَ الْفِعْلِ بِالْأَمْرِ مَجَازًا؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَجِبُ بِالْأَمْرِ فَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِالْأَمْرِ إطْلَاقًا لِاسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ، وَفِي الْإِقْلِيدِ شَبَّهَ الدَّاعِي الَّذِي يَدْعُو إلَى الْفِعْلِ مَنْ يَتَوَلَّاهُ بِأَمْرِهِ بِهِ فَقَبِلَ لَهُ أَمْرُ تَسْمِيَةٍ لِلْمَفْعُولِ بِهِ بِالْمَصْدَرِ كَأَنَّهُ قِيلَ مَأْمُورٌ بِهِ كَمَا قِيلَ شَأْنٌ. وَهُوَ مَصْدَرُ شَأَنْت أَيْ قَصَدْت سُمِّيَ بِهِ الْمَشْئُونُ أَيْ الْمَطْلُوبُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ إنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْأَمْرِ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ الْقَوْلُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} [هود: 97] أَيْ أَطَاعُوهُ فِيمَا أَمَرَهُمْ وَالرُّشْدُ الصَّوَابُ وَقَدْ يُوصَفُ الْقَوْلُ بِهِ، وَفِي الْمَطْلَعِ {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} [هود: 97] هُوَ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ عِبَادَتِهِ وَاتِّخَاذِهِ إلَهًا {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] أَيْ بِذِي رُشْدٍ بَلْ هُوَ غَيٌّ وَضَلَالٌ وَقِيلَ بِمُرْشِدٍ. قَوْلُهُ (وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دَعَا إلَى الْمُوَافَقَةِ بِلَفْظِ الْأَمْرِ) جَوَابٌ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَلُّوا أَيْ الْمُتَابَعَةُ إنَّمَا وَجَبَتْ بِقَوْلِهِ صَلُّوا لَا بِالْفِعْلِ وَلَوْ كَانَ الْفِعْلُ مُوجِبًا بِنَفْسِهِ لَمَا اُحْتِيجَ إلَى قَوْلِهِ صَلُّوا بَعْدَ قَوْله تَعَالَى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] كَمَا لَا يَحْتَاجُ قَوْلُهُ افْعَلُوا كَذَا إلَى شَيْءٍ آخَرَ يُوجِبُ الِامْتِثَالَ بِهِ، قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي جَوَابِهِ وَجَوَابِ أَمْثَالِهِ أَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَ «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» وَ «هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي» ، بَيَانٌ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ شَرْعَهُ وَشَرْعَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ فَفَهِمُوا وُجُوبَ الِاتِّبَاعِ بِذَلِكَ لَا بِمُجَرَّدِ حِكَايَةِ الْفِعْلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ اخْتِلَافُ الْجَمْعِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمُسَمَّى فَلَا تَمَسُّكَ لَهُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْأُمُورَ جَمْعُ الْأَمْرِ بِمَعْنَى الشَّأْنِ وَالصِّفَةِ لَا بِمَعْنَى الْفِعْلِ وَالْأَعْوَادُ وَالْعِيدَانُ كِلَاهُمَا جَمْعُ عُودٍ مُطْلَقًا كَذَا فِي الصِّحَاحِ وَأَمَّا الْأَوَامِرُ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمُعْتَمَدِ أَنَّهَا جَمْعُ آمِرَةٍ لَا جَمْعُ أَمْرٍ، وَهُوَ حَقٌّ؛ لِأَنَّ فَوَاعِلَ فِي الثُّلَاثِيِّ جَمْعُ فَاعِلٍ اسْمًا كَكَوَاهِلَ أَوْ فَاعِلَةٍ اسْمًا وَصِفَةً كَكَوَاثِبَ وَضَوَارِبَ فَأَمَّا فَعْلُ فَلَمْ يُجْمَعْ عَلَى فَوَاعِلَ أَلْبَتَّةَ لَكِنَّهُ قِيلَ أَوَامِرُ جَمْعُ آمِرَةٍ مَجَازًا كَأَنَّ صِيغَةَ افْعَلْ جَعَلَتْ آمِرَةً وَجُمِعَتْ عَلَى أَوَامِرَ كَمَا جُمِعَ نَهْيٌ عَلَى نَوَاهِي بِهَذَا التَّأْوِيلِ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ مَا لَهُ نَاهِيَةٌ أَيْ نَهْيٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ هُوَ مُتَوَاطِئٌ أَيْ مُشْتَرَكٌ مَعْنَوِيٌّ فَفَاسِدٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى رَفْعِ الْمَجَازِ وَالِاشْتِرَاكِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي أَمْرٍ عَامٍّ قَدْ يُوجَدُ بَيْنَ كُلِّ مُشْتَرَكَيْنِ وَكُلِّ مَجَازٍ وَحَقِيقَةٍ. وَقَوْلُهُمْ الْمَجَازُ وَالِاشْتِرَاكُ خِلَافُ الْأَصْلِ قُلْنَا كُلُّ مَا هُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ يَصِيرُ مُوَافِقًا لَهُ إذَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى الْمَجَازِ هَهُنَا كَمَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِنْ الْخَاصِّ [بَابُ مُوجِبِ الْأَمْرِ] أَيْ حُكْمُ الْأَمْرِ، الْبَابُ الْمُتَقَدِّمُ فِي بَيَانِ لُزُومِ الصِّيغَةِ لِلْمُرَادِ بِالْأَمْرِ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ ذَلِكَ الْمُرَادُ بِدُونِهَا وَبَيَانُ اخْتِصَاصِ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِالصِّيغَةِ وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ ذَلِكَ الْمُرَادِ صَرِيحًا

وَإِذَا ثَبَتَ خُصُوصُ الصِّيغَةِ ثَبَتَ خُصُوصُ الْمُرَادِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ مُجْمَلٌ فِي حَقِّ الْحُكْمِ لَا يَجِبُ بِهِ حُكْمٌ إلَّا بِدَلِيلٍ زَائِدٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَهَذَا الْبَابُ فِي بَيَانِ الْمُرَادِ أَنَّهُ مُتَعَدِّدٌ أَمْ وَاحِدٌ، مُتَعَيِّنٌ أَوْ مُبْهَمٌ قَوْلُهُ (وَإِذَا ثَبَتَ خُصُوصُ الصِّيغَةِ) أَيْ لُزُومُهَا لِلْمَعْنَى وَاخْتِصَاصُهَا بِهِ ثَبَتَ خُصُوصُ الْمُرَادِ أَيْ انْفِرَادُ الْمَعْنَى وَتَعَيُّنُهُ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعْنَاهُ مُنْفَرِدًا أَوْ مُتَعَيِّنًا مَعَ أَنَّ الصِّيغَةَ الْمَخْصُوصَةَ لَازِمَةٌ لَهُ يَلْزَمُ الِاشْتِرَاكُ أَوْ الْإِجْمَالُ فِي الصِّيغَةِ وَكِلَاهُمَا خِلَافُ الْأَصْلِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ وَضْعِ الْأَلْفَاظِ الْإِفْهَامُ لِلسَّامِعِ وَالِاشْتِرَاكُ وَالْإِجْمَالُ يُخِلَّانِ بِهِ إلَّا أَنَّ الِاشْتِرَاكَ وَالْإِجْمَالَ وَقَعَا لِعَوَارِضَ قَدْ ذَكَرْنَا وَسَنَذْكُرُهَا أَيْضًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (فَإِنْ قِيلَ) إنَّهُ فِي بَيَانِ خُصُوصِ اللَّفْظِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: الْخَاصُّ لَفْظٌ وُضِعَ لِكَذَا وَمَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ أَقْسَامِ خُصُوصِ الْمَعْنَى فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ أَقْسَامِ الْخَاصِّ اللَّفْظِيِّ (قُلْنَا) لَا يَتِمُّ خُصُوصُ اللَّفْظِ إلَّا بِبَيَانِ خُصُوصِ الْمَعْنَى أَعْنِي تَفَرُّدَهُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي تَحْدِيدِ الْخَاصِّ لَفْظٌ وُضِعَ لِمَعْنًى وَاحِدٍ عَلَى الِانْفِرَادِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعَرُّضِ لِجَانِبِ خُصُوصِ الْمَعْنَى لِيَتِمَّ خُصُوصُ اللَّفْظِ؛ فَلِهَذَا جَعَلَهُ مِنْ أَقْسَامِ الْخَاصِّ. وَاعْلَمْ أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ اُسْتُعْمِلَتْ لِوُجُوهٍ وَالْمَشْهُورُ مِنْهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَجْهًا، لِلْوُجُوبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وَلِلنَّدْبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33] وَلِلْإِرْشَادِ إلَى الْأَوْثَقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِرْشَادِ وَالنَّدْبِ أَنَّ النَّدْبَ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ وَالْإِرْشَادَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَصْلَحَةِ الدُّنْيَا وَلَا يَنْقُصُ ثَوَابٌ بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ فِي الْمُدَايَنَاتِ وَلَا يَزِيدُ بِفِعْلِهِ، وَلِلْإِبَاحَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] وَلِلْإِكْرَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 46] وَلِلِامْتِنَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأنعام: 142] وَلِلْإِهَانَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] وَلِلتَّسْوِيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} [الطور: 16] وَلِلتَّعَجُّبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم: 38] أَيْ مَا أَسْمَعَهُمْ وَمَا أَبْصَرَهُمْ وَلِلتَّكْوِينِ وَكَمَالِ الْقُدْرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117] وَلِلِاحْتِقَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} [يونس: 80] وَلِلْإِخْبَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} [التوبة: 82] وَلِلتَّهْدِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] وَ {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ} [الإسراء: 64] وَيَقْرُبُ مِنْهُ الْإِنْذَارُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ تَمَتَّعُوا} [إبراهيم: 30] ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ جَعَلُوهُ قِسْمًا آخَرَ، وَلِلتَّعْجِيزِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] وَلِلتَّسْخِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] وَلِلتَّمَنِّي كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: أَلَا أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلَا انْجَلِي ، وَلِلتَّأْدِيبِ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِابْنِ عَبَّاسٍ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «كُلْ مِمَّا يَلِيك» ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ النَّدْبِ إذْ الْأَدَبُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَلِلدُّعَاءِ كَقَوْلِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إذَا عَرَفْت هَذَا فَنَقُولُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ صِيغَةَ افْعَلْ لَيْسَتْ حَقِيقَةً فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّسْخِيرِ وَالتَّعْجِيزِ وَالتَّسْوِيَةِ مَثَلًا غَيْرُ مُسْتَفَادٍ مِنْ مُجَرَّدِ الصِّيغَةِ بَلْ إنَّمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ الْقَرَائِنِ، إنَّمَا الَّذِي وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ أُمُورٌ أَرْبَعَةٌ: الْوُجُوبُ وَالنَّدْبُ وَالْإِبَاحَةُ وَالتَّهْدِيدُ فَقَالَ بَعْضُ الْوَاقِفِيَّةِ الْأَمْرُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ كَلَفْظِ الْعَيْنِ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَابْنِ شُرَيْحٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَبَعْضِ الشِّيعَةِ وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ أَشَارَ الشَّيْخُ حَيْثُ جَعَلَ التَّوْبِيخَ مِنْ مَوَاجِبِهِ. وَقِيلَ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ وَقِيلَ

وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ اُسْتُعْلِمَتْ فِي مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ لِلْإِيجَابِ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام: 72] وَلِلنَّدْبِ مِثْلَ قَوْلِهِ {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] وَلِلْإِبَاحَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] وَلِلتَّقْرِيعِ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ} [الإسراء: 64] وَلِلتَّوْبِيخِ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] وَإِذَا اخْتَلَفَتْ وُجُوهُهُ لَمْ يَجِبْ الْعَمَلُ بِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالْمَعْنَوِيِّ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي الْإِذْنِ الشَّامِلِ لِلثَّلَاثَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُرْتَضَى مِنْ الشِّيعَةِ فَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ فِي التَّهْدِيدِ مَجَازًا. وَقِيلَ هُوَ مُشْتَرَكٌ فِي الْإِيجَابِ وَالنَّدْبِ لَفْظًا، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَقِيلَ مَعْنًى بِأَنْ يُجْعَلَ حَقِيقَةً فِي مَعْنَى الطَّلَبِ الشَّامِلِ لَهُمَا، وَهُوَ تَرْجِيحُ الْفِعْلِ عَلَى التَّرْكِ، وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ: فِي رِوَايَةٍ وَالْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيُّ وَالْغَزَالِيِّ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ لَا يُدْرَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ فَقَطْ أَوْ فِي النَّدْبِ فَقَطْ أَوْ فِيهِمَا مَعًا بِالِاشْتِرَاكِ فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ جَمِيعًا لَا حُكْمَ لَهُ أَصْلًا بِدُونِ الْقَرِينَةِ إلَّا التَّوَقُّفُ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ حَقٌّ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِازْدِحَامِ الْمَعَانِي فِيهِ وَحُكْمُ الْمُجْمَلِ التَّوَقُّفُ لَا أَنَّ التَّوَقُّفَ عِنْدَ الْبَعْضِ فِي نَفْسِ الْمُوجِبِ وَعِنْدَ الْبَعْضِ فِي تَعْيِينِهِ، وَقَالَ مَشَايِخُ سَمَرْقَنْدَ: رَئِيسُهُمْ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إنَّ حُكْمَهُ الْوُجُوبُ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا، وَهُوَ أَنْ لَا يَعْتَقِدَ فِيهِ بِنَدْبٍ وَلَا إيجَابٍ بِطَرِيقِ التَّعْيِينِ بَلْ يَعْتَقِدُ عَلَى الْإِبْهَامِ أَنَّ مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ مِنْ الْإِيجَابِ وَالنَّدْبِ فَهُوَ حَقٌّ وَلَكِنْ يُؤْتَى بِالْفِعْلِ لَا مَحَالَةَ حَتَّى إنَّهُ إذَا أُرِيدَ بِهِ الْإِيجَابُ يَحْصُلُ الْخُرُوجُ عَنْ الْعُهْدَةِ؛ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ النَّدْبُ يَحْصُلُ الثَّوَابُ فَهَذَا بَيَانُ أَقْوَالِ الْوَاقِفِيَّةِ، فَأَمَّا عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ فَقَالُوا: إنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي عَيْنًا مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاكٍ وَلَا إجْمَالٍ إلَّا أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَالْجُبَّائِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ إلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ مَجَازٌ فِيمَا عَدَاهُ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَعَامَّةُ الْمُعْتَزِلَةِ إلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي النَّدْبِ مَجَازٌ فِيمَا سِوَاهُ، وَذَهَبَ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْإِبَاحَةِ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قَوْلُهُ (وَاحْتَجُّوا) أَيْ الطَّائِفَةُ الْأُولَى مِنْ الْوَاقِفِيَّةِ بِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ اُسْتُعْمِلَتْ فِي مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَهِيَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَثْبُتَ تَرْجِيحُ أَحَدِهَا عَلَى الْبَاقِي وَالْأَصْلُ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةُ فَيَثْبُتُ الِاشْتِرَاكُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَقْسَامِ الْإِجْمَالِ عِنْدَهُمْ فَلَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ زَائِدٍ يُرَجِّحُ أَحَدَ الْمَعَانِي عَلَى سَائِرِهَا لِاسْتِحَالَةِ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ بِلَا مُرَجِّحٍ، وَالتَّقْرِيعُ التَّعْجِيزُ وَالْإِفْحَامُ وَالتَّوْبِيخُ التَّهْدِيدُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي التَّقْرِيعِ لَا يَكُونُ الْمَأْمُورُ قَادِرًا عَلَى إتْيَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ؛ وَلِهَذَا يُلْحَقُ بِهِ افْعَلْ كَذَا إنْ اسْتَطَعْت كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] {فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258] وَالْمُرَادُ مِنْهُ النَّفْيُ أَيْ الْإِتْيَانُ بِالسُّورَةِ أَوْ الشَّمْسِ مِنْ الْمَغْرِبِ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ وَمَقْدُورٍ أَصْلًا وَفِي التَّوْبِيخِ يَكُونُ الْمَأْمُورُ قَادِرًا عَلَى إتْيَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] فَإِنَّ الْمَأْمُورَ قَادِرٌ عَلَى الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ جَمِيعًا إلَّا أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي التَّوْبِيخِ لَيْسَ بِمَطْلُوبٍ بَلْ الْمُرَادُ النَّهْيُ مِنْهُ أَيْ لَا تَفْعَلْ هَذَا فَإِنَّك إنْ فَعَلْته سَتَلْحَقُ بِك عُقُوبَتُهُ وَلِهَذَا يَلْحَقُ بِهِ افْعَلْ فَإِنَّك تَسْتَحِقُّ بِهِ الْعِقَابَ، ثُمَّ قَوْله تَعَالَى {وَاسْتَفْزِزْ} [الإسراء: 64] أَيْ اسْتَخِفَّ وَاسْتَزِلَّ وَهَيِّجْ مَنْ اسْتَطَعْت مِنْهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي بِوَسْوَسَتِك وَدُعَائِك إلَى الشَّرِّ مِنْ قَبِيلِ التَّهْدِيدِ لَا مِنْ قَبِيلِ التَّقْرِيعِ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ كَذَا فِي الْكَشَّافِ وَالْمَطْلَعِ وَعَيْنِ الْمَعَانِي وَعَامَّةِ التَّفَاسِيرِ وَالتَّقْوِيمِ وَأُصُولِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ

وَلِعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ لَفْظٌ خَاصٌّ مِنْ تَصَارِيفِ الْفِعْلِ، وَكَمَا أَنَّ الْعِبَارَاتِ لَا تَقْصُرُ عَنْ الْمَعَانِي، فَكَذَلِكَ الْعِبَارَاتُ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُرَادِ وَلَا يَثْبُتُ الِاشْتِرَاكُ إلَّا بِعَارِضٍ، فَكَذَلِكَ صِيغَةُ الْأَمْرِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَأُصُولِ أَبِي الْيُسْرِ وَغَيْرِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّعِينَ قَادِرٌ عَلَى الْوَسْوَسَةِ وَالدُّعَاءِ إلَى الشَّرِّ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى الْإِضْلَالِ وَالْإِغْوَاءِ فَأَنَّى يَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ التَّقْرِيعِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ التَّقْرِيعِ هَهُنَا؛ وَإِنْ ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ؛ لِأَنَّهُ فِي بَيَانِ الْمَعَانِي الْأَصْلِيَّةِ لِيَثْبُتَ الِاشْتِرَاكُ عَلَى زَعْمِ الْخَصْمِ وَهَذَا مِنْ الْمَعَانِي الْمَجَازِيَّةِ بِالِاتِّفَاقِ فَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِهِ، وَمَا ذَكَرْنَا هُوَ الْمُتَمَسَّكُ لِلْبَاقِينَ مِنْ الْقَائِلِينَ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا حَمْلُهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ أَوْ التَّهْدِيدِ الَّذِي هُوَ الْمَنْعُ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّا نُدْرِكُ التَّفْرِقَةَ فِي اللُّغَاتِ كُلِّهَا بَيْنَ قَوْلِهِ افْعَلْ وَقَوْلِهِ لَا تَفْعَلْ وَبَيْنَ قَوْلِهِ إنْ شِئْت فَافْعَلْ؛ وَإِنْ شِئْت لَا تَفْعَلْ حَتَّى إذَا قَدَّرْنَا انْتِفَاءَ الْقَرَائِنِ كُلِّهَا وَقَدَّرْنَا هَذِهِ الصِّيغَةَ مَنْقُولَةً عَنْ غَائِبٍ لَا فِي فِعْلٍ مُعَيَّنٍ مِنْ قِيَامٍ أَوْ قُعُودٍ أَوْ صَلَاةٍ أَوْ صِيَامٍ حَتَّى يَتَوَهَّمَ فِيهِ قَرِينَةً دَالَّةً بَلْ فِي الْفِعْلِ مُطْلَقًا سَبَقَ إلَى فَهْمِنَا اخْتِلَافُ مَعَانِي هَذِهِ الصِّيَغِ وَعَلِمْنَا قَطْعًا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِأَلْفَاظٍ مُتَرَادِفَةٍ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ كَمَا أَنَّا نُدْرِكُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ قَوْلِهِمْ قَامَ زَيْدٌ وَيَقُومُ زَيْدٌ فِي أَنَّ الْأَوَّلَ لِلْمَاضِي وَالثَّانِيَ لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُعَبَّرُ بِالْمَاضِي عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ وَبِالْعَكْسِ لِقَرَائِنَ تَدُلُّ، وَكَمَا مَيَّزُوا الْمَاضِيَ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ مَيَّزُوا الْأَمْرَ عَنْ النَّهْيِ وَقَالُوا: الْأَمْرُ قَوْلُهُ افْعَلْ وَالنَّهْيُ لَا تَفْعَلْ؛ وَإِنَّهُمَا لَا يُنْبِئَانِ عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ إنْ شِئْت فَافْعَلْ؛ وَإِنْ شِئْت فَلَا تَفْعَلْ. وَهَذَا أَمْرٌ نَعْلَمُهُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ اللُّغَاتِ فَعُلِمَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ افْعَلْ يَدُلُّ عَلَى تَرْجِيحِ جَانِبِ الْفِعْلِ عَلَى جَانِبِ التَّرْكِ وَالتَّهْدِيدُ الَّذِي هُوَ الْمَنْعُ خِلَافُهُ، وَكَذَا قَوْلُهُ أَبَحْتُ لَك إنْ شِئْت فَافْعَلْ؛ وَإِنْ شِئْت فَلَا تَفْعَلْ يَرْفَعُ التَّرْجِيحَ فَبَقِيَ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَ النَّدْبِ وَالْوُجُوبِ، وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ مُشْتَرَكٌ بِالِاشْتِرَاكِ الْمَعْنَوِيِّ قَالَ جَعْلُهُ حَقِيقَةً فِي الْإِذْنِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ أَوْ الطَّلَبِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ أَوْلَى دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ، ثُمَّ الْوَاقِفِيَّةُ إنَّمَا قَالُوا بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام: 72] بِقَرِينَةِ {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] وَبِمَا وَرَدَ مِنْ التَّهْدِيدَاتِ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ وَمَا وَرَدَ مِنْ تَكْلِيفِ الصَّلَاةِ فِي حَالِ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَالْمَرَضِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا فِي الزَّكَاةِ فَقَدْ اقْتَرَنَ بِقَوْلِهِ {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] الْآيَةُ وَأَمَّا فِي الصَّوْمِ فَبِقَوْلِهِ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] وَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وَإِيجَابُ تَدَارُكِهِ عَلَى الْحَائِضِ، وَكَذَلِكَ الزِّنَا وَالْقَتْلُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَرَدَتْ فِيهَا تَهْدِيدَاتٌ وَدَلَالَاتٌ تَوَارَدَتْ عَلَى طُولِ مُدَّةِ النُّبُوَّةِ لَا تُحْصَى. قَوْلُهُ (وَلِعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ) أَيْ الَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّ لِلْأَمْرِ مُوجِبًا مُتَعَيِّنًا أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ لَفْظٌ خَاصٌّ مِنْ تَصَارِيفِ الْفِعْلِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ صِيغَةُ الْأَمْرِ أَحَدُ تَصَارِيفِ الْفِعْلِ كَمَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ؛ لِأَنَّ النِّزَاعَ وَقَعَ فِي خُصُوصِهِ فَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يُجْعَلَ مُقَدِّمَةَ الدَّلِيلِ، وَكَمَا أَنَّ الْعِبَارَاتِ لَا تُقْصَرُ عَنْ الْمَعَانِي حَتَّى كَانَتْ كَافِيَةً فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعَانِي وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى شَيْءٍ آخَرَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ فَكَذَلِكَ الْعِبَارَاتُ مُخْتَصَّةٌ بِالْمَعَانِي أَيْ كُلُّ عِبَارَةٍ مُخْتَصَّةٍ بِمَعْنًى فِي أَصْلِ الْوَضْعِ وَالْمُرَادُ بِالْمُرَادِ الْجِنْسُ. وَلَا يَثْبُتُ الِاشْتِرَاكُ أَيْ فِي الْعِبَارَةِ إلَّا بِعَارِضٍ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ وَضْعِ الْكَلَامِ إفْهَامَ الْمُرَادِ لِلسَّامِعِ وَالِاشْتِرَاكُ يُخِلُّ بِهِ

لِمَعْنًى خَاصٍّ ثُمَّ الِاشْتِرَاكُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِضَرْبٍ مِنْ الدَّلِيلِ الْمُغَيَّرِ كَسَائِرِ أَلْفَاظِ الْخُصُوصِ ثُمَّ الْفُقَهَاءُ سِوَى الْوَاقِفِيَّةِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الْأَمْرِ قَالَ بَعْضُهُمْ حُكْمُهُ الْإِبَاحَةُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: النَّدْبُ وَقَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ: حُكْمُهُ الْوُجُوبُ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَلَمْ يَكُنْ أَصْلًا وَلَكِنَّهُ قَدْ يَقَعُ بِعَارِضٍ، وَهُوَ تَعَدُّدُ الْوَضْعِ مَعَ غَفْلَةِ الْوَاضِعِ إنْ كَانَتْ اللُّغَاتُ اصْطِلَاحِيَّةً، وَذَلِكَ بِأَنْ كَانَ الْوَاضِعُ نَسِيَ وَضْعَهُ الْأَوَّلَ وَقَدْ اُشْتُهِرَ ذَلِكَ إنْ كَانَ الْوَاضِعُ مُتَعَدِّدًا وَقَدْ غَفَلَ كُلُّ وَاحِدٍ عَنْ وَضْعِ صَاحِبِهِ وَاشْتَهَرَ الْوَضْعَانِ بَيْنَ الْأَقْوَامِ، أَوْ الِابْتِلَاءِ إنْ كَانَتْ تَوْقِيفِيَّةً وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ، فَكَذَلِكَ صِيغَةُ الْأَمْرِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مُخْتَصَّةً بِمَعْنًى خَاصٍّ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، وَاللَّامُ فِي الْمَعْنَى إشَارَةٌ إلَى اخْتِصَاصِ الصِّيغَةِ بِالْمَعْنَى، ثُمَّ الِاشْتِرَاكُ يَثْبُتُ بِضَرْبٍ مِنْ الدَّلِيلِ الْمُغَيِّرِ كَسَائِرِ أَلْفَاظِ الْخُصُوصِ، السَّائِرِ بِمَعْنَى الْجَمِيعِ يُقَالُ سَائِرُ النَّاسِ أَيْ جَمِيعُهُمْ كَذَا فِي الصِّحَاحِ، أَوْ بِمَعْنَى الْبَاقِي كَمَا هُوَ أَصْلُهُ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْفَائِقِ أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ سَأَرَ إذَا بَقِيَ وَمِنْهُ السُّؤْرُ وَهَذَا مِمَّا يَغْلَطُ فِيهِ الْخَاصَّةُ فَيَضَعُهُ مَوْضِعَ الْجَمِيعِ وَالْمَصْدَرُ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ وَالتَّشْبِيهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ لِمَعْنًى خَاصٍّ أَيْ صِيغَةُ الْأَمْرِ لِمَعْنًى خَاصٍّ وَلَا يَثْبُتُ الِاشْتِرَاكُ وَالتَّغَيُّرُ فِيهَا عَنْ الْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ إلَّا بِعَارِضٍ كَجَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الْخَاصَّةِ أَوْ بَاقِيهَا؛ فَإِنَّهَا لَمَعَانٍ خَاصَّةٍ وَلَا يَثْبُتُ الِاشْتِرَاكُ وَالتَّغَيُّرُ فِيهَا إلَّا بِدَلِيلٍ مُغَيِّرٍ كَمَا قُلْنَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْخُصُوصُ فِي الْعَامِّ، فَيَكُونُ إضَافَةُ الْأَلْفَاظِ إلَى الْخُصُوصِ إضَافَةَ السَّبَبِ إلَى الْمُسَبَّبِ كَقَوْلِك وَقْتَ الظُّهْرِ وَالتَّشْبِيهُ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ بِضَرْبٍ مِنْ الدَّلِيلِ الْمُغَيِّرِ، وَإِلَى هَذَا الْوَجْهِ أَشَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فَقَالَ: فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ صِيغَةُ الْأَمْرِ لِمَعْنًى خَاصٍّ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ وَلَا يَثْبُتُ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ إلَّا بِعَارِضٍ مُغَيِّرٍ بِمَنْزِلَةِ دَلِيلِ الْخُصُوصِ فِي الْعَامِّ، وَيَجُوزُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالِاشْتِرَاكِ الِاشْتِرَاكَ الْحَقِيقِيَّ الْمُصْطَلَحَ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الِاشْتِرَاكَ الصُّورِيَّ الَّذِي يَحْدُثُ لِلْأَلْفَاظِ بِسَبَبِ الِاسْتِعَارَةِ بَيْنَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ فَإِنَّ لَفْظَ الْأَسَدِ بِاعْتِبَارِ ظَاهِرِ الِاسْتِعْمَالِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْحَيَوَانِ الْمَخْصُوصِ وَبَيْنَ الشُّجَاعِ وَهَذَا الِاشْتِرَاكُ لَا يَمْنَعُ خُصُوصَ اللَّفْظِ؛ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَمَا ثَبَتَ خُصُوصُ اللَّفْظِ فِي مَعْنَاهُ الْمَوْضُوعِ لَهُ بِدَلِيلٍ يَقْتَرِنُ بِاللَّفْظِ أَنَّهُ غُيِّرَ عَنْ مَوْضُوعِهِ الْأَصْلِيِّ وَأُرِيدَ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى الْآخَرُ؛ وَلِهَذَا لَا يُخِلُّ هَذَا الِاشْتِرَاكُ بِالْفَهْمِ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الدَّلِيلِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ قَرِينَةً لَازِمٌ لَهُ فَيَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ لَا مَحَالَةَ بِخِلَافِ الِاشْتِرَاكِ الْحَقِيقِيِّ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ مَعَهُ الْخُصُوصُ وَيَثْبُتُ بِالِاسْتِعْمَالِ الْخَالِي عَنْ الْقَرِينَةِ؛ وَلِهَذَا يُخِلُّ بِالْفَهْمِ أَلَا تَرَى أَنَّك إذَا قُلْتَ رَأَيْتُ أَسَدًا يُفْهَمُ مِنْهُ الْهَيْكَلُ الْمَخْصُوصُ لَا غَيْرُ وَإِذَا قُلْتَ رَأَيْت أَسَدًا يَرْمِي يُفْهَمُ مِنْهُ الْإِنْسَانُ الشُّجَاعُ لَا غَيْرُ فَأَمَّا إذَا قُلْتَ رَأَيْت عَيْنًا فَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ مُعَيَّنٌ، ثُمَّ الْخُصُومُ لَمَّا اسْتَدَلُّوا بِاسْتِعْمَالِ الْأَمْرِ فِي الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ حَقِيقِيٌّ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةُ وَاسْتَدَلَّ الشَّيْخُ عَلَى أَنَّهُ خَاصٌّ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَلَامِ الْخُصُوصُ دُونَ الِاشْتِرَاكِ أَجَابَ عَمَّا تَمَسَّكُوا بِهِ فَقَالَ بَعْدَمَا ثَبَتَ خُصُوصُ الصِّيغَةِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ. ثُمَّ قَدْ يَثْبُتُ الِاشْتِرَاكُ الصُّورِيُّ أَيْ الْمَجَازُ بِالدَّلِيلِ الْمُغَيَّرِ، وَهُوَ الْقَرِينَةُ كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْخَاصَّةِ تُصْرَفُ إلَى الْمَجَازِ بِالْقَرَائِنِ الْمُنْضَمَّةِ إلَيْهَا فَيَثْبُتُ بِالِاسْتِعْمَالِ الَّذِي تَمَسَّكْتُمْ بِهِ بَعْدَمَا ثَبَتَ الْخُصُوصُ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الِاشْتِرَاكِ لَا الِاشْتِرَاكِ الْحَقِيقِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْخُصُوصِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ يَدُلُّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ وَعَلَى الْمَجَازِ فَحَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالْفَهْمِ قَوْلُهُ (وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا

أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا بِالْإِبَاحَةِ قَالُوا إنَّ مَا ثَبَتَ أَمْرًا كَانَ مُقْتَضِيًا لِمُوجِبِهِ فَيَثْبُتُ أَدْنَاهُ، وَهُوَ الْإِبَاحَةُ وَاَلَّذِينَ قَالُوا بِالنَّدْبِ قَالُوا لَا بُدَّ مِمَّا يُوجِبُ تَرْجِيحَ جَانِبِ الْوُجُودِ وَأَدْنَى ذَلِكَ مَعْنَى النَّدْبِ إلَّا أَنَّ هَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِمَعْنَاهُ الْمَخْصُوصِ بِهِ كَانَ الْكَمَالُ أَصْلًا فِيهِ فَثَبَتَ أَعْلَاهُ عَلَى احْتِمَالِ الْأَدْنَى إذْ لَا قُصُورَ فِي الصِّيغَةِ وَلَا فِي وِلَايَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْحُجَّةُ لِعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ الْكِتَابُ وَالْإِجْمَاعُ وَالدَّلِيلُ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالْإِبَاحَةِ) قَالُوا الْفَاءُ فِي جَوَابِ إمَّا لَازِمٌ لَكِنَّ الْمَشَايِخَ قَدْ يَتْرُكُونَهَا كَثِيرًا؛ لِأَنَّ نَظَرَهُمْ كَانَ إلَى الْمَعْنَى لَا إلَى اللَّفْظِ كَذَا كَانَ يَقُولُ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ مَوْلَانَا حَافِظُ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ نَوَّرَ اللَّهُ مَضْجَعَهُ: قَالُوا: إنَّ مَا ثَبَتَ كَوْنُهُ أَمْرًا أَيْ الَّذِي ثَبَتَ كَوْنُهُ أَمْرًا مِنْ الصِّيَغِ الْمَوْضُوعَةِ، وَقِيلَ هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ السُّؤَالِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّوْبِيخِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّ الصِّيغَةَ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي لَيْسَتْ بِأَمْرٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ بِاتِّفَاقِ هَؤُلَاءِ كَانَ مُقْتَضِيًا لِمُوجِبِهِ لَا مَحَالَةَ، فَيَثْبُتُ أَدْنَاهُ أَيْ أَدْنَى مَا يَصِحُّ أَنْ يَثْبُتَ بِالْأَمْرِ، وَهُوَ الْإِبَاحَةُ كَمَا إذَا وَكَّلَ رَجُلًا فِي مَالِهِ يَثْبُتُ بِهِ الْحِفْظُ؛ لِأَنَّهُ أَدْنَى مَا يُرَادُ بِهَذَا اللَّفْظِ وَهُوَ مُتَيَقَّنٌ، وَفِي التَّقْوِيمِ قَالُوا: الْأَمْرُ لِطَلَبِ وُجُودِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَلَا وُجُودَ لَهُ إلَّا بِالِائْتِمَارِ فَدَلَّ ضَرُورَةً عَلَى انْفِتَاحِ طَرِيقِ الِائْتِمَارِ عَلَيْهِ وَأَدْنَاهُ الْإِبَاحَةُ. وَأَمَّا النَّادِبُونَ فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبُهُ الْإِبَاحَةَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لِطَلَبِ الْفِعْلِ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ جَانِبُ إيجَادِ الْفِعْلِ رَاجِحًا عَلَى جَانِبِ التَّرْكِ وَلَيْسَ فِي الْإِبَاحَةِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا فِيهَا سَوَاءٌ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ التَّرَجُّحِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِالْوُجُوبِ أَوْ النَّدْبِ يَثْبُتُ أَدْنَاهُمَا لِلتَّيَقُّنِ بِهِ، وَلَا يَثْبُتُ الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الطَّلَبِ قَدْ تَحَقَّقَ فَلَا مَعْنَى لِإِثْبَاتِ صِفَةٍ زَائِدَةٍ بَعْدُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ؛ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ التَّرْجِيحُ بِالنَّدْبِ لِاقْتِضَائِهِ كَوْنَ الْفِعْلِ أَحْسَنَ مِنْ التَّرْكِ وَتَعَلُّقُ الثَّوَابِ بِهِ، قَالَ الشَّيْخُ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَّا أَنَّ هَذَا أَيْ الْقَوْلَ بِالنَّدْبِ مَعَ دَلِيلِهِ فَاسِدٌ، خَصَّهُ بِالْحُكْمِ بِالْفَسَادِ دُونَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ النَّادِبِينَ قَدْ تَضَمَّنَ إفْسَادَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعَرُّضِ لَهُ قَوْلُهُ (لِأَنَّهُ) الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ مَوْضُوعٌ لِمَعْنَاهُ الْمَخْصُوصِ، وَهُوَ طَلَبُ الْفِعْلِ بِمَا ذُكِرَ مِنْ الدَّلِيلِ كَانَ الْكَمَالُ أَصْلًا فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ النَّاقِصَ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَكَمَالُهُ بِالْوُجُوبِ لَا بِالنَّدْبِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعِقَابِ لَمَّا تَرَتَّبَ عَلَى تَرْكِهِ كَتَرَتُّبِ الثَّوَابِ عَلَى فِعْلِهِ دَلَّ أَنَّ الْفِعْلَ مَطْلُوبُ الْأَمْرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَثْبُتُ بِهِ كَمَالُ الطَّلَبِ مِنْ جَانِبِهِ، وَكَذَا الْمَطْلُوبُ، وَهُوَ الْفِعْلُ يَحْصُلُ بِهِ مِنْ جَانِبِ الْمَأْمُورِ غَالِبًا فَأَمَّا النَّدْبُ فَفِيهِ نُقْصَانٌ فِي جَانِبِ الطَّلَبِ لِعَدَمِ تَرَتُّبِ الْعِقَابِ عَلَى تَرْكِهِ، وَكَذَا لَا يُؤَدِّي إلَى وُجُودِ الْمَطْلُوبِ غَالِبًا، وَإِذَا كَانَ كَمَالُ الطَّلَبِ فِي الْوُجُوبِ وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ إذْ لَا قُصُورَ فِي دَلَالَةِ الصِّيغَةِ عَلَى الطَّلَبِ؛ لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِذَلِكَ وَلَا فِي وِلَايَةِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ مُفْتَرِضُ الطَّاعَةِ يَمْلِكُ الْإِلْزَامَ، وَكَانَ قَوْلُهُ لَا قُصُورَ فِي دَلَالَةِ الصِّيغَةِ احْتِرَازٌ عَنْ صِيغَةٍ اقْتَرَنَ بِهَا مَا يَمْنَعُ صَرْفَهَا إلَى الْإِيجَابِ مَعَ كَمَالِ وِلَايَةِ الْمُتَكَلِّمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40] فَكَانَ قُصُورُ الصِّيغَةِ عِبَارَةً عَنْ عَدَمِ دَلَالَتِهَا عَلَى مَوْضُوعِهَا، وَهُوَ الْإِيجَابُ. وَقَوْلُهُ وَلَا فِي وِلَايَةِ الْمُتَكَلِّمِ احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا اقْتَرَنَ بِالْمُتَكَلِّمِ مَا يَمْنَعُ صَرْفَهَا إلَى الْإِيجَابِ مَعَ كَمَالِ دَلَالَتِهَا عَلَيْهِ كَمَا فِي الدُّعَاءِ وَالِالْتِمَاسِ، قَالَ أَبُو الْيُسْرِ: الْأَمْرُ لَفْظٌ فَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ خَاصًّا كَامِلًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْكَمَالُ وَالنُّقْصَانُ بِعَارِضٍ وَالْكَمَالُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَحْمِلُهُ عَلَى الْوُجُودِ فَكَانَ الْوُجُودُ بِوَاسِطَةِ الْوُجُوبِ مُضَافًا إلَى الْأَمْرِ السَّابِقِ فَمَنْ جَعَلَ الْأَمْرَ لِلْإِبَاحَةِ أَوْ النَّدْبِ جَعَلَ النُّقْصَانَ أَصْلًا وَالْكَمَالَ بِعَارِضٍ، وَهَذَا قَلْبُ الْقَضِيَّةِ، وَلَا حُجَّةَ لِلنَّادِبِينَ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «، إذَا أَمَرْتُكُمْ

الْمَعْقُولُ أَمَّا الْكِتَابُ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] ـــــــــــــــــــــــــــــQبِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَانْتَهُوا» حَيْثُ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى مَشِيئَتِنَا، وَهُوَ دَلِيلُ النَّدْبِيَّةِ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ رَدَّهُ إلَى مَشِيئَتِنَا بَلْ رَدَّهُ إلَى اسْتِطَاعَتِنَا، فَإِنَّهُ قَالَ «مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَلَمْ يَقُلْ فَافْعَلُوا مَا شِئْتُمْ، وَلَيْسَ الرَّدُّ إلَى الِاسْتِطَاعَةِ مِنْ خَوَاصِّ الْمَنْدُوبِ بَلْ كُلُّ وَاجِبٍ كَذَلِكَ، وَلَمَّا بَيَّنَ فَسَادَ شُبْهَةِ الْخَصْمِ شَرَعَ فِي بَيَانِ الِاحْتِجَاجِ عَلَى مَذْهَبِهِ وَمُدَّعَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إبْطَالِ مَذْهَبِ الْخَصْمِ صِحَّةُ هَذَا الْقَوْلِ فَقَالَ: وَالْحُجَّةُ لِعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ أَحْسَنُ لِمُطَابَقَتِهِ قَوْلَهُ ثُمَّ الْفُقَهَاءُ سِوَى الْوَاقِفِيَّةِ، وَالْإِجْمَاعُ أَيْ دَلَالَتُهُ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ فِي صُورَةٍ أُخْرَى وَلَكِنْ يَلْزَمُ مِنْهُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ قَوْلُهُ (قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ} [النحل: 40] الْآيَةُ قَوْلُنَا مُبْتَدَأٌ وَأَنْ نَقُولَ خَبَرُهُ وَكُنْ وَيَكُونُ مِنْ كَانَ التَّامَّةِ الَّتِي بِمَعْنَى الْحُدُوثِ وَالْوُجُودِ أَيْ إذَا أَرَدْنَا وُجُودَ شَيْءٍ فَلَيْسَ إلَّا أَنْ نَقُولَ لَهُ اُحْدُثْ فَهُوَ يَحْدُثُ عَقِيبَ ذَلِكَ بِلَا تَوَقُّفٍ. وَهَذَا مَثَلٌ؛ لِأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ وَأَنَّ وُجُودَهُ عِنْدَ إرَادَتِهِ غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ كَوُجُودِ الْمَأْمُورِ بِهِ عِنْدَ أَمْرِ الْآمِرِ الْمُطَاعِ إذَا وَرَدَ عَلَى الْمَأْمُورِ الْمُطِيعِ الْمُمْتَثِلِ وَلَا قَوْلَ ثَمَّةَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ إيجَادَ كُلِّ مَقْدُورٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهَذِهِ السُّهُولَةِ فَكَيْفَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الْبَعْثُ الَّذِي هُوَ مِنْ شِقِّ الْمَقْدُورَاتِ كَذَا فِي الْكَشَّافِ وَسُمِّيَ الْمَعْدُومُ شَيْئًا بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ لَا يَرَوْنَ تَعَلُّقَ وُجُودِ الْأَشْيَاءِ بِهَذَا الْأَمْرِ بَلْ وُجُودُهَا مُتَعَلِّقٌ بِخَلْقِ اللَّهِ وَإِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ وَهُوَ صِفَتُهُ الْأَزَلِيَّةُ وَهَذَا الْكَلَامُ عِبَارَةٌ عَنْ سُرْعَةِ حُصُولِ الْمَخْلُوقِ بِإِيجَادِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ بِالشَّاهِدِ يَعْنِي لَوْ كَانَ فِي قُدْرَةِ الْبَشَرِ إيجَادُ الْأَشْيَاءِ عَنْ الْعَدَمِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ الَّتِي لَيْسَتْ فِي كَلَامِهِمْ مَا هُوَ أَوْجَزُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّكْوِينِ مِنْهَا فَيَكُونُ مَا أَرَادُوا وُجُودَهُ عَقِيبَ الْمُتَكَلِّمِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ بِلَا صُنْعٍ آخَرَ مِنْهُمْ أَلَيْسَ يَكُونُ الْإِيجَادُ عَلَيْهِمْ فِي غَايَةِ الْيُسْرِ فَتَكْوِينُ الْعَالَمِ وَأَمْثَالِهِ أَيْسَرُ عَلَى اللَّهِ بِكَثِيرٍ، وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ، وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْحَدِيثِ وُجُودُ الْأَشْيَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِكَلَامِهِ الْأَزَلِيِّ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ دَالَّةٌ عَلَيْهِ لَا إنْ كَانَتْ مِنْ حَرْفٍ وَصَوْتٍ أَوْ كَانَ لِكَلَامِهِ وَقْتٌ أَوْ حَالٌ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ كَذَا ذَكَرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا بِأَنَّ التَّكْوِينَ عَيْنُ الْمُكَوَّنِ لَمْ يُمْكِنْهُمْ تَعْلِيقُ التَّكْوِينِ بِالتَّكْوِينِ فَعَلَّقُوهُ بِالْأَمْرِ، وَعِنْدَنَا لَمَّا كَانَ التَّكْوِينُ صِفَةً ثَابِتَةً أَزَلِيَّةً أَمْكَنَ تَعْلِيقُ الْوُجُودِ بِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى تَعْلِيقِهِ بِالْأَمْرِ فَجَعَلْنَاهُ عِبَارَةً عَنْ سُرْعَةِ الْإِيجَادِ وَسُهُولَتِهِ. 1 - وَذَكَرَ فِي التَّيْسِيرِ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117] أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّهُ خَاطَبَهُ بِكَلِمَةِ كُنْ فَيَكُونُ بِهَذَا الْخِطَابِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ خِطَابًا حَقِيقَةً فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمَعْدُومِ وَبِهِ يُوجَدُ أَوْ خِطَابًا لِلْمَوْجُودِ بَعْدَمَا وُجِدَ، لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمَعْدُومِ؛ لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ فَكَيْفَ يُخَاطَبُ وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمَوْجُودِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ فَكَيْفَ يُقَالُ لَهُ كُنْ، وَهُوَ كَائِنٌ؛ وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ أَنَّهُ إذَا شَاءَ كَوْنَهُ كَوَّنَهُ فَكَانَ، وَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْخَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّمَا اخْتَارَ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ كُنْ حَقِيقَةُ التَّكَلُّمِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ لَا أَنَّهُ مَجَازٌ عَنْ الْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ مُوَافِقًا لِمَذْهَبِ

وَهَذَا عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ ذِكْرُ الْأَمْرِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ وَالتَّكَلُّمِ بِهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا مَجَازًا عَنْ الْإِيجَادِ بَلْ كَلَامًا بِحَقِيقَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَقَدْ أَجْرَى سُنَّتَهُ فِي الْإِيجَادِ بِعِبَارَةِ الْأَمْرِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْوُجُودُ مَقْصُودًا بِالْأَمْرِ لَمَا اسْتَقَامَ قَرِينَةً لِلْإِيجَادِ بِعِبَارَةِ الْأَمْرِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْأَشْعَرِيَّةُ مُخَالِفًا لِعَامَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْآيَةِ فِي إثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَظْهَرُ، وَعَنْ هَذَا اخْتَارَ لِلتَّمَسُّكِ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْآيِ الَّتِي فِيهَا هَذِهِ الْكَلِمَةُ؛ لِأَنَّهَا أَدَلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ حَقِيقَةُ التَّكَلُّمِ إذْ الْقَوْلُ فِيهَا مُكَرَّرٌ مَذْكُورٌ فِي الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْآيَاتِ، فَقَالَ: وَهَذَا عِنْدَنَا أَيْ مَعْنَى الْآيَةِ عِنْدَنَا، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ عِنْدَنَا نَفْسَهُ وَأَقَرَّ أَنَّهُ دُونَ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِينَ، عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِلشَّأْنِ وَالظَّرْفَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ مَرْفُوعُ الْمَحَلِّ، أُرِيدَ بِهِ أَيْ بِالنَّصِّ، ذِكْرُ الْأَمْرِ إضَافَةُ الْمَصْدَرِ إلَى الْمَفْعُولِ أَيْ الْأَمْرُ مَذْكُورٌ عِنْدَ وُجُودِ الْأَشْيَاءِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ الَّتِي هِيَ أَوْجَزُ الْكَلِمَاتِ لَا بِكَلِمَةٍ أَحْدَثَ وَتَكُونُ وَنَحْوُهُمَا. ، وَالتَّكَلُّمُ مَعْطُوفٌ عَلَى ذَكَرَ، وَالظَّرْفُ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ مَنْصُوبُ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِ وَذُو الْحَالِ الضَّمِيرُ فِي بِهَا وَالتَّكَلُّمُ هُوَ الْعَامِلُ فِيهَا أَيْ أُرِيدَ بِالنَّصِّ التَّكَلُّمُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ حَقِيقَةً. وَقَوْلُهُ لَا مَجَازًا وَبَلْ كَلَامًا عُطِفَ عَلَى الظَّرْفِ الْمَنْصُوبِ الْمَحَلِّ، وَلَوْ قِيلَ لَا مَجَازٌ وَبَلْ كَلَامٌ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى الظَّرْفِ الْمَرْفُوعِ الْمَحَلِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ كَذَا لَكَانَ أَحْسَنَ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا وَقَعَ فِي نَفْسِ التَّكَلُّمِ أَهُوَ مَوْجُودٌ عِنْدَ وُجُودِ الْأَشْيَاءِ أَمْ لَا لَا فِي وَصْفِ التَّكَلُّمِ أَنَّهُ مَوْجُودٌ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ أَمْ هُوَ مَوْجُودٌ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَمَجَازًا بِالنَّصْبِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ فِي الْوَصْفِ لَا فِي الْأَصْلِ. وَقَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ نَفْيٌ لِقَوْلِ الْكَرَّامِيَّةِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّهُ تَعَالَى يَصِيرُ مُتَكَلِّمًا بِخَلْقِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ فِي ذَاتِهِ وَهَذَا يُؤَدِّي إلَى تَشْبِيهِ كَلَامِهِ بِكَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ وَتَشْبِيهِ ذَاتِهِ بِذَوَاتِهِمْ أَيْضًا إذْ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ ذَاتُهُ مَحَلَّ الْحَوَادِثِ كَذَوَاتِ الْمَخْلُوقِينَ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَقَوْلُهُ وَلَا تَعْطِيلَ نَفْيٌ لِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا كَلَامَ النَّفْسِ وَقَالُوا إنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا فِي الْأَزَلِ؛ وَإِنَّمَا صَارَ مُتَكَلِّمًا بِخَلْقِ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ فِي مَحَالِّهَا وَهَذَا يُؤَدِّي إلَى التَّعْطِيلِ وَقَدْ مَرَّ شَرْحُهُ، ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ وَجْهِ التَّمَسُّكِ بِهَذَا النَّصِّ فَقَالَ وَقَدْ أَجْرَى سُنَّتَهُ فِي الْإِيجَادِ بِعِبَارَةِ الْأَمْرِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْوُجُودُ مَقْصُودًا مِنْ الْأَمْرِ مَقْرُونًا بِهِ لَمَا اسْتَقَامَ أَنْ يَكُونَ الْوُجُودُ قَرِينَةً لِلْإِيجَادِ أَيْ لِلْآمِرِ إذْ الْإِيجَادُ لَيْسَ إلَّا الْأَمْرُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ لِبَيَانِ أَنَّهُ نَتِيجَةٌ لِلْأَوَّلِ ثَابِتٌ بِهِ كَمَا يُقَالُ أَطْعَمَهُ فَأَشْبَعَهُ وَسَقَاهُ فَأَرْوَاهُ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْوُجُودُ مُسْتَفَادًا بِالْأَمْرِ؛ لَكَانَ قَوْلُهُ كُنْ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِك سَقَيْته فَأَشْبَعْته وَأَطْعَمْته فَأَرْوَيْته. ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ خُصُوصًا مِنْ الْحَكِيمِ الَّذِي لَا يُسَفَّهُ، وَذَكَرَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّيْخِ غَيْرُ مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيَّةِ فَإِنَّ عِنْدَهُمْ وُجُودَ الْأَشْيَاءِ بِخِطَابِ كُنْ لَا غَيْرُ كَمَا أَنَّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ بِالْإِيجَادِ لَا غَيْرُ وَمَذْهَبُ الشَّيْخِ أَنَّهُ بِالْخِطَابِ وَالْإِيجَادِ مَعًا فَكَانَ هَذَا مَذْهَبًا ثَالِثًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ وَقَدْ أَجْرَى سُنَّتَهُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا إذَا أَمْكَنَ أَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ الشَّيْءُ بِغَيْرِ ذَلِكَ السَّبَبِ كَمَا أَنَّ إجْرَاءَ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُوجَدَ وَلَدٌ بِلَا أَبٍ وَقَدْ أَمْكَنَ أَنْ يُوجَدَ بِلَا أَبٍ كَمَا وُجِدَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ هُنَا أَجْرَى سُنَّتَهُ فِي الْإِيجَادِ بِعِبَارَةِ الْأَمْرِ، فَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يُمْكِنَ ثُبُوتُ الْوُجُودِ بِدُونِ الْخِطَابِ وَلَيْسَ هَذَا بِمَذْهَبِ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَلِهَذَا صَرَفَ هَذَا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQالشَّارِحُ الضَّمِيرَ الْمُسْتَكِنَّ فِي اسْتَقَامَ إلَى الْآمِرِ لَا إلَى الْوُجُودِ وَجَعَلَ الْإِيجَادَ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَا عِبَارَةً عَنْ الْآمِرِ وَقَالَ: مَعْنَاهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْوُجُودُ مَقْرُونًا بِالْآمِرِ لَمَا اسْتَقَامَ الْأَمْرُ قَرِينَةً لِلْإِيجَادِ يَعْنِي لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْآمِرِ أَثَرٌ فِي الْوُجُودِ كَمَا أَنَّ لِلْإِيجَادِ أَثَرًا فِيهِ لَمْ يَسْتَقِمْ أَنْ يُضَمَّ الْأَمْرُ إلَى الْإِيجَادِ فِي تَكَوُّنِ الْأَشْيَاءِ وَوُجُودِهَا؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يُضَمُّ وَيُقْرَنُ بِغَيْرِهِ لِتَحْقِيقِ مُوجِبِ ذَلِكَ الْغَيْرِ إذَا كَانَ لَهُ أَثَرٌ فِي ذَلِكَ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَثَرٌ فَلَا يُضَمُّ، قَالَ؛ فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا حَصَلَ الْوُجُودُ بِالْإِيجَادِ فَمَا فَائِدَةُ هَذَا الْأَمْرِ، قُلْنَا إظْهَارُ الْعَظَمَةِ وَالْقُدْرَةِ كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ يَبْعَثُهُ وَلَكِنْ وَسَطُهُ نَفْخُ الصُّوَرِ لِإِظْهَارِ الْعَظَمَةِ. ، أَوْ يُقَالُ دَلَّتْ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْوُجُودَ بِالْإِيجَادِ وَوَرَدَتْ النُّصُوصُ الْقَاطِعَةُ عَلَى أَنَّهُ بِهَذَا الْأَمْرِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِمُوجِبِهِمَا مِنْ غَيْرِ اشْتِغَالٍ بِطَلَبِ الْفَائِدَةِ كَمَا أَنَّ فِي الْآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ وَجَبَ الْإِيمَانُ مِنْ غَيْرِ اشْتِغَالٍ بِالتَّأْوِيلِ، قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ أَصْلَحَهُ اللَّهُ إنْ كَانَ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ مَا ذَكَرَ هَذَا الشَّارِحُ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْوُجُودُ بِالْآمِرِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِيجَادِ أَوْ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِ أَصْلًا بَلْ هُوَ عَلَامَةٌ تَعْرِفُ بِهَا الْمَلَائِكَةُ أَنَّ عِنْدَهُ يَحْدُثُ خَلْقٌ كَمَا هُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْمَطْلَعِ وَعَيْنِ الْمَعَانِي؛ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ كِلَاهُمَا عِلَّةً وَاحِدَةً لِلْوُجُودِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى افْتِقَارِ صِفَةِ الْإِيجَادِ إلَى شَيْءٍ آخَرَ فِي إثْبَاتِ مُوجِبِهِ وَذَلِكَ دَلَالَةُ النُّقْصَانِ تَعَالَى صِفَاتُهُ عَنْ ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الْإِرَادَةُ فَإِنَّ الْوُجُودَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْإِرَادَةِ أَيْضًا كَمَا هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْإِيجَادِ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ نُقْصَانُ صِفَةِ الْإِيجَادِ؛ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ مِنْ أَسْبَابِهِ أَوْ شَرَائِطِهِ وَلَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي الْوُجُودِ وَكَلَامُنَا فِيمَا هُوَ مُؤَثِّرٌ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْوُجُودِ وَبَيْنَ الْإِيجَادِ أَوْ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ فَكَانَ مِنْ قَبِيلِ الْعِلَلِ لَا مِنْ قَبِيلِ الْأَسْبَابِ بِخِلَافِ الْإِرَادَةِ؛ لِأَنَّ الْوُجُودَ لَا يُضَافُ إلَيْهَا بِلَا وَاسِطَةٍ أَوْ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ عِلَّةً لِلْوُجُودِ وَثُبُوتُ مَعْلُولٍ وَاحِدٍ بِعِلَّتَيْنِ مُحَالٌ؛ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَا يَسْتَقِيمُ التَّمَسُّكُ بِهَذَا النَّصِّ عَلَى الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْوُجُودَ لَمَّا تَعَلَّقَ بِالْإِيجَادِ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْخِطَابِ لَا يَكُونُ الْوُجُودُ قَرِينَةً لِلْأَمْرِ وَحُكْمًا لَهُ فَكَيْفَ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ فَثَبَتَ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ الْوُجُودُ مُتَعَلِّقًا بِالْخِطَابِ لَا بِالْإِيجَادِ عِنْدَ الشَّيْخِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ لِيَصِحَّ تَمَسُّكُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ. ، يُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَنَّ الْمُرَادَ حَقِيقَةُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عِنْدَنَا لَا أَنْ يَكُونَ مَجَازًا عَنْ التَّكْوِينِ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ، فَإِنَّا نَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مُحْدَثٍ وَلَا مَخْلُوقٍ؛ لِأَنَّهُ سَابِقٌ عَلَى الْمُحْدَثَاتِ أَجْمَعْ يُرِيدُ بِهِ مَا تَمَسَّكَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ فِي إثْبَاتِ أَزَلِيَّةِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا: إنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ الْمَخْلُوقَاتِ بِخِطَابِ كُنْ فَلَوْ كَانَ هَذَا مَخْلُوقًا لَاحْتَاجَ إلَى خِطَابٍ آخَرَ، وَكَذَا فِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى، وَقَدْ اسْتَدَلَّ الشَّيْخُ أَيْضًا فِي نُسْخَةٍ أُخْرَى بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ مَعَ أَنَّهُ جَعَلَ الْأَمْرَ فِيهَا كِنَايَةً عَنْ الْإِيجَادِ فَقَالَ كُنْ صِيغَةُ الْأَمْرِ وَالْمُرَادُ مِنْ الْأَمْرِ الْإِيجَادُ كَنَّى بِالْأَمْرِ عَنْ الْإِيجَادِ وَالْكِنَايَةُ لَا يَصِحُّ إلَّا لِمُشَابَهَةٍ بَيْنَهُمَا وَلَا مُشَابَهَةَ بَيْنَهُمَا إلَّا بِطَرِيقِ السَّبَبِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ ثُمَّ

وَقَالَ {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25] فَقَدْ نَسَبَ وَأَضَافَ الْقِيَامَ إلَى الْأَمْرِ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى حَقِّيَّةَ الْوُجُودِ مَقْصُودًا بِالْأَمْرِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] ـــــــــــــــــــــــــــــQالْإِيجَابُ حَامِلٌ عَلَى الْوُجُودِ فَصَارَ الْوُجُودُ مُضَافًا إلَى الْأَمْرِ بِوَاسِطَةِ الْوُجُوبِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الطَّرِيقَ الْأَوَّلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْأَمْرِ لِلْوُجُودِ ثُمَّ نُقِلَ إلَى الْوُجُوبِ لِمَا سَنَذْكُرُهُ وَالطَّرِيقُ الثَّانِي يُشِيرُ إلَى أَنَّ أَصْلَهُ لِلْوُجُوبِ ثُمَّ اُسْتُعِيرَ لِلْإِيجَادِ اسْتِعَارَةُ السَّبَبِ لِلْمُسَبَّبِ (فَإِنْ قِيلَ) فَعَلَى مَا اخْتَارَ الشَّيْخُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَلْزَمُ مِنْهُ الْأَمْرُ لِلْمَعْدُومِ وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ لِعَدَمِ شَرْطِهِ، وَهُوَ الْفَهْمُ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لَيْسَا بِمَأْمُورَيْنِ لِعَدَمِ الْفَهْمِ وَالْمَعْدُومُ سَوَاءٌ حَالًا مِنْهُمَا. (قُلْنَا) هَذَا أَمْرُ تَكْوِينٍ لَا أَمْرُ تَكْلِيفٍ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْفَهْمِ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِمْكَانِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَمْرَ التَّكْلِيفِ الَّذِي مِنْ شَرْطِهِ الْوُجُودُ وَالْفَهْمُ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْدُومِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الشَّخْصَ الَّذِي سَيُوَحِّدُ يَصِيرُ مَأْمُورًا وَمُكَلَّفًا بِالْأَمْرِ الْأَزَلِيِّ الْقَائِمِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ السَّابِقِ عَلَى زَمَانِ وُجُودِ هَذَا الشَّخْصِ؛ وَلِهَذَا كُنَّا مَأْمُورِينَ بِأَوَامِرِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ وَإِنْ كُنَّا مَعْدُومِينَ حِينَئِذٍ، وَمَنْ أَنْكَرَهُ فَهُوَ مُعَانِدٌ، فَكَذَلِكَ يَصِحُّ أَمْرُ التَّكْوِينِ عَلَى تَقْدِيرِ مَا تُصَوِّرَ كَوْنُهُ فِي عِلْمِهِ إلَى هَذَا أُشِيرَ فِي عَيْنِ الْمَعَانِي، وَأُجِيبَ عَنْهُ أَيْضًا بِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْمَعْدُومِ إنَّمَا لَا يَصِحُّ إذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ فَائِدَةٌ وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ أَعْظَمُ الْفَوَائِدِ هَهُنَا، وَهُوَ الْوُجُودُ فَلِذَلِكَ صَحَّ، وَهَلْ يُسَمَّى الْأَمْرُ لِلْمَعْدُومِ فِي الْأَزَلِ أَمْرًا وَخِطَابًا الْحَقُّ أَنَّهُ يُسَمَّى أَمْرًا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ هُوَ الطَّلَبُ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْأَزَلِ وَلَا يُسَمَّى خِطَابًا عُرْفًا فَإِنَّهُ يَصِحُّ مِنَّا أَنْ نَقُولَ أَمَرَنَا النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِكَذَا وَلَا يَصِحُّ أَنْ نَقُولَ خَاطَبَنَا بِكَذَا قَوْله تَعَالَى (وَمِنْ آيَاتِهِ الْآيَةُ) أَيْ وَمِنْ آيَاتِهِ قِيَامُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاسْتِمْسَاكُهُمَا بِغَيْرِ عَمْدٍ، قَالَ الْفَرَّاءُ: أَنْ تَدُومَا قَائِمَتَيْنِ أَيْ ثَابِتَتَيْنِ تَمَامًا لِمَنَافِع الْخَلْقِ، بِأَمْرِهِ بِأَنْ أَمَرَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ لَهُمَا كُونَا قَائِمَتَيْنِ، وَقِيلَ بِإِقَامَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ، وَسِيَاقُ كَلَامِ الشَّيْخِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ عِبَارَةٌ عَنْ الْوُجُودِ عِنْدَهُ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَمَا اخْتَارَ هَهُنَا فَالتَّمَسُّكُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، " وَمَقْصُودًا " حَالٌ عَنْ الْوُجُودِ وَالْعَامِلُ فِيهَا حَقِّيَّةَ إذْ هِيَ مَصْدَرٌ وَالتَّقْدِيرُ حَقُّ الْوُجُودِ مَقْصُودًا. وَإِنْ كَانَ كِنَايَةً عَنْ الْإِيجَادِ فَهُوَ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ أَنَّهُ تَعَالَى كَنَّى بِالْأَمْرِ عَنْ إيجَادِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا وَلَا طَرِيقَ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ الْأَمْرُ إيجَابًا حَتَّى يُحْمَلَ الْمَأْمُورُ عَلَى الْإِيجَادِ فَيَحْصُلُ الْوُجُودُ فَيَصِيرُ الْأَمْرُ سَبَبًا لِلْوُجُودِ فَيَصِحُّ الْكِنَايَةُ بِطَرِيقِ السَّبَبِيَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ قَوْلُهُ قَوْله تَعَالَى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ} [النور: 63] الْآيَةُ يُقَالُ خَالَفَنِي فُلَانٌ إلَى كَذَا إذَا قَصَدَهُ وَأَنْتَ مُعْرِضٌ عَنْهُ وَخَالَفَنِي عَنْهُ إذَا أَعْرَضَ عَنْهُ وَأَنْتَ قَاصِدُهُ، وَيَلْقَاك الرَّجُلُ صَادِرًا عَنْ الْمَاءِ فَتَسْأَلُهُ عَنْ صَاحِبِهِ فَيَقُولُ خَالَفَنِي إلَى الْمَاءِ يُرِيدُ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ إلَيْهِ وَارِدًا وَأَنَا ذَاهِبٌ عَنْهُ صَادِرًا، فَمِنْ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88] يَعْنِي أَنْ أَسْبِقَكُمْ إلَى شَهَوَاتِكُمْ الَّتِي نَهَيْتُكُمْ عَنْهَا لِأَسْتَبِدَّ بِهَا دُونَكُمْ، وَمِنْ الثَّانِي قَوْلُهُ عَزَّ ذِكْرُهُ {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] أَيْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَمْرِهِ أَيْ يُعْرِضُونَ وَهُمْ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُخَالِفُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُخَالَفٍ فَاسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ بِذِكْرِ الْمُخَالِفِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ ذِكْرُ الْمُخَالِفِ وَالْمُخَالِفِ عَنْهُ لَا غَيْرُ،

وَكَذَلِكَ دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ طَلَبَ فِعْلِ لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ أَنْ يَطْلُبَهُ إلَّا بِلَفْظِ الْأَمْرِ، وَالدَّلِيلُ الْمَعْقُولُ أَنَّ تَصَارِيفَ الْأَفْعَالِ وُضِعَتْ لَمَعَانٍ عَلَى الْخُصُوصِ كَسَائِرِ الْعِبَارَاتِ فَصَارَ مَعْنَى الْمُضِيِّ لِلْمَاضِي حَقًّا لَازِمًا إلَّا بِدَلِيلٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالضَّمِيرُ فِي أَمْرِهِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، أَوْ لِلرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَى قَوْلِهِ {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] وَالدُّعَاءُ عَلَى طَرِيقِ الْعُلُوِّ مِمَّنْ هُوَ مُفْتَرِضُ الطَّاعَةِ أَمْرٌ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذُكِرَ عَنْ الْمُبَرِّدِ أَنَّ مَعْنَاهُ لَا تَجْعَلُوا أَمْرَهُ إيَّاكُمْ وَدُعَاءَهُ لَكُمْ إلَى شَيْءٍ كَمَا يَكُونُ مِنْ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ إذْ كَانَ أَمْرُهُ فَرْضًا لَازِمًا قَالَ وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24] وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَصْدَرُ مُضَافًا إلَى الْفَاعِلِ {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور: 63] مِحْنَةٌ فِي الدُّنْيَا وَيُصِيبُهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الْآخِرَةِ. ، وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ أَنَّهُ تَعَالَى أَلْحَقَ الْوَعِيدَ بِمُخَالَفَةِ أَمْرِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُطْلَقًا وَمُخَالَفَةُ أَمْرِهِ هِيَ تَرْكُ مَا أَمَرَ بِهِ إذْ الْمُخَالَفَةُ ضِدُّ الْمُوَافَقَةِ وَمُوَافَقَتُهُ إتْيَانٌ بِمَا أَمَرَ بِهِ فَيَكُونُ مُخَالَفَتُهُ تَرْكُ ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُخَالَفَةُ أَمْرِهِ حَرَامًا مُطْلَقًا لَمَا أَلْحَقَ الْوَعِيدَ بِهِ وَإِذَا كَانَ مُخَالَفَةُ أَمْرِهِ، وَهِيَ تَرْكُ الْمَأْمُورِ بِهِ مُطْلَقًا حَرَامًا يَكُونُ الْإِتْيَانُ بِالْمَأْمُورِ بِهِ وَاجِبًا ضَرُورَةً وَإِذَا كَانَ إتْيَانُ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَاجِبًا كَانَ الْإِتْيَانُ بِمَا أَمَرَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى كَذَلِكَ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى كَذَا فِي الْمِيزَانِ وَغَيْرِهِ، وَفِي التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الْآيَةِ اعْتِرَاضَاتٌ مَعَ أَجْوِبَتِهَا صَفَحْنَا عَنْ ذِكْرِهَا احْتِرَازًا عَنْ الْإِطْنَابِ (قَوْلُهُ) ، وَكَذَلِكَ دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ أَيْ الْإِجْمَاعُ فِي صُورَةٍ أُخْرَى يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْمَطْلُوبِ هَهُنَا، وَهُوَ أَنَّ الْعُقَلَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَطْلُبَ فِعْلًا مِنْ غَيْرِهِ لَا يَجِدُ لَفْظًا مَوْضُوعًا لِإِظْهَارِ مَقْصُودِهِ سِوَى صِيَغِ الْأَمْرِ فَهَذَا الْإِجْمَاعُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْأَمْرِ وُجُودُ الْفِعْلِ وَأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لَهُ، وَإِلَّا لَمْ يَسْتَقِمْ طَلَبُهُمْ الْفِعْلَ مِنْ الْمَأْمُورِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ وَالدَّلَالَةُ تَعْمَلُ عَمَلَ الصَّرِيحِ إذَا لَمْ يُوجَدْ صَرِيحٌ يُخَالِفُهُ فَيَثْبُتُ بِهَا الْمُدَّعِي، وَنَظِيرُهُ إثْبَاتُ نَجَاسَةِ سُؤْرِ الْكَلْبِ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ الْمُنْعَقِدَ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَةِ سُؤْرِهِ؛ لِأَنَّ لِسَانَهُ يُلَاقِي الْمَاءَ دُونَ الْإِنَاءِ فَلَمَّا تَنَجَّسْ الْإِنَاءُ فَالْمَاءُ أَوْلَى. ، وَلَا يُقَالُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا لَفْظًا لِإِظْهَارِ هَذَا الْمَقْصُودِ سِوَى الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ أَوْجَبْت عَلَيْك كَذَا أَوْ أَلْزَمْت أَوْ أَطْلُبُ مِنْك كَذَا وَأَمْثَالُهَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَوْ قَالَ أَوْجَبْت عَلَيْكُمْ كَذَا أَوْ أَلْزَمْت كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ افْعَلُوا كَذَا فِي وُجُوبِ الْفِعْلِ بِالِاتِّفَاقِ، لِأَنَّا نَقُولُ لَا دَلَالَةَ لِمَا ذَكَرْت عَلَى الْمَطْلُوبِ مِنْ صِيَغِ الْأَمْرِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ الْإِيجَابِ وَالطَّلَبِ لَا إنْشَاءٌ وَكَلَامُنَا فِيهِ؛ وَلِهَذَا يَجْرِي فِيهِ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ وَلَا مَدْخَلَ لَهُمَا فِي الْإِنْشَاءِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْإِنْشَاءُ، وَيَصِيرُ كِنَايَةً عَنْ الْأَمْرِ فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ بِهِ الْإِلْزَامُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ كَمَا عُرِفَ وَصَارَ مَعْنَاهُ أَوْجَبْت عَلَيْك كَذَا لِأَنِّي أَمَرْتُك بِهِ، كَسَائِرِ الْعِبَارَاتِ مِنْ الْأَسَامِي مِثْلُ رَجُلٍ وَفَرَسٍ وَحِمَارٍ وَالْحُرُوفُ مِثْلُ مِنْ وَعَنْ وَإِلَى وَعَلَى، إلَّا بِدَلِيلٍ كَلُحُوقِ حَرْفِ الشَّرْطِ بِهِ فِي قَوْلِك إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ وَكَعَدِمِ إمْكَانِ إجْرَائِهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ مِثْلُ الْإِخْبَارِ عَنْ أُمُورِ الْقِيَامَةِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34] {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74] {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الزمر: 71] {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [الزمر: 73] ، عَبَّرَ بِهَا عَنْ الْمَاضِي لِتَحَقُّقِهِ وَكَوْنِهِ ثَابِتًا لَا مَحَالَةَ

وَكَذَلِكَ الْحَالُ وَاحْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الِاسْتِقْبَالِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ مَوْضُوعِهِ، فَكَذَلِكَ صِيغَةُ الْأَمْرِ لِطَلَبِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَيَكُونُ حَقًّا لَازِمًا بِهِ عَلَى أَصْلِ الْوَضْعِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمْرَ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ لَازِمُهُ ائْتَمَرَ، وَلَا وُجُودَ الْمُتَعَدِّي إلَّا أَنْ يَثْبُتَ لَازِمُهُ كَالْكَسْرِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالِانْكِسَارِ فَقَضِيَّةُ الْأَمْرِ لُغَةً أَنْ لَا يَثْبُتَ إلَّا بِالِامْتِثَالِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَوْ ثَبَتَ بِالْأَمْرِ نَفْسِهِ لَسَقَطَ الِاخْتِيَارُ مِنْ الْمَأْمُورِ أَصْلًا ـــــــــــــــــــــــــــــQكَأَنَّهُ تَحَقَّقَ وَمَضَى، وَكَذَلِكَ الْحَالُ أَيْ كَمَا أَنَّ مَعْنَى الْمُضِيِّ لِلْمَاضِي لَازِمٌ، فَكَذَلِكَ مَعْنَى الْحَالِ لِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لَازِمٌ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَاحْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ الْمُضَارِعُ لِلِاسْتِقْبَالِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ مَوْضُوعِهِ، وَهُوَ الْحَالُ وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ بَعْضِ النُّحَاةِ وَبَعْضِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فَهُوَ حُرٌّ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَا هُوَ فِي مِلْكِهِ فِي الْحَالِ وَلَا يَتَنَاوَلُ مَا سَيَمْلِكُهُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، فَكَذَلِكَ صِيغَةُ الْأَمْرِ لِطَلَبِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَيَكُونُ الْمَأْمُورُ بِهِ حَقًّا لَازِمًا بِالْأَمْرِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ لِيُفِيدَ الْأَمْرُ فَائِدَتَهُ. ، وَقَوْلُهُ أَلَا تَرَى مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ حَقًّا لَازِمًا، أَوْ هُوَ تَوْضِيحٌ لِمَا ثَبَتَ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ؛؛ لِأَنَّ جَمِيعَهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوجِبَ الْأَمْرِ هُوَ الْوُجُودُ إلَّا قَوْله تَعَالَى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ} [النور: 63] فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوجِبَهُ الْوُجُوبُ فَاسْتَوْضَحَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمْرَ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ إلَى آخِرِهِ (فَإِنْ قِيلَ) لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ الِائْتِمَارُ أَيْ الِامْتِثَالُ لَازِمًا لِلْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِهِ اللَّازِمَ اللُّغَوِيَّ فَالِائْتِمَارُ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ يُقَالُ ايِتَمَرَ زَيْدٌ عُمْرًا وَاللَّازِمُ إنَّمَا سُمِّيَ لَازِمًا لِلُزُومِهِ عَلَى الْفَاعِلِ وَعَدَمِ تَعَدِّيهِ إلَى الْغَيْرِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ اللَّازِمَ الْحَقِيقِيَّ الَّذِي يَنْتَفِي الْمَلْزُومُ بِانْتِفَائِهِ فالائتمار لَيْسَ كَذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الِامْتِثَالِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمْرَ قَدْ يَتَحَقَّقُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِلْكَفَّارَةِ بِالْإِيمَانِ بِدُونِ الِائْتِمَارِ مِنْهُمْ وَلِهَذَا صَحَّ أَنْ يُقَالَ أَمَرْته فَلَمْ يَأْتَمِرْ كَمَا صَحَّ أَنْ يُقَالَ أَمَرْته فَائْتَمَرَ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ كَسَرْته فَلَمْ يَنْكَسِرْ (قُلْنَا) أَنَّا لَا نُنْكِرُ أَنَّ الِائْتِمَارَ مُتَعَدٍّ فِي ذَاتِهِ وَلَكِنْ مَا هُوَ مُتَعَدٍّ إلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ قَدْ يَكُونُ لَازِمًا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا هُوَ مُتَعَدٍّ إلَى مَفْعُولَيْنِ لِلُزُومِهِ عَلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ الْوَاحِدِ وَعَدَمُ تَعَدِّيهِ إلَى الْمَفْعُولِ الْآخَرِ فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا أَيْ مُطَاوِعًا لِمَا هُوَ مُتَعَدٍّ إلَى مَفْعُولَيْنِ كَمَا يُقَالُ عَلَّمْته الْقُرْآنَ فَتَعَلَّمَهُ وَأَطْعَمْته الطَّعَامَ فَطَعِمَهُ وَكَسَوْته الثَّوْبَ فَاكْتَسَاهُ وَالْأَمْرُ مُتَعَدٍّ إلَى مَفْعُولَيْنِ إلَى أَحَدِهِمَا بِنَفْسِهِ وَإِلَى الْآخَرِ بِالْبَاءِ يُقَالُ أَمَرْت زَيْدًا بِكَذَا فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الِائْتِمَارُ لَازِمًا لَهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ الِائْتِمَارُ لَيْسَ بِلَازِمٍ حَقِيقِيٍّ لَهُ لِتَحَقُّقِ الْأَمْرِ بِدُونِهِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ. وَهُوَ أَنَّ الِائْتِمَارَ لَازِمُ الْأَمْرِ فِي الْأَصْلِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ حُصُولُ الْفِعْلِ كَمَا أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ الْكَسْرِ حُصُولُ الِانْكِسَارِ وَلِهَذَا يُقَالُ أَمَرْته فَائْتَمَرَ كَمَا يُقَالُ كَسَرْته فَانْكَسَرَ فَكَمَا لَا يَتَحَقَّقُ الْكَسْرُ بِدُونِ الِانْكِسَارِ فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ الْأَمْرُ بِدُونِ الِائْتِمَارِ بِالنَّظَرِ إلَى الْأَصْلِ إلَّا أَنَّ الِائْتِمَارَ لَوْ جُعِلَ لَازِمَ الْأَمْرِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْأَصْلِ حَتَّى يَثْبُتَ الِائْتِمَارُ بِنَفْسِ الْأَمْرِ لَسَقَطَ الِاخْتِيَارُ مِنْ الْمَأْمُورِ أَصْلًا وَصَارَ مُلْحَقًا بِالْجَمَادَاتِ وَفِيهِ نُزُوعٌ إلَى مَذْهَبِ الْجَبْرِ فَلِذَلِكَ نَقَلَ الشَّرْعُ حُكْمَ الْوُجُودِ، وَهُوَ كَوْنُهُ لَازِمًا لِلْأَمْرِ عَنْهُ إلَى الْوُجُوبِ لِكَوْنِهِ مُفْضِيًا إلَى الْوُجُودِ نَظَرًا إلَى الْعَقْلِ وَالدِّيَانَةِ فَصَارَ الْوُجُوبُ لَازِمًا لِلْأَمْرِ بَعْدَمَا كَانَ الْوُجُودُ لَازِمًا لَهُ. وَقَوْلُهُ حَقًّا أَيْ ثَابِتًا حَالٌ عَنْ الْوُجُوبِ، وَقَوْلُهُ بِالْأَمْرِ مُتَعَلِّقٌ بِحَقًّا قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي نُسْخَةٍ أُخْرَى فَاجْتَمَعَ هَهُنَا مَا يُوجِبُ الْوُجُودَ عَقِيبَ الْأَمْرِ وَمَا يُوجِبُ التَّرَاخِيَ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ جَانِبِ الْأَمْرِ يُوجِبُ الْوُجُودَ عَقِيبَهُ وَاعْتِبَارُ كَوْنِ الْمَأْمُورِ مُخَاطَبًا

وَلِلْمَأْمُورِ عِنْدَنَا ضَرْبٌ مِنْ الِاخْتِيَارِ؛ وَإِنْ كَانَ ضَرُورِيًّا فَنَقَلَ حُكْمَ الْوُجُودِ إلَى الْوُجُوبِ حَقًّا لَازِمًا بِالْأَمْرِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى اخْتِيَارِ الْمَأْمُورِ تَوَقُّفَ الْوُجُودِ عَلَى اخْتِيَارِ الْمَأْمُورِ صِيَانَةً وَاحْتِرَازًا عَنْ الْجَبْرِ؛ فَلِذَلِكَ صَارَ الْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ وَلَوْ وَجَبَ التَّوَقُّفُ فِي حُكْمِ الْأَمْرِ لَوَجَبَ فِي النَّهْيِ فَيَصِيرُ حُكْمُهُمَا وَاحِدًا، وَهُوَ بَاطِلٌ وَمَا اعْتَبَرَهُ الْوَاقِفِيَّةُ مِنْ الِاحْتِمَالِ يُبْطِلُ الْحَقَائِقَ كُلَّهَا، وَذَلِكَ مُحَالٌ أَلَا تَرَى أَنَّا لَمْ نَدَّعِ أَنَّهُ مُحْكَمٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQمُكَلَّفًا يُوجِبُ التَّرَاخِيَ إلَى حِينِ إيجَادِهِ فَاعْتَبَرْنَا الْمَعْنَيَيْنِ وَأَثْبَتْنَا بِالْأَمْرِ آكَدُ مَا يَكُونُ مِنْ وُجُوهِ الطَّلَبِ، وَهُوَ الْوُجُوبُ خَلَفًا عَنْ الْوُجُودِ وَقُلْنَا بِتَرَاخِي حَقِيقَةِ الْوُجُودِ إلَى اخْتِيَارِهِ وَقَالَ أَبُو الْيُسْرِ: الِائْتِمَارُ مِنْ حُكْمِ الْأَمْرِ كَمَا أَنَّ الِانْكِسَارَ مِنْ حُكْمِ الْكَسْرِ إلَّا أَنَّ حُصُولَهُ بِفِعْلٍ مُخْتَارٍ فَيَقْتَضِي وُجُوبَ الْفِعْلِ حَتَّى يَحْصُلَ الِائْتِمَارُ فَإِنَّ الِائْتِمَارَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ حُكْمِ الْأَمْرِ أَنَّ الْمَأْمُورَ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَا اخْتِيَارٍ فِي الِائْتِمَارِ يَحْصُلُ الِائْتِمَارُ عَقِيبَ الْأَمْرِ بِلَا وَاسِطَةٍ كَالِانْكِسَارِ عَقِيبَ الْكَسْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْمِ مُوسَى {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] وَقَدْ حَصَلَ الِائْتِمَارُ عَقِيبَ الْأَمْرِ وَقَدْ أَنْبَأَنَا عَنْ الِائْتِمَارِ عَقِيبَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117] وَجَعَلَ الْقِيَامَ مُوجِبَ الْأَمْرِ فِيمَا لَا اخْتِيَارَ لَهُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25] فَعَرَفْنَا أَنَّ الِائْتِمَارَ مُوجِبُ الْأَمْرِ كَمَا أَنَّ الِانْكِسَارَ مُوجِبُ الْكَسْرِ قَوْلُهُ (وَلِلْمَأْمُورِ ضَرْبٌ مِنْ الِاخْتِيَارِ) إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ الْمُطْلَقَ الْكَامِلَ لِلَّهِ تَعَالَى وَاخْتِيَارُ الْعَبْدِ تَابِعٌ لِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29] وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ نَجْمُ الدِّينِ النَّسَفِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فِي بَيَانِ الِاعْتِقَادِ بِالْفَارِسِيَّةِ آن مُخْتَارِي كه جُمْلَة مُخْتَارَانِ بِاخْتِيَارِ خَوْد جزان نكند كه أَوْ خواهد وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ. وَإِنْ كَانَ ضَرُورِيًّا يَعْنِي لَمَّا لَمْ يَسَعْ لِلْعَبْدِ أَنْ يَخْتَارَ خِلَافَ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ كَانَ مُضْطَرًّا فِي ذَلِكَ الِاخْتِيَارِ كَالْمُكْرَهِ عَلَى الْمَشْيِ إلَى الْمَقْتَلِ فَإِنَّهُ مُخْتَارٌ فِي رَفْعِ الْأَقْدَامِ حَقِيقَةً، وَفِي حَمْلِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ نَفْيُ مَذْهَبِ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ جَمِيعًا فَإِنَّ الْفِرْقَةَ الْأُولَى نَفَتْ اخْتِيَارَ الْعَبْدِ أَصْلًا وَالْفِرْقَةَ الثَّانِيَةَ أَثْبَتُوهُ مُطْلَقًا حَتَّى كَانَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَخْتَارَ خِلَافَ مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ عِنْدَهُمْ فَأَثْبَتَ الشَّيْخُ أَمْرًا بَيْنَ أَمْرَيْنِ كَمَا هُوَ دَأْبُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي تَرْكِ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَبْدَ مُضْطَرٌّ فِي ثُبُوتِ هَذِهِ الصِّفَةِ لَهُ كَمَا هُوَ مُضْطَرٌّ فِي كَوْنِهِ عَاقِلًا وَجَاهِلًا وَأَبْيَضَ وَأَسْوَدَ وَطَوِيلًا وَقَصِيرًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ إثْبَاتُ هَذِهِ الصِّفَةِ وَلَا نَفْيُهَا كَمَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ إثْبَاتُ تِلْكَ الصِّفَاتِ وَلَا نَفْيُهَا، وَلَمَّا فَرَغَ عَنْ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى مُدَّعَاهُ وَإِلَى الْفَرَاغِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ شَرَعَ فِي الْجَوَابِ عَنْ شُبْهَةِ الْوَاقِفِيَّةِ، فَقَالَ وَلَوْ وَجَبَ التَّوَقُّفُ فِي حُكْمِ الْأَمْرِ لَوَجَبَ فِي حُكْمِ النَّهْيِ لِوُجُودِ الدَّاعِي إلَيْهِ عَلَى مَا زَعَمْتُمْ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، مِثْلَ التَّحْرِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا} [آل عمران: 130] وَالْكَرَاهَةُ كَالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ وَعَنْ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَالتَّنْزِيهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] وَالتَّحْقِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} [طه: 131] وَبَيَانُ الْعَاقِبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تَعْتَذِرُوا} [التوبة: 66] وَالْإِرْشَادُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101] وَالشَّفَقَةُ كَالنَّهْيِ عَنْ اتِّخَاذِ الدَّوَابِّ كَرَاسِيَّ وَالْمَشْيِ فِي نَعْلٍ وَاحِدٍ وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ حُكْمُهُمَا وَاحِدًا وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُمَا ضِدَّانِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللِّسَانِ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْأَثَرُ الثَّابِتُ بِالضِّدَّيْنِ شَيْئًا وَاحِدًا قَوْلُهُ (يَبْطُلُ الْحَقَائِقُ كُلُّهَا) ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ كَلَامٍ إلَّا وَفِيهِ احْتِمَالٌ قَرِيبٌ أَوْ بَعِيدٌ مِنْ نَسْخٍ أَوْ خُصُوصٍ أَوْ مَجَازٍ فَلَوْ أَوْجَبَ مُجَرَّدَ الِاحْتِمَالِ التَّوَقُّفَ لَتَعَطَّلَتْ النُّصُوصُ وَأَحْكَامُ الشَّرْعِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ قَوْلُهُ (أَلَا تَرَى أَنَّا لَمْ نَدَّعِ

[الأمر إذا أريد به الإباحة أو الندب]

وَإِذَا أُرِيدَ بِالْأَمْرِ الْإِبَاحَةُ أَوْ النَّدْبُ فَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: وَالْجَصَّاصُ: بَلْ هُوَ مَجَازٌ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْحَقِيقَةِ لَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَلَمَّا جَازَ أَنْ يُقَالَ إنِّي غَيْرُ مَأْمُورٍ بِالنَّفْلِ دَلَّ أَنَّهُ مَجَازٌ لِأَنَّهُ جَازَ أَصْلَهُ وَتَعَدَّاهُ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ مَعْنَى الْإِبَاحَةِ أَوْ النَّدْبِ مِنْ الْوُجُوبِ بَعْضُهُ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ قَاصِرٌ لَا مُغَايِرٌ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَنْتَظِمُهُ وَهَذَا أَصَحُّ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّهُ مُحْكَمٌ) أَيْ نَحْنُ مَا أَنْكَرْنَا احْتِمَالَ صِيغَةِ الْأَمْرِ غَيْرَ مَا وُضِعَ لَهُ مِنْ الْوُجُوبِ حَيْثُ لَمْ نَقُلْ إنَّهُ مُحْكَمٌ وَلَكِنَّا أَنْكَرْنَا ثُبُوتَ الْمُحْتَمَلِ عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ كَمَا حَقَّقْنَاهُ فِي أَوَّلِ بَابِ الْخُصُوصِ [الْأَمْر إذَا أُرِيدَ بِهِ الْإِبَاحَةُ أَوْ النَّدْبُ] قَوْلُهُ (وَإِذَا أُرِيدَ بِالْأَمْرِ الْإِبَاحَةُ وَالنَّدْبُ) إلَى قَوْلِهِ، وَهَذَا أَصَحُّ، جَمَعَ الشَّيْخُ بَيْنَ الْإِبَاحَةِ وَالنَّدْبِ وَبَيْنَ الْخِلَافِ فِيهِمَا عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ وَنَحْنُ نُبَيِّنُ كُلَّ فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ فَنَقُولُ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ فِي أَنَّهُ إذَا أُرِيدَ بِهِ النَّدْبُ كَانَ حَقِيقَةً فِيهِ أَوْ مَجَازًا فَذَهَبَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّهُ مَجَازٌ فِيهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الْجَصَّاصِ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَصَدْرِ الْإِسْلَامِ أَبِي الْيُسْرِ وَالْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. ، قَالَ أَبُو الْيُسْرِ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَعَامَّةُ الْفُقَهَاءِ إنَّ الْأَمْرَ إذَا أُرِيدَ بِهِ النَّدْبُ فَهُوَ مَجَازٌ فِيهِ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ إلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ وَإِلَيْهِ مَالَ الشَّيْخُ، وَشُبْهَتُهُمْ أَنَّ الْمَنْدُوبَ بَعْضُ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ وَالنَّدْبُ مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ، فَإِذَا أُرِيدَ بِهِ النَّدْبُ فَقَدْ أُرِيدَ بِهِ بَعْضُ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ فَكَانَ حَقِيقَةً فِيهِ كَمَا لَوْ أُرِيدَ مِنْ الْعَامِ بَعْضُهُ يَكُونُ حَقِيقَةً فِيهِ وَكَمَا لَوْ أَطْلَقَ لَفْظَ الْإِنْسَانِ عَلَى الْأَعْمَى وَالْأَشَلِّ وَمَقْطُوعِ الرِّجْلِ يَكُونُ حَقِيقَةً؛ وَإِنْ فَاتَ بَعْضُهُ، وَكَيْفَ لَا وَمِنْ شَرْطِ الْمَجَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ مُغَايِرًا لِلْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ؛ لِأَنَّهُ جُزْؤُهُ إلَّا أَنَّهُ قَاصِرٌ فَكَيْفَ يَكُونُ اللَّفْظُ فِيهِ مَجَازًا؛ وَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِ ثُبُوتِ الْمَجَازِ انْتِفَاءُ الْحَقِيقَةِ بِالْكُلِّيَّةِ فَمَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الْحَقِيقَةِ لَا يَتَحَقَّقُ الشَّرْطُ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْمَجَازُ وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْأَمْرَ حَقِيقَةٌ فِي الْإِيجَابِ، فَإِذَا اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِهِ يَكُونُ مَجَازًا كَمَا لَوْ اُسْتُعْمِلَ فِي التَّهْدِيدِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّدْبَ غَيْرُ الْإِيجَابِ أَنَّ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيجَابِ اسْتِحْقَاقُ الْعُقُوبَةِ عَلَى التَّرْكِ وَمِنْ لَوَازِمِ النَّدْبِ عَدَمُ اسْتِحْقَاقِهَا عَلَى التَّرْكِ وَبِاشْتِرَاكِهِمَا فِي اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ لَا يَنْتَفِي هَذِهِ الْغَيْرِيَّةُ فَثَبَتَ أَنَّهُ مَجَازٌ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ نَفْيُهُ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ مَا أُمِرْت بِصَلَاةِ الضُّحَى وَلَا بِصَوْمِ أَيَّامِ الْحَيْضِ يَصِحُّ وَلَا يَكْذِبُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ مَا أُمِرْت بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَلَا بِصِيَامِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَكْذِبُ بَلْ يَكْفُرُ وَصِحَّةُ التَّكْذِيبِ وَالنَّفْيِ مِنْ خَوَاصِّ الْمَجَازِ، وَلَيْسَ هَذَا كَالْعَامِّ إذَا أُرِيدَ بِهِ بَعْضُهُ فَإِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِشُمُولِ جَمْعٍ مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ لَا لِاسْتِغْرَاقِهَا عِنْدَنَا وَالشُّمُولُ مَوْجُودٌ فِي الْبَعْضِ وَالْكُلِّ حَتَّى إنَّ مَنْ شَرَطَ الِاسْتِغْرَاقَ فِيهِ يَقُولُ إنَّهُ مَجَازٌ فِي الْبَعْضِ أَيْضًا. ، وَكَذَا لَفْظُ الْإِنْسَانِ مَوْضُوعٌ بِإِزَاءِ مَعْنَى الْإِنْسَانِيَّةِ وَبِالْعَمَى وَالشَّلَلِ لَا يُنْتَقَضُ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِخِلَافِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلطَّلَبِ الْمَانِعِ مِنْ النَّقِيضِ وَالنَّدْبُ مُغَايِرٌ لَهُ لَا مَحَالَةَ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْمَجَازِ انْتِفَاءُ الْحَقِيقَةِ بِالْكُلِّيَّةِ بَلْ الشَّرْطُ انْتِفَاءُ الْكُلِّيَّةِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِانْتِفَاءِ جُزْءٍ مِنْهَا كَمَا يَحْصُلُ بِانْتِفَاءِ كُلِّهَا، يُوَضِّحُهُ أَنَّ أَهْلَ اللِّسَانِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ مِنْ جِهَاتِ الْمَجَازِ وَلَوْ كَانَ الِانْتِفَاءُ بِالْكُلِّيَّةِ شَرْطًا لَمَا صَحَّ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ. وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِهِ الْإِبَاحَةُ فَقَدْ ذَكَرَ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ فِي أُصُولِهِ أَنَّ الْمُبَاحَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ سِوَى طَائِفَةٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ الْبَغْدَادِيَّةِ وَهَذَا

[الأمر بعد الحظر]

وَيَتَّصِلُ بِهَذَا الْأَصْلِ أَنَّ الْأَمْرَ بَعْدَ الْحَظْرِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ لَا مَحَلَّةٌ بَلْ هُوَ لِلْإِيجَابِ عِنْدَنَا إلَّا بِدَلِيلٍ اسْتِدْلَالًا بِأَصْلِهِ وَصِيغَتِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلٌ شَاذٌّ خَارِجٌ عَنْ الْإِجْمَاعِ وَذَكَرَ أَبُو الْيُسْرِ وَصَاحِبُ الْمِيزَانِ أَنَّهُ إذَا أُرِيدَ بِهِ الْإِبَاحَةُ فَهُوَ مَجَازٌ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ طَلَبُ تَحْصِيلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَلَيْسَ فِي الْإِبَاحَةِ طَلَبٌ بَلْ مَعْنَاهُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إنْ شَاءَ فَعَلَ؛ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ فَلَمْ يَكُنْ أَمْرًا بَلْ كَانَ إرْشَادًا فَكَانَ مَجَازًا فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ بِخِلَافِ مَا إذَا أُرِيدَ بِهِ النَّدْبُ فَإِنَّ فِيهِ طَلَبَ تَحْصِيلِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحُكْمَ بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْإِبَاحَةِ مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِأَنْ يُجْعَلَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ أَوْ بِالْمَعْنَوِيِّ، وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ مَوْضُوعًا لِلْإِذْنِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الشِّيعَةِ. ، وَكَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي النَّدْبِ مَعَ كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي الْوُجُوبِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِأَنْ يُجْعَلَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ أَوْ الْمَعْنَوِيِّ بِأَنْ يُجْعَلَ مَوْضُوعًا لِمُطْلَقِ الطَّلَبِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا مِنْ مَشَايِخِ سَمَرْقَنْدَ وَمَذْهَبُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فَأَمَّا مَنْ جَعَلَهُ خَاصًّا فِي الْوُجُوبِ عَيْنًا فَلَا يُمْكِنُهُ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي غَيْرِهِ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْمِيزَانِ، وَإِذَا حَقَّقْت مَا ذَكَرْنَا عَرَفْت أَنَّ الْخِلَافَ فِيهِمَا لَيْسَ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ فِي قَوْلِهِ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ، وَعَرَفْت أَيْضًا أَنَّ قَوْلَهُ وَهَذَا أَصَحُّ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ الْعَامَّةِ بَلْ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْيُسْرِ وَوَجْهُهُ مَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ النَّدْبَ وَالْإِبَاحَةَ لَيْسَا بِمُغَايِرَيْنِ لِلْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الْغِيَرَيْنِ مَوْجُودَانِ جَازَ وُجُودُ أَحَدِهِمَا بِدُونِ الْآخَرِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَسْأَلَةِ الصِّفَاتِ وَالْوُجُوبُ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْإِبَاحَةِ وَالنَّدْبِ فَلَمْ يَكُونَا مُغَايِرَيْنِ لِلْوُجُوبِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْأَمْرُ حَقِيقَةً فِيهِمَا وَظَهَرَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمْ يَتَجَاوَزْ عَنْ مَوْضُوعِهِ فَكَيْفَ يُسَمَّى مَجَازًا، وَلَكِنْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى النَّدْبِ الثَّوَابُ عَلَى الْفِعْلِ وَعَدَمُ الْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ وَمَعْنَى الْإِبَاحَةِ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ وَالْوُجُوبُ يُتَصَوَّرُ بِدُونِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ بَلْ لَا يَثْبُتُ مَعَهُمَا كَمَا يُتَصَوَّرُ النَّدْبُ وَالْإِبَاحَةُ بِدُونِ الْوُجُوبِ فَكَانَ مُغَايِرًا لَهُمَا أَلْبَتَّةَ فَيَكُونُ مَجَازًا فِيهِمَا، وَقَوْلُهُ زَعَمَ مَعْنَاهُ قَالَ لَكِنْ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّ مَنْ قَالَ كَلَامًا، وَكَانَ عِنْدَهُمْ كَاذِبًا فِيهِ قَالُوا زَعَمَ فُلَانٌ وَإِذَا كَانَ صَادِقًا عِنْدَهُمْ قَالُوا قَالَ فُلَانٌ وَمِنْهُ قِيلَ زَعَمَ كُنْيَةُ الْكَذِبِ، وَفِي التَّحْقِيقِ الزَّعْمُ ادِّعَاءُ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ وَلَا عِلْمَ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن: 7] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «، بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا» [الْأَمْرَ بَعْدَ الْحَظْرِ] قَوْلُهُ (وَيَتَّصِلُ بِهَذَا الْأَصْلِ) أَيْ بِالْأَمْرِ إذْ هُوَ أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّ مُوجِبَ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ قَبْلَ الْحَظْرِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ فَمَنْ قَالَ بِأَنَّ مُوجِبَهُ التَّوَقُّفُ أَوْ النَّدْبُ أَوْ الْإِبَاحَةُ قَبْلَ الْحَظْرِ فَكَذَلِكَ يَقُولُ بَعْدَهُ، وَمَنْ قَالَ بِأَنَّ مُوجِبَهُ الْوُجُوبُ قَبْلَ الْحَظْرِ فَعَامَّتُهُمْ عَلَى أَنَّ مُوجِبَهُ الْوُجُوبُ بَعْدَ الْحَظْرِ أَيْضًا، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّ مُوجِبَهُ قَبْلَ الْحَظْرِ الْوُجُوبُ وَبَعْدَهُ الْإِبَاحَةُ وَعَلَيْهِ دَلَّ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ كَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ الْمَذْكُورُ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ، وَرَأَيْت فِي نُسْخَةٍ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْفِعْلَ إنْ كَانَ مُبَاحًا فِي أَصْلِهِ ثُمَّ وَرَدَ حَظْرٌ مُعَلَّقٌ بِغَايَةٍ أَوْ بِشَرْطٍ أَوْ لِعِلَّةٍ عَرَضَتْ فَالْأَمْرُ الْوَارِدُ بَعْدَ زَوَالِ مَا عَلَّقَ الْحَظْرَ بِهِ يُفِيدُ الْإِبَاحَةَ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ كَانَ حَلَالًا عَلَى

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] لَكِنْ ذَلِكَ عِنْدَنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] ارْتَدَّهَا لَا بِصِيغَتِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْإِطْلَاقِ ثُمَّ حَرُمَ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ فَكَانَ قَوْله تَعَالَى {فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] إعْلَامًا بِأَنَّ سَبَبَ التَّحْرِيمِ قَدْ ارْتَفَعَ وَعَادَ الْأَمْرُ إلَى أَصْلِهِ؛ وَإِنْ كَانَ الْحَظْرُ وَارِدًا ابْتِدَاءً غَيْرَ مُعَلَّلٍ بِعِلَّةٍ عَارِضَةٍ وَلَا مُعَلَّقٍ بِشَرْطٍ وَلَا غَايَةٍ فَالْأَمْرُ الْوَارِدُ بَعْدَهُ هُوَ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ. ، وَذَكَرَ فِي الْمُعْتَمَدِ الْأَمْرُ إذَا وَرَدَ بَعْدَ حَظْرٍ عَقْلِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ أَفَادَ مَا يُفِيدُ لَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ حَظْرٌ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إنَّهُ يُفِيدُ بَعْدَ الْحَظْرِ الشَّرْعِيِّ الْإِبَاحَةَ وَهَذَا الْكَلَامُ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الْحَظْرِ الْعَقْلِيِّ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْإِبَاحَةِ مِثْلُ الْأَمْرِ بِالْقَتْلِ وَالذَّبْحِ، احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ يُفِيدُ الْإِبَاحَةَ بِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْأَمْرِ لِلْإِبَاحَةِ فِي أَغْلِبْ الِاسْتِعْمَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا} [الجمعة: 10] {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ أَلَا فَانْتَبِذُوا» وَكَقَوْلِ الرَّجُلِ لِعَبْدِهِ اُدْخُلْ الدَّارَ بَعْدَمَا قَالَ لَهُ لَا تَدْخُلْ الدَّارَ، فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ الْإِبَاحَةُ دُونَ الْوُجُوبِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَظْرَ الْمُتَقَدِّمَ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ رَفْعُ الْحَظْرِ لَا الْإِيجَابُ كَمَا أَنَّ عَجْزَ الْمَأْمُورِ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ ظُهُورُ عَجْزِهِ لَا وُجُودُ الْفِعْلِ فَصَارَ كَأَنَّ الْآمِرَ قَالَ قَدْ كُنْت مَنَعْتُك عَنْ كَذَا فَرَفَعْت ذَلِكَ الْمَنْعَ وَأَذِنْت لَك فِيهِ، وَاحْتَجَّ الْعَامَّةُ بِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلْوُجُوبِ قَائِمٌ، وَهُوَ الصِّيغَةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْوُجُوبِ إذْ الْوُجُوبُ هُوَ الْأَصْلُ فِيهَا وَالْعَارِضُ الْمَوْجُودُ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَمَا جَازَ الِانْتِقَالُ مِنْ الْمَنْعِ إلَى الْإِذْنِ جَازَ الِانْتِقَالُ مِنْهُ إلَى الْإِيجَابِ وَالْعِلْمُ بِهِ ضَرُورِيٌّ، كَيْفَ وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بَعْدَ الْحَظْرِ لِلْوُجُوبِ أَيْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] وَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا} [الأحزاب: 53] وَكَالْأَمْرِ لِلْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ بَعْدَ زَوَالِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ. وَكَالْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ بَعْدَ زَوَالِ السُّكْرِ، وَكَالْأَمْرِ بِالْقَتْلِ فِي شَخْصٍ حَرَامِ الْقَتْلِ بِالْإِسْلَامِ أَوْ الذِّمَّةِ بِارْتِكَابِ أَسْبَابٍ مُوجِبَةٍ لِلْقَتْلِ مِنْ الْحِرَابِ وَالرِّدَّةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَكَالْأَمْرِ بِالْحُدُودِ بِسَبَبِ الْجِنَايَاتِ بَعْدَمَا كَانَ ذَلِكَ مَحْظُورًا، وَكَقَوْلِ الرَّجُلِ لِعَبْدِهِ اسْقِنِي بَعْدَمَا قَالَ لَهُ لَا تَسْقِنِي فَهَذَا كُلُّهُ يُفِيدُ الْوُجُوبَ؛ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْحَظْرِ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَظْرَ الْمُتَقَدِّمَ لَا يَصْلُحُ قَرِينَةً لِصَرْفِ الصِّيغَةِ عَنْ الْوُجُوبِ إلَى الْإِبَاحَةِ كَمَا أَنَّ الْإِيجَابَ الْمُتَقَدِّمَ لَا يَصْلُحُ قَرِينَةً لِصَرْفِ النَّهْيِ الْوَارِدِ بَعْدَهُ عَنْ التَّحْرِيمِ إلَى الْكَرَاهَةِ أَوْ التَّنْزِيهِ بِالِاتِّفَاقِ؛ وَإِنَّمَا فُهِمَ الْإِبَاحَةُ فِيمَا ذَكَرُوا مِنْ النَّظَائِرِ بِقَرَائِنَ غَيْرِ الْحَظْرِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا الْحَظْرُ الْمُتَقَدِّمُ لَفُهِمَ مِنْهَا الْإِبَاحَةُ أَيْضًا، وَهِيَ أَنَّ الِاصْطِيَادَ وَأَخَوَاتِهَا شُرِعَتْ حَقًّا لِلْعَبْدِ، فَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَصَارَتْ حَقًّا عَلَيْهِ فَيَعُودُ الْأَمْرُ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُحْمَلْ الْأَمْرُ بِالْكِتَابَةِ عِنْدَ الْمُدَايَنَةِ وَلَا الْأَمْرُ بِالْإِشْهَادِ عِنْدَ الْمُبَايَعَةِ عَلَى الْإِيجَابِ؛ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ حَظْرٌ لِئَلَّا يَصِيرَ حَقًّا عَلَيْنَا بَعْدَمَا شُرِعَ حَقًّا لَنَا. قَوْلُهُ (وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ) إنَّمَا جَمَعَ الشَّيْخُ بَيْنَ النَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ؛ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الْقَوْلُ بِالنَّدْبِ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ؛ وَإِنَّمَا الْمَذْكُورُ فِيهَا الْإِبَاحَةُ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] إنَّهُ

[باب موجب الأمر في معنى العموم والتكرار]

ابْنُ سِيرِينَ نُسْخَةٌ وَمِنْ هَذَا الْأَصْلِ الِاخْتِلَافُ فِي الْمُوجِبِ (بَابُ مُوجِبِ الْأَمْرِ) : فِي مَعْنَى الْعُمُومِ وَالتَّكْرَارِ قَالَ بَعْضُهُمْ: صِيغَةُ الْأَمْرِ تُوجِبُ الْعُمُومَ وَالتَّكْرَارَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا بَلْ تَحْتَمِلُهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: لَا تُوجِبُهُ وَلَا تَحْتَمِلُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أَوْ مَخْصُوصًا بِوَصْفٍ وَقَالَ عَامَّةُ: مَشَايِخِنَا لَا تُوجِبُهُ وَلَا تَحْتَمِلُهُ بِكُلِّ حَالٍ غَيْرَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ يَقَعُ عَلَى أَقَلِّ جِنْسِهِ وَيَحْتَمِلُهُ كُلَّهُ بِدَلِيلِهِ مِثَالُ هَذَا الْأَصْلِ رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ طَلِّقِي نَفْسَك ـــــــــــــــــــــــــــــQأَمْرُ نَدْبٍ حَتَّى قِيلَ يُسْتَحَبُّ الْقُعُودُ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ لِنَدْبِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى ذَلِكَ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إذَا انْصَرَفْت مِنْ الْجُمُعَةِ فَسَاوِمْ بِشَيْءٍ.؛ وَإِنْ لَمْ تَشْتَرِهِ، وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ إنَّهُ لَيُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ لِي حَاجَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَأَقْضِيهَا بَعْدَ الِانْصِرَافِ كَذَا فِي التَّيْسِيرِ، وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ كِتَابِ الْكَسْبِ أَنَّهُ أَمْرُ إيجَابٍ فَقَالَ أَصْلُ الْكَسْبِ فَرِيضَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] يَعْنِي الْكَسْبَ وَالْأَمْرُ حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ، قَالَ وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْسِيرِ مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ قَالَ «طَلَبُ الْكَسْبِ بَعْدَ الصَّلَاةِ هُوَ الْفَرِيضَةُ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة: 10] » الْآيَةُ وَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ إنْ شِئْت فَاخْرُجْ؛ وَإِنْ شِئْت فَصَلِّ إلَى الْعَصْرِ وَإِنْ شِئْت فَاقْعُدْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَمْرُ إبَاحَةٍ قَوْلُهُ (وَمِنْ هَذَا الْأَصْلِ الِاخْتِلَافُ فِي الْمُوجِبِ) أَيْ وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْخَاصِّ الِاخْتِلَافُ فِي مُوجِبِ الْأَمْرِ فِي مَعْنَى التَّكْرَارِ قَدْ يَثْبُتُ بِمَا ذُكِرَ فِي الْبَابَيْنِ أَنَّ الصِّيغَةَ مَخْصُوصَةٌ بِالْوُجُوبِ، وَأَنَّ الْوُجُوبَ مُخْتَصٌّ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ وَلَا يَثْبُتُ بِغَيْرِهَا فَبَعْدَ ذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ ذَلِكَ الْوُجُوبَ الْمُخْتَصَّ بِالصِّيغَةِ يُوجِبُ الْعُمُومَ وَالتَّكْرَارَ أَمْ يُوجِبُ فِعْلًا وَاحِدًا خَاصًّا حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا وَهَذَا الْبَابُ لِبَيَانِهِ [بَابُ مُوجِبِ الْأَمْرِ فِي مَعْنَى الْعُمُومِ وَالتَّكْرَارِ] (بَابُ مُوجِبِ الْأَمْرِ) فِي مَعْنَى الْعُمُومِ وَالتَّكْرَارِ قِيلَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالتَّكْرَارِ أَنَّ الْعُمُومَ هُوَ أَنْ يُوجِبَ اللَّفْظُ مَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ الْأَفْعَالِ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الْعُمُومَ هُوَ الشُّمُولُ وَأَدْنَاهُ أَنْ يَكُونَ الْأَفْعَالُ ثَلَاثَةً وَالتَّكْرَارُ أَنْ يُوجِبَ فِعْلًا ثُمَّ آخَرَ ثُمَّ آخَرَ فَصَاعِدًا وَأَدْنَاهُ أَنْ يَكُونَ فِي فِعْلَيْنِ، وَبَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ: " طَلَّقَ " الْعُمُومُ فِيهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جُمْلَةً وَالتَّكْرَارُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ. ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُمَا الدَّوَامُ وَأَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ هَهُنَا؛ لِأَنَّ الْعُمُومَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ إلَّا بِطَرِيقِ التَّكْرَارِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُوجَدْ فِي سَائِرِ الْكُتُبِ إلَّا لَفْظَةُ الدَّوَامِ أَوْ التَّكْرَارِ، ذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ أَنَّ اسْتِعْمَالَ لَفْظِ التَّكْرَارِ هَهُنَا لَا يُرَادُ بِهِ حَقِيقَتُهُ؛ لِأَنَّهُ عَوْدٌ عَنْ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ؛ وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ تَجَدُّدُ أَمْثَالِهِ عَلَى التَّرَادُفِ وَهُوَ مَعْنَى الدَّوَامِ فِي الْأَفْعَالِ، وَفِي الْقَوَاطِعِ التَّكْرَارُ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا وَبَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهُ يَعُودُ إلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ اخْتَلَفُوا فِي إفَادَتِهِ التَّكْرَارَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ يُوجِبُ التَّكْرَارَ الْمُسْتَوْعِبَ لِجَمِيعِ الْعُمْرِ إلَّا إذَا قَامَ دَلِيلٌ يَمْنَعُ مِنْهُ وَيُحْكَى هَذَا عَنْ الْمُزَنِيّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي إِسْحَاقَ الإِسْفِرايِينِي مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَعَبْدِ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيِّ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَغَيْرُهُمْ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إنَّهُ لَا يُوجِبُ التَّكْرَارَ وَلَكِنْ يَحْتَمِلُهُ وَيُرْوَى هَذَا عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُوجِبِ وَالْمُحْتَمَلِ أَنَّ الْمُوجِبَ يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ وَالْمُحْتَمَلَ لَا يَثْبُتُ بِدُونِهَا وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يُوجِبُ التَّكْرَارَ وَلَا يَحْتَمِلُهُ لَكِنَّ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] أَوْ الْمُقَيَّدَ بِوَصْفٍ كَقَوْلِهِ

أَوْ قَالَ ذَلِكَ لِأَجْنَبِيٍّ فَإِنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ عَلَى الثَّلَاثِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَحْتَمِلُ الثَّلَاثَ وَالْمَثْنَى وَعِنْدَنَا يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدَةِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْكُلَّ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ مُخْتَصَرٌ مِنْ طَلَبِ الْفِعْلِ بِالْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ اسْمٌ لِجِنْسِ الْفِعْلِ وَالْمُخْتَصَرُ مِنْ الْكَلَامِ وَالْمُطَوَّلُ سَوَاءٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQتَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38] يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِمَّنْ قَالَ إنَّهُ لَا يُوجِبُ التَّكْرَارَ وَلَكِنْ يَحْتَمِلُهُ وَهَذَا الْقَوْلُ يَسْتَقِيمُ عَلَى أَصْلِهِمْ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَمَّا احْتَمَلَ التَّكْرَارَ عِنْدَهُمْ كَانَ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ أَوْ الْوَصْفِ قَرِينَةً دَالَّةً عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ الْمُحْتَمَلِ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ فِي ذَاتِهِ فَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلتَّعْلِيقِ وَالتَّقْيِيدِ فِي إثْبَاتِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ لَفْظَ وَلَا يَحْتَمِلُهُ؛ وَإِنَّمَا قَالَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي تَكْرَارًا وَلَكِنَّ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطٍ أَوْ وَصْفٍ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ. ، وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَيْضًا وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَذْهَبِ عُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - هَكَذَا قِيلَ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَيْسَ بِمُسْتَبْعَدٍ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يَكُونُ مُحْتَمَلًا لِلتَّكْرَارِ وَالْمُقَيَّدُ بِالشَّرْطِ يَحْتَمِلُهُ أَوْ يُوجِبُهُ؛ لِأَنَّ الْمُقَيَّدَ عَيْنُ الْمُطْلَقِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ احْتِمَالِ الْمُطْلَقِ التَّكْرَارَ عَدَمُ احْتِمَالِ الْمُقَيَّدِ إيَّاهُ وَالْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يُوجِبُ التَّكْرَارَ وَلَا يَحْتَمِلُهُ سَوَاءٌ كَانَ مُطْلَقًا أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أَوْ مَخْصُوصًا بِوَصْفٍ إلَّا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ يَقَعُ عَلَى أَقَلِّ جِنْسِهِ، وَهُوَ أَدْنَى مَا يُعَدُّ بِهِ مُمْتَثِلًا وَيَحْتَمِلُ كُلُّ الْجِنْسِ بِدَلِيلِهِ، وَهُوَ النِّيَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، قَالَ أَبُو الْيُسْرِ الْأَمْرُ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَلَا يَحْتَمِلُهُ مُعَلَّقًا كَانَ أَوْ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَحَاصِلُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْعُمُومَ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلْأَمْرِ وَلَا بِمُحْتَمِلٍ لَهُ وَلَكِنَّهُ يَثْبُتُ فِي ضِمْنِ مُوجِبِهِ بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ (أَوْ قَالَ ذَلِكَ لِأَجْنَبِيٍّ) أَيْ قَالَ لِأَجْنَبِيٍّ طَلِّقْ امْرَأَتِي؛ وَإِنَّمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا لِيُشِيرَ إلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ؛ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا تَمْلِيكًا وَتَفْوِيضًا حَتَّى اقْتَصَرَ عَلَى الْمَجْلِسِ وَامْتَنَعَ الرُّجُوعُ عَنْهُ وَالثَّانِي تَوْكِيلٌ مَحْضٌ حَتَّى لَا يَقْتَصِرَ عَلَى الْمَجْلِسِ وَيَمْلِكَ الرُّجُوعَ وَيَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْهُ قَوْلُهُ (وَاقِعٌ عَلَى الثَّلَاثِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ) وَهُمْ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ يُوجِبُ التَّكْرَارَ وَالْعُمُومَ عِنْدَهُمْ فَتَمْلِكُ هِيَ أَوْ هُوَ أَنْ يُطَلِّقَ نَفْسَهَا وَاحِدَةً وَثِنْتَيْنِ وَثَلَاثًا جُمْلَةً أَوْ عَلَى التَّفَارِيقِ كَذَا ذَكَرَهُ أَبُو الْيُسْرِ وَهَذَا إذَا لَمْ يَنْوِ الزَّوْجُ شَيْئًا أَوْ نَوَى ثَلَاثًا فَأَمَّا إذَا نَوَى وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى مَا نَوَى عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ أَوْجَبَ التَّكْرَارَ عِنْدَهُمْ إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَمْتَنِعُ عَنْهُ بِدَلِيلٍ وَالنِّيَّةُ دَلِيلٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَمَنْ وَافَقَهُ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدَةِ؛ وَإِنْ نَوَى ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى، وَعِنْدَنَا يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدَةِ إنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا أَوْ نَوَى وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَعَلَى مَا نَوَى. ؛ فَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا وَقَعْنَ جَمِيعًا؛ وَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ ثَانِيَةً وَثَالِثَةً فِي الْمَجْلِسِ، وَكَذَا الْوَكِيلُ إذَا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَانِيَةً وَثَالِثَةً فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَهُ مَا لَمْ يَنْعَزِلْ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْمَبْسُوطِ قَوْلُهُ (لَفْظُ الْآمِرِ مُخْتَصَرٌ مِنْ طَلَبِ الْفِعْلِ بِالْمَصْدَرِ) الْبَاءُ يَتَعَلَّقُ بِالطَّلَبِ، وَاللَّامُ فِي الْمَصْدَرِ بَدَلُ الْمُضَافِ إلَيْهِ، وَهُوَ الْآمِرُ أَوْ الضَّمِيرُ الرَّاجِعُ إلَيْهِ، وَاَلَّذِي صِفَةُ الْمَصْدَرِ أَيْ لَفْظُ الْأَمْرِ مُخْتَصَرٌ مِنْ طَلَبِ الْفِعْلِ بِمَصْدَرِ ذَلِكَ الْأَمْرِ؛ فَإِنَّ اضْرِبْ مُخْتَصَرٌ مِنْ قَوْلِك أَطْلُبُ مِنْك الضَّرْبَ وَانْصُرْ مُخْتَصَرٌ مِنْ قَوْلِك أَطْلُبُ مِنْك النَّصْرَ كَمَا أَنَّ ضَرْبَ مُخْتَصَرٌ مِنْ قَوْلِهِ فِعْلُ الضَّرْبِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي وَالْمُخْتَصَرُ مِنْ الْكَلَامِ وَالْمُطَوَّلُ فِي إفَادَةِ الْمَعْنَى سَوَاءٌ، فَإِنَّ قَوْلَك هَذَا جَوْهَرٌ مُضِيءٌ مُحْرِقٌ وَقَوْلُك هَذَا نَارٌ سَوَاءٌ وَقَوْلُك هَذَا شَرَابٌ مُسْكِرٌ مُعْتَصَرٌ مِنْ الْعِنَبِ، وَقَدْ غَلَى وَاشْتَدَّ

وَاسْمُ الْفِعْلِ اسْمٌ عَامٌّ لِجِنْسِهِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِعُمُومِهِ كَسَائِرِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ وَوَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ هُوَ مَا ذَكَرْنَا غَيْرَ أَنَّ الْمَصْدَرَ اسْمٌ نَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ فَأَوْجَبَ الْخُصُوصَ عَلَى احْتِمَالِ الْعُمُومِ أَلَا تَرَى أَنَّ نِيَّةَ الثَّلَاثِ صَحِيحَةٌ، وَهُوَ عَدَدٌ لَا مَحَالَةَ، فَكَذَلِكَ الْمُثَنَّى أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ فِي السُّؤَالِ عَنْ الْحَجِّ أَلِعَامِنَا هَذَا أَوْ لِلْأَبَدِ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ الِاسْتِدْلَال بِالنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] أَوْ احْتَجَّ مَنْ ادَّعَى التَّكْرَارَ بِحَدِيثِ «الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ حِينَ قَالَ فِي الْحَجِّ أَلِعَامِنَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ لِلْأَبَدِ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَلْ لِلْأَبَدِ» فَلَوْ لَمْ يَحْتَمِلْ اللَّفْظُ لَمَا أُشْكِلَ عَلَيْهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَعَ قَوْلِك هَذَا خَمْرٌ سَوَاءٌ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: اضْرِبْ وَأَطْلُبُ مِنْك الضَّرْبَ سَوَاءٌ، وَاسْمُ الْفِعْلِ، وَهُوَ الْمَصْدَرُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ اسْمٌ عَامٌّ لِجِنْسِ الْفِعْلِ أَيْ شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَفْرَادِهِ لِوُجُودِ حَرْفِ الِاسْتِغْرَاقِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ اسْمٌ عَامٌّ لِجِنْسِهِ أَيْ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِجِنْسِ الْفِعْلِ لَا لِفِعْلٍ وَاحِدٍ وَالْأَصْلُ فِي الْجِنْسِ الْعُمُومُ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِعُمُومِهِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالْعُمُومِ فِيمَا أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِهِ وَاجِبٌ كَمَا فِي سَائِرِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ، وَاعْتَبَرُوا الْأَمْرَ بِالنَّهْيِ فَقَالُوا النَّهْيُ فِي طَلَبِ الْكَفِّ عَنْ الْفِعْلِ مِثْلُ الْأَمْرِ فِي طَلَبِ الْفِعْلِ وَأَنَّهُ يُوجِبُ الدَّوَامَ حَتَّى لَوْ تَرَكَ الْفِعْلَ مَرَّةً ثُمَّ فَعَلَهُ يَكُونُ تَارِكًا لِلنَّهْيِ، فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ يُوجِبُهُ حَتَّى لَوْ فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ مَرَّةً ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْهُ يَكُونُ تَارِكًا لِلْأَمْرِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ اقْتَضَى الْفِعْلُ مَرَّةً وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ عَلَيْهِ النَّسْخُ. وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ يُؤَدِّي إلَى الْبَدَاءِ إذْ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ حَسَنًا وَقَبِيحًا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَالِاسْتِثْنَاءُ يُؤَدِّي إلَى اسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ وَكِلَاهُمَا فَاسِدٌ، وَاحْتَجَّ الْفَرِيقُ الثَّانِي بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمْرَ مُخْتَصَرٌ مِنْ طَلَبِ الْفِعْلِ بِالْمَصْدَرِ فَيَقْتَضِي الْمَصْدَرَ غَيْرَ أَنَّ الثَّابِتَ بِهِ مَصْدَرٌ نَكِرَةٌ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ لِلْحَاجَةِ إلَى تَصْحِيحِ الْكَلَامِ وَبِالْمُنْكَرِ يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي صِيغَةِ الْأَمْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْأَلِفِ وَاللَّامِ وَالنَّكِرَةُ فِي الْإِثْبَاتِ تَخُصُّ وَلَكِنَّهَا تَقْبَلُ الْعُمُومَ بِدَلِيلٍ يَقْتَرِنُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا اسْمُ جِنْسٍ، وَهُوَ يَقْبَلُ الْعُمُومَ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان: 14] وَصَفَ الثُّبُورَ بِالْكَثْرَةِ وَلَوْ لَمْ يَحْتَمِلْ اللَّفْظُ الْعُمُومَ لَمَا صَحَّ وَصْفُ الثُّبُورِ بِهَا، وَبِمَا ذَكَرْنَا ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ؛ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ فِي النَّهْيِ نَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ فَيَعُمُّ ضَرُورَةً لِمَا عُرِفَ فَأَمَّا هَهُنَا فَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ فَتَخُصُّ إلَّا إذَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ، فَأَمَّا صِحَّةُ النَّسْخِ وَالِاسْتِثْنَاءِ؛ فَلِأَنَّ وُرُودَهُمَا عَلَيْهِ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ كَمَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي قَوْلِك مَا رَأَيْت الْيَوْمَ إلَّا زَيْدًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ إنْسَانٌ وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ، وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ، «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا، فَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا فَقَالَ لَوْ قُلْت نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ» فَسُؤَالُهُ، وَهُوَ مِنْ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ وَقَوْلُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وَلَوْ قُلْت نَعَمْ لَوَجَبَتْ» دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ، وَقَوْلُ الشَّيْخِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ الْأَقْرَعِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ عَلَى احْتِمَالِ الْعُمُومِ وَلَوْ كَانَ مَعَ الْوَاوِ لَكَانَ أَحْسَنَ. وَتَمَسَّكَ الْفَرِيقُ الثَّالِثُ بِالنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] فَإِنَّهُ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الدُّلُوكِ لِتَقَيُّدِهِ بِهِ وقَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] فَإِنَّهُ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْجَنَابَةِ لِتَعَلُّقِهِ بِهِ وَالسُّنَّةُ مِثْلُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «، أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُونَ» وَقَوْلُهُ «، فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ» إذْ مَعْنَاهُ أَدُّوا عَنْ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ، وَبِأَنَّ الشَّرْطَ كَالْعِلَّةِ فَإِنَّهُ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ وُجِدَ الْمَشْرُوطُ مِثْلُ مَا إذَا وُجِدَتْ الْعِلَّةُ وُجِدَ الْمَعْلُولُ بَلْ أَقْوَى مِنْهَا الِانْتِفَاءُ الْمَشْرُوطُ بِانْتِفَاءِ الشَّرْطِ عِنْدَ الْبَعْضِ بِخِلَافِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْلُولَ لَا يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ بِالِاتِّفَاقِ ثُمَّ لَا خِلَافَ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُتَعَلِّقَ بِالْعِلَّةِ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهَا، فَكَذَا

وَلَنَا أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ صِيغَةٌ اُخْتُصِرَتْ لِمَعْنَاهَا مِنْ طَلَبِ الْفِعْلِ لَكِنَّ لَفْظَ الْفِعْلِ فَرْدٌ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ وَالْمَصَادِرِ مِثْلَ قَوْلِ الرَّجُلِ طَلِّقِي أَيْ أَوْقِعِي طَلَاقًا أَوْ افْعَلِي تَطْلِيقًا أَوْ التَّطْلِيقَ وَهُمَا اسْمَانِ فَرْدَانِ لَيْسَا بِصِيغَتَيْ جَمْعٍ وَلَا عَدَدٍ وَبَيْنَ الْفَرْدِ وَالْعَدَدِ تَنَافٍ وَكَمَا لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدُ مَعْنَى الْفَرْدِ لَمْ يَحْتَمِلْ الْفَرْدُ مَعْنَى الْعَدَدِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِسَائِرِ الْأَفْعَالِ كَقَوْلِك اضْرِبْ أَيْ اكْتَسِبْ ضَرْبًا أَوْ الضَّرْبَ، وَهُوَ فَرْدٌ بِمَنْزِلَةِ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ فَلَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ إلَّا أَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ لَهُ كُلٌّ وَبَعْضٌ فَالْبَعْضُ مِنْهُ الَّذِي هُوَ أَقَلُّهُ فَرْدٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ، وَاحْتَجَّ مَنْ ادَّعَى التَّكْرَارَ وَهُمْ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ لَا كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ فَرِيقٌ آخَرُ غَيْرُ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ قَالُوا بِالْعُمُومِ بِحَدِيثِ الْأَقْرَعِ، وَالِاحْتِجَاجُ بِطَرِيقَيْنِ. أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَمْرَ لَوْ كَانَ مُوجِبُهُ الْمَرَّةَ وَلَمْ يَقْتَضِ التَّكْرَارَ لُغَةً لَمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَبْقَ لِسُؤَالِهِ مَعْنَى كَمَا لَوْ قَالَ حُجُّوا مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ عُلِمَ أَنَّ الْمَرَّةَ لَيْسَتْ بِمُقْتَضَاهُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُقْتَضَاهُ التَّكْرَارَ ضَرُورَةً اتِّفَاقُنَا عَلَى أَنَّ مُقْتَضَاهُ أَحَدُهُمَا، وَلَا يُعَارَضُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُوجِبُهُ التَّكْرَارَ لَمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ أَيْضًا كَمَا لَوْ قَالَ حُجُّوا كُلَّ عَامٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ أَنَّ مُوجِبَ الْأَمْرِ التَّكْرَارُ وَلَكِنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ أَنَّ الْحَرَجَ فِيهِ مَنْفِيٌّ، وَفِي حَمْلِهِ عَلَى مُوجِبِهِ حَرَجٌ عَظِيمٌ فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ؛ فَلِذَلِكَ سَأَلَ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا عَرَفَ وَجْهَ إشْكَالِهِ كَيْفَ أَشَارَ فِي قَوْلِهِ «وَلَوْ قُلْت نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ» ، إلَى انْتِفَاءِ التَّكْرَارِ لِضَرُورَةِ لُزُومِ الْحَرَجِ، وَإِلَّا كَانَ مُوجِبُهُ التَّكْرَارَ، وَالثَّانِي مَا ذُكِرَ فِي التَّقْوِيمِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الْأَمْرَ لَوْ لَمْ يَحْتَمِلْ الْوَجْهَيْنِ لَمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ اللَّفْظِ إذَا كَانَ وَاحِدًا لَا يُشْتَبَهُ عَلَى السَّامِعِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَلَمَا احْتَمَلَهُمَا وَالتَّكْرَارُ مِنْ الْمَرَّةِ يَجْرِي مَجْرَى الْعُمُومِ مِنْ الْخُصُوصِ وَجَبَ الْقَوْلُ بِالْعُمُومِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ قَوْلُهُ. (وَلَنَا أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ أَيْ سَلَّمْنَا أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ اخْتَصَرَتْ لِمَعْنَاهَا مِنْ طَلَبِ الْفِعْلِ) وَلَكِنَّ لَفْظَ الْفِعْلِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الصِّيغَةُ فَرْدٌ سَوَاءٌ قَدَّرْته مُعَرَّفًا كَمَا قَالَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ أَوْ مُنَكَّرًا كَمَا قَالَ الْفَرِيقُ الثَّانِي، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ تَطْلِيقًا أَوْ التَّطْلِيقُ وَبَيْنَ الْفَرْدِ وَالْعَدَدِ تَنَافٍ؛ لِأَنَّ الْفَرْدَ مَا لَا ثُلُثَ فِيهِ وَالْعَدَدُ مَا تَرَكَّبَ مِنْ الْأَفْرَادِ وَالتَّرَكُّبُ وَعَدَمُهُ مُتَنَافِيَانِ فَكَمَا لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدُ مَعْنَى الْفَرْدِ مَعَ أَنَّ الْفَرْدَ مَوْجُودٌ فِي الْعَدَدِ، فَكَذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَرْدُ مَعْنَى الْعَدَدِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِيهِ أَصْلًا فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لِهَذَا اللَّفْظِ عَلَى عَدَدٍ مِنْ الْأَفْعَالِ كَالضَّرْبِ لَا يَدُلُّ عَلَى خَمْسِ ضَرَبَاتٍ أَوْ عَشْرِ ضَرَبَاتٍ وَلَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ بَلْ دَلَالَتُهُ عَلَى مُطْلَقِ الضَّرْبِ الَّذِي هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ. وَقَوْلُهُ مِثْلَ قَوْلِ الرَّجُلِ مُتَّصِلٌ بِمَجْمُوعِ قَوْلِهِ لَفْظُ الْأَمْرِ صِيغَةٌ اُخْتُصِرَتْ إلَى قَوْلِهِ فَرْدٌ، وَقَوْلُهُ، وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَلَفْظِ الْفِعْلِ الَّذِي اقْتَضَاهُ الْأَمْرُ سَائِرَ أَسْمَاءِ الْمُفْرَدِ أَيْ جَمِيعُ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ الَّتِي صِيغَتُهَا صِيغَةُ فَرْدٍ، وَالْمَصَادِرُ أَيْ سَائِرُ الْمَصَادِرِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا الْأَفْعَالُ مِثْلُ الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ فَرْدٌ مُعْتَرَضٌ، وَالْغَرَضُ مِنْ إيرَادِهِ أَنْ يُبَيِّنَ حُكْمَ سَائِرِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ أَنَّهَا لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدُ كَمَا لَا يَحْتَمِلُ الْأَمْرُ التَّكْرَارَ، وَأَنْ يَمْنَعَ كَوْنَ اسْمِ الْجِنْسِ عَامًّا أَوْ قَابِلًا لِلْعُمُومِ عَلَى مَا زَعَمَهُ الْخُصُومُ؛ وَلِهَذَا قَالَ وَهُمَا أَيْ تَطْلِيقًا وَالتَّطْلِيقُ اسْمَانِ مُفْرَدَانِ لَيْسَا بِصِيغَتَيْ جَمْعٍ وَلَا عَدَدٍ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ) عَطْفٌ عَلَى النَّظِيرِ أَيْ وَمِثْلُ قَوْلِ الرَّجُلِ طَلِّقِي الْأَمْرُ بِسَائِرِ الْأَفْعَالِ فِي أَنَّ الثَّابِتَ بِهِ لَفْظُ فَرْدٍ لَا اسْمُ عَدَدٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ كَوْنَ الْمَصْدَرِ الْمُنَكَّرِ أَوْ الْمُعَرَّفِ الثَّابِتِ بِالْأَمْرِ فَرْدًا لَيْسَ مُخْتَصًّا بِقَوْلِهِ طَلِّقِي بَلْ هُوَ مُسْتَمِرٌّ فِي جَمِيعِ الْأَوَامِرِ. قَوْلُهُ (إلَّا أَنَّهُ أَيْ الْمَصْدَرُ الثَّابِتُ بِالْأَمْرِ اسْمُ جِنْسٍ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فَرْدًا غَيْرَ مُحْتَمِلٍ لِلْعَدَدِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ فِي قَوْلِهِ طَلِّقِي نِيَّةُ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّهُ عَدَدٌ بِلَا شُبْهَةٍ كَمَا لَا يَصِحُّ

وَأَمَّا الطَّلْقَاتُ الثَّلَاثُ فَلَيْسَتْ بِفَرْدٍ حَقِيقَةً بَلْ هِيَ أَجْزَاءٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَلَكِنَّهَا فَرْدٌ حُكْمًا؛ لِأَنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ فَصَارَتْ مِنْ طَرِيقِ الْجِنْسِ وَاحِدٌ أَلَا تَرَى أَنَّك إذَا عَدَدْت الْأَجْنَاسَ كَانَ هَذَا بِأَجْزَائِهِ وَاحِدًا. فَكَانَ وَاحِدًا مِنْ حَيْثُ هُوَ جِنْسٌ، وَلَهُ أَبْعَاضٌ كَالْإِنْسَانِ فَرْدٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ آدَمِيٌّ، وَلَكِنَّهُ ذُو أَجْزَاءٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَصَارَ هَذَا الِاسْمُ الْفَرْدُ وَاقِعًا عَلَى الْكُلِّ بِصِفَةِ أَنَّهُ وَاحِدٌ لَكِنَّ الْأَقَلَّ فَرْدٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكَانَ أَوْلَى بِالِاسْمِ الْفَرْدِ عِنْدَ إطْلَاقِهِ وَالْآخَرُ مُحْتَمَلًا فَأَمَّا بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْكُلِّ فَعَدَدٌ مَحْضٌ لَيْسَ بِفَرْدٍ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا وَلَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى فَلَمْ يَحْتَمِلْهُ الْفَرْدُ ـــــــــــــــــــــــــــــQنِيَّةُ الثِّنْتَيْنِ عِنْدَكُمْ، فَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ فَرْدًا اسْمُ جِنْسٍ وَأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْأَدْنَى لِلتَّيَقُّنِ بِفَرْدِيَّتِهِ وَيَحْتَمِلُ كُلَّهُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْفَرْدِيَّةِ فِيهِ لَا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مُتَعَدِّدًا فَإِنَّك إذَا عَدَّدْت الْأَجْنَاسَ وَقُلْت أَجْنَاسُ التَّصَرُّفَاتِ الْمَشْرُوعَةِ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ، وَكَذَا وَكَذَا. كَانَ هَذَا أَيْ الطَّلَاقُ مَعَ جَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَاحِدًا مِنْهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ وَصْفُهُ بِالْوَحْدَةِ فَيُقَالُ الطَّلَاقُ جِنْسٌ وَاحِدٌ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ كَمَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ الْحَيَوَانُ جِنْسٌ وَاحِدٌ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ وَلَا يَقْدَحُ كَوْنُهُ ذَا أَجْزَاءٍ فِي الْخَارِجِ فِي تَوَحُّدِهِ مِنْ حَيْثُ الْجِنْسُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الذِّهْنِيِّ وَلَا تَعَدُّدَ فِيهِ، فَلَمَّا كَانَ فَرْدًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى صَحَّ أَنْ يَكُونَ مُحْتَمِلَ اللَّفْظِ فَأَمَّا مَا بَيْنَ الْكُلِّ وَالْأَقَلِّ، فَلَيْسَ بِفَرْدٍ بِوَجْهٍ فَلَا يَكُونُ مُحْتَمِلَ اللَّفْظِ أَلْبَتَّةَ؛ فَلِهَذَا لَا تَعْمَلُ فِيهِ النِّيَّةُ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ لِتَعْيِينِ مُحْتَمِلِ اللَّفْظِ لَا لِإِثْبَاتِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ، وَقَوْلُهُ كَالْإِنْسَانِ فَرْدُ آخِرِهِ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَنَّهُ فَرْدٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ جِنْسٌ؛ وَإِنْ كَانَ ذَا أَجْزَاءٍ أَيْ أَفْرَادٍ فِي الْخَارِجِ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو، فَكَذَا الطَّلَاقُ وَوَجْهُ التَّشْبِيهِ ظَاهِرٌ، وَالثَّانِي أَنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي هُوَ فِي الْخَارِجِ وَاحِدٌ كَزَيْدٍ مَثَلًا فَرْدٌ حَقِيقَةً مِنْ حَيْثُ هُوَ آدَمِيٌّ؛ وَإِنْ كَانَ ذَا أَجْزَاءٍ فِي نَفْسِهِ أَيْ أَطْرَافٍ وَأَعْضَاءٍ كَالرَّأْسِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ، فَكَذَا الطَّلَاقُ وَاحِدٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جِنْسٌ؛ وَإِنْ كَانَ ذَا أَجْزَاءٍ ثُلِّثَ، فَصَارَ هَذَا الِاسْمُ الْفَرْدُ أَيْ الطَّلَاقُ أَوْ اسْمُ الْجِنْسِ. وَقَوْلُهُ وَلَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ لَيْسَ بِفَرْدٍ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا تَعْمَلُ نِيَّةُ الثِّنْتَيْنِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْفَرْدِيَّةِ صُورَةً وَلَا مَعْنًى فَلَمْ يَكُنْ مِنْ مُحْتَمِلَاتِ الْكَلَامِ أَصْلًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا احْتِرَازًا عَمَّا ذُكِرَ مِنْ الْأَقَلِّ وَالْكُلِّ وَقَوْلُهُ وَلَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى احْتِرَازًا عَمَّا سَنَذْكُرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فَرْدًا صِيغَةً أَوْ دَلَالَةً أَيْ مَا بَيْنَ الْكُلِّ وَالْأَقَلِّ لَيْسَ بِفَرْدٍ حَقِيقَةً كَالْأَقَلِّ إذْ هُوَ مُتَعَدِّدٌ، وَلَا حُكْمًا كَالْكُلِّ إذْ هُوَ دُونَهُ، وَلَا صُورَةً أَيْ صِيغَةً كَمَاءٍ أَوْ الْمَاءُ فِي قَوْلِهِ لَا أَشْرَبُ مَاءً أَوْ الْمَاءَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَلَا مَعْنًى كَالنِّسَاءِ فِي قَوْلِهِ لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ عِبَارَةً عَنْ الْجِنْسِ بِاعْتِبَارِ اللَّامِ، وَهُوَ لَيْسَ كَذَلِكَ (فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُقَالُ إنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ، وَلَوْ قَرَنَ بِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْسِيرِ لَاسْتَقَامَ) كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِآخَرَ طَلِّقْ امْرَأَتِي مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَكَانَتْ الْمَرَّةُ نَصْبًا عَلَى التَّفْسِيرِ، وَلَوْ لَمْ يَحْتَمِلْهُ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ تَقُولُ صُمْ أَبَدًا أَوْ أَيَّامًا كَثِيرَةً قُلْنَا هَذَا الْقِرَانُ لَمْ يَصِحَّ لُغَةً عَلَى سَبِيلِ التَّفْسِيرِ لِلْمُحْتَمِلِ وَلَكِنْ عَلَى سَبِيلِ التَّغْيِيرِ إلَى مَعْنًى آخَرَ مَا كَانَ يَحْتَمِلُهُ مُطْلَقُهُ بَلْ يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ إلَيْهِ كَمَا يَصِحُّ قِرَانُ الشَّرْطِ بِالطَّلَاقِ وَالِاسْتِثْنَاءِ بِالْجُمْلَةِ عَلَى سَبِيلِ تَغْيِيرِ مُوجِبِهِ إلَى وَجْهٍ آخَرَ لَا عَلَى سَبِيلِ بَيَانِ مُوجَبِ الْمُطْلَقِ مِنْهُ فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لَا يَحْتَمِلُ التَّأَخُّرَ وَلَا ثِنْتَيْنِ وَلَوْ قَالَ إلَى شَهْرٍ أَوْ إلَّا وَاحِدَةً تَأَخَّرَ إلَى شَهْرٍ وَلَمْ يَقَعْ الِاثْنَتَانِ، وَلِهَذَا قَالُوا إذَا قَرَنَ بِالصِّيغَةِ ذِكْرَ الْعَدَدِ فِي الْإِيقَاعِ يَكُونُ الْوُقُوعُ بِلَفْظِ الْعَدَدِ لَا بِأَصْلِ الصِّيغَةِ حَتَّى لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: طَلَّقْتُك ثَلَاثًا أَوْ قَالَ وَاحِدَةً فَمَاتَتْ قَبْلَ ذِكْرِ الْعَدَدِ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّ عَمَلَ هَذَا الْقِرَانِ فِي التَّغْيِيرِ لَا فِي التَّفْسِيرِ؛ لِأَنَّ التَّفْسِيرَ يَكُونُ مُقَرِّرًا لِلْحُكْمِ الْمُفَسَّرِ لَا مُغَيِّرًا لَهُ، يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَمْرُك بِيَدِك فَطَلِّقِي نَفْسَك أَوْ اخْتَارِي فَطَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ: طَلَّقْت نَفْسِي أَوْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQاخْتَرْت نَفْسِي يَقَعُ الطَّلَاقُ بَائِنًا اعْتِبَارًا لِلْمُفَسِّرِ، وَهُوَ اخْتَارِي أَوْ أَمْرُك بِيَدِك؛ لِأَنَّ طَلِّقِي تَفْسِيرٌ لَهُ، وَلَوْ قَالَ: اخْتَارِي تَطْلِيقَةً أَوْ أَمْرُك بِيَدِك فِي تَطْلِيقَةٍ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا أَوْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهِيَ رَجْعِيَّةٌ؛ لِأَنَّ التَّطْلِيقَةَ لَمْ تُوضَعْ عَلَى وَجْهِ التَّفْسِيرِ بَلْ خَيَّرَهَا فِي التَّصْرِيحِ فَكَانَ رَجْعِيًّا كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلتُّمُرْتَاشِيِّ. فَأَمَّا النَّصْبُ فَلَيْسَ عَلَى التَّفْسِيرِ وَلَكِنْ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمَصْدَرِ فَإِنَّ قَوْلَهُ طَلَّقْت امْرَأَتِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مَعْنَاهُ تَطْلِيقَاتٍ ثَلَاثًا كَذَا فِي التَّقْوِيمِ وَأُصُولِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى: فَإِنْ قِيلَ فَلَوْ فُسِّرَ بِالتَّكْرَارِ فَقَدْ فَسَّرَهُ بِمُحْتَمِلٍ أَوْ كَانَ ذَلِكَ إلْحَاقَ زِيَادَةٍ كَمَا لَوْ قَالَ أَرَدْت بِقَوْلِي اُقْتُلْ اُقْتُلْ زَيْدًا وَبِقَوْلِي صُمْ أَيْ يَوْمَ السَّبْتِ خَاصَّةً، فَإِنَّ هَذَا تَفْسِيرٌ بِمَا لَيْسَ يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ بَلْ لَيْسَ تَفْسِيرًا إنَّمَا هُوَ ذِكْرُ زِيَادَةٍ لَمْ يُوضَعْ اللَّفْظُ الْمَذْكُورُ لَهَا لَا بِالِاشْتِرَاكِ وَلَا بِالتَّخْصِيصِ قُلْنَا الْأَظْهَرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ إنْ فَسَّرَهُ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ كَسَبْعَةٍ أَوْ عَشْرَةٍ فَهُوَ إتْمَامٌ بِزِيَادَةٍ وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ إذْ اللَّفْظُ لَا يَصْلُحُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى كَمِّيَّةٍ وَعَدَدٍ، وَإِنْ أَرَادَ اسْتِغْرَاقَ الْعُمْرِ فَقَدْ أَرَادَ كُلِّيَّةَ الصَّوْمِ فِي حَقِّهِ فَإِنَّ كُلِّيَّةَ الصَّوْمِ شَيْءٌ فَرْدٌ إذْ لَهُ حَدٌّ وَاحِدٌ وَحَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ فَهُوَ وَاحِدٌ بِالنَّوْعِ كَمَا أَنَّ الصَّوْمَ الْوَاحِدَ وَاحِدٌ بِالْعَدَدِ فَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُ وَيَكُونُ ذَلِكَ بَيَانًا لِلْمُرَادِ لَا اسْتِئْنَافُ زِيَادَةٍ وَلِهَذَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ عَدَدٌ كَانَتْ الطَّلْقَةُ الْوَاحِدَةُ ضَرُورَةَ لَفْظِهِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهَا وَلَوْ نَوَى الثَّلَاثَ نَفَذَتْ؛ لِأَنَّهُ كُلِّيَّةُ الطَّلَاقِ فَهُوَ كَالْوَاحِدِ بِالْجِنْسِ أَوْ بِالنَّوْعِ وَلَوْ نَوَى طَلْقَتَيْنِ فَالْأَغْوَصُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُهُ؛ فَإِنْ قِيلَ الزِّيَادَةُ الَّتِي هِيَ كَالتَّتِمَّةِ لَا تَصْلُحُ إرَادَتُهَا بِاللَّفْظِ. فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ طَلَّقْت زَوْجَتِي وَلَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ وَقَالَ أَرَدْت زَيْنَبَ يُبَيِّنُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ مِنْ وَقْتِ اللَّفْظِ وَلَوْلَا احْتِمَالُهُ لَوَقَعَ مِنْ وَقْتِ التَّعْيِينِ قُلْنَا بَلْ الْفَرْقُ أَغَوْصُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ زَوْجَتِي مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْأَرْبَعِ يَصْلُحُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ فَهُوَ كَإِرَادَةِ أَحَدِ الْمُسَمَّيَاتِ بِالْمُشْتَرَكِ أَمَّا الطَّلَاقُ فَمَوْضُوعٌ لِمَعْنًى لَا يَتَعَرَّضُ لِلْعَدَدِ وَالصَّوْمُ لِمَعْنًى لَا يَتَعَرَّضُ لِلْعَشْرَةِ، وَلَيْسَتْ الْأَعْدَادُ مَوْجُودَةً لِيَكُونَ اسْمُ الصَّوْمِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهَا اشْتِرَاكَ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَ النِّسْوَةِ إلَى هُنَا كَلَامُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَبِمَا ذَكَرْنَا تَبَيَّنَ أَنَّ صِحَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ وَالْعَدَدَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَرِينَةٍ دَالَّةٍ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَا هُوَ مُحْتَمِلُهُ، وَهُوَ الْكُلُّ أَوْ أُلْحِقَ بِهِ عَلَى وَجْهِ الزِّيَادَةِ مَا لَيْسَ بِمُحْتَمَلِهِ لُغَةً فَكَأَنَّهُ قِيلَ فِي قَوْلِهِ صُمْ إلَّا يَوْمَ السَّبْتِ صُمْ الْأَيَّامَ كُلَّهَا إلَّا يَوْمَ السَّبْتِ أَوْ صُمْ الْأُسْبُوعَ إلَّا يَوْمَ السَّبْتِ (فَإِنْ قِيلَ) قَوْلُهُ: طَلَّقْتُك فِي اقْتِضَاءِ الْمَصْدَرِ لُغَةً مِثْلُ قَوْلِهِ طَلِّقْ إذْ مَعْنَاهُ فَعَلْت فِعْلَ الطَّلَاقِ كَمَا أَنَّ مَعْنَى الْأَمْرِ افْعَلْ فِعْلَ الطَّلَاقِ فَهَلَّا صَحَّتْ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ بِمَا ذَكَرْتُمْ وَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ الْفَرْقُ (قُلْنَا) إنَّمَا لَا يَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ كَمَا لَا يَصِحُّ نِيَّةُ الثِّنْتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ وَالْخَبَرُ لَا يَقْتَضِي وُجُودَ الْمُخْبَرِ بِهِ لِيَصِحَّ فَإِنَّ الْخَبَرَ خَبَرٌ؛ وَإِنْ كَانَ كَذِبًا وَلَا أَثَرَ لَهُ فِي إيجَادِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُخْبَرَ بِهِ لَا يَصِيرُ مَوْجُودًا بِالْإِخْبَارِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي وَلَكِنْ يَقْتَضِي وُجُودَهُ لِيَكُونَ صَحِيحًا فِي الْحِكْمَةِ بِأَنْ يَكُونَ صِدْقًا فَكَانَ ثَابِتًا ضَرُورَةَ الصِّدْقِ، وَهِيَ يَرْتَفِعُ بِالْوَاحِدَةِ غَيْرَ أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَهُ إنْشَاءً فَاقْتَضَى مَا كَانَ يَقْتَضِيهِ الْإِخْبَارُ، وَهُوَ الْوَاحِدَةُ فَأَمَّا قَوْلُهُ طَلِّقْ فَأَمْرٌ وَلَهُ أَثَرٌ فِي إيجَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا

وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ إذَا كَانَتْ فَرْدًا صِيغَةً أَوْ دَلَالَةً أَمَّا الْفَرْدُ صِيغَةً فَمِثْلُ قَوْلِ الرَّجُلِ وَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُ مَاءً أَوْ الْمَاءَ أَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْأَقَلِّ وَيَحْتَمِلُ الْكُلَّ فَأَمَّا قَدْرًا مِنْ الْأَقْدَارِ الْمُتَخَلَّلَةِ بَيْنَ الْحَدَّيْنِ فَلَا. فَكَذَلِكَ لَا آكُلُ طَعَامًا أَوْ مَا يُشْبِهُهُ وَأَمَّا الْفَرْدُ دَلَالَةً فَمِثْلُ قَوْلِ الرَّجُلِ وَاَللَّهِ لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَلَا أَشْتَرِي الْعَبِيدَ وَلَا أُكَلِّمُ بَنِي آدَمَ وَلَا أَشْتَرِي الثِّيَابَ أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ عَلَى الْأَقَلِّ وَيَحْتَمِلُ الْكُلَّ؛ لِأَنَّ هَذَا جَمْعٌ صَارَ مَجَازًا عَنْ اسْمِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّا إذَا أَبْقَيْنَاهُ جَمْعًا لَغَا حَرْفُ الْعَهْدِ أَصْلًا وَإِذَا جَعَلْنَاهُ جِنْسًا بَقِيَ اللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ وَبَقِيَ مَعْنَى الْجَمْعِ مِنْ وَجْهٍ فِي الْجِنْسِ فَكَانَ الْجِنْسُ أَوْلَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} [الأحزاب: 52] وَذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِالْجَمْعِ فَصَارَ هَذَا وَسَائِرُ أَسْمَاءِ الْجِنْسِ سَوَاءً ـــــــــــــــــــــــــــــQفَصَارَ مَذْكُورًا فَكَانَ التَّعْمِيمُ دَاخِلًا عَلَى الْمَذْكُورِ فَكَانَ حُكْمًا أَصْلِيًّا. فَلِهَذَا صَحَّتْ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ كَذَا فِي مُخْتَصَرِ التَّقْوِيمِ، وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْفَرِيقُ الثَّالِثُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلشَّرْطِ فِي التَّكْرَارِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ اضْرِبْهُ إنْ لَمْ يَقْتَضِ التَّكْرَارَ فَقَوْلُهُ اضْرِبْهُ قَائِمًا أَوْ إنْ كَانَ قَائِمًا لَا يَقْتَضِيهِ أَيْضًا بَلْ لَا يَزِيدُهُ إلَّا اخْتِصَاصَ الضَّرْبِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْإِطْلَاقُ بِحَالَةِ الْقِيَامِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ لِوَكِيلِهِ طَلِّقْ زَوْجَتِي إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ بِتَكَرُّرِ الدُّخُولِ، فَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ فَصَلِّ كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِزَوْجَاتِهِ مَنْ شَهِدَ مِنْكُنَّ الشَّهْرَ فَلْتُطَلِّقْ نَفْسَهَا فَمَنْ زَالَتْ عَلَيْهَا الشَّمْسُ فَلْتُطَلِّقْ نَفْسَهَا، 1 - وَأَمَّا تَكْرَارُ أَوَامِرِ الشَّرْعِ فَلَيْسَ مِنْ مُوجَبِ اللُّغَةِ بَلْ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فِي كُلِّ شَرْطٍ فَقَدْ قَالَ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] وَلَا يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ بِتَكَرُّرِ الِاسْتِطَاعَةِ؛ فَإِنْ أَحَالُوا ذَلِكَ عَلَى الدَّلِيلِ أَحَلْنَا مَا تَكَرَّرَ أَيْضًا عَلَى الدَّلِيلِ كَيْفَ، وَمَنْ كَانَ جُنُبًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّهَّرَ إذَا لَمْ يُرِدْ الصَّلَاةَ فَلَمْ يَتَكَرَّرْ مُطْلَقًا لَكِنْ اتَّبَعَ فِيهِ مُوجَبَ الدَّلِيلِ كَذَا ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمْ الشَّرْطَ بِالْعِلَّةِ فَضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ مُوجِبَةٌ لِلْحُكْمِ وَالْمُوجِبُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْمُوجَبِ، فَأَمَّا الشَّرْطُ فَلَيْسَ بِمُوجِبٍ؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ الشَّرْطُ بِدُونِ الْمَشْرُوطِ وَالْمَشْرُوطُ بِدُونِ الشَّرْطِ عِنْدَنَا، يُوَضِّحُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحُكْمَ يَقْتَصِرُ ثُبُوتُهُ عَلَى الْعِلَّةِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى أَمْرٍ آخَرَ وَثُبُوتُ الْمَشْرُوطِ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الشَّرْطِ بَلْ يَحْتَاجُ إلَى مُوجِبٍ يُوجِبُهُ، وَهُوَ الْعِلَّةُ. وَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمَذْكُورَةُ فِيمَا اسْتَشْهَدُوا فَعِلَلٌ أَوْ فِي مَعْنَى الْعِلَلِ؛ فَلِهَذَا تَكَرَّرَتْ الْأَوَامِرُ بِتَكَرُّرِهَا قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ) أَيْ وَكَالْمَصْدَرِ الثَّابِتِ بِالْأَمْرِ سَائِرُ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ أَيْ جَمِيعُهَا أَوْ بَاقِيهَا فِي وُقُوعِهِ عَلَى الْأَقَلِّ وَاحْتِمَالِهِ لِلْكُلِّ دُونَ الْعَدَدِ إذَا كَانَتْ فَرْدًا صِيغَةً أَيْ لَمْ يَكُنْ صِيغَتُهُ صِيغَةَ تَثْنِيَةٍ وَلَا جَمْعٍ سَوَاءٌ كَانَتْ مُعَرَّفَةً أَوْ مُنَكَّرَةً مِثْلُ " مَاءً " أَوْ " الْمَاءَ " فِي يَمِينِ الشُّرْبِ أَوْ دَلَالَةً بِأَنْ كَانَتْ صِيغَتُهُ صِيغَةَ جَمْعٍ قُرِنَتْ بِهَا لَامُ التَّعْرِيفِ أَوْ الْإِضَافَةِ مِثْلُ " الْعَبِيدَ " وَبَنِي آدَمَ فِي يَمِينِ الْكَلَامِ. فَأَمَّا قَدْرًا مِنْ الْأَقْدَارِ الْمُتَخَلَّلَةِ بَيْنَ الْحَدَّيْنِ وَهُمَا الْأَقَلُّ وَالْكُلُّ فَلَا أَيْ لَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، فَإِنْ نَوَى كُوزًا أَوْ كُوزَيْنِ أَوْ قَدَحًا أَوْ قَدَحَيْنِ لَا يُعْمِلُ نِيَّتَهُ وَقَدْرًا مَنْصُوبٌ بِلَا يَحْتَمِلُهُ الْمُقَدَّرُ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطٍ أَمَّا دُخُولُهُ فِي الْمَرْفُوعِ أَلْبَتَّةَ بَلْ يَجُوزُ دُخُولُهُ فِي الْمَنْصُوبِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى: 9] وَنَحْوُهُ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْفَرْدُ دَلَالَةً إلَى آخِرِهِ) اعْلَمْ أَنَّ اللَّامَ لِلتَّعْرِيفِ فَإِنْ دَخَلَتْ عَلَى مَعْهُودٍ، وَهُوَ الَّذِي عُرِفَ وَعُهِدَ إمَّا بِالذِّكْرِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ فَهِيَ تُعَرِّفُ ذَلِكَ الْمَعْهُودَ وَيُسَمَّى هَذَا تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِيهِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَعْرِيفُ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْجِنْسِ كَقَوْلِك فَعَلَ الرَّجُلُ كَذَا تُرِيدُ رَجُلًا بِعَيْنِهِ قَالَ تَعَالَى {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا} [المزمل: 15] {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16] أَيْ ذَلِكَ الرَّسُولَ بِعَيْنِهِ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مَعْهُودٌ فَهِيَ لِتَعْرِيفِ نَفْسِ الْحَقِيقَةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ عَوَارِضِهَا، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْهُودِ لِحُضُورِهَا فِي الذِّهْنِ وَاحْتِيَاجِهَا إلَى التَّعْرِيفِ وَيُسَمَّى هَذَا تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، ثُمَّ الْحَقِيقَةُ فِي ذَاتِهَا لَمَّا كَانَتْ صَالِحَةً لِلتَّوَحُّدِ وَالتَّكَثُّرِ لِتَحَقُّقِهَا مَعَ الْوَحْدَةِ وَالْكَثْرَةِ كَانَتْ اللَّامُ فِي تَعْرِيفِ الْحَقِيقَةِ لِلِاسْتِغْرَاقِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQوَلِغَيْرِهِ بِحَسَبِ اقْتِضَاءِ الْمَقَامِ؛ فَإِنْ أَمْكَنَ ارْتِبَاطُ الْحُكْمِ بِجَمِيعِ أَفْرَادِهِ فَاللَّامُ لِلِاسْتِغْرَاقِ مُفْرَدًا كَانَ اللَّفْظُ أَوْ جَمْعًا نَحْوَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] ؛ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَاللَّامُ لِنَفْسِ الْجِنْسِ دُونَ الِاسْتِغْرَاقِ وَالْعَهْدِ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى إخْبَارًا عَنْ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف: 13] وَيَقَعُ عَلَى أَقَلِّ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ. وَهُوَ الْوَاحِدُ فِي الْمُفْرَدِ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَا فِي الْجَمْعِ عِنْدَنَا، وَذَكَرَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِيهِ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنِ لَامِ الْجِنْسِ دَاخِلَةً عَلَى الْمُفْرَدِ وَبَيْنَهَا دَاخِلَةً عَلَى الْمَجْمُوعِ هُوَ أَنَّهَا إذَا دَخَلَتْ عَلَى الْمُفْرَدِ كَانَ صَالِحًا لَأَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ إلَى أَنْ يُحَاطَ بِهِ وَأَنْ يُرَادَ بِهِ بَعْضُهُ إلَى الْوَاحِدِ وَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْمَجْمُوعِ صَلُحَ أَنْ يُرَادَ بِهِ جَمِيعُ الْجِنْسِ وَأَنْ يُرَادَ بِهِ بَعْضُهُ لَا إلَى الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ وِزَانَهُ فِي تَنَاوُلِ الْجَمْعِيَّةِ فِي الْجِنْسِ وِزَانُ الْمُفْرَدِ فِي تَنَاوُلِ الْجِنْسِيَّةِ وَالْجَمْعِيَّةِ وَفِي حَمْلِ الْجِنْسِ لَا فِي وُحْدَانِهِ، وَكَذَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْمِفْتَاحِ فِيهِ فَقَالَ فِيمَا تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ حُمِلَ عَلَى أَقَلَّ مَا يَحْتَمِلُهُ، وَهُوَ الْوَاحِدُ فِي الْمُفْرَدِ وَالْعَدَدُ الزَّائِدُ عَلَى الِاثْنَيْنِ بِوَاحِدٍ فِي الْجَمْعِ فَلَا يُوجِبُ فِي مِثْلِ حَصَلَ الدِّرْهَمُ إلَّا وَاحِدًا وَفِي مِثْلِ حَصَلَ الدَّرَاهِمُ إلَّا ثُلُثَهُ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَمْكَنَ رِعَايَةُ الصِّيغَةِ مَعَ اعْتِبَارِ حَرْفِ التَّعْرِيفِ فَيُجْعَلُ حَرْفُ التَّعْرِيفِ لِلْجِنْسِ مُرَاعًى فِيهِ الْجَمْعِيَّةُ رِعَايَةً لِلْمَعْنَيَيْنِ، فَأَمَّا جَعْلُهُ مَجَازًا عَنْ الْفَرْدِ مَعَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ فَغَيْرُ سَدِيدٍ، وَقُلْنَا إذَا دَخَلَتْ فِي الْجَمْعِ بَطَلَ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ أَيْ لَمْ يَبْقَ مَقْصُودًا فِي الْكَلَامِ وَصَارَ مَجَازًا عَنْ الْجِنْسِ أَيْ صَارَ كَاسْمِ الْمُفْرَدِ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ هَهُنَا صِيغَةُ الْجَمْعِ وَحَرْفُ التَّعْرِيفِ فَلَوْ اعْتَبَرَ صِيغَةَ الْجَمْعِ لَزِمَ إلْغَاءُ حَرْفِ التَّعْرِيفِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا لِلْعَهْدِ أَوْ لِلْجِنْسِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ لِلْعَهْدِ إذَا لَيْسَ فِي أَقْسَامِ الْجُمُوعِ مَعْهُودٌ يُمْكِنُ صَرْفُهَا إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ لَمْ يُوضَعْ لِمَعْدُودٍ مُعَيَّنٍ بَلْ هُوَ شَائِعٌ كَالنَّكِرَةِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ لِلْجِنْسِ أَيْضًا مَعَ اعْتِبَارِ الصِّيغَةِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَهَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ فِيهَا مَقْصُودًا وَجَعْلُ اللَّامِ لِلْجِنْسِ يُنَافِيهِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ دَلَالَتُهُ عَلَى نَفْسِ الْحَقِيقَةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْعَوَارِضِ، وَكَوْنُ الْجَمْعِ مَقْصُودًا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْهُ مُتَنَافِيَانِ. وَلَوْ اُعْتُبِرَ حَرْفُ التَّعْرِيفِ فَجُعِلَ لِلْجِنْسِ وَجُعِلَتْ الصِّيغَةُ مَجَازًا عَنْ الْفَرْدِ لَمْ يُلْغَ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِأَنَّ فِي الْجِنْسِ مَعْنَى الْجَمْعِ مِنْ وَجْهٍ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا إذْ هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْأَفْرَادِ إمَّا تَحْقِيقًا أَوْ تَوَهُّمًا فَكَانَ اعْتِبَارُ حَرْفِ التَّعْرِيفِ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ الصِّيغَةِ إذْ فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ مِنْ وَجْهٍ فَكَانَ أَوْلَى مِنْ إلْغَاءِ أَحَدِهِمَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَمَا ذَكَرْنَا مُؤَيَّدٌ بِالنَّصِّ وَالْعُرْفِ أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] وَلَمْ يَكُنْ الْحَظْرُ مُتَعَلِّقًا بِالْجَمْعِ بَلْ كَانَ حَرَّمَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْفَرْدَ فَصَاعِدًا وقَوْله تَعَالَى {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ} [النحل: 8] أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ لَا الْجَمْعُ. وَأَمَّا الْعُرْفُ فَإِنَّهُ يُقَالُ فُلَانٌ يُحِبُّ النِّسَاءَ وَفُلَانٌ يُخَالِطُ النَّاسَ؛ وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ فَلِهَذَا جَعَلْنَا مَجَازًا عَنْ الْجِنْسِ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ فَرْدٌ دَلَالَةً، قَالَ شَمْسُ الْإِسْلَامِ الْأُوزْجَنْدِيّ، فَإِذَا بَطَلَ مَعْنَى الْجَمْعِ يَتَنَاوَلُ الْأَدْنَى بِحَقِيقَتِهِ أَيْ بِحَقِيقَةِ الْفَرْدِيَّةِ مَعَ احْتِمَالِ الْكُلِّ بِحَقِيقَتِهِ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَوْلُهَا خَالِعْنِي عَلَى مَا فِي يَدِي مِنْ الدَّرَاهِمِ وَلَيْسَ فِي يَدِهَا شَيْءٌ حَيْثُ يَلْزَمُهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ لَا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ وَلَا قَوْلُهُ لَا أُكَلِّمُهُ الْأَيَّامَ أَوْ الشُّهُورَ حَيْثُ يَقَعُ عَلَى الْعَشَرَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَلَى الْجُمُعَةِ وَالسَّنَةِ عِنْدَهُمَا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا عَلَى الْيَوْمِ الْوَاحِدِ وَالشَّهْرِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّا نَقُولُ إنَّمَا يُجْعَلُ اللَّامُ فِي الْجَمْعِ لِلْجِنْسِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ صَرْفُهَا إلَى مَعْهُودٍ حَتَّى لَوْ أَمْكَنَ تَصَرُّفُ إلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلِك كُنْت الْيَوْمَ مَعَ التُّجَّارِ وَلَقِيت الْفُقَهَاءَ تُرِيدُ قَوْمًا بِأَعْيَانِهِمْ قَدْ جَرَتْ عَادَتُك بِلِقَائِهِمْ وَقَدْ أَمْكَنَ هَهُنَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا مَا فِي يَدِي عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الدَّرَاهِمَ وَغَيْرَهَا وَمِنْ الدَّرَاهِمِ بَيَانٌ لَهُ فَوَجَبَ صَرْفُ اللَّامِ إلَيْهِ. وَكَذَا أَيَّامُ الْجُمُعَةِ وَشُهُورُ السَّنَةِ مَعْهُودَةٌ بَيْنَ النَّاسِ فَيَجِبُ صَرْفُ اللَّامِ إلَيْهَا عِنْدَهُمَا، فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَدْ جَعَلَ الِاسْمَ مَعْهُودًا عَلَى الثَّلَاثَةِ فَصَاعِدًا إلَى الْعَشَرَةِ فَصَرَفَ اللَّامَ إلَى أَكْثَرِ هَذَا الْمَعْهُودِ احْتِيَاطًا كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ، إذَا عَرَفْنَا هَذَا جِئْنَا إلَى بَيَانِ الْمَسَائِلِ فَنَقُولُ: إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُ مَاءً أَوْ الْمَاءَ أَوْ لَا آكُلُ طَعَامًا أَوْ الطَّعَامَ أَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْأَدْنَى؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ، وَهُوَ الْكُلُّ لَوْلَا غَيْرُهُ فَيَكُونُ فِيهِ مَعْنَى الْجِنْسِيَّةِ أَيْضًا؛ فَإِنْ نَوَى الْكُلَّ صَحَّتْ نِيَّتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى لَا يَحْنَثَ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ نَوَى مُحْتَمَلَ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ فَرْدٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ لَكِنَّهُ عَدَدٌ مِنْ وَجْهٍ فَلَنْ يَتَنَاوَلَهُ الْفَرْدُ إلَّا بِالنِّيَّةِ كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ لِلْمُصَنِّفِ، وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَا يَصْدُقُ قَضَاءً إنْ كَانَ الْيَمِينُ بِطَلَاقٍ أَوْ نَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ إذْ الْإِنْسَانُ إنَّمَا يَمْنَعُ نَفْسَهُ بِالْيَمِينِ عَمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَشُرْبُ كُلِّ الْمِيَاهِ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ وَفِيهِ تَخْفِيفٌ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ أَوْ لَا يُكَلِّمُ الْعَبِيدَ أَوْ لَا يَشْتَرِي الثِّيَابَ يَقَعُ عَلَى الْأَدْنَى عَلَى احْتِمَالِ الْكُلِّ. وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ بَنِي آدَمَ لِأَنَّا إذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى حَقِيقَةِ الْجَمْعِ بَطَلَتْ الْإِضَافَةُ؛ لِأَنَّهَا لِلتَّعْرِيفِ بِمَنْزِلَةِ اللَّامِ وَلَا تَعْرِيفَ لِشَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْجَمْعِ وَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْجِنْسِ حَصَلَ بِهِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ مَعَ الْعَمَلِ بِالْجَمْعِ فَصَارَ أَوْلَى؛ فَإِنْ نَوَى الْكُلَّ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ وَلَا يَحْنَثُ أَبَدًا، قَالَ شَمْسُ الْإِسْلَامِ: قَالُوا وَإِطْلَاقُ الْجَوَابِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَصْدُقُ قَضَاءً وَدِيَانَةً إنْ كَانَ الْيَمِينُ بِطَلَاقٍ أَوْ نَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ، وَعَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الصَّفَّارِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَصْدُقُ قَضَاءً؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةً لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالنِّيَّةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ نَوَى الْمَجَازَ، وَلَا يَذْهَبَنَّ بِك الْوَهْمُ كَمَا ذَهَبَ بِالْبَعْضِ إلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْعَقِدَ الْيَمِينُ عِنْدَ إرَادَةِ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ كَلَامَ جَمِيعِ النَّاسِ وَتَزَوُّجَ جَمِيعِ النِّسَاءِ وَشِرَاءَ جَمِيعِ الْعَبِيدِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ كَمَا لَمْ يَنْعَقِدْ فِي قَوْلِهِ لَأَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي الْكُوزِ وَلَا مَاءَ فِيهِ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ شُرْبِ الْمَاءِ الْمَعْدُومِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْبِرِّ فِي مَسْأَلَةِ الْكُوزِ شُرْبُ الْمَاءِ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ، فَأَمَّا شَرْطُ الْبِرِّ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ فَعَدَمُ الْكَلَامِ وَالتَّزَوُّجِ وَالشِّرَاءِ، وَهُوَ مُتَصَوَّرٌ؛ فَإِنْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ نِسَاءً أَوْ لَا يَشْتَرِي عَبِيدًا فَهَذَا عَلَى الثَّلَاثَةِ مِمَّا ذُكِرَ؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْجِنْسِ عُدِمَتْ هَهُنَا فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَأَدْنَاهُ ثَلَاثَةٌ؛ فَإِنْ نَوَى بِهِ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ قَالُوا يَكُونُ مُصَدَّقًا؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْقَاسِمِ لَا يُصَدَّقُ قَضَاءً؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةً لَا تَثْبُتُ إلَّا بِنِيَّةٍ، وَفِيهِ تَخْفِيفٌ فَلَا يَصْدُقُ قَضَاءً؛ فَإِنْ نَوَى الْوَاحِدَ مِمَّا ذُكِرَ صَحَّتْ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ وَفِيهِ تَغْلِيظٌ عَلَيْهِ فَيُصَدَّقُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إنْ تَزَوَّجْت ثَلَاثَ نِسْوَةٍ فَكَذَا، وَقَالَ: عَنَيْت بِهِ الْوَاحِدَةَ لَا يُصَدَّقُ. وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَغْلِيظٌ؛ لِأَنَّهُ نَوَى الْخُصُوصَ فِي الْعَدَدِ، وَذَلِكَ

وَإِنَّمَا أُشْكِلَ عَلَى الْأَقْرَعِ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ ذَلِكَ بِسَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ أَنَّ كُلَّ اسْمِ فَاعِلٍ دَلَّ عَلَى الْمَصْدَرِ لُغَةً مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] لَمْ يَحْتَمِلْ الْعَدَدَ حَتَّى قُلْنَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَدَّ بِالْآيَةِ إلَّا الْأَيْمَانُ؛ لِأَنَّ كُلَّ السَّرِقَاتِ غَيْرُ مُرَادٍ بِالْإِجْمَاعِ فَصَارَ الْوَاحِدُ مُرَادًا وَبِالْفِعْلِ الْوَاحِدِ لَا يُقْطَعُ إلَّا وَاحِدٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا يَصِحُّ إلَّا بِطَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّامَ وَحْدَهَا هِيَ حَرْفُ التَّعْرِيفِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَالْهَمْزَةُ قَبْلَهَا هَمْزَةُ وَصْلٍ مَجْلُوبَةٌ لِلِابْتِدَاءِ كَهَمْزَةِ اسْمِ وَابْنِ وَعِنْدَ الْخَلِيلِ كَلِمَةُ التَّعْرِيفِ أَلْ كَهَلْ وَبَلْ؛ وَإِنَّمَا اسْتَمَرَّ التَّخْفِيفُ بِالْهَمْزَةِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ فَالشَّيْخُ بِقَوْلِهِ لَغَا حَرْفُ الْعَهْدِ وَقَوْلُهُ بَقِيَ اللَّامُ أَشَارَ إلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ حَرْفَا الْعَهْدِ وَبَقِيَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ كَمَا قَالَ غَيْرُهُ. قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا أُشْكِلَ) جَوَابٌ عَمَّا تَمَسَّكَ بِهِ الْفَرِيقَانِ الْأَوَّلَانِ مِنْ سُؤَالِ الْأَقْرَعِ فَقَالَ لَمْ يَكُنْ سُؤَالُهُ بِنَاءً عَلَى الِاحْتِمَالِ الَّذِي ذَكَرُوهُ بَلْ إنَّمَا كَانَ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ أَنَّ سَائِرَ الْعِبَادَاتِ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَسْبَابٍ مُتَكَرِّرَةٍ مِثْلَ تَعَلُّقِ الصَّلَاةِ بِالْأَوْقَاتِ وَالصَّوْمِ بِالشَّهْرِ وَالزَّكَاةِ بِالْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ وَلِهَذَا تَكَرَّرَتْ بِتَكَرُّرِ النَّمَاءِ، وَقَدْ رَأَى الْحَجَّ مُتَعَلِّقًا بِالْوَقْتِ الَّذِي هُوَ مُتَكَرِّرٌ بِحَيْثُ لَمْ يَصِحَّ أَدَاؤُهُ قَبْلَهُ وَبِالْبَيْتِ الَّذِي لَيْسَ هُوَ بِمُتَكَرِّرٍ فَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ؛ فَلِهَذَا سُئِلَ لَا لِكَوْنِ الْأَمْرِ لِلتَّكْرَارِ لُغَةً، وَمَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَوْ قُلْت نَعَمْ لَوَجَبَتْ» أَيْ لَوْ قُلْت نَعَمْ يَجِبُ فِي كُلِّ عَامٍ لَوَجَبَتْ فَرِيضَةُ الْحَجِّ فِي كُلِّ عَامٍ وَحِينَئِذٍ صَارَ الْوَقْتُ سَبَبًا، فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ صَاحِبَ الشَّرْعِ وَإِلَيْهِ نَصْبُ الشَّرَائِعِ كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ، السَّارِقُ لَا يُؤْتَى عَلَى أَطْرَافِهِ الْأَرْبَعَةِ عِنْدَنَا وَلَكِنْ يُحْبَسُ حَتَّى يُحْدِثَ تَوْبَةً وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُؤْتَى عَلَى الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى الْأَيْدِي بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَأَضَافَهَا إلَى السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ فَأَوْجَبَتْ الِاسْتِغْرَاقَ كَقَوْلِك عَبِيدُكُمَا فَيَدْخُلُ الْيَسَارُ كَالْيَمِينِ فِي الْحُكْمِ بِمُطْلَقِ الِاسْمِ كَمَا فِي الطَّهَارَةِ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ الْإِطْلَاقِ وَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى النَّسْخِ عِنْدَكُمْ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ صِيغَةِ الْجَمْعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ لِسَارِقٍ وَسَارِقَةٍ أَيْمَانٌ بَلْ لَهُمَا يَمِينَانِ فَثَبَتَ أَنَّ الْيَسَارَ مَحَلُّ الْقَطْعِ كَالْيَمِينِ وَكَيْفَ إلَّا وَالْيَسَارُ آلَةُ السَّرِقَةِ كَالْيَمِينِ وَفَوْقَ الرِّجْلِ الْيُسْرَى فَيَكُونُ مَحَلُّ الْقَطْعِ إلَّا أَنَّ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ يَثْبُتُ الْمَحَلِّيَّةُ لِلرَّجُلِ بِالسُّنَّةِ وَبِالْإِجْمَاعِ فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ انْتِفَاءَ الْمَحَلِّيَّةِ الثَّابِتَةِ بِمُطْلَقِ الْكِتَابِ. وَلَنَا قِرَاءَةُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مِنْ قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَيَّدِ مِنْ الْمُطْلَقِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا مِنْ الْأَيْدِي فَلَا يَتَنَاوَلُ الْيُسْرَى فَهَذَا قَيْدٌ جَاءَ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قَطْعُ يَدٍ، فَإِذَا قُيِّدَتْ بِالْيَمِينِ كَانَ الْقَيْدُ زِيَادَةَ وَصْفٍ يَثْبُتُ فِيهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] مُتَتَابِعَاتٍ فَيَرْتَفِعُ الْإِطْلَاقُ بِالْقَيْدِ، وَيَجِبُ الْحَمْلُ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَانَ كَرَجُلٍ قَالَ لِآخَر أَعْتِقْ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِي ثُمَّ قَالَ عَنَيْت سَالِمًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ لَا يَقْطَعُ الْيُسْرَى وَيَقْطَعُ الرِّجْلَ فَلَوْ كَانَ النَّصُّ مُتَنَاوِلًا لِلْيُسْرَى لَمْ يَجُزْ قَطْعُ الرِّجْلِ مَعَ بَقَاءِ الْيَدِ؛ لِأَنَّ مَعَ بَقَاءِ الْمَنْصُوصِ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ إلَى غَيْرِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ التَّقْيِيدُ فِي النَّصِّ جُعِلَتْ صِيغَةُ الْجَمْعِ مَجَازًا عَنْ التَّثْنِيَةِ ضَرُورَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] كَيْفَ وَالْعَمَلُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ غَيْرُ مُمْكِنٍ عَلَى مَا نَذْكُرُ فَثَبَتَ أَنَّ الْيَسَارَ لَمْ يَدْخُلْ فِي النَّصِّ وَأَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْ إلَّا الْيُمْنَى وَأَنَّ اسْتِدْلَالَ الْخَصْمِ بِالْآيَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَكَذَا بِالْقِيَاسِ إذْ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْحُدُودِ، ثُمَّ الشَّيْخُ خَرَّجَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَهُ فَقَالَ: وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَيْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ؛ لِأَنَّهُ فَرْدٌ،

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQيَخْرُجُ أَنَّ كُلَّ اسْمِ فَاعِلٍ، وَقَوْلُهُ دَلَّ عَلَى الْمَصْدَرِ لُغَةً صِفَةٌ لِفَاعِلٍ وَاحْتَرَزَ بِهِ عَنْ اسْمِ الْفَاعِلِ إذَا جُعِلَ عَلَمًا مِثْلُ الْحَارِثِ وَالْقَاسِمِ فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَقَوْلُهُ لَمْ يَحْتَمِلْ الْعَدَدُ خَبَرَانِ. (فَإِنْ قِيلَ) فَالضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُ فِي لَمْ يَحْتَمِلْ إنْ جُعِلَ رَاجِعًا إلَى كُلِّ اسْمِ فَاعِلٍ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْكَلَامِ لَمْ يَبْقَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْمَقْصُودِ، وَهُوَ نَفْيُ الْقَطْعِ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ؛ وَإِنْ جُعِلَ رَاجِعًا إلَى الْمَصْدَرِ لَا يَخْلُو التَّرْكِيبُ عَنْ نَوْعِ خَلَلٍ إذْ الْخَبَرُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَحْكُومًا بِهِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَهُوَ اسْمُ إنَّ هَهُنَا وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ رَاجِعًا إلَى الْمَصْدَرِ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ (قُلْنَا) دَأَبَ الْمَشَايِخُ النَّظَرَ إلَى الْمَعْنَى لَا إلَى التَّرْكِيبِ كَذَا سَمِعْت عَنْ شَيْخِنَا الْعَلَّامَةِ مَوْلَانَا حَافِظِ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَمَّا كَانَ بِنَاءُ الْبَابِ لِبَيَانِ أَنَّ الْمَصْدَرَ لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ نَفْيُ احْتِمَالِ الْعَدَدِ عَنْ الْمَصْدَرِ لَا عَنْ الْفَاعِلِ وَصَارَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قَالَ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ أَنَّ كُلَّ مَصْدَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ اسْمُ فَاعِلٍ لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ كَالْمَصْدَرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، وَرَأَيْت فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَلَمْ يَحْتَمِلْ الْعَدَدَ بِالْوَاوِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْخَبَرُ قَوْلَهُ دَلَّ عَلَى الْمَصْدَرِ وَلَا يُرَادُ السُّؤَالُ، ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَحْتَمِلْ الْمَصْدَرُ الثَّابِتُ بِلَفْظِ السَّارِقِ الْعَدَدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْآيَةِ إلَّا الْأَيْمَانُ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَحْتَمِلْ الْعَدَدَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْكُلُّ أَوْ الْأَقَلُّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْكُلُّ؛ لِأَنَّ كُلَّ السَّرِقَاتِ الَّتِي تُوجَدُ مِنْهُ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِآخِرِ الْعُمْرِ فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا يُقْطَعَ؛ وَإِنْ سَرَقَ أَلْفَ مَرَّةٍ إلَّا عِنْدَ الْمَوْتِ وَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ سَرِقَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَأَنَّهُ قِيلَ الَّذِي فَعَلَ سَرِقَةً وَاَلَّتِي فَعَلَتْ سَرِقَةً {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ثُمَّ ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنْ يَقْطَعَ الْيَدَانِ جَمِيعًا بِسَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ غَيْرُ مُرَادٍ بِالْإِجْمَاعِ أَيْضًا فَثَبَتَ أَنَّ الْوَاجِبَ بِالْآيَةِ قَطْعُ يَدٍ وَاحِدَةٍ لِسَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ فِي حَقِّ كُلِّ سَارِقٍ وَسَارِقَةٍ. ثُمَّ هَذِهِ الْيَدُ الْوَاحِدَةُ إمَّا أَنْ تَكُونَ الْيُمْنَى أَوْ الْيُسْرَى وَقَدْ ثَبَتَ أَيْضًا بِالْإِجْمَاعِ وَبِالسُّنَّةِ قَوْلًا وَفِعْلًا وَبِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ قَطْعَ الْيُمْنَى مُرَادٌ بِالْآيَةِ فَلَمْ يَبْقَ قَطْعُ الْيُسْرَى مُرَادًا بِهَا ضَرُورَةً فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ لَمْ يَحْتَمِلْ الْعَدَدَ حَتَّى قُلْنَا إلَى آخِرِهِ، وَلَوْ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْعَدَدِ كَمَا زَعَمَ الْخَصْمُ لَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ قَطْعُ الْيُسْرَى بِالْآيَةِ كَالْيُمْنَى وَصَارَ التَّقْدِيرُ الَّذِي سَرَقَ سَرِقَاتٍ وَاَلَّتِي سَرَقَتْ سَرِقَاتٍ فَاقْطَعُوا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا يَدًا، وَذَكَرَ فِي طَرِيقِهِ الْخِلَافَ لِلْإِمَامِ الْبُرْغَرِيِّ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ أَمَّا قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ فَلَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ السَّرِقَةَ إنَّمَا ذَكَرَ اسْمَ السَّارِقِ وَهَذَا يَقْتَضِي السَّرِقَةَ وَلَا يَتَنَاوَلُ إلَّا سَرِقَةً وَاحِدَةً وَبِالْإِجْمَاعِ لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا يَدٌ وَاحِدَةٌ؛ فَإِنْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ مَعْمُولًا بِهَا لَقُطِعَتْ الْيَدَانِ كِلَاهُمَا بِالْمَرَّةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ الْمَذْكُورَةَ جَزَاءُ جِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ كَالْجَلْدِ مِائَةً فِي الزِّنَا وَأَجْمَعْنَا أَنَّ بِالسَّرِقَةِ الْوَاحِدَةِ لَا يُقْطَعُ إلَّا الْيَمِينُ عَرَفْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْيَمِينَ (فَإِنْ قِيلَ) قَدْ ثَبَتَ تَكَرُّرُ الْجَلْدِ بِتَكَرُّرِ الزِّنَا مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ مَعَ أَنَّ الْمَصْدَرَ وَهُوَ الزِّنَا لَا يَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ وَالْعَدَدُ كَمَا قُلْتُمْ فِي السَّرِقَةِ فَلْيَكُنْ السَّرِقَةُ كَذَلِكَ (قُلْنَا) قَدْ ثَبَتَ فِي قَوَاعِدِ الشَّرْعِ أَنَّ الْمَصْدَرَ فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ فَالزِّنَا عِلَّةٌ وَالْجَلْدُ حُكْمُهُ فَتَكَرَّرَ بِتَكَرُّرِهِ لِبَقَاءِ مَحَلِّ الْحُكْمِ، وَهُوَ الْبَدَنُ، فَأَمَّا السَّرِقَةُ فَعِلَّةٌ لِلْقَطْعِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ حُكْمَهَا الثَّابِتُ بِالنَّصِّ قَطْعُ الْيَمِينِ وَبِقَطْعِهَا مَرَّةً

[باب بيان صفة حكم الأمر]

وَمُوجِبُ الْأَمْرِ عَلَى مَا فَسَّرْنَا يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ وَكُلُّ نَوْعٍ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ وَهَذَا تَنْوِيعٌ فِي صِفَةِ الْحُكْمِ. (بَابٌ) يُلَقَّبُ بِبَيَانِ صِفَةِ حُكْمِ الْأَمْرِ وَذَلِكَ نَوْعَانِ: أَدَاءٌ وَقَضَاءٌ وَالْأَدَاءُ: ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَدَاءٌ كَامِلٌ مَحْضٌ وَأَدَاءٌ قَاصِرٌ مَحْضٌ وَمَا هُوَ شَبِيهٌ بِالْقَضَاءِ وَالْقَضَاءُ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: نَوْعٌ بِمِثْلٍ مَعْقُولٍ وَنَوْعٌ بِمِثْلٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ وَنَوْعٌ بِمَعْنَى الْأَدَاءِ، وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ تَدْخُلُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَدْخُلُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ أَيْضًا ـــــــــــــــــــــــــــــQلَمْ يَبْقَ حُكْمُ الْمَحَلِّ أَصْلًا كَمَا بَعْدَ الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ عِنْدَكُمْ؛ فَلِهَذَا لَا يَتَكَرَّرُ الْحُكْمُ بِتَكَرُّرِهَا قَوْلُهُ (وَمُوجِبُ الْأَمْرِ إلَى آخِرِهِ) . وَاعْلَمْ أَنَّ الثَّابِتَ بِالْأَمْرِ، وَهُوَ الْوَاجِبُ يَنْقَسِمُ بِحَسَبِ نَفْسِهِ إلَى مُعَيَّنٍ كَأَكْثَرِ الْوَاجِبَاتِ، وَإِلَى مُخَيَّرٍ كَأَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَبِحَسَبِ فَاعِلِهِ إلَى فَرْضِ عَيْنٍ كَعَامَّةِ الْعِبَادَاتِ وَإِلَى فَرْضِ كِفَايَةٍ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالْجِهَادِ وَبِحَسَبِ وَقْتِهِ إلَى مُوَسَّعِ كَالصَّلَاةِ وَإِلَى مُضَيَّقٍ كَالصَّوْمِ وَإِلَى أَدَاءً وَقَضَاءٍ كَمَا يُذْكَرُ فَالشَّيْخُ ذَكَرَ عَامَّةَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَبَدَأَ بِتَقْسِيمِ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ فَقَالَ: وَمُوجِبُ الْأَمْرِ عَلَى مَا فَسَّرْنَا يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ، قِيلَ مَعْنَاهُ الْوَاجِبُ بِالْأَمْرِ نَوْعَانِ: أَدَاءٌ وَقَضَاءٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوْعَانِ حَسَنٌ لِمَعْنًى فِي عَيْنِهِ وَحَسَنٌ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ كَلَامَنَا فِي مُوجِبِ الْأَمْرِ وَالْمَأْمُورُ بِهِ حَسَنٌ لَا مَحَالَةَ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ مُوجِبَ الْأَمْرِ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي صِفَةٍ قَائِمَةٍ فِي الْمُوجِبِ وَالثَّانِي فِي صِفَةٍ قَائِمَةٍ فِي غَيْرِ الْمُوجِبِ ثُمَّ الْأَوَّلُ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ وَهُمَا الْأَدَاءُ وَالْقَضَاءُ، وَهَذِهِ صِفَةٌ رَاجِعَةٌ إلَى نَفْسِ الْمُوجِبِ كَمَا تَرَى وَالثَّانِي يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ أَيْضًا وَهُمَا الْمُؤَقَّتُ وَغَيْرُ الْمُؤَقَّتِ وَالْوَقْتُ صِفَةٌ رَاجِعَةٌ إلَى غَيْرِ الْمُوجِبِ، وَاَلَّذِي يَدُورُ فِي خُلْدِي أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ مُوجِبَ الْأَمْرِ أَيْ الثَّابِتُ بِالْأَمْرِ. وَهُوَ الْوَاجِبُ عَلَى مَا فَسَّرْنَا أَنَّ الْأَمْرَ لِلْإِيجَابِ، يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ وَهُمَا الْأَدَاءُ وَالْقَضَاءُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ أَيْضًا وَهُمَا الْأَدَاءُ الْمَحْضُ وَغَيْرُ الْمَحْضِ وَالْقَضَاءُ الْمَحْضُ وَغَيْرُ الْمَحْضِ فَمُحَصَّلُ الْأَقْسَامِ أَرْبَعَةٌ: ثُمَّ يَنْقَسِمُ الْأَدَاءُ الْمَحْضِ إلَى كَامِلٍ وَقَاصِرٍ وَالْقَضَاءُ الْمَحْضُ إلَى الْقَضَاءِ بِمِثْلٍ مَعْقُولٍ وَبِمِثْلٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ فَصَارَ الْأَقْسَامُ سِتَّةً فَبَيَّنَ الشَّيْخُ قَبْلَ الْبَابِ التَّقْسِيمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ الَّذِينَ بِهِمَا صَارَ الْأَقْسَامُ أَرْبَعَةً وَبَعْدَ الْبَابِ اعْتَبَرَ الْحَاصِلَ مِنْ التَّقَاسِيمِ وَبَيَّنَ الْأَقْسَامَ سِتَّةً، وَذَلِكَ لَا يُخِلُّ بِالْمَعْنَى، وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا تَقْسِيمُ مُطْلَقِ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى تَرَكُّبِهِمَا وَتَمَحُّضِهِمَا، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ أَدَاءٌ كَامِلٌ، وَقَاصِرٌ، وَقَضَاءٌ بِمِثْلٍ مَعْقُولٍ، وَبِمِثْلٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ فَدَخَلَ الْمُتَرَكِّبُ مِنْهُمَا فِي هَذَا التَّقْسِيمِ كَالْمُتَمَحِّضِ ثُمَّ بَعْدَ الْبَابِ مَيَّزَ الْمُتَرَكِّبَ مِنْهُمَا مِنْ الْمُتَمَحِّضِ مِنْهُمَا فَمُحَصَّلُ الْأَقْسَامِ سِتَّةٌ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَقُ لِلْكُتُبِ فَإِنَّ الشَّيْخَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ ثُمَّ حُكْمُ الْوُجُوبِ شَيْئَانِ الْأَدَاءُ وَالْقَضَاءُ وَالْأَدَاءُ عَلَى نَوْعَيْنِ وَاجِبٍ وَنَفْلٍ وَالْقَضَاءُ عَلَى نَوْعَيْنِ أَيْضًا بِمِثْلٍ يُعْقَلُ وَبِمِثْلٍ لَا يُعْقَلُ لَكِنَّهُ ثَبَتَ شَرْعًا وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ هَهُنَا أَخْرَجَ النَّفَلَ عَنْ قِسْمِ الْأَدَاءِ وَجَعَلَ الْأَدَاءَ الْوَاجِبَ عَلَى قِسْمَيْنِ كَامِلٍ وَقَاصِرٍ. قَوْلُهُ (وَهَذَا تَنْوِيعٌ فِي صِفَةِ الْحُكْمِ) أَيْ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ التَّقْسِيمِ تَنْوِيعٌ فِي صِفَةِ حُكْمِ الْأَمْرِ وَهَذَا الْبَابُ لِبَيَانِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ هَذَا إشَارَةٌ إلَى الْبَابِ لَا إلَى مَا ذُكِرَ مِنْ التَّقْسِيمِ؛ لِأَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ الْبَابُ هُوَ بَيَانُ أَنْوَاعِ صِفَةِ الْحُكْمِ، وَلِهَذَا لُقِّبَ الْبَابُ بِهِ وَالتَّنْوِيعُ الْمَذْكُورُ يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ كَمَا يَتَنَاوَلُهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَلَا يَصِحُّ صَرْفُ اسْمِ الْإِشَارَةِ إلَيْهِ فَيَجِبُ صَرْفُهُ إلَى الْبَابِ أَيْ هَذَا الْبَابُ تَنْوِيعٌ فِي صِفَةِ الْحُكْمِ، وَلَكِنَّ إعَادَةَ لَفْظَةِ هَذَا فِي قَوْلِهِ وَهَذَا بَابٌ يَأْبَى ذَلِكَ [بَابٌ بَيَانِ صِفَةِ حُكْمِ الْأَمْرِ] (بَابٌ يُلَقَّبُ بِبَيَانِ صِفَةِ حُكْمِ الْأَمْرِ) ، وَذَلِكَ أَيْ حُكْمُ الْأَمْرِ، وَقَوْلُهُ كَامِلٌ وَقَاصِرٌ تَقْسِيمٌ لِلْأَدَاءِ الْمَحْضِ، بِمِثْلٍ مَعْقُولٍ أَيْ مُمَاثَلَتُهُ مُدْرَكٌ بِالْعَقْلِ، وَبِمِثْلٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ أَيْ غَيْرِ مُدْرَكٍ بِعُقُولِنَا لَا أَنَّهُ خِلَافُ الْعَقْلِ إذْ الْعَقْلُ حُجَّةٌ

وَالْأَدَاءُ اسْمٌ لِتَسْلِيمِ نَفْسِ الْوَاجِبِ بِالْأَمْرِ وَالْقَضَاءُ اسْمٌ لِتَسْلِيمِ مِثْلِ الْوَاجِبِ بِهِ كَمَنْ غَصَبَ شَيْئًا لَزِمَهُ تَسْلِيمُ عَيْنِهِ وَرَدِّهِ فَيَصِيرُ بِهِ مُؤَدِّيًا وَإِذَا هَلَكَ لَزِمَهُ ضَمَانُهُ فَيَصِيرُ بِهِ قَاضِيًا وَقَدْ يَدْخُلُ فِي الْأَدَاءِ قِسْمٌ آخَرُ وَهُوَ النَّفَلُ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْأَمْرَ حَقِيقَةً فِي الْإِبَاحَةِ وَالنَّدْبِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ حُجَجِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تَنَاقُضَ فِي حُجَجِهِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِخِلَافِ الْعَقْلِ كَذَا قِيلَ. قَوْلُهُ (وَالْأَدَاءُ اسْمٌ لِتَسْلِيمِ نَفْسِ الْوَاجِبِ) أَيْ عَيْنِهِ، بِالْأَمْرِ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَهِيَ تَتَعَلَّقُ بِالْوَاجِبِ لَا بِالتَّسْلِيمِ عَلَى مَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَيْ الْوَاجِبُ بِسَبَبِ الْأَمْرِ، وَإِضَافَةُ الْوَاجِبِ إلَى الْأَمْرِ تَوَسُّعٌ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِالسَّبَبِ وَوُجُوبَ الْأَدَاءِ بِالْأَمْرِ عَلَى مَا يُعْرَفُ بَعْدُ إلَّا أَنَّ السَّبَبَ لَمَّا عُلِمَ بِالْأَمْرِ أُضِيفَ الْوُجُوبُ إلَيْهِ، وَهَذَا التَّعْرِيفُ يَشْمَلُ تَسْلِيمَ الْمُؤَقَّتِ فِي وَقْتِهِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَتَسْلِيمَ غَيْرِ الْمُؤَقَّتِ كَالزَّكَاةِ (فَإِنْ قِيلَ) كَيْفَ يُمْكِنُ تَسْلِيمُ عَيْنِ الْوَاجِبِ، وَهُوَ وَصْفٌ فِي الذِّمَّةِ لَا يَقْبَلُ التَّصَرُّفَ مِنْ الْعَبْدِ؛ وَلِهَذَا قِيلَ الدُّيُونُ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا لَا بِأَعْيَانِهَا (قُلْنَا) لَمَّا شَغَلَ الشَّرْعُ الذِّمَّةَ بِالْوَاجِبِ ثُمَّ أَمَرَ بِتَفْرِيغِهَا أَخَذَ مَا يَحْصُلُ بِهِ فَرَاغُ الذِّمَّةِ حُكْمَ ذَلِكَ الْوَاجِبِ كَأَنَّهُ عَيْنُهُ، أَوْ يُقَالُ الْوَاجِبُ بِالْأَمْرِ غَيْرُ الْوَاجِبِ بِالسَّبَبِ إذْ الْوَاجِبُ بِالْأَمْرِ فِعْلُ الصَّلَاةِ أَوْ إيتَاءُ رُبْعِ الْعُشْرِ الَّذِي بِهِ يَحْصُلُ فَرَاغُ الذِّمَّةِ مَثَلًا، وَهُوَ مُمْكِنُ التَّسْلِيمِ فَأَمَّا الْوَصْفُ الشَّاغِلُ لِلذِّمَّةِ فَحَاصِلٌ بِالسَّبَبِ لَا بِالْأَمْرِ فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ إضَافَةُ الْوَاجِبِ إلَى الْأَمْرِ فِي التَّعْرِيفِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ بَلْ يَكُونُ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ كَذَا قِيلَ. قَوْلُهُ (وَالْقَضَاءُ اسْمٌ لِتَسْلِيمِ مِثْلِ الْوَاجِبِ بِهِ) أَيْ بِالْأَمْرِ وَلَمْ يَذْكُرْ الشَّيْخُ مِثْلَ الْوَاجِبِ مِنْ عِنْدَهُ كَمَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فَقَالَ الْقَضَاءُ إسْقَاطُ الْوَاجِبِ بِمِثْلِ مَنْ عِنْدَ الْمَأْمُورِ هُوَ حَقُّهُ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَيْضًا. وَلَا بُدَّ مِنْهُ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عِنْدِ الْمَأْمُورِ لَا يَكُونُ قَضَاءً؛ وَإِنْ كَانَ مِثْلًا لِلْوَاجِبِ فَإِنَّ مَنْ صَرَفَ دَرَاهِمَ الْغَيْرِ إلَى دَيْنِهِ لَا يَكُونُ قَضَاءً وَلِلْمَالِكِ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا مِنْ رَبِّ الدَّيْنِ، وَكَذَا لَوْ صَرَفَ الْعَصْرَ إلَى الظُّهْرِ أَوْ ظُهْرَ الْيَوْمِ إلَى ظُهْرِ الْأَمْسِ بِأَنْ نَوَى أَنْ يَكُونَ هَذَا الظُّهْرُ قَضَاءً عَنْ الْفَائِتِ لَا يَصِحُّ؛ وَإِنْ كَانَتْ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَائِتِ أَقْوَى مِنْهَا بَيْنَ النَّفْلِ وَالْفَائِتِ بِكَوْنِهَا ثَابِتَةً بَيْنَ الظُّهْرِ وَالظُّهْرِ ذَاتًا وَوَصْفًا وَبَيْنَ النَّفْلِ وَالظُّهْرِ ذَاتًا لَا وَصْفًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ عِنْدِهِ أَلَا تَرَى كَيْفَ أَكَّدَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِهِ هُوَ حَقُّهُ احْتِرَازًا عَنْ الْوَدِيعَةِ وَلِهَذَا اُخْتِيرَ فِي الْمُنْتَخَبِ مَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قَوْلُهُ (وَقَدْ يَدْخُلُ فِي الْأَدَاءِ قِسْمٌ آخَرُ) أَيْ يُزَادُ عَلَيْهِ قِسْمٌ آخَرُ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْأَمْرَ حَقِيقَةً فِي النَّدْبِ فَيَصِيرُ الْأَدَاءُ عِنْدَهُ قِسْمَيْنِ تَسْلِيمُ عَيْنِ الْوَاجِبِ كَمَا ذَكَرْنَا وَتَسْلِيمُ عَيْنِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ، قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ الْأَدَاءُ نَوْعَانِ: وَاجِبٌ كَالْفَرْضِ فِي وَقْتِهِ وَغَيْرُ وَاجِبٍ كَالنَّفْلِ وَكَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ أَيْضًا فَقَالَ الْأَدَاءُ عَلَى نَوْعَيْنِ: وَاجِبٌ وَنَفْلٌ وَكِلَاهُمَا مُوجِبُ الْأَمْرِ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ حَقِيقَةً فِي الْإِبَاحَةِ أَيْضًا يَنْبَغِي أَنْ يَنْقَسِمَ الْأَدَاءُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ تَسْلِيمُ الْوَاجِبِ وَتَسْلِيمُ الْمَنْدُوبِ وَتَسْلِيمُ الْمُبَاحِ إذْ الْكُلُّ مُوجِبٌ لِلْآمِرِ عِنْدَهُ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا قَوْلٌ خَارِجٌ عَنْ الْإِجْمَاعِ، وَالتَّعْرِيفُ الشَّامِلُ لِلْقِسْمَيْنِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ هُوَ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ الْأَدَاءُ اسْمٌ لِفِعْلِ مَا طُلِبَ مِنْ الْعَمَلِ بِعَيْنِهِ. وَإِنْ جُعِلَ الْوَاجِبُ بِمَعْنَى الثَّابِتِ فِي التَّعْرِيفِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ فَهُوَ يَشْمَلُ الْقِسْمَيْنِ أَيْضًا، وَالشَّامِلُ لِلْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ هُوَ مَا يُقَالُ الْأَدَاءُ تَسْلِيمُ عَيْنِ مَا أُمِرَ بِهِ، قَالَ الْإِمَامُ بَدْرُ الدِّينِ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّمَا ذَكَرَ هَذَا يَعْنِي قَوْلَهُ يَدْخُلُ فِي الْأَدَاءِ قِسْمٌ آخَرُ احْتِرَازٌ عَمَّا

فَأَمَّا الْقَضَاءُ فَلَا يَحْتَمِلُ هَذَا الْوَصْفَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] وَقَدْ يَدْخُلُ إحْدَى الْعِبَارَتَيْنِ فِي قِسْمِ الْعِبَارَةِ الْأُخْرَى ـــــــــــــــــــــــــــــQيُقَالُ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ تَفْسِيرِ الْأَدَاءِ يُنْتَقَضُ بِقَوْلِهِمْ أَدَّى النَّفَلَ، وَهُوَ لَيْسَ بِتَسْلِيمِ الْوَاجِبِ بِالْأَمْرِ فَلَا يَكُونُ التَّعْرِيفُ جَامِعًا يُقَالُ هَذَا قِسْمٌ آخَرُ وَمَا ذَكَرْنَا قِسْمٌ آخَرُ إذْ نَحْنُ فِي تَفْسِيرِ الْأَدَاءِ الَّذِي هُوَ مُوجِبُ الْأَمْرِ فَلَا يَرِدُ ذَلِكَ نَقْضًا عَلَيْنَا قَوْلُهُ (فَأَمَّا الْقَضَاءُ فَلَا يَحْتَمِلُ هَذَا الْوَصْفَ) ، وَهُوَ دُخُولُ النَّفْلِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِ الْمَتْرُوكِ مَضْمُونًا وَالنَّفَلُ لَا يُضْمَنُ بِالتَّرْكِ. وَأَمَّا إذَا شَرَعَ فِي النَّفْلِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ فَإِنَّمَا يَجِبُ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ بِالشُّرُوعِ صَارَ مُلْحَقًا بِالْوَاجِبِ لَا؛ لِأَنَّهُ نَفْلٌ كَمَا قَبْلَ الشُّرُوعِ قَوْلُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُتَّصِلٌ، بِقَوْلِهِ الْأَدَاءُ تَسْلِيمُ نَفْسِ الْوَاجِبِ وَاسْتِشْهَادٌ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي تَسْلِيمِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي تَسْلِيمِ مِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ، وَذَلِكَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ طَلَبَ الْمِفْتَاحَ فَقِيلَ لَهُ إنَّهُ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ وَكَانَ يَلِي سِدَانَةَ الْكَعْبَةِ فَوَجَّهَ إلَيْهِ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَبَى أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ وَقَالَ لَوْ عَلِمْت أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ لَمْ أَمْنَعْهُ الْمِفْتَاحَ فَلَوَى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَدَهُ وَأَخَذَهُ مِنْهُ قَسْرًا حَتَّى دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَيْتَ وَصَلَّى فِيهِ فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ اجْمَعْ لِي السِّدَانَةَ مَعَ السِّقَايَةِ وَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ الْمِفْتَاحَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِرَدِّهِ إلَيْهِ فَرَدَّهُ إلَيْهِ وَأَلْطَفَ لَهُ فِي الْقَوْلِ وَاعْتَذَرَ إلَيْهِ فَقَالَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَكْرَهْت وَآذَيْت ثُمَّ جِئْت تَرْفُقُ قَالَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ فِي شَأْنِك قُرْآنًا وَأَمَرَنَا بِرَدِّهِ عَلَيْك، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فَأَتَى النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَسْلَمَ ثُمَّ إنَّهُ هَاجَرَ وَدَفَعَ الْمِفْتَاحَ إلَى أَخِيهِ شَيْبَةَ فَهُوَ فِي وَلَدِهِ إلَى الْيَوْمِ» ، وَأَمَانَةٌ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ الشَّيْءُ الَّذِي يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ، ثُمَّ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ أَمَانَةٍ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْأَمَانَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ فِي الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَالْجَنَابَةِ وَفِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ الْوَدَائِعُ. وَذَكَرَ فِي عَيْنِ الْمَعَانِي قَدْ دَخَلَ فِي هَذَا الْأَمْرِ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ الَّتِي هِيَ أَمَانَةُ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي حَمَّلَهَا الْإِنْسَانَ وَحِفْظُ الْحَوَاسِّ الَّتِي هِيَ وَدَائِعُ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ ثُمَّ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ بِمَنْزِلَةِ عَيْنٍ مُودَعَةٍ عِنْدَهُ، فَإِذَا أَدَّاهُ فِي وَقْتِهِ مُرَاعِيًا حَقَّهُ بِأَقْصَى الْإِمْكَانِ كَانَ أَدَاءً بِمَنْزِلَةِ تَسْلِيمِ عَيْنِ الْوَدِيعَةِ وَإِذْ قَصَّرَ فِي رِعَايَتِهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْخِيَانَةِ فِي الْأَمَانَةِ فَكَانَ قَضَاءً إذْ الْخِيَانَةُ فِي الْأَمَانَةِ يُوجِبُ الضَّمَانَ وَأَدَاءُ الضَّمَانِ قَضَاءٌ حَقِيقَةً لَا أَدَاءٌ كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ، وَاعْلَمْ أَنَّ عَامَّةَ الْأُصُولِيِّينَ قَسَّمُوا الْوَاجِبَ إلَى أَدَاءً وَقَضَاءٍ وَإِعَادَةٍ، ثُمَّ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ الْأَمْرَ حَقِيقَةً فِي النَّدْبِ فَسَّرَ الْأَقْسَامَ فَقَالَ: الْأَدَاءُ تَسْلِيمُ عَيْنِ الْوَاجِبِ فِي وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ أَيْ الْمُقَدَّرِ شَرْعًا وَالْقَضَاءُ تَسْلِيمُ مِثْلِ الْوَاجِبِ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ شَرْعًا، وَالْإِعَادَةُ إتْيَانُ مِثْلِ الْأَوَّلِ عَلَى صِفَةِ الْكَمَالِ بِأَنْ وَجَبَ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِعْلُ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ فَأَدَّاهُ عَلَى وَجْهِ النُّقْصَانِ وَهُوَ نُقْصَانٌ فَاحِشٌ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَهِيَ إتْيَانُ مِثْلِ الْأَوَّلِ ذَاتًا مَعَ صِفَةِ الْكَمَالِ كَذَا ذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ، فَعَلَى هَذَا إذَا فَعَلَ ثَانِيًا فِي الْوَقْتِ أَوْ خَارِجَ الْوَقْتِ يَكُونُ إعَادَةً، وَعِبَارَةُ بَعْضِهِمْ الْوَاجِبُ إذَا فُعِلَ فِي وَقْتِهِ وَيُسَمَّى أَدَاءً وَإِذَا فُعِلَ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهِ الْمُضَيَّقِ أَوْ الْمُوَسَّعِ يُسَمَّى قَضَاءً؛ وَإِنْ فُعِلَ مَرَّةً عَلَى نَوْعٍ مِنْ الْخَلَلِ ثُمَّ فُعِلَ ثَانِيًا فِي وَقْتِهِ الْمَضْرُوبِ لَهُ يُسَمَّى إعَادَةً فَالْإِعَادَةُ اسْمٌ لِمِثْلِ مَا فُعِلَ مَعَ ضَرْبٍ مِنْ الْخَلَلِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْقَضَاءُ اسْمٌ لِفِعْلٍ مِثْلَ مَا فَاتَ وَقْتُهُ الْمَحْدُودُ فَشَرْطُ الْوَقْتِ فِي الْإِعَادَةِ فَلَا يَكُونُ إتْيَانُهُ بَعْدَ الْوَقْتِ إعَادَةً، وَمَنْ جَعَلَ الْأَمْرَ حَقِيقَةً فِي النَّدْبِ قَالَ الْأَدَاءُ مَا فُعِلَ أَوَّلًا فِي وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ شَرْعًا وَالْقَضَاءُ مَا فُعِلَ بَعْدَ وَقْتٍ مُقَدَّرٍ اسْتِدْرَاكًا لِمَا سَبَقَ لَهُ وُجُوبٌ وَالْإِعَادَةُ مَا فُعِلَ ثَانِيًا فِي وَقْتِ الْأَدَاءِ لِخَلَلٍ فِي الْأَوَّلِ، فَقَوْلُهُ مَا فُعِلَ يَتَنَاوَلُ الْفَرَائِضَ وَالنَّوَافِلَ، وَقَوْلُهُ أَوَّلًا احْتِرَازٌ عَنْ الْإِعَادَةِ. وَقَوْلُهُ فِي وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ احْتِرَازٌ عَنْ الْقَضَاءِ، وَقَوْلُهُ فِي تَعْرِيفِ الْقَضَاءِ اسْتِدْرَاكًا احْتِرَازًا عَمَّا إذَا فُعِلَ لَا بِقَصْدِ الِاسْتِدْرَاكِ وَقَوْلُهُ لِمَا سَبَقَ لَهُ وُجُوبٌ احْتِرَازٌ عَنْ النَّوَافِلِ، وَقَوْلُهُ فِي تَفْسِيرِ الْإِعَادَةِ ثَانِيًا احْتِرَازٌ عَنْ الْأَدَاءِ، وَقَوْلُهُ لِخَلَلٍ أَيْ لِفَوَاتِ شَرْطٍ سَوَاءٌ كَانَ مُفْسِدًا أَوْ لَمْ يَكُنْ احْتِرَازٌ عَنْ صَلَاةِ مَنْ صَلَّى بِجَمَاعَةٍ بَعْدَ أَنْ صَلَّاهَا مُنْفَرِدًا عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ، فَإِنَّهَا لَا تُسَمَّى إعَادَةً، ثُمَّ التَّعْرِيفُ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ لِلْأَدَاءِ أَحْسَنُ مِمَّا قَالُوا؛ لِأَنَّهُ جَامِعٌ يَشْمَلُ الْمُؤَقَّتَ وَغَيْرَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَشْمَلُ غَيْرَ الْمُؤَقَّتِ كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ ثُمَّ فِعْلُ غَيْرِ الْمُؤَقَّتِ إنْ كَانَ أَدَاءً عِنْدَهُمْ فَلَا يَكُونُ الْحَدُّ الَّذِي ذَكَرُوهُ جَامِعًا فَيَكُونُ فَاسِدًا بِالِاتِّفَاقِ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ كَانَ الْأَدَاءُ مُخْتَصًّا بِالْمُؤَقَّتِ كَالْقَضَاءِ فَالْحَدُّ صَحِيحٌ عِنْدَهُمْ فَاسِدٌ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ لَهُمْ أَنَّ الْأَدَاءَ مُخْتَصٌّ بِالْوَقْتِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ غَيْرِ الْمُؤَقَّتِ يُسَمَّى أَدَاءً شَرْعًا وَعُرْفًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُونَ» وَ «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ نِصْفَ صَاعٍ» الْحَدِيثُ وَكُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ مُؤَقَّتًا بِوَقْتٍ مَقْدُورٍ وَيُقَالُ أَدَّى زَكَاةَ مَالِهِ بَعْدَ سِنِينَ وَأَدَّى طَعَامَ الْكَفَّارَةِ كَمَا يُقَالُ أَدَّى الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ وَقَدْ نَصَّ الشَّيْخُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ فَقَالَ وَالْأَدَاءُ فِي الْعِبَادَاتِ إلَى آخِرِهِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ أَدَاءٌ كَانَ الْحَدُّ الَّذِي ذَكَرُوهُ فَاسِدًا لِعَدَمِ انْعِكَاسِهِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ الشَّيْخُ الْإِعَادَةَ فِي تَقْسِيمِ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ وَاجِبَةً بِأَنْ وَقَعَ الْفِعْلُ الْأَوَّلُ فَاسِدًا بِأَنْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ أَوْ رُكْنًا آخَرَ مِنْ الصَّلَاةِ مَثَلًا فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الْأَدَاءِ أَوْ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْأَوَّلَ لَمَّا فَسَدَ أَخَذَ حُكْمَ الْعَدَمِ شَرْعًا وَيَكُونُ الِاعْتِبَارُ لِلثَّانِي فَيَكُونُ أَدَاءً إنْ وَقَعَ فِي الْوَقْتِ وَقَضَاءً إنْ وَقَعَ خَارِجَ الْوَقْتِ؛ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً بِأَنْ وَقَعَ الْفِعْلُ الْأَوَّلُ نَاقِصًا لَا فَاسِدًا بِأَنْ تَرَكَ مَثَلًا فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا يَجِبُ بِتَرْكِهِ سَجْدَةَ السَّهْوِ فَلَا تَكُونُ دَاخِلَةً فِي هَذَا التَّقْسِيمِ؛ لِأَنَّهُ تَقْسِيمُ الْوَاجِبِ بِالْأَمْرِ، وَهِيَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ؛ وَلِهَذَا وَقَعَ الْفِعْلُ الْأَوَّلُ عَنْ الْوَاجِبِ دُونَ الثَّانِي وَالثَّانِي بِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ بِسُجُودِ السَّهْوِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ إذَا أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْكَرَاهَةِ أَوْ الْحُرْمَةِ يُخْرِجُ عَنْ الْعُهْدَةِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَصَحِّ كَالْحَاجِّ إذَا طَافَ مُحْدِثًا خِلَافًا لَهُمْ، وَاعْلَمْ أَيْضًا أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْفِعْلِ إذَا تَقَرَّرَ وَلَمْ يُفْعَلْ فِي وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ وَفُعِلَ بَعْدَهُ أَنَّهُ يَكُونُ قَضَاءً حَقِيقَةً سَوَاءٌ تَرَكَهُ فِي وَقْتِهِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا وَلَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِيمَا انْعَقَدَ بِسَبَبِ وُجُوبِهِ وَتَأَخَّرَ وُجُوبُ أَدَائِهِ لِمَانِعٍ سَوَاءٌ كَانَ الْمُكَلَّفُ قَادِرًا عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ كَالصَّوْمِ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ أَوْ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَيْهِ إمَّا شَرْعًا كَالصَّوْمِ فِي حَقِّ الْحَائِضِ وَإِمَّا عَقْلًا كَالصَّلَاةِ فِي حَقِّ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ: إنَّهُ يُسَمَّى قَضَاءً مَجَازًا، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ فَرْضٌ مُبْتَدَأٌ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ الْحَقِيقِيَّ

فَسَمَّى الْأَدَاءَ قَضَاءً؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَفْظٌ مُتَّسِعٌ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الْأَدَاءُ فِي الْقَضَاءِ مُقَيَّدًا؛ لِأَنَّ لِلْأَدَاءِ خُصُوصًا بِتَسْلِيمِ نَفْسِ الْوَاجِبِ وَعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ مَرْجِعَ الْعِبَارَةِ إلَى الِاسْتِقْصَاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ الْأَدَاءِ، وَهُوَ سَاقِطٌ عَنْ هَؤُلَاءِ بِالِاتِّفَاقِ وَكَيْفَ يُقَالُ بِوُجُوبِ أَدَاءِ الصَّوْمِ عَلَى الْحَائِضِ وَلَا سَبِيلَ لَهَا إلَى الْأَدَاءِ وَلَا إلَى إزَالَةِ الْمَانِعِ مِنْ الْأَدَاءِ بِخِلَافِ الْحَدَثِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ إزَالَتُهُ، وَكَذَلِكَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمُ لَكِنَّهُ سُمِّيَ قَضَاءً مَجَازًا؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ هَذَا الْفَرْضِ فَوَاتَ الْأَوَّلِ فَلِفَوَاتِ إيجَابِهِ فِي الْوَقْتِ سُمِّيَ قَضَاءً، وَقَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إنَّهُ قَضَاءٌ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ مَا فُعِلَ بَعْدَ وَقْتِ الْأَدَاءِ اسْتِدْرَاكًا لِمَصْلَحَةِ مَا انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ وَقَدْ انْعَقَدَ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ فَيَكُونُ هَذَا حَقِيقَةً. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ نِيَّةُ قَضَاءِ الْفَائِتِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ كَانَ فَرْضًا مُبْتَدَأً لَمَا وَجَبَتْ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ حَقِيقَةً بَلْ تَصَوُّرُ ذَلِكَ كَافٍ؛ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا كَتَصَوُّرِ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ فِي مَوْضِعٍ لَا مَاءَ فِيهِ لِصِحَّةِ نَقْلِ الْحُكْمِ إلَى التُّرَابِ وَقَدْ تُصَوِّرَ زَوَالُ هَذِهِ الْأَعْذَارِ فِي الْوَقْتِ وَإِيجَابُ الْأَدَاءِ بَعْدَهُ فَيَكُونُ هَذَا الْقَدْرُ كَافِيًا فِي نَقْلِ الْحُكْمِ إلَى الْقَضَاءِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ مُؤَدِّيًا إلَى الْحَرَجِ، وَهَذَا كَالْمُحْدِثِ إذَا ضَاقَ بِهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ لَا يَتَأَتَّى لَهُ الْأَدَاءُ وَوُجُوبُ الْأَدَاءِ يُلَاقِيهِ وَكَذَلِكَ مَنْ لَا يَجِدُ مَاءً وَلَا تُرَابًا نَظِيفًا لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْأَدَاءُ وَلَا التَّسْبِيبُ إلَيْهِ، وَمَعَ ذَلِكَ صَحَّ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ وَالسَّكْرَانُ يُلَاقِيهِ وُجُوبُ الصَّلَاةِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ أَدَائِهَا، وَذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْقَضَاءِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ فِي حَقِّ مَنْ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ الشَّرْطَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ فِي الْجُمْلَةِ لِعُمُومِ دَلِيلِهِ وَفَوَاتِهِ عَنْ الْوَقْتِ فِي حَقِّهِ مَعَ إدْرَاكِ وَقْتِ الْقَضَاءِ وَانْتِفَاءِ الْحَرَجِ عَنْهُ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ مَسْأَلَةِ الْمَجْنُونِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ (فَسُمِّيَ الْأَدَاءُ قَضَاءً) كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200] أَيْ أَدَّيْتُمْ وَأَتْمَمْتُمْ أُمُورَ الْحَجِّ، وَقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة: 10] أَيْ أُدِّيَتْ وَفُرِغَ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا الْجُمُعَةُ وَأَنَّهَا لَا تُقْضَى، وَرَأَيْتُ فِي نُسْخَةٍ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ هُوَ الظُّهْرُ لِقَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - إنَّمَا قَصُرَتْ الصَّلَاةُ لِمَكَانِ الْخُطْبَةِ إلَّا أَنَّ الْجُمُعَةَ أُقِيمَتْ مَقَامَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَدَائِهَا لِنَوْعِ حَاجَةٍ فَكَانَ اسْمُ الْقَضَاءِ لَهَا حَقِيقَةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ. (لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَفْظٌ مُتَّسِعٌ) بِالْكَسْرِ أَيْ عَامٌّ يَجُوزُ إطْلَاقُهُ عَلَى تَسْلِيمِ عَيْنِ الْوَاجِبِ وَمِثْلِهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْإِسْقَاطُ وَالْإِتْمَامُ وَالْإِحْكَامُ وَهَذِهِ الْمَعَانِي مَوْجُودَةٌ فِي تَسْلِيمِ عَيْنِ الْوَاجِبِ كَمَا هِيَ مَوْجُودَةٌ فِي تَسْلِيمِ مِثْلِهِ فَيَجُوزُ إطْلَاقُهُ عَلَى الْأَدَاءِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ لِعُمُومِ مَعْنَاهُ كَإِطْلَاقِ الْحَيَوَانِ عَلَى الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ وَالْأَسَدِ وَغَيْرِهَا إلَّا أَنَّهُ لَمَّا اخْتَصَّ بِتَسْلِيمِ الْمِثْلِ عُرْفًا أَوْ شَرْعًا كَانَ فِي غَيْرِهِ مَجَازًا فَكَانَ إطْلَاقُهُ عَلَى الْأَدَاءِ حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً مَجَازًا عُرْفِيًّا أَوْ شَرْعِيًّا. قَوْلُهُ (وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الْأَدَاءُ فِي الْقَضَاءِ مُقَيَّدًا) أَيْ بِقَرِينَةٍ يَعْنِي لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْقَضَاءِ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ كَمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى الشُّجَاعِ إذَا اُسْتُعْمِلَ لَفْظُ الْأَسَدِ فِيهِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ يَرْمِي أَوْ غَيْرُهُ فِي قَوْلِك رَأَيْت أَسَدًا يَرْمِي أَوْ فِي الْحَمَّامِ وَهَذَا كَمَا يُقَالُ أَدَّى مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ فَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ مِنْ الدَّيْنِ يُفْهَمُ مِنْهُ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ حَقِيقَةِ الدَّيْنِ مُحَالٌ وَكَمَا يُقَالُ نَوَيْت أَنْ أُؤَدِّيَ ظُهْرَ الْأَمْسِ فَبِقَرِينَةِ الْأَمْسِ يُفْهَمُ مِنْهُ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ ظُهْرِ الْأَمْسِ بَعْدَ مُضِيِّهِ مُحَالٌ. قَوْلُهُ (لِأَنَّ لِلْأَدَاءِ خُصُوصًا) دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاطِ التَّقْيِيدِ يَعْنِي أَنَّ مَعْنَى الْأَدَاءِ مُخْتَصٌّ بِتَسْلِيمِ نَفْسِ الْوَاجِبِ

[القضاء هل يجب بنص مقصود أم بالسبب الذي يوجب الأداء]

وَشِدَّةُ الرِّعَايَةِ كَمَا قِيلَ فِي الثُّلَاثِيِّ مِنْهُ: الذِّئْبِ يَأْدُ لِلْغَزَالِ بِأَكْلِهِ أَيْ يَحْتَالُ وَيَتَكَلَّفُ فَيَخْتِلُهُ وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَأَحْكَامُ الشَّيْءِ نَفْسِهِ لَا يُنْبِئُ عَنْ شِدَّةِ الرِّعَايَةِ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي الْقَضَاءِ أَيَجِبُ بِنَصٍّ مَقْصُودٍ أَمْ بِالسَّبَبِ الَّذِي يُوجِبُ الْأَدَاءَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِنَصٍّ مَقْصُودٍ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ عُرِفَتْ قُرْبَةٌ بِوَقْتِهَا وَإِذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا وَلَا يُعْرَفُ لَهَا مِثْلٌ إلَّا بِالنَّصِّ كَيْفَ يَكُونُ لَهَا مِثْلٌ بِالْقِيَاسِ. وَقَدْ ذَهَبَ وَصْفُ فَضْلِ الْوَقْتِ وَقَالَ عَامَّتُهُمْ يَجِبُ بِذَلِكَ السَّبَبِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِأَنَّهُ فِي اللُّغَةِ يُنَبِّئُ عَنْ شِدَّةِ الرِّعَايَةِ وَالِاسْتِقْصَاءِ فِي الْخُرُوجِ عَمَّا لَزِمَهُ وَذَلِكَ بِتَسْلِيمِ عَيْنِ الْوَاجِبِ لَا بِتَسْلِيمِ مِثْلِهِ بَعْدَمَا فَاتَ فَلَا يُمْكِنُ إطْلَاقُهُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمِثْلِ إلَّا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ؛ فَلِهَذَا يَحْتَاجُ إلَى التَّقْيِيدِ بِقَرِينَةٍ فَأَمَّا الْقَضَاءُ فَإِحْكَامُ الشَّيْءِ نَفْسِهِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي تَسْلِيمِ الْمِثْلِ وَالْعَيْنِ فَيُطْلَقُ عَلَيْهِمَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى التَّقْيِيدِ بِالْقَرِينَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الْقَضَاءُ فِي الْأَدَاءِ مَجَازًا لِمَا فِيهِ مِنْ إسْقَاطِ الْوَاجِبِ وَيُسْتَعْمَلُ الْأَدَاءُ فِي الْقَضَاءِ مَجَازًا لِمَا فِيهِ مِنْ التَّسْلِيمِ فَجُعِلَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَجَازًا فِي الْآخَرِ، وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الشَّيْخَ نَظَرَ إلَى مَعْنَاهُمَا اللُّغَوِيِّ فَوَجَدَ مَعْنَى الْقَضَاءِ شَامِلًا لِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ وَتَسْلِيمِ الْمِثْلِ فَجَعَلَهُ حَقِيقَةً فِيهِمَا وَوَجَدَ مَعْنَى الْأَدَاءِ خَاصًّا فِي تَسْلِيمِ الْعَيْنِ فَجَعَلَهُ مَجَازًا فِي غَيْرِهِ فَاشْتَرَطَ التَّقْيِيدَ بِالْقَرِينَةِ وَالْقَاضِي الْإِمَامُ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ نَظَرَا إلَى الْعُرْفِ أَوْ الشَّرْعِ فَوَجَدَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَاصًّا بِمَعْنًى فَجَعَلَاهُ مَجَازًا فِي غَيْرِ مَا اخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ بِهِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ إلَّا أَنَّ لِلْأَدَاءِ خُصُوصًا مُقَامٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ الْأَدَاءَ قَدْ يُسَمَّى قَضَاءً وَعَلَى الْعَكْسِ إلَّا أَنَّ الْأَدَاءَ مُخْتَصٌّ بِتَسْلِيمِ عَيْنِ الْوَاجِبِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْقَضَاءِ بِتَسْلِيمِ الْمِثْلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ يُنْبِئُ عَنْ شِدَّةِ الرِّعَايَةِ وَالْقَضَاءُ لَا يُنْبِئُ عَنْ شِدَّةِ الرِّعَايَةِ بَلْ عَنْ مُجَرَّدِ الْإِحْكَامِ فَيَكُونُ مُخْتَصًّا بِتَسْلِيمِ الْمِثْلِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شِدَّةُ الرِّعَايَةِ بَلْ فِيهِ نَوْعُ قُصُورٍ، وَهَذَا الْوَجْهُ يُوَافِقُ مَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مُقَيَّدًا مُتَّصِلًا بِالْجُمْلَتَيْنِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203] وَيَكُونُ مَعْنَاهُ وَيُسَمَّى الْأَدَاءُ قَضَاءً مُقَيَّدًا بِقَرِينَةٍ وَيُسْتَعْمَلُ الْأَدَاءُ فِي الْقَضَاءِ مُقَيَّدًا بِقَرِينَةٍ، وَقَوْلُهُ نَفْسُ الْوَاجِبِ وَعَيْنُهُ تَرَادُفٌ، وَقَوْلُهُ فِي الثُّلَاثِيِّ أَيْ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ مِنْهُ أَيْ مِنْ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ مِنْ مُنْشَعِبَةِ الثُّلَاثِيِّ يُقَالُ أَدَّى يُؤَدِّي أَدَاءً وَتَأْدِيَةً كَمَا يُقَالُ سَلَّمَ يُسَلِّمُ سَلَامًا وَبَلَغَ يَبْلُغُ بَلَاغًا. وَقَوْلُهُ يَأْدُو وَذَكَرَ فِي الصِّحَاحِ يُقَالُ الذِّئْبُ يَأْدُو لِلْغَزَالِ أَيْ يَخْتِلُهُ لِيَأْكُلَهُ وَالْخَتْلُ الْخِدَاعُ وَأَدَوْت لَهُ وَأَدَّيْت أَيْ خَتَلْته وَهَذَا مَثَلٌ يُضْرَبُ فِي مُقَاسَاةِ الْمَرْءِ فِي الشَّيْءِ وَمُعَانَاتِهِ لِرَجَاءِ نَفْعٍ يَعُودُ إلَيْهِ فِي عَاقِبَتِهِ، ثُمَّ حَاصِلُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الْأَدَاءِ عَلَى مَعْنَى الْقَضَاءِ كَقَوْلِهِ نَوَيْت أَنْ أُؤَدِّيَ ظُهْرَ الْأَمْسِ وَعَكْسُهُ كَقَوْلِهِ نَوَيْت أَنْ أَقْضِيَ الظُّهْرَ الْوَقْتِيَّةَ جَائِزٌ، فَأَمَّا صِحَّةُ الْأَدَاءِ بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ حَقِيقَةً كَنِيَّةِ مَنْ نَوَى أَدَاءَ ظُهْرِ الْيَوْمِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْوَقْتَ بَاقٍ، وَكَنِيَّةِ الْأَسِيرِ الَّذِي اشْتَبَهَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ فَتَحَرَّى شَهْرًا وَصَامَهُ بِنِيَّةِ الْأَدَاءِ فَوَقَعَ صَوْمُهُ بَعْدَ رَمَضَانَ، وَعَكْسُهُ كَنِيَّةِ مَنْ نَوَى قَضَاءَ الظُّهْرِ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْوَقْتَ قَدْ خَرَجَ، وَهُوَ لَمْ يَخْرُجْ بَعْدُ، وَكَنِيَّةِ الْأَسِيرِ الَّذِي صَامَ رَمَضَانَ بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ قَدْ مَضَى فَلَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْبَعْضُ؛ لِأَنَّهُ؛ وَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى قَصْدِ الْقَلْبِ وَلَمْ يَذْكُرْ بِاللِّسَانِ شَيْئًا فَلَا يُشْكِلُ؛ لِأَنَّ كَلَامَنَا فِي إطْلَاقِ اللَّفْظِ عَلَى مَعْنًى وَلَيْسَ هَهُنَا لَفْظٌ؛ وَإِنْ ضُمَّ إلَيْهِ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ، فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِكُلِّ لَفْظٍ حَقِيقَتَهُ حِينَئِذٍ وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِيهِ، وَأَمَّا جَوَازُهُ فَبِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَتَى بِأَصْلِ النِّيَّةِ وَلَكِنَّهُ أَخْطَأَ فِي الظَّنِّ وَالْخَطَأُ فِي مِثْلِهِ مَعْفُوٌّ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ [الْقَضَاءِ هَلْ يَجِبُ بِنَصٍّ مَقْصُودٍ أَمْ بِالسَّبَبِ الَّذِي يُوجِبُ الْأَدَاءَ] قَوْلُهُ (وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ) أَيْ مَشَايِخُنَا وَاللَّامُ بَدَلُ الْإِضَافَةِ، فِي الْقَضَاءِ أَيَجِبُ بِنَصٍّ مَقْصُودٍ أَيْ بِنَصٍّ قُصِدَ بِهِ إيجَابُ الْقَضَاءِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQابْتِدَاءً أَمْ بِالسَّبَبِ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْأَدَاءُ، وَهُوَ الْأَمْرُ لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ يُضَافُ إلَيْهِ لَا إلَى السَّبَبِ إذْ لَا يَثْبُتُ بِالسَّبَبِ إلَّا نَفْسُ الْوُجُوبِ؛ وَإِنْ شِئْت أَبْهَمْت السَّبَبَ كَمَا أَبْهَمَهُ الشَّيْخُ فَقُلْت يَجِبُ الْقَضَاءُ بِمَا يَجِبُ بِهِ الْأَدَاءُ سَوَاءٌ كَانَ الْمُوجِبُ نَصًّا أَوْ غَيْرَهُ، وَقَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ: مَعْنَى قَوْلِهِ بِنَصٍّ مَقْصُودٍ بِسَبَبٍ ابْتِدَائِيٍّ غَيْرِ سَبَبِ الْأَدَاءِ عُرِفَ بِالنَّصِّ أَنَّهُ سَبَبٌ لَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا قَالَ بَعْضُهُمْ: الْقَضَاءُ يَجِبُ بِأَمْرٍ مُبْتَدَأٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَحْتَاجُ إلَى أَمْرٍ مُبْتَدَأٍ بَلْ يَجِبُ الْمِثْلُ إذَا فَاتَ الْمَضْمُونُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَمَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ فِيهِ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي الْأَمْرِ الْمُؤَقَّتِ إذَا خَرَجَ الْوَقْتُ قَبْلَ تَحْصِيلِ الْفِعْلِ حَتَّى وَجَبَ الْقَضَاءُ أَنَّهُ يَجِبُ بِالْأَمْرِ السَّابِقِ أَوْ يَجِبُ بِأَمْرٍ مُبْتَدَأٍ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ بِالْأَمْرِ السَّابِقِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ بِأَمْرٍ مُبْتَدَأٍ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ سِيَاقُ كَلَامِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْضًا. وَذَكَرَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيُسْرِ قَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ إنَّ الْوَقْتَ مَتَى فَاتَ لَا يَبْقَى الْمَأْمُورُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ وَيَجِبُ الْقَضَاءُ فِي وَقْتٍ آخَرَ بِدَلِيلٍ آخَرَ، بَعْضُ النَّاسِ يُبْقِي دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ بِحُكْمِ ذَلِكَ الْأَمْرِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَمْرٍ جَدِيدٍ وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ عِنْدَ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَالْمُصَنِّفِ، وَمَنْ تَابَعَهُمْ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَالْحَنَابِلَةُ وَعَامَّةُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَعِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَصَدْرِ الْإِسْلَامِ أَبِي الْيُسْرِ وَصَاحِبِ الْمِيزَانِ لَا يَجِبُ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ بَلْ بِأَمْرٍ آخَرَ وَبِدَلِيلٍ آخَرَ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَعَامَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخِلَافُ فِي الْقَضَاءِ بِمِثْلٍ مَعْقُولٍ، فَأَمَّا الْقَضَاءُ بِمِثْلٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ إلَّا بِنَصٍّ جَدِيدٍ بِالِاتِّفَاقِ، احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ يَجِبُ بِأَمْرٍ مُبْتَدَأٍ بِأَنَّ الْوَاجِبَ بِالْأَمْرِ أَدَاءُ الْعِبَادَةِ وَلَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي مَعْرِفَتِهَا؛ وَإِنَّمَا تُعْرَفُ بِالنَّصِّ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ مُقَيَّدًا بِوَقْتٍ كَانَ كَوْنُ الْمَأْمُورِ بِهِ عِبَادَةً مُقَيَّدًا بِهِ أَيْضًا ضَرُورَةَ تَوَقُّفِهِ عَلَى الْأَمْرِ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ مُفَسَّرَةٌ بِأَنَّهَا فِعْلٌ يَأْتِي بِهِ الْمَرْءُ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ لِلَّهِ تَعَالَى بِأَمْرِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ الْفِعْلُ فِي وَقْتٍ آخَرَ عِبَادَةً بِهَذَا الْأَمْرِ لِعَدَمِ دُخُولِهِ تَحْتَ الْأَمْرِ كَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ افْعَلْ كَذَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَا يَتَنَاوَلُ هَذَا الْأَمْرُ مَا عَدَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِحُكْمِ الصِّيغَةِ كَمَا لَوْ كَانَ مُقَيَّدًا بِالْمَكَانِ بِأَنْ قِيلَ اضْرِبْ مَنْ كَانَ فِي الدَّارِ لَا يَتَنَاوَلُ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا وَإِذَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْأَمْرُ كَانَ الْفِعْلُ بَعْدَ الْوَقْتِ وَقَبْلَهُ سَوَاءً فَيَحْتَاجُ إلَى أَمْرٍ آخَرَ ضَرُورَةً وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مَصْلَحَةً فِي وَقْتٍ دُونَ غَيْرِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الصَّلَوَاتُ مَخْصُوصَةً بِأَوْقَاتٍ وَالصَّوْمُ كَذَلِكَ. وَلَا يُقَالُ نَحْنُ لَا نَدَّعِي أَنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ مِنْ حَيْثُ الصِّيغَةُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا سُمِّيَ قَضَاءً وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمَأْمُورُ لَمَّا فَاتَ يُضْمَنُ بِالْمِثْلِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى أَمْرٍ آخَرَ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، لِأَنَّا نَقُولُ مِنْ شَرْطِ إيجَابِ الضَّمَانِ الْمُمَاثَلَةُ وَلَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي مَقَادِيرِ الْعِبَادَاتِ وَهَيْئَاتهَا فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْمُمَاثَلَةِ فِيهَا بِالرَّأْيِ وَكَيْفَ يُمْكِنُ ذَلِكَ وَالْأَدَاءُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْفِعْلِ وَإِحْرَازِ فَضِيلَةِ الْوَقْتِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ قَبْلَ الْوَقْتِ وَقَدْ فَاتَتْ فَضِيلَةُ الْوَقْتِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «، مَنْ فَاتَهُ صَوْمُ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يَقْضِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ» فَكَيْفَ يَكُونُ الْفِعْلُ بَعْدَ الْوَقْتِ مَثَلًا لِلْفِعْلِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي الْوَقْتِ وَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْ إيجَابُهُ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ تَوَقَّفَ عَلَى دَلِيلٍ آخَرَ ضَرُورَةً، قَالَ أَبُو الْيُسْرِ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ إقَامَةَ الْفِعْلِ فِي الْوَقْتِ إنَّمَا عُرِفَتْ قُرْبَةً شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يُمْكِنُنَا إقَامَةُ مِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ فِي وَقْتٍ آخَرَ مَقَامَ هَذَا الْفِعْلِ بِالْقِيَاسِ عِنْدَ الْفَوَاتِ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ فَإِنَّ أَدَاءَ الرَّكْعَتَيْنِ لَمَّا عُرِفَ قُرْبَةً بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نُقِيمَ مِثْلَ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ مَقَامَهُمَا فِي وَقْتٍ آخَرَ بِالْقِيَاسِ عِنْدَ الْفَوَاتِ وَكَمَا فِي تَكْبِيرَاتِ التَّشْرِيقِ، فَإِنَّهَا لَمَّا عُرِفَتْ قُرْبَةً فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نُقِيمَ مِثْلَ هَذِهِ التَّكْبِيرَاتِ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْأَيَّامِ مَقَامَهَا عِنْدَ الْفَوَاتِ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ يَجِبُ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] أَيْ فَأَفْطَرَ فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا» ، وَمَا وَرَدَ فِيهِ مَعْقُولُ الْمَعْنَى فَوَجَبَ إلْحَاقُ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ بِهِ. وَبَيَانُهُ أَنَّ الْأَدَاءَ قَدْ صَارَ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ فِي الْوَقْتِ وَمَعْلُومٌ بِالِاسْتِقْرَاءِ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ لَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ إلَّا بِالْأَدَاءِ أَوْ بِالْإِسْقَاطِ أَوْ بِالْعَجْزِ وَلَمْ يُوجَدْ الْكُلُّ فَبَقِيَ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ أَمَّا عَدَمُ وُجُودِ الْأَدَاءِ فَظَاهِرٌ وَكَذَا عَدَمُ الْإِسْقَاطِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ صَرِيحًا بِيَقِينٍ وَلَا دَلَالَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ إلَّا خُرُوجُ الْوَقْتِ، وَهُوَ بِنَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ مُسْقِطًا لِأَنَّ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ تَقَرَّرَ تَرْكُ الِامْتِثَالِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْقِطًا بَلْ هُوَ تَقَرَّرَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْعُهْدَةِ؛ وَإِنَّمَا يَصْلُحُ الْخُرُوجُ مُسْقِطًا بِاعْتِبَارِ الْعَجْزِ وَلَمْ يُوجَدْ الْعَجْزُ إلَّا فِي حَقِّ إدْرَاكِ الْفَضِيلَةِ لِبَقَاءِ الْقُدْرَةِ عَلَى أَصْلِ الْعِبَادَةِ لِكَوْنِهِ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ مِنْهُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَيَتَقَدَّرُ السُّقُوطُ بِقَدْرِ الْعَجْزِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ اسْتِدْرَاكُ شَرَفِ الْوَقْتِ إلَى الْإِثْمِ إنْ تَعَمَّدَ التَّفْوِيتَ وَإِلَى عَدَمِ الثَّوَابِ إنْ لَمْ يَكُنْ تَعَمَّدَ لِلْعَجْزِ وَيَبْقَى أَصْلُ الْعِبَادَةِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ فَيُطَالَبُ بِالْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَتِهِ بِصَرْفِ الْمِثْلِ إلَيْهِ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ (فَإِنْ قِيلَ) لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى أَصْلِ الْوَاجِبِ تَبْقَى بَعْدَ فَوَاتِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ مُقَيَّدٌ بِالْوَقْتِ بِحَيْثُ لَوْ قُدِّمَ الْأَدَاءُ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ فِعْلًا مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ، وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلٌ مَوْصُوفٌ بِصِفَةٍ لَا يَبْقَى بِدُونِ تِلْكَ الصِّفَةِ كَالْوَاجِبِ بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسَّرَةِ لَا تَبْقَى بَعْدَ فَوَاتِ تِلْكَ الْقُدْرَةِ لِفَوَاتِ وَصْفِهِ. وَهُوَ الْيُسْرُ (قُلْنَا) هَذَا إذَا كَانَ الْوَصْفُ مَقْصُودًا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ نَفْسَ الْوَقْتِ هَهُنَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي كَوْنِ الْفِعْلِ عَمَلًا بِخِلَافِ هَوَى النَّفْسِ أَوْ فِي كَوْنِهِ تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى وَثَنَاءً عَلَيْهِ وَهَذَا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ كَمَا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ، وَكَانَ هَذَا كَمَنْ أُمِرَ بِأَنْ يَتَصَدَّقَ دِرْهَمًا مِنْ مَالِهِ بِالْيَدِ الْيُمْنَى فَشُلَّتْ يَدُهُ الْيُمْنَى يَجِبُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْيُسْرَى؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ بِهِ يَحْصُلُ، فَكَذَا هُنَا وَأَمَّا عَدَمُ صِحَّةِ الْأَدَاءِ قَبْلَ الْوَقْتِ فَلَيْسَ لِكَوْنِهِ مَقْصُودًا بَلْ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ وَالْأَدَاءُ قَبْلَ السَّبَبِ لَا يَجُوزُ وَلَمَّا كَانَ الْوَقْتُ تَبَعًا غَيْرَ مَقْصُودٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ بِسُقُوطِهِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْكُلِّيُّ، وَهُوَ أَصْلُ الْعِبَادَةِ كَمَنْ أَتْلَفَ مِثْلِيًّا وَعَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِ الْمِثْلِ صُورَةً يَسْقُطُ عَنْهُ ذَلِكَ لِلْعَجْزِ وَلَا يَسْقُطُ بِسُقُوطِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ الْمِثْلُ مَعْنًى فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ كَذَا هُنَا، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقَضَاءُ مِثْلُ الْأَدَاءِ

وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْقَضَاءَ فِي الصَّوْمِ بِالنَّصِّ فَقَالَ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وَجَاءَتْ السُّنَّةُ بِالْقَضَاءِ فِي الصَّلَاةِ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا» فَقُلْنَا نَحْنُ: وَجَبَ الْقَضَاءُ فِي هَذَا بِالنَّصِّ، وَهُوَ مَعْقُولٌ فَإِنَّ الْأَدَاءَ كَانَ فَرْضًا، فَإِذَا فَاتَ فَاتَ مَضْمُونًا، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى تَسْلِيمِ مِثْلِهِ مِنْ عِنْدِهِ لِكَوْنِ النَّفْلِ مَشْرُوعًا لَهُ مِنْ جِنْسِهِ أَمَرَ بِصَرْفِ مَالِهِ إلَى مَا عَلَيْهِ وَسَقَطَ فَضْلُ الْوَقْتِ إلَى غَيْرِ مِثْلٍ وَإِلَى غَيْرِ ضَمَانٍ إلَّا بِالْإِثْمِ إنْ كَانَ عَامِدًا لِلْعَجْزِ، فَإِذَا عَقَلَ هَذَا وَجَبَ الْقِيَاسُ بِهِ فِي قَضَاءِ الْمَنْذُورَاتِ الْمُتَعَيِّنَةِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالِاعْتِكَافِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْفَضِيلَةِ مِثْلُهُ وَالْمِثْلِيَّةُ فِي حَقِّ إزَالَةِ الْمَأْثَمِ لَا فِي إحْرَازِ الْفَضِيلَةِ، وَكَذَا جَمِيعُ عِبَادَاتِ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ كَالْمُومِئِ وَغَيْرِهِ يَقُومُ مَقَامَ الْعِبَادَاتِ الْكَامِلَةِ فِي حَقِّ إزَالَةِ الْمَأْثَمِ لَا فِي حَقِّ إحْرَازِ الْفَضِيلَةِ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ النَّصَّ مَعْقُولُ الْمَعْنَى تَعَدَّى الْحُكْمُ، وَهُوَ وُجُوبُ الْقَضَاءِ بِهِ إلَى الْفُرُوعِ وَهِيَ الْوَاجِبَاتُ بِالنَّذْرِ الْمُؤَقَّتِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالِاعْتِكَافِ وَغَيْرِهَا. وَبِمَا ذَكَرْنَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إنَّ مِثْلَ الْعِبَادَةِ لَا يَصِيرُ عِبَادَةً إلَّا بِالنَّصِّ لِأَنَّا قَدْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ وَلَكِنَّ الْكَلَامَ فِي أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي قَدْ شُرِعَ عِبَادَةً فِي غَيْرِ هَذَا الْوَقْتِ حَقًّا لِلْعَبْدِ هَلْ يَجِبُ إقَامَتُهُ مَقَامَ الْفِعْلِ الْوَاجِبِ فِي الْوَقْتِ عِنْدَ فَوَاتِهِ فَنَقُولُ بِأَنَّهُ يَجِبُ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ أَقَامَهُ فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ بِمَعْنًى مَعْقُولٍ فَيُقَاسُ عَلَيْهِمَا غَيْرُهُمَا، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ أَيْضًا عَنْ الْجُمُعَةِ وَتَكْبِيرَاتِ التَّشْرِيقِ؛ لِأَنَّ سُقُوطَهُمَا لِلْعَجْزِ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الْخُطْبَةِ مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لِلْعَبْدِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَبِمُضِيِّ الْوَقْتِ يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ فِيهِ وَيَلْزَمُهُ صَلَاةُ الظُّهْرِ؛ لِأَنَّ مِثْلَهَا مَشْرُوعٌ لِلْعَبْدِ بَعْدَ مُضِيِّ الْوَقْتِ، وَكَذَا الْجَهْرُ بِالتَّكْبِيرِ دُبُرَ الصَّلَوَاتِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لِلْعَبْدِ فِي غَيْرِ أَيَّامِ التَّكْبِيرِ بَلْ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِكَوْنِهِ بِدْعَةً فَبِمُضِيِّ الْوَقْتِ يَتَحَقَّقُ الْفَوَاتُ فِيهِ فَيَسْقُطُ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَا يُقَالُ لَمَّا وَجَبَ الْقَضَاءُ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ بِالنَّصِّ إذْ لَوْلَاهُ لَمَا عُرِفَ وُجُوبُ الْقَضَاءِ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ قَوْلُكُمْ الْقَضَاءُ بِالْأَمْرِ الَّذِي يُوجِبُ الْأَدَاءَ، لِأَنَّا نَقُولُ قَدْ عَرَفْنَا بِالنَّصِّ الْمُوجِبِ لِلْقَضَاءِ أَنَّ الْوَاجِبَ لَمْ يَكُنْ سَقَطَ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ، وَأَنَّ هَذَا النَّصَّ طَلَبٌ لِتَفْرِيغِ الذِّمَّةِ عَنْ ذَلِكَ الْوَاجِبِ بِالْمِثْلِ وَلِهَذَا سُمِّيَ قَضَاءً وَلَوْ وَجَبَ بِهِ ابْتِدَاءً لَمَا صَحَّ تَسْمِيَتُهُ قَضَاءً حَقِيقَةً، وَهَذَا كَمَنْ غَصَبَ شَيْئًا وَهَلَكَ عِنْدَهُ يَجِبُ الضَّمَانُ لِوُرُودِ النُّصُوصِ الْمُوجِبَةِ لَهُ، وَلَكِنَّهُ يُضَافُ إلَى الْغَصْبِ السَّابِقِ الْمُوجِبِ لِلْأَدَاءِ، وَهُوَ رَدُّ الْعَيْنِ وَالنُّصُوصُ لِطَلَبِ التَّفْرِيغِ عَنْ ذَلِكَ الْوَاجِبِ، فَكَذَا هُنَا. ، قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ: الْفَرِيقُ الْآخَرُ قَالُوا الْفَائِتُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبُ الْأَدَاءِ وَمَا وَجَبَ أَدَاؤُهُ فَاتَ يَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَالْمَغْصُوبِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَدَاؤُهُ وَاجِبًا وَكَانَتْ أَمَانَةً عِنْدَهُ يُضْمَنُ بِالتَّفْوِيتِ أَيْضًا فَثَبَتَ أَنَّهُ صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ عِنْدَ الْفَوَاتِ، وَلَهُ مِثْلٌ مَشْرُوعٌ عِنْدَهُ مَمْلُوكٌ لَهُ، وَهُوَ النَّفَلُ، فَإِنَّهُ شُرِعَ عِبَادَةً بِحُكْمِ الْأَمْرِ وَأَدَاءُ الْمِثْلِ مِنْ عِنْدِهِ عَنْ الْفَائِتِ الْمَضْمُونِ أَمْرٌ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى أَمْرٍ مُبْتَدَأٍ وَهُوَ الْأَصَحُّ. قَوْلُهُ (وَبَيَانُ ذَلِكَ) أَيْ بَيَانُ الْوُجُوبِ بِذَلِكَ السَّبَبِ، فِي هَذَا أَيْ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ، وَهُوَ مَعْقُولٌ أَيْ وُجُوبُ الْقَضَاءِ يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ، وَسَقَطَ فَضْلُ الْوَقْتِ إلَى كَذَا ضَمِنَ فِيهِ مَعْنَى الِانْتِهَاءِ أَيْ سَقَطَ مُنْتَهِيًا إلَى غَيْرِ مِثْلٍ بِأَنْ لَمْ يَجِبْ مِنْ جِنْسِهِ، وَإِلَى غَيْرِ ضَمَانٍ بِأَنْ لَمْ يَجِبْ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ أَيْضًا، فَإِذَا عَقَلَ هَذَا أَيْ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْمَنْصُوصِ، وَهُوَ الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ وَجَبَ الْقِيَاسُ بِهِ، وَهَكَذَا الْكَلَامُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ ثَمَرَةَ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَنْذُورَاتِ الْمُتَعَيِّنَةِ فَعِنْدَ الْعَامَّةِ يَجِبُ قَضَاؤُهَا بِالْقِيَاسِ، وَعِنْدَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ لَا يَجِبُ لِعَدَمِ وُرُودِ نَصٍّ مَقْصُودٍ فِيهِ، وَلَكِنْ ذَكَرَ أَبُو الْيُسْرِ فِي أُصُولِهِ أَنَّهُ إذَا نَذَرَ صَوْمَ هَذَا الشَّهْرِ أَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي هَذَا الْيَوْمِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَمَضَى الْيَوْمُ وَالشَّهْرُ وَلَمْ يَفِ فَالْقَضَاءُ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ

وَهَذَا أَقْيَسُ وَأَشْبَهُ بِمَسَائِلِ أَصْحَابِنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQوَلَكِنْ عَلَى قَوْلِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ بِسَبَبٍ آخَرَ مَقْصُودٍ غَيْرِ النَّذْرِ، وَهُوَ التَّفْوِيتُ وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ بِالنَّذْرِ، وَاعْلَمْ أَنَّ التَّفْوِيتَ إنَّمَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ نَصٍّ مَقْصُودٍ فَكَأَنَّهُ إذَا فَوَّتَ فَقَدْ الْتَزَمَ الْمَنْذُورَ ثَانِيًا فَعَلَى هَذَا إذَا فَاتَ لَا بِالتَّفْوِيتِ بِأَنْ مَرِضَ أَوْ جُنَّ فِي الشَّهْرِ الْمَنْذُورِ صَوْمُهُ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي الْيَوْمِ الْمَنْذُورِ فِيهِ الصَّلَاةُ يَجِبُ أَنْ لَا يُقْضَى عِنْدَهُمْ لِعَدَمِ النَّصِّ الْمَقْصُودِ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً فَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ. ، وَلَكِنْ مَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَهُوَ تَفْوِيتُ الْوَاجِبِ عَنْ الْوَقْتِ عَلَى وَجْهٍ هُوَ مَعْذُورٌ فِيهِ أَوْ غَيْرُ مَعْذُورٍ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْفَوَاتَ بِمَنْزِلَةِ التَّفْوِيتِ عِنْدَهُمْ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ فَحِينَئِذٍ لَا يَظْهَرُ فَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ فِي الْأَحْكَامِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَإِنَّمَا يَظْهَرُ فِي التَّخْرِيجِ قَوْلُهُ (وَهَذَا أَقْيَسُ) أَيْ قَوْلُ الْعَامَّةِ أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ مِمَّا ذَهَبَ إلَيْهِ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ، وَأَشْبَهُ بِمَسَائِلِ أَصْحَابِنَا أَيْ أَوْفَقُ لَهَا فَإِنَّهُمْ قَالُوا إنَّ قَوْمًا فَاتَتْهُمْ صَلَاةٌ مِنْ صَلَوَاتِ اللَّيْلِ فَقَضَوْهَا بِالنَّهَارِ بِالْجَمَاعَةِ جَهَرَ إمَامُهُمْ بِالْقِرَاءَةِ وَلَوْ فَاتَتْهُمْ صَلَاةٌ مِنْ صَلَوَاتِ النَّهَارِ فَقَضَوْهَا بِاللَّيْلِ لَمْ يَجْهَرْ إمَامُهُمْ بِالْقِرَاءَةِ وَمَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ فِي السَّفَرِ فَقَضَاهَا فِي الْحَضَرِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَوْ فَاتَتْهُ فِي الْحَضَرِ فَقَضَاهَا فِي السَّفَرِ صَلَّى أَرْبَعًا كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي اعْتِبَارِ حَالَةِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ دُونَ وُجُوبِ الْقَضَاءِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ بِالسَّبَبِ السَّابِقِ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَا إذَا فَاتَتْهُ صَلَاةٌ فِي الْمَرَضِ الَّذِي يَعْجِزُ فِيهِ عَنْ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَيَقْضِيهَا فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ حَيْثُ يُعْتَبَرُ فِيهِ حَالَةُ الْقَضَاءِ لَا حَالَةُ الْأَدَاءِ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مَعَ أَنَّ الْأَدَاءَ لَمْ يَجِبْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مَعَ أَنَّ الْأَدَاءَ وَجَبَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَجَبَ بِدَلِيلٍ آخَرَ كَمَا قَالَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ السَّبَبُ فِي حَقِّ الْأَدَاءِ انْعَقَدَ فِي الْفَصْلَيْنِ مُوجِبًا لِلْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بِاعْتِبَارٍ يُوهِمُ الْقُدْرَةَ مُجَوِّزًا لِلِانْتِقَالِ إلَى الْخُلْفِ وَهُوَ الْقُعُودُ أَوْ الْإِيمَاءُ عِنْدَ الْعَجْزِ إنْ اخْتَارَ الْفِعْلَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. ، فَكَذَلِكَ عَمَلُهُ فِي حَقِّ الْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ فَإِذَا فَاتَتْهُ صَلَاةٌ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ أَوْ الصِّحَّةِ فَقَدْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ كَامِلَةٌ بِقِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ كَانَ لَهُ فِيهَا وِلَايَةُ الِانْتِقَالِ إلَى الْخُلْفِ عِنْدَ الْفِعْلِ لِلْعَجْزِ، فَإِذَا قَضَاهَا فَهِيَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ بِعَيْنِهَا؛ فَإِنْ وُجِدَ شَرْطُ النَّقْلِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا كَمَا فِي الْأَدَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ افْتَتَحَهَا فِي الْوَقْتِ قَائِمًا ثُمَّ حَدَثَ بِهِ عَجْزٌ كَانَ لَهُ أَنْ يُتِمَّهَا قَاعِدًا وَبِإِيمَاءٍ وَلَوْ افْتَتَحَهَا قَاعِدًا ثُمَّ زَالَ الْعَجْزُ كَانَ لَهُ أَنْ يُتِمَّهَا قَائِمًا فَإِذَا ثَبَتَ الِانْتِقَالُ فِي الْأَدَاءِ، فَكَذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ وَهَذَا كَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّيَمُّمُ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْمَاءِ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَيَجُوزُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ السَّبَبَ انْعَقَدَ مُوجِبًا لِلطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ فِي الْحَالَيْنِ لِتَوَهُّمِ حُدُوثِ الْمَاءِ مُجَوِّزًا لِلِانْتِقَالِ إلَى الْخُلْفِ، وَهُوَ التُّرَابُ عِنْدَ الْعَجْزِ؛ فَإِنْ أَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ حَالَةَ الْعَجْزِ كَانَ لَهُ وِلَايَةُ الِانْتِقَالِ إلَى الْخُلْفِ وَإِلَّا فَلَا، فَكَذَا هَذَا بِخِلَافِ السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، فَإِنَّ السَّبَبَ هُنَاكَ قَدْ تَقَرَّرَ مُوجِبًا لِلرَّكْعَتَيْنِ أَوْ الْأَرْبَعِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ (فَإِنْ قِيلَ) قَدْ ذَكَرْتُمْ أَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا يَجِبُ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْمِثْلِ وَإِلَّا سَقَطَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجْهَرَ الْإِمَامُ فِي قَضَاءِ صَلَاةِ اللَّيْلِ إذَا قَضَوْهَا بِالنَّهَارِ

وَلِهَذَا قُلْنَا فِي صَلَاةٍ فَاتَتْ عَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَجَبَ قَضَاؤُهَا بِلَا تَكْبِيرٍ؛ لِأَنَّهُ لَا تَكْبِيرَ عِنْدَهُ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ ثُمَّ لَمْ يَسْقُطْ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ بِهَذَا الْعُذْرِ وَيَتَفَرَّعُ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ مَسْأَلَةُ النَّذْرِ بِالِاعْتِكَافِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إذَا صَامَهُ وَلَمْ يَعْتَكِفْ أَنَّهُ يَقْضِي اعْتِكَافَهُ وَلَا يُجْزِئُ فِي رَمَضَانَ آخَرَ. قَالُوا: لِأَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا وَجَبَ بِالتَّفْوِيتِ ابْتِدَاءً لَا بِالنَّذْرِ وَالتَّفْوِيتُ سَبَبٌ مُطْلَقٌ عَنْ الْوَقْتِ فَصَارَ كَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ لَكِنَّا نَقُولُ إنَّمَا وَجَبَ الْقَضَاءُ فِي هَذَا بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا قُلْنَا لَا بِنَصٍّ مَقْصُودٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إضَافَتِهِ إلَى السَّبَبِ الْأَوَّلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِأَنَّ الْجَهْرَ بِالْقِرَاءَةِ فِي نَافِلَةِ النَّهَارِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَلْزَمَهُ قَضَاءُ الْمَغْرِبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ نَافِلَةٌ مَشْرُوعَةٌ عَلَى هَيْئَةِ الْمَغْرِبِ (قُلْنَا) إنَّمَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْقَضَاءِ كَوْنُ النَّفْلِ مَشْرُوعًا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الْكَيْفِيَّةِ وَالْكَمْيَّةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ قَضَاءُ الظُّهْرِ مَعَ أَنَّ النَّفَلَ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا عَلَى صِفَةِ الظُّهْرِ رَكْعَتَانِ بِقِرَاءَةٍ وَرَكْعَتَانِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ. ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ التَّسْلِيمُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي قَضَاءِ الظُّهْرِ وَيَجُوزُ فِي النَّفْلِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَا قُلْنَا كَذَا أَوْرَدَ شَيْخِي فِي فَوَائِدِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ نَاقِلًا عَنْ أُسْتَاذِهِ مَوْلَانَا بَدْرِ الدِّينِ الْكُرْدِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَأُجِيبَ أَيْضًا فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِأَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا أَمَرَهُ بِالْقَضَاءِ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ وَالصِّفَةِ عَرَفْنَا أَنَّ لَهُ نَفْلًا يَصْلُحُ لِلصَّرْفِ إلَى مَا عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي ضِمْنِ فِعْلِ الْقَضَاءِ لَا مُطْلَقًا كَمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ضَرُورَةَ التَّخْيِيرِ وَلَكِنْ يَثْبُتُ ذَلِكَ فِي ضِمْنِ الْفِعْلِ لَا أَنْ يُعَيِّنَهُ بِالْقَوْلِ ابْتِدَاءً، وَكَمَا أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَمْتَلِكَ جَارِيَةَ الِابْنِ وَلَكِنْ فِي ضِمْنِ الْفِعْلِ لَا أَنْ يَمْتَلِكَهَا ابْتِدَاءً وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ وَلَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ يَجِبُ وَلَا يَسْقُطُ بِسُقُوطِ مَا عَجَزَ عَنْهُ قُلْنَا إذَا فَاتَتْهُ صَلَاةٌ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَجَبَ قَضَاؤُهَا بِلَا تَكْبِيرٍ أَيْ فِي غَيْرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَالْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ، إنْ تَرَكَهَا قَبْلَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ثُمَّ قَضَاهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ لَا يُكَبِّرُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُكَبِّرُ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ فَيَلْزَمُهُ كَالْمَرِيضِ إذَا فَاتَتْهُ صَلَاةٌ بِإِيمَاءٍ فَقَضَاهَا فِي الصِّحَّةِ يَقْضِيهَا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ، وَأَنَّا نَقُولُ: الْجَهْرُ بِالتَّكْبِيرِ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا مُقَدَّرًا فَلَوْ كَبَّرَ لِلْفَائِتَةِ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ الْمُقَدَّرِ. ؛ وَإِنْ تَرَكَهَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَضَاهَا فِي غَيْرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ لَا يُكَبِّرُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُكَبِّرُ لِيَكُونَ الْقَضَاءُ عَلَى حَسَبِ الْفَوَاتِ، وَأَنَّا نَقُولُ الْجَهْرُ بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةٌ إلَّا فِي زَمَانٍ مَخْصُوصٍ فَيَبْطُلُ بِفَوْتِهِ كَرَمْيِ الْجِمَارِ يَسْقُطُ بِانْقِضَاءِ أَيَّامِ النَّحْرِ وَكَالْجُمُعَةِ وَكَالْأُضْحِيَّةِ وَصَارَ كَالصَّحِيحِ إذَا نَسِيَ صَلَاةً فَقَضَاهَا فِي الْمَرَضِ يَقْضِيهَا بِإِيمَاءٍ؛ وَإِنْ قَضَاهَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مِنْ الْعَامِ الْقَابِلِ وَحْدَهُ أَوْ بِجَمَاعَةٍ لَا يُكَبِّرُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمَشْرُوعِ بِدْعَةٌ، فَأَمَّا إذَا قَضَاهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِجَمَاعَةٍ، فَإِنَّهُ يُكَبِّرُ؛ لِأَنَّ وَقْتَ التَّكْبِيرِ قَائِمٌ وَلَوْ كَبَّرَ لَا يَزِيدُ عَلَى الْمَشْرُوعِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَيُكَبِّرُ؛ لِيَكُونَ الْقَضَاءُ عَلَى حَسَبِ الْفَوَاتِ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْإِسْلَامِ الْأُوزْجَنْدِيّ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إنَّمَا يُكَبِّرُ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ جَهْرًا مَشْرُوعٌ فِيهَا، وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا فِي حَقِّ النَّوَافِلِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُؤَدَّ لِفَقْدِ شَرْطِهِ، وَهُوَ الْجَمَاعَةُ فَظَهَرَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الصَّرْفِ إلَى مَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِثْلٌ لِمَا فَاتَ بِجَمَاعَةٍ وَعِنْدَهُمَا لَمْ يُكَبِّرْ فِي النَّوَافِلِ احْتِيَاطًا فَظَهَرَ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَا عَلَيْهِ أَيْضًا وَلَا يُشْتَرَطُ الْجَمَاعَةُ عِنْدَهُمَا لِلتَّكْبِيرِ كَمَا فِي الْأَدَاءِ (فَإِنْ قِيلَ) إنَّهُ قَدْ عَجَزَ عَنْ صِفَةِ الْجَهْرِ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ أَصْلَ التَّكْبِيرِ مَشْرُوعٌ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْقُطَ الْأَصْلُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بِالْعَجْزِ عَنْ الْوَصْفِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّكْبِيرُ خُفْيَةً (قُلْنَا) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَصْفَ إذَا كَانَ مَقْصُودًا يَسْقُطُ الْأَصْلُ بِفَوَاتِهِ وَهَهُنَا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مِنْ الشَّعَائِرِ وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِصِفَةِ الْجَهْرِ فَيَسْقُطُ بِسُقُوطِهِ لِعَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْأَصْلِ بِدُونِ الْوَصْفِ. قَوْلُهُ (وَيَتَفَرَّعُ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ) ، وَهُوَ أَنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQبِمَا وَجَبَ بِهِ الْأَدَاءُ عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا وَبِنَصٍّ مَقْصُودٍ عِنْدَ آخَرِينَ مَسْأَلَةُ النَّذْرِ بِالِاعْتِكَافِ، وَهِيَ أَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرَ رَمَضَانَ أَوْ أَنْ أَعْتَكِفَ هَذَا الشَّهْرَ سَوَاءٌ عَيَّنَهُ بِاسْمِهِ الْعِلْمِيِّ أَوْ بِالْإِشَارَةِ فَصَامَهُ وَلَمْ يَعْتَكِفْ لَزِمَهُ أَنْ يَقْضِيَ الِاعْتِكَافَ مُتَتَابِعًا بِصَوْمٍ مُبْتَدَأٍ وَعِنْدَ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ اعْتِكَافًا بِصَوْمٍ لَا أَثَرَ لِلِاعْتِكَافِ فِي وُجُوبِهِ وَلَا سَبِيلَ إلَى قَضَائِهِ فِي شَهْرٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ بِصَوْمٍ لِلِاعْتِكَافِ أَثَرٌ فِي وُجُوبِهِ فَيَزِيدُ عَلَى مَا الْتَزَمَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ. وَجْهُ الظَّاهِرِ عَلَى مَذْهَبِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ هُوَ أَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا يَجِبُ بِالتَّفْوِيتِ ابْتِدَاءً لَا بِالدَّلِيلِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْأَصْلُ وَالتَّفْوِيتُ سَبَبٌ مُطْلَقٌ عَنْ الْوَقْتِ أَيْ لَا يَخُصُّ الْقَضَاءَ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ كَالْأَوَامِرِ الْمُطْلَقَةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ فَوَاتِ الْوَقْتِ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا لِأَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ التَّفْوِيتَ بِمَنْزِلَةِ التَّنْصِيصِ ثَانِيًا عَلَى الْإِيجَابِ فَلِذَلِكَ يَلْزَمُهُ الِاعْتِكَافُ بِصَوْمٍ مَقْصُودٍ. 1 - وَأَمَّا الْفَرِيقُ الثَّانِي فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ الْوَاجِبُ بِالنَّذْرِ بِمَنْزِلَةِ الْوَاجِبِ بِالْأَمْرِ وَذَلِكَ مَضْمُونٌ بِالْقَضَاءِ، فَكَذَلِكَ هَذَا وَإِذَا وَجَبَ صَارَ مِنْ ضَرُورَتِهِ إيجَابُ الْفَضْلِ؛ لِأَنَّ تَحَمُّلَ الْفَضْلِ أَحَقُّ مِنْ إبْطَالِ الْأَصْلِ؛ فَإِنْ لَمْ يَقْضِهِ حَتَّى جَاءَ شَهْرُ رَمَضَانَ مِنْ قَابِلٍ فَقَضَى فِيهِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ شَرْطُ الِاعْتِكَافِ وَالشَّرْطُ يُعْتَبَرُ وُجُودُهُ تَبَعًا لَا وُجُودُهُ قَصْدًا كَالطَّهَارَةِ؛ وَلِهَذَا صَحَّ نَذْرُهُ بِهَذَا الِاعْتِكَافِ فَكَانَ كَمَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ مُتَطَهِّرٌ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَنْذُورَ بِتِلْكَ الطَّهَارَةِ؛ فَإِنْ انْتَقَضَ وَضْؤُهُ يَلْزَمُهُ التَّوَضُّؤُ لِأَدَاءِ الْمَنْذُورِ؛ فَإِنْ تَوَضَّأَ لِصَلَاةٍ أُخْرَى يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَنْذُورَ بِتِلْكَ الطَّهَارَةِ، فَكَذَا هَذَا. ، وَلَنَا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْتَكِفْ حَتَّى وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ صَارَ التَّفْوِيتُ بِمَنْزِلَةِ نَذْرٍ مُطْلَقٍ عَنْ الْوَقْتِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَوْ صَارَ ذَلِكَ النَّذْرُ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فَلَا يَتَأَدَّى بِصَوْمِ رَمَضَانَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ، وَإِنْ كَانَ شَرْطًا هَهُنَا لَكِنَّهُ مِمَّا يُلْتَزَمُ بِالنَّذْرِ بِخِلَافِ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّهَا مِمَّا لَا يُلْتَزَمُ بِالنَّذْرِ أَصْلًا وَلَمَّا أَثَّرَ النَّذْرُ فِي إيجَابِهِ لَا يَتَأَدَّى بِوَاجِبٍ آخَرَ كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ لِلْمُصَنِّفِ وَشَمْسِ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْفَرِيقَ الْأَوَّلَ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِهِمْ بِوَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ قَالُوا لَوْ كَانَ الْقَضَاءُ وَاجِبًا بِالسَّبَبِ الْأَوَّلِ؛ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَبْطُلَ فِيمَا إذَا صَامَ وَلَمْ يَعْتَكِفْ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْأَوَّلَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي إيجَابِ الصَّوْمِ كَمَا ذَكَرْنَا وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْقَضَاءِ بِلَا صَوْمٍ وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ صَوْمٍ بِلَا مُوجِبٍ فَيَبْطُلُ وَلَمْ يَبْطُلْ بِاتِّفَاقٍ بَيْنَنَا فَعَرَفْنَا أَنَّهُ وَجَبَ بِسَبَبٍ آخَرَ أَوْجَبَ الصَّوْمَ وَالثَّانِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا بِمَا وَجَبَ بِهِ الْأَدَاءُ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ لَجَازَ قَضَاؤُهُ فِي الرَّمَضَانِ الثَّانِي كَمَا قَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لِأَنَّهُ مِثْلُ الْأَوَّلِ فِي كَوْنِ الصَّوْمِ مَشْرُوعًا فِيهِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ وَصِحَّةُ أَدَاءِ الِاعْتِكَافِ بِهِ وَمَعَ هَذَا لَمْ يَجُزْ فَعَرَفْنَا أَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى السَّبَبِ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْأَدَاءُ وَفِي قَوْلِ الشَّيْخِ أَنَّهُ يَقْضِي اعْتِكَافَهُ وَلَا يَجْرِي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ الْآخَرِ إشَارَةً إلَى الْوَجْهَيْنِ وَالدَّلِيلُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ التَّفْوِيتَ بِمَنْزِلَةِ نَذْرٍ مُطْلَقٍ عَنْ الْوَقْتِ فَلِهَذَا لَمْ يُفْصَلْ بَيْنَهُمَا. ، وَقَوْلُهُ لَكِنَّا نَقُولُ اسْتِدْرَاكٌ عَمَّا قَالُوا إنَّهُ يَجِبُ بِالتَّفْوِيتِ وَلِهَذَا ذَكَرَ

أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ بِالْفَوَاتِ مَرَّةً وَبِالتَّفْوِيتِ أُخْرَى إلَّا أَنَّ الِاعْتِكَافَ الْوَاجِبَ بِالنَّذْرِ مُطْلَقًا أَثَّرَ فِي إيجَابِهِ وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا النُّقْصَانُ فِي مَسْأَلَةِ شَهْرِ رَمَضَانَ بِعَارِضِ شَرَفِ الْوَقْتِ وَمَا ثَبَتَ بِشَرَفِ الْوَقْتِ فَقَدْ فَاتَ بِحَيْثُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اكْتِسَابِ مِثْلِهِ إلَّا بِالْحَيَاةِ إلَى رَمَضَانَ آخَرَ، وَهُوَ وَقْتٌ مَدِيدٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْحَيَاةُ وَالْمَوْتُ فَلَمْ يَثْبُتْ الْقُدْرَةُ فَسَقَطَ ـــــــــــــــــــــــــــــQكَلِمَةَ الْحَصْرِ أَيْ لَا يَجِبُ إلَّا بِكَذَا، فِي هَذَا أَيْ فِي النَّذْرِ، بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، لَا بِنَصٍّ مَقْصُودٍ وَهُوَ التَّفْوِيتُ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التَّفْوِيتَ كَنَصٍّ مَقْصُودٍ عِنْدَهُمْ، فِي هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ النَّذْرُ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا أَيْ عَدَمُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ بِنَصٍّ مَقْصُودٍ بِالدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إضَافَةِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ إلَى السَّبَبِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ النَّذْرُ. قَوْلُهُ (أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ بِالْفَوَاتِ مَرَّةً) اسْتِدْلَالٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إضَافَتُهُ إلَى التَّفْوِيتِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَجِبَ فِي الْفَوَاتِ، وَذَلِكَ بِأَنْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ مَرِضَ حَتَّى فَاتَهُ الْمَنْذُورُ لَا بِاخْتِيَارِهِ إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ فَوَاتُ الْمَنْذُورِ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ نَذْرٍ ابْتِدَائِيٍّ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ كَوْنِهِ مُخْتَارًا وَلَا اخْتِيَارَ فِي الْفَوَاتِ فَلَا يَكُونُ الْفَوَاتُ بِمَنْزِلَةِ نَصٍّ مَقْصُودٍ، وَلَمَّا وَجَبَ فِي الْفَوَاتِ كَمَا وَجَبَ فِي التَّفْوِيتِ يُضَافُ إلَى مَعْنًى يَشْمَلُهُمَا، وَهُوَ السَّبَبُ الْأَوَّلُ، وَصُورَةُ الْفَوَاتِ فِي مَسْأَلَةِ الِاعْتِكَافِ بِأَنْ مَرِضَ مَرَضًا لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الصَّوْمِ وَيَمْنَعُهُ مِنْ الِاعْتِكَافِ بِأَنْ صَارَ مَبْطُونًا أَوْ نَحْوَهُ. قَوْلُهُ (إلَّا أَنَّ الِاعْتِكَافَ) جَوَابُ سُؤَالٍ يَرُدُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُضَافًا إلَى السَّبَبِ الْأَوَّلِ فَكَيْفَ وَجَبَ زَائِدًا عَلَى مَا أَوْجَبَهُ السَّبَبُ الْأَوَّلُ مَعَ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَزِيدُ عَلَى الْعِلَّةِ فَقَالَ نَعَمْ إلَّا أَنَّ مُطْلَقَ الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى تَقَيُّدِهِ بِوَقْتٍ أَوْ عَدَمِ تَقَيُّدِهِ بِهِ أَوْ الِاعْتِكَافُ الْوَاجِبُ الَّذِي هُوَ مُطْلَقٌ عَنْ الْوَقْتِ يَقْتَضِي صَوْمًا لِلِاعْتِكَافِ أَيْ لِلنَّذْرِ الَّذِي يُوجِبُهُ أَثَّرَ فِي إيجَابِهِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ شَرْطُهُ وَشَرْطُ الشَّيْءِ تَابِعٌ لَهُ وَمَا لَا يُتَوَسَّلُ إلَى الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ يَجِبُ كَوُجُوبِهِ تَبَعًا لَهُ، وَقَيَّدَ بِالْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ فِي الِاعْتِكَافِ النَّفْلِ لَا يُشْتَرَطُ الصَّوْمُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الصَّوْمُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِيهِ كَالطَّهَارَةِ فِي الصَّلَاةِ فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ الِاعْتِكَافُ النَّفَلُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ مَبْنَى النَّفْلِ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ وَالْمُسَامَحَةِ حَتَّى يَجُوزَ صَلَاةُ النَّفْلِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ وَرَاكِبًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّزُولِ وَالْوَاجِبُ لَا يَجُوزُ قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ بِنِيَّةِ الِاعْتِكَافِ فَهُوَ مُعْتَكِفٌ مَا أَقَامَ تَارِكٌ لَهُ إذَا خَرَجَ فَيَثْبُتُ أَنَّ الظَّاهِرَ مَا ذَكَرْنَا كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، غَيْرَ أَنَّهُ امْتَنَعَ وُجُوبُ الصَّوْمِ بِوُجُوبِ هَذَا الِاعْتِكَافِ، بِعَارِضٍ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ، وَهُوَ شَرَفُ الْوَقْتِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ؛ وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا النُّقْصَانُ أَيْ عَدَمُ اقْتِضَاءِ الِاعْتِكَافِ صَوْمًا لَهُ أَثَّرَ فِي إيجَابِهِ بِعَارِضِ شَرَفِ الْوَقْتِ أَيْ بِتَقَيُّدِ الِاعْتِكَافِ وَاتِّصَالِهِ بِوَقْتٍ شَرِيفٍ لَا يَقْبَلُ إيجَابَ الصَّوْمِ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ لِشَرَفِهِ، أَوْ مَعْنَاهُ إنَّمَا لَمْ يُوجِبْ هَذَا الِاعْتِكَافُ صَوْمًا؛ لِأَنَّهُ يُضَافُ إلَى شَهْرٍ شَرِيفٍ فَكَانَ الِاعْتِكَافُ فِيهِ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «، مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ.، وَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيهِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ» فَاكْتَفَى فِيهِ بِصَوْمِ الشَّهْرِ لِإِدْرَاكِ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ، وَمَا ثَبَتَ بِشَرَفِ الْوَقْتِ، وَهُوَ زِيَادَةُ فَضِيلَةٍ حَصَلَتْ لِهَذَا الِاعْتِكَافِ بِسَبَبِ شَرَفِ الْوَقْتِ فَقَدْ فَاتَ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اكْتِسَابِ مِثْلِهِ إلَّا بِإِدْرَاكِ الْعَامِ الْقَابِلِ وَذَلِكَ مُتَرَدِّدٌ لِاسْتِوَاءِ الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْقُدْرَةُ، فَسَقَطَ أَيْ اسْتِدْرَاكُ مَا ثَبَتَ بِشَرَفِ الْوَقْتِ وَاكْتِسَابِ مِثْلِهِ لِلْعَجْزِ كَمَا

فَبَقِيَ مَضْمُونًا بِإِطْلَاقِهِ، وَكَانَ هَذَا أَحْوَطَ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِشَرَفِ الْوَقْتِ مِنْ الزِّيَادَةِ احْتَمَلَ السُّقُوطَ فَالنُّقْصَانُ وَالرُّخْصَةُ الْوَاقِعَةُ بِالشَّرَفِ؛ لَأَنْ يَحْتَمِلَ السُّقُوطَ وَالْعَوْدَ إلَى الْكَمَالِ أَوْلَى. وَإِذَا عَادَ لَمْ يَتَأَدَّ فِي الرَّمَضَانِ الثَّانِي وَالْأَدَاءُ فِي الْعِبَادَاتِ يَكُونُ فِي الْمُوَقَّتَةِ فِي الْوَقْتِ وَفِي غَيْرِ الْمُوَقَّتَةِ أَبَدًا ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، فَبَقِيَ أَيْ الِاعْتِكَافُ مَضْمُونًا فِي الذِّمَّةِ، بِإِطْلَاقِ الِاعْتِكَافِ أَيْ بِإِطْلَاقِ مَا يُوجِبُ الِاعْتِكَافَ، وَهُوَ النَّذْرُ السَّابِقُ عَنْ الْوَقْتِ كَالْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، وَلَمَّا صَارَ النَّذْرُ بِالِاعْتِكَافِ مُطْلَقًا بِزَوَالِ الْعَارِضِ وَجَبَ بِهِ الصَّوْمُ الْمَقْصُودُ وَلَمْ يَتَأَدَّ فِي الرَّمَضَانِ الثَّانِي كَمَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ النَّذْرُ مُطْلَقًا ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ صَرْفَ الْوَاجِبِ إلَى الْوَاجِبِ الْآخَرِ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ الْفَرِيقَ الْأَوَّلَ جَعَلُوا التَّفْوِيتَ كَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ وَالْعَامَّةُ جَعَلُوا النَّذْرَ السَّابِقَ بَعْدَ زَوَالِ الْعَارِضِ كَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ، وَلَا يُقَالُ لَمَّا صَارَ النَّذْرُ السَّابِقُ كَالْمُطْلَقِ بَعْدَ زَوَالِ الْعَارِضِ حَتَّى وَجَبَ بِهِ الصَّوْمُ الْمَقْصُودُ لَزِمَ أَنْ لَا يَتَأَدَّى بِصَوْمِ الْقَضَاءِ فِيمَا إذَا لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يَعْتَكِفْ ثُمَّ اعْتَكَفَ فِي قَضَاءِ الصَّوْمِ مُتَتَابِعًا كَمَا لَوْ كَانَ النَّذْرُ مُطْلَقًا ابْتِدَاءً، لِأَنَّا نَقُولُ امْتِنَاعُ وُجُوبِ الصَّوْمِ فِي هَذَا الِاعْتِكَافِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ شَرَفِ الْوَقْتِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِاعْتِبَارِ اتِّصَالِهِ بِصَوْمِ الشَّهْرِ فَإِنْ زَالَ شَرَفُ الْوَقْتِ لَمْ يَزَلْ الِاتِّصَالُ لِبَقَاءِ الْخُلْفِ فَيَجُوزُ لِبَقَاءِ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ. قَوْلُهُ (وَكَانَ هَذَا أَحْوَطَ الْوَجْهَيْنِ) قِيلَ الْوَجْهَانِ إيجَابُ الْقَضَاءِ بِالسَّبَبِ الَّذِي وَجَبَ بِهِ الْأَدَاءُ وَإِيجَابُهُ بِسَبَبٍ آخَرَ مَقْصُودٍ وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أُضِيفَ إلَى سَبَبٍ آخَرَ يَجِبُ أَنْ لَا يَلْزَمَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَ الْفَوَاتِ وَالْأَوَّلُ يُوجِبُ الْقَضَاءَ عِنْدَ الْفَوَاتِ وَالتَّفْوِيتِ جَمِيعًا فَكَانَ أَوْلَى. ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ الْوَجْهَانِ إيجَابُ الْقَضَاءِ بِصَوْمٍ مَقْصُودٍ وَإِسْقَاطُهُ بِزَوَالِ الْوَقْتِ لِتَعَذُّرِ الِاعْتِكَافِ بِلَا صَوْمٍ وَتَعَذُّرِ إيجَابِ الصَّوْمِ بِلَا مُوجِبٍ كَمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِيجَابُ الْقَضَاءِ أَحْوَطُهُمَا؛ لِأَنَّ فِيهِ إسْقَاطَ النُّقْصَانِ وَإِعَادَةَ الْوَاجِبِ إلَى صِفَةِ الْكَمَالِ بِإِيجَابِ تَبَعِهِ لِوُجُوبِهِ وَفِي الْوَجْهِ الْآخَرِ إسْقَاطُ أَصْلِ الْوَاجِبِ لِتَعَذُّرِ إيجَابِ التَّبَعِ وَقَدْ أَمْكَنَ اعْتِبَارُ هَذَا الْوَجْهِ مَعَ رِعَايَةِ الْأَصْلِ الَّذِي مَهَّدْنَاهُ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا، وَبَيَانُ الْإِمْكَانِ أَنَّ الزِّيَادَةَ الَّتِي تَثْبُتُ بِسَبَبِ شَرَفِ الْوَقْتِ لِلْعِبَادَةِ احْتَمَلَتْ السُّقُوطَ بِزَوَالِ الْوَقْتِ كَمَا بَيَّنَّا فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، فَالنُّقْصَانُ، وَهُوَ عَدَمُ وُجُوبِ الصَّوْمِ بِهِ، وَالرُّخْصَةُ الْوَاقِعَةُ بِالشَّرَفِ، وَهِيَ الِاكْتِفَاءُ بِصَوْمِ الْوَقْتِ لَأَنْ يَحْتَمِلَ السُّقُوطَ وَالْعَوْدُ إلَى الْكَمَالِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ عَوْدٌ مِنْ الْكَمَالِ إلَى النُّقْصَانِ، وَهَذَا عَوْدٌ مِنْ النُّقْصَانِ إلَى الْكَمَالِ وَمِنْ الرُّخْصَةِ إلَى الْعَزِيمَةِ وَلَمَّا عَادَ إلَى الْكَمَالِ لَمْ يُتَّأَدَ فِي الرَّمَضَانِ الثَّانِي، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَالنُّقْصَانُ بِالْوَاوِ وَالنَّصْبُ عَطْفًا عَلَى السُّقُوطِ وَلَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ لِأَنَّ السُّقُوطَ حِينَئِذٍ يَرْجِعُ إلَى الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانُ يَرْجِعُ إلَى مَحَلِّ الزِّيَادَةِ، وَهُوَ الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ فَيَخْتَلِفُ الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُ فِي احْتَمَلَ فَيَخْتَلُّ الْكَلَامُ؛ وَلِأَنَّ السُّقُوطَ فِي قَوْلِهِ لَأَنْ يَحْتَمِلَ السُّقُوطَ رَاجِعٌ إلَى النُّقْصَانِ وَالْعَوْدُ إلَى الْكَمَالِ رَاجِعٌ إلَى الرُّخْصَةِ وَفِي عَطْفِ النُّقْصَانِ عَلَى السُّقُوطِ إبْطَالُ هَذِهِ اللَّطِيفَةِ فَكَانَتْ النُّسْخَةُ الْأُولَى أَوْلَى قَوْلُهُ (وَفِي غَيْرِ الْمُؤَقَّتَةِ) كَسُجُودِ التِّلَاوَةِ وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْكَفَّارَاتِ، أَبَدًا أَيْ فِي الْعُمْرِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْعُمْرِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَقْتِ فِيمَا هُوَ مُؤَقَّتٌ. ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ قَالَ الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يُوجِبُ الْفَوْرَ ظَاهِرٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا، وَكَذَا عَلَى مَذْهَبِ بَعْضِ الْقَائِلِينَ بِالْفَوْرِ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ أَوْقَاتِ الْإِمْكَان؛ وَإِنْ تَعَيَّنَ عِنْدَهُمْ إلَّا أَنَّ بِفَوْتِهِ لَا يَصِيرُ قَضَاءً؛ لِأَنَّ مَعْنَى

عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْمَحْضُ مَا يُؤَدِّيهِ الْإِنْسَانُ بِوَصْفِهِ عَلَى مَا شُرِعَ مِثْلُ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ فَأَمَّا فِعْلُ الْفَرْدِ فَأَدَاءٌ فِيهِ قُصُورٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَهْرَ عَنْ الْمُنْفَرِدِ سَاقِطٌ وَالشَّارِعُ مَعَ الْإِمَامِ فِي الْجَمَاعَةِ مُؤَدٍّ أَدَاءً مَحْضًا وَالْمَسْبُوقُ بِبَعْضِ الصَّلَاةِ مُؤَدٍّ أَيْضًا لَكِنَّهُ مُنْفَرِدٌ فَكَانَ قَاصِرًا وَمَنْ نَامَ خَلْفَ الْإِمَامِ أَوْ أَحْدَثَ فَذَهَبَ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ عَادَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ فَهَذَا مُؤَدٍّ أَدَاءً يُشْبِهُ الْقَضَاءَ ـــــــــــــــــــــــــــــQهَذَا الْأَمْرِ افْعَلْ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ؛ فَإِنْ أَخَّرْت فَفِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ إلَى آخِرِ الْعُمْرِ فَيَكُونُ أَدَاءً لَا قَضَاءً، فَأَمَّا عِنْدَ الْبَاقِينَ مِنْهُمْ إذَا فَاتَ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ قَضَاءً؛ لِأَنَّ أَوَّلَ أَزْمِنَةِ الْإِمْكَانِ وَقْتٌ مُقَدَّرٌ كَوَقْتِ الصَّلَاةِ؛ وَلِهَذَا مَنْ شَرَطَ مِنْهُمْ الْأَمْرَ الْجَدِيدَ فِي الْقَضَاءِ شَرَطَهُ هَهُنَا كَذَا فِي الْمِيزَانِ وَغَيْرِهِ، عَلَى مَا تَبَيَّنَ مِنْ بَعْدُ يَعْنِي قُبَيْلَ بَابِ النَّهْيِ، وَالْمَحْضُ مِنْهُ أَيْ الْخَالِصُ الْكَامِلُ مِنْ الْأَدَاءِ، هُوَ الَّذِي يُؤَدِّيهِ الْإِنْسَانُ مُلْتَبِسًا بِوَصْفِهِ كَمَا شُرِعَ مِثْلُ الصَّلَاةِ بِجَمَاعَةٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ صَلَاةٌ تَوَفَّرَ عَلَيْهَا حَقُّهَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ وَالْآدَابِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَدَاءَ يُنْبِئُ عَنْ الِاسْتِقْصَاءِ وَشِدَّةِ الرِّعَايَةِ وَفِيهَا ذَلِكَ، وَهَذَا فِي الصَّلَاةِ الَّتِي سُنَّتْ الْجَمَاعَةُ فِيهَا مِثْلُ الْمَكْتُوبَاتِ وَالْوِتْرِ فِي رَمَضَانَ وَالتَّرَاوِيحُ فَأَمَّا فِيمَا لَمْ تُسَنَّ الْجَمَاعَةُ فِيهِ مِثْلُ عَامَّةِ النَّوَافِلِ وَالْوِتْرِ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ فَالْجَمَاعَةُ فِيهَا صِفَةُ قُصُورٍ عِنْدَنَا كَالْإِصْبَعِ الزَّائِدَةِ، فَأَدَاءٌ فِيهِ قُصُورٌ لِعَدَمِ وَصْفِهِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ شَرْعًا، وَهُوَ الْجَمَاعَةُ فَإِنَّ الصَّلَاةَ بِالْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً كَمَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ، الْجَهْرُ سَاقِطٌ أَيْ وُجُوبُهُ وَالْجَهْرُ صِفَةُ كَمَالٍ فِي الصَّلَاةِ بِدَلِيلِ وُجُوبِ السَّجْدَةِ بِتَرْكِهِ. ، وَلَمَّا كَانَ الْأَدَاءُ مُنْقَسِمًا أَقْسَامًا ثَلَاثَةً؛ لِأَنَّهُ إمَّا إنْ أُدِّيَتْ الصَّلَاةُ كُلُّهَا مَعَ الْجَمَاعَةِ أَوْ بَعْضِهَا وَذَلِكَ الْبَعْضُ إمَّا إنْ كَانَ أَوَّلَ الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرَهُ أَعَادَ قَوْلَهُ وَالشَّارِعُ مَعَ الْإِمَامِ فِي الْجَمَاعَةِ أَيْ الَّذِي شُرِعَ مَعَهُ وَأَتَمَّهَا مَعَهُ مُؤَدٍّ أَدَاءً مَحْضًا أَيْ كَامِلًا لِيُبَيِّنَ الْقِسْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ. قَوْلُهُ (وَالْمَسْبُوقُ بِبَعْضِ الصَّلَاةِ) أَيْ الَّذِي فَاتَهُ أَوَّلُ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ بِأَنْ فَاتَتْهُ الرَّكْعَةُ الْأُولَى أَوْ أَكْثَرُ مُؤَدٍّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّيهَا فِي الْوَقْتِ، لَكِنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِي أَدَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ؛ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِيمَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ أَدَائِهِ، فَكَانَ أَيْ الْمَسْبُوقُ فِيهِ مُؤَدِّيًا أَدَاءً قَاصِرًا أَوْ فِعْلُهُ أَدَاءً قَاصِرًا وَلَكِنْ فِعْلُهُ فِي الْقُصُورِ دُونَ فِعْلِ الْمُنْفَرِدِ مِنْ وَجْهَيْنِ:، أَحَدُهُمَا: أَنَّ صِفَةَ الْجَمَاعَةِ مَوْجُودَةٌ هَهُنَا فِي الْبَعْضِ بِخِلَافِ الْمُنْفَرِدِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فِيمَا سَبَقَ بِهِ حَتَّى لَزِمَهُ الْقِرَاءَةُ وَسُجُودُ السَّهْوِ لَوْ سَهَا فِيهِ لَكِنَّهُ مُقْتَدٍ فِيهِ بِاعْتِبَارِ التَّحْرِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَهَا مَعَ الْإِمَامِ، وَهِيَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْغَيْرِ بِهِ فَكَانَ الَّذِي صَلَّى بِغَيْرِ إمَامٍ مُنْفَرِدًا فِي الْكُلِّ أَدَاءً وَتَحْرِيمَةً وَالْمَسْبُوقُ مُنْفَرِدًا فِي الْبَعْضِ أَدَاءً لَا تَحْرِيمَةً فَكَانَ قُصُورُهُ دُونَ الْأَوَّلِ بِدَرَجَتَيْنِ قَوْلُهُ (وَمَنْ نَامَ خَلْفَ الْإِمَامِ) ثُمَّ انْتَبَهَ بَعْدَ فَرَاغِهِ. (أَوْ أَحْدَثَ) أَيْ صَارَ مُحْدِثًا، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِاللَّاحِقِ أَيْ الَّذِي أَدْرَكَ أَوَّلَ الصَّلَاةِ وَفَاتَهُ الْبَاقِي، مُؤَدٍّ أَيْ بِاعْتِبَارِ بَقَاءِ الْوَقْتِ أَدَاءً، يُشْبِهُ الْقَضَاءَ بِاعْتِبَارِ فَوَاتِ مَا الْتَزَمَهُ مِنْ الْأَدَاءِ مَعَ الْإِمَامِ بِفَرَاغِهِ، وَلَمَّا كَانَتْ الْجِهَةُ مُخْتَلِفَةً صَحَّ اجْتِمَاعُهُمَا فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ مَعَ كَوْنِهِمَا مُتَنَافِيَيْنِ. وَإِنَّمَا جَعَلْنَا فِعْلَهُ أَدَاءً يُشْبِهُ الْقَضَاءَ لَا عَلَى الْعَكْسِ؛ لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْفِعْلِ مُؤَدٍّ وَبِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ قَاضٍ وَالْوَصْفُ تَبَعٌ، ثُمَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْقَضَاءَ يَقُومُ مَقَامَ الْأَدَاءِ فَكَانَ هُوَ فِي حُكْمِ الْمُقْتَدِي دُونَ الْمُنْفَرِدِ حَتَّى لَا يَلْزَمُهُ الْقِرَاءَةُ وَسُجُودُ السَّهْوِ لَوْ سَهَا كَالْمُقْتَدِي، وَكَانَ فِعْلُهُ فِي الْقُصُورِ دُونَ فِعْلِ الْمَسْبُوقِ؛ لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ بِاعْتِبَارِ الْوَقْتِ وَقَاضٍ صِفَةِ الْجَمَاعَةِ فِيمَا فَاتَهُ مَعَ الْإِمَامِ فَكَانَ أَدَاؤُهُ كَامِلًا بَعْضُهُ حَقِيقَةً وَبَعْضُهُ حُكْمًا، يُوَضِّحُ مَا ذَكَرْنَا مَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَيْمَانِ الْجَامِعِ لَوْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ إنْ صَلَّيْتُ الْجُمُعَةَ مَعَ الْإِمَامِ فَسُبِقَ فِيهَا بِرَكْعَةٍ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا صَلَّى مَعَهُ رَكْعَةً فَأَمَّا الْأُخْرَى فَلَا؛ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ مُنْفَرِدٌ لَا إمَامَ لَهُ، وَلَوْ افْتَتَحَ مَعَ

أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَالُوا فِي مُسَافِرٍ اقْتَدَى بِمُسَافِرٍ فِي الْوَقْتِ ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ أَوْ نَامَ حَتَّى فَرَغَ الْإِمَامُ ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَدَخَلَ مِصْرَهُ لِلْوُضُوءِ أَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ، وَهُوَ فِي غَيْرِ مِصْرِهِ وَالْوَقْتُ بَاقٍ أَنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَلَوْ تَكَلَّمَ صَلَّى أَرْبَعًا وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ بَعْدُ لَمْ يَفْرُغْ أَوْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ مَسْبُوقًا صَلَّى أَرْبَعًا كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ـــــــــــــــــــــــــــــQالْإِمَامِ ثُمَّ نَامَ حَتَّى سَلَّمَ الْإِمَامُ ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى حَنِثَ؛ لِأَنَّ النَّائِمَ الَّذِي يَقْضِي مِثْلَ مَا انْعَقَدَ لَهُ إحْرَامُ الْإِمَامِ مُقْتَدٍ بِهِ كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي جَامِعِهِ (فَإِنْ قِيلَ) قَدْ جَعَلَ صَاحِبُ الشَّرْعِ الْمَسْبُوقَ قَاضِيًا بِقَوْلِهِ وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ جَعْلُهُ مُؤَدِّيًا (قُلْنَا) قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ اسْتِعْمَالَ إحْدَى الْعِبَارَتَيْنِ مَكَانَ الْأُخْرَى مَجَازًا جَائِزٌ؛ وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْمَسْبُوقُ قَاضِيًا مَجَازًا لِمَا فَعَلَهُ مِنْ إسْقَاطِ الْوَاجِبِ أَوْ بِاعْتِبَارِ حَالِ الْإِمَامِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي قَوْلِهِ «وَمَا فَاتَكُمْ» وَنَحْنُ إنَّمَا جَعَلْنَاهُ مُؤَدِّيًا بِاعْتِبَارِ حَالِهِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَوْرَدَهُ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الصَّحِيحِ «وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» ، أَشَارَ إلَى أَكْثَرِ هَذِهِ اللَّطَائِفِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قَوْلُهُ (أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ) أَيْ الْمَشَايِخُ اسْتِدْلَالٌ عَلَى شِبْهِ الْقَضَاءِ، فِي الْوَقْتِ حَتَّى لَوْ اقْتَدَى بِهِ خَارِجَ الْوَقْتِ لَا يَتَغَيَّرُ بِمُغَيِّرٍ بِحَالٍ بِالِاتِّفَاقِ، ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ أَيْ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ، ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ أَيْ بَعْدَ الْفَرَاغِ ضَرُورَةً، فَدَخَلَ فِي مِصْرِهِ فِي الصُّورَتَيْنِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ، أَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ أَيْ فِي مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ وَالْوَقْتُ بَاقٍ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ بَاقِيًا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ؛ وَإِنْ تَكَلَّمَ بِلَا خِلَافٍ أَنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْقَضَاءِ، وَلَوْ تَكَلَّمَ أَيْ هَذَا الْمُسَافِرُ اللَّاحِقُ بَعْدَ وُجُودِ الْمُغَيِّرِ صَلَّى أَرْبَعًا لِزَوَالِ شِبْهِ الْقَضَاءِ بِالْخُرُوجِ عَنْ التَّحْرِيمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَبَقَاءِ الْوَقْتِ فَيَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ، وَعَكْسُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُسَافِرٌ أَحْدَثَ فَانْفَتَلَ لِيَأْتِيَ مِصْرَهُ فَيَتَوَضَّأُ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ أَمَامَهُ مَاءٌ، فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي أَرْبَعًا، فَإِنْ تَكَلَّمَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ عَزَمَ عَلَى الِانْصِرَافِ إلَى أَهْلِهِ فَقَدْ صَارَ مُقِيمًا وَبَعْدَمَا صَارَ مُقِيمًا فِي صَلَاةٍ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا فِيهَا؛ لِأَنَّ السَّفَرَ عَمَلٌ وَحُرْمَةُ الصَّلَاةِ تَمْنَعُهُ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْعَمَلِ بِخِلَافِ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّهَا تَرْكُ السَّفَرِ وَحُرْمَةُ الصَّلَاةِ لَا تَمْنَعُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَإِذَا تَكَلَّمَ فَقَدْ ارْتَفَعَتْ حُرْمَةُ الصَّلَاةِ، وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ أَمَامَهُ عَلَى عَزْمِ السَّفَرِ فَصَارَ مُسَافِرًا كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ بَعْدُ أَيْ بَعْدَ وُجُودِ الْمُغَيِّرِ وَلَوْ تَكَلَّمَ أَيْ هَذَا الرَّجُلُ الْمَسْبُوقُ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَسْبُوقَ يُصَلِّي أَرْبَعًا بَعْدَ وُجُودِ الْمُغَيِّرِ سَوَاءٌ فَرَغَ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَفْرُغْ تَكَلَّمَ أَوْ لَمْ يَتَكَلَّمْ؛ لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ. وَكَذَا اللَّاحِقُ إذَا تَكَلَّمَ أَوْ لَمْ يَفْرُغْ إمَامُهُ، فَأَمَّا إذَا فَرَغَ إمَامُهُ ثُمَّ وَجَدَ الْمُغَيِّرَ وَالْوَقْتُ بَاقٍ فَإِنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُصَلِّي أَرْبَعًا؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ اللَّاحِقُ بِالْمَسْبُوقِ نَظَرًا إلَى انْفِرَادِهِ حَقِيقَةً أَوْ بِالْمُقْتَدِي نَظَرًا إلَى الِاقْتِدَاءِ حُكْمًا وَالْحُكْمُ فِي صَلَاتِهِمَا أَنَّهَا تَتَغَيَّرُ بِالْمُغَيِّرِ، فَكَذَا لِلَّاحِقِ، وَأَنَّا نَقُولُ اللَّاحِقُ مَعَ كَوْنِهِ مُقْتَدِيًا لَيْسَ بِمُؤَدٍّ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُجْعَلَ مُؤَدِّيًا خَلْفَ الْإِمَامِ وَلَا إمَامَ لَهُ بَلْ هُوَ قَاضٍ شَيْئًا فَاتَهُ مَعَ الْإِمَامِ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْعَزِيمَةَ فِي حَقِّهِ أَنْ يُؤَدِّيَ مَعَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ مُقْتَدٍ لَكِنَّ الشَّرْعَ جَوَّزَ الْأَدَاءَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ إذَا فَاتَهُ الْأَدَاءُ بِعُذْرٍ وَجُعِلَ أَدَاؤُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْأَدَاءِ مَعَ الْإِمَامِ وَهَذَا هُوَ تَفْسِيرُ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يُؤَدِّيَ شَيْئًا بِمِثْلِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ فَصَارَ اللَّاحِقُ بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي الْحَقِيقِيِّ بَعْدَ الْوَقْتِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي فِعْلِهِ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُغَيِّرَ لَمْ يَتَّصِلْ بِالْأَصْلِ لِانْقِضَائِهِ فَلَمْ يَتَغَيَّرْ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَتَغَيَّرُ مَا بَنَى عَلَيْهِ، وَهُوَ الْقَضَاءُ بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ فَإِنَّهُ مُنْفَرِدٌ مُؤَدٍّ شَيْئًا عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَكَذَا الَّذِي خَلْفَ الْإِمَامِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ فِي الْحَالِ فَيَجُوزُ أَنْ تَعْمَلَ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ

[القضاء نوعان إما بمثل معقول وإما بمثل غير معقول]

وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ هَذَا مُؤَدٍّ بِاعْتِبَارِ الْوَقْتِ لَكِنَّهُ قَاضٍ بِاعْتِبَارِ فَرَاغِ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ كَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ لَا أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ خَلْفَهُ فَصَارَ قَاضِيًا لَمَّا انْعَقَدَ لَهُ إحْرَامُ الْإِمَامِ بِمِثْلِهِ وَالْمِثْلُ بِطَرِيقِ الْقَضَاءِ إنَّمَا يَجِبُ بِالسَّبَبِ الَّذِي أَوْجَبَ الْأَصْلَ فَمَا لَمْ يَتَغَيَّرْ الْأَصْلُ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْمِثْلُ. فَإِذَا لَمْ يَفْرُغْ الْإِمَامُ حَتَّى وَجَدَ مِنْ الْمُقْتَدِي مَا يُوجِبُ إكْمَالَ صَلَاتِهِ تَمَّتْ صَلَاتُهُ بِنِيَّةِ إقَامَتِهِ أَوْ بِدُخُولِ مِصْرِهِ لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ فِي الْوَقْتِ، فَأَمَّا إذَا فَرَغَ الْإِمَامُ ثُمَّ وَجَدَ مَا ذَكَرْنَا فَإِنَّمَا اعْتَرَضَ هَذَا عَلَى الْقَضَاءِ دُونَ الْأَدَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ الْأَدَاءُ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْقَضَاءُ كَمَا إذَا صَارَ قَضَاءً مَحْضًا بِالْفَوَاتِ عَنْ الْوَقْتِ ثُمَّ وُجِدَ الْمُغَيِّرُ وَإِذَا تَكَلَّمَ فَقَدْ بَطَلَ مَعْنَى الْقَضَاءِ وَعَادَ الْأَمْرُ إلَى الْأَدَاءِ فَتَغَيَّرَ بِالْمُغَيِّرِ لِقِيَامِ الْوَقْتِ بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ أَيْضًا لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ وَلِهَذَا قُلْنَا فِي اللَّاحِقِ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ قَاضٍ لِمَا انْعَقَدَ لَهُ إحْرَامُ الْجَمَاعَةِ وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَنَوْعَانِ إمَّا بِمِثْلٍ مَعْقُولٍ فَكَمَا ذَكَرْنَا وَإِمَّا بِمِثْلٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ فَمِثْلُ الْفِدْيَةِ فِي الصَّوْمِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي تَغَيُّرِ صَلَاتِهِ وَصَلَاتُهُ مُحْتَمِلَةٌ لِلتَّغَيُّرِ مَعَ وَصْفِ التَّبَعِيَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَلَاتُهُ عَلَى خِلَافِ وَصْفِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فِي الِابْتِدَاءِ فَجَازَ فِي الْبَقَاءِ؛ وَلِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِيمَا سَبَقَ وَأَثَرُ التَّغَيُّرِ يَظْهَرُ فِيهِ، وَهُوَ لَيْسَ بِتَابِعٍ فِيهِ كَذَا فِي مَبْسُوطِ الشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَإِنْ قِيلَ) نِيَّةُ الْإِمَامِ إنَّمَا لَمْ تُعْتَبَرْ لِخُرُوجِهِ عَنْ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ فَأَمَّا الْمُقْتَدِي فَهُوَ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ فَيَكُونُ نِيَّتُهُ مُعْتَبَرَةً. (قُلْنَا) الْمُقْتَدِي تَبَعٌ فَيُجْعَلُ كَالْخَارِجِ مِنْ الصَّلَاةِ حُكْمًا بِخُرُوجِ إمَامِهِ مِنْهَا كَذَا فِي مَبْسُوطِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ (وَأَصْلُ ذَلِكَ، اسْتَدَلَّ أَوَّلًا بِالْحُكْمِ عَلَى صِحَّةِ الْمَذْهَبِ ثُمَّ بَيَّنَ الْمَعْنَى فِيهِ فَقَالَ: وَأَصْلُ ذَلِكَ أَيْ أَصْلُ مَا ادَّعَيْنَا مِنْ شِبْهِ الْقَضَاءِ فِي فِعْلِ اللَّاحِقِ) ، أَنَّ هَذَا أَيْ اللَّاحِقَ، وَقَوْلُهُ كَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ لَا أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ نَفْيٌ لِقَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ جَعَلَهُ مُؤَدِّيًا خَلْفَ الْإِمَامِ حَقِيقَةً حَيْثُ جَعَلَ اللَّاحِقَ وَالْمُؤَدِّيَ خَلْفَ الْإِمَامِ سَوَاءٌ كَمَا بَيَّنَّا، فَصَارَ أَيْ اللَّاحِقُ قَاضِيًا لِمَا انْعَقَدَ لَهُ إحْرَامُ الْإِمَامِ بِمِثْلِهِ الْبَاءُ تَتَعَلَّقُ بِقَاضِي وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إلَى مَا وَفِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ نَوْعُ تَسَامُحٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي مَا انْعَقَدَ لَهُ إحْرَامُ الْإِمَامِ؛ وَإِنَّمَا يَقْضِي مَا انْعَقَدَ لَهُ إحْرَامُ نَفْسِهِ مِنْ الْمُتَابَعَةِ وَالْمُشَارَكَةِ مَعَهُ فِي الْفِعْلِ الَّذِي فَاتَهُ بِفَرَاغِ الْإِمَامِ إلَّا أَنَّ الْمُتَابَعَةَ وَالْمُشَارَكَةَ لَمَّا لَمْ تَتَحَقَّقْ بِدُونِ فِعْلِ الْإِمَامِ جُعِلَ فِعْلُ الْإِمَامِ أَصْلًا، فَمَا لَمْ يَتَغَيَّرْ الْأَصْلُ أَيْ مَا دَامَ الْأَصْلُ، وَهُوَ الْأَدَاءُ لَا يَقْبَلُ التَّغَيُّرَ لَا يَتَغَيَّرُ الْمِثْلُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ خَلْفُ الْأَدَاءِ وَالْخَلْفُ لَا يُفَارِقُ الْأَصْلَ، وَقَدْ تَمَّ هُنَا بَيَانُ الْأَصْلِ، ثُمَّ شَرَعَ فِي تَرْتِيبِ الْفُرُوعِ الْمَذْكُورَةِ عَلَيْهِ فَقَالَ فَإِذَا لَمْ يَفْرُغْ الْإِمَامُ وَقَدْ وُجِدَ الْمُغَيَّرُ فِي صَلَاةِ الْمُقْتَدِي تَمَّتْ صَلَاتُهُ لِعَدَمِ الْمَانِعِ لِلْمُغَيِّرِ مِنْ الْعَمَلِ لِقَبُولِ الْأَصْلِ التَّغَيُّرَ؛ لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَاعْتِرَاضُ الْمُغَيِّرِ يُؤَثِّرُ فِيهِ. قَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ ثُمَّ وَجَدَ الْمُغَيِّرُ أَوْ بِقَوْلِهِ، فَإِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ الْأَدَاءُ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْقَضَاءُ؛ وَإِنَّمَا قَالَ أَيْضًا لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْمَسْبُوقِ تُخَالِفُ مَسْأَلَةَ التَّكَلُّمِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْكَلَامِ يَقْتَضِي ذَلِكَ لَوْلَاهُ فَقَوْلُهُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَسْأَلَةَ التَّكَلُّمِ تُوَافِقُ مَسْأَلَةَ الْمَسْبُوقِ وَأَنَّهُمَا تُخَالِفَانِ مَسْأَلَةَ اللَّاحِقِ فَعَلَى هَذَا لَوْ قِيلَ وَبِخِلَافِ بِالْوَاوِ لَاسْتَقَامَ الْمَعْنَى كَمَا اسْتَقَامَ بِدُونِهَا، وَكَانَ عَطْفًا عَلَى مَسْأَلَةِ التَّكَلُّمِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَالتَّقْدِيرُ بِخِلَافِ مَا إذَا تَكَلَّمَ وَبِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ أَيْضًا [الْقَضَاءُ نَوْعَانِ إمَّا بِمِثْلٍ مَعْقُولٍ وَإِمَّا بِمِثْلٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ] (قَوْلُهُ وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَنَوْعَانِ) أَيْ الْقَضَاءُ الْخَالِصُ نَوْعَانِ فَأَمَّا الَّذِي شَابَهَ مَعْنَى الْأَدَاءِ فَقِسْمٌ آخَرُ، أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِ الْمِثْلِ مَعْقُولًا وَغَيْرَ مَعْقُولٍ نَوْعَانِ فَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ أَقْسَامِهِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْأَدَاءِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ قَضَاءً بِمِثْلٍ مَعْقُولٍ أَوْ غَيْرِ مَعْقُولٍ، ثُمَّ تَقْسِيمُهُ بِالنَّظَرِ إلَى خُلُوصِهِ وَعَدَمِ خُلُوصِهِ لَا يَضُرُّ بِالتَّقْسِيمِ الْأَوَّلِ كَمَا أَنَّ اللَّفْظَ يُقَسَّمُ عَلَى اسْمٍ وَفِعْلٍ وَحَرْفٍ بِالنَّظَرِ إلَى مَعْنَى ثُمَّ يُقَسَّمُ إلَى مُفْرَدٍ وَمُرَكَّبٍ بِالنَّظَرِ إلَى مَعْنًى آخَرَ وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ بِالتَّقْسِيمِ الْأَوَّلِ فَكَذَا هَذَا. ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ أَمَّا الْقَضَاءُ فَنَوْعَانِ قَضَاءٌ بِمِثْلٍ مَعْقُولٍ وَقَضَاءٌ بِمِثْلٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ أَمَّا الْقَضَاءُ إلَى آخِرِهِ وَإِنَّمَا اخْتَصَرَ اعْتِمَادًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ (قَوْلُهُ فَمِثْلُ الْفِدْيَةِ فِي بَابِ الصَّوْمِ) فَإِنَّهَا شُرِعَتْ خَلَفًا عَنْ الصَّوْمِ عِنْدَ الْعَجْزِ الْمُسْتَدَامِ عَنْ الصَّوْمِ لِعَجْزِ الشَّيْخِ الْفَانِي وَمَنْ بِحَالِهِ، وَالْفِدْيَةُ وَالْفِدَاءُ

وَثَوَابُ النَّفَقَةِ فِي الْحَجِّ بِإِحْجَاجِ النَّائِبِ؛ لِأَنَّا لَا نَعْقِلُ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِدْيَةِ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى فَلَمْ يَكُنْ مِثْلًا قِيَاسًا وَأَمَّا الصَّوْمُ فَمِثْلٌ صُورَةً وَمَعْنًى وَكَذَلِكَ لَيْسَ بَيْنَ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَنَفَقَةِ الْإِحْجَاجِ مُمَاثَلَةٌ بِوَجْهٍ لَكِنَّا جَوَّزْنَاهُ بِالنَّصِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْبَدَلُ الَّذِي يَتَلَخَّصُ بِهِ عَنْ مَكْرُوهٍ تَوَجَّهَ إلَيْهِ قَوْلُهُ (وَثَوَابُ النَّفَقَةِ) أَيْ الْإِنْفَاقِ فِي الْحَجِّ بِإِحْجَاجِ النَّائِبِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِحْجَاجَ عَنْ الْغَيْرِ جَائِزٌ وَلَكِنَّهُ فِي الْحَجِّ الْفَرْضِ مَشْرُوطٌ بِالْعَجْزِ الدَّائِمِ حَتَّى جَازَ عَنْ الْمَيِّتِ وَعَنْ الْمَرِيضِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ إذَا لَمْ يَزَلْ مَرِيضًا حَتَّى مَاتَ فَإِنْ صَحَّ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ وَالْمُؤَدَّى تَطَوُّعٌ؛ لِأَنَّا عَرَفْنَا جَوَازَهُ بِحَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ وَقَدْ وَرَدَ فِي عَجْزِ الشَّيْخُوخَةِ وَأَنَّهَا دَائِمَةٌ لَازِمَةٌ وَلِأَنَّهُ فَرْضُ الْعُمْرِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ عَجْزٌ يَسْتَغْرِقُ بَقِيَّةَ الْعُمْرِ لِيَقَعَ بِهِ الْيَأْسُ عَنْ الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ، وَفِي التَّطَوُّعِ لَيْسَ بِمَشْرُوطٍ بِالْعَجْزِ حَتَّى إنَّ صَحِيحَ الْبَدَنِ إذَا أَحَجَّ بِمَالِهِ رَجُلًا عَلَى سَبِيلِ التَّطَوُّعِ عَنْهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مَبْنَى التَّطَوُّعِ عَلَى التَّوَسُّعِ. ثُمَّ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ عَامَّتُهُمْ: لِلْآمِرِ ثَوَابُ النَّفَقَةِ وَيَسْقُطُ الْوَاجِبُ عَنْ الْآمِرِ فَأَمَّا الْحَجُّ فَيَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ وَلَا تَجْرِي النِّيَابَةُ فِي أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَلَكِنْ لَهُ ثَوَابُ الْإِنْفَاقِ؛ لِأَنَّهُ فِعْلُهُ فَيُثَابُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَسْقُطُ عَنْ الْآمِرِ الْحَجُّ إمَّا؛ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ سَبَبٌ وَإِقَامَةُ السَّبَبِ مُقَامَ الْمُسَبَّبِ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ أَوْ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ إنْفَاقُ الْمَالِ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ وَأَدَاءِ الْحَجِّ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ الْحَجِّ بَقِيَ عَلَيْهِ مِقْدَارُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَهُوَ إنْفَاقُ الْمَالِ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ فَيَلْزَمُهُ دَفْعُ الْمَالِ لِيُنْفِقَهُ الْحَاجُّ فِي الطَّرِيقِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَشْتَرِطُ أَهْلِيَّةَ النَّائِبِ لِصِحَّةِ الْأَفْعَالِ حَتَّى لَوْ أَمَرَ ذِمِّيًّا لَا يَجُوزُ وَلَوْ كَانَ الْفِعْلُ يَنْتَقِلُ إلَى الْآمِرِ لَشَرَطَ أَهْلِيَّتَهُ لَا أَهْلِيَّةَ النَّائِبِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ، وَلَا يُقَالُ لَمَّا لَمْ تَجْرِ النِّيَابَةُ فِي الْأَفْعَالِ وَوَقَعَتْ عَنْ نَفْسِهِ لَزِمَ أَنْ يَسْقُطَ عَنْ الْمَأْمُورِ فَرْضُ الْحَجِّ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ فَرْضُ الْحَجِّ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةِ الْفَرْضِ أَوْ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَلَمْ يُوجَدْ وَإِنَّمَا وُجِدَتْ النِّيَّةُ عَنْ الْآمِرِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْحَجُّ يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ ظَوَاهِرَ الْأَخْبَارِ فِي هَذَا الْبَابِ تَشْهَدُ بِهِ فَإِنَّهُ «- عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لِسَائِلَةٍ، حُجِّي عَنْ أَبِيك وَاعْتَمِرِي» . «وَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ أَفَيُجْزِئُنِي أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ فَقَالَ نَعَمْ» . وَحَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ مَشْهُورٌ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فَدَلَّ أَنَّ أَصْلَ الْحَجِّ يَقَعُ عَنْ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ الْحَجُّ عَنْهُ وَلَوْ نَوَى الْحَجَّ لِنَفْسِهِ يَصِيرُ ضَامِنًا. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْفِعْلُ لَا الْإِنْفَاقُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ حَجَّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِهِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ وَلَوْ أَنْفَقَ فِي الطَّرِيقِ وَلَمْ يَحُجَّ لَا يَسْقُطُ فَثَبَتَ أَنَّ النِّيَابَةَ فِي الْفِعْلِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا قُلْنَا قَوْلُهُ وَثَوَابُ النَّفَقَةِ فِي الْحَجِّ بِإِحْجَاجِ النَّائِبِ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ لَا عَلَى الْمَذْهَبِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِيهِ أُقِيمَ مُقَامَ الْفِعْلِ لَا الْإِنْفَاقِ. ثُمَّ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ بَيَانُ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْفِعْلِ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ مَعَ كَوْنِهَا مَعْقُولَةً ظَاهِرًا أَنْ يُقَالَ إنَّمَا جَعَلَ فِعْلَ نَفْسِهِ مِثْلًا لِفِعْلِ نَفْسِهِ فِي قَضَاءِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ لِحُصُولِ الْمَشَقَّةِ وَإِتْعَابُ النَّفْسِ فِي الْفِعْلِ الثَّانِي كَحُصُولِهَا فِي الْفِعْلِ الْأَوَّلِ فَأَمَّا فِعْلُ الْغَيْرِ فَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَشَقَّةُ لَهُ فَكَيْفَ يَكُونُ مِثْلًا لِفِعْلِ نَفْسِهِ؟ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ حَتَّى لَمْ تَجُزْ أَنْ يَقْضِيَ الِابْنُ صَلَاةَ أَبِيهِ وَلَا صِيَامَهُ بِأَمْرِهِ وَبِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَلَوْ كَانَتْ الْمِثْلِيَّةُ مَعْقُولَةً بَيْنَهُمَا لَجَازَ إثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ كَمَا فِي الْمَنْذُورَاتِ الْمُتَعَيِّنَةِ. قَوْلُهُ (لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى)

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] أَيْ لَا يُطِيقُونَهُ وَهَذَا مُخْتَصَرٌ بِالْإِجْمَاعِ وَثَبَتَ فِي الْحَجِّ بِحَدِيثِ «الْخَثْعَمِيَّةِ أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبِي أَدْرَكَهُ الْحَجُّ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَيُجْزِئُنِي أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يُقْبَلُ مِنْك فَقَالَتْ نَعَمْ قَالَ فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ» ـــــــــــــــــــــــــــــQأَمَّا عَدَمُهَا صُورَةً فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا مَعْنًى فَلِأَنَّ مَعْنَى الصَّوْمِ إتْعَابُ النَّفْسِ بِالْكَفِّ عَنْ قَضَاءِ الشَّهْوَتَيْنِ، وَمَعْنَى الْفِدْيَةِ تَنْقِيصُ الْمَالِ وَدَفْعُ حَاجَةِ الْغَيْرِ فَلَمْ يَكُنْ الْفِدْيَةُ مِثْلًا لِلصَّوْمِ قِيَاسًا أَيْ رَأْيًا وَفِي قَوْلِهِ؛ لِأَنَّا لَا نَعْقِلُ الْمُمَاثَلَةَ لُطْفٌ وَرِعَايَةُ أَدَبٍ لَيْسَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِيمَا بَعْدَهُ وَكَذَلِكَ لَيْسَ بَيْنَ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَنَفَقَةِ الْإِحْجَاجِ مُمَاثَلَةٌ بِوَجْهٍ يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالذَّوْقِ. وَإِنَّمَا جَاءَ التَّفْرِقَةُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إنَّ بَيْنَ الْفِدْيَةِ وَالصَّوْمِ مُمَاثَلَةً وَهِيَ أَنَّهُ لَمَّا صَرَفَ طَعَامَ يَوْمٍ إلَى مِسْكِينٍ فَقَدْ مَنَعَ النَّفْسَ عَنْ الِارْتِفَاقِ بِذَلِكَ الطَّعَامِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُوصِلْ إلَى نَفْسِهِ حَظَّهَا مِنْ الطَّعَامِ يَوْمًا وَهَذَا مَعْنَى الصَّوْمِ وَلَمْ يَقُلْ الْمُمَاثَلَةَ بِوَجْهٍ عَنْ أَحَدٍ بَيْنَ الْإِنْفَاقِ وَأَفْعَالِ الْحَجِّ فَكَأَنَّ الشَّيْخَ نَظَرَ إلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى وَنَفَاهُ بِأَلْطَفِ عِبَارَةٍ. وَقَوْلُهُ لَكِنَّا اسْتِدْرَاكٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى يَعْنِي لَمَّا لَمْ يَكُنْ الْفِدْيَةُ مِثْلًا مَعْقُولًا لِلصَّوْمِ وَكَذَا الْإِنْفَاقُ لِلْحَجِّ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِالرَّأْيِ لَكِنَّا جَوَّزْنَاهُ أَيْ الْمَذْكُورَ وَهُوَ الْفِدْيَةُ بِالنَّصِّ قَوْلُهُ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة: 184] أَيْ وَعَلَى الْمُطِيقِينَ الَّذِينَ لَا عُذْرَ لَهُمْ إنْ أَفْطَرُوا، فِدْيَةُ طَعَامِ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهِ عِنْدَنَا. وَكَانَ ذَلِكَ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ فُرِضَ عَلَيْهِمْ الصَّوْمُ وَلَمْ يَتَعَوَّدُوهُ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ فَرَخَّصَ لَهُمْ فِي الْإِفْطَارِ وَالْفِدْيَةِ وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَطُوقُونَهُ وَيُطِيقُونَهُ أَيْ يُكَلِّفُونَهُ عَلَى جَهْدٍ مِنْهُمْ وَعُسْرٍ وَهُمْ الشُّيُوخُ وَالْعَجَائِزُ وَحُكْمُ هَؤُلَاءِ الْإِفْطَارُ وَالْفِدْيَةُ وَهُوَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَيْرُ مَنْسُوخٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَعْنَى يُطِيقُونَهُ أَيْ يَصُومُونَهُ جَهْدَهُمْ وَطَاقَتَهُمْ وَمَبْلَغَ وُسْعِهِمْ كَذَا فِي الْكَشَّافِ، وَذُكِرَ فِي التَّيْسِيرِ وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ أَيْ يُكَلَّفُونَهُ فَلَا يُطِيقُونَهُ، وَفِي قِرَاءَةِ حَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَعَلَى الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَهُ وَقِيلَ هُوَ الشَّيْخُ الْفَانِي فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ مَنْسُوخًا فَإِنَّهُ حُكْمٌ ثَابِتٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ (وَهَذَا مُخْتَصَرٌ) أَيْ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة: 184] ، أَوْ وَهَذَا النَّصُّ مُخْتَصَرٌ أَيْ حُذِفَ عَنْهُ حَرْفُ لَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى، {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] ، بِالْإِجْمَاعِ أَيْ بِإِجْمَاعِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، أَوْ مَعْنَاهُ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّ حُكْمَ الشَّيْخِ الْفَانِي وَمَنْ بِمَعْنَاهُ مَجْمَعٌ عَلَيْهِ وَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْكِتَابِ وَلَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ بِدُونِ حَرْفِ لَا فَيَكُونُ مَحْذُوفًا لَا مَحَالَةَ فَيَكُونُ النَّصُّ مُخْتَصَرًا ضَرُورَةً. وَيُمْكِنُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى ظَاهِرِهِ أَيْ هَذَا النَّصُّ مُخْتَصَرٌ بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا عِنْدَ مَنْ جَعَلَهُ غَيْرَ مَنْسُوخٍ فَلِمَا ذَكَرْنَا وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ جَعَلَهُ مَنْسُوخًا فَلِأَنَّ التَّقْدِيرَ عِنْدَهُ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَ الصَّوْمَ فَلَا يَصُومُونَ فَعَلَيْهِمْ فَدِيَةٌ وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ مُخْتَصَرٌ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِهِ رَجَّحْنَا مَا ذَكَرْنَا بِقِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَوْلُهُ (وَثَبَتَ) أَيْ قِيَامُ الْإِنْفَاقِ مَقَامَ الْأَفْعَالِ فِي الْحَجِّ بِحَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ وَهِيَ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ وَالْحَدِيثُ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكْت أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ نَعَمْ» قَالَ «وَقَالَ رَجُلٌ إنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ وَأَنَّهَا مَاتَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْت قَاضِيَهُ قَالَ نَعَمْ فَاقْضِ اللَّهَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ» كَذَا فِي الْمَصَابِيحِ لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ

وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ مَا لَا يُعْقَلُ مِثْلُهُ يَسْقُطُ كَمَنْ نَقَصَ صَلَوَاتُهُ فِي أَرْكَانِهَا بِتَغْيِيرٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَيْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إمْسَاكِ نَفْسِهِ عَلَيْهَا وَضَبْطِهَا وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ. أَفَيُجْزِئُنِي بِالْهَمْزِ أَيْ يَكْفِينِي عَمَّا وَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ. أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الْحَاءِ أَيْ أُحْرِمُ عَنْهُ بِنَفْسِي وَأُؤَدِّي الْأَفْعَالَ عَنْهُ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ الرِّوَايَةِ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْإِنْفَاقَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَفْعَالِ فَلَا يَسْتَقِيمُ التَّمَسُّكُ بِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ أَنَّ أَبَاهَا كَانَ أَمَرَهَا بِذَلِكَ وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَنْ أُحِجَّ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْحَاءِ أَيْ آمُرُ أَحَدًا أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ صَحَّ التَّمَسُّكُ بِهِ، أَرَأَيْت أَيْ أَخْبِرِينِي وَكَانَ هَذَا اللَّفْظُ لِلنَّظَرِ ثُمَّ صَارَ لِلْإِخْبَارِ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ إذَا لَمْ يَجِدُوا الضَّالَّةَ يَقُولُونَ لِكُلِّ مَنْ يَرَوْنَهُ أَرَأَيْت ضَالَّةَ كَذَا أَيْ أَخْبِرْنِي عَنْهَا، أَمَا كَانَ يُقْبَلُ مِنْك وَفِي عَامَّةِ الْكُتُبِ مِنْ الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ أَكَانَ يُقْبَلُ بِدُونِ كَلِمَةِ مَا وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ نَعَمْ لَا يَسْتَقِيمُ جَوَابًا لِلْمَذْكُورِ هَهُنَا؛ لِأَنَّهُ لِتَصْدِيقِ مَا سَبَقَ مِنْ الْكَلَامِ نَفْيًا كَانَ أَوْ إثْبَاتًا فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْمَذْكُورِ هَهُنَا نَعَمْ لَا يُقْبَلُ فَيُفْسِدُ الْمَعْنَى بَلْ جَوَابُهُ بَلَى؛ لِأَنَّهُ لِتَحْقِيقِ مَا بَعْدَ النَّفْيِ لَكِنَّهُ يَسْتَقِيمُ جَوَابًا لِلْمَذْكُورِ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَرَأَيْت فِي الْأَسْرَارِ فِي حَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ «أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَمَا كَانَ يَجُوزُ قَالَتْ بَلَى قَالَ فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ» . وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَحَقُّ أَيْ بِالْقَبُولِ؛ لِأَنَّهُ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ فَأَوْلَى بِكَرَمِهِ وَأَجْدَرُ بِرَأْفَتِهِ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ حَالَةَ الْعَجْزِ فِعْلَ الْغَيْرِ أَوْ الْإِنْفَاقَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ إلَّا عَلَيْهِ وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْمَبْسُوطِ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يَقْبَلَ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ فَدَيْنُ اللَّهِ أَوْلَى بِالْقَضَاءِ وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْمَصَابِيحِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَقَضَيْتِيهِ بِالْيَاءِ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْإِشْبَاعِ لِكَسْرَةِ التَّاءِ وَهُوَ جَائِزٌ فِي لُغَةِ حِمْيَرَ. قَالَ شَاعِرُهُمْ: يَا أُمَّ عَمْرٍو لِمَ وَلَدْتِيهِ ... مُعَمَّمًا بِالْكِبْرِ وَالتِّيهِ لَيْتَكِ إذْ جِئْت بِهِ هَكَذَا ... كَمَا بَذَرْتِيهِ أَكَلْتِيهِ كَذَا فِي الْجَوَامِعِ الْجَمَادِيَّةِ. قِيلَ وَفِي حَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَبَاهَا كَانَ أَمَرَهَا بِالْحَجِّ حَيْثُ قَاسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبُولَ الْحَجِّ بِالْأَدَاءِ مِنْ الْغَيْرِ بِقَبُولِ الدَّيْنِ بِالْأَدَاءِ مِنْ الْغَيْرِ وَإِنَّمَا يَجِبُ وَيَتَحَقَّقُ قَبُولُ الدَّيْنِ بِالْأَدَاءِ مِنْ الْغَيْرِ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْأَدَاءُ بِأَمْرِ الْمَدْيُونِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الدَّيْنِ إنْ امْتَنَعَ فِيهِ عَنْ الْقَبُولِ يُجْبَرُ عَلَيْهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ بِغَيْرِ أَمْرٍ مِنْهُ فَرَبُّ الدَّيْنِ بِالْخِيَارِ فِي الْقَبُولِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْقَبُولُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِالْأَمْرِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَاسَ عَلَى الْعَادَةِ الْفَاشِيَةِ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَقْبَلُونَ دُيُونَهُمْ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ تَصِلُ إلَيْهِمْ مِنْ الْمَدْيُونِ أَوْ غَيْرِهِ تَبَرُّعًا أَوْ غَيْرَ تَبَرُّعٍ نَظَرًا مِنْهُمْ إلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِوَجْهٍ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قُلْنَا) مُتَّصِلٌ بِمَا اتَّصَلَ بِهِ الِاسْتِدْرَاكُ فِي قَوْلِهِ وَلَكِنَّا جَوَّزْنَاهُ بِالنَّصِّ أَيْ وَلِعَدَمِ تَصَرُّفِ الرَّأْيِ فِيمَا لَا نُدْرِكُهُ قُلْنَا إنَّ مَا لَا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ مِثْلُهُ وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ يَسْقُطُ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْمِثْلِ مُتَوَقِّفٌ إمَّا عَلَى إدْرَاكِ الْعَقْلِ لِيُمْكِنَ إيجَابُهُ بِالسَّبَبِ الْأَوَّلِ أَوْ عَلَى السَّمْعِ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَلَا وَجْهَ إلَّا الْإِسْقَاطُ كَتَرْكِ الِاعْتِدَالِ فِي أَرْكَانِ الصَّلَاةِ لَا يَضْمَنُ بِشَيْءٍ سِوَى الْإِثْمِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِذَلِكَ الْوَصْفِ مُنْفَرِدًا عَنْ الْأَصْلِ مِثْلٌ عَقْلًا وَلَا نَصًّا. وَقَوْلُهُ يَتَغَيَّرُ احْتِرَازٌ عَنْ نُقْصَانِ الرُّكْنِ نَفْسِهِ مِنْ الصَّلَاةِ فَإِنَّ قَوْلَهُ نَقَصَ الصَّلَاةَ فِي أَرْكَانِهَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ

وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِيمَنْ أَدَّى فِي الزَّكَاةِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ زُيُوفًا عَنْ خَمْسَةِ جِيَادٍ أَنَّهُ يَجُوزُ وَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ لَا يَسْتَقِيمُ أَدَاؤُهَا بِمِثْلِهَا صُورَةً وَلَا بِمِثْلِهَا قِيمَةً؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ فَسَقَطَ أَصَلًا وَاحْتَاطَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ الْبَابِ فَأَوْجَبَ قِيمَةَ الْجَوْدَةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ رَمْيَ الْجِمَارِ لَا يُقْضَى وَالْوُقُوفَ بِعَرَفَاتٍ وَالْأُضْحِيَّةَ ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا لَا يُعْقَلُ مِثْلُهُ وَلَا نَصَّ فِيهِ يَسْقُطُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا أَدَّى خَمْسَةً زُيُوفًا فِي الزَّكَاةِ مَكَانَ خَمْسَةٍ جِيَادٍ يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ الْوَاجِبُ وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] ، الْآيَةَ وَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا بِمُقَابَلَةِ الْجَوْدَةِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى قَدْ صَحَّ وَلَزِمَ حَتَّى لَا يَمْلِكَ أَحَدُهُمَا الْفَسْخَ لِصَيْرُورَتِهِ صَدَقَةً وَلَيْسَ لِلْوَصْفِ الَّذِي تَحَقَّقَ فِيهِ الْفَوَاتُ مُنْفَرِدًا مِثْلٌ صُورَةً وَهُوَ ظَاهِرٌ وَلَا مَعْنًى؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَقَوَّمُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا فَيَسْقُطُ أَصْلًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَدَّى أَرْبَعَةً جِيَادًا عَنْ خَمْسَةِ زُيُوفٍ لَا يَصِحُّ إلَّا عَنْ أَرْبَعَةٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَكَذَا لَوْ كَانَ لَهُ إبْرِيقُ فِضَّةٍ وَزْنُهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ وَقِيمَتُهُ لِصِيَاغَتِهِ مِائَتَانِ وَقَدْ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ لِسُقُوطِ اعْتِبَارِ الْجَوْدَةِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا، وَلَا مَعْنًى لِقَوْلِهِ مَنْ قَالَ سُقُوطُ اعْتِبَارِ الْجَوْدَةِ لِلرِّبَا وَلَا رِبَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَامَلَ عِبَادَهُ مُعَامَلَةَ الْمُكَاتَبِينَ أَوْ الْأَحْرَارِ فَإِنَّهُ تَعَالَى اسْتَقْرَضَهُمْ وَمَلَّكَهُمْ وَالرِّبَا يَجْرِي بَيْنَ الْمَوْلَى وَمُكَاتَبِهِ. أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ فِي صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ أَنَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنْ الرِّبَا أَفَيُقْبَلُ مِنْكُمْ» ، وَاحْتَاطَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ الْبَابِ أَيْ بَابِ الْعِبَادَةِ فَقَالَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ فَضْلَ مَا بَيْنَهُمَا، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْجَوْدَةَ مُتَقَوِّمَةٌ مِنْ وَجْهٍ فَإِنَّهَا تَتَقَوَّمُ فِي الْغُصُوبِ وَفِي تَصَرُّفِ الْمَرِيضِ حَتَّى لَوْ حَابَى بِهَا بِأَنْ بَاعَ قَلْبًا وَزْنُهُ عَشَرَةً وَقِيمَتُهُ عِشْرُونَ بِعَشَرَةٍ لَمْ تُسَلَّمْ الْمُحَابَّات لِلْمُشْتَرِي وَكَذَا فِي تَصَرُّفِ الْوَصِيِّ حَتَّى لَوْ بَاعَ دِرْهَمًا جَيِّدًا مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ بِدِرْهَمٍ رَدِيءٍ لَا يَجُوزُ، وَغَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ مِنْ وَجْهٍ فَوَجَبَ الِاحْتِيَاطُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَلَا تَرَى أَنَّ مَا لَا عِبْرَةَ بِهِ أَصْلًا وَهُوَ تَغَيُّرُ السِّعْرِ إلَى الزِّيَادَةِ اُعْتُبِرَ فِي ضَمَانِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى حَقًّا قِيلَ إنَّ مَنْ أَخَذَ صَيْدًا مِنْ الْحَرَمِ فَأَخْرَجَهُ ثُمَّ تَغَيَّرَ سِعْرُهُ إلَى زِيَادَةٍ ثُمَّ هَلَكَ أَنَّهُ يَضْمَنُ الزِّيَادَةَ احْتِيَاطًا فَهَذَا أَوْلَى كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ لِلْمُصَنِّفِ. 1 - وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِهِ لِلْجَامِعِ أَنَّ الْجَوْدَةَ إنَّمَا سَقَطَتْ فِي حُكْمِ الرِّبَا فِي حَقِّ الْعَاقِدِينَ لِيَتَحَقَّقَ الْمُمَاثَلَةُ الَّتِي هِيَ شَرْطُ جَوَازِ الْبَيْعِ فَأَمَّا فِي حَقِّ غَيْرِ الْعَاقِدِ كَالْوَارِثِ وَالصَّغِيرِ فَلَا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، ثُمَّ اعْتِبَارُ الْجَوْدَةِ فِي حَقِّ الْفَقِيرِ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا وَجْهٌ دُونَ وَجْهٍ فَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْفَقِيرَ بِمَا يَأْخُذُ مِنْ الْغَنِيِّ لَا يَمْلِكُ مِنْهُ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ إذْ قَدْرُ الْوَاجِبِ قَبْلَ الْأَخْذِ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لِلْفَقِيرِ حَتَّى يَصِيرَ مُمَلِّكًا إيَّاهُ صَاحِبَ الْمَالِ بِمَا يَأْخُذُ بَلْ يَأْخُذُ صِلَةً لَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَعَلَّقَ بِالْوَاجِبِ حَقُّ الْفَقِيرِ إنْ لَمْ يَصِرْ مِلْكًا لَهُ حَتَّى صَارَ صَاحِبُ الْمَالِ ضَامِنًا بِالِاسْتِهْلَاكِ وَالْحَقُّ مُلْحَقٌ بِالْحَقِيقَةِ يَتَحَقَّقُ فِيهِ الرِّبَا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُمَلَّكًا الْوَاجِبَ مِنْهُ بِمَا يَأْخُذُ مِنْ صَاحِبِ الْمَالِ، فَإِذَا تَرَدَّدَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ قُلْنَا مَتَى كَانَ فِي اعْتِبَارِ جِهَةِ الرِّبَا مَنْفَعَةٌ لِلْفَقِيرِ فَإِنَّهَا تُعْتَبَرُ كَمَا إذَا أَدَّى أَرْبَعَةً جِيَادًا عَنْ خَمْسَةٍ زُيُوفٍ لَا يَجُوزُ وَمَتَى كَانَ فِي اعْتِبَارِ الرِّبَا ضَرَرٌ فِي حَقِّهِ لَا يُعْتَبَرُ كَمَا فِي مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَ لَا يُسَلِّمُ الدَّرَاهِمَ الزَّائِدَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِعَدَمِ الْمِثْلِ عَقْلًا وَنَصًّا قُلْنَا إنَّ رَمْيَ الْجِمَارِ وَأَخَوَاتِهِ لَا يُقْضَى (فَإِنْ قِيلَ) كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا وَقَدْ أَوْجَبْتُمْ الدَّمَ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ تَرْكِ

كَذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا بِنَصٍّ غَيْرِ مَعْقُولٍ فَلِمَ أَوْجَبْتُمْ الْفِدْيَةَ فِي الصَّلَاةِ بِلَا نَصٍّ قِيَاسًا عَلَى الصَّوْمِ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيلٍ؟ قُلْنَا؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ مِنْ حُكْمِ الْفِدْيَةِ عَنْ الصَّوْمِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا وَالصَّلَاةُ نَظِيرُ الصَّوْمِ بَلْ أَهَمُّ مِنْهُ لَكِنَّا لَمْ نَعْقِلْ وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونَ مَعْلُولًا وَمَا لَا نُدْرِكُهُ لَا يَلْزَمُنَا الْعَمَلُ بِهِ لَكِنَّهُ لَمَّا احْتَمَلَ الْوَجْهَيْنِ أَمَرْنَاهُ بِالْفِدْيَةِ احْتِيَاطًا فَلَئِنْ كَانَ مَشْرُوعًا فَقَدْ تَأَدَّى وَإِلَّا فَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ ثُمَّ لَمْ نَحْكُمْ بِجَوَازِهِ مِثْلَ مَا حَكَمْنَا بِهِ فِي الصَّوْمِ؛ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِهِ فِي الصَّوْمِ قَطْعًا وَرَجَوْنَا الْقَبُولَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي الصَّلَاةِ فَضْلًا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الزِّيَادَاتِ فِي هَذَا يَجْزِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ كَمَا إذَا تَطَوَّعَ بِهِ الْوَارِثُ فِي الصَّوْمِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالرَّمْيِ (قُلْنَا) إيجَابُ الدَّمِ عَلَيْهِ لَيْسَ بِطَرِيقِ أَنَّهُ مِثْلٌ لِلرَّمْيِ قَائِمٌ مَقَامَهُ بَلْ؛ لِأَنَّهُ جَبْرٌ لِنُقْصَانِ تَمَكُّنٍ فِي نُسُكِهِ بِتَرْكِ الرَّمْيِ كَسُجُودِ السَّهْوِ فِي الصَّلَاةِ وَجَبَ جَبْرًا لِنُقْصَانٍ لَا قَضَاءً بِمَا فَاتَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ أَيْضًا إذَا أَرَادَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ جِنْسِهَا وَفِي الزِّيَادَةِ لَا يُتَصَوَّرُ الْقَضَاءُ كَذَا هَذَا. وَلَمَّا ذَكَرَ الشَّيْخُ أَنْ لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِيمَا لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ مَعْقُولٌ وَلَزِمَ عَلَيْهِ إيجَابُ الْفِدْيَةِ فِي الصَّلَاةِ تَعَرَّضَ لِذَلِكَ فَقَالَ فَإِنْ قِيلَ: إذَا ثَبَتَ أَيْ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ عِنْدَ الْيَأْسِ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَلِمَ أَوْجَبْتُمْ الْفِدْيَةَ فِي الصَّلَاةِ بِلَا نَصٍّ يُوجِبُ ذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى الصَّوْمِ مِنْ غَيْرِ مَعْنًى يُعْقَلُ؟ ، وَقَوْلُهُ بِلَا نَصٍّ حَالٌ عَنْ الْفِدْيَةِ أَيْ أَوْجَبْتُمُوهَا حَالَ كَوْنِهَا غَيْرَ مَنْصُوصَةٍ قُلْنَا نَحْنُ لَا نُعَدِّي ذَلِكَ الْحُكْمَ بِالْقِيَاسِ وَلَا نُوجِبُهُ حَتْمًا لَكِنَّا نَقُولُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إيجَابُ الْفِدْيَةِ فِي الصَّوْمِ بِنَاءً عَلَى مَعْنًى مَعْقُولٍ وَإِنْ كُنَّا لَا نَقِفُ عَلَيْهِ. وَالصَّلَاةُ نَظِيرُ الصَّوْمِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ لَا تَعَلُّقَ لِوُجُوبِهِمَا وَلَا لِأَدَائِهِمَا بِالْمَالِ بَلْ أَهَمُّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لِذَاتِهَا لِكَوْنِهَا تَعْظِيمَ اللَّهِ تَعَالَى وَالصَّوْمُ عِبَادَةٌ بِوَاسِطَةِ قَهْرِ النَّفْسِ عَلَى مَا يُعْرَفُ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِذَا وَجَبَ تَدَارُكُ الصَّوْمِ عِنْدَ الْعَجْزِ بِالْفِدْيَةِ فَالصَّلَاةُ بِالتَّدَارُكِ أَوْلَى، يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ مَعْقُولًا وَمَا لَا نُدْرِكُهُ لَا يَلْزَمُنَا الْعَمَلُ بِهِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْنَا الْعَمَلُ بِذَلِكَ الِاحْتِمَالِ لِمُعَارِضَةِ الِاحْتِمَالِ الثَّانِي إيَّاهُ لَكِنَّ وُجُوبَ الْفِدْيَةِ فِي الصَّوْمِ لَمَّا احْتَمَلَ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ أَمَرْنَاهُ بِالْفِدْيَةِ فِي الصَّلَاةِ بِنَاءً عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ، فَلَئِنْ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ فِي الصَّلَاةِ مَشْرُوعًا فَقَدْ صَارَ مُؤَدًّى وَإِلَّا فَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ؛ لِأَنَّهُ ح يَكُونُ بِرًّا مُبْتَدَأً يَصْلُحُ مَاحِيًا لِلسَّيِّئَاتِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ إيجَابَ الْفِدْيَةِ فِي الصَّلَاةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ لَا بِالْقِيَاسِ. وَلِهَذَا لَمْ يَحْكُمْ بِجَوَازِ الْفِدَاءِ فِي الصَّلَاةِ مِثْلَ حُكْمِنَا بِجَوَازِهِ فِي الصَّوْمِ؛ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِجَوَازِهِ فِي الصَّوْمِ قَطْعًا لِكَوْنِهِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فِيهِ، وَرَجَوْنَا الْقَبُولَ أَيْ الْجَوَازَ فِي الصَّلَاةِ فَضْلًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ فِي الزِّيَادَاتِ فِي هَذَا أَيْ فِي فِدَاءِ الصَّلَاةِ يَجْزِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ كَمَا قَالَ يَجْزِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي فِدَاءِ الصَّوْمِ فِيمَا إذَا تَطَوَّعَ بِهِ الْوَارِثُ بِأَنْ مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الصَّوْمُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا إيصَاءٍ بِالْفِدْيَةِ، وَلَوْ كَانَ ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ لَمَا احْتَاجَ إلَى إلْحَاقِ الِاسْتِثْنَاءِ بِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ بِالْقِيَاسِ وَلَا يُقَالُ لَمَّا كَانَتْ الصَّلَاةُ مِثْلَ الصَّوْمِ أَوْ أَهَمَّ مِنْهُ يَلْزَمُ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ فِيهِ بِالدَّلَالَةِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى كَمَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ بِالنَّصِّ الْوَارِدِ فِي الْجِمَاعِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى حَتَّى لَمْ يَكُنْ لِلْقِيَاسِ فِيهِ مَدْخَلٌ. لِأَنَّا نَقُولُ لَا بُدَّ فِي الدَّلَالَةِ مِنْ كَوْنِ الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرِ فِي الْحُكْمِ مَعْلُومًا سَوَاءٌ كَانَ التَّأْثِيرُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ مَعْقُولًا كَالْإِيذَاءِ فِي التَّأْفِيفِ أَوْ غَيْرَ مَعْقُولٍ كَالْجِنَايَةِ عَلَى الصَّوْمِ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ الْمُكَيِّفَةِ الْمُقَدَّرَةِ وَهَا هُنَا الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي إيجَابِ الْفِدْيَةِ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالدَّلَالَةِ كَمَا لَا يُمْكِنُ بِالْقِيَاسِ، ثُمَّ إذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ صَلَوَاتٌ يُطْعَمُ عَنْهُ لِكُلِّ صَلَاةٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهَا، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ يَقُولُ أَوْ لَا يُطْعَمُ عَنْهُ لِكُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ عَلَى قِيَاسِ الصَّوْمِ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ كُلُّ صَلَاةِ فَرْضٍ عَلَى حِدَةٍ بِمَنْزِلَةِ صَوْمِ يَوْمٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ وَهَذَا إذَا أَوْصَى بِالْفِدْيَةِ عَنْ الصَّلَاةِ

فَإِنْ قِيلَ فَالْأُضْحِيَّةُ لَا مِثْلَ لَهَا وَقَدْ أَوْجَبْتُمْ بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهَا التَّصَدُّقَ بِالْعَيْنِ أَوْ الْقِيمَةِ قُلْنَا؛ لِأَنَّ التَّضْحِيَةَ ثَبَتَتْ قُرْبَةً بِالنَّصِّ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ التَّصَدُّقُ بِعَيْنِ الشَّاةِ أَوْ قِيمَتِهَا أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَشْرُوعُ فِي بَابِ الْمَالِ كَمَا فِي سَائِرِ الصَّدَقَاتِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ نَقَلَ مِنْ الْأَصْلِ إلَى التَّضْحِيَةِ وَهُوَ نُقْصَانٌ فِي الْمَالِيَّةِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَإِنْ لَمْ يُوصِ وَتَبَرَّعَ بِهَا الْوَارِثُ قِيلَ لَا يُسْقِطُ الصَّلَوَاتِ عَنْ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ فِيهِ مَعْدُومٌ أَصْلًا وَلِأَنَّهُ أَدْنَى رُتْبَةً مِنْ الْإِيصَاءِ فَيُحْكَمُ فِيهِ بِعَدَمِ الْجَوَازِ إظْهَارًا لِانْحِطَاطِ رُتْبَتِهِ كَمَا فَعَلَ كَذَلِكَ فِي الصَّوْمِ. وَقِيلَ تَسْقُطُ عَنْهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا فِي الْإِيصَاءِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْجَوَازِ وَهُوَ الرَّجَاءُ إلَى فَضْلِ اللَّهِ وَكَرَمِهِ يَشْمَلُ الْإِيصَاءَ وَالتَّبَرُّعَ جَمِيعًا يُوَضِّحُهُ ذُكِرَ فِي النَّوَازِلِ سُئِلَ أَبُو الْقَاسِمِ عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَقَدْ فَاتَتْهَا صَلَوَاتُ عَشَرِ أَشْهُرٍ وَلَمْ تَتْرُكْ مَالًا فَقَالَ لَوْ اسْتَقْرَضَ وَرَثَتُهَا قَفِيزَ حِنْطَةٍ وَدَفَعُوهَا إلَى مِسْكِينٍ ثُمَّ يَهَبُهَا الْمِسْكِينُ لِبَعْضِ وَرَثَتِهَا يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى الْمِسْكِينِ فَلَمْ يَزَلْ يَفْعَلُ كَذَلِكَ حَتَّى يَتِمَّ لِكُلِّ صَلَاةٍ نِصْفَ صَاعٍ أَجْزَأَ ذَلِكَ عَنْهَا فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ التَّبَرُّعَ فِيهِ كَالْإِيصَاءِ. وَقَدْ لَزِمَ الشَّيْخَ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى فَتَصَدَّى لَهَا أَيْضًا فَقَالَ: فَإِنْ قِيلَ لَا مِثْلَ لِلْأُضْحِيَّةِ عَقْلًا وَلَا نَصًّا وَقَدْ أَوْجَبْتُمْ بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهَا التَّصَدُّقَ بِالْعَيْنِ فِيمَا إذَا كَانَتْ الشَّاةُ الَّتِي عُيِّنَتْ لِلتَّضْحِيَةِ بِالنَّذْرِ أَوْ بِالشِّرَاءِ الصَّادِرِ مِنْ الْفَقِيرِ بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ بَاقِيَةً بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِعَيْنِهَا حَيَّةً أَوْ بِالْقِيمَةِ فِيمَا إذَا اُسْتُهْلِكَتْ الشَّاةُ الْمُعَيَّنَةُ لِلتَّضْحِيَةِ بِالنَّذْرِ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ كَانَ غَنِيًّا وَلَمْ يُضَحِّ أَصْلًا حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِالْقِيمَةِ كَذَا فِي الْإِيضَاحِ وَالْمَبْسُوطِ قُلْنَا: لِأَنَّ التَّضْحِيَةَ ثَبَتَتْ قُرْبَةً بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى، {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «ضَحُّوا» . وَغَيْرُ ذَلِكَ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ التَّصَدُّقُ أَصْلًا فِي بَابِ التَّضْحِيَةِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَشْرُوعُ فِي بَابِ الْمَالِ كَمَا فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ مِنْ الزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَهُوَ مُخَالَفَةُ هَوَى النَّفْسِ بِإِزَالَةِ الْمَحْبُوبِ مِنْ يَدِهِ يَحْصُلُ بِهِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَيْ الشَّارِعَ نَقَلَ الْقُرْبَةَ مِنْ تَمْلِيكِ عَيْنِهَا أَوْ قِيمَتِهَا إلَى الْإِرَاقَةِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ لِأَجْلِ تَطْبِيبِ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ أَضْيَافُ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ الْعِيدِ وَلِهَذَا كُرِهَ الْأَكْلُ قَبْلَ الصَّلَاةِ لِيَكُونَ أَوَّلَ مَا يَتَنَاوَلُونَ مِنْ طَعَامِ الضِّيَافَةِ وَمِنْ عَادَةِ الْكَرِيمِ أَنْ يُضَيِّفَ بِأَطْيَبَ مَا عِنْدَهُ وَمَالُ الصَّدَقَةِ يَصِيرُ مِنْ الْأَوْسَاخِ لِإِزَالَتِهِ الذُّنُوبَ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ، {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] . وَلِهَذَا حُرِّمَ عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَعَلَى مَنْ الْتَحَقَ بِهِ نَسَبًا لِكَرَامَتِهِمْ وَعَلَى الْغَنِيِّ لِعَدَمِ حَاجَتِهِ فَلَا يَلِيقُ بِالْكَرِيمِ الْمُطْلَقِ الْغَنِيِّ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَنْ يُضَيِّفَ عِبَادَهُ بِالطَّعَامِ الْخَبِيثِ، فَنَقَلَ الْقُرْبَةَ مِنْ عَيْنِ الشَّاةِ إلَى الْإِرَاقَةِ لِيَنْتَقِلَ الْخُبْثُ إلَى الدِّمَاءِ فَتَبْقَى اللُّحُومُ طَيِّبَةً فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الضِّيَافَةِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ بِاسْتِوَاءِ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ فِيهِ، إلَّا أَنَّهُ مَعَ مَا بَيَّنَّا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى التَّضْحِيَةِ أَصْلًا دُونَ التَّصَدُّقِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ بِهَذَا الْمَوْهُومِ وَهُوَ التَّصَدُّقُ فِي مُعَارَضَةِ الْمَنْصُوصِ الْمُتَيَقَّنِ بِهِ وَهُوَ التَّضْحِيَةُ، فَإِذَا فَاتَ الْمُتَيَقَّنُ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْمَوْهُومِ وَهُوَ التَّصَدُّقُ. مَعَ الِاحْتِمَالِ أَيْ احْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ مُعْتَبَرًا احْتِيَاطًا أَيْضًا يَعْنِي كَمَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الْفِدْيَةِ فِي الصَّلَاةِ احْتِيَاطًا. وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّا أَوْجَبْنَا التَّصَدُّقَ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ أَصْلًا لَا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مِثْلًا لَهَا قَوْلُهُ (وَهُوَ) أَيْ فِعْلُ التَّضْحِيَةِ أَوْ الذَّبْحِ (نُقْصَانٌ فِي الْمَالِيَّةِ) إلَى قَوْلِهِ فِي الْهِبَةِ مُعْتَرِضٌ فَنُبَيِّنُ الْمَسْأَلَةَ أَوَّلًا ثُمَّ نَكْشِفُ الْغَرَضَ عَنْ إيرَادِهَا فَنَقُولُ إذَا وَهَبَ شَاةً لِرَجُلٍ فَضَحَّى الْمَوْهُوبُ لَهُ بِهَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَهُ أَنْ

وَبِإِرَاقَةِ الدَّمِ وَإِزَالَةِ التَّمَوُّلِ عَنْ الْبَاقِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فِي مَسْأَلَةِ التَّضْحِيَةِ أَيَمْنَعُ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ أَمْ لَا فَنَقَلَ إلَى هَذَا تَطْبِيبًا لِلطَّعَامِ وَتَحْقِيقًا لِمَعْنَى الْعِيدِ بِالضِّيَافَةِ إلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التَّضْحِيَةُ أَصْلًا فَلَمْ نَعْتَبِرْ هَذَا الْمَوْهُومَ فِي مُعَارَضَةِ الْمَنْصُوصِ الْمُتَيَقَّنِ، فَإِذَا فَاتَ هَذَا الْمُتَيَقَّنُ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْمَوْهُومِ مَعَ الِاحْتِمَالِ احْتِيَاطًا أَيْضًا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بِهَذَا الطَّرِيقِ لَا أَنَّهُ مِثْلُ الْأُضْحِيَّةِ أَنَّهُ إذَا جَاءَ الْعَامُ الْقَابِلُ لَمْ يَنْتَقِلْ الْحُكْمُ إلَى الْأُضْحِيَّةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَرْجِعَ فِيهَا وَيَجْزِيَهُ الْأُضْحِيَّةَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مِلْكَ الْمَوْهُوبِ لَهُ لَمْ يَزُلْ عَنْ الْعَيْنِ وَالذَّبْحِ نُقْصَانٌ فِيهَا فَلَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ فِيمَا بَقِيَ كَشَاةِ الْقَصَّابِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ لَمْ تَقَعْ بِعَيْنِ الشَّاةِ بَلْ بِالْإِرَاقَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَا أُدِّيَتْ بِهِ الْقُرْبَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ وَالْمَذْبُوحُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ يَأْكُلُهُ وَيَضْمَنُ لَهُ مُسْتَهْلِكُهُ وَيُورَثُ عَنْهُ وَيَبِيعُهُ فَيَجُوزُ إلَّا أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمِلْكِ فَإِنَّ الْأَمْلَاكَ الْخَبِيثَةَ سَبِيلُهَا التَّصَدُّقُ بِهَا مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَدَاءَ الْقُرْبَةِ لَمْ يَقَعْ إلَّا بِالْإِرَاقَةِ بَقِيَ الْحُكْمُ فِيمَا وَرَاءَ الدَّمِ عَلَى مَا لَوْ ذَبَحَ لَا لِلْأُضْحِيَّةِ وَالرُّجُوعُ فِيهَا لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ الْإِرَاقَةِ؛ لِأَنَّ الْفَائِتَ لَا يَعْمَلُ فِيهِ الْفَسْخُ وَنَظِيرُهُ وَهَبَ شَاتَيْنِ فَضَحَّى بِأَحَدَيْهِمَا وَأَكَلَهَا ثُمَّ رَجَعَ فِي الْأُخْرَى أَوْ ذَبَحَ شَاةَ الْهِبَةِ وَبَاعَ جِلْدَهَا وَرَجَعَ الْوَاهِبُ فِيمَا بَقِيَ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ. وَلِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْقُرْبَةَ كَمَا يَتَأَدَّى بِالدَّمِ يَتَأَدَّى بِأَجْزَاءِ الشَّاةِ بِدَلِيلِ أَنَّ سَلَامَتَهَا مُعْتَبَرَةٌ لِلْجَوَازِ ابْتِدَاءً وَبَعْدَ الذَّبْحِ لَوْ بَاعَ شَيْئًا مِنْهَا يَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ لِمَكَانِ أَنَّهُ بَقِيَ قُرْبَةً فَيَجِبُ صَرْفُهُ إلَى حَيْثُ لَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَوْ لَمْ يَتَعَلَّقْ مَعْنَى الْقُرْبَةِ بِمَا بَقِيَ لَبَقِيَ عَلَى حُكْمِ سَائِرِ الْأَغْنَامِ فَتَأَدَّى الْقُرْبَةُ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ وَبِإِبْطَالِ حَقِّ التَّمَوُّلِ مِنْ الْبَاقِي فَلِذَلِكَ لَمْ يَبْطُلْ أَصْلُ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ لَمْ تَتَأَدَّ بِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ مَا أَدَّى مِنْ الْقُرْبَةِ بِالْعَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِيرُ بَعْدَ الرُّجُوعِ مَالًا يُتَمَوَّلُ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ. فَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَدَّ سُقُوطَ التَّمَوُّلِ نَقْصًا فِيهِ لَا بِاعْتِبَارِ ظُهُورِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِيهِ وَنَحْنُ اعْتَبَرْنَاهُ أَثَرَ الْقُرْبَةِ. ثُمَّ الْغَرَضُ مِنْ إيرَادِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ أَنَّ مَعْنَى التَّصَدُّقِ فِي النَّقْلِ إلَى التَّضْحِيَةِ حَاصِلٌ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ تَنْقِيصُ الْمَالِ بِإِيصَالِ مَنْفَعَتِهِ إلَى الْفَقِيرِ وَالتَّضْحِيَةَ تَنْقِيصُ الْمَالِ بِالْإِرَاقَةِ أَوْ التَّنْقِيصُ مَعَ إزَالَةِ التَّمَوُّلِ عَنْ الْبَاقِي فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نَوْعُ مُمَاثَلَةٍ. قَالَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْح التَّقْوِيمِ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَقَلَ الْقُرْبَةَ مِنْ التَّمْلِيكِ إلَى الْإِرَاقَةِ فَثَبَتَ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَهُمَا شَرْعًا مِنْ حَيْثُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَقَامَ الْإِرَاقَةَ مُقَامَ التَّمْلِيكِ وَفِيهِ شُبْهَةُ الْمُمَاثَلَةِ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَالَ الْقُرْبَةُ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالتَّمْلِيكِ حَتَّى لَوْ وَهَبَ شَاةً فَضَحَّى الْمَوْهُوبُ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْوَاهِبِ قَبْلَ التَّمْلِيكِ، فَدَلَّ أَنَّ الْقُرْبَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالتَّمْلِيكِ، فَإِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا مُمَاثَلَةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَإِذَا ذَهَبَ وَقْتُ التَّضْحِيَةِ وَجَبَ التَّمْلِيكُ بِالشَّاةِ أَوْ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ مِثْلٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ أَحَدَهُمَا مُقَامَ الْآخَرِ. وَقَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ جَوَابَ سُؤَالٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَمَّا ثَبَتَ أَصَالَةُ التَّصَدُّقِ فِي التَّضْحِيَةِ بِمَا ذَكَرْتُمْ وَالنَّقْلِ إلَى الْإِرَاقَةِ لِمَعْنَى الضِّيَافَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ عَنْ الْعُهْدَةِ بِالتَّصَدُّقِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ أَيْضًا كَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي مَنْزِلِهِ يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ، وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ لِكَوْنِ الظُّهْرِ أَصْلًا فَأَجَابَ وَقَالَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إرَاقَةُ الدَّمِ أَصْلًا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مَعْنَى التَّصَدُّقِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ بِالنَّصِّ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَلَا يُعْتَبَرُ الْمَوْهُومُ فِي مُقَابَلَتِهِ بِخِلَافِ صَلَاةِ الظُّهْرِ فَإِنَّ أَصَالَتَهَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَيْضًا كَوُجُوبِ الْجُمُعَةِ فَيَجُوزُ أَنْ تُقَابِلَ الْجُمُعَةَ قَوْلُهُ (وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ) أَيْ وُجُوبَ التَّصَدُّقِ. كَانَ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَهُوَ احْتِمَالُ كَوْنِهِ أَصْلًا فِي التَّضْحِيَةِ لَا أَنَّهُ مِثْلٌ لِلْأُضْحِيَّةِ غَيْرُ مَعْقُولٍ كَالْفِدْيَةِ لِلصَّوْمِ،

[القضاء الذي بمعنى الأداء]

وَهَذَا وَقْتٌ يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى أَدَاءِ مِثْلِ الْأَصْلِ فَيَجِبُ أَنْ يَبْطُلَ الْخُلْفُ كَمَا فِي الْفِدْيَةِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَصْلًا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا وَوَقَعَ الْحُكْمُ بِهِ لَمْ يَنْقَضِ بِالشَّكِّ أَيْضًا أَمَّا الْقَضَاءُ الَّذِي بِمَعْنَى الْأَدَاءِ فَمِثْلُ رَجُلٍ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الْعِيدِ رَاكِعًا كَبَّرَ فِي رُكُوعِهِ وَهَذَا قَدْ فَاتَ مَوْضِعُهُ فَكَانَ قَضَاءً وَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى مِثْلِ مَنْ عِنْدَهُ قُرْبَةٌ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقْضِيَ إلَّا أَنَّهُ قَضَاءٌ يُشْبِهُ الْأَدَاءَ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّهُ إذَا جَاءَ الْقَابِلُ أَيْ أَيَّامُ النَّحْرِ مِنْهُ لَمْ يَنْتَقِلْ الْحُكْمُ إلَى الْأُضْحِيَّةِ وَالْحَالُ أَنَّ هَذَا وَقْتٌ يُقَدَّرُ فِيهِ عَلَى مِثْلِ الْأَصْلِ أَيْ عَلَى مِثْلِ أَصْلِ الْوَاجِبِ وَهُوَ الْإِرَاقَةُ إذْ الْإِرَاقَةُ لِلْإِرَاقَةِ مِثْلٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، أَوْ مَعْنَاهُ عَلَى الْمِثْلِ الْأَصْلِيِّ فَيَجِبُ أَنْ يَبْطُلَ الْخَلَفُ وَهُوَ وُجُوبُ التَّصَدُّقِ، كَمَا فِي الْفِدْيَةِ يَعْنِي مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ إذَا قَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْفِدْيَةُ وَيَنْتَقِلُ الْحُكْمُ إلَى الصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ الْمِثْلُ الْأَصْلِيُّ فِي الْبَابِ، إلَّا أَنَّهُ أَيْ التَّصَدُّقَ لَمَّا ثَبَتَ أَصْلًا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْقُرُبَاتِ الْمَالِيَّةِ التَّصَدُّقُ، وَوَقَعَ الْحُكْمُ بِهِ أَيْ حُكْمُ الشَّرْعِ بِوُجُوبِهِ، لَمْ يَبْطُلْ بِالشَّكِّ أَيْضًا وَهُوَ أَنَّ التَّصَدُّقَ إنْ كَانَ أَصْلًا لَا يَبْطُلُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْإِرَاقَةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْإِرَاقَةُ أَصْلًا يَبْطُلُ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْمِثْلِ الْأَصْلِيِّ كَمَا فِي الْفِدْيَةِ وَقَدْ صَارَ كَوْنُهُ أَصْلًا مَحْكُومًا بِهِ فَلَا يَبْطُلُ بِهَذَا الشَّكِّ كَمَا لَمْ يُبْطِلْ الْإِرَاقَةَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ بِاحْتِمَالِ كَوْنِ التَّصَدُّقِ أَصْلًا. وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ أَيْضًا وَذَكَرَ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ أَنَّهُ إذَا عَادَ وَقْتُ الْأُضْحِيَّةِ إنَّمَا لَا يَسْقُطُ التَّصَدُّقُ؛ لِأَنَّهُ مِثْلٌ أَصْلِيٌّ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ كَانَ أَصْلًا فَنُقِلَ مِنْهُ إلَى التَّضْحِيَةِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِثْلًا أَصْلِيًّا لَعَادَتْ الْأُضْحِيَّةُ لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهَا كَمَا أَنَّ الْمِثْلَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ إذَا فَاتَ وَوَجَبَتْ الْقِيمَةُ عَادَ حَقُّهُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْمِثْلِ وَهَا هُنَا لَمَّا لَمْ يَعُدْ الْفَائِتُ دَلَّ أَنَّهُ مِثْلٌ أَصْلِيٌّ. وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَالُوا: إنَّمَا لَا تَعُودُ الْأُضْحِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ وَجَبَ وَتَأَكَّدَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَسْقُطُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْفَائِتِ كَمَا فِي الْمِثْلِيَّاتِ إذَا انْقَطَعَتْ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ وَقَضَى الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ ثُمَّ عَادَ الْمِثْلُ لَا يَعُودُ حَقُّهُ إلَيْهِ كَذَا هَذَا، وَقَدْ وَقَعَ لَفْظُ إلَّا أَنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ كُلِّهَا بِمَعْنَى لَكِنَّ، فَالْأَوَّلُ اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ التَّصَدُّقُ أَصْلًا وَفِي هَذَا الِاسْتِدْرَاكِ تَحْقِيقُ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ، وَالثَّانِي اسْتِدْرَاكٌ عَمَّا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الِاحْتِمَالِ مَعَ اسْتِدْرَاكِهِ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَصْلًا وَالنَّقْلُ بِعَارِضٍ فَيَلْزَمُ أَنْ يَجُوزَ التَّصَدُّقُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ فَقَالَ لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التَّضْحِيَةُ أَصْلًا وَفِي هَذَا الِاسْتِدْرَاكِ رَفْعُ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ. وَالثَّالِثُ اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْمَوْهُومِ مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِدْرَاكًا مِنْ قَوْلِهِ فَيَجِبُ أَنْ يَبْطُلَ، وَقَوْلُهُ عَلَى مَا نُبَيِّنُ أَرَادَ بِهِ فِي شَرْحِ الْمَبْسُوطِ لَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، أَوْ هُوَ تَبَيَّنَ بِالتَّاءِ أَيْ ظَهَرَ، وَقَوْلُهُ فَنُقِلَ إلَى هَذَا أَيْ الذَّبْحِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ نُقِلَ مِنْ الْأَصْلِ إلَى التَّضْحِيَةِ عَلَى سَبِيلِ الْإِعَادَةِ لِطُولِ الْكَلَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْقَضَاء الَّذِي بِمَعْنَى الْأَدَاء] قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْقَضَاءُ الَّذِي بِمَعْنَى الْأَدَاءِ إلَى آخِرِهِ) رَجُلٌ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ يَأْتِي بِتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ قَائِمًا إنْ كَانَ يَرْجُو أَنْ يُدْرِكَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ لِيَكُونَ التَّكْبِيرَاتُ فِي الْقِيَامِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَإِنْ كَانَ هَذَا اشْتِغَالًا بِقَضَاءِ مَا سَبَقَ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ كَيْ لَا يَفُوتَ أَصْلًا، فَإِنْ خَافَ إنْ كَبَّرَ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ أَنْ يَرْفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُكَبِّرُ لِلِافْتِتَاحِ وَهُوَ فَرْضٌ ثُمَّ يُكَبِّرُ لِلرُّكُوعِ وَهُوَ وَاجِبٌ ثُمَّ يُكَبِّرُ فِي الرُّكُوعِ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ؛ لِأَنَّ الرَّفْعَ سُنَّةٌ وَوَضْعَ الْأَكُفِّ عَلَى الرُّكْبَةِ سُنَّةٌ فَلَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِسُنَّةٍ فِيهَا تَرْكُ سُنَّةٍ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِهَا فِي الرُّكُوعِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ فَاتَتْ مَوْضِعُهَا وَهُوَ الْقِيَامُ

لِأَنَّ الرُّكُوعَ يُشْبِهُ الْقِيَامَ وَهَذَا الْحُكْمُ قَدْ ثَبَتَ بِالشُّبْهَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ تَكْبِيرَ الرُّكُوعِ يُحْتَسَبُ مِنْهَا وَلَيْسَ فِي حَالِ مَحْضِ الْقِيَامِ فَاحْتَمَلَ أَنْ يُلْحِقَ بِهِ نَظَائِرَهُ فَوَجَبَ عَلَيْهِ التَّكْبِيرُ اعْتِبَارًا بِشُبْهَةِ الْأَدَاءِ احْتِيَاطًا ـــــــــــــــــــــــــــــQوَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى مِثْلِ مَنْ عِنْدَهُ قُرْبَةٌ فِي الرُّكُوعِ فَلَا يَصِحُّ أَدَاؤُهَا فِيهِ كَالْقِرَاءَةِ وَالْقُنُوتِ وَتَكْبِيرِ الِافْتِتَاحِ فَإِنَّهُ إذَا أُنْسِيَ الْفَاتِحَةَ وَالسُّورَةَ لَا يَأْتِي بِهَا فِي الرُّكُوعِ وَكَذَا إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ الْأَخِيرِ مِنْ الْوِتْرِ فِي رَمَضَانَ وَخَشِيَ أَنَّهُ لَوْ قَنَتَ قَائِمًا يَفُوتُهُ الرُّكُوعُ فَرَكَعَ فَإِنَّهُ لَا يَقْنُتُ فِي الرُّكُوعِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا نَسِيَ التَّكْبِيرَاتِ لَا يَأْتِي بِهَا فِي الرُّكُوعِ. وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ التَّكْبِيرَاتِ شُرِعَتْ فِي الْقِيَامِ الْمَحْضِ وَشُرِعَ مِنْ جِنْسِهَا فِيمَا لَوْ شَبَهٌ بِالْقِيَامِ فَإِنَّ تَكْبِيرَ الرُّكُوعِ حُسِبَ مِنْهَا حَتَّى أَنَّ مَنْ سَهَا عَنْهُ وَهُوَ إمَامٌ أَوْ مَسْبُوقٌ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ وَإِنْ سَهَا عَنْهُ ثُمَّ تَذَكَّرَ فِي ذَلِكَ الرُّكُوعِ كَبَّرَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ وَقَدْ بَقِيَ مَحَلُّهُ الْخَالِصُ وَإِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِهَا مَا شَرَعَ فِي حَالِ الِانْحِنَاءِ وَلَهُ شَبَهٌ بِالْقِيَامِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ سَائِرُهَا مُلْحَقَةً بِهَذِهِ لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ وَاحْتَمَلَتْ الْمُفَارَقَةُ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي فِعْلِهَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ أَدَاءٌ لَا قَضَاءٌ، وَكَانَ هَذَا احْتِيَاطًا لَا تَعْلِيلًا وَمُقَايَسَةً كَمَا قُلْنَا فِي الْفِدْيَةِ فِي الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الْقِرَاءَةِ وَالْقُنُوتِ وَتَكْبِيرِ الِافْتِتَاحِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ فِيمَا لَهُ شَبَهُ الْقِيَامِ بِوَجْهٍ. وَبِخِلَافِ الْإِمَامِ إذَا سَهَا عَنْ التَّكْبِيرَاتِ حَتَّى رَكَعَ أَنَّهُ يَعُودُ إلَى الْقِيَامِ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى حَقِيقَةِ الْأَدَاءِ فَلَا يَعْمَلُ بِشَبَهِهِ وَهَذَا عَجْزٌ عَنْ حَقِيقَتِهِ فَيَعْمَلُ بِشَبَهِهِ كَذَا فِي جَامِعِ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ قَوْلُهُ (لِأَنَّ الرُّكُوعَ يُشْبِهُ الْقِيَامَ أَيْ حَقِيقَةً وَحُكْمًا) أَمَّا حَقِيقَةً فَلِأَنَّ الْقِيَامَ لَيْسَ إلَّا الِانْتِصَابُ وَهُوَ بَاقٍ بِاسْتِوَاءِ النِّصْفِ الْآخَرِ؛ إذْ الْمُضَادَّةُ أَوْ الْمُفَارَقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُعُودِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِفَوَاتِ الِاسْتِوَاءِ فِي النِّصْفِ الْأَسْفَلِ؛ لِأَنَّ اسْتِوَاءَ النِّصْفِ الْأَعْلَى مَوْجُودٌ فِيهِمَا لَكِنْ فِيهَا نُقْصَانٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الِانْحِنَاءِ وَذَلِكَ لَا يَضُرُّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ قِيَامُ بَعْضِ النَّاسِ هَكَذَا كَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ. وَأَمَّا حُكْمًا فَلِأَنَّ مَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ وَشَارَكَهُ فِيهِ يَصِيرُ مُدْرِكًا لِتِلْكَ الرَّكْعَةِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «مَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ فَقَدْ أَدْرَكَهَا» ، وَهَذَا الْحُكْمُ أَيْ وُجُوبُ التَّكْبِيرِ قَدْ ثَبَتَ بِالشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ فَيُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهَا فَتَثْبُتُ بِشُبْهَةِ الْأَدَاءِ قَوْلُهُ (أَلَا تَرَى) قِيلَ تَقْرِيرٌ وَتَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ الرُّكُوعُ يُشْبِهُ الْقِيَامَ وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ دَلِيلٌ آخَرُ اسْتَوْضَحَ بِهِ مَا تَقَدَّمَ، وَلَيْسَتْ أَيْ تَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ فِي حَالِ مَحْضِ الْقِيَامِ فَإِنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: يُكَبِّرُ وَهُوَ يَهْوِي قَالُوا وَهَذَا أَصَحُّ مِمَّا رُوِيَ عَنْهُ يُكَبِّرُ ثُمَّ يَهْوِي؛ لِأَنَّهُ يَخْلُو إذًا حَالَةُ الِانْحِنَاءِ عَنْ الذِّكْرِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يُكَبِّرُ وَهُوَ يَهْوِي» وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كَانَ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ» وَلِهَذَا قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَيُكَبِّرُ مَعَ الِانْحِطَاطِ. إذَا قَرَأَ الْفَاتِحَةَ فِي الْأَوَّلِيَّيْنِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهَا قَرَأَ فِي الْآخَرَيْنِ الْفَاتِحَةَ وَالسُّورَةَ وَإِنْ قَرَأَ فِي الْأُولَيَيْنِ السُّورَةَ وَلَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ لَمْ يَقْرَأْ بَعْدَهَا فِي الْآخَرَيْنِ قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ الْجَوَابُ عَلَى الْعَكْسِ إذَا تَرَكَ الْفَاتِحَةَ يَقْضِيهَا فِي الْآخَرَيْنِ وَإِنْ تَرَكَ السُّورَةَ لَا يَقْضِيهَا؛ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ وَاجِبَةٌ وَقِرَاءَةَ السُّورَةِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ تَمَسَّكَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ وَطَعَنَ عَلَى مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَهَا أَمَّا السُّورَةُ فَلَمَّا تَذَكَّرَ وَأَمَّا الْفَاتِحَةُ فَلَمَّا قَالَ عِيسَى وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَقْضِي وَاحِدَةً مِنْهُمَا أَمَّا الْفَاتِحَةُ فَلِمَا يُذْكَرُ وَأَمَّا السُّورَةُ فَلِأَنَّهَا سُنَّةٌ فِي الْأُولَيَيْنِ وَمَا كَانَ سُنَّةً

وَكَذَلِكَ السُّورَةُ، فَإِذَا فَاتَتْ عَنْ أُولَيَيْنِ وَجَبَتْ فِي الْأُخْرَيَيْنِ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْقِرَاءَةِ جُمْلَةُ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّ الشَّفْعَ الْأَوَّلَ تَعَيَّنَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الَّذِي يُوجِبُ الْعَمَلَ وَقَدْ بَقِيَ لِلشَّفْعِ الثَّانِي شُبْهَةُ كَوْنِهِ مَحَلًّا وَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَيْسَ بِفَائِتٍ فَوَجَبَ أَدَاؤُهَا اعْتِبَارًا لِهَذِهِ الشُّبْهَةِ وَإِنْ كَانَ قَضَاءً فِي الْحَقِيقَةِ وَلِهَذَا لَوْ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ سَقَطَتْ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ مِنْ الْفَاتِحَةِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ إنَّمَا شُرِعَ احْتِيَاطًا فَلَمْ يَسْتَقِمْ صَرْفُهَا إلَى مَا عَلَيْهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي وَقْتِهِ كَانَ بِدْعَةً فِي غَيْرِ وَقْتِهِ فَلَا يَقْضِي. وَجْهُ الظَّاهِرِ مَا يَذْكُرُ (قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ السُّورَةُ يَعْنِي كَمَا أَنَّ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ تُقْضَى فِي الرُّكُوعِ بِاعْتِبَارِ شَبَهِ الْأَدَاءِ فَكَذَلِكَ السُّورَةُ) إذَا فَاتَتْ عَنْ الْأُولَيَيْنِ يُؤْتَى بِهَا فِي الْآخِرَيْنِ لِشَبَهِهِ الْأَدَاءَ وَإِنْ كَانَتْ قَضَاءً ظَاهِرًا، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْقِرَاءَةِ جُمْلَةُ الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ» وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى، {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] . إذْ الْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ لَكِنَّ الشَّفْعَ الْأَوَّلَ تَعَيَّنَ لِلْقِرَاءَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الَّذِي يُوجِبُ الْعَمَلَ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْقِرَاءَةُ فِي الْأُولَيَيْنِ قِرَاءَةٌ فِي الْآخِرَيْنِ أَيْ تَنُوبُ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا كَمَا يُقَالُ لِسَانُ الْوَزِيرِ لِسَانُ الْأَمِيرِ وَقَدْ تَعَيَّنَ الشَّفْعُ الْأَوَّلُ لِقِرَاءَةِ السُّورَةِ أَيْضًا بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ وَأَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ وَفِي الْآخِرَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» كَذَا فِي مَبْسُوطِ الشَّيْخِ فَبَقِيَ لِلشَّفْعِ الثَّانِي شُبْهَةُ كَوْنِهِ مَحَلًّا؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ فِي الْآخِرَيْنِ مِثْلُ الْقِيَامِ فِي الْأُولَيَيْنِ فِي كَوْنِهِ رُكْنَ الصَّلَاةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى الْمُعَيَّنِ غَيْرُ قَطْعِيٍّ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْفَوَاتُ فَوَجَبَ أَدَاؤُهَا اعْتِبَارًا بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ وَإِنْ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ قَضَاءٌ بِالنَّظَرِ إلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ. وَمَا ذَكَرْنَا مُؤَيَّدٌ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي رَكْعَةٍ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَقَضَاهَا فِي الثَّالِثَةِ وَجَهَرَ وَعُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَرَكَ قِرَاءَةَ السُّورَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ فَقَضَاهَا فِي الْآخِرَيْنِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَيَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ قَضَاءُ السُّورَةِ الَّتِي هِيَ دُونَ الْفَاتِحَةِ فِي الْوُجُوبِ مَعَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمِثْلِ بِاعْتِبَارِ شُبْهَةِ الْأَدَاءِ فَلَأَنْ يَجِبَ قَضَاءُ الْفَاتِحَةِ الَّتِي هِيَ آكَدُ فِي الْوُجُوبِ مِنْ السُّورَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمِثْلِ لِشَرْعِيَّةِ الْفَاتِحَةِ فِي الْآخِرَيْنِ نَفْلًا كَانَ أَوْلَى، فَقَوْلُهُ وَلِهَذَا جَوَابٌ عَنْهُ أَيْ وَلِكَوْنِ قَضَاءِ السُّورَةِ لِشَبَهِهِ الْأَدَاءَ لَا لِمَعْنَى الْقَضَاءِ قُلْنَا: لَوْ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ سَقَطَتْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ قَضَاؤُهَا بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْأَدَاءِ كَمَا لَا يُمْكِنُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْقَضَاءِ. أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْقَضَاءُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ لَهُ قِرَاءَتُهَا فِي الْآخَرَيْنِ نَفْلًا ابْتِدَاءً حَقًّا لَهُ لِيَصْرِفَهُ إلَى مَا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا شُرِعَتْ إمَّا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ كَمَا رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ أَدَاءً عَمَلًا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» ، فَلَمَّا كَانَتْ شَرْعِيَّتُهَا بِهَذِهِ الْجِهَةِ لَمْ يَسْتَقِمْ صَرْفُهَا إلَى مَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ تَغْيِيرًا لِلْمَشْرُوعِ وَذَلِكَ لَيْسَ فِي وِلَايَةِ الْعَبْدِ إلَيْهِ أَشَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَحَاصِلُهُ أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ فِي الْآخِرَيْنِ لَيْسَتْ بِنَفْلٍ مُطْلَقٍ بَلْ فِيهِ جِهَةُ الْوُجُوبِ نَظَرًا إلَى الِاحْتِيَاطِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْتَقِمْ صَرْفُهَا إلَى مَا عَلَيْهِ. وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْأَدَاءُ فَلِأَنَّ الْفَاتِحَةَ شُرِعَتْ فِي الْآخِرَيْنِ أَدَاءً فَإِنْ قَرَأَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً وَقَعَتْ عَنْ الْوَاجِبِ أَوْ الْمَسْنُونِ الَّذِي فِيهِ جِهَةُ الْوُجُوبِ وَإِنْ قَرَأَهَا مَرَّتَيْنِ كَانَ خِلَافُ الْمَشْرُوعِ؛ لِأَنَّ تَكْرَارَ الْفَاتِحَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَلِذَلِكَ تَسْقُطُ، وَلَا يُقَالُ: لَمَّا انْتَقَلَتْ إحْدَاهُمَا إلَى الشَّفْعِ الْأَوَّلِ لَمْ يَبْقَ تَكْرَارًا مَعْنًى، لِأَنَّا نَقُولُ يَبْقَى صُورَةً وَرِعَايَةُ الصُّورَةِ وَاجِبَةٌ أَيْضًا وَلِأَنَّ النَّفَلَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَضَاءِ وَكَلَامُنَا عَلَى تَقْدِيرِ الْأَدَاءِ، وَقَوْلُهُ وَالسُّورَةُ لَمْ تَجِبْ

وَلَمْ يَسْتَقِمْ اعْتِبَارُ مَعْنَى الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعُ أَدَاءً فَيَتَكَرَّرُ فَلِذَلِكَ قِيلَ يَسْقُطُ وَالسُّورَةُ لَمْ تَجِبْ قَضَاءً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ قِرَاءَةُ سُورَةٍ يَصْرِفُهَا إلَى مَا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا وَجَبَ لِاعْتِبَارِ الْأَدَاءِ. وَأَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ فَهِيَ تَنْقَسِمُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، أَمَّا الْأَدَاءُ الْكَامِلُ فَهُوَ رَدُّ الْعَيْنِ فِي الْغَصْبِ وَالْبَيْعِ وَأَدَاءِ الدَّيْنِ، وَالْقَاصِرُ مِثْلُ أَنْ يَغْصِبَ عَبْدًا فَارِغًا ثُمَّ يَرُدُّهُ مَشْغُولًا بِالْجِنَايَةِ أَوْ يُسَلِّمَ الْمَبِيعَ مَشْغُولًا بِالْجِنَايَةِ أَوْ الدَّيْنِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ حَتَّى إذَا هَلَكَ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ انْتَقَضَ التَّسْلِيمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِنْدَهُمَا هَذَا تَسْلِيمٌ كَامِلٌ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ التَّسْلِيمِ وَهُوَ عَيْبٌ عِنْدَهُمَا وَأَدَاءُ الزُّيُوفِ فِي الدَّيْنِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ صَاحِبُ الْحَقِّ أَدَاءٌ بِأَصْلِهِ؛ لِأَنَّهُ جِنْسُ حَقِّهِ وَلَيْسَ بِأَدَاءٍ بِوَصْفِهِ لِعَدَمِهِ فَصَارَ قَاصِرًا وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إنَّهَا إذَا هَلَكَتْ ـــــــــــــــــــــــــــــQقَضَاءً جَوَابٌ عَنْ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ بِطَرِيقِ الْمَنْعِ يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّ السُّورَةَ وَجَبَتْ قَضَاءً بَلْ وَجَبَتْ بِاعْتِبَارِ الْأَدَاءِ وَذَلِكَ فِي الْفَاتِحَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، ثُمَّ إذَا قَضَى السُّورَةَ قَالَ بَعْضُهُمْ يُقَدِّمُ السُّورَةَ عَلَى الْفَاتِحَةِ؛ لِأَنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِالْقِرَاءَةِ فَكَانَ تَقْدِيمُ السُّورَةِ أَوْلَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُؤَخِّرُ وَهُوَ الْأَشْبَهُ وَأَبْعَدُ مِنْ التَّغْيِيرِ كَذَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ الْمَبْسُوطِ. قَوْلُهُ (عَلَى هَذَا الْوَجْهِ) أَيْ عَلَى الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ مُنْقَسِمًا كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى أَقْسَامِ ثَلَاثَةٍ كَمَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، أَمَّا الْأَدَاءُ الْكَامِلُ فَهُوَ رَدُّ الْمَغْصُوبِ وَتَسْلِيمُ الْمَبِيعِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي وَرَدَ عَلَيْهِ الْغَصْبُ وَالْبَيْعُ، وَأَدَاءُ الدَّيْنِ أَيْ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي وَجَبَ. ثُمَّ عَدَّ أَدَاءَ الدَّيْنِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ وَإِنْ كَانَتْ الدُّيُونُ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لِأَدَاءِ الدَّيْنِ سِوَى هَذَا وَلِهَذَا كَانَ لِلْمَقْبُوضِ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ حُكْمُ عَيْنِ الْحَقِّ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَصَارَ اسْتِبْدَالًا بِبَدَلِ الصَّرْفِ وَرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ أَوْ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِنَّهُ حَرَامٌ، وَكَذَا لَهُ حُكْمُ عَيْنِ الْحَقِّ فِي غَيْرِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُجْبَرُ رَبُّ الدَّيْنِ عَلَى الْقَبْضِ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ حَقِّهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ اسْتِبْدَالًا ح وَأَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى التَّرَاضِي فَعَرَفْنَا أَنَّهُ عَيْنُ مَا وَجَبَ حُكْمًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَضَاءَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَدَاءِ أَوْ عَلَى تَصَوُّرِهِ وَذَلِكَ مُنْتَفٍ فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَفِي انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ الْقَضَاءِ فَيُؤَدِّي إلَى أَنَّ تَسْلِيمَ الْعَيْنِ لَا يَكُونُ أَدَاءً وَلَا قَضَاءً وَذَلِكَ خِلَافُ الْمَعْقُولِ وَالْإِجْمَاعِ فَعُلِمَ أَنَّ تَسْلِيمَ الْعَيْنِ فِي حُكْمِ تَسْلِيمِ الدَّيْنِ فَكَانَ مِنْ قَبِيلِ الْأَدَاءِ الْمَحْضِ وَلَمْ يَجْعَلْ مِنْ الْأَدَاءِ الْقَاصِرِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا عَلَيْهِ أَصْلًا وَوَصْفًا فَكَانَ أَدَاءً كَامِلًا قَوْلُهُ (مَشْغُولًا بِالْجِنَايَةِ) بِأَنْ جَنَى الْمَغْصُوبُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ أَوْ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ جِنَايَةً يَسْتَحِقُّ بِهَا رَقَبَتَهُ أَوْ طَرَفَهُ أَوْ بِالدَّيْنِ بِأَنْ اُسْتُهْلِكَ فِي يَدِهِمَا مَالُ إنْسَانٍ فَتَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِرَقَبَتِهِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ أَيْ الْجِنَايَةَ وَالدَّيْنَ بِأَنْ رَدَّهُ مَرِيضًا أَوْ مَجْرُوحًا أَوْ رَدَّ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ أَوْ الْمَغْصُوبَةَ مَشْغُولَةً بِالْحَبَلِ. ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَالْفَرْقِ بَيْنَ بَعْضِهَا وَالْبَعْضِ فَنَقُولُ إذَا غَصَبَ عَبْدًا فَارِغًا فَرَدَّهُ مَشْغُولًا بِالْجِنَايَةِ أَوْ بِالدَّيْنِ إنْ هَلَكَ فِي يَدِ الْمَالِكِ قَبْلَ الدَّفْعِ أَوْ الْبَيْعِ فِي الدَّيْنِ بَرِئَ الْغَاصِبُ وَإِنْ دَفَعَ أَوْ قَتَلَ بِذَلِكَ السَّبَبِ أَوْ بِيعَ فِي ذَلِكَ الدَّيْنِ رَجَعَ الْمَالِكُ عَلَى الْغَاصِبِ بِالْقِيمَةِ بِلَا خِلَافٍ وَلَوْ سَلَّمَ الْبَائِعُ الْعَبْدَ الْمَبِيعَ مَشْغُولًا بِالدَّيْنِ فَبِيعَ فِي ذَلِكَ الدَّيْنِ يَرْجِعُ بِكُلِّ الثَّمَنِ بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ سَلَّمَهُ مَشْغُولًا بِالْجِنَايَةِ فَهَلَكَ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ يَرْجِعُ بِكُلِّ الثَّمَنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ بِأَنْ قَوَّمَ حَلَالَ الدَّمِ وَحَرَامَ الدَّمِ فَيَرْجِعُ بِتَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ مِنْ الثَّمَنِ. فَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَصْلُ الْأَدَاءِ مَوْجُودٌ؛ لِأَنَّهُ رَدُّ عَيْنِ مَا غَصَبَ أَوْ بَاعَ لَكِنَّهُ قَاصِرٌ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهُ لَا عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ إلَّا أَنَّ كَوْنَهُ مُبَاحَ الدَّمِ فِي الْبَيْعِ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ عِنْدَهُمَا فَلَا يَمْنَعُ تَمَامَ التَّسْلِيمِ وَعِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَيَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ وَكَوْنُهُ عَيْبًا لَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي حَلَّ دَمُهُ أَوْ طَرَفُهُ لَا يُشْتَرَى بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَهَذَا الْمَعْنَى أَشَدُّ مِنْ الْمَرَضِ وَهُوَ عَيْبٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا الشُّبْهَةُ فِي كَوْنِهِ اسْتِحْقَاقًا فَوْقَ الْعَيْبِ فَقَالَا: إنَّهُ لَيْسَ بِاسْتِحْقَاقٍ؛ لِأَنَّ تَلَفَ الْمَالِيَّةِ الَّتِي وَرَدَ الْبَيْعُ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ بِوُجُوبِ الْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا يَتَعَلَّقُ بِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا لَا بِالْمَالِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَالِيَّةَ لَا يَسْتَحِقُّ عُقُوبَةً كَالْبَهَائِمِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQوَكَيْفَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِيَّةِ وَإِنَّهَا سَبَبُ سُقُوطِ الْخِطَابِ الَّذِي تَوَقَّفَ وُجُوبُ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا اشْتَرَى عَبْدًا وَوَلِيُّ الْقِصَاصِ يَأْبَاهُ صَحَّ الْبَيْعُ وَمَلَكَهُ الْمُشْتَرِي، وَلَوْ كَانَ حَقَّهُ فِيمَا اشْتَرَى لَمَا صَحَّ كَحَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَنَحْوِهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْبَيْعَ وَرَدَ عَلَى مَحَلٍّ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ وَالْمُسْتَحَقُّ بِهَا النَّفْسُ وَإِنَّمَا تُمْلَكُ بِالْبَيْعِ الْمَالِيَّةُ وَبِحِلِّ الدَّمِ لَا تَفُوتُ الْمَالِيَّةُ وَلَا تَصِيرُ مُسْتَحَقَّةً وَإِنَّمَا تَلِفَتْ الْمَالِيَّةُ بِالِاسْتِيفَاءِ وَذَلِكَ فِعْلُ إنْشَاءِ الْمُسْتَوْفِي بِاخْتِيَارِهِ بَعْدَمَا دَخَلَ الْمَبِيعُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي فَيَقْتَصِرُ الْفَوَاتُ عَلَى زَمَانِ وُجُودِ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَنْتَقِضُ بِهِ التَّسْلِيمُ، وَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ سَلَّمَهُ زَانِيًا فَجُلِدَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَمَاتَ مِنْهُ لَمْ يَرْجِعْ بِالثَّمَنِ لِاقْتِصَارِ الْفَوَاتِ عَلَى زَمَانِ الْجَلْدِ كَذَا هَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اُسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ بِمِلْكٍ أَوْ حَقِّ رَهْنٍ أَوْ دَيْنٍ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُنَاكَ هُوَ الَّذِي تَنَاوَلَهُ الْبَيْعُ وَهُوَ الْمَالِيَّةُ فَيَنْتَقِضُ بِهِ قَبْضُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْأَصْلِ. وَبِخِلَافِ مَا إذَا غَصَبَ عَبْدًا ثُمَّ رَدَّهُ حَلَالَ الدَّمِ فَقُتِلَ عِنْدَ الْمَوْلَى حَيْثُ يَرْجِعُ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ لَا يَتِمُّ مَعَ قِيَامِ سَبَبِ الْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّهُ رَدٌّ عَلَى سَبِيلِ الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ الْغَصْبِ وَذَلِكَ بِإِعَادَةِ يَدِهِ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ الْغَصْبِ فَكَانَ سُقُوطُ الضَّمَانِ بِهَذَا الرَّدِّ مَوْقُوفًا عَلَى سُقُوطِ حُكْمِ هَذَا السَّبَبِ الطَّارِئِ عِنْدَ الْغَاصِبِ، فَإِذَا لَمْ يَسْقُطْ عَدَمُ الرَّدِّ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ الَّذِي يُبْرِئُهُ عَنْ عُهْدَةِ الضَّمَانِ فَبَقِيَ تَحْتَهُ، فَأَمَّا التَّسْلِيمُ بِحُكْمِ الشِّرَاءِ فَقَدْ تَمَّ مَعَ السَّرِقَةِ وَالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ عَيْبٌ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ بِالْإِجْمَاعِ وَالْعَيْبُ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ، وَالرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ إنَّمَا يَكُونُ بِالِانْتِقَاضِ بِعَدَمِ التَّمَامِ وَذَلِكَ بِالْفَوَاتِ وَالْفَوَاتُ كَانَ بِسَبَبٍ بَعْدَ الْقَبْضِ فَلَا يَنْتَقِضُ بِهِ الْقَبْضُ. (فَإِنْ قِيلَ) يُشْكِلُ عَلَى هَذَا الْفَرْقِ مَا إذَا رَدَّ الْمَغْصُوبَةَ حَامِلًا فَهَلَكَتْ بِالْوِلَادَةِ حَيْثُ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ لَا بِالْقِيمَةِ عِنْدَهُمَا كَمَا لَوْ سَلَّمَ الْمَبِيعَةَ حَامِلًا فَهَلَكَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بِالْوِلَادَةِ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ لَا بِالثَّمَنِ بِالِاتِّفَاقِ فَلَمْ يُفَرِّقَا بَيْنَ الْغَصْبِ وَالْبَيْعِ فِي الْحَمْلِ وَفَرَّقَا بَيْنَهُمَا فِي الْجِنَايَةِ (قُلْنَا) لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْحَمْلِ هُوَ السَّلَامَةُ وَالْهَلَاكُ مُضَافٌ إلَى أَلَمِ الطَّلْقِ الَّذِي هُوَ حَادِثٌ وَلَيْسَ بِمُضَافٍ إلَى الِانْغِلَاقِ الَّذِي كَانَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَلَا يَبْطُلُ بِهِ حُكْمُ الرَّدِّ كَمَا لَوْ حُمَّتْ الْجَارِيَةُ عِنْدَ الْغَاصِبِ ثُمَّ رَدَّهَا فَهَلَكَتْ لَمْ يَضْمَنْ الْغَاصِبُ إلَّا النُّقْصَانَ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ لَمْ يَكُنْ بِالسَّبَبِ الَّذِي كَانَ عِنْدَ الْغَاصِبِ إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِضَعْفِ الطَّبِيعَةِ عَنْ دَفْعِ آثَارِ الْحُمَّى الْمُتَوَالِيَةِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِأَوَّلِ الْحُمَّى الَّذِي كَانَ عِنْدَ الْغَاصِبِ وَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِمَا كَانَ بَعْدَهُ. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ زَالَتْ يَدُ الْمُشْتَرِي عَنْ الْمَبِيعِ بِسَبَبٍ كَانَتْ إزَالَتُهَا بِهِ مُسْتَحَقَّةً فِي يَدِ الْبَائِعِ فَيَرْجِعُ بِالثَّمَنِ كَمَا لَوْ اسْتَحَقَّهُ مَالِكٌ أَوْ مُرْتَهِنٌ أَوْ صَاحِبُ دَيْنٍ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِزَالَةَ لَمَّا كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي يَنْتَقِضُ بِهِ قَبْضُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْأَصْلِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ بِسَبَبِ الرِّدَّةِ مُسْتَحَقٌّ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ وَبِسَبَبِ الْقِصَاصِ مُسْتَحَقٌّ فِي حَقِّ مَنْ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يُنْشِئَ مَنْ لَهُ حَقُّ عَفْوٍ بِاخْتِيَارِهِ الْبَيْعَ وَإِنْ كَانَ يَرِدُ عَلَى الْمَالِيَّةِ وَلَكِنَّ اسْتِحْقَاقَ النَّفْسِ بِسَبَبِ الْقَتْلِ وَالْقَتْلُ مُتْلِفٌ لِلْمَالِيَّةِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ فَكَانَ فِي مَعْنَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ وَعِلَّةُ الْعِلَّةِ تُقَامُ مَقَامَ الْعِلَّةِ فِي الْحُكْمِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ الْمُسْتَحَقُّ كَأَنَّهُ الْمَالِيَّةُ، وَلِأَنَّهُ لَا تَصَوُّرَ لِبَقَاءِ الْمَالِيَّةِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ بِدُونِ النَّفْسِيَّةِ وَهِيَ مُسْتَحَقَّةٌ بِالسَّبَبِ الَّذِي كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ فَيُجْعَلُ

عِنْدَ الْقَابِضِ بَطَلَ حَقُّهُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَدَاءً بِأَصْلِهِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا وَبَطَلَ الْوَصْفُ؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ صُورَةً وَلَا مَعْنًى وَلَمْ يَجُزْ إبْطَالُ الْأَصْلِ لِلْوَصْفِ إذْ الْإِنْسَانُ لَا يَضْمَنُ لِنَفْسِهِ وَاسْتَحْسَنَ أَبُو يُوسُفَ وَأَوْجَبَ مِثْلَ الْمَقْبُوضِ إحْيَاءً لِحَقِّهِ فِي الْوَصْفِ ـــــــــــــــــــــــــــــQذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اسْتِحْقَاقِ الْمَالِيَّةِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَنْفَكُّ عَنْ الشَّيْءِ بِحَالٍ فَكَأَنَّهُ هُوَ إلَّا أَنَّ اسْتِحْقَاقَ النَّفْسِيَّةِ فِي حُكْمِ الِاسْتِيفَاءِ فَقَطْ وَانْعِقَادُ الْبَيْعِ صَحِيحًا وَرَاءَ ذَلِكَ وَإِذَا مَاتَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَلَمْ يَتِمَّ الِاسْتِحْقَاقُ فِي حُكْمِ الِاسْتِيفَاءِ فَلِهَذَا هَلَكَ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي وَإِذَا قَتَلَ فَقَدْ تَمَّ الِاسْتِحْقَاقُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَظْهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ فِي حُكْمِ الِاسْتِيفَاءِ دُونَ غَيْرِهِ كَمِلْكِ الزَّوْجِ فِي زَوْجَتِهِ وَمِلْكِ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي نَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لَا يَظْهَرُ إلَّا فِي حُكْمِ الِاسْتِيفَاءِ حَتَّى إذَا وُطِئَتْ الْمَنْكُوحَةُ بِشُبْهَةٍ كَانَ الْعُقْرُ لَهَا وَإِذَا قَتَلَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ خَطَأً كَانَتْ الدِّيَةُ لِوَرَثَتِهِ دُونَ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ. وَهَذَا بِخِلَافِ الزِّنَا فَإِنَّ بِزِنَا الْعَبْدِ لَا يَصِيرُ نَفْسُهُ مُسْتَحَقَّةً إذْ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ ضَرْبٌ مُؤْلِمٌ وَاسْتِيفَاءُ ذَلِكَ لَا يُنَافِي الْمَالِيَّةَ فِي الْمَحَلِّ وَالتَّلَفُ حَصَلَ لِخَرْقِ الْجَلَّادِ أَوْ لِضَعْفِ الْمَجْلُودِ فَلَمْ يَكُنْ مُضَافًا إلَى الزِّنَا بِوَجْهٍ. وَإِذَا اشْتَرَاهُ وَهُوَ يَعْلَمُ بِحِلِّ دَمِهِ فَفِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ أَيْضًا إذَا قُتِلَ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَالَ لَا يَرْجِعُ؛ لِأَنَّ حِلَّ الدَّمِ مِنْ وَجْهٍ كَالِاسْتِحْقَاقِ وَمِنْ وَجْهٍ كَالْعَيْبِ حَتَّى لَا يَمْنَعَ صِحَّةَ الْبَيْعِ فَلِشَبَهِهِ بِالِاسْتِحْقَاقِ قُلْنَا عِنْدَ الْجَهْلِ بِهِ يَرْجِعُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَلِشَبَهِهِ بِالْعَيْبِ قُلْنَا لَا يَرْجِعُ عِنْدَ الْعِلْمِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا جُعِلَ كَالِاسْتِحْقَاقِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي وَقَدْ انْدَفَعَ حِينَ عَلِمَ بِهِ، فَأَمَّا الْحَامِلُ فَهُنَاكَ السَّبَبُ الَّذِي كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ يُوجِبُ انْفِصَالَ الْوَلَدِ لَا مَوْتَ الْأُمِّ بَلْ الْغَالِبُ عِنْدَ الْوِلَادَةِ السَّلَامَةُ فَهِيَ مِثْلُ الزَّانِي إذَا جُلِدَ، وَلَيْسَ هَذَا كَالْغَصْبِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْغَاصِبِ نَسْخُ فِعْلِهِ وَهُوَ أَنْ يَرُدَّ الْمَغْصُوبَ كَمَا غُصِبَ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ حِينَ رَدَّهَا حَامِلًا، وَهَهُنَا الْوَاجِبُ عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ كَمَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ ثُمَّ إنْ تَلِفَ بِسَبَبٍ كَانَ الْهَلَاكُ بِهِ مُسْتَحَقًّا عِنْدَ الْبَائِعِ يَنْتَقِضُ قَبْضُ الْمُشْتَرِي فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا لَا يَنْتَقِضُ قَبْضُ الْمُشْتَرِي فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ. وَإِذَا حَقَّقْت مَا ذَكَرْنَا عَلِمْت أَنَّ قَوْلَهُ أَوْ الدَّيْنُ رَاجِعٌ إلَى الْمَسْأَلَتَيْنِ وَأَنَّ الْخِلَافَ الْمَذْكُورَ مُخْتَصٌّ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ مَشْغُولًا بِالْجِنَايَةِ وَفِي لَفْظِ الْكِتَابِ إشَارَةٌ إلَيْهِ قِيلَ انْتَقَضَ التَّسْلِيمُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا هَذَا تَسْلِيمٌ كَامِلٌ وَالتَّسْلِيمُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْعَقْدِ لَا فِي الْغَصْبِ وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ الرَّدُّ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي مُسَابَقَةَ الْأَخْذِ وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ فِي مَسْأَلَةِ الْغَصْبِ فَرَدَّهُ مَشْغُولًا وَفِي مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ أَوْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ فَعُلِمَ بِاسْتِعْمَالِ لَفْظَةِ التَّسْلِيمِ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْبَيْعِ دُونَ الْغَصْبِ إذْ لَوْ كَانَ فِيهِمَا لَقِيلَ انْتَقَضَ الرَّدُّ وَالتَّسْلِيمُ وَهَذَا رَدٌّ وَتَسْلِيمٌ كَامِلٌ. وَقَوْلُهُ إذَا هَلَكَ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مَسْأَلَةَ الدَّيْنِ خَارِجَةٌ عَنْ الْخِلَافِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْجِنَايَةِ لَا فِي الدَّيْنِ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْبَيْعُ فَحَيْثُ قِيلَ هَلَكَ وَلَمْ يَقُلْ هَلَكَ أَوْ بِيعَ عُلِمَ أَنَّ مَسْأَلَةَ الدَّيْنِ عَلَى الْوِفَاقِ، وَقَوْلُهُ تَسْلِيمٌ كَامِلٌ أَيْ تَامٌّ أَرَادَ بِهِ لَيْسَ بِمَوْقُوفٍ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا أَنَّهُ أَدَاءٌ كَامِلٌ؛ إذْ الْعَيْبُ يَمْنَعُ الْكَمَالَ فِي الْأَدَاءِ كَمَا ذَكَرْنَا قَوْلَهُ (وَأَدَاءُ الزُّيُوفِ) هُوَ جَمْعُ زَيْفٍ أَيْ مَرْدُودٌ يُقَالُ زَافَتْ عَلَيْهِ دَرَاهِمُهُ أَيْ صَارَتْ مَرْدُودَةً عَلَيْهِ لِغِشٍّ وَدِرْهَمٌ زَيْفٌ وَزَائِفٌ وَدَرَاهِمُ زُيُوفٌ وَزَيْفٌ وَهُوَ دُونَ النَّبَهْرَجِ فِي الرَّدَاءَةِ؛ لِأَنَّ الزَّيْفَ مَا يَرُدُّهُ بَيْتُ الْمَالِ وَلَكِنَّهُ يُرَوَّجُ فِيمَا بَيْنَ التُّجَّارِ وَالنَّبَهْرَجُ مَا يَرُدُّهُ التُّجَّارُ وَرُبَّمَا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQتَسَامَحَ فِيهِ بَعْضُهُمْ، وَإِذَا وَجَبَ عَلَى الْمَدْيُونِ دَرَاهِمُ جِيَادٌ فَأَدَّى زُيُوفًا مَكَانِهَا فَهُوَ أَدَاءٌ قَاصِرٌ لِوُجُودِ تَسْلِيمِ أَصْلِ الْوَاجِبِ إذْ الزُّيُوفُ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ وَلِهَذَا لَوْ تَجُوزُ بِهَا فِي السَّلَمِ وَالصَّرْفِ تَجُوزُ مَعَ أَنَّ الِاسْتِبْدَالَ فِيهِمَا حَرَامٌ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَكِنَّهُ قَاصِرٌ لِفَوَاتِ الْوَصْفِ وَهُوَ الْجَوْدَةُ، ثُمَّ إذَا كَانَ قَائِمًا فِي يَدِ رَبِّ الدَّيْنِ وَلَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِالزِّيَافَةِ حَالَةَ الْقَبْضِ كَانَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْأَدَاءَ وَيُطَالِبَهُ بِالْجِيَادِ إحْيَاءً لِحَقِّهِ فِي الْوَصْفِ وَفِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ يُشْتَرَطُ مَجْلِسُ الْعَقْدِ، وَإِذَا هَلَكَ عِنْدَهُ بَطَلَ حَقُّهُ فِي الْجَوْدَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ " رح " فَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ عَلَى الْمَدْيُونِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَ الْمَقْبُوضِ وَيُطَالِبَهُ بِالْجِيَادِ، لَهُمَا أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْحَقِّ قَدْرًا حَصَلَ بِالزُّيُوفِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ مُسَاوٍ لَهُ قَدْرًا وَإِنَّمَا بَقِيَ حَقُّهُ فِي الْجَوْدَةِ الَّتِي لَا مِثْلَ لَهَا وَلَا قِيمَةَ وَلَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهَا إلَّا بِضَمَانِ الْأَصْلِ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالضَّمَانِ عَلَى الْقَابِضِ حَقًّا لَهُ مُمْتَنِعٌ إذْ الْإِنْسَانُ لَا يَضْمَنُ لِنَفْسِهِ وَكَيْفَ يَضْمَنُ وَقَدْ مَلَكَهُ مِلْكًا صَحِيحًا بِالْقَبْضِ، وَحَقًّا لِغَيْرِهِ وَلَا طَالِبَ لَهُ مُمْتَنِعٌ أَيْضًا، فَإِذَا تَعَذَّرَ التَّدَارُكُ سَقَطَ لِلْعَجْزِ وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ. وَاسْتَحْسَنَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ يَضْمَنُ مِثْلَ مَا قَبَضَ لِيُحْيِيَ حَقَّهُ فِي الْجَوْدَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مُرَاعًى فِي الْوَصْفِ كَمَا فِي الْقَدْرِ وَلَوْ كَانَ الْمَقْبُوضُ دُونَ حَقِّهِ قَدْرًا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِقَدْرِ النُّقْصَانِ فَكَذَا إذَا كَانَ دُونَ حَقِّهِ وَصْفًا إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ بِالْقِيمَةِ لِتَأْدِيَتِهِ إلَى الرِّبَا فَيَرُدُّ مِثْلَ الْمَقْبُوضِ كَمَا يَرُدُّ عَيْنَهُ إذَا كَانَ قَائِمًا؛ لِأَنَّ مِثْلَ الشَّيْءِ يَحْكِي عَيْنَهُ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ الزُّيُوفُ حَقًّا لَهُ إذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الْجَوْدَةِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يُسْقِطْ فَهِيَ غَيْرُ حَقِّهِ وَتَضْمِينُ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ إنَّمَا يَبْطُلُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ وَقَدْ حَصَلَ هَهُنَا فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ وَهِيَ تَدَارُكُ حَقِّهِ فِي الصِّفَةِ فَيَصِحُّ، نَظِيرُهُ شِرَاءُ الْإِنْسَانِ مَالَ نَفْسِهِ بَاطِلٌ وَإِذَا تَضَمَّنَ فَائِدَةً صَحَّ وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ أَوْ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ أَوْ مَالَهُ مَعَ مَالِ غَيْرِهِ فَكَذَا هَذَا، كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْمُصَنِّفِ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. (وَقَوْلُهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ) لَيْسَ بِشَرْطٍ لِكَوْنِهِ أَدَاءً قَاصِرًا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ بَلْ هُوَ أَدَاءٌ قَاصِرٌ عَلِمَ بِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ لَكِنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعَيْنِ إذَا كَانَتْ قَائِمَةً وَرَدُّ الْمِثْلِ إذَا كَانَتْ هَالِكَةً عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ إذَا عَلِمَ بِهِ عِنْدَ الْقَبْضِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ، وَلِهَذَا أَيْ وَلِكَوْنِهِ أَدَاءً بِأَصْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ أَيْ لِلْوَصْلِ مُنْفَرِدًا عَنْ الْأَصْلِ وَلَمْ يَجُزْ إبْطَالُ الْأَصْلِ أَيْ أَصْلِ الْأَدَاءِ، لِلْوَصْفِ أَيْ لِأَجْلِ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ تَبَعٌ وَهَذَا جَوَابٌ عَنْ كَلَامِ أَبِي يُوسُفَ، ثُمَّ الْفَرْقُ لِمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الزَّكَاةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ أَنَّهُ أَمْكَنَ تَضْمِينُ الْوَصْفِ هُنَاكَ؛ لِأَنَّ سُقُوطَهُ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الرِّبَا وَأَنَّهُ لَا يَجْرِي بَيْنَ الْمَوْلَى وَعَبْدِهِ وَهَهُنَا لَا يُمْكِنُ تَضْمِينُ الْوَصْفِ لِجَرَيَانِ الرِّبَا فِيمَا بَيْنَ الْعِبَادِ فَلِهَذَا وَافَقَ أَبَا حَنِيفَةَ. وَالْفَرْقُ لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَهُمَا أَنَّ مَا قَبَضَهُ الْفَقِيرُ فِي مَسْأَلَةِ الزَّكَاةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَقْبِضُهُ فِي الْحُكْمِ كِفَايَةً لَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنْ الْمُعْطِي وَبِدُونِ رَدِّ الْمِثْلِ يَتَعَذَّرُ اعْتِبَارُ الْجَوْدَةِ مُنْفَرِدَةً عَنْ الْأَصْلِ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْمَقْبُوضُ قَائِمًا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الرَّدِّ وَطَلَبِ الْجِيَادِ وَكَذَا

[الأداء الذي هو في معنى القضاء]

وَالْأَدَاءُ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الْقَضَاءِ مِثْلُ أَنْ يَتَزَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً عَلَى أَبِيهَا وَهُوَ عَبْدٌ فَاسْتُحِقَّ وَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ فَإِنْ لَمْ يُقْضَ بِقِيمَتِهِ حَتَّى مَلَكَ الزَّوْجُ الْأَبَ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ لَزِمَهُ تَسْلِيمُهُ إلَى الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ حَقِّهَا فِي الْمُسَمَّى إلَّا أَنَّهُ فِي مَعْنَى الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ تَبَدُّلَ الْمِلْكِ أَوْجَبُ تَبَدُّلًا فِي الْعَيْنِ حُكْمًا فَكَانَ هَذَا عَيْنُ حَقِّهَا فِي الْمُسَمَّى لَكِنْ بِمَعْنَى الْمِثْلِ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الزَّوْجَ إذَا مَلَكَهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَمْنَعَهَا إيَّاهُ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ حَقِّهَا وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّهُ لَا يُعْتَقُ حَتَّى يُسَلِّمَهُ إلَيْهَا أَوْ يَقْضِيَ بِهِ لَهَا؛ لِأَنَّهُ مِثْلٌ مِنْ وَجْهٍ فَلَا تُمْلَكُ قِيمَتُهُ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا أَعْتَقَهُ الزَّوْجُ أَوْ كَاتَبَهُ أَوْ بَاعَهُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ مِثْلٌ مِنْ وَجْهٍ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا قُضِيَ بِقِيمَتِهِ عَلَى الزَّوْجِ ثُمَّ مَلَكَهُ الزَّوْجُ أَنْ حَقَّهَا لَا يَعُودُ إلَيْهِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي نِكَاحِ كِتَابِ الْجَامِعِ مَذْكُورَةٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ عَنْ الْغَنِيِّ إنْ لَمْ يُؤَدِّ إلَيْهِ شَيْئًا وَهَهُنَا رَبُّ الدَّيْنِ يَتَمَكَّنُ مِنْ مُطَالَبَتِهِ أَصْلًا وَوَصْفًا بِطَرِيقِ الْجَبْرِ فَأَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ الْمَقْبُوضُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ إحْيَاءً لِحَقِّهِ. [الْأَدَاءُ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الْقَضَاءِ] قَوْلُهُ (وَالْأَدَاءُ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الْقَضَاءِ) إلَى آخِرِهِ، رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَبِيهَا عَتَقَ الْأَبُ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ يُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ كَالْبُضْعِ، فَإِنْ اُسْتُحِقَّ الْأَبُ بِقَضَاءٍ بَطَلَ مِلْكُهَا وَبَطَلَ عِتْقُهُ وَعَلَى الزَّوْجِ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ سَمَّى مَالًا وَعَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِهِ فَيَجِبُ قِيمَتُهُ كَمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدِ الْغَيْرِ ابْتِدَاءً فَإِنْ لَمْ يُقْضَ بِقِيمَتِهِ حَتَّى مَلَكَ الزَّوْجُ الْأَبَ أَيْ أَبَا الْمَرْأَةِ وَاللَّامِ لِلْعَهْدِ، بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ أَيْ بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ أَوْ نَحْوِهَا، لَزِمَ الزَّوْجُ تَسْلِيمَ الْعَبْدِ إلَى الْمَرْأَةِ حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ عَنْهُ بَعْدَ طَلَبِ الْمَرْأَةِ يُجْبَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهَا فَأَبَتْ عَنْ الْقَبُولِ تُجْبَرُ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذَا أَدَاءٌ لِعَيْنِ مَا اسْتَحَقَّ بِالتَّسْمِيَةِ فِي الْعَقْدِ وَكَوْنُهُ مِلْكَ الْغَيْرِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ وَثُبُوتِ الِاسْتِحْقَاقِ بِهَا عَلَى الزَّوْجِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ إذَا تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِاسْتِحْقَاقِ الْأَصْلِ. فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا بَاعَ عَبْدًا فَاسْتُحِقَّ الْعَبْدُ بِقَضَاءٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ مِنْ الْمُسْتَحِقِّ لَا يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى تَسْلِيمِهِ إلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ ظَهَرَ أَنَّ الْبَيْعَ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ الْمُسْتَحِقِّ وَقَدْ بَطَلَ بِرَدِّهِ، فَإِذَا انْفَسَخَ الْبَيْعُ لَا يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى التَّسْلِيمِ أَمَّا الْمُوجِبُ لِتَسْلِيمِ الْعَبْدِ هَهُنَا فَقَائِمٌ وَهُوَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ بِاسْتِحْقَاقِ الْمَهْرِ كَمَا لَا يَنْفَسِخُ بِهَلَاكِهِ، فَإِذَا قَدَرَ عَلَى تَسْلِيمِ الْعَبْدِ يَلْزَمُهُ، إلَّا أَنَّهُ فِي مَعْنَى الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ تَبَدُّلَ الْمِلْكِ بِمَنْزِلَةِ تَبَدُّلِ الْعَيْنِ فَكَانَ هَذَا غَيْرَ مَا وَجَبَ تَسْلِيمُهُ بِالْعَقْدِ حُكْمًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْبُرْمَةُ تَفُورُ بِلَحْمٍ فَقُرِّبَ إلَيْهِ خُبْزٌ وَإِدَامٌ مِنْ أُدْمِ الْبَيْت فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَلَمْ أَرَ بُرْمَةً فِيهَا لَحْمٌ قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ ذَاكَ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ وَأَنْتَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ قَالَ هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ» كَذَا فِي الْمَصَابِيحِ فَجَعَلَ اخْتِلَافَ السَّبَبِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ الْعَيْنِ. وَلَا يُقَالُ كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا وَالصَّدَقَةُ لَا تَحِلُّ لِبَنِي هَاشِمٍ وَمَوَالِيهِمْ؛ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّهَا كَانَتْ مَوْلَاةَ عَائِشَةَ وَهِيَ مِنْ بَنِي تَيْمٍ لَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ كَيْفَ وَكَانَ ذَلِكَ التَّصَدُّقُ تَطَوُّعًا بِدَلِيلِ كَوْنِهِ لَحْمًا وَحُرْمَتُهُ مُخْتَصَّةٌ بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «وَتَصَدَّقَ أَبُو طَلْحَةَ بِحَدِيقَةٍ لَهُ عَلَى أُمِّهِ ثُمَّ مَاتَتْ فَوَرِثَهَا مِنْهَا فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَبِلَ عَنْك صَدَقَتَك وَرَدَّ عَلَيْك حَدِيقَتَك» ، وَلِأَنَّ بِتَبَدُّلِ الْوَصْفِ يَتَغَيَّرُ حُكْمُ الْعَيْنِ حِسًّا وَشَرْعًا كَالْخَمْرِ إذَا تَخَلَّلَتْ تَغَيَّرَ حُكْمُهَا الطَّبِيعِيُّ مِنْ الْحَرَارَةِ إلَى الْبُرُودَةِ وَمِنْ الْإِسْكَارِ إلَى عَدَمِهِ وَحُكْمُهَا الشَّرْعِيُّ مِنْ الْحُرْمَةِ إلَى الْحِلِّ، وَقَدْ يَتَغَيَّرُ بِتَبَدُّلِهِ حِلُّ التَّصَرُّفِ الثَّابِتِ لِلْبَائِعِ إلَى الْحُرْمَةِ وَحُرْمَتُهُ الثَّابِتَةُ لِلْمُشْتَرِي إلَى الْحِلِّ أَيْضًا فَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الْعَيْنَ بِاعْتِبَارِهِ بِمَنْزِلَةِ شَيْءٍ آخَرَ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ هَذَا التَّسْلِيمُ مِنْ الزَّوْجِ أَدَاءَ مَالٍ مِنْ عِنْدِهِ مَكَانَ مَا اُسْتُحِقَّ عَلَيْهِ فَكَانَ شَبِيهًا بِالْقَضَاءِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلِهَذَا أَيْ وَلِكَوْنِ الْعَبْدِ عَيْنَ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ حَقِيقَةً قُلْنَا لَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ أَنْ يَمْنَعَهَا إيَّاهُ أَيْ الْعَبْدَ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ حَقِّهَا، وَلِهَذَا أَيْ وَلِكَوْنِهِ غَيْرَ الْمُسَمَّى حُكْمًا قُلْنَا إنَّهُ لَا يُعْتَقُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَيْهَا وَالْقَضَاءِ بِهِ لَهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُلْحَقًا بِالْمِثْلِ كَانَ مِلْكًا لِلزَّوْجِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَالْقَضَاءِ فَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهَا، وَالْفِقْهُ فِيهِ أَنَّ الْعَقْدَ حَالَ

وَيَتَّصِلُ بِهَذَا الْأَصْلِ أَنَّ مَنْ غَصَبَ طَعَامًا فَأَطْعَمَهُ الْمَالِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْلِمَهُ لَمْ يَبْرَأْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQوُقُوعِهِ لَمْ يَقَعْ تَمْلِيكًا لِلْعَبْدِ؛ لِأَنَّ تَمْلِيكَ مَالِ الْغَيْرِ لَا يَصِحُّ وَإِنَّمَا وَقَعَ تَمْلِيكًا لِمِثْلِ مَالِيَّةِ الْعَبْدِ فِي الذِّمَّةِ فَكَانَ الْمَهْرُ مِثْلَ مَالِيَّتِهِ إلَّا أَنَّ مَالِيَّةَ الْعَبْدِ مِثْلٌ لِمَا فِي ذِمَّتِهِ حَقِيقَةً وَمَالِيَّةُ مَحَلٍّ آخَرَ لَيْسَتْ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ مِثْلًا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَمَتَى أَمْكَنَ تَسْلِيمُ عَيْنِ الْعَبْدِ لَا يُصَارُ إلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ أَعْدَلُ مِنْ الْقِيمَةِ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِلْكًا لَهَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ أَوْ الْقَضَاءِ، وَلِهَذَا أَيْ وَلِكَوْنِهِ غَيْرَ الْمُسَمَّى حُكْمًا قُلْنَا إذَا تَصَرَّفَ الزَّوْجُ فِيهِ بِإِعْتَاقٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَالْقَضَاءِ نَفَذَتْ تَصَرُّفَاتُهُ؛ لِأَنَّهَا صَادَفَتْ مِلْكَ نَفْسِهِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْقُضَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَحْتَمِلُ النَّقْضَ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمَرْأَةِ بِعَيْنِ الْعَبْدِ كَالْمُشْتَرِي إذَا تَصَرَّفَ فِي الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ وَالرَّاهِنِ إذَا تَصَرَّفَ فِي الْمَرْهُونِ وَإِنَّمَا لَا تُنْقَضُ؛ لِأَنَّهَا لَوْ نُقِضَتْ بَطَلَ حَقُّ الزَّوْجِ فِي التَّصَرُّفِ لَا إلَى خَلَفٍ وَلَوْ لَمْ تُنْقَضْ بَطَلَ حَقُّ الْمَرْأَةِ إلَى خَلَفٍ وَهُوَ الْقِيمَةُ وَالْإِبْطَالُ خَلَفٌ أَهْوَنُ فَكَانَ أَوْلَى بِالتَّحَمُّلِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ لَوْ نَقَضَ بَطَلَ حَقُّ الْمُشْتَرِي إلَى خَلَفٍ وَهُوَ الثَّمَنُ وَلَوْ لَمْ يَنْقُضُ بَطَلَ الشَّفِيعُ أَصْلًا وَفِي الرَّهْنِ لَا يَنْقُضُ تَصَرُّفَاتِهِ بَلْ يُؤَخِّرُ إلَى أَنْ يَفُكَّ الرَّهْنَ كَذَا فِي الْجَامِعِ لِشَمْسِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَلِهَذَا أَيْ وَلِكَوْنِ الْعَبْدِ غَيْرَ الْمُسَمَّى فِي الْحُكْمِ قُلْنَا: إذَا قَضَى الْقَاضِي بِقِيمَتِهِ بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ ثُمَّ مَلَكَهُ الزَّوْجُ لَمْ يُعِدْ حَقَّهَا إلَى الْعَيْنِ فَلَا يُجْبَرُ الزَّوْجُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَلَا الْمَرْأَةُ عَلَى الْقَبُولِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ نُقِلَ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الْقِيمَةِ بِالْقَضَاءِ وَتَقَرَّرَ بِهِ فَانْقَطَعَ الْحَقُّ عَمَّا لَهُ حُكْمُ الْمِثْلِ كَمَنْ غَصَبَ شَيْئًا لَهُ مِثْلٌ مِنْ جِنْسِهِ فَهَلَكَ عِنْدَهُ ثُمَّ انْقَطَعَ مِثْلُهُ فَقَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ ثُمَّ جَاءَ، أَوْ أَنَّهُ لَمْ يُعِدْ حَقَّهُ إلَى الْمِثْلِ، وَلَوْ كَانَ لِلْعَبْدِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ حُكْمُ عَيْنِ الْمُسَمَّى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَعَادَ حَقُّهَا فِيهِ إذَا كَانَ الْقَضَاءُ بِالْقِيمَةِ بِقَوْلِ الزَّوْجِ مَعَ الْيَمِينِ كَمَا فِي الْمَغْصُوبِ إذَا عَادَ مِنْ إبَاقَةٍ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِقَوْلِ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ (وَيَتَّصِلُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ) أَيْ وَبِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَقْسَامِ الْأَدَاءِ يَتَّصِلُ مَسْأَلَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْأَدَاءِ وَهِيَ أَنَّ مَنْ غَصَبَ طَعَامًا فَقَدَّمَهُ إلَى مَالِكِهِ وَأَبَاحَهُ كُلَّهُ فَأَكَلَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ، أَوْ غَصَبَ ثَوْبًا فَكَسَاهُ رَبَّ الثَّوْبِ فَلَبِسَهُ حَتَّى يَخْرِقَ وَلَمْ يَعْرِفْهُ يَبْرَأُ الْغَاصِبُ عَنْ الضَّمَانِ عِنْدَنَا، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَبْرَأُ وَهَذَا إذَا لَمْ يَحْدُثْ فِيهِ مَا يَقْطَعُ حَقَّ الْمَالِكِ فَإِنْ أَحْدَثَ فِيهِ مَا يَقْطَعُ حَقَّهُ بِأَنْ كَانَ دَقِيقًا فَخَبَزَهُ ثُمَّ أَطْعَمَهُ أَوْ لَحْمًا فَشَوَاهُ ثُمَّ أَطْعَمَهُ أَوْ تَمْرًا فَنَبَذَهُ وَسَقَاهُ أَوْ ثَوْبًا فَقَطَّعَهُ وَخَاطَهُ قَمِيصًا وَكَسَاهُ لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ عِنْدَنَا وَلَوْ وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ أَوْ بَاعَهُ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ وَأَكَلَهُ الْمَالِكُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطْعِمَهُ الْغَاصِبُ يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ بِالِاتِّفَاقِ هَكَذَا ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ أَنَّهُ مَا أَتَى بِالرَّدِّ الْمَأْمُورِ بِهِ فَإِنَّهُ غُرُورٌ مِنْهُ وَالشَّرْعُ لَا يَأْمُرُهُ بِالْغُرُورِ وَالْغَاصِبُ لَا يَسْتَفِيدُ الْبَرَاءَةَ إلَّا بِالرَّدِّ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ صَارَ ضَامِنًا. وَلِأَنَّهُ مَا أَعَادَهُ إلَى مِلْكِهِ كَمَا كَانَ؛ لِأَنَّ الْمُبَاحَ لَهُ الطَّعَامُ لَا يَصِيرُ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ فِيمَا أُبِيحَ لَهُ فَكَانَ فِعْلُهُ قَاصِرًا فِي حُكْمِ الرَّدِّ فَلَوْ جَعَلْنَا هَذَا رَدًّا تَضَرَّرَ بِهِ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَقْدَمُ عَلَى الْأَكْلِ بِنَاءً عَلَى خَبْزِهِ أَنَّهُ أَكْرَمَ ضَيْفَهُ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مِلْكُهُ رُبَّمَا لَمْ يَأْكُلْهُ وَحَمَلَهُ إلَى عِيَالِهِ فَأَكَلَهُ مَعَهُمْ فَلِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ بَقِيَ الضَّمَانُ عَلَى

لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَدَاءٍ مَأْمُورٍ بِهِ؛ لِأَنَّهُ غُرُورٌ إذْ الْمَرْءُ لَا يَتَحَامَى فِي الْعَادَاتِ عَنْ مَالِ غَيْرِهِ فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ، وَالشَّرْعُ لَمْ يَأْمُرْ بِالْغُرُورِ فَبَطَلَ الْأَدَاءُ نَفْيًا لِلْغُرُورِ فَصَارَ مَعْنَى الْأَدَاءِ لَغْوًا رَدًّا لِلْغُرُورِ، قُلْنَا نَحْنُ هَذَا أَدَاءٌ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ وَصَلَ إلَى يَدِهِ وَلَوْ كَانَ قَاصِرًا لَتَمَّ بِالْهَلَاكِ فَكَيْفَ لَا يَتِمُّ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ كَامِلٌ فَأَمَّا الْخَلَلُ الَّذِي ادَّعَاهُ فَإِنَّمَا وَقَعَ لِجَهْلِهِ وَالْجَهْلُ لَا يُبْطِلُهُ وَكَفَى بِالْجَهْلِ عَارًا فَكَيْفَ يَكُونُ عُذْرًا فِي تَبْدِيلِ إقَامَةِ الْفَرْضِ اللَّازِمِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْغَاصِبِ كَذَا ذَكَرُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فَالنُّكْتَةُ الْأُولَى تُشِيرُ إلَى أَنَّ الْأَدَاءَ لَمْ يُوجَدْ، وَالثَّانِيَةُ تُشِيرُ إلَى أَنَّهُ وُجِدَ قَاصِرًا وَلَكِنَّهُ لَمْ يُعْتَبَرْ نَفْيًا لِلْغُرُورِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْغَاصِبِ نَسْخُ فِعْلِهِ وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ أَمَّا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ فَلِأَنَّهُ وَصَلَ إلَى يَدِ الْمَالِكِ وَبِهِ يَنْعَدِمُ مَا كَانَ فَائِتًا وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ فَلِأَنَّهُ صَارَ مُتَمَكِّنًا مِنْ التَّصَرُّفِ حَتَّى لَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ غَيْرَ أَنَّهُ جَهِلَ بِحَالِهِ وَجَهْلُهُ لَا يَكُونُ مُبْقِيًا لِلضَّمَانِ فِي ذِمَّةِ الْغَاصِبِ مَعَ تَحَقُّقِ الْعِلَّةِ الْمُسْقِطَةِ كَمَا أَنَّ جَهْلَ الْمُتْلِفِ لَا يَكُونُ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْإِتْلَافِ إذَا كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ مِلْكُهُ. وَأَمَّا الْغُرُورُ فَثَابِتٌ وَلَكِنَّ الْغُرُورَ بِمُجَرَّدِ الْخَبَرِ لَا يُوجِبُ حُكْمًا كَمَنْ عَرَّفَ بِسُرَّاقٍ فِي الطَّرِيقِ فَأَخْبَرَ أَنَّ الطَّرِيقَ أَمْنٌ فَخَرَجُوا فَقَطَعَ عَلَيْهِمْ لَا يَضْمَنُ الْغَارُّ شَيْئًا وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ مِنْهُ مَا يُوجَدُ فِي ضِمْنِ عَقْدِ ضَمَانٍ كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَإِنَّ الْغَاصِبَ الْمُضِيفَ مَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ عِوَضًا. وَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنْ لَا يَكُونَ فِعْلُ الْغَاصِبِ هُوَ الرَّدُّ الْمَأْمُورُ بِهِ وَلَكِنْ تَنَاوُلُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَيْنَ الْمَغْصُوبِ كَافٍ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنْ الْغَاصِبِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَاءَ إلَى بَيْتِ الْغَاصِبِ وَأَكَلَ ذَلِكَ الطَّعَامَ بِعَيْنِهِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ مِلْكُ الْغَاصِبِ بَرِئَ الْغَاصِبُ مِنْ الضَّمَانِ، فَكَذَلِكَ إذَا أَطْعَمَهُ الْغَاصِبُ إيَّاهُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ قَوْلُهُ (لَيْسَ بِأَدَاءٍ مَأْمُورٍ بِهِ) إذْ لَا بُدَّ لِلْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا وَالْغُرُورُ قَبِيحٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَكَيْفَ يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ. إذْ الْمَرْءُ لَا يَتَحَامَى أَيْ لَا يَجْتَنِبُ وَلَا يَحْتَرِزُ فِي الْعَادَاتِ عَنْ مَالِ الْغَيْرِ فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْغَيْرِ الْحُرْمَةُ الشَّرْعِيَّةُ أَوْ الْمَنْعُ الْحِسِّيُّ، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ بِالْإِبَاحَةِ لَا يُبَالِي بِإِتْلَافِهِ بِخِلَافِ مَالِ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُحْتَرَزُ عَنْ إتْلَافِهِ أَشَدَّ الِاحْتِرَازِ بَقَاءً لَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَى الْغُرُورِ لَا إلَى فِعْلِهِ فَبَقِيَ الضَّمَانُ عَلَى الْغَارِّ، فَبَطَلَ مَعْنَى الْأَدَاءِ أَيْ بَطَلَ إيصَالُهُ إلَى الْمَالِكِ حَقِيقَةً رَدًّا لِلْغُرُورِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَحَاصِلُ هَذَا الدَّلِيلِ أَنَّ مَا صَدَرَ عَنْهُ لَيْسَ بِأَدَاءٍ لِكَوْنِهِ غُرُورًا. وَقَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ قَاصِرًا لَتَمَّ بِالْهَلَاكِ جَوَابُ عَيْنٍ نُكْتَةٌ لِلشَّافِعِيِّ لَمْ تُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْغَاصِبَ أَزَالَ يَدًا مُطْلَقَةً لِجَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ وَمَا أَعَادَ بِتَقْدِيمِ الطَّعَامِ إلَيْهِ إلَّا يَدَ إبَاحَةٍ فَكَانَ هَذَا أَدَاءً قَاصِرًا فَلَا يَنُوبُ عَنْ الْكَامِلِ فَأَجَابَ وَقَالَ لَوْ كَانَ قَاصِرًا كَمَا زَعَمْتُمْ لَتَمَّ بِالْهَلَاكِ كَمَا فِي أَدَاءِ الزُّيُوفِ عَنْ الْجِيَادِ مَعَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ قَاصِرٌ بَلْ هُوَ كَامِلٌ؛ لِأَنَّهُ إيصَالُ الْحَقِّ إلَى مَالِكِهِ أَصْلًا وَوَصْفًا. وَقَوْلُهُ مَا أَعَادَ الْأَيْدِ إبَاحَةً قُلْنَا جِهَةُ الْإِبَاحَةِ سَاقِطَةٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّ الْمَالِكِ إلَّا جِهَةُ الْمِلْكِ فَأَمَّا الْخَلَلُ الَّذِي ادَّعَاهُ الْخَصْمُ وَهُوَ الْغُرُورُ الَّذِي تَضْمَنَّهُ هَذَا الْأَدَاءُ فَإِنَّمَا وَقَعَ بِجَهْلِ الْمَالِكِ وَالْجَهْلُ أَيْ جَهْلُ الْمَالِكِ لَا يُبْطِلُ الْأَدَاءَ الصَّادِرَ مِنْ الْغَاصِبِ إذْ عِلْمِ الْمَالِكِ لَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْأَدَاءِ كَمَا ذَكَرْنَا وَكَفَى بِالْجَهْلِ عَارًا؛ لِأَنَّهُ نَقِيصَةٌ فَإِنَّ الرَّجُلَ يُعَيَّرُ بِهِ فَوْقَ تَعْيِيرِهِ بِنُقْصَانِ أَعْضَائِهِ فَكَيْفَ يَصْلُحُ عُذْرًا فِي تَبْدِيلِ إقَامَةِ الْفَرْضِ اللَّازِمِ وَهُوَ الرَّدُّ إلَى الْمَالِكِ يَعْنِي تَسْلِيمَ هَذَا الْعَيْنِ إلَى الْمَالِكِ فَرْضٌ عَلَى الْغَاصِبِ وَقَدْ أَتَى بِهِ بِجَهْلِهِ بِأَنَّ هَذَا مِلْكُهُ لَا يَصْلُحُ مُبْطِلًا لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَغْصُوبَ لَوْ كَانَ عَبْدًا فَقَالَ الْغَاصِبُ لِلْمَالِكِ أَعْتِقْ هَذَا الْعَبْدَ فَقَالَ أَعْتَقْته وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ عَبْدُهُ يَنْفُذُ عِتْقُهُ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ

[القضاء بمثل معقول نوعان]

وَالْعَادَةُ الْمُخَالَفَةُ لِلدِّيَانَةِ الصَّحِيحَةِ عَلَى مَا زَعَمَ لَغْوٌ؛ لِأَنَّ عَيْنَ مَالِهِ وَصَلَ إلَى يَدِهِ أَمَّا الْقَضَاءُ بِمِثْلٍ مَعْقُولٍ فَنَوْعَانِ كَامِلٌ وَقَاصِرٌ أَمَّا الْكَامِلُ فَالْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى وَهُوَ الْأَصْلُ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِشَيْءٍ وَكَذَا الْبَائِعُ لَوْ قَالَ لِلْمُشْتَرِي أَعْتِقْ عَبْدِي هَذَا وَأَشَارَ إلَى الْمَبِيعِ فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي وَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّهُ عَبْدُهُ صَحَّ إعْتَاقُهُ وَيَجْعَلُ قَبْضًا وَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ مِلْكَهُ وَجَهْلُهُ بِأَنَّهُ مِلْكُهُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ مَا وُجِدَ مِنْهُ فَكَذَا هَذَا. وَقَوْلُهُ (وَالْعَادَةُ الْمُخَالِفَةُ لِلدِّيَانَةِ الصَّحِيحَةِ) لَغْوٌ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ الْمَرْءُ لَا يَتَحَامَى فِي الْعَادَاتِ عَنْ مَالِ الْغَيْرِ يَعْنِي الْعَادَةَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُخَالَفَةٌ لِلدِّيَانَةِ الصَّحِيحَةِ، وَقَيَّدَ بِالصَّحِيحَةِ احْتِرَازًا عَنْ دِيَانَاتِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْمُتَقَشِّفَةِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّ الْعَادَةَ الْمُخَالِفَةَ لَهَا يُعْتَبَرُ، وَمَا ذَكَرْت مِنْ الْعَادَةِ مُخَالِفَةً لِلدِّيَانَةِ الصَّحِيحَةِ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْإِسْلَامِ أَنْ لَا يَرْغَبَ فِي مَالِ الْغَيْرِ وَأَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» ، فَكَمَا يَكْرَهُ إتْلَافَ مَالِ نَفْسِهِ مَعَ كَوْنِهِ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ فِيهِ فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكْرَهَ إتْلَافَ مَالِ الْغَيْرِ. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْكِبَارِ أَنَّهُ قَالَ: وَقَعَ حَرِيقٌ بِاللَّيْلِ فَخَرَجْت أَنْظُرُ إلَى دُكَّانِي فَقِيلَ لِي الْحَرِيقُ بَعِيدٌ مِنْ دُكَّانِك فَقُلْت: الْحَمْدُ لِلَّهِ ثُمَّ قُلْت فِي نَفْسِي: هَبْ إنَّك نَجَوْت مِنْ الْبَلَاءِ أَلَا تَهْتَمَّ لِلْمُسْلِمِينَ مَا تَهْتَمَّ لِنَفْسِك فَأَنَا أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ قَوْلِي الْحَمْدُ لِلَّهِ مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ الْعَادَةُ الْمُخَالِفَةُ لِهَذِهِ الدِّيَانَةِ غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ فَلَا تَصْلُحُ نَاقِصَةً لِلْأَدَاءِ الْمَوْجُودِ حَقِيقَةً فِي الْقَضَاءِ بِمِثْلٍ مَعْقُولٍ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ. [الْقَضَاءُ بِمِثْلٍ مَعْقُولٍ نَوْعَانِ] [النَّوْع الْأَوَّل كَامِلٌ] قَوْلُهُ (كَامِلٌ وَقَاصِرٌ) قِيلَ هَذَا التَّقْسِيمُ يَجْرِي فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْضًا فَإِنَّ قَضَاءَ الْفَائِتَةِ بِالْجَمَاعَةِ قَضَاءٌ بِمِثْلٍ مَعْقُولٍ كَامِلٍ وَقَضَاؤُهَا مُنْفَرِدًا قَضَاءً بِمِثْلٍ مَعْقُولٍ قَاصِرٍ كَمَا فِي الْأَدَاءِ فَصَارَتْ الْأَقْسَامُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَجْرِيَ هَذَا التَّقْسِيمُ فِيهَا؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْقُصُورِ فِي الْمِثْلِ إنَّمَا تَثْبُتُ إذَا تَحَقَّقَ الْوُجُوبُ فِي الصِّفَةِ لِيَتَمَكَّنَ بِفَوَاتِهَا قُصُورٌ فِيهِ كَمَا فِي الْأَدَاءِ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ هُنَا؛ لِأَنَّ وَصْفَ الْجَمَاعَةِ لَيْسَ بِلَازِمٍ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ اللُّزُومَ فِيهِ يَبْتَنِي عَلَى صَيْرُورَةِ الْوَاجِبِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ وَبَعْدَ الْفَوَاتِ لَا يَصِيرُ وَصْفُ الْجَمَاعَةِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بِالْإِجْمَاعِ بَلْ الدَّيْنُ أَصْلُ الصَّلَاةِ لَا غَيْرُ فَبِفَوَاتِ هَذَا الْوَصْفِ لَا يَتَمَكَّنُ قُصُورٌ فِي الْمِثْلِ بَلْ الْقَضَاءُ مُنْفَرِدًا مِثْلٌ كَامِلٌ وَالْقَضَاءُ بِجَمَاعَةٍ أَكْمَلُ مِنْهُ فَكَانَتْ الْأَقْسَامُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَدَاءِ فَإِنَّ فَوَاتَ هَذَا الْوَصْفِ يُوجِبُ قُصُورًا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ فِيهِ شَبَهُ الْوُجُوبِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَلَكِنَّ أَثَرَهُ يَظْهَرُ فِي الْفِعْلِ حَتَّى سَقَطَ بِهِ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ بِتَرَجُّحِ جَانِبِ الْفِعْلِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ دُونَ صَيْرُورَتِهِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ حَقِيقَةً فَلِشَبَهِ الْوُجُوبِ يَثْبُتُ الْقُصُورُ فِي الْأَدَاءِ بِفَوَاتِهِ وَلِعَدَمِ الْوُجُوبِ حَقِيقَةً لَا يَثْبُتُ فِي الْقَضَاءِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ وَصْفَ الْجَمَاعَةِ مِنْ الشِّعَارِ فَيَلِيقُ بِالْأَدَاءِ الَّذِي يُنْبِئُ عَنْ شِدَّةِ الرِّعَايَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ فِيهِ شَبَهُ الْوُجُوبِ دُونَ الْقَضَاءِ الَّذِي يُنْبِئُ عَنْ التَّقْصِيرِ فِي الِامْتِثَالِ وَلِهَذَا قِيلَ كُرِهَ قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ فِي الْمَسْجِدِ عَلَانِيَةً وَإِنَّمَا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا فَاتَهُ غَدَاةَ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ بِجَمَاعَةٍ لِبَقَاءِ مَعْنَى الْأَدَاءِ مِنْ وَجْهٍ بِأَنَّ مَا بَعْدَ الطُّلُوعِ إلَى الزَّوَالِ لَهُ حُكْمُ مَا قَبْلَ الطُّلُوعِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ مِثْلُ قَضَاءِ سُنَّةِ الْفَجْرِ وَتَدَارُكِ الْوَرْدِ الَّذِي فَاتَهُ بِاللَّيْلِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُكْرَهَ الْجَمَاعَةُ فِي الْقَضَاءِ لِمَا قُلْنَا إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى الْفَائِتِ

[النوع الثاني قاصر]

وَفِي بَابِ الْقُرُوضِ تَحْقِيقًا لِلْجَبْرِ حَتَّى كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْأَصْلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكَانَ سَابِقًا أَمَّا الْمِثْلُ الْقَاصِرُ فَالْقِيمَةُ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ إذَا انْقَطَعَ مِثْلُهُ وَفِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُسْتَحِقِّ فِي الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى إلَّا أَنَّ الْحَقَّ فِي الصُّورَةِ قَدْ فَاتَ لِلْعَجْزِ عَنْ الْقَضَاءِ بِهِ فَبَقِيَ الْمَعْنَى ـــــــــــــــــــــــــــــQانْتَفَتْ الْكَرَاهَةُ كَمَا انْتَفَى شَبَهُ الْوُجُوبِ وَبَقِيَ الْجَوَازُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ (وَفِي بَابِ الْقُرُوضِ) إنَّمَا عَدَّ الشَّيْخُ رَدَّ الْمِثْلِ فِي بَابِ الْقُرُوضِ مِنْ الْقَضَاءِ وَفِي بَابِ الدُّيُونِ مِنْ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ رَدَّ عَيْنِ مَا قُبِضَ مُمْكِنٌ فِي الْقَرْضِ فَصَحَّ أَنْ يَجْعَلَ رَدَّ مِثْلِهِ قَضَاءً لِوُجُودِ شَرْطِهِ وَهُوَ تَصَوُّرُ الْأَصْلِ فَأَمَّا تَسْلِيمُ الدَّيْنِ فَغَيْرُ مُمْكِنٍ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ فِيهِ قَضَاءً لَهُ لِعَدَمِ شَرْطِهِ فَكَانَ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ فِيهِ كَتَسْلِيمِ نَفْسِ الدَّيْنِ فَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَقْسَامِ الْأَدَاءِ. (فَإِنْ قِيلَ) يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ رَدُّ الْمِثْلِ فِي الْقَرْضِ قَضَاءً يُشْبِهُ الْأَدَاءَ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الْقَرْضِ فِي حُكْمِ عَيْنِ الْمَقْبُوضِ إذْ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ كَذَلِكَ كَانَ مُبَادَلَةُ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ نَسِيئَةً وَلِهَذَا كَانَ الْقَرْضُ فِي حُكْمِ الْإِعَارَةِ حَتَّى لَا يَلْزَمَ فِيهِ التَّأْجِيلُ عِنْدَنَا بِخِلَافِ الدُّيُونِ. (قُلْنَا) بَدَلُ الْقَرْضِ غَيْرُ الْمَقْبُوضِ حَقِيقَةٌ وَإِنَّمَا أَخَذَ حُكْمَ الْمَقْبُوضِ ضَرُورَةَ الِاحْتِرَازِ عَنْ الرِّبَا فَلَا يَظْهَرُ فِيمَا وَرَاءَ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَهُوَ كَوْنُهُ أَدَاءً كَذَلِكَ قِيلَ. ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ كَوْنُهُ شَبِيهًا بِالْأَدَاءِ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَقْسَامِ الْقَضَاءِ بِمِثْلٍ مَعْقُولٍ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِيمَا سَبَقَ؛ لِأَنَّ الشَّيْخَ قَسَّمَ الْقَضَاءَ بِالْمِثْلِ الْمَعْقُولِ مُطْلَقًا وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْقَضَاءِ الْمَحْضِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْقَضَاءُ الْمَحْضُ وَغَيْرُ الْمَحْضِ قَوْلُهُ (تَحْقِيقًا لِلْجَبْرِ) جَبَرَ الْكَسْرَ جَبْرًا أَيْ أَصْلَحَهُ. فَالْغَاصِبُ فَوَّتَ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ مَا لَهُ صُورَةٌ وَمَعْنًى فَالْجَبْرُ التَّامُّ أَنْ يَتَدَارَكَهُ بِأَدَاءِ مَالٍ مِنْ عِنْدِهِ هُوَ مِثْلٌ لِمَا فَوَّتَ عَلَيْهِ صُورَةً وَمَعْنًى حَتَّى يَقُومَ مَقَامَ الْأَصْلِ وَهُوَ الْمَغْصُوبُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَكَانَ أَيْ الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى، سَابِقًا أَيْ عَلَى الْمِثْلِ مَعْنًى وَهُوَ الْقِيمَةُ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْأَصْلِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَهُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ نَفَاهُ الْقِيَاسُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْغَاصِبِ رَدُّ الْقِيمَةِ فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِي الْعَيْنِ وَالْمَالِيَّةِ وَقَدْ تَعَذَّرَ إيصَالُ الْعَيْنِ إلَيْهِ فَيَجِبُ إيصَالُ الْمَالِيَّةِ إلَيْهِ وَوُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْغَاصِبِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ وَمَالِيَّةُ الشَّيْءِ عِبَارَةٌ عَنْ قِيمَتِهِ، وَلَكِنَّ الْعَامَّةَ يَقُولُونَ الْوَاجِبُ هُوَ الْمِثْلُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ، وَتَسْمِيَةُ الْفِعْلِ الثَّانِي اعْتِدَاءً بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ مَجَازًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى، {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ أَمْثَالٌ مُتَسَاوِيَةٌ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلٌ بِمِثْلِ» ، الْحَدِيثَ فَيَجِبُ رَدُّ الْمِثْلِ لَا رَدُّ الْقِيمَةِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْجَبْرُ كَمَا ذَكَرْنَا وَذَلِكَ فِي الْمِثْلِ أَتَمُّ؛ لِأَنَّ فِيهِ مُرَاعَاةَ الْجِنْسِ وَالْمَالِيَّةِ وَفِي الْقِيمَةِ مُرَاعَاةُ الْمَالِيَّةِ فَقَطْ فَكَانَ إيجَابُ الْمِثْلِ أَعْدَلَ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ بِالِانْقِطَاعِ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ " فح " يُصَارُ إلَى الْمِثْلِ الْقَاصِرِ وَهُوَ الْقِيمَةُ لِلضَّرُورَةِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ [النَّوْع الثَّانِي قَاصِر] قَوْلُهُ (فَالْقِيمَةُ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ) كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارَبِ، إذَا انْقَطَعَ مِثْلُهُ أَيْ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ بِأَنْ لَا يُوجَدَ فِي الْأَسْوَاقِ وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ، وَفِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ كَالْحَيَوَانَاتِ وَالثِّيَابِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا الْمِثْلُ مَعْنًى وَهُوَ الْقِيمَةُ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَضْمَنُ مِثْلَهَا مِنْ جِنْسِهَا مُعَدَّلًا بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ رِعَايَةَ الْمُمَاثَلَةِ صُورَةً وَمَعْنًى أَمَّا صُورَةً فَظَاهِرٌ وَأَمَّا مَعْنًى فَلِأَنَّهُمَا عَدَلَا قِيمَةً فَكَانَ أَوْلَى مِنْ الدَّرَاهِمِ الَّتِي تَفُوتُ فِيهَا الْمُمَاثَلَةُ صُورَةً، وَرُوِيَ «أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -

وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا أَنَّهُ يُقْطَعُ ثُمَّ يُقْتَلُ إنْ شَاءَ الْوَلِيُّ؛ لِأَنَّهُ مِثْلٌ كَامِلٌ وَأَمَّا الْقَتْلُ الْمُنْفَرِدُ فَمِثْلٌ قَاصِرٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQكَسَرَتْ قَصْعَةً لِصَفِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ثُمَّ جَاءَتْ بِقَصْعَةٍ مِثْلَ تِلْكَ الْقَصْعَةِ فَرَدَّتْهَا وَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ، وَرُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ إنَّ بَنِي عَمِّك عَدَوْا عَلَى إبِلِي فَقَطَعُوا أَلْبَانَهَا وَأَكَلُوا فِصْلَانَهَا، الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرَى أَنْ يَأْتِيَ هَذَا وَادِيَهُ فَيُعْطِي ثَمَّةَ إبِلًا مِثْلَ إبِلِهِ وَفِصْلَانًا مِثْلَ فِصْلَانِهِ فَرَضِيَ بِهِ عُثْمَانُ. وَتَمَسَّكَ الْجُمْهُورُ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي عَبْدِ قَوْمٍ عَلَيْهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ» إنْ كَانَ مُوسِرًا وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ إذْ لَمْ يَقُلْ يَضْمَنُ مِثْلَهُ نِصْفَ عَبْدٍ آخَرَ وَبِأَنَّ ضَمَانَ التَّعَدِّي مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ، وَهَذِهِ الْأَمْوَالُ تَتَفَاوَتُ فِي الْمَالِيَّةِ خِلْقَةً فَتَعَذَّرَ فِيهَا رِعَايَةُ الصُّورَةِ إذْ لَوْ رُوعِيَتْ لَفَاتَتْ الْمُمَاثَلَةُ مَعْنًى فَوَجَبَ رِعَايَةُ الْمَعْنَى الَّذِي لَا تَفَاوُتَ فِيهِ، وَهُوَ الْقِيمَةُ بِخِلَافِ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَفَاوَتُ خِلْقَةً فَأَمْكَنَ فِيهَا رِعَايَةُ الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ حِنْطَةً بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ وَاحِدًا مِنْهَا مُرَابَحَةً عَلَى دِرْهَمٍ لِعَدَمِ تَفَاوُتِ الْقُفْزَانِ وَبِمِثْلِهِ فِي الْعَبِيدِ لَا يَجُوزُ لِلتَّفَاوُتِ الَّذِي بَيْنَهُمْ فَلَا يُعْرَفُ قَدْرُ الْوَاحِدِ مِنْ الْجُمْلَةِ قَطْعًا. وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّ الرَّدَّ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْمُرُوءَةِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ لَا عَلَى طَرِيقِ الضَّمَانِ فَقَدْ كَانَتْ الْقَصْعَتَانِ لِرَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْقَصْعَةَ كَانَتْ مِنْ الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُثْمَانَ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الصُّلْحِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْقَضَاءِ بِالضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْمُتْلِفَ لَمْ يَكُنْ عُثْمَانَ وَالْإِنْسَانُ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِجِنَايَةِ بَنِي عَمِّهِ إلَّا أَنَّهُ تَبَرَّعَ بِأَدَاءِ مِثْلِ ذَلِكَ عَنْ بَنِي عَمِّهِ لِفَرْطِ مَيْلِهِ إلَى أَقَارِبِهِ وَانْتِصَارِهِمْ بِهِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَالْمَبْسُوطِ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِكَوْنِ الْمِثْلِ الْكَامِلِ أَصْلًا فِي الْبَابِ وَسَابِقًا عَلَى الْقَاصِرِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى آخِرِهِ، وَالْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ أَمَّا إنْ كَانَ الْقَتْلُ بَعْدَ الْبُرْءِ أَوْ قَبْلَهُ، وَأَمَّا إنْ كَانَ الْقَطْعُ وَالْقَتْلُ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ شَخْصَيْنِ، وَأَمَّا إنْ كَانَا خَطَأَيْنِ أَوْ عَمْدَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا عَمْدًا وَالْآخَرُ خَطَأً فَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ بَعْدَ الْبُرْءِ فَهُمَا جِنَايَتَانِ عَلَى كُلِّ حَالٍ بِالِاتِّفَاقِ. وَكَذَا إنْ كَانَ قَبْلَ الْبُرْءِ إلَّا أَنَّهُ مِنْ شَخْصٍ آخَرَ، وَكَذَا إنْ كَانَ قَبْلَ الْبُرْءِ مِنْ ذَلِكَ الشَّخْصِ وَلَكِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَمْدًا وَالْآخَرُ خَطَأً، وَإِنْ كَانَا خَطَأَيْنِ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ وَالْقَتْلُ قَبْلَ الْبُرْءِ فَهُمَا جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَا عَمْدَيْنِ فَهُمَا جِنَايَتَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَهُمَا، فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ مُقَيَّدٌ بِالْعَمْدِ أَيْ قَطْعًا عَمْدًا، وَإِنَّ قَوْلَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا مُقَيَّدٌ بِأَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْبُرْءِ أَيْ قَتَلَهُ عَمْدًا قَبْلَ بُرْءِ الْيَدِ، أَنَّهُ الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ أَيْ الشَّأْنِ أَنَّ الْوَلِيَّ يَتَخَيَّرُ إنْ شَاءَ قَطَعَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُسَاوَاةِ فِي الْفِعْلِ وَالْمَقْصُودُ الْفِعْلُ وَفِي الْقَتْلِ بِدُونِ الْقَطْعِ مُرَاعَاةُ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمَقْصُودِ بِالْفِعْلِ وَفِيهِ مَعَ الْقَطْعِ مُرَاعَاةُ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمَقْصُودِ بِالْفِعْلِ وَصُورَةِ الْفِعْلِ جَمِيعًا فَيَتَخَيَّرُ الْوَلِيُّ بَيْنَهُمَا لَا يَمْنَعُ مِنْ الْقَطْعِ بِخِلَافِ الْخَطَأِ فَالْمُعْتَبَرُ هُنَاكَ صِيَانَةُ الْمَحَلِّ عَنْ الْإِهْدَارِ لَا صُورَةُ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ مَوْضُوعٌ عَنَّا رَحْمَةً مِنْ

وَقَالَا بَلْ يَقْتُلُهُ وَلَا يَقْطَعُهُ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ بَعْدَ الْقَطْعِ تَحْقِيقٌ لِمُوجِبِ الْقَطْعِ فَصَارَ أَمْرُ الْجِنَايَةِ يَئُولُ إلَى الْقَتْلِ، وَقُلْنَا هَذَا هَكَذَا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى فَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ الصُّورَةِ فِي بَابِ جَزَاءِ الْفِعْلِ فَلَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَتْلَ قَدْ يَصْلُحُ مَاحِيًا أَثَرَ الْقَطْعِ كَمَا يَصْلُحُ مُحَقِّقًا؛ لِأَنَّهُ عِلَّةٌ مُبْتَدَأَةٌ صَالِحَةٌ لِلْحُكْمِ فَوْقَ الْأَوَّلِ فَخَيَّرْنَاهُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ. وَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ الْمِثْلِيَّ بِالْقِيمَةِ إذَا انْقَطَعَ الْمِثْلُ إلَّا يَوْمَ الْخُصُومَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ الْقَاصِرَ لَا يَصِيرُ مَشْرُوعًا مَعَ احْتِمَالِ الْأَصْلِ وَلَا يَقْطَعُ الِاحْتِمَالَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالشَّرْعِ عَلَيْنَا، وَقَالَا بَلْ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ مَوْقُوفٌ فِي حَقِّ الْحُكْمِ عَلَى السِّرَايَةِ فَإِذَا سَرَى سَقَطَ حُكْمُهُ فِي نَفْسِهِ وَصَارَ قَتْلًا وَالْفِعْلُ الثَّانِي هَهُنَا إتْمَامٌ لِمَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ وَتَحْقِيقٌ لَهُ بِدَلِيلِ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ السِّرَايَةِ بِعَيْنِهِ فَكَانَا جِنَايَةً وَاحِدَةً بِخِلَافِ مَا إذَا تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا بُرْءٌ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ الْأُولَى قَدْ انْتَهَتْ وَاسْتَقَرَّ حُكْمُهَا بِالْبُرْءِ فَيَكُونُ الثَّانِيَةُ إنْشَاءَ جِنَايَةٍ أُخْرَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ كَانَا خَطَأَيْنِ وَتَخَلَّلَ بُرْءٌ بَيْنَهُمَا تَجِبُ دِيَةٌ وَنِصْفٌ كَمَا لَوْ حَلَّا بِشَخْصَيْنِ. وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْجَانِي اثْنَيْنِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مِنْ الْأَوَّلِ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى أَنْ يَصِيرَ بِالسِّرَايَةِ فِعْلًا مُضَافًا إلَى شَخْصٍ آخَرَ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الثَّانِي إتْمَامًا لِلْأَوَّلِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا عَمْدًا وَالْآخَرُ خَطَأً؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْفِعْلِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُوجِبِ؛ لِأَنَّ بِاخْتِلَافِ صِفَةِ الْفِعْلِ يَخْتَلِفُ الْمُوجِبُ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الثَّانِي إتْمَامًا لِلْأَوَّلِ كَمَا إذَا اخْتَلَفَ الْفَاعِلُ أَوْ مَحَلُّ الْفِعْلِ، وَإِيضَاحُ جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا فِي فَصْلِ الْخَطَأِ أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ قَبْلَ الْبُرْءِ لَا يَجِبُ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَذَا هَهُنَا وَقُلْنَا هَذَا أَيْ الْقَتْلُ بَعْدَ الْقَطْعِ قَبْلَ الْبُرْءِ، هَكَذَا أَيْ تَحْقِيقٌ لِمُوجِبِ الْقَطْعِ كَمَا ذَكَرْتُمْ فَكَانَا جِنَايَةً وَاحِدَةً وَلَكِنَّهُ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى وَالْمَقْصُودِ فَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ الصُّورَةِ فَلِأَنَّ الْفِعْلَ مُتَعَدِّدٌ. وَقَوْلُهُ فِي بَابِ جَزَاءِ الْفِعْلِ إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْفَرْقِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي بَابِ الْقِصَاصِ جَزَاءُ الْفِعْلِ فَإِنَّمَا يَقْتُلُ نُفُوسًا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ لِتَعَدُّدِ الْأَفْعَالِ بِخِلَافِ الْخَطَأِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ بَدَلُ الْفَائِتِ فَإِنَّ جَمَاعَةً لَوْ قَتَلُوا وَاحِدًا خَطَأً لَمْ تَجِبْ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ وَهَهُنَا قَدْ تَعَدَّدَ الْفِعْلُ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّدَ الْجَزَاءُ، قَوْلُهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصْلُحُ مَاحِيًا أَثَرَ الْقَطْعِ كَمَا يَصْلُحُ مُحَقِّقًا يَعْنِي أَنَّ الْقَتْلَ بَعْدَ الْقَطْعِ كَمَا يَصْلُحُ إتْمَامًا لِلْفِعْلِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهٍ فَكَذَلِكَ يَصْلُحُ مَاحِيًا لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْبُرْءِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَحَلَّ يَفُوتُ بِهِ وَلَا تَصَوُّرَ لِلسِّرَايَةِ بَعْدَ فَوَاتِ الْمَحَلِّ وَالْقَتْلُ بِنَفْسِهِ عِلَّةٌ صَالِحَةٌ لِلْحُكْمِ وَهُوَ إزْهَاقُ الرُّوحِ فَوْقَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤَدٍّ إلَى الْإِزْهَاقِ لَا مَحَالَةَ بَلْ الْغَالِبُ فِيهِ عَدَمُهُ فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَى الْقَتْلِ ابْتِدَاءً، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاتِلَ لَوْ كَانَ غَيْرَ الْقَاطِعِ كَانَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ عَلَى الثَّانِي خَاصَّةً وَلَوْ كَانَ مُحَقِّقًا لَا مَحَالَةَ لَوَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى، {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] ، جَعَلَ الذَّكَاةَ قَاطِعَةً لِلسِّرَايَةِ وَإِلَّا لَمَا حَلَّ الْمُذَكَّى بَعْدَ جَرْحِ السَّبُعِ. وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا رَمَى إلَى صَيْدٍ تَارِكًا لِلتَّسْمِيَةِ عَمْدًا وَجَرَحَهُ ثُمَّ أَدْرَكَهُ وَذَكَّاهُ حَلَّ فَعُلِمَ أَنَّ الْفِعْلَ الثَّانِيَ يَصْلُحُ مَاحِيًا كَمَا يَصْلُحُ مُحَقِّقًا فَلِهَذَا خَيَّرْنَاهُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ وَلِكَوْنِ الْمِثْلِ الْكَامِلِ أَصْلًا فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ وَسَابِقًا عَلَى الْقَاصِرِ قُلْنَا إذَا انْقَطَعَ الْمِثْلُ فِي الْمِثْلِيِّ تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ وَقْتَ الْقَضَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ التَّحَوُّلَ إلَى الْقِيمَةِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ وَقْتَ الْقَضَاءِ إذْ الْمِثْلُ هُوَ الْوَاجِبُ فِي الذِّمَّةِ قَبْلَهُ وَهُوَ مُطَالَبٌ بِهِ حَتَّى لَوْ صَبَرَ إلَى مَجِيءٍ أَوْ أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْمِثْلِ وَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ إلَى الْقِيمَةِ لِلْعَجْزِ وَذَلِكَ وَقْتَ الْقَضَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَغْصُوبُ أَوْ الْمُسْتَهْلَكُ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمِثْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِأَدَاءِ الْمِثْلِ بَلْ هُوَ مُطَالَبٌ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ بِأَصْلِ السَّبَبِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ

إلَّا بِالْقَضَاءِ وَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ مَنَافِعَ الْأَعْيَانِ بِالْإِتْلَافِ بِطَرِيقِ التَّعَدِّي؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَيْسَ بِمِثْلٍ لَهَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى أَمَّا الصُّورَةُ فَلَا شَكَّ فِيهَا وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ إذَا وُجِدَتْ كَانَتْ إعْرَاضًا لَا تَبْقَى زَمَانَيْنِ وَلَيْسَ لِمَا لَا تَبْقَى زَمَانَيْنِ صِفَةُ التَّقَوُّمِ؛ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ لَا يَسْبِقُ الْوُجُودَ وَبَعْدَ الْوُجُودِ التَّقَوُّمُ لَا يَسْبِقُ الْإِحْرَازَ وَالِاقْتِنَاءُ، وَالْإِعْرَاضُ لَا يَقْبَلُ هَذِهِ الْأَوْصَافَ ـــــــــــــــــــــــــــــQعِنْدَ ذَلِكَ، وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ لَمَّا انْقَطَعَ الْمِثْلُ فَقَطْ اُلْتُحِقَ بِمَا لَا مِثْلَ لَهُ فِي وُجُوبِ اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَالْخَلَفُ إنَّمَا يَجِبُ بِالسَّبَبِ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْأَصْلُ وَذَلِكَ الْغَصْبُ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْغَصْبِ. وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ أَصْلُ الْغَصْبِ أَوْجَبَ الْمِثْلَ خَلَفًا عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ وَصَارَ ذَلِكَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَلَا يُوجِبُ الْقِيمَةَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْوَاحِدَ لَا يُوجِبُ ضَمَانَيْنِ وَلَكِنَّ الْمَصِيرَ إلَى الْقِيمَةِ لِلْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ الْمِثْلِ وَذَلِكَ بِالِانْقِطَاعِ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ بِآخِرِ يَوْمٍ كَانَ مَوْجُودًا فِيهِ فَانْقَطَعَ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا لَمْ يَضْمَنْ مَنَافِعَ الْأَعْيَانِ إلَى آخِرِهِ) أَيْ وَلِكَوْنِ الْمِثْلِ الْكَامِلِ أَوْ الْقَاصِرِ شَرْطًا فِي الْقَضَاءِ قُلْنَا لَا يَضْمَنُ الْمَنَافِعَ بِالْأَعْيَانِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمِثْلِ لِلْمَنَافِعِ لَا كَامِلًا وَلَا قَاصِرًا، أَوْ مَعْنَاهُ وَلِكَوْنِ الْعَجْزِ مُسْقِطًا لِلضَّمَانِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ كَمَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ لَوْ غَصَبَ زَوْجَةَ إنْسَانٍ أَوْ وَلَدَهُ وَهَلَكَ عِنْدَهُ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ لِلْعَجْزِ قُلْنَا لَا يَضْمَنُ الْمَنَافِعَ بِالْإِتْلَافِ لِلْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِ الْمِثْلِ. وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ وَلَا بِإِتْلَافٍ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ تُضْمَنُ بِهِمَا وَصُورَةُ الْغَصْبِ أَنْ يُمْسِكَ الْعَيْنَ الْمَغْصُوبَةَ مُدَّةً وَلَا يَسْتَعْمِلُهَا وَصُورَةُ الْإِتْلَافِ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا بِأَنْ يَسْتَخْدِمَ الْعَبْدَ أَوْ يَرْكَبَ الدَّابَّةَ أَوْ يَسْكُنَ الْبَيْتَ. ثُمَّ الْخِلَافُ فِي مَسْأَلَةِ الْغَصْبِ لَيْسَ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ بَلْ هُوَ بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي زَوَائِدِ الْغَصْبِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ عَلَى الْغَاصِبِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ هُوَ إزَالَةُ الْيَدِ الْمُحِقَّةِ بِإِثْبَاتِ يَدِ الْمُبْطِلَةِ وَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِزَالَةُ فِي الزَّوَائِدِ لِحُدُوثِهَا فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَكَذَلِكَ الْمَنَافِعُ أَزْهَى زَوَائِدَ تَحْدُثُ فِي الْعَيْنِ شَيْئًا فَشَيْئًا وَعِنْدَهُ هِيَ مَضْمُونَةٌ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ لَيْسَ إلَّا إثْبَاتُ الْيَدِ الْمُبْطِلَةِ وَقَدْ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الزَّوَائِدِ فَكَذَلِكَ الْمَنَافِعُ؛ لِأَنَّ الْيَدَ تَثْبُتُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ كَمَا تَثْبُتُ عَلَى الْعَيْنِ. فَأَمَّا الْخِلَافُ فِي الْإِتْلَافِ فَبِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمِثْلِ وَعَدَمِهَا لَا عَلَى إثْبَاتِ الْيَدِ وَإِزَالَتِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّوَائِدَ تُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ بِلَا خِلَافٍ فَتَحَقَّقَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّيْخَ إنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ بِالْإِتْلَافِ احْتِرَازًا عَنْ الْغَصْبِ وَبِقَوْلِهِ بِطَرِيقِ التَّعَدِّي احْتِرَازًا عَنْ الْإِتْلَافِ بِالْعَقْدِ كَالْإِجَارَةِ وَالْعَارِيَّةِ، ثُمَّ مَنَافِعُ الْحُرِّ مَضْمُونَةٌ بِالْإِتْلَافِ عِنْدَهُ قَوْلًا وَاحِدًا حَتَّى لَوْ اسْتَسْخَرَ حُرًّا وَاسْتَعْمَلَهُ لَزِمَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ وَغَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِالْغَصْبِ فِي قَوْلٍ حَتَّى اسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَحَبَسَهُ حَتَّى تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْحُرِّ تَحْتَ يَدِهِ وَلَا يَدَ لِغَيْرِهِ عَلَيْهِ كَثِيَابِ بَدَنِهِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ. وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَسْأَلَةِ الْإِتْلَافِ أَنَّ الْمَنَافِعَ أَمْوَالٌ مُتَقَوِّمَةٌ فَتُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ كَالْأَعْيَانِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنَّهَا أَمْوَالٌ بِدَلِيلِ الْحَقِيقَةِ وَالْعُرْفِ وَالْحُكْمِ، أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلِأَنَّ الْمَالَ غَيْرُ الْآدَمِيِّ خُلِقَ لِمَصَالِحِ الْآدَمِيِّ وَالْمَنَافِعُ مِنَّا أَوْ مِنْ غَيْرِنَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَكَيْفَ لَا وَالْمَصْلَحَةُ فِي التَّحْقِيقِ تَقُومُ بِمَنَافِعِ الْأَشْيَاءِ لَا بِذَوَاتِهَا، وَالذَّوَاتُ تَصِيرُ مُتَقَوِّمَةً وَمَالًا بِمَنَافِعِهَا، إذْ كُلُّ شَيْءٍ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لَا يَكُونُ مَالًا فَكَيْفَ يَسْقُطُ حُكْمُ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ عَنْهَا. وَأَمَّا الْعُرْفُ فَلِأَنَّ الْأَسْوَاقَ إنَّمَا تَقُومُ بِالْمَنَافِعِ وَالْأَعْيَانِ جَمِيعًا فَإِنَّ الْحَجَرَ وَالْخَانَاتِ إنَّمَا بُنِيَتْ لِلتِّجَارَةِ وَقَدْ يَسْتَأْجِرُ الْمَرْءُ جُمْلَةً وَيُؤَاجِرُ مُتَفَرِّقًا لِابْتِغَاءِ الرِّبْحِ كَمَا يَشْتَرِي جُمْلَةً وَيَبِيعُ مُتَفَرِّقًا. وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّهَا فِي الشَّرْعِ عُدْت أَمْوَالًا مُتَقَوِّمَةً حَتَّى صَلُحَتْ مَهْرًا وَوَرَدَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا وَضُمِنَتْ بِالْمَالِ فِي الْعُقُودِ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ

إلَّا أَنْ يُثْبِتَ إحْرَازُهَا بِوِلَايَةِ الْعَقْدِ حُكْمًا شَرْعِيًّا بِنَاءً عَلَى جَوَازِ الْعَقْدِ فَلَا يَثْبُتُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْعَقْدِ بَلْ يَثْبُتُ التَّقَوُّمُ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ خَاصَّةً وَلِأَنَّ التَّقَوُّمَ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ ثَبَتَ لِقِيَامِ الْعَيْنِ مَقَامَهَا ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالْإِجْمَاعِ وَالْعَقْدُ لَا يَجْعَلُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ مَالًا وَلَا مَا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ مُتَقَوِّمًا كَوُرُودِ الْعَقْدِ عَلَى الْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا أَمْوَالٌ مُتَقَوِّمَةٌ وَقَدْ تَحَقَّقَ إتْلَافُهَا؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالشَّيْءِ إتْلَافٌ لِمَنَافِعِهِ تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ، وَلِعُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي نَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الْمَنْفَعَةِ وَالْعَيْنِ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا نَفْيُهَا بِنَفْيِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ عَنْ الْمَنْفَعَةِ أَصْلًا، وَثَانِيهِمَا بِإِثْبَاتِ التَّفَاوُتِ فِي الْمَالِيَّةِ بَيْنَهُمَا، بَيَانُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَيْسَتْ بِمَالٍ وَلَا بِمُتَقَوِّمَةٍ فَلَا تُضْمَن بِالْإِتْلَافِ بِالْمَالِ كَالْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْمَالِيَّةِ لِلشَّيْءِ بِالتَّمَوُّلِ وَالتَّمَوُّلُ عِبَارَةٌ عَنْ صِيَانَةِ الشَّيْءِ وَادِّخَارِهِ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ لَا عَنْ الِانْتِفَاعِ بِالْإِتْلَافِ فَإِنَّ الْأَكْلَ لَا يُسَمَّى تَمَوُّلًا وَالْمَنَافِعُ لَا تَبْقَى وَقْتَيْنِ بَلْ كَمَا تُوجَدُ تَتَلَاشَى فَكَيْفَ يَرِدُ عَلَيْهَا التَّمَوُّلَ، وَكَذَا التَّقَوُّمُ الَّذِي هُوَ شَرْطُ الضَّمَانِ وَمَبْنَاهُ لَا يَسْبِقُ الْوُجُودَ فَإِنَّ الْمَعْدُومَ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ إذْ الْمَعْدُومُ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَبَعْدَ الْوُجُودِ التَّقَوُّمُ لَا يَسْبِقُ الْأَحْرَازَ كَالصَّيْدِ وَالْحَشِيشِ وَالْأَحْرَازُ لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُتَقَوِّمًا. وَلَا يُقَالُ الْمَنَافِعُ تُوجَدُ مُحْرَزَةً ضَرُورَةً إحْرَازَ مَا قَامَتْ هِيَ بِهِ، لِأَنَّا نَقُولُ إنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّهَا يَكُونُ مُحْرَزَةً لِلْغَاصِبِ لَا لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَإِحْرَازُ الْغَاصِبِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ كَمَا فِي زَوَائِدِ الْغَصْبِ لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ عِنْدَنَا، وَلَوْ كَانَتْ مُحْرَزَةً لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إحْرَازٌ ضِمْنِيٌّ لَا قَصْدِيٌّ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ كَالْحَشِيشِ النَّابِتِ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ وَإِنْ كَانَ مُحْرَزًا ضِمْنًا لِإِحْرَازِ الْأَرْضِ. وَعَلَى هَذَا نَقُولُ الْإِتْلَافُ يُتَصَوَّرُ فِي الْمَنْفَعَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُحِلُّ الْمَعْدُومَ وَلَا يَأْتِي مُقْتَرِنًا بِالْوُجُودِ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّهُ فَيَمْتَنِعُ الْوُجُودُ وَإِنَّمَا يَأْتِي بَعْدَهُ وَهِيَ لَا تَبْقَى فِي الزَّمَانِ الثَّانِي لَيُحِلُّهُ الْإِتْلَافُ وَإِثْبَاتُ الْحُكْمِ بِدُونِ تَحَقُّقِ سَبَبِهِ لَا يَجُوزُ، وَبَيَانُ الثَّانِي أَنَّ ضَمَانَ الْعُدْوَانِ مُقَدَّرٌ بِالْمِثْلِ بِالنَّصِّ وَالْمَنَافِعُ وَإِنْ كَانَتْ أَمْوَالًا مُتَقَوِّمَةً فَهِيَ دُونَ الْأَعْيَانِ فِي الْمَالِيَّةِ فَلَا تُضْمَنُ بِالْأَعْيَانِ كَمَا لَا تُضْمَنُ الدُّيُونُ بِالْعَيْنِ وَالرَّدِيءُ بِالْجَيِّدِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ تُقَوَّمُ بِالْعَيْنِ وَالْعَيْنُ تُقَوَّمُ بِنَفْسِهَا وَمَا يُقَوَّمُ بِغَيْرِهِ تَبَعٌ لَهُ وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ التَّبَعِ وَالْمَتْبُوعِ ظَاهِرٌ. وَكَذَا الْمَنَافِعُ لَا تَبْقَى وَقْتَيْنِ وَالْعَيْنُ أَوْقَاتًا وَبَيْنَ مَا تَبْقَى وَبَيْنَ مَا لَا تَبْقَى تَفَاوُتٌ عَظِيمٌ ثُمَّ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ الشَّيْءِ مِثْلًا لِغَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْغَيْرُ مِثْلًا لَهُ إذْ هُوَ اسْمٌ إضَافِيٌّ كَالْأَخِ وَالْعَيْنُ لَا تُضْمَنُ فِي بَابِ الْعُدْوَانِ بِالْمَنْفَعَةِ قَطُّ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَهُمَا، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَا تُضْمَنُ بِالْمَنْفَعَةِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ حَتَّى أَنَّ الْحَجَرَ فِي خَانٍ وَاحِدٍ عَلَى تَقْطِيعٍ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ مَنْفَعَةُ أَحَدَيْهِمَا مِثْلًا لِمَنْفَعَةِ الْأُخْرَى عِنْدَ الْإِتْلَافِ بِالْإِجْمَاعِ مَعَ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنْفَعَةِ أَظْهَرُ مِنْهَا بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ فَلَأَنْ لَا يَضْمَنَ الْمَنْفَعَةَ بِالْعَيْنِ وَهِيَ الدَّرَاهِمُ أَوْ الدَّنَانِيرُ أَوْلَى فَالشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَشَارَ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَيْسَ بِمِثْلٍ لَهَا إلَى آخِرِهِ إلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ وَبِقَوْلِهِ وَلِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ مَا يَبْقَى إلَى آخِرِهِ إلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي. قَوْلُهُ (إلَّا أَنْ يَثْبُتَ إحْرَازُهَا) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلَيْسَ لِمَا لَا يَبْقَى صِفَةُ التَّقَوُّمِ أَيْ وَلَيْسَ لِمَا لَا يَبْقَى صِفَةُ التَّقَوُّمِ حَقِيقَةً إلَّا أَنْ يَثْبُتَ إحْرَازُهَا شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيَتَقَوَّمُ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ قَدْ ثَبَتَتْ لَهَا صِفَةُ التَّقَوُّمِ فِي بَابِ الْعَقْدِ مَعَ اسْتِحَالَةِ إحْرَازِهَا حَقِيقَةً لِعَدَمِ بَقَائِهَا زَمَانَيْنِ فَجَازَ

وَهَذَا أَصَحُّ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنْ تَثْبُتَ لَهَا هَذِهِ الصِّفَةُ فِي الْإِتْلَافِ أَيْضًا سَدًّا لِبَابِ الْعُدْوَانِ فَأَجَابَ أَنَّ إحْرَازَهَا وَتَقَوُّمَهَا فِي بَابِ الْعَقْدِ إنَّمَا ثَبَتَ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى بِنَاءً عَلَى جَوَازِ الْعَقْدِ يَعْنِي لَمَّا جَازَ الْعَقْدُ شَرْعًا يَثْبُتُ الْإِحْرَازُ ضَرُورَةً بِنَاءً عَلَيْهِ فَلَا يَثْبُتُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْعَقْدِ، وَلَا يُقَالُ وَقَدْ ثَبَتَ التَّقَوُّمُ لَهَا فِي غَيْرِ الْعَقْدِ أَيْضًا كَمَا إذَا وَطِئَ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ يَجِبُ نِصْفُ الْعُقْرِ لِصَاحِبِهِ، لِأَنَّا نَقُولُ: مَنَافِعُ الْبُضْعِ الْتَحَقَتْ بِالْأَعْيَانِ عِنْدَ الدُّخُولِ عَلَى مَا عُرِفَ فَيَكُونُ الضَّمَانُ فِي مُقَابَلَةِ الْعَيْنِ حُكْمًا، وَلِأَنَّهَا إنَّمَا تُضْمَنُ بِالْعُقْرِ إذَا كَانَتْ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَقْدِ فَأَمَّا إذَا كَانَ عُدْوَانًا مَحْضًا فَلَا يَجِبُ الْعُقْرُ وَإِنَّمَا يَجِبُ الْحَدُّ، وَهَذَا الْجَوَابُ يُشِيرُ إلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْمُقَايَسَةِ بَيْنَ الْعَقْدِ وَالْإِتْلَافِ لِكَوْنِ الْأَصْلِ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى. وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ التَّقَوُّمَ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ ثَبَتَ بِقِيَامِ الْعَيْنِ مَقَامَهَا) جَوَابٌ آخَرُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ يَعْنِي لَمَّا كَانَ بِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَى هَذَا الْعَقْدِ أَقَامَ الشَّرْعُ الْعَيْنَ الْمُنْتَفَعَ بِهَا مُقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي قَبُولِ الْعَقْدِ إذْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَحَلٍّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى الْمَنَافِعِ لَا يَصِحُّ بِأَنْ قَالَ: آجَرْتُك مَنَافِعَ هَذِهِ الدَّارِ شَهْرًا ثُمَّ عِنْدَ حُدُوثِ الْمَنْفَعَةِ يَثْبُتُ حُكْمُ الْعَقْدِ فِيهَا فَيَثْبُتُ التَّقَوُّمُ لَهَا بِهَذَا الطَّرِيقِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ مِثْلُ هَذِهِ الضَّرُورَةِ فِي الْعُدْوَانِ فَتَبْقَى الْحَقِيقَةُ مُعْتَبَرَةً. 1 - قَوْلُهُ (وَهَذَا أَصَحُّ) اعْلَمْ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَعَلَ الْمَنَافِعَ الْمَعْدُومَةَ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ كَالْمَوْجُودَةِ حُكْمًا؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ لَا تَصِحُّ إلَّا مُضَافَةً إلَى مَحَالِّ أَحْكَامِهَا وَالْحُكْمُ وَهُوَ الْمِلْكُ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْمَنْفَعَةِ دُونَ الدَّارِ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا حَالَ الْعَقْدِ إمَّا حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ لِيَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْمُقَدَّرِ عَلَى مِثَالِ الْحُكْمِ فِي الْمُحَقَّقِ فَأَنْزَلَ الْمَنَافِعَ مَوْجُودَةً تَحَرِّيًا لِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَاعْتُبِرَتْ الْإِضَافَةُ إلَى الدَّارِ؛ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الْمَنْفَعَةِ فَصَارَتْ الْمَنْفَعَةُ بِذِكْرِهَا مَذْكُورَةً؛ لِأَنَّ بِاعْتِبَارِهَا حَدَثَتْ لَهَا عَرْضِيَّةُ الْوُجُودِ وَصَارَ كَالنُّطْفَةِ فِي الرَّحِمِ يُعْطَى لَهَا حُكْمُ الْوَلَدِ الْحَيِّ بِاعْتِبَارِ الْعَرْضِيَّةِ. وَعِنْدَنَا عَقْدُ الْإِجَارَةِ مُضَافٌ إلَى الْعَيْنِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ خَلَفًا عَنْ الْمَنَافِعِ فِي حَقِّ كَوْنِهَا شَرْطًا لِلْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ إلَّا بِالْإِضَافَةِ إلَى مَحَلٍّ فَصَارَ وُجُودُ الْمَحَلِّ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَتَعَذَّرَ اعْتِبَارُ هَذَا الشَّرْطِ بِحَقِّيَّتِهِ فِي بَيْعِ الْمَنَافِعِ إذْ لَا وُجُودَ لَهَا حَالَةَ الْعَقْدِ وَلَا بَقَاءَ لَهَا بَعْدَ الْوُجُودِ فَأَقَمْنَا الدَّارَ مُقَامَ الْمَنْفَعَةِ لِصِحَّةِ الْإِضَافَةِ ثُمَّ بَعْدَمَا وُجِدَ اللَّفْظَانِ الْمُرْتَبِطَانِ وَصَارَا عِلَّةً لِإِثْبَاتِ حُكْمٍ يَتَأَخَّرُ عَمَلُهُمَا فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ وَهُوَ الْمِلْكُ إلَى حِينِ وُجُودِ الْمَنَافِعِ حَقِيقَةً سَاعَةً فَسَاعَةً، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ اللَّفْظُ الصَّادِرُ مِنْهُمَا مُضَافًا إلَى مَحَلِّ الْمَنْفَعَةِ صَحَّ كَلَامًا وَهُوَ الْعَقْدُ مِنْهُمَا إذْ الْعَقْدُ فَعَلَهُمَا وَلَا فِعْلَ يَصْدُرُ مِنْهُمَا سِوَى تَرْتِيبِ الْقَبُولِ عَلَى الْإِيجَابِ ثُمَّ الِانْعِقَادُ حُكْمُ الشَّرْعِ يَثْبُتُ وَصْفًا لِكَلَامِهِمَا شَرْعًا فَجَازَ أَنْ يُقَالَ الْعَقْدُ قَدْ وُجِدَ مِنْهُمَا وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامَيْنِ يَتَرَتَّبُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَيَحْكُمُ الشَّرْعُ بِالِانْعِقَادِ عِنْدَ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ سَاعَةً فَسَاعَةً كَذَا فِي إشَارَاتِ الْأَسْرَارِ لِلشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي الْفَضْلِ الْكَرْمَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فَعَلَى الطَّرِيقَةِ الْأُولَى يَكُونُ الْعَقْدُ مُنْعَقِدًا فِي حَقِّ الْعَيْنِ وَالْحُكْمُ يَنْفُذُ فِي الْمَنْفَعَةِ وَعَلَى الطَّرِيقَةِ الثَّانِيَةِ يَنْعَقِدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ لَا عَلَى الْعَيْنِ، فَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَنَقُولُ أَجَابَ الشَّيْخُ عَنْ السُّؤَالِ الْمُقَدَّرِ عَلَى مُعْتَقِدِ الْخَصْمِ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ إحْرَازُهَا بِوِلَايَةِ

أَلَا تَرَى أَنَّ ضَمَانَ الْعَقْدِ فَاسِدًا كَانَ أَوْ جَائِزًا يَجِبُ بِالتَّرَاضِي فَوَجَبَ بِنَاءُ التَّقَوُّمِ عَلَى التَّرَاضِي، وَضَمَانُ الْعُدْوَانِ يَعْتَمِدُ أَوْصَافَ الْعَيْنِ وَالرُّجُوعُ إلَيْهَا يَمْنَعُ التَّقَوُّمَ عَلَى مَا عُرِفَ وَلِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ مَا يَبْقَى وَتَقَوُّمِ الْعَرْضِ بِهِ وَبَيْنَ الْعَرْضِ الْقَائِمِ بِهِ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ فَلَمْ يَصْلُحْ مَثَلًا لَهُ مَعْنًى بِحُكْمِ الشَّرْعِ فِي الْعُدْوَانِ بِخِلَافِ ضَمَانِ الْعُقُودِ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ مَشْرُوعَةٌ فَبُنِيَتْ عَلَى الْوُسْعِ وَالتَّرَاضِي ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعَقْدِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ يَرُدُّ عَلَى الْمَنْفَعَةِ ابْتِدَاءً، ثُمَّ أَجَابَ عَلَى مَذْهَبِهِ ثَانِيًا بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّ التَّقَوُّمَ إلَى آخِرِهِ وَرَجَّحَ مَذْهَبَهُ بِقَوْلِهِ وَهَذَا أَصَحُّ وَوَجْهُهُ أَنَّ مَا قَالَهُ الْخَصْمُ قَلْبُ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ جَعْلُ الْمَعْدُومِ مَوْجُودًا وَمَا قُلْنَا إبْقَاءُ الْأَمْرِ عَلَى حَقِيقَةٍ وَتَأْخِيرُ الْحُكْمِ إلَى حِينِ الْوُجُودِ وَأَنَّهُ قَابِلٌ لِلتَّأَخُّرِ وَالتَّرَاخِي كَمَا إذَا أَوْصَى بِمَا يُثْمِرُ نَخِيلَهُ يَتَأَخَّرُ حُكْمُهُ إلَى حِينِ وُجُودِ الثَّمَرَةِ لَا أَنَّهَا تُجْعَلُ مَوْجُودَةً، وَلِأَنَّ إقَامَةَ السَّبَبِ مُقَامَ الْمُسَبَّبِ فِي الشَّرْعِ أَمْرٌ شَائِعٌ كَإِقَامَةِ السَّفَرِ مُقَامَ الْمَشَقَّةِ وَالنَّوْمِ مُقَامَ الْحَدَثِ وَالْبُلُوغِ مُقَامَ اعْتِدَالِ الْعَقْلِ وَحَدَثِ الْمِلْكِ مُقَامَ شَغْلِ الرَّحِمِ فِي وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ فَأَمَّا جَعْلُ الْمَعْدُومِ مَوْجُودًا فَلَيْسَ لَهُ فِي الشَّرْعِ اسْتِمْرَارٌ مِثْلُ اسْتِمْرَارِ مَا ذَكَرْنَا فَيَكُونُ مَا قُلْنَا أَصَحَّ وَقَوْلُهُ. (أَلَا تَرَى أَنَّ ضَمَانَ الْعَقْدِ فَاسِدًا كَانَ أَوْ جَائِزًا يَجِبُ بِالتَّرَاضِي) جَوَابٌ آخَرُ عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ الْمُقَدَّرِ بِطَرِيقِ التَّوْضِيحِ، وَهَذَا الْجَوَابُ يَثْبُتُ وَصْفًا مُفَارِقًا بِهِ يُفْسِدُ الْقِيَاسَ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ ثَبَتَ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ مَعْقُولَ الْمَعْنَى فَفِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ وَصْفٌ يُفَارِقُ بِهِ الْمَقِيسَ وَهُوَ الرِّضَاءُ؛ لِأَنَّ لِلرِّضَاءِ أَثَرًا فِي إيجَابِ أَصْلِ الْمَالِ وَفَضْلِهِ فَيَجِبُ الْأَجْرُ بِالتَّرَاضِي فَأَمَّا ضَمَانُ الْعُدْوَانِ فَمَبْنِيٌّ عَلَى أَوْصَافِ الْعَيْنِ وَالرُّجُوعُ إلَى أَوْصَافِ الْمَحَلِّ يُوجِبُ عَدَمَ الضَّمَانِ هَهُنَا فَصَارَ هَذَا الْقِيَاسُ كَمَا قِيلَ مَسُّ الْفَرْجِ حَدَثٌ كَمَا إذَا مَسَّ وَبَالَ، وَالْغَرَضُ مِنْ إيرَادِهِ هُوَ الْجَوَابُ عَنْ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ مَا ذُكِرَ أَوَّلًا إنَّمَا يَصْلُحُ جَوَابًا عَنْ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ لَا عَنْ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ التَّقَوُّمِ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْعَقْدِ الْجَائِزِ دُونَ الْفَاسِدِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا تَتَقَوَّمَ الْمَنَافِعُ فِيهِ كَمَا فِي الْإِتْلَافِ وَالْغَصْبِ، فَأَمَّا إثْبَاتُ التَّقَوُّمِ وَالْتِزَامُ الْمَالِ بِطَرِيقِ التَّرَاضِي فَمَوْجُودٌ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ بِخِلَافِ الْإِتْلَافِ وَالْغَصْبِ، ثُمَّ الِانْفِصَالُ عَنْ لُزُومِ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا هُوَ أَنَّ التَّقَوُّمَ لَمَّا ظَهَرَ فِي حَقِّ الْعَقْدِ لَا تَمَيُّزَ فِيهِ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ بَلْ يُؤْخَذُ حُكْمُ الْفَاسِدِ مِنْ الصَّحِيحِ وَلَا يُجْعَلُ الْفَاسِدُ بِنَفْسِهِ أَصْلًا. قَوْلُهُ (وَلِأَنَّ التَّفَاوُتَ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعَيْنَ تَبْقَى وَالْمَنْفَعَةَ لَا تَبْقَى وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْمَنْفَعَةَ تُقَوَّمُ بِالْعَيْنِ لِكَوْنِهَا عَرَضًا وَالْعَيْنُ تُقَوَّمُ بِنَفْسِهَا فَجَمَعَ الشَّيْخُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ بِقَوْلِهِ بَيْنَ مَا تَبْقَى وَتَقَوُّمِ الْعَرَضِ بِهِ وَبَيْنَ الْعَرَضِ الْقَائِمِ بِهِ أَيْ الْعَرَضِ الَّذِي لَا يَبْقَى وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ قَوْلِهِ (تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ) قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - التَّفَاوُتُ بِاعْتِبَارِ الْبَقَاءِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ إيجَابِ الضَّمَانِ بَعْدَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْوُجُودِ كَمَا إذَا أَتْلَفَ مَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ نَحْوُ الْجُمْدِ وَالْبِطِّيخِ فَإِنَّهُ تُضْمَنُ الدَّرَاهِمُ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فِي الْبَقَاءِ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ يَبْقَى أَزْمِنَةً كَثِيرَةً وَالْجُمْدُ وَنَحْوُهُ لَا يَبْقَى فَكَذَا التَّفَاوُتُ الَّذِي بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ فِي الْبَقَاءِ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الضَّمَانِ لِتَسَاوِيهِمَا فِي أَصْلِ الْوُجُودِ، فَأَجَابَ الشَّيْخُ بِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا فَاحِشٌ لَا يَبْقَى مَعَهُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فَمَنَعَ مِنْ إيجَابِ الضَّمَانِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَهُوَ الْمَالِيَّةُ لَا فِي كُلِّ مَعْنًى فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ مِثْلٌ لِلْحَيَوَانِ فِي الْمَالِيَّةِ لَا غَيْرُ وَهَهُنَا التَّفَاوُتُ فِي نَفْسِ الْمَالِيَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَالِيَّةَ الْمَنَافِعِ لَا تُسَاوِي مَالِيَّةَ الْأَعْيَانِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقْبَلُ الْبَقَاءَ وَالْمَالِيَّةُ صِفَةٌ لِلْمَوْجُودِ، فَإِذَا كَانَ

بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا وَسَقَطَ اعْتِبَارُ هَذَا التَّفَاوُتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اعْتِبَارَ هَذَا التَّفَاوُتِ فِي ضَمَانِ الْعُقُودِ يُبْطِلُهَا أَصْلًا وَاعْتِبَارُهُ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ لَا يُبْطِلُهُ أَصْلًا بَلْ يُؤَخِّرُهُ إلَى دَارِ الْجَزَاءِ؛ لِأَنَّهُ بَطَلَ حُكْمًا لِعَجْزٍ نَابَهُ لَا لِعَدَمِهِ فِي نَفْسِهِ وَإِهْدَارُ التَّفَاوُتِ يُوجِبُ ضَرَرًا لَازِمًا لِلْغَاصِبِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَمْ يَحْصُلْ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْجَائِزِ وَالْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيمَا شُرِعَ ضَرُورَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَوْجُودُ غَيْرَ قَابِلٍ لِلْبَقَاءِ كَيْفَ يَكُونُ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ فِيهِمَا مِثْلَ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ فِي الْأَعْيَانِ فَأَشْبَهَ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ بِخِلَافِ مَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّرَاهِمِ فِي مِقْدَارِ الْبَقَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى فِي زَمَانَيْنِ وَأَزْمِنَةٍ كَثِيرَةٍ إلَّا أَنَّ الدَّرَاهِمَ أَكْثَرُ بَقَاءً مِنْهُ وَمِثْلُ هَذَا التَّفَاوُتِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُتْلِفِ وَبَدَلِهِ إنَّمَا يُشْتَرَطُ حَالَ وُجُوبِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهَا حَالَ إقَامَةِ أَحَدِهِمَا مُقَامَ الْآخَرِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْصُوفًا بِالْبَقَاءِ لِيَصِحَّ الْمُقَابَلَةُ بِوُجُودِ الْمُسَاوَاةِ فَأَمَّا الْبَقَاءُ بَعْدَ الْإِقَامَةِ فَلَيْسَتْ مِنْ مُوجِبِ الْغَصْبِ وَالْعُدْوَانِ فَلِهَذَا لَا يَمْنَعُ التَّفَاوُتُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوبِ الضَّمَانِ قَوْلُهُ (بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا) . (فَإِنْ قِيلَ) الْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَى إهْدَارِ هَذَا التَّفَاوُتِ هَهُنَا أَيْضًا سَدًّا لِبَابِ الْعُدْوَانِ إذْ فِي اعْتِبَارِهِ انْفِتَاحُ بَابِ الظُّلْمِ وَتَضَيُّقُ الْأَمْرِ عَلَى النَّاسِ (قُلْنَا) لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمْت فَإِنَّ مِسَاسَ الْحَاجَةِ فِيمَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ وَهُوَ مَا كَانَ مَشْرُوعًا لَا فِيمَا يَنْدُرُ وُجُودُهُ وَهُوَ الْعُدْوَانُ فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَسَبِيلُهُ أَنْ لَا يُوجَدَ كَيْفَ وَقَدْ أَوْجَبْنَا لِلزَّجْرِ التَّعْزِيرَ وَالْحَبْسَ فَإِنَّهُ ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَعِنْدَنَا يَأْثَمُ وَيُؤَدَّبُ عَلَى مَا صَنَعَ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا. (فَإِنْ قِيلَ) فِي اعْتِبَارِ هَذَا التَّفَاوُتِ إبْطَالُ حَقِّ الْمَالِكِ أَصْلًا وَفِي إهْدَارِهِ وَإِيجَابِ الضَّمَانِ إبْطَالُ حَقِّ الْغَاصِبِ وَصْفًا فَكَانَ تَرْجِيحُ حَقِّ صَاحِبِ الْأَصْلِ أَوْلَى كَيْفَ وَأَنَّهُ مَظْلُومٌ وَالْغَاصِبُ ظَالِمٌ وَإِلْحَاقُ الْحَبْسِ بِالظَّالِمِ أَوْلَى (قُلْنَا) حَقُّ الْغَاصِبِ فِيمَا وَرَاءَ ظُلْمِهِ مُحْتَرَمٌ مَعْصُومٌ لَا يَجُوزُ تَفْوِيتُهُ عَلَيْهِ وَلِهَذَا قَدَّرَ الضَّمَانَ بِالْمِثْلِ وَإِنَّمَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الضَّمَانِ مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ الِانْتِصَافِ مَعَ قِيَامِ حُرْمَةِ مَالِهِ فَلَا يَتَرَجَّحُ حَقُّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَلَى الْغَاصِبِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ حَقُّ الْغَاصِبِ يَفُوتُ وَصْفًا وَحَقُّ الْمَالِكِ يَفُوتُ أَصْلًا فَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَالِكِ لَا يَفُوتُ بَلْ يَتَأَخَّرُ إلَى دَارِ الْجَزَاءِ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ نَحْوُ حَقِّ الشَّتْمِ وَالْأَذَى، فَأَمَّا حَقُّ الْغَاصِبِ فِي الْوَصْفِ فَيَبْطُلُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَمَا يَسْتَحِقُّ بِالْقَضَاءِ الَّذِي هُوَ حُجَّةُ الشَّرْعِ لَا تَوَصُّلَ إلَيْهِ فِي دَارِ الْآخِرَةِ فَكَانَ تَأَخُّرُ الْأَصْلِ أَهْوَنَ مِنْ إبْطَالِ الْوَصْفِ. يُوَضِّحُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ زِيَادَةً عَلَى مَا أَتْلَفَ كَانَ ظُلْمًا مُضَافًا إلَى الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ هُوَ الشَّرْعُ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَإِذَا لَمْ يُوجِبْ الضَّمَانَ لِتَعَذُّرِ إيجَابِ الْمِثْلِ كَانَ ذَلِكَ لِضَرُورَةٍ ثَابِتَةٍ فِي حَقِّنَا وَهِيَ أَنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى الْقَضَاءِ بِالْمِثْلِ وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ. وَقَوْلُهُ: " أَلَا تَرَى " تَوْضِيحٌ لِقَوْلِهِ: " وَسَقَطَ اعْتِبَارُ هَذَا التَّفَاوُتِ " وَدَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَتَقْدِيرُهُ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ هَذَا التَّفَاوُتِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْقُطْ وَبَقِيَ مُعْتَبَرًا لَأَدَّى إلَى إبْطَالِ الْعُقُودِ أَصْلًا قَوْلُهُ (يُبْطِلُهَا أَصْلًا) أَيْ الْعُقُودَ؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِلِاسْتِرْبَاحِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِالتَّفَاوُتِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ فَإِنَّ الْبَائِعَ يَرَى خَيْرِيَّةً فِي الثَّمَنِ نَظَرًا إلَى جَانِبِهِ وَالْمُشْتَرِي كَذَلِكَ فِي جَانِبِ الْمَبِيعِ فَيَتَبَايَعَانِ طَلَبًا لِلْفَضْلِ الَّذِي رَأَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَالِ صَاحِبِهِ وَلَا كَذَلِكَ فِي بَابِ الْعُدْوَانِ لِمَا ذَكَرَ. وَقَدْ أَوْرَدْت هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِطَرِيقٍ آخَرَ فَلَا بُدَّ مِنْ شَرْحِهِ أَيْضًا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ " وَلَيْسَ إلَى التَّقَوُّمِ حَاجَةٌ؛ إذْ الِاسْتِبْدَالُ صَحِيحٌ مِنْ غَيْرِ التَّقَوُّمِ " مَعْنَاهُ أَنَّهَا قَدْ تَقَوَّمَتْ فِي بَابِ الْعُقُودِ لَا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ إذْ هِيَ تَنْدَفِعُ بِالِاسْتِبْدَالِ مِنْ غَيْرِ تَقَوُّمٍ كَمَا فِي الْخُلْعِ وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمٍ

[القضاء بمثل غير معقول]

وَأَمَّا الْقَضَاءُ بِمِثْلٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ فَهُوَ كَغَيْرِ الْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ إذَا ضُمِنَ بِالْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ كَانَ مِثْلًا غَيْرَ مَعْقُولٍ مِثْلُ النَّفْسِ تُضْمَنُ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَيْسَ بِمِثْلٍ لِلنَّفْسِ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مَالِكٌ وَالْمَالَ مَمْلُوكٌ فَلَا يَتَشَابَهَانِ بِوَجْهٍ وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ الْمَالَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ مِثْلًا عِنْدَ احْتِمَالِ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ مِثْلُ الْأَوَّلِ صُورَةً وَمَعْنًى وَهُوَ إلَى الْإِحْيَاءِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ أَقْرَبُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَاحِمَهُ مَا لَيْسَ بِمِثْلٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعَمْدِ وَلَمَّا تَقَوَّمَتْ فِيهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ عَرَفْنَا أَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِيهَا فَيَثْبُتُ تَقَوُّمُهَا فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ أَيْضًا، ثُمَّ أَجَابَ عَنْهُ فَقَالَ: إنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى ثُبُوتَ تَقَوُّمِهَا لِمَا مَرَّ مِنْ الدَّلَائِلِ وَلَكِنَّهَا تَقَوَّمَتْ بِالنَّصِّ فِي الْعَقْدِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَى التَّقَوُّمِ حَاجَةٌ فَنَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى. قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ) أَيْ بِأَنَّ التَّقَوُّمَ ثَبَتَ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ ابْتِغَاءَ الْإِبْضَاعِ بِالْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ بِقَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] ، وَالْأَمْوَالُ إنَّمَا تُضَافُ إلَيْنَا بِوَاسِطَةِ الْإِحْرَازِ الَّذِي بِهِ يَثْبُتُ التَّقَوُّمُ لِلْأَمْوَالِ فَثَبَتَ أَنَّ الِابْتِغَاءَ بِالْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ. ، ثُمَّ هَذَا النَّصُّ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ الِابْتِغَاءُ إلَّا بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] بِشَرْطِ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَالْمَشْرُوطُ لَا وُجُودَ لَهُ بِدُونِ الشَّرْطِ، وَالشَّرْعُ جَوَّزَ الِابْتِغَاءَ بِالْمَنَافِعِ فَإِنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى رَعْيِ غَنَمِهَا سَنَةً جَازَ قَالَ تَعَالَى إخْبَارًا عَنْ شُعَيْبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] ، فَعَرَفْنَا ضَرُورَةَ أَنَّ الْمَنَافِعَ فِي الْعَقْدِ أَمْوَالٌ مُتَقَوِّمَةٌ حَيْثُ صَحَّ الِابْتِغَاءُ بِهَا، وَبَطَلَتْ الْمُقَايَسَةُ؛ لِأَنَّهُ قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالْعُدْوَانِ يَعْنِي لَا يَثْبُتُ بِهِ أَصْلُ الْمَالِ وَلَا فَضْلُهُ فَإِنَّهُ إذَا أَتْلَفَ جِلْدَ مَيْتَةٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَوْ أَتْلَفَ ثَوْبَ إنْسَانٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلْعُدْوَانِ فِي إيجَابِ أَصْلٍ وَلَا فَضْلٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْقَضَاءُ بِمِثْلٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ] قَوْلُهُ (لِأَنَّ الْمَالَ لَيْسَ بِمِثْلٍ لِلنَّفْسِ صُورَةً) وَهَذَا ظَاهِرٌ إذْ لَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْآدَمِيِّ وَالْإِبِلِ أَوْ الدَّرَاهِمِ صُورَةً، وَلَا مَعْنَى؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مَالِكٌ مُبْتَذِلٌ لِمَا سِوَاهُ وَالْمَالُ مَمْلُوكٌ مُبْتَذَلٌ لَهُ وَلَا تَسَاوِيَ بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْمَمْلُوكِ بَلْ هُمَا عَلَى التَّضَادِّ فِي الدَّرَجَةِ هَذَا فِي الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا وَذَلِكَ فِي الدَّرَجَةِ السُّفْلَى، وَلِأَنَّ مَعْنَى الْمَالِ هُوَ مَا خُلِقَ الْمَالُ لَهُ مِنْ إقَامَةِ الْمَصَالِحِ بِهِ وَمَعْنَى الْآدَمِيِّ هُوَ مَا خُلِقَ لَهُ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ وَالْخِلَافَةِ فِي أَرْضِهِ لِإِقَامَةِ حُقُوقِهِ وَتَحَمُّلِ أَمَانَتِهِ وَلَا مُشَابَهَةَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ، وَلِأَنَّ الْمَالَ جُعِلَ مِثْلٌ لِمَالٍ آخَرَ يُخَالِفُهُ صُورَةً بِتَسَاوِيهِمَا فِي قَدْرِ الْمَالِيَّةِ لَا غَيْرُ وَهَذَا الْمُتْلِفُ لَيْسَ بِمَالٍ فَكَانَ طَرِيقُ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا مُنْسَدًّا، وَلِأَنَّ الْمِثْلَ مَعْنًى عِبَارَةٌ عَنْ قِيمَةِ الشَّيْءِ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ قَدْرِ مَالِيَّتِهِ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الشَّيْءُ مَالًا لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ وَلِكَوْنِ الْمُمَاثَلَةِ غَيْرَ مَعْقُولَةٍ بَيْنَ الْمَالِ وَالنَّفْسِ قُلْنَا الْمَالُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِطَرِيقِ الْمِثْلِ عِنْدَ احْتِمَالِ الْقَوَدِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ مِثْلًا؛ لِأَنَّ الْمَالَ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ مَشْرُوعٌ مَعَ احْتِمَالِ الْقَوَدِ بِالِاتِّفَاقِ. وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ الْقَوَدُ عَلَى التَّعْيِينِ عِنْدَنَا لَا يُعْدَلُ عَنْهُ إلَى الْمَالِ إلَّا صُلْحًا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ مُوجِبُهُ الْقَوَدُ أَوْ الدِّيَةُ وَالْخِيَارُ إلَى الْوَلِيِّ فِي التَّعْيِينِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ» ، فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوجِبٌ الْقَتْلَ وَإِنَّ الْوَلِيَّ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْقَتْلِ شُرِعَ لِجَبْرِ حَقِّ الْمَقْتُولِ فِيمَا فَاتَ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ حَالَةِ الْخَطَأِ فَإِنَّ الْفَوَاتَ عَلَيْهِ فِي الْوَجْهَيْنِ يَقَعُ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ يَقْضِي بِهِ دُيُونَهُ وَتَنْفُذُ وَصَايَاهُ أَمَّا الْقِصَاصُ فَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْوَارِثُ إذْ التَّشَفِّي يَحْصُلُ لَهُ وَلِهَذَا كَانَ الْمَقْتُولُ شَهِيدًا فِي الْعَمْدِ دُونَ الْخَطَأِ؛ لِأَنَّ نَفْعَ الْقِصَاصِ لَا يَعُودُ إلَيْهِ بِخِلَافِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQنَفْعِ الْخَطَأِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ الْقِصَاصَ ضَمَانًا زَائِدًا لِمَعْنَى الِانْتِقَامِ وَتَشَفِّي الصَّدْرِ نَظَرًا لِلْوَلِيِّ وَإِبْقَاءً لِلْحَيَاةِ فَشَرْعُهُ لَا يَنْفِي الضَّمَانَ الْأَصْلِيَّ لَكِنَّهُ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجِبُ حَقًّا لِلْعَبْدِ حَتَّى يَعْمَلَ فِيهِ إسْقَاطُهُ وَيُورَثُ عَنْهُ وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ لِمُسْتَحِقٍّ وَاحِدٍ بِمُقَابَلَةِ مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَأَثْبَتْنَا الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ، وَلَنَا أَنَّهُ أَتْلَفَ مَضْمُونًا فَيَتَقَيَّدُ ضَمَانُهُ بِالْمِثْلِ مَا أَمْكَنَ كَإِتْلَافِ الْمَالِ وَتَفْوِيتِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَالْمَالُ لَيْسَ بِمِثْلٍ لِلْمُتْلَفِ لِمَا ذَكَرْنَا وَالْقِصَاصُ مِثْلٌ لَهُ صُورَةً؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ وَإِفَاتَةُ حَيَاةٍ كَالْأَوَّلِ، وَمَعْنَى لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقَتْلِ لَيْسَ إلَّا الِانْتِقَامُ وَالثَّانِي فِي مَعْنَى الِانْتِقَامِ كَالْأَوَّلِ وَلِهَذَا سُمِّيَ قِصَاصًا وَفِيهِ مُقَابَلَةُ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى، {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] ، فَمَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمِثْلِ الْكَامِلِ لَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ سَابِقٌ عَلَى أَقْسَامِ الْقَضَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ بِالْفِدْيَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمِثْلِ الْكَامِلِ وَهُوَ الصَّوْمُ لِمَا ذَكَرْنَا. (فَإِنْ قِيلَ) كَمَا أَنَّ الْمَالَ لَيْسَ بِمِثْلٍ لِلْقِصَاصِ أَوْ النَّفْسِ فَكَذَا الْقَتْلُ لَيْسَ بِمِثْلٍ لِلْقَطْعِ مَعَ الْقَتْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْقَتْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ (قُلْنَا) الْمَالُ لَيْسَ بِمِثْلٍ لِلنَّفْسِ صُورَةً وَلَا مَعْنًى فَأَمَّا الْقَتْلُ فَمِثْلٌ لِلْقَطْعِ صُورَةً وَمَعْنًى وَمِثْلٌ لِلْقَطْعِ مَعْنًى لَا صُورَةً فَلِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمُمَاثَلَةِ كَانَ الْوَاجِبُ فِي الِابْتِدَاءِ أَحَدَهُمَا إمَّا الْجَمْعُ أَوْ الِاقْتِصَارُ فَلَا يَكُونُ الِاقْتِصَارُ انْتِقَالًا عَنْ الْوَاجِبِ الْأَصْلِيِّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِيفَائِهِ إلَى خَلَفِهِ بِخِلَافِ الدِّيَةِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ كَانَتْ خَلَفًا عَنْ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ الْوَاجِبُ الْأَصْلِيُّ دُونَ الدِّيَةِ الَّتِي لَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفَائِتِ بِوَجْهٍ فَيَكُونُ خِيَارُ الدِّيَةِ انْتِقَالًا عَنْ الْأَصْلِ إلَى الْخَلَفِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الِاقْتِصَارَ بِمَنْزِلَةِ اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الْحَقِّ وَإِسْقَاطِ الْبَاقِي وَلِهَذَا جَازَ الِاقْتِصَارُ بِالْإِجْمَاعِ قَوْلُهُ (وَهُوَ) أَيْ الْقِصَاصُ إلَى الْأَحْيَاءِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِيَّةِ الضَّمَانِ أَقْرَبُ. بَيَانُهُ أَنَّ الْأَوَّلَ أَفَاتَ حَيَاةً فَيَكُونُ الْمِثْلُ الْقَائِمُ مَقَامَهُ مَا يَنْجَبِرُ بِهِ الْفَائِتُ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِإِتْلَافِ حَيَاةٍ تَحْصُلُ بِهِ حَيَاةٌ لِلْوَلِيِّ الْقَائِمِ مَقَامَ الْقَتِيلِ وَذَلِكَ فِي الْقِصَاصِ دُونَ إيجَابِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ إفَاتَةَ الْحَيَاةِ مَضْمُونَةٌ بِمَا تَقُومُ مَقَامَهَا وَإِنَّمَا تَقُومُ مَقَامَ الْحَيَاةِ حَيَاةٌ أُخْرَى لَا مَالَ إذْ كُلُّ الدُّنْيَا لَا يُسَوَّى بِحَيَاةِ سَاعَةٍ وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةً لَنَا وَذَلِكَ فِي شَرْعِيَّتِهِ وَاسْتِيفَائِهِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ مَنْ قَصَدَ قَتْلَ عَدُوِّهِ وَتَفَكَّرَ أَنَّهُ يَقْتَصُّ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَنْزَجِرُ عَنْ ذَلِكَ فَيَكُنْ الْقِصَاصُ حَيَاةً لَهُمَا جَمِيعًا فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْخِطَابُ لِكَافَّةِ النَّاسِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ مَنْ قَتَلَ إنْسَانًا يَصِيرُ حَرْبًا عَلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتْلِ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ وَهُمْ يَخَافُونَهُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَعِينُ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِهِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْعَادَاتُ الْمُتَغَلِّبَةِ فَمَتَى قَتَلُوهُ قِصَاصًا انْدَفَعَ عَنْهُمْ الشَّرُّ وَالْهَلَاكُ وَبَقِيَتْ حَيَاتُهُمْ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْخِطَابُ لِلْوَرَثَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى سَمَّى دَفْعَ الْهَلَاكِ مِنْ الْحَيِّ إحْيَاءً قَالَ تَعَالَى {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] . فَيَكُونُ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةُ أَوْلَادِهِ وَفِي حَيَاتِهِمْ حَيَاةٌ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الرَّجُلِ بِبَقَاءِ وَلَدِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى وَلِهَذَا يَسْعَى لِوَلَدِهِ كَمَا سَعَى لِنَفْسِهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْقِصَاصَ إلَى الْإِحْيَاءِ أَقْرَبُ، وَإِنَّمَا قَالَ أَقْرَبُ؛ لِأَنَّ لِلْمَالِ نَوْعَ قُرْبِ إلَى الْمَقْصُودِ إذْ بِوُجُوبِهِ قَدْ يَمْتَنِعُ الْقَاتِلُ عَنْ الْقَتْلِ وَبِاسْتِيفَائِهِ قَدْ يَمْتَنِعُ الْوَلِيُّ عَنْ انْتِقَامٍ لَكِنَّهُ دُونَ الْقِصَاصِ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَلِهَذَا كَانَ الْقِصَاصُ

وَإِنَّمَا شُرِعَ عِنْدَ عَدَمِ الْمِثْلِ صِيَانَةً لِلدَّمِ عَنْ الْهَدَرِ وَمِنَّةً عَلَى الْقَاتِلِ بِأَنْ سَلَّمَتْ لَهُ نَفْسَهُ وَلِلْقَتِيلِ بِأَنْ لَمْ يُهْدَرْ حَقُّهُ، وَلِهَذَا قُلْنَا نَحْنُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ إنَّ الْقِصَاصَ لَا يُضْمَنُ لِوَلِيِّهِ بِالشَّهَادَةِ الْبَاطِلَةِ عَلَى الْعَفْوِ أَوْ بِقَتْلِ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ صُورَةً وَمَعْنًى ـــــــــــــــــــــــــــــQأَقْرَبَ إلَى الْمَقْصُودِ. قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا شُرِعَ الْمَالُ) جَوَابٌ عَمَّا قَالَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْمَالَ مِثْلٌ لِلنَّفْسِ بِدَلِيلِ حَالَةِ الْخَطَأِ فَقَالَ إنَّمَا شُرِعَ الْمَالُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِأَجْلِ صِيَانَةِ الدَّمِ عَنْ الْهَدَرِ فَإِنَّهُ عَظِيمُ الْخَطَرِ وَتَعَذُّرُ إيجَابِ الْقِصَاصِ لَا بِطَرِيقِ أَنَّهُ مِثْلٌ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْقِصَاصَ نِهَايَةٌ فِي الْعُقُوبَاتِ الْمُعَجَّلَةِ فِي الدُّنْيَا فَلَا يَجُوزُ مُؤَاخَذَةُ الْخَاطِئِ بِهِ لِكَوْنِهِ مَعْذُورًا فِيهِ وَنَفْسُ الْمَقْتُولِ مُحْتَرَمَةٌ لَا تَسْقُطُ حُرْمَتُهَا بِعُذْرِ الْخَاطِئِ فَوَجَبَ صِيَانَتُهَا عَنْ الْهَدَرِ فَأَوْجَبَ الشَّرْعُ الْمَالَ فِي حَالَةِ الْخَطَأِ لِصِيَانَةِ النَّفْسِ الْمُحْتَرَمَةِ عَنْ الْإِهْدَارِ لَا بِطَرِيقِ أَنَّهُ مِثْلٌ كَمَا أَوْجَبَ الْفِدْيَةَ عَلَى الشَّيْخِ الْفَانِي عِنْدَ وُقُوعِ الْيَأْسِ لَهُ عَنْ الصَّوْمِ وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِطْعَامَ مِثْلُ الصَّوْمِ، فَيَكُونُ فِي إيجَابِ الْمَالِ مِنَّةٌ عَلَى الْقَاتِلِ بِأَنْ سَلِمَتْ لَهُ نَفْسُهُ بِهِ مَعَ أَنَّهُ قَتَلَ نَفْسًا مَعْصُومَةً وَمِنَّةً عَلَى الْمَقْتُولِ بِأَنْ لَمْ يُهْدَرْ حَقُّهُ بِإِيجَابِ شَيْءٍ يَقْضِي بِهِ حَوَائِجَهُ أَوْ حَوَائِجَ وَرَثَتِهِ مَعَ أَنَّ الْقَاتِلَ مَعْذُورٌ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْخَطَأِ فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ مَوَاضِعِ الْعَمْدِ يَتَحَقَّقُ هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ تَعَذُّرُ الْقِصَاصِ مَعَ بَقَاءِ الْمَحَلِّ لِمَعْنًى فِي الْمَحَلِّ يَجِبُ الْمَالُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَخْصُوصَ مِنْ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ يَلْحَقُهُ مَا يَكُونُ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَالْأَبُ إذَا قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا يَجِبُ الْمَالُ لِتَعَذُّرِ إيجَابِ الْقِصَاصِ بِحُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ وَإِذَا عَفَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ يَجِبُ لِلْآخَرِ الْمَالُ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِمَعْنًى فِي الْمُقَاتِلِ وَهُوَ أَنَّهُ أَحَيًّا بَعْضَ نَفْسِهِ بِعَفْوِ الشَّرِيكِ فَكَانَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْخَطَأِ فَوَجَبَ الْمَالُ لِلْآخَرِ بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْخَاطِئِ، وَفِي لَفْظِ الشَّيْخِ إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرْنَا حَيْثُ قَالَ وَإِنَّمَا شُرِعَ عِنْدَ عَدَمِ الْمِثْلِ وَلَمْ يَقُلْ فِي حَالَةِ الْخَطَأِ إذْ وُجُوبُ الْمَالِ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِحَالَةِ الْخَطَأِ بَلْ هُوَ ثَابِتٌ فِي غَيْرِهِ مِنْ الصُّوَرِ كَمَا ذَكَرْنَا فَلِهَذَا قَالَ عِنْدَ عَدَمِ الْمِثْلِ لِيَكُونَ شَامِلًا لِلصُّوَرِ جَمْعًا قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا لَيْسَ بِمَالٍ لَا يَكُونُ الْمَالُ مِثْلًا لَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَضْمَنَ بِهِ قُلْنَا إذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى رَجُلٍ بِالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ ثُمَّ رَجَعُوا بَعْدَ الْقَضَاءِ بِهِ لَمْ يَضْمَنُوا لِوَلِيِّ الْقِصَاصِ شَيْئًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَضْمَنُونَ الدِّيَةَ لَهُ. 1 - وَكَذَا إذَا قَتَلَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إنْسَانٌ آخَرُ لَا يَضْمَنُ لِوَلِيِّ الْقِصَاصِ شَيْئًا وَمَا ذُكِرَ هَهُنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِنْدَهُ يَضْمَنُ لِوَلِيِّ الْقِصَاصِ الدِّيَةَ كَالشَّاهِدِ، وَرَأَيْت فِي التَّهْذِيبِ وَلَوْ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِوَرَثَتِهِ وَحَقُّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي تَرِكَتِهِ وَلَوْ عَفَا وَارِثُهُ عَنْ الْقِصَاصِ عَلَى الدِّيَةِ لِلْوَارِثِ كَالْقِصَاصِ وَحَقُّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي تَرِكَتِهِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ لَا يَضْمَنُ عِنْدَهُ شَيْئًا لِوَلِيِّ الْقِصَاصِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا وَكَذَا ذَكَرَهُ فِي الْأَسْرَارِ أَيْضًا، وَسَنَذْكُرُ الْفَرْقَ لَهُ عَلَى تَقْدِيرِ الْوِفَاقِ. وَقَوْلُهُ (أَوْ بِقَتْلِ الْقَاتِلِ) إضَافَةُ الْمَصْدَرِ إلَى الْمَفْعُولِ، لَهُ أَنَّ الْقِصَاصَ مِلْكٌ مُتَقَوِّمٌ لِلْوَلِيِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاتِلَ إذَا صَالَحَ فِي مَرَضِهِ عَلَى الدِّيَةِ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ جَمِيعُ الْمَالِ وَقَدْ أَتْلَفُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ بِشَهَادَتِهِمْ فَيَضْمَنُونَ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا كَمَا تُضْمَنُ النَّفْسُ بِالْإِتْلَافِ حَالَةَ الْخَطَأِ وَكَذَا الْقَاتِلُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ حَقَّهُ الْمُتَقَوَّمَ فَيَضْمَنُ. ، وَإِنْ لَمْ يَضْمَنْ عِنْدَهُ كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي التَّهْذِيبِ وَالْأَسْرَارِ فَالْفَرْقُ لَهُ أَنَّ الْقَاتِلَ إنَّمَا أَتْلَفَهُ ضِمْنًا لِإِتْلَافِ الْمَحَلِّ لَا قَصْدًا إلَيْهِ فَلَا يَضْمَنُ بِخِلَافِ

وَإِنَّمَا شُرِعَتْ الدِّيَةُ صِيَانَةً لِلدَّمِ عَنْ الْهَدْرِ وَالْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فَكَانَ جَائِزًا أَنْ يُهْدَرَ بَلْ حَسَنًا وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لَا يُضْمَنُ بِالشَّهَادَةِ بِالطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ وَبِقَتْلِ الْمَنْكُوحَةِ وَبِرِدَّتِهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQالشَّاهِدِ فَإِنَّهُ أَتْلَفَهُ قَصْدًا إلَيْهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْقِصَاصِ ضَرُورِيٌّ فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ الْوَلِيِّ مِنْ حَيْثُ تَطَرُّقُهُ إلَى الِاسْتِيفَاءِ دُونَ الْمَمْلُوكِ عَلَيْهِ حَتَّى لَمْ يَصِرْ الْمَحَلُّ مَمْلُوكًا لَهُ فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْقَتْلِ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْأَسْرَارِ. ، وَلَنَا أَنَّ الْمُتْلَفَ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَلَا يُضْمَنُ الْمَالُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَيْسَ بِمِثْلٍ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْقِصَاصِ مِلْكُ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَمِلْكُ حَيَاتِهِ فِي حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ وَشَرْعِيَّتِهِ لِمَعْنَى الْإِحْيَاءِ فَلَا يَكُونُ الْمَالُ مِثْلًا إلَّا أَنَّ الْقَاتِلَ إنَّمَا يَلْتَزِمُ فِي الصُّلْحِ الدِّيَةَ بِمُقَابَلَةِ مَا هُوَ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى هَذَا الصُّلْحِ لِإِبْقَاءِ نَفْسِهِ وَحَاجَتِهِ مُقَدَّمَةً عَلَى حَقِّ الْوَارِثِ فَلِهَذَا يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ. قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا شُرِعَتْ الدِّيَةُ) جَوَابٌ عَنْ الْخَطَأِ الَّذِي هُوَ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ لِلْخَصْمِ فَقَالَ لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَى الْخَطَأِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ وَرَدَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِصِيَانَةِ الدَّمِ عَنْ الْهَدْرِ وَإِظْهَارِ خَطَرِ الْمَحَلِّ وَمَا فِي الشَّهَادَةِ إرَاقَةُ دَمٍ لِيُصَانَ بِالضَّمَانِ بَلْ فِيهَا إبْطَالُ مِلْكِ الْقِصَاصِ بِإِثْبَاتِ الْعَفْوِ وَالْعَفْوُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فَيَكُونُ إهْدَارُهُ جَائِزًا بِهَذَا الطَّرِيقِ وَهُوَ الْعَفْوُ بَلْ حَسَنًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 43] . وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ حَيَاةٌ حُكْمًا وَفِي الْعَفْوِ حَيَاةٌ حَقِيقَةً فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الضَّمَانِ لِمَعْنَى الصِّيَانَةِ وَصَارَ كَأَنَّ الشُّهُودَ أَثْنَوْا عَلَيْهِ بِفِعْلٍ مَنْدُوبٍ وَالْمُرَادُ مِنْ الْإِهْدَارِ هَهُنَا عَدَمُ إيجَابِ شَيْءٍ مِنْ الْمَالِ بِمُقَابَلَتِهِ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا أَيْ وَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا لَيْسَ بِمَالٍ) مُتَقَوِّمٍ لَا يُضْمَنُ بِالْمَالِ قُلْنَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالتَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ بَعْدَ الدُّخُولِ ثُمَّ رَجَعَا بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْفُرْقَةِ لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَضْمَنَانِ لِلزَّوْجِ مَهْرَ مِثْلِهَا وَكَذَلِكَ إنْ قَتَلَ رَجُلٌ مَنْكُوحَةَ رَجُلٍ لَمْ يَضْمَنْ الْقَاتِلُ شَيْئًا مِنْ الْمَهْرِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَضْمَنُ مَهْرَ الْمِثْلِ لِلزَّوْجِ. ، وَكَذَلِكَ لَوْ ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ لَمْ تَغْرَمْ لِلزَّوْجِ شَيْئًا عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ عَلَيْهَا كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، وَذَكَرَ فِي إشَارَاتِ الْأَسْرَارِ لِلشَّيْخِ أَبِي الْفَضْلِ الْكَرْمَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَسْأَلَةِ رُجُوعِ شُهُودِ الطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي جَانِبِ الشَّافِعِيِّ وَلَا يَلْزَمُ الْمَرْأَةَ إذَا ارْتَدَّتْ بَعْدَ الدُّخُولِ لَا تَضْمَنُ لِلزَّوْجِ شَيْئًا وَقَدْ فَوَّتَتْ عَلَيْهِ الْمِلْكَ بِالرِّدَّةِ كَمَا فَوَّتَ الشَّاهِدُ بِالشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تُؤَثِّرُ فِي تَغْيِيرِ الِاعْتِقَادِ لَا فِي النِّكَاحِ قَصْدًا وَالشَّاهِدُ أَتْلَفَ بِالشَّهَادَةِ قَصْدًا، فَهَذَا يُخَالِفُ مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الرِّدَّةِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ لَهُ فِي مَسْأَلَةِ الرِّدَّةِ قَوْلَيْنِ، وَذُكِرَ فِي التَّهْذِيبِ إنْ وُجِدَتْ الرِّدَّةُ بَعْدَ الدُّخُولِ فَقَدْ اسْتَقَرَّ مَهْرُهَا بِالدُّخُولِ فَلَا يَسْقُطُ بِالرِّدَّةِ وَإِنْ وُجِدَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ نُظِرَ فَإِنْ ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ سَقَطَ مَهْرُهَا؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ مِنْ قِبَلِهَا وَإِنْ ارْتَدَّ الزَّوْجُ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ. وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْفَضْلِ تَمَسَّكَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ مُتَقَوِّمٌ عَلَى الزَّوْجِ ثُبُوتًا فَيَكُونُ مُتَقَوِّمًا عَلَيْهِ زَوَالًا؛ لِأَنَّ الزَّائِلَ عَيْنُ الثَّابِتِ فَمِنْ ضَرُورَةِ تَقَوُّمِهِ فِي إحْدَى الْحَالَتَيْنِ تَقَوُّمُهُ فِي الْحَالَةِ الْأُخْرَى كَمِلْكِ الْيَمِينِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ يَجُوزُ اكْتِسَابُهُ بِلَا بَدَلٍ بِخِلَافِ مِلْكِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ مَهْرٍ وَيَجِبُ بِالْفَاسِدِ قِيمَتُهُ كَمَا فِي الْأَعْيَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ خَالَعَهَا عَلَى مَالٍ يَجُوزُ وَمَا لَمْ يَكُنْ مُتَقَوِّمًا لَا يَصِيرُ مُتَقَوِّمًا بِالْعَقْدِ كَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَإِنَّمَا الْمُعَاوَضَةُ لِإِقَامَةِ الْمُسَمَّى مِنْ الْمَالِ مُقَامَ أَصْلِ الْقِيمَةِ بِتَرَاضِيهِمَا، وَلَنَا أَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لَيْسَ

وَإِنَّمَا يُقَوَّمُ بِالْمَالِ بُضْعُ الْمَرْأَةِ تَعْظِيمًا لِخَطَرِهِ وَإِنَّمَا الْخَطَرُ لِلْمَمْلُوكِ فَأَمَّا الْمِلْكُ الْوَارِدُ عَلَيْهِ فَلَا، حَتَّى صَحَّ إبْطَالُهُ بِغَيْرِ شُهُودٍ وَلَا وَلِيٍّ وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ لَهُ حُكْمُ التَّقَوُّمِ عِنْدَ الزَّوَالِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يُتَعَرَّضُ لَهُ بِالِاسْتِيلَاءِ بَلْ إطْلَاقٌ لَهُ وَلَا يَلْزَمُ الشَّهَادَةَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَإِنَّهَا عِنْدَ الرُّجُوعِ يُوجِبُ ضَمَانَ نِصْفِ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُجِبْ قِيمَةً لِلْبُضْعِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُجِبْ مَهْرَ الْمِثْلِ تَامًّا ـــــــــــــــــــــــــــــQبِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَلَا يَضْمَنُ بِالْمَالِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ مُقَدَّرٌ بِالْمِثْلِ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَهُمَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى؛ لِأَنَّ مَعْنَى الشَّيْءِ مَا شُرِعَ أَوْ خُلِقَ ذَلِكَ الشَّيْءُ لَهُ وَمِلْكُ النِّكَاحِ شُرِعَ لِلسَّكَنِ وَالِازْدِوَاجِ وَإِقَامَةِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي النَّسْلِ وَإِبْقَاءِ الْعَالَمِ وَالْمَالُ خُلِقَ بَذْلَةً لِإِقَامَةِ الْمَصَالِحِ فَأَنَّى يَتَمَاثَلَانِ، وَلِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْآدَمِيِّ بِمَعْنَى تَفْرِيعِ الْآدَمِيِّ مِنْهُ فَكَانَ مُعْتَبَرًا بِهِ مَعْنًى وَأَنَّهُ خَلْقُ مَالِكِ الْمَالِ وَالْمَالُ خُلِقَ بَذْلَةً مَمْلُوكًا لَهُ فَكَيْفَ يَتَشَابَهَانِ قَوْلُهُ. (وَإِنَّمَا يُقَوَّمُ بِالْمَالِ بُضْعُ الْمَرْأَةِ) جَوَابٌ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ ثُبُوتًا فَيَتَقَوَّمُ زَوَالًا فَقَالَ إنَّمَا الْمُتَقَوِّمُ عِنْدَ الثُّبُوتِ بُضْعُ الْمَرْأَةِ لَا الْمِلْكُ الْوَارِدُ عَلَيْهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَقَوُّمِهِ تَقَوُّمُ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِإِظْهَارِ خَطَرِ ذَلِكَ الْمَحَلِّ لِيَكُونَ مَصُونًا عَنْ الِابْتِذَالِ وَلَا يُمْتَلَكُ مَجَّانًا فَإِنَّ مَا يَتَمَلَّكُهُ الْمَرْءُ مَجَّانًا لَا يَعْظُمُ خَطَرُهُ عِنْدَهُ وَذَلِكَ مَحَلٌّ لَهُ خَطَرٌ مِثْلُ خَطَرِ النُّفُوسِ؛ لِأَنَّ النَّسْلَ يَحْصُلُ مِنْهُ فَأَمَّا الْمِلْكُ الْوَارِدُ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِذِي خَطَرٍ وَلِهَذَا صَحَّ إزَالَتُهُ بِالطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ شُهُودٍ وَلَا وَلِيٍّ وَلَا عِوَضٍ، وَلَا يُقَالُ عَدَمُ تَوَقُّفِهِ عَلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ حَالَةَ الْإِبْطَالِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ غَيْرَ خَطِيرٍ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَإِنَّهُ لَوْ أَتْلَفَ مَالَهُ الْمُتَقَوِّمَ بِلَا شَهَادَةٍ بِأَنْ يَأْكُلَهُ أَوْ يُلْقِيَهُ فِي الْبَحْرِ صَحَّ وَمَعَ هَذَا لَوْ أَتْلَفَهُ عَلَيْهِ إنْسَانٌ ضَمِنَ؛ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّمَا ضَمِنَ ثَمَّةَ بِاعْتِبَارِ مَمْلُوكِهِ الَّذِي هُوَ مُتَقَوِّمٌ فِي ذَاتِهِ حَقِيقَةً لَا بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ حَقِيقَةً فَلَا يَضْمَنُ قَوْلُهُ. (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ تَقَوُّمَ الْبُضْعِ لِإِظْهَارِ خَطَرِهِ، لَمْ يَجْعَلْ لَهُ أَيْ لِلْبُضْعِ حُكْمَ التَّقَوُّمِ، عِنْدَ الزَّوَالِ أَيْ عِنْدَ خُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِ الزَّوْجِ أَوْ عِنْدَ زَوَالِ مِلْكِ الزَّوْجِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْخَطَرِ لِلْمَحَلِّ إنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ التَّمَلُّكِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ بِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ فَأَمَّا عِنْدَ زَوَالِ الِاسْتِيلَاءِ عَنْهُ وَإِطْلَاقِهِ فَلَا وَلِهَذَا لَوْ زَوَّجَ الْأَبُ الصَّغِيرَ بِمَالِهِ يَصِحُّ وَلَوْ خَالَعَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ بِمَالِهَا مِنْ زَوْجِهَا لَمْ يَصِحَّ. قَوْلُهُ (وَلَا يَلْزَمُ الشَّهَادَةَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْبُضْعُ مُتَقَوِّمًا عِنْدَ الزَّوَالِ لَمَا ضَمِنَ الشُّهُودُ شَيْئًا بِالشَّهَادَةِ عَلَى الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ثُمَّ الرُّجُوعُ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِمْ وَقَدْ ضَمِنُوا نِصْفَ الْمَهْرِ عِنْدَكُمْ فَثَبَتَ أَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَ الزَّوَالِ أَيْضًا فَقَالَ الشَّيْخُ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ قِيمَةً لِمَا أَتْلَفُوا عَلَيْهِ وَهُوَ الْبُضْعُ فَقِيمَتُهُ مَهْرُ الْمِثْلِ تَامًّا وَلَا يَغْرَمُونَهُ بَلْ يَغْرَمُونَ نِصْفَ الْمُسَمَّى وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ بِكَثِيرٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ بِكَثِيرٍ فَلَوْ ضَمِنُوا بَدَلَ الْمُتْلَفِ لَمَا اُعْتُبِرَ نِصْفُ الْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ كَمَا فِي مَالٍ اشْتَرَاهُ الْإِنْسَانُ لَا يُعْتَبَرُ الثَّمَنُ عِنْدَ الْإِتْلَافِ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي جَوَابًا عَنْ النَّقْضِ. ، ثُمَّ بَيَّنَ وَجْهَ لُزُومِ نِصْفِ الْمُسَمَّى فَقَالَ لَكِنَّ الْمُسَمَّى إلَى آخِرِهِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ عَوْدَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَيْهَا بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ مُسْقِطٌ جَمِيعَ الصَّدَاقِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْفُرْقَةُ مُضَافَةً إلَى الزَّوْجِ وَلَمْ تَكُنْ بِانْتِهَاءِ النِّكَاحِ فَهُمْ بِإِضَافَةِ الْفُرْقَةِ إلَيْهِ مَنَعُوا الْعِلَّةَ الْمُسْقِطَةَ مِنْ أَنْ تَعْمَلَ عَمَلَهَا فِي النِّصْفِ فَكَأَنَّهُمْ أَلْزَمُوا الزَّوْجَ ذَلِكَ النِّصْفَ بِشَهَادَتِهِمْ أَوْ كَأَنَّهُمْ فَوَّتُوا يَدَهُ فِي ذَلِكَ النِّصْفَ بَعْدَ فَوَاتِ تَسْلِيمِ الْبُضْعِ فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِينَ فِي حَقِّهِ فَيَضْمَنُونَ ذَلِكَ عِنْدَ الرُّجُوعِ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّ الِابْنَ إذَا أَكْرَهَ امْرَأَةَ أَبِيهِ حَتَّى زَنَى بِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ يَغْرَمُ الْأَبُ نِصْفَ الْمَهْرِ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الِابْنِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا تَصِيرُ الْفُرْقَةُ بِهِ مُضَافَةً إلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ بِإِكْرَاهِهِ إيَّاهَا مَنَعَ صَيْرُورَةَ

[القضاء الذي في حكم الأداء]

كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ لَكِنَّ الْمُسَمَّى الْوَاجِبَ بِالْعَقْدِ لَا يُسْتَحَقُّ تَسْلِيمُهُ عِنْدَ سُقُوطِ تَسْلِيمِ الْبُضْعِ فَلَمَّا أَوْجَبُوا عَلَيْهِ تَسْلِيمَ النِّصْفِ مَعَ فَوَاتِ تَسْلِيمِ الْبُضْعِ كَانَ قَصْرًا لِيَدِهِ عَنْ ذَلِكَ الْمَالِ فَأَشْبَهَ الْغَصْبَ. فَأَمَّا الْقَضَاءُ الَّذِي فِي حُكْمِ الْأَدَاءِ فَمِثْلَ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى عَبْدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ أَنَّهُ إذَا أَدَّى الْقِيمَةَ أُجْبِرَتْ عَلَى الْقَبُولِ وَقِيمَةِ الشَّيْءِ قَضَاءً لَهُ لَا مَحَالَةَ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهَا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِ الْأَصْلِ وَهَذَا الْأَصْلُ لَمَّا كَانَ مَجْهُولًا مِنْ وَجْهٍ وَمَعْلُومًا مِنْ وَجْهٍ صَحَّ تَسْلِيمُهُ مِنْ وَجْهٍ وَاحْتَمَلَ الْعَجْزَ فَإِنْ أَدَّى صَحَّ وَإِنْ اخْتَارَ جَانِبَ الْعَجْزِ وَجَبَتْ قِيمَتُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْفُرْقَةِ مُضَافَةً إلَيْهَا وَذَا مُوجِبٌ نِصْفَ الصَّدَاقِ عَلَى الْأَبِ فَكَأَنَّهُ أَلْزَمَهُ ذَلِكَ أَوْ قَصَرَ يَدَهُ عَنْهُ فَلِذَلِكَ يَضْمَنُ، وَهَذَا الْجَوَابُ هُوَ مُخْتَارُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَعِبَارَةُ الْمُتَقَدِّمِينَ فِيهِ أَنَّ الْمَهْرَ قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ارْتَدَّتْ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ أَوْ قَبَّلَتْ ابْنَ الزَّوْجِ يَسْقُطُ عَنْهُ كُلُّ الْمَهْرِ، فَالشُّهُودُ بِشَهَادَتِهِمْ أَكَّدُوا مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ فَكَأَنَّهُمْ أَلْزَمُوهُ ذَلِكَ فَلِهَذَا ضَمِنُوا. ، وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا لَا نُسَلِّمُ التَّأْكِيدَ بَلْ الْمَهْرُ كُلُّهُ وَجَبَ مُتَأَكِّدًا بِنَفْسِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ إلَّا الْوَطْءُ الَّذِي جَرَى مَجْرَى الْقَبْضِ وَهَذَا الْعَقْدُ لَا يَتَعَلَّقُ تَمَامُهُ بِالْقَبْضِ عَلَى مَا عُرِفَ. ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا التَّأْكِيدَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَأْكِيدَ الْوَاجِبِ سَبَبٌ لِلضَّمَانِ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ لَوْ شَهِدَا عَلَى الْوَاهِبِ يَأْخُذُ الْعِوَضَ حَتَّى أَبْطَلَ الْقَاضِي عَلَيْهِ حَقَّ الرُّجُوعِ ثُمَّ رَجَعَا وَقَدْ هَلَكَتْ الْهِبَةُ لَمْ يَضْمَنَا لِلْوَاهِبِ شَيْئًا وَقَدْ أَكَّدَا بِثُبُوتِ الْعِوَضِ حُكْمَ زَوَالِ مِلْكِهِ وَلَمْ يَجْرِ مَجْرَى الْإِزَالَةِ ابْتِدَاءً كَذَا فِي الْأَسْرَارِ. ، وَلَمَّا كَانَ جَوَابُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَقْرَبَ إلَى التَّحْقِيقِ اخْتَارَ الشَّيْخُ قَوْلَهُ (كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ) مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ تَامًّا كَامِلًا لَا بِقَوْلِهِ قِيمَةً لِلْبُضْعِ عَلَى مَا ظَنَّهُ الْبَعْضُ فَإِنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إذَا كَانَ مَا ذَكَرْنَا بَعْدَ الدُّخُولِ يَجِبُ عَلَى الشُّهُودِ تَمَامُ مَهْرِ الْمِثْلِ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَكَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْمُزَنِيّ عَنْهُ، وَفِي رِوَايَةِ الرَّبِيعِ عَنْهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَغْرَمْ لَهَا إلَّا نِصْفَ الْمُسَمَّى وَقَدْ عَادَ إلَيْهِ نِصْفُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا بِالْإِقَالَةِ ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَغْرَمَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمَا إنْ أَخْرَجَا السِّلْعَةَ عَنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَقَدْ رَدَّ إلَيْهِ الثَّمَنَ، وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُمْ أَتْلَفُوا جَمِيعَ الْبُضْعِ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ جَمِيعُ بَدَلِهِ وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا غَرِمَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَرْجِعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَإِنْ غَرِمَ الْمُسَمَّى سَوَاءٌ كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَقَلَّ مِنْ الْمُسَمَّى أَوْ أَكْثَرَ وَكَذَا لَوْ بَرَّأَتْهُ عَنْ الصَّدَاقِ يَرْجِعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى الشُّهُودِ وَإِنْ لَمْ يَغْرَمْ شَيْئًا كَذَا فِي التَّهْذِيبِ، فَالشَّيْخُ بِقَوْلِهِ تَامًّا كَامِلًا كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ أَشَارَ إلَى هَذَا الْمَذْهَبِ [الْقَضَاءُ الَّذِي فِي حُكْمِ الْأَدَاءِ] قَوْلُهُ (فَمِثْلُ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى عَبْدٍ) إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى عَبْدٍ مُطْلَقٍ وَجَبَ الْوَسَطُ عِنْدَنَا إنْ أَتَاهَا بِالْعَيْنِ أُجْبِرَتْ عَلَى الْقَبُولِ وَإِنْ أَتَاهَا بِالْقِيمَةِ أُجْبِرَتْ عَلَى الْقَبُولِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَكُونُ قِيَاسَ الْبَيْعِ وَالْعَبْدُ الْمُطْلَقُ لَا يُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ فَكَذَا بِالنِّكَاحِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْمُسَمَّى مَهْرًا هُوَ الْمَالِيَّةُ وَبِمُجَرَّدِ ذِكْرِ الْعَبْدِ لَا تَصِيرُ الْمَالِيَّةُ مَعْلُومَةً فَلَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ لِبَقَاءِ الْجَهَالَةِ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَمَّى ثَوْبًا أَوْ دَابَّةً أَوْ دَارًا لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ فَكَذَا إذَا سَمَّى عَبْدًا. ، وَلَنَا أَنَّ الْمَهْرَ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ عِوَضًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ وَالْحَيَوَانُ يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ مُطْلَقًا فِي مُبَادَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ بِمَالٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ فِي الدِّيَةِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ وَأَوْجَبَ فِي الْجَنِينِ غُرَّةً عَبْدًا أَوْ أَمَةً، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَثْبُتَ الْحَيَوَانُ مُطْلَقًا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ عِوَضًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ شَرْطًا وَهَذَا لِأَنَّ الْمَهْرَ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ مَالٌ وَجَبَ ابْتِدَاءً وَالْجَهَالَةُ الْمُسْتَدْرَكَةُ فِي الْتِزَامِ الْمَالِ ابْتِدَاءً لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهُ كَمَا فِي الْإِقْرَارِ فَإِنَّ مَنْ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِعَبْدٍ صَحَّ إقْرَارُهُ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ عَيْنُ الْمَهْرِ عِوَضًا بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ لَزِمَ مُرَاعَاةُ الْجَانِبَيْنِ فَأَوْجَبَ الشَّرْعُ الْوَسَطَ نَظَرًا لَهُمَا كَمَا فِي الزَّكَوَاتِ أَوْجَبَ الْوَسَطَ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ وَأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، وَهَذَا بِخِلَافِ تَسْمِيَتِهِ

[حكم الأمر يوصف بالحسن]

وَلَمَّا كَانَ الْأَصْلُ لَا يَتَحَقَّقُ أَدَاؤُهُ إلَّا بِتَعَيُّنِهِ وَلَا تَعْيِينَ إلَّا بِالتَّقْوِيمِ صَارَ التَّقْوِيمُ أَصْلًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَصَارَتْ الْقِيمَةُ مُزَاحِمَةً لِلْمُسَمَّى بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ بِدُونِ التَّقْوِيمِ فَصَارَتْ قِيمَتُهُ قَضَاءً مَحْضًا فَلَمْ يُعْتَبَرْ عِنْدَ الْقُدْرَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْ قَضِيَّةِ الشَّرْعِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ حُكْمَ الْأَمْرِ مَوْصُوفٌ بِالْحُسْنِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالثَّوْبَ أَوْ الدَّابَّةَ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهَا جَهَالَةُ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ وَمَعْنَى كُلِّ جِنْسٍ يُعْدَمُ فِي الْجِنْسِ الْآخَرِ فَلَا يَتَحَمَّلُ فَأَمَّا الْعَبْدُ هَهُنَا فَمَعْلُومُ الْجِنْسِ وَلَكِنَّهُ مَجْهُولُ الْوَصْفِ وَهِيَ جَهَالَةٌ يَسِيرَةٌ فَتَتَحَمَّلُ فِيمَا بُنِيَ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَهُوَ النِّكَاحُ دُونَ مَا بُنِيَ عَلَى الْمُضَايَقَةِ وَهُوَ الْبَيْعُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْوَسَطُ فَإِذَا أَتَى بِهِ أُجْبِرَتْ عَلَى الْقَبُولِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى عَيْنَ الْوَاجِبِ، وَلَوْ أَتَى بِالْقِيمَةِ أُجْبِرَتْ عَلَى الْقَبُولِ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ تَسْلِيمُ قِيمَةِ الشَّيْءِ قَضَاءً لَهُ لَا مَحَالَةَ إذْ هُوَ تَسْلِيمُ مِثْلِ الْوَاجِبِ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الْقِيمَةُ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِ الْأَصْلِ وَلَكِنَّ هَذَا الْأَصْلَ وَهُوَ الْمُسَمَّى لَمَّا كَانَ مَجْهُولًا بِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ وَمَعْلُومًا بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ صَحَّ تَسْلِيمُهُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَعْلُومًا كَمَا لَوْ كَانَ عَبْدًا لَهُ بِعَيْنِهِ، وَاحْتَمَلَ الْعَجْزَ بِاعْتِبَارِ جَهَالَةِ الْوَصْفِ إذْ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُ الْمَجْهُولِ فَيَجِبُ الْقِيمَةُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَمَا إذَا سَمَّى عَبْدَ نَفْسِهِ فَأَبَقَ ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْأَصْلُ وَهُوَ الْعَبْدُ الْمُسَمَّى لَا يَتَحَقَّقُ أَدَاؤُهُ لِجَهَالَةِ وَصْفِهِ، إلَّا بِتَعْيِينِهِ أَيْ بِتَعَيُّنِ الْأَصْلِ وَهُوَ الْمُسَمَّى وَهُوَ إضَافَةُ الْمَصْدَرِ إلَى الْمَفْعُولِ. وَلَا تَعْيِينَ إلَّا بِالتَّقْوِيمِ، صَارَ التَّقْوِيمُ أَيْ الْقِيمَةُ أَصْلًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ إذْ هِيَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ قَبْلَ الْعَبْدِ الَّذِي يَقْضِي بِهِ فَكَانَ تَسْلِيمُهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَدَاءً لَا قَضَاءً؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ خَلَفٌ عَنْ الْأَدَاءِ فَيَثْبُتُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْأَصْلِ لَا قَبْلَهُ، فَصَارَتْ الْقِيمَةُ مُزَاحِمَةً لِلْمُسَمَّى أَيْ مُسَاوِيَةً لَهُ فِي الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أَصْلًا فِي الْإِيفَاءِ اعْتِبَارًا وَالْعَبْدُ أَصْلُ تَسْمِيَةٍ فَكَأَنَّهُ وَجَبَ بِالْعَقْدِ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ فَلِهَذَا يُخَيَّرُ الزَّوْجُ، وَإِنَّمَا يُخَيَّرُ هُوَ دُونَ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْقِيمَةِ إنَّمَا وَجَبَ لِإِمْكَانِ التَّسْلِيمِ وَهُوَ عَلَيْهِ دُونَ الْمَرْأَةِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ الْمَوْصُوفِ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مَعْلُومٌ جِنْسًا وَوَصْفًا فَكَانَتْ قِيمَتُهُ قَضَاءً خَالِصًا فَلَا يُعْتَبَرُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ. (فَإِنْ قِيلَ) فَعَلَى مَا ذَكَرْتُمْ يَصِيرُ كَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ أَوْ قِيمَتِهِ وَذَلِكَ يُوجِبُ فَسَادَ التَّسْمِيَةِ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ إذَا كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَيَّنَ الْعَبْدَ فَقَالَ تَزَوَّجْتُك عَلَى هَذَا الْعَبْدِ أَوْ قِيمَتِهِ لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ فَعِنْدَ جَهَالَةِ الْعَبْدِ أَوْلَى. (قُلْنَا) إنَّمَا يُفْسِدُ التَّسْمِيَةَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ عَلَيَّ عَبْدٌ وَقِيمَتُهُ صَارَتْ الْقِيمَةُ وَاجِبَةً بِالتَّسْمِيَةِ ابْتِدَاءً وَهِيَ مَجْهُولَةٌ؛ لِأَنَّهَا دَرَاهِمُ مُخْتَلِفَةُ الْعَدَدِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اخْتِلَافٍ يَقَعُ بَيْنِ الْمُقَوِّمِينَ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ عَلَيَّ عَبْدٌ أَوْ دَرَاهِمُ فَيَفْسُدُ لِلْجَهَالَةِ، فَأَمَّا إذَا قَالَ عَلَيَّ عَبْدٌ فَقَدْ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ؛ لِأَنَّ جَهَالَتَهُ لَا تَمْنَعُ الصِّحَّةَ وَلَمْ تَجِبْ الْقِيمَةُ بِهَذَا الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ مَا سَمَّاهَا فِيهِ لَكِنَّهَا اُعْتُبِرَتْ بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ تَسْلِيمِ الْمُسَمَّى لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ إلَّا بِمَعْرِفَتِهَا، وَلَمَّا كَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى تَسْمِيَةِ مُسَمًّى مَعْلُومٍ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ كَمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَاسْتُحِقَّ أَوْ هَلَكَ فَإِنَّ الْقِيمَةَ تَجِبُ وَيَنْتَصِفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِنَاءً عَلَى مُسَمًّى مَعْلُومٍ لَا ابْتِدَاءً كَذَا فِي الْأَسْرَارِ [حُكْمَ الْأَمْرِ يُوصَفُ بِالْحُسْنِ] قَوْلُهُ (وَمِنْ قَضِيَّةِ الشَّرْعِ) أَيْ وَمِنْ حُكْمِ الشَّرِيعَةِ، فِي هَذَا الْبَابِ أَيْ بَابِ الْأَمْرِ، أَنَّ حُكْمَ الْأَمْرِ أَيْ الْمَأْمُورِ بِهِ يُوصَفُ بِالْحُسْنِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ ثُبُوتَ الْحُسْنِ لِلْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ قَضَايَا الشَّرْع لَا مِنْ قَضَايَا اللُّغَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ تَتَحَقَّقُ فِي الْقَبِيحِ كَالْكُفْرِ وَالسَّفَهِ وَالْعَبَثِ كَمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْحُسْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ السُّلْطَانَ الْجَائِرَ إذَا أَمَرَ إنْسَانًا بِالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ

عُرِفَ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ لَا بِالْعَقْلِ نَفْسِهِ إذْ الْعَقْلُ غَيْرُ مُوجِبٍ بِحَالٍ وَهَذَا الْبَابُ لِتَقْسِيمِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ كَانَ أَمْرًا حَقِيقَةً حَتَّى إذَا خَالَفَهُ الْمَأْمُورُ وَلَمْ يَأْتِ بِمَا أَمَرَ بِهِ يُقَالُ خَالَفَ أَمْرَ السُّلْطَانِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَنَّ الْحُسْنَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْأَمْرِ أَمْ مِنْ مَدْلُولَاتِهِ فَعِنْدَنَا هُوَ مِنْ مَدْلُولَاتِ الْأَمْرِ وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ هُوَ مِنْ مُوجِبَاتِهِ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ فِي الْأَفْعَالِ الْخَارِجَةِ عَنْ الِاضْطِرَارِ هَلْ يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ أَمْ لَا فَعِنْدَهُمْ لَا حَظَّ لَهُ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَيَكُونُ الْحُسْنُ ثَابِتًا بِنَفْسِ الْأَمْرِ لَا أَنَّ الْأَمْرَ دَلِيلٌ وَمَعْرُوفٌ عَلَى حُسْنِ سَبَقَ ثُبُوتُهُ بِالْعَقْلِ، وَعِنْدَنَا لَمَّا كَانَ لِلْعَقْلِ حَظٌّ فِي مَعْرِفَةِ حُسْنِ بَعْضِ الْمَشْرُوعَاتِ كَالْإِيمَانِ وَأَصْلِ الْعِبَادَاتِ وَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ كَانَ الْأَمْرُ دَلِيلًا وَمَعْرُوفًا لِمَا ثَبَتَ حُسْنُهُ فِي الْعَقْلِ وَمُوجِبًا لِمَا لَمْ يُعْرَفْ بِهِ كَذَا فِي الْمِيزَانِ، وَذُكِرَ فِي الْقَوَاطِعِ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّ الْعَقْلَ بِذَاتِهِ لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى تَحْسِينِ شَيْءٍ وَلَا تَقْبِيحِهِ وَلَا يُعْرَفُ حُسْنُ الشَّيْءِ وَقُبْحُهُ حَتَّى يَرِدَ السَّمْعُ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا الْعَقْلُ آلَةٌ تُدْرَكُ بِهِ الْأَشْيَاءُ فَيُدْرَكُ بِهِ مَا حَسُنَ وَمَا قَبُحَ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالسَّمْعِ. ، وَذَهَبَ إلَى هَذَا كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَذَهَبَ إلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، قَالَ وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ ضَرْبَانِ، ضَرْبٌ عُلِمَ بِالْعَقْلِ كَحُسْنِ الْعَدْلِ وَالصِّدْقِ النَّافِعِ وَشُكْرِ النِّعْمَةِ وَقُبْحِ الظُّلْمِ وَالْكَذِبِ الضَّارِّ وَكُفْرَانِ النِّعْمَةِ، وَضَرْبٌ عُرِفَ بِالسَّمْعِ كَحُسْنِ مَقَادِيرِ الْعِبَادَاتِ وَهَيْئَاتِهَا وَقُبْحِ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ، قَالُوا وَسَبِيلُ السَّمْعِ إذَا وَرَدَ بِمُوجِبِ الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ وُرُودُهُ مُؤَكِّدًا لِمَا فِي الْعَقْلِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَبُو بَكْرٍ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ وَالْحَلِيمِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ خُصُوصًا الْعِرَاقِيُّونَ مِنْهُمْ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ بِأَسْرِهِمْ. ، وَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَنَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ عُرِفَ ذَلِكَ أَيْ كَوْنُهُ مَوْصُوفًا بِالْحُسْنِ، بِكَوْنِهِ مَأْمُورًا لَا بِالْعَقْلِ نَفْسِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ مِنْ مُوجِبَاتِ الْأَمْرِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَعَامَّةُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا نَقُولُ أَنَّهُ أَيْ حُسْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ ثَابِتٌ عَقْلًا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ مَشَايِخِنَا؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُوجِبٍ عِنْدَنَا، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ نَفْسَهُ إلَى أَنَّ الْعَقْلَ لَيْسَ بِمُهْدَرٍ أَصْلًا بَلْ هُوَ آلَةٌ يُعْرَفُ بِهِ الْحُسْنُ بَعْدَ مَا ثَبَتَ بِالْأَمْرِ كَالسِّرَاجِ لِلْأَبْصَارِ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُوجِبٍ بِحَالٍ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا زَعَمَ الْخَصْمُ أَنَّهُ مُدْرَكٌ بِالْعَقْلِ قَبْلَ الشَّرْعِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَمَسْأَلَةُ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ مَسْأَلَةٌ كَلَامِيَّةٌ عَظِيمَةٌ فَالْأَوْلَى أَنْ يُطْلَبَ تَحْقِيقُهَا مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ وَأَنْ يَقْتَصِرَ هَهُنَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَإِنَّمَا كَانَ الْحُسْنُ مِنْ مُوجِبَاتِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى طَلَبُ تَحْصِيلِ الْمَأْمُورِ بِأَبْلَغ الْجِهَاتِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا الطَّلَبُ إذَا كَانَ الْفِعْلُ حَسَنًا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكِيمٌ لَا يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ طَلَبُ مَا هُوَ قَبِيحٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28] . فَدَلَّ الْأَمْرُ عَلَى كَوْنِهِ حَسَنًا وَالْعَقْلُ إلَيْهِ هَادٍ لَا أَنَّهُ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ؛ إذْ لَوْ كَانَ حُسْنُ الْمَأْمُورِ بِهِ بِالْعَقْلِ لَمَا جَازَ وُرُودُ النَّسْخِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحُسْنَ الْعَقْلِيَّ حَقِيقِيٌّ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّبْدِيلُ فَثَبَتَ أَنَّ حُسْنَ الْمَشْرُوعَاتِ بِالْأَمْرِ، وَالْعَقْلُ يُدْرِكُ الْحُسْنَ فِي بَعْضِهَا فِي ذَاتِهِ وَفِي بَعْضِهَا فِي غَيْرِهِ كَذَا رَأَيْت بِخَطِّ شَيْخِي قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ (فَإِنْ قِيلَ) الْفِعْلُ عَرَضٌ وَأَنَّهُ صِفَةٌ وَالصِّفَةُ لَا تَقُومُ بِهَا الصِّفَةُ فَكَيْفَ يَصِحُّ وَصْفُهُ بِالْحُسْنِ

[باب بيان صفة الحسن للمأمور به وهو نوعان]

(بَابُ بَيَانِ صِفَةِ الْحُسْنِ لِلْمَأْمُورِ بِهِ) الْمَأْمُورُ بِهِ نَوْعَانِ فِي هَذَا الْبَابِ: حَسَنٌ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ وَحَسَنٌ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ، فَالْحَسَنُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: ضَرْبٌ لَا يَقْبَلُ سُقُوطَ هَذَا الْوَصْفِ بِحَالٍ وَضَرْبٌ يَقْبَلُهُ، وَضَرْبٌ مِنْهُ مُلْحَقٌ بِهَذَا الْقِسْمِ لَكِنَّهُ مُشَابِهٌ لِمَا حَسُنَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ، وَاَلَّذِي حَسُنَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ أَيْضًا: فَضَرْبٌ مِنْهُ مَا حَسُنَ لِغَيْرِهِ وَذَلِكَ الْغَيْرُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ مَقْصُودًا لَا يَتَأَدَّى بِاَلَّذِي قَبْلَهُ بِحَالٍ وَضَرْبٌ مِنْهُ مَا حَسُنَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ لَكِنَّهُ يَتَأَدَّى بِنَفْسِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَكَانَ شَبِيهًا بِاَلَّذِي حَسُنَ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ وَضَرْبٌ مِنْهُ حَسَنٌ لِحَسَنٍ فِي شَرْطِهِ بَعْدَ مَا كَانَ حَسَنًا لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ أَوْ مُلْحَقًا بِهِ وَهَذَا الْقِسْمُ سُمِّيَ جَامِعًا، أَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْقُبْحِ وَالْوُجُوبِ حَقِيقَةً، وَأَيْضًا الْفِعْلُ قَبْلَ الْوُجُودِ يُوصَفُ بِكَوْنِهِ حَسَنًا وَقَبِيحًا وَوَاجِبًا وَحَرَامًا وَالْمَعْدُومُ كَيْفَ يَقْبَلُ الصِّفَةَ حَقِيقَةً (قُلْنَا) هَذِهِ صِفَاتٌ رَاجِعَةٌ إلَى الذَّاتِ كَالْوُجُودِ مَعَ الْمَوْجُودِ وَالْحُدُوثِ مَعَ الْمُحْدَثِ، وَكَالْعَرَضِ الْوَاحِدِ الَّذِي يُوصَفُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ وَمُحْدَثٌ وَمَصْنُوعٌ وَعَرَضٌ وَصِفَةٌ وَلَوْنٌ وَسَوَادٌ فَهَذِهِ صِفَاتٌ رَاجِعَةٌ إلَى الذَّاتِ لَا مَعَانٍ زَائِدَةٌ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّ الْفِعْلَ يُوصَفُ بِأَنَّهُ حَسَنٌ وَقَبِيحٌ لِدُخُولِهِ تَحْتَ تَحْسِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْبِيحِهِ كَمَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ حَادِثٌ وَمُحْدَثٌ لِدُخُولِهِ تَحْتَ أَحْدَاثِ اللَّهِ تَعَالَى لَا أَنَّهُ مُحْدَثٌ لِحُدُوثٍ قَامَ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْحُدُوثَ مُحْدَثٌ فَيَحْتَاجُ إلَى حُدُوثٍ آخَرَ فَيُؤَدِّي إلَى الْقَوْلِ بِمَعَانٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَأَنَّهُ بَاطِلٌ. وَلِأَنَّ هَذِهِ صِفَاتٌ إضَافِيَّةٌ وَأَسْمَاءٌ نِسْبِيَّةٌ وَالصِّفَاتُ الْإِضَافِيَّةُ لَيْسَتْ بِمَعَانٍ قَائِمَةٍ بِالذَّاتِ وَيَكُونُ الذَّاتُ مَوْصُوفَةً بِهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا يَقْتَضِي وُجُودَ غَيْرٍ يَكُونُ عَلَقَةً بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ وَالِاسْمِ وَالْمُسَمَّى كَمَا فِي لَفْظِ الْأَبِ وَالِابْنِ وَالْأَخِ وَالذَّاتُ مَوْصُوفَةٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأُبُوَّةُ وَالْبُنُوَّةُ وَالْأُخُوَّةُ مَعَانِيَ قَائِمَةً بِالذَّاتِ مَوْصُوفَةً بِهَذِهِ الصِّفَاتِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأُبُوَّةُ وَالْبُنُوَّةُ وَالْأُخُوَّةُ مَعَانِيَ قَائِمَةً بِالذَّاتِ زَائِدَةً عَلَيْهَا، ثُمَّ يُوصَفُ الْمَعْدُومُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مَجَازًا؛ لِأَنَّ صِفَاتِ الذَّاتِ لَا يُتَصَوَّرُ قَبْلَ الذَّاتِ وَكَذَا الْأَحْدَاثُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْدُومِ إلَّا حَالَةَ الْحُدُوثِ وَعَلَى الطَّرِيقِ الثَّالِثِ يُوصَفُ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ كَوَصْفِ الْمَعْدُومِ بِأَنَّهُ مَعْلُومٌ وَمَذْكُورٌ وَمُخْبَرٌ عَنْهُ كَذَا فِي الْمِيزَانِ. [بَابُ بَيَانِ صِفَةِ الْحُسْنِ لِلْمَأْمُورِ بِهِ وَهُوَ نَوْعَانِ] [النَّوْع الْأَوَّل مَا حَسَن لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ] (بَابُ بَيَانِ صِفَةِ الْحُسْنِ لِلْمَأْمُورِ بِهِ) الْمَأْمُور بِهِ نَوْعَانِ فِي هَذَا الْبَابُ أَيْ فِي وَصْفِ الْحُسْنِ حَسَنٌ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ أَيْ اتَّصَفَ بِالْحُسْنِ بِاعْتِبَارِ حُسْنٍ ثَبَتَ فِي ذَاتِهِ وَحَسَنٌ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ أَيْ اتَّصَفَ بِالْحُسْنِ بِاعْتِبَارِ حُسْنٍ ثَبَتَ فِي غَيْرِهِ. ، ضَرْبٌ لَا يَقْبَلُ سُقُوطَ هَذَا الْوَصْفِ وَهُوَ حَسَنٌ بِحَالٍ سَوَاءٌ كَانَ مُكْرَهًا أَوْ غَيْرَ مُكْرَهٍ كَالتَّصْدِيقِ، وَضَرْبٌ مِنْهُ يَقْبَلُهُ أَيْ يَقْبَلُ سُقُوطَ وَصْفِ الْحُسْنِ عَنْهُ كَالْإِقْرَارِ فَإِنَّ وَصْفَ الْحُسْنِ سَقَطَ عَنْهُ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ هَذَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ، وَهُوَ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ حُسْنَ الْإِقْرَارِ وَمَا يُضَاهِيهِ لَا يَسْقُطُ فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ صَبَرَ عَلَيْهِ حَتَّى قُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا فَكَيْفَ يَكُونُ حُسْنُهُ سَاقِطًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَإِنَّمَا سَقَطَ وُجُوبُهُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ سُقُوطُ حُسْنِهِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْوُجُوبِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْحُسْنِ كَالْمَنْدُوبِ عَلَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْوُجُوبَ سَاقِطٌ. وَأُجِيبُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الصَّابِرِ عَلَيْهِ شَهِيدًا بَقَاءَ حُسْنِ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَقَطَ حُسْنُهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ إبَاحَةُ ضِدِّهِ وَهُوَ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ بَلْ بَقِيَ ذَلِكَ حَرَامًا كَمَا كَانَ إلَّا أَنَّ التَّرَخُّصَ ثَبَتَ رِعَايَةً لِحَقِّ نَفْسِهِ، فَإِذَا صَبَرَ حَتَّى قُتِلَ كَانَ شَهِيدًا بِنَاءً عَلَى بَقَاءِ حُرْمَةِ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ لَا عَلَى بَقَاءِ حُسْنِ الْإِقْرَارِ. وَقَوْلُهُ عَدَمُ الْوُجُوبِ لَيْسَ بِمُسْتَلْزِمٍ لِعَدَمِ الْحُسْنِ قُلْنَا أَرَادَ بِهِ عَدَمَ الْحُسْنِ مُطْلَقًا أَوْ عَدَمَ الْحُسْنِ الَّذِي ثَبَتَ بِنَاءً عَلَى الْوُجُوبِ فَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ لِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ بِانْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ ضَرْبٌ

فَنَحْوُ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ حَسَنٌ لِعَيْنِهِ غَيْرَ أَنَّهُ نَوْعَانِ: تَصْدِيقٌ هُوَ رُكْنٌ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِحَالٍ حَتَّى أَنَّهُ مَتَى تَبَدَّلَ ضِدُّهُ كَانَ كُفْرًا، وَإِقْرَارٌ هُوَ رُكْنٌ مُلْحَقٌ بِهِ لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِحَالٍ حَتَّى أَنَّهُ مَتَى تَبَدَّلَ بِضِدِّهِ بِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ لَمْ يَعُدْ كُفْرًا؛ لِأَنَّ اللِّسَانَ لَيْسَ مَعْدِنَ التَّصْدِيقِ لَكِنَّ تَرْكَ الْبَيَانِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ يَدُلُّ عَلَى فَوَاتِ التَّصْدِيقِ فَكَانَ رُكْنًا دُونَ الْأَوَّلِ فَمَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَتَرَكَ الْبَيَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا وَمَنْ لَمْ يُصَادِفْ وَقْتًا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ الْبَيَانِ وَكَانَ مُخْتَارًا فِي التَّصْدِيقِ كَانَ مُؤْمِنًا إنْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا يَقْبَلُ سُقُوطَ هَذَا الْوَصْفِ أَيْ كَوْنُهُ مَأْمُورًا بِهِ كَالتَّصْدِيقِ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. وَضَرْبٌ يَقْبَلُهُ أَيْ يَقْبَلُ سُقُوطَ هَذَا الْوَصْفِ كَالْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى مَأْمُورًا بِهِ فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ وَهَذَا أَحْسَنُ وَلَكِنْ سِيَاقُ الْكَلَامِ يَأْبَاهُ، وَمَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَدَلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّهُ قَالَ: وَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ قِسْمَانِ حَسَنٌ لِعَيْنِهِ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِحَالٍ يَعْنِي بِهِ السُّقُوطَ عَنْ الْمُكَلَّفِ وَحَسَنٌ لِعَيْنِهِ قَدْ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ. وَضَرْبٌ مِنْهُ أَيْ مِنْ الَّذِي حَسُنَ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ مَا أُلْحِقَ بِهِ حُكْمًا لَكِنَّهُ يُشْبِهُ بِمَا حَسُنَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ نَظَرًا إلَى حَقِيقَتِهِ كَالزَّكَاةِ، لَا يَتَأَدَّى أَيْ ذَلِكَ الْغَيْرُ الَّذِي هُوَ مَقْصُودٌ كَالصَّلَاةِ وَالْجُمُعَةِ مَثَلًا بِاَلَّذِي قَبْلَهُ وَهُوَ الطَّهَارَةُ وَالسَّعْيُ، فَكَانَ شَبِيهًا بِاَلَّذِي حَسُنَ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ مَا هُوَ مَوْصُوفٌ بِالْحُسْنِ حَقِيقَةً يَحْصُلُ بِنَفْسِ الْمَأْمُورِيَّةِ. وَضَرْبٌ مِنْهُ مَا حَسُنَ لِحُسْنٍ فِي شَرْطِهِ بَعْدَمَا كَانَ حَسَنًا لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ كَالصَّلَاةِ، أَوْ مُلْحَقًا بِاَلَّذِي حَسُنَ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ كَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ حَسَنَةٌ لِعَيْنِهَا لِكَوْنِهَا تَعْظِيمَ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلًا وَفِعْلًا وَالزَّكَاةُ مُلْحَقَةٌ بِهَا وَقَدْ ازْدَادَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ حُسْنًا بِاعْتِبَارِ حُسْنِ شَرْطِهَا وَهُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْأَدَاءِ، وَهَذَا الْقِسْمُ يُسَمَّى جَامِعًا لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَا هُوَ حَسَنٌ لِعَيْنِهِ وَلِغَيْرِهِ، وَقَدْ يَجْتَمِعُ الْحُسْنُ بِالِاعْتِبَارَيْنِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ كَالْمَرْأَةِ الْجَمِيلَةِ إذَا تَزَيَّنَتْ بِزِينَةٍ اكْتَسَبَتْ حُسْنًا زَائِدًا عَلَى حُسْنِهَا بِتِلْكَ الزِّينَةِ، وَنَظِيرُهُ الظَّهْرُ الْمَحْلُوفُ بِأَدَائِهِ فَإِنْ أَدَّاهُ صَارَ حَسَنًا احْتِرَازًا عَنْ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ كَانَ حَسَنًا فِي نَفْسِهِ. قَوْلُهُ (فَنَحْوُ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ) اُحْتُرِزَ بِهِ عَمَّنْ آمَنَ بِوَحْدَانِيِّتِهِ تَعَالَى وَأَنْكَرَ الصِّفَاتِ كَالْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَوْلُهُ غَيْرَ أَنَّهُ نَوْعَانِ لَيْسَ بِمُجْرًى عَلَى ظَاهِرِهِ؛ لِأَنَّ النَّوْعَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُوجَدَ فِيهِ تَمَامُ مَاهِيَّةِ الْجِنْسِ مَعَ زِيَادَةِ قَيْدٍ وَلَا يُوجَدُ تَمَامُ مَاهِيَّةِ الْإِيمَانِ فِي الْإِقْرَارِ وَلَا فِي التَّصْدِيقِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الشَّيْخُ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ غَيْرَ أَنَّهُ رُكْنَانِ أَيْ هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى رُكْنَيْنِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَصْدِيقٌ وَهُوَ رُكْنٌ وَإِقْرَارٌ هُوَ رُكْنٌ. ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ شَرْطُ إجْرَاءِ الْأَحْكَامِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى أَنَّ مَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يُقِرَّ بِلِسَانِهِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْبَيَانِ كَانَ مُؤْمِنًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَ مُؤْمِنٍ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، كَمَا أَنَّ الْمُنَافِقَ إذَا وُجِدَ مِنْهُ الْإِقْرَارُ دُونَ التَّصْدِيقِ كَانَ مُؤْمِنًا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا لِوُجُودِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ كَافِرًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لِعَدَمِ التَّصْدِيقِ. ، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ إلَّا أَنَّ الْإِقْرَارَ رُكْنٌ زَائِدٌ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ وَالتَّصْدِيقُ رُكْنٌ أَصْلِيٌّ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ فَعِنْدَ هَؤُلَاءِ لَوْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يُقِرَّ بِلِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُصَنِّفِ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَتَمَسَّكُوا فِي ذَلِكَ بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» وَالشَّهَادَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِاللِّسَانِ وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» ، وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «أُمِرَتْ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» ، وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ»

[الصلاة حسنت لمعنى في نفسها]

وَكَالصَّلَاةِ حَسُنَتْ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهَا مِنْ التَّعْظِيمِ لِلَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنَّهَا دُونَ التَّصْدِيقِ وَهِيَ نَظِيرُ الْإِقْرَارِ حَتَّى سَقَطَتْ بِأَعْذَارٍ كَثِيرَةٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَتَمَسَّكَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْإِيمَانَ لُغَةً وَعُرْفًا: هُوَ التَّصْدِيقُ فَحَسْبُ وَأَنَّهُ عَمَلُ الْقَلْبِ وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِاللِّسَانِ فَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ هُوَ تَصْدِيقُ اللَّهِ فِيمَا أَخْبَرَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ أَوْ تَصْدِيقُ رَسُولِهِ فِيمَا بَلَغَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فَمَنْ أَطْلَقَ اسْمَ الْإِيمَانِ عَلَى غَيْرِ التَّصْدِيقِ فَقَدْ صَرَفَهُ عَنْ مَفْهُومِهِ لُغَةً، وَبِأَنَّ الشَّيْءَ لَا وُجُودَ لَهُ إلَّا بِوُجُودِ رُكْنِهِ وَاَلَّذِي آمَنَ مَوْصُوفٌ بِالْإِيمَانِ عَلَى التَّحْقِيقِ مِنْ حِينِ آمَنَ إلَى أَنْ مَاتَ بَلْ إلَى الْأَبَدِ فَيَكُونُ مُؤْمِنًا بِوُجُودِ الْإِيمَانِ وَقِيَامُهُ بِهِ حَقِيقَةً وَلَا وُجُودَ لِلْإِقْرَارِ حَقِيقَةً فِي كُلِّ لَحْظَةٍ، فَدَلَّ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ بِمَا مَعَهُ مِنْ التَّصْدِيقِ الْقَائِمِ بِقَلْبِهِ الدَّائِمِ بِتَجَدُّدِ أَمْثَالِهِ لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْإِقْرَارَ لِيَكُونَ شَرْطًا لِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الدُّنْيَا إذْ لَا وُقُوفَ لِلْعِبَادِ عَلَى مَا فِي الْقَلْبِ فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ دَلِيلٍ ظَاهِرٍ لِتَمَكُّنِهِمْ بِنَاءَ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُطَّلِعُ عَلَى مَا فِي الضَّمَائِرِ فَيُجْرِي أَحْكَامَ الْآخِرَةِ عَلَى التَّصْدِيقِ بِدُونِ الْإِقْرَارِ حَتَّى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ وَلَمْ يُصَدِّقْ فَهُوَ مُؤْمِنٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَمَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يُقِرَّ بِلِسَانِهِ فَهُوَ كَافِرٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْإِقْرَارُ رُكْنًا عِنْدَ الشَّيْخِ وَالشَّيْءُ لَا يَبْقَى بِدُونِ رُكْنِهِ لَزِمَ عَلَيْهِ بَقَاءُ الْإِيمَانِ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ بِدُونِ الْإِقْرَارِ فَأَدْرَجَ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ الْجَوَابَ عَنْهُ، فَقَالَ: الْإِقْرَارُ رُكْنٌ مُلْحَقٌ بِهِ أَيْ بِالتَّصْدِيقِ فِي كَوْنِهِ رُكْنًا، لَكِنَّهُ اسْتِدْرَاكٌ عَنْ قَوْلِهِ هُوَ رُكْنٌ أَيْ الْإِقْرَارُ مَعَ كَوْنِهِ رُكْنًا مُحْتَمِلٌ لِلسُّقُوطِ عَنْ الْمُكَلَّفِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَهُوَ حَالَةُ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ اللِّسَانَ لَيْسَ مَعْدِنَ التَّصْدِيقِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِي الْإِيمَانِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ فَوَاتِ الْإِقْرَارِ فَوَاتُ التَّصْدِيقِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ الْإِقْرَارُ رُكْنًا لَكِنَّ اللِّسَانَ لَمَّا كَانَ مُعَبِّرًا عَمَّا فِي الْقَلْبِ كَانَ الْإِقْرَارُ دَلِيلًا عَلَى التَّصْدِيقِ وُجُودًا وَعَدَمًا فَجُعِلَ رُكْنًا فِيهِ، وَقِيَامُ السَّيْفِ فِي مَسْأَلَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى رَأْسِهِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى تَبْدِيلِ الْإِقْرَارِ حَاجَتُهُ إلَى دَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ لَا تَبْدِيلُ التَّصْدِيقِ، فَلَمْ يَصْلُحْ عَدَمُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ التَّصْدِيقِ فَلَمْ يَبْقَ رُكْنًا فَأَمَّا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَعَدَمُهُ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ التَّصْدِيقِ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنْهُ مَعَ كَوْنِهِ حَسَنًا لِعَيْنِهِ وَوَاجِبًا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَكَلَّفَهُ فِي الْإِتْيَانِ بِهِ لَا يَكُونُ إلَّا لِتَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ فَصَلُحَ أَنْ يَكُونَ رُكْنًا وَإِنْ كَانَ دُونَ التَّصْدِيقِ، مُخْتَارًا فِي التَّصْدِيقِ احْتِرَازًا عَنْ التَّصْدِيقِ حَالَةَ الْيَأْسِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ أَصْلًا، كَانَ مُؤْمِنًا يَعْنِي عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِنَّمَا قَالَ إنْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّصْدِيقَ الِاخْتِيَارِيَّ مَعَ عَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ الْإِقْرَارِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ [الصَّلَاةِ حَسُنَتْ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهَا] قَوْلُهُ (وَكَالصَّلَاةِ) عَطْفٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عَلَى قَوْلِهِ وَإِقْرَارٌ هُوَ رُكْنٌ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ وَالْإِقْرَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ فَكَانَا مِنْ الضَّرْبِ الثَّانِي فَكَانَ قَوْلُهُ وَإِقْرَارٌ هُوَ رُكْنُ ابْتِدَاءِ بَيَانِ الضَّرْبِ الثَّانِي، وَكَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ أَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَكَالتَّصْدِيقِ الَّذِي هُوَ الرُّكْنُ الْأَصْلِيُّ فِي الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ عَنْ الْمُكَلَّفِ بِحَالٍ وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي فَكَالْإِقْرَارِ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ مُلْحَقٌ بِالتَّصْدِيقِ؛ لِأَنَّهُ حَسَنٌ لِعَيْنِهِ إذْ هُوَ إقْرَارٌ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِقْرَارٌ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ وَهُوَ حَسَنٌ وَضْعًا لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ إلَى آخِرِهِ وَكَالصَّلَاةِ فَإِنَّهَا حَسُنَتْ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهَا وَهُوَ التَّعْظِيمُ لِلَّهِ تَعَالَى قَوْلًا وَفِعْلًا لِجَمِيعِ الْجَوَارِحِ وَتَعْظِيمُ الْمُعَظَّمِ حَسَنٌ فِي الشَّاهِدِ

إلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِرُكْنٍ فِي الْإِيمَانِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ فِي الْإِقْرَارِ وُجُودًا وَعَدَمًا دَلَالَةً عَلَى التَّصْدِيقِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ الزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ فَإِنَّ الصَّوْمَ صَارَ حَسَنًا لِمَعْنَى قَهْرِ النَّفْسِ وَالزَّكَاةُ لِمَعْنَى حَاجَةِ الْفَقِيرِ وَالْحَجُّ لِمَعْنَى شَرَفِ الْمَكَانِ إلَّا أَنَّ هَذِهِ الْوَسَائِطَ غَيْرُ مُسْتَحِقَّةٍ لِأَنْفُسِهَا؛ لِأَنَّ النَّفْسَ لَيْسَتْ بِجَانِيَةٍ فِي صِفَتِهَا وَالْفَقِيرَ لَيْسَ بِمُسْتَحِقِّ عِبَادَةٍ وَالْبَيْتَ لَيْسَ بِمُسْتَحِقٍّ لِنَفْسِهِ فَصَارَ هَذَا كَالْقِسْمِ الثَّانِي عِبَادَةً خَالِصَةً لِلَّهِ حَتَّى شَرَطْنَا لَهَا أَهْلِيَّةً كَامِلَةً ـــــــــــــــــــــــــــــQفَدَلَّ أَنَّهَا حَسُنَتْ فِي ذَاتِهَا وَضْعًا وَلِهَذَا كَانَتْ رَأْسَ الْعِبَادَاتِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «الصَّلَاةُ عِمَادُ الدِّينِ» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» ، لَكِنَّهَا تَسْقُطُ بِالْأَعْذَارِ إلَّا أَنَّ اعْتِبَارَ الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى اللَّفْظِ فِي كَلَامِ الْمَشَايِخِ خُصُوصًا تَصْنِيفَاتُ الشَّيْخِ غَيْرُ غَرِيبٍ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ الْحَسَنُ لِعَيْنِهِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْحَسَنِ حَقِيقَةً فِي ذَاتِهِ أَوْ حُكْمًا يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ مَا حَسُنَ لِعَيْنِهِ حَقِيقَةً وَمَا أُلْحِقَ بِهِ حُكْمًا. ، وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ بِاعْتِبَارِ احْتِمَالِ السُّقُوطِ وَعَدَمِهِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ أَيْضًا مَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ وَمَا لَا يَحْتَمِلُ فَجَعَلَ الْأَقْسَامَ ثَلَاثَةً فَالْقِسْمُ الْمُتَوَسِّطُ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ التَّقْسِيمِ وَمُسْتَبِدٍّ بِاعْتِبَارِ الْحَاصِلِ. وَكَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ الْحَسَنُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ ضَرْبَانِ مَا حَسُنَ لِعَيْنِهِ حَقِيقَةً وَمَا أُلْحِقَ بِهِ حُكْمًا وَالضَّرْبُ الْأَوَّلُ قِسْمَانِ مَا لَا يَقْبَلُ السُّقُوطَ وَمَا يَقْبَلُهُ إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ عَدَّ الْأَقْسَامَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ بِاعْتِبَارِ الْحَاصِلِ وَتَرَكَ التَّقْسِيمَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّهُ يَفْهَمُ مِمَّا ذُكِرَ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ. وَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَأَرَادَ مِنْهُ أَيْ مِنْ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ الْحَسَنَ لِعَيْنِهِ مُطْلَقًا بِاعْتِبَارِ أَصْلِ التَّقْسِيمِ الْمَفْهُومِ مِمَّا ذَكَرَهُ فَدَخَلَ فِيهِ الْقِسْمَانِ الْأَوَّلَانِ وَلِهَذَا لَمْ يُفْرِدْ الْقِسْمَ الْمُتَوَسِّطَ بِالذِّكْرِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ وَكَالصَّلَاةِ عَطْفًا عَلَى فَنَحْوُ الْإِيمَانِ وَيَكُونُ الْكَافُ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهَا دُونَ التَّصْدِيقِ إذْ لَوْ كَانَ عَطْفًا عَلَى الْإِقْرَارِ لَمْ يَبْقَ لِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ فَائِدَةٌ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا قَوْلُهُ فِيمَا بَعْدُ: وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ فِي اقْتِضَاءِ صِفَةِ الْحَسَنِ يَتَنَاوَلُ الضَّرْبَ الْأَوَّلَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ حَيْثُ أَرَادَ بِهِ الْحَسَنَ لِعَيْنِهِ مُطْلَقًا كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَوْلُهُ (إلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِرُكْنٍ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّهَا لَمَّا كَانَتْ كَالْإِقْرَارِ فَهَلَّا جُعِلَتْ رُكْنًا مِنْ الْإِيمَانِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَوَاهِرُ النُّصُوصِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ مِنْ الْإِيمَانِ فَقَالَ الْإِقْرَارُ دَلِيلٌ عَلَى التَّصْدِيقِ وُجُودًا وَعَدَمًا كَمَا ذَكَرْنَا فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رُكْنًا أَمَّا الصَّلَاةُ فَعَدَمُهَا لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ التَّصْدِيقِ أَصْلًا وَوُجُودُهَا لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى وُجُودِهِ إلَّا مُقَيَّدًا بِصِفَةٍ وَهُوَ الْجَمَاعَةُ حَتَّى لَوْ صَلَّى الْكَافِرُ مُنْفَرِدًا لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ فَلِهَذَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رُكْنًا فِيهِ قَوْلُهُ (صَارَ حَسَنًا لِمَعْنَى قَهْرِ النَّفْسِ) بَيَانُهُ أَنَّ الصَّوْمَ إنَّمَا حَسُنَ لِحُصُولِ قَهْرِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ الَّتِي هِيَ عَدُوُّ اللَّهِ وَعَدُوُّك بِهِ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْحَى إلَى دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَادِ نَفْسَك فَإِنَّهَا انْتَصَبَتْ لِمُعَادَاتِي وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «أَعْدَى عَدُوِّك نَفْسُك الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْك» ، لَا أَنَّهُ حَسَنٌ فِي ذَاتِهِ؛ لِأَنَّ تَجْوِيعَ النَّفْسِ وَمَنْعَ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ مَمْلُوكِهِ مَعَ النُّصُوصِ الْمُبِيحَةِ لَهَا مِثْلٌ قَوْله تَعَالَى {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 57] {كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالا طَيِّبًا} [البقرة: 168] لَيْسَ بِحَسَنٍ. ، وَكَذَا الزَّكَاةُ إنَّمَا صَارَتْ حَسَنَةً بِوَاسِطَةِ دَفْعِ حَاجَةِ الْفَقِيرِ الَّذِي هُوَ مِنْ خَوَاصِّ الرَّحْمَنِ لَا لِنَفْسِهَا؛ لِأَنَّ تَمْلِيكَ الْمَالِ وَتَنْقِيصَهُ فِي ذَاتِهِ إضَاعَةٌ وَهِيَ حَرَامٌ شَرْعًا وَمَمْنُوعٌ عَقْلًا، وَكَذَا الْحَجُّ إنَّمَا صَارَ حَسَنًا بِوَاسِطَةِ أَنَّهُ زِيَارَةُ أَمْكِنَةٍ مُعَظَّمَةٍ مُحْتَرَمَةٍ عَظَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَشَرَّفَهَا عَلَى غَيْرِهَا قَالَ وَاحِدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ: مَا أَنْتِ يَا مَكَّةُ إلَّا وَادِي ... شَرَّفَك اللَّهُ عَلَى الْبِلَادِ ، وَفِي زِيَارَتِهَا تَعْظِيمُ صَاحِبِهَا فَصَارَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQحَسَنًا بِوَاسِطَةِ شَرَفِ الْمَكَانِ لَا لِذَاتِهِ إذْ قَطْعُ الْمَسَافَةِ وَزِيَارَةُ أَمَاكِنَ مَعْلُومَةٍ يُسَاوِي فِي ذَاتِهِ سَفَرُ التِّجَارَةِ وَزِيَارَةُ الْبِلَادِ، غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْوَسَائِطَ تَثْبُتُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا اخْتِيَارَ لِلْعَبْدِ فِيهَا فَإِنَّ النَّفْسَ لَيْسَتْ بِجَانِيَةٍ فِي صِفَتِهَا بَلْ هِيَ مَجْبُولَةٌ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ كَالنَّارِ عَلَى صِفَةِ الْإِحْرَاقِ وَلِهَذَا لَا يُلَامُ أَحَدٌ عَلَى الْمَيْلِ إلَى الشَّهَوَاتِ وَلَا يُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّهُ طَبْعِيٌّ، وَلَا يُقَالُ لِمَا لَمْ تَكُنْ جَانِيَةً فِي صِفَتِهَا كَيْفَ اسْتَحَقَّتْ الْقَهْرَ؛ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّمَا وَجَبَ قَهْرُهَا بِمُخَالَفَةِ هَوَاهَا لِئَلَّا يَقَعَ الْمَرْءُ فِي الْهَلَاكِ بِسَبَبِ مُتَابَعَتِهَا كَمَا أَنَّ التَّبَاعُدَ وَجَبَ عَنْ النَّارِ احْتِرَازًا عَنْ الْهَلَاكِ وَإِنْ كَانَتْ مَجْبُولَةً فِي صِفَةِ الْإِحْرَاقِ غَيْرَ مُخْتَارَةٍ. ، وَكَذَا الْفَقِيرُ لَيْسَ بِمُسْتَحِقٍّ عِبَادَةً إذْ الْعِبَادَةُ لَا يَسْتَحِقُّهَا إلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِفَقْرِهِ قَدْ يَسْتَحِقُّ إيصَالَ النَّفْعِ إلَيْهِ بِطَرِيقِ الْمَبَرَّةِ الَّتِي تَدْعُو إلَيْهَا الطَّبِيعَةُ إذْ هِيَ فِي الْأَصْلِ مَائِلَةٌ إلَى الْإِحْسَانِ إلَى الْغَيْرِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْجِنْسِ وَلَكِنْ لَا يَسْتَحِقُّ مَا هُوَ عِبَادَةٌ أَصْلًا لِمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَا الْبَيْت لَيْسَ بِمُسْتَحِقٍّ لِلتَّعْظِيمِ بِنَفْسِهِ إذْ هُوَ حَجَرٌ كَسَائِرِ الْبُيُوتِ بَلْ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ مُعْظَمًا وَأَمْرُهُ أَبَانَا بِتَعْظِيمِهِ، وَلِمَا ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْوَسَائِطَ ثَبَتَتْ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى بِدُونِ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ كَانَتْ مُضَافَةً إلَى اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ وَسَقَطَ اعْتِبَارُهَا فِي حَقِّ الْعَبْدِ فَصَارَتْ هَذِهِ الْعِبَادَاتُ حَسَنَةً خَالِصَةً مِنْ الْعَبْدِ لِلرَّبِّ بِلَا وَاسِطَةٍ كَالصَّلَاةِ فَشَرَطَ لَهَا الْأَهْلِيَّةَ الْكَامِلَةَ فَلَا يَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ كَالصَّلَاةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي فَصْلِ الزَّكَاةِ. (فَإِنْ قِيلَ) الصَّلَاةُ صَارَتْ قُرْبَةً بِوَاسِطَةِ الْكَعْبَةِ أَيْضًا فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِنْ الضَّرْبِ الثَّالِثِ لَا مِنْ الثَّانِي كَالْحَجِّ. (قُلْنَا) إنَّمَا أَرَادَ بِالْوَاسِطَةِ هَهُنَا مَا يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ الْحُسْنِ لِلْمَأْمُورِ بِهِ عَلَيْهِ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ حُسْنَ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذِهِ الْوَسَائِطِ الْمَذْكُورَةِ حَتَّى شَابَهَتْ بِاعْتِبَارِهَا الْحَسَنَ لِغَيْرِهِ وَالصَّلَاةُ تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ حَسَنٌ فِي ذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ لَهُ عَلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ فَإِنَّهَا قَدْ كَانَتْ حَسَنَةً حِينَ كَانَتْ الْقِبْلَةُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَجِهَةَ الْمَشْرِقِ وَقَدْ تَبْقَى حَسَنَةً عِنْدَ فَوَاتِ هَذِهِ الْجِهَةِ حَالَةَ اشْتِبَاهِ الْقِبْلَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَتَوَقَّفْ حُسْنُهَا عَلَى الْوَاسِطَةِ كَانَتْ الضَّرْبَ الثَّانِي بِخِلَافِ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ حَسَنَةً بِدُونِ وَسَائِطِهَا فَكَانَتْ فِي الضَّرْبِ الثَّالِثِ. إلَيْهِ أَشَارَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ بَدْرُ الدِّينِ الْكَرْدَرِيُّ فِي فَوَائِدِ التَّقْوِيمِ، فَصَارَ هَذَا أَيْ الْقِسْمُ الثَّالِثُ كَالْقِسْمِ الثَّانِي وَهُوَ الْإِقْرَارُ وَالصَّلَاةُ حَتَّى شَرَطْنَا لَهَا أَهْلِيَّةً كَامِلَةً؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ الْخَالِصَةَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى شُرِعَتْ عَلَى الْعِبَادِ ابْتِلَاءً وَهُوَ غَنِيٌّ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَتَوَقَّفَ وُجُوبُ حَقِّهِ لِغِنَاهُ عَلَى كَمَالِ الْأَهْلِيَّةِ فَلَمْ يَجِبْ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ بِخِلَافِ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَإِنَّهَا يَجُوزُ أَنْ تَجِبَ بِأَهْلِيَّةٍ قَاصِرَةٍ لِحَاجَتِهِمْ فَيَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَيَنُوبُ الْوَلِيُّ مَنَابَهُمَا فِي الْأَدَاءِ، وَاعْلَمْ أَنَّ إيرَادَ الْإِيمَانِ فِي نَظَائِرِ هَذَا النَّوْعِ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّهُ فِي بَيَانِ الْحُسْنِ الَّذِي ثَبَتَ لِلْمَأْمُورِ بِهِ بِالْأَمْرِ وَعُرِفَ ذَلِكَ بِهِ لَا قَبْلَهُ بِالْعَقْلِ وَحُسْنُ الْإِيمَانِ ثَابِتٌ قَبْلَ الْأَمْرِ وَيُعْرَفُ بِالْعَقْلِ لَا بِتَوَقُّفِ ذَلِكَ عَلَى وُرُودِ السَّمْعِ حَتَّى قُلْنَا بِوُجُوبِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ أَصْلًا، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ الْقَاضِي الْإِمَامُ الْإِيمَانَ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ بَلْ بَدَأَ بِالصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ حُسْنَ هَذِهِ الْهَيْئَةِ ثَابِتٌ بِالْأَمْرِ لَا بِالْعَقْلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ حُسْنُهُ ثَابِتًا بِالسَّمْعِ عِنْدَ الشَّيْخِ لَا بِالْعَقْلِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيَّةِ لَكِنَّ قَوْلَهُ لَا يَقْبَلُ سُقُوطَ هَذَا الْوَصْفِ

[النوع الثاني ما حسن لمعنى في غيره]

وَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي: فَمِثْلُ السَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ لَيْسَ بِفَرْضٍ مَقْصُودٍ إنَّمَا حَسَنٌ لِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ لَا يَتَأَدَّى بِهِ الْجُمُعَةُ، وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ عِنْدَنَا مِنْ حَيْثُ هُوَ فِعْلٌ يُفِيدُ الطَّهَارَةَ لِلْبَدَنِ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ؛ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ تَبَرُّدٌ وَتَطَهُّرٌ لَكِنْ إنَّمَا حَسُنَ؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ إقَامَةُ الصَّلَاةِ وَلَا تَتَأَدَّى بِهِ الصَّلَاةُ بِحَالٍ وَيَسْقُطُ بِسُقُوطِهَا وَتَسْتَغْنِي عَنْ صِفَةِ الْقُرْبَةِ فِي الْوُضُوءِ حَتَّى يَصِحَّ بِغَيْرِ نِيَّةٍ عِنْدَنَا وَمِنْ حَيْثُ جَعْلُ الْوُضُوءِ فِي الشَّرْعِ قُرْبَةً يُرَادُ بِهَا ثَوَابُ الْآخِرَةِ كَسَائِرِ الْقُرَبِ لَا يَتَأَدَّى بِغَيْرِ نِيَّةٍ إلَّا أَنَّ الصَّلَاةَ تَسْتَغْنِي مِنْ هَذَا الْوَصْفِ فِي الْوُضُوءِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي الْجِهَادُ وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ إنَّمَا صَارَا حَسَنَيْنِ لِمَعْنَى كُفْرِ الْكَافِرِ وَإِسْلَامِ الْمَيِّتِ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَأْبَى هَذَا الِاحْتِمَالَ، ثُمَّ حَاصِلُ مَا ذُكِرَ أَنَّ التَّصْدِيقَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الْحُسْنِ وَالْإِقْرَارُ دُونَهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ وَالصَّلَاةُ دُونَهُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِرُكْنٍ فِي الْإِيمَانِ وَالصَّوْمُ وَاخْتَارَهُ دُونَهَا؛ لِأَنَّهَا مُشَابَهَةً لِلْحُسْنِ لِغَيْرِهِ [النَّوْع الثَّانِي مَا حَسُنَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ] قَوْلُهُ (وَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي) وَهُوَ مَا حَسُنَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَذَلِكَ الْغَيْرُ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِفِعْلِ مَقْصُودٍ فَمِثْلُ السَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ لَيْسَ بِفَرْضٍ مَقْصُودٍ أَيْ لَيْسَ بِحَسَنٍ فِي نَفْسِهِ إذْ هُوَ مَشْيٌ وَنَقْلُ أَقْدَامٍ وَإِنَّمَا حَسُنَ وَصَارَ مَأْمُورًا بِهِ لِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ إذْ بِهِ يُتَوَصَّلُ إلَى أَدَائِهَا فَكَانَ حَسَنًا لِغَيْرِهِ لَا لِذَاتِهِ ثُمَّ الْجُمُعَةُ لَا تَتَأَدَّى بِهِ بَلْ بِفِعْلٍ مَقْصُودٍ بَعْدِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مُشَابَهَةٌ بِالْحَسَنِ لِعَيْنِهِ أَصْلًا وَلِهَذَا قُدِّمَ هَذَا الضَّرْبُ عَلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَى رُتْبَةً مِنْ غَيْرِهِ فِي كَوْنِهِ حَسَنًا لِغَيْرِهِ بِمُقَابَلَةِ التَّصْدِيقِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَمَعْنَى السَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ هُوَ الْإِقْبَالُ عَلَيْهَا وَالْمَشْيُ بِلَا سُرْعَةٍ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] تَعَالَى أَقْبِلُوا عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ وَامْضُوا فِيهِ وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ السَّكِينَةِ فَصْلٌ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ يَمْشِي فِي الْجُمُعَةِ عَلَى هَيْئَتِهِ كَذَا فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ) أَيْ وَكَالسَّعْيِ الْوُضُوءُ فِي كَوْنِهِ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِعْلٌ يُفِيدُ الطَّهَارَةَ لِلْبَدَنِ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ أَيْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً مَقْصُودَةً إذْ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ كَوْنِهَا حَسَنَةً لِذَاتِهَا وَأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ تَبْرُدُ وَتَطْهُرُ وَذَلِكَ لَيْسَ بِحَسَنٍ لِذَاتِهِ وَإِنَّمَا حَسَنٌ بِسَبَبِ التَّمَكُّنِ مِنْ إقَامَةِ الصَّلَاةِ فَكَانَ حَسَنًا لِغَيْرِهِ، وَلَا يَتَأَدَّى بِهِ أَيْ بِالْوُضُوءِ الصَّلَاةُ بِحَالٍ وَيَسْقُطُ بِسُقُوطِ الصَّلَاةِ فَكَانَ كَامِلًا فِي كَوْنِهِ حَسَنًا لِغَيْرِهِ، وَلِهَذَا جَازَ التَّيَمُّمُ لِصَلَاةِ الْعِيدِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ عِنْدَ خَوْفِ الْفَوْتِ؛ لِأَنَّ التَّوَضُّؤَ إنَّمَا يَلْزَمُهُ إذَا كَانَ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ وَلَوْ اشْتَغَلَ بِهِ هُنَا تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ لَا إلَى خَلَفٍ فَتَسْقُطُ عَنْهُ وَإِذَا سَقَطَ عَنْهُ صَارَ وُجُودُ الْمَاءِ كَعَدَمِهِ فَكَانَ فَرْضُهُ التَّيَمُّمَ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. قَوْلُهُ (وَتَسْتَغْنِي) أَيْ الصَّلَاةُ عَنْ صِفَةِ الْقُرْبَةِ فِي الْوُضُوءِ جَوَابٌ عَمَّا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - النِّيَّةُ شَرْطٌ فِي الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ إذْ الْعِبَادَةُ اسْمٌ لِفِعْلٍ يُؤْتَى بِهِ تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى بِأَمْرِهِ وَحُكْمُهُ الثَّوَابُ وَكُلُّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْوُضُوءِ وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «الطَّهَارَةُ عَلَى الطَّهَارَةِ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ عِبَادَةٌ كَانَتْ النِّيَّةُ مِنْ شَرْطِهِ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ الْوُضُوءَ يَصْلُحُ أَنْ يَصِيرَ عِبَادَةً وَأَنْ لَا بُدَّ لِصَيْرُورَتِهِ عِبَادَةً مِنْ النِّيَّةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: صِحَّةُ الصَّلَاةِ تَسْتَغْنِي عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ بَلْ هِيَ إنَّمَا تَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِهِ طَهَارَةً وَبِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّدِ يَحْصُلُ الطَّهَارَةُ الَّتِي هِيَ شَرْطُ الصَّلَاةِ كَمَا لَوْ اسْتَدَامَ الطَّهَارَةَ وَلَمْ يَحْدُثْ حَتَّى حَضَرَتْ صَلَوَاتٌ، وَهَذَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهِ غَيْرُ الْمَقْصُودِ بَلْ مَقْصُودُ التَّمَكُّنِ مِنْ إقَامَةِ الصَّلَاةِ بِالطَّهَارَةِ، فَإِذَا طَهُرَتْ الْأَعْضَاءُ بِأَيِّ سَبَبٍ كَأَنْ سَقَطَ الْأَمْرُ كَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ يَسْقُطُ بِسَعْيٍ لَا لِلْجُمُعَةِ وَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ أَنْ يَصِيرَ عِبَادَةً بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّمَكُّنُ مِنْ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ بِحُصُولِهِ فِي الْمَسْجِدِ لَا لِكَوْنِهِ عِبَادَةً فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ حَصَلَ سَقَطَ الْأَمْرُ كَذَا هَذَا كَذَا فِي الْأَسْرَارِ [الْجِهَادُ وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ حَسَنَيْنِ لِمَعْنَى فِي غَيْرهمَا] قَوْلُهُ (وَالضَّرْبُ الثَّانِي) وَهُوَ الَّذِي حَسُنَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَذَلِكَ الْغَيْرُ يَتَأَدَّى بِالْمَأْمُورِ بِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى فِعْلٍ مَقْصُودٍ الْجِهَادُ وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ،

وَذَلِكَ مَعْنًى مُنْفَصِلٌ عَنْ الْجِهَادِ وَالصَّلَاةِ حَتَّى أَنَّ الْكُفَّارَ إنْ أَسْلَمُوا لَمْ يَبْقَ الْجِهَادُ مَشْرُوعًا إنْ تُصُوِّرَ لَكِنَّهُ خِلَافُ الْخَبَرِ وَإِذَا صَارَ حَقُّ الْمُسْلِمِ مَقْضِيًّا بِصَلَاةِ الْبَعْضِ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ يَتَأَدَّى بِالْمَأْمُورِ بِهِ بِعَيْنِهِ كَانَ شَبِيهًا بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَمَّا الْجِهَادُ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَسَنٍ فِي وَضْعِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعْذِيبُ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَخْرِيبُ بِلَادِهِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ حُسْنٌ كَيْفَ وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْآدَمِيُّ بُنْيَانُ الرَّبِّ مَلْعُونٌ مَنْ هَدَمَ بُنْيَانَ الرَّبِّ» ، وَسُئِلَ نَبِيٌّ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَنْ تَعْمِيرِ مُلُوكِ فَارِسَ وَقَدْ كَانُوا عَمَّرُوا الْأَعْمَارَ الطِّوَالَ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ أَنَّهُمْ عَمَّرُوا بِلَادِي فَعَاشَ فِيهَا عِبَادِي وَفِي رِوَايَةٍ أَنْصَفُوا عِبَادِي وَعَمَّرُوا بِلَادِي فَأَدَمْت لَهُمْ الْمُلْكَ، وَإِنَّمَا صَارَ حَسَنًا بِوَاسِطَةِ كُفْرِ الْكَافِرِ فَإِنَّ الْكَافِرَ صَارَ عَدُوَّ اللَّهِ تَعَالَى وَلِلْمُسْلِمِينَ فَشُرِعَ الْجِهَادُ إعْدَامًا لِلْكَفَرَةِ وَإِعْزَازًا لِلدِّينِ الْحَقِّ وَإِعْلَاءً لِكَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ فَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَسَنَةٍ فِي ذَاتِهَا إذْ هِيَ بِدُونِ الْمَيِّتِ عَبَثٌ كَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنَّمَا صَارَتْ حَسَنَةً بِوَاسِطَةِ إسْلَامِ الْمَيِّتِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَيِّتَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا كَانَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ قَبِيحَةً مَنْهِيًّا عَنْهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] ، الْآيَةَ فَصَارَتْ حَسَنَةً لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَهُوَ قَضَاءُ حَقِّ الْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ. قَوْلُهُ (وَذَلِكَ) أَيْ كُفْرُ الْكَافِرِ وَإِسْلَامُ الْمَيِّتِ مُنْفَصِلٌ عَنْ الْجِهَادِ وَالصَّلَاةِ فَإِنَّ الْكُفْرَ قَائِمٌ بِالْكَافِرِ وَالْإِسْلَامَ بِالْمَيِّتِ وَالْجِهَادَ قَائِمٌ بِالْمُجَاهِدِ وَالصَّلَاةَ بِالْمُصَلِّي، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَحْقِيقُ كَوْنِ هَذَا الضَّرْبِ حَسَنًا لِغَيْرِهِ إذْ حُصُولُ الْمَقْصُودِ بِالْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ نَفْسِهِ يُوهِمُ أَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالْحَسَنِ لِعَيْنِهِ كَالصَّوْمِ فَحَقَّقَ كَوْنَهُ حَسَنًا لِغَيْرِهِ بِقَوْلِهِ وَذَلِكَ مَعْنًى مُنْفَصِلٌ إلَى آخِرِهِ دَفْعًا لِذَلِكَ الْوَهْمِ. قَوْلُهُ (لَكِنَّهُ خِلَافُ الْخَبَرِ) ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَنْ يَبْرَحَ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا تُقَاتِلُ عَلَيْهِ عِصَابَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ حَتَّى يُقَاتِلَ آخِرُهُمْ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ» . قَوْلُهُ (كَانَ شَبِيهًا بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ) وَهُوَ الْحَسَنُ لِعَيْنِهِ وَهَذَا الضَّرْبُ عَكْسُ الضَّرْبِ الثَّالِثِ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ لِعَيْنِهِ شَبِيهٌ بِالْحَسَنِ لِغَيْرِهِ وَهَذَا الضَّرْبُ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ شَبِيهٌ بِالْحَسَنِ لِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَتْ الْوَاسِطَةُ وَهِيَ كُفْرُ الْكَافِرِ وَإِسْلَامُ الْمَيِّتِ هَهُنَا دُونَ الصَّوْمِ وَنَظِيرِيهِ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ فَهِيَ تَثْبُتُ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ وَصُنْعِهِ عَنْ طَوَاعِيَةٍ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهَا وَإِذَا اُعْتُبِرَتْ كَانَتْ الْعِبَادَةُ حَسَنَةً لِمَعْنًى فِي غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ تَتِمُّ بِالْعَبْدِ لِلرَّبِّ عَزَّتْ قُدْرَتُهُ فَتَكُونُ الْوَاسِطَةُ الْمُضَافَةُ إلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَ فِعْلِ الْعِبَادَةِ صُورَةً وَمَعْنًى بِخِلَافِ تِلْكَ الْوَسَائِطِ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ بِصُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِصُنْعِ لِلْعَبْدِ فِيهَا فَسَقَطَ اعْتِبَارُهَا فَبَقِيَتْ الْعِبَادَةُ حَسَنَةً مِنْ الْعَبْدِ لِلرَّبِّ بِلَا وَاسِطَةٍ ثُمَّ حُكْمُ النَّوْعِ الْأَوَّلِ مَعَ ضُرُوبِهِ الثَّلَاثَةِ وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا وَجَبَ بِالْأَمْرِ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْأَدَاءِ لَوْ بِاعْتِرَاضِ مَا يُسْقِطُهُ بِعَيْنِهِ. وَحُكْمُ الضَّرْبَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي وَاحِدٌ أَيْضًا وَهُوَ بَقَاءُ الْوُجُوبِ بِبَقَاءِ وُجُوبِ الْغَيْرِ وَسُقُوطُهُ بِسُقُوطِ الْغَيْرِ حَتَّى إذَا حَمَلَهُ إنْسَانٌ مِنْ الْجَامِعِ إلَى مَوْضِعٍ مُكْرَهًا بَعْدَ السَّعْيِ قَبْلَ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ إذَا خَلَّى عَنْهُ كَانَ السَّعْيُ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَإِذَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِدُونِ السَّعْيِ بِأَنْ حُمِلَ مُكْرَهًا إلَى الْجَامِعِ أَوْ كَانَ مُعْتَكِفًا فِيهِ فَصَلَّى الْجُمُعَةَ سَقَطَ اعْتِبَارُ السَّعْيِ وَلَا يَتَمَكَّنُ بِعَدَمِهِ نُقْصَانٌ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَإِذَا سَقَطَتْ عَنْهُ لِمَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ سَقَطَ السَّعْيُ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْوُضُوءِ إلَّا أَنَّ مَعَ عَدَمِ السَّعْيِ يَتِمُّ أَدَاءُ الْجُمُعَةِ وَبِدُونِ الْوُضُوءِ

[القدرة التي يتمكن بها العبد من أداء ما لزمه شرط للأداء دون الوجوب]

وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ فَمُخْتَصٌّ بِالْأَدَاءِ دُونَ الْقَضَاءِ وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُدْرَةِ الَّتِي يَتَمَكَّنُ بِهَا الْعَبْدُ مِنْ أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ وَذَلِكَ شَرْطُ الْأَدَاءِ دُونَ الْوُجُوبِ وَأَصْلُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وَهُوَ نَوْعَانِ مُطْلَقٌ وَكَامِلٌ فَأَمَّا الْمُطْلَقُ مِنْهُ فَأَدْنَى مَا يَتَمَكَّنُ بِهِ الْمَأْمُورُ مِنْ أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ بَدَنِيًّا كَانَ أَوْ مَالِيًّا وَهَذَا فَضْلٌ وَمِنَّةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا يَجُوزُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ مِنْ الْمُحْدِثِ؛ لِأَنَّ مَنْ شَرْطِ الْجَوَازِ الطَّهَارَةَ عَنْ الْحَدَثِ هَكَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قُلْت الْوُضُوءُ مُسَاوٍ لِلسَّعْيِ فِي هَذَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْوُضُوءِ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ السَّعْيِ وَحُصُولِ الطَّهَارَةِ بِهِ بِمَنْزِلَةِ حُصُولِ الرَّجُلِ فِي الْجَامِعِ بِالسَّعْيِ وَقَدْ تَحْصُلُ الصَّلَاةُ بِدُونِ فِعْلِ الْوُضُوءِ كَمَا تَحْصُلُ الْجُمُعَةُ بِدُونِ فِعْلِ السَّعْيِ وَلَا يَحْصُلُ بِدُونِ صِفَةِ الطَّهَارَةِ كَمَا لَا تَحْصُلُ الْجُمُعَةُ بِدُونِ كَوْنِهِ فِي الْجَامِع، وَكَذَلِكَ لَوْ تُصُوِّرَ إسْلَامُ الْخَلْقِ عَنْ آخِرِهِمْ لَا تَبْقَى فَرِيضَةُ الْجِهَادِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ حَقُّ الْمَيِّتِ مَتَى سَقَطَ بِعَارِضٍ مُضَافٍ إلَى اخْتِيَارِهِ مِنْ بَغْيٍ أَوْ قَطْعِ طَرِيقٍ أَوْ كُفْرٍ سَقَطَ حَقُّهُ. وَكَذَا إذَا قَامَ بِهِ الْوَلِيُّ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَمَتَى لَمْ يَقْضِ حَقُّهُ بِأَنْ صَلَّى عَلَيْهِ غَيْرُ الْوَلِيِّ كَانَتْ الصَّلَاةُ بَاقِيَةً عَلَى الْوَلِيِّ وَكَذَا إذَا لَمْ تَنْكَسِرْ شَوْكَةُ الْكُفَّارِ بِالْقِتَالِ مَرَّةً لَمْ يَسْقُطْ الْفَرْضُ وَوَجَبَ ثَانِيًا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لَهُ وَجَبَ بِمَنْزِلَةِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ فَلَا يَبْقَى الْحُكْمُ بِدُونِ السَّبَبِ، كَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. ، ثُمَّ الشَّيْخُ لَمَّا ذَكَرَ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ لَمْ يَذْكُرْهَا صَرِيحًا. [الْقُدْرَةِ الَّتِي يَتَمَكَّنُ بِهَا الْعَبْدُ مِنْ أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ شَرْطُ لِلْأَدَاءِ دُونَ الْوُجُوبِ] قَوْلُهُ (وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ) وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ جَامِعًا يَخْتَصُّ بِالْأَدَاءِ دُونَ الْقَضَاءِ أَيْ هَذَا الْقِسْمُ يَتَأَتَّى فِي الْأَدَاءِ دُونَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقِسْمَ إنَّمَا صَارَ جَامِعًا لِلْحُسْنِ الذَّاتِيِّ وَالْحُسْنِ الْإِضَافِيِّ بِاعْتِبَارِ اشْتِرَاطِ الْقُدْرَةِ وَهِيَ مَشْرُوطَةٌ فِي وُجُوبِ الْأَدَاءِ دُونَ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى مَا سَتَعْرِفُهُ فَلَا يَتَأَتَّى فِي الْقَضَاءِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحُسْنَيْنِ فَيَكُونُ مُخْتَصًّا بِالْأَدَاءِ ضَرُورَةً، ثُمَّ الْحُسْنُ بِاعْتِبَارِ الْغَيْرِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي هَذَا الْقِسْمِ مَعَ كَوْنِهِ حُسْنًا لِذَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَأْمُورًا بِهَا إلَّا بِقَدْرٍ مِنْ الْمُخَاطَبِ فَيَتَوَقَّفُ وُجُوبُهَا عَلَى الْقُدْرَةِ تَوَقُّفَ وُجُوبِ السَّعْيِ عَلَى وُجُوبِ الْجُمُعَةِ فَصَارَ حَسَنًا لِغَيْرِهِ مَعَ كَوْنِهِ حَسَنًا لِذَاتِهِ، وَذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى الْغَيْرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ الضَّرْبُ الثَّالِثُ أَيْ الشَّيْءُ الَّذِي صَارَ الْحَسَنُ لِعَيْنِهِ حَسَنًا لِغَيْرِهِ بِوَاسِطَتِهِ هِيَ الْقُدْرَةُ الَّتِي يَتَمَكَّنُ بِهَا الْعَبْدُ مِنْ أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ أَيْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَيْ الشَّرْطُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ الْقُدْرَةُ، شَرْطُ الْأَدَاءِ أَيْ شَرْطُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ، دُونَ الْوُجُوبِ أَيْ دُونَ نَفْسِ الْوُجُوبِ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ الشَّرْطُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ الْقُدْرَةُ الْحَقِيقِيَّةُ، شَرْطُ الْأَدَاءِ أَيْ شَرْطُ حَقِيقَةِ الْأَدَاءِ، دُونَ الْوُجُوبِ أَيْ دُونَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ شَرْطَهُ سَلَامَةُ الْآلَاتِ وَصِحَّةُ الْأَسْبَابِ لَا حَقِيقَةُ الْقُدْرَةِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْوَجْهُ وَعَلَيْهِ دَلَّ مَا ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي كِتَابَيْهِمَا، وَأَصْلُ ذَلِكَ أَيْ أَصْلُ اشْتِرَاطِ الْقُدْرَةِ قَوْله تَعَالَى {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] أَيْ طَاقَتَهَا وَقُدْرَتَهَا أَيْ لَا يَأْمُرُهَا بِمَا لَيْسَ فِي طَاقَتِهَا فَثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّ الْقُدْرَةَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْأَمْرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِالْمُمْتَنِعِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ فَقَالَ أَصْحَابُنَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَقْلًا وَلِهَذَا لَمْ يَقَعْ شَرْعًا وَقَالَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ إنَّهُ جَائِزٌ عَقْلًا وَاخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِهِ وَالْأَصَحُّ عَدَمُ الْوُقُوعِ وَالْخِلَافُ فِي التَّكْلِيفِ بِمَا هُوَ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَالْعَقْدِ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ فَأَمَّا التَّكْلِيفُ بِمَا هُوَ مُمْتَنِعٌ لِغَيْرِهِ كَإِيمَانِ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ مِثْلِ فِرْعَوْنَ وَأَبِي جَهْلٍ وَسَائِرِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى كُفْرِهِمْ فَقَدْ اتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى جَوَازِهِ عَقْلًا وَعَلَى وُقُوعِهِ شَرْعًا، فَالْأَشْعَرِيَّةُ تَمَسَّكُوا بِأَنَّ التَّكْلِيفَ مِنْهُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQتَصَرُّفٌ فِي عِبَادِهِ وَمَمَالِيكِهِ فَيَجُوزُ سَوَاءٌ أَطَاقَ الْعَبْدُ أَوْ لَمْ يُطِقْ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ التَّكْلِيفِ إمَّا أَنْ كَانَ لِاسْتِحَالَتِهِ فِي ذَاتِهِ أَوْ لِكَوْنِهِ قَبِيحًا لَا وَجْهَ إلَى الْأَوَّلِ لِتَصَوُّرِ صُدُورِ الْأَمْرِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُمْتَنِعِ لِلْعَبْدِ وَلَا إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْقُبْحَ إنَّمَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ حُصُولِ الْغَرَضِ وَالْقَدِيمُ مُنَزَّهٌ عَنْ الْغَرَضِ، وَتَمَسَّكَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ تَكْلِيفَ الْعَاجِزِ عَنْ الْفِعْلِ بِالْفِعْلِ يُعَدُّ سَفَهًا فِي الشَّاهِدِ كَتَكْلِيفِ الْأَعْمَى بِالنَّظَرِ فَلَا يَجُوزُ نِسْبَتُهُ إلَى الْحَكِيمِ جَلَّ جَلَالُهُ، تَحْقِيقُهُ أَنَّ حِكْمَةَ التَّكْلِيفِ هِيَ الِابْتِلَاءُ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِيمَا يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ بِاخْتِيَارِهِ فَيُثَابُ عَلَيْهِ أَوْ يَتْرُكُهُ بِاخْتِيَارِهِ فَيُعَاقَبُ عَلَيْهِ فَإِذَا كَانَ بِحَالٍ لَا يُمْكِنُ وُجُودُ الْفِعْلِ مِنْهُ كَانَ مَجْبُورًا عَلَى تَرْكِ الْفِعْلِ فَيَكُونُ مَعْذُورًا فِي الِامْتِنَاعِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ، وَيُعْرَفُ بَاقِي الْكَلَامِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ هَهُنَا مِنْ قَوْلِهِ، وَهَذَا أَيْ اشْتِرَاطُ هَذِهِ الْقُدْرَةِ فَضْلٌ وَمِنَّةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا يُوهِمُ بِظَاهِرِهِ أَنَّ التَّكْلِيفَ بِدُونِ هَذِهِ الْقُدْرَةِ يَجُوزُ عِنْدَهُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَمَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ أَنَّ الْمُكْنَةَ الْأَصْلِيَّةَ مَشْرُوطَةٌ فِي الْعِبَادَاتِ تَحْقِيقًا لِلْعَدْلِ عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وَالْمَيْسَرَةُ مَشْرُوطَةٌ فِي بَعْضِهَا تَحْقِيقًا لِلْفَضْلِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ، وَمَا ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ مُكْنَةَ الْعَبْدِ مِنْهُ حِكْمَةً وَعَدْلًا يُشِيرُ إلَى خِلَافِ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ إعْطَاءَ هَذِهِ الْقُدْرَةِ الَّتِي يَصِيرُ الْعَبْدُ بِهَا أَهْلًا لِلتَّكْلِيفِ الَّذِي هُوَ تَشْرِيفٌ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَمِنَّةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٌ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَسْأَلَةِ الْأَصْلَحِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ عِنْدَنَا وَبِنَاءُ التَّكْلِيفِ عَلَى هَذِهِ الْقُدْرَةِ وَاشْتِرَاطُهَا لَهُ فِيهِ عَدْلٌ وَحِكْمَةٌ وَهَذَا كَاشْتِرَاطِ الْعَقْلِ لِصِحَّةِ الْخِطَابِ عَدْلٌ وَحِكْمَةٌ؛ لِأَنَّ خِطَابَ مَنْ لَا يَفْهَمُ قَبِيحٌ وَخَلْقُ الْعَقْلِ فِي الْإِنْسَانِ لِيَصِيرَ أَهْلًا لِلْخِطَابِ فَضْلٌ وَمِنَّةٌ كَذَا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هَذَا التَّأْوِيلُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ لَكِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ لِاشْتِرَاطِ الْقُدْرَةِ لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ لَا لِإِعْطَاءِ الْقُدْرَةِ وَخَلْقِهَا فِي الْمُكَلَّفِ فَالْأَوْجَهُ أَنْ تُصْرَفَ الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ وَهَذَا فَضْلٌ إلَى اشْتِرَاطِ الْقُدْرَةِ دُونَ إعْطَائِهَا. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ جَوَازَ التَّكْلِيفِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقُدْرَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الَّتِي بِهَا يُوجَدُ الْفِعْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ إلَّا أَنَّهَا لَمَّا لَمْ تَسْبِقْ الْفِعْلَ وَلَا بُدَّ لِلتَّكْلِيفِ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا عَلَى الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ نُقِلَ الْحُكْمُ عَنْهَا إلَى سَلَامَةِ الْآلَاتِ وَصِحَّةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَحْدُثُ هَذِهِ الْقُدْرَةُ بِهَا عِنْدَ إرَادَةِ الْفِعْلِ عَادَةً فَشَرْطٌ لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ سَلَامَةُ الْآلَاتِ وَصِحَّةُ الْأَسْبَابِ لِصَلَاحِيَّتِهَا لِقَبُولِ تِلْكَ الْقُدْرَةِ وَتَعَلُّقِ تِلْكَ الْقُدْرَةِ بِهَا لَا مَحَالَةَ، فَاشْتِرَاطُ هَذِهِ الْقُدْرَةِ مَعَ أَنَّ التَّكْلِيفَ صَحِيحٌ بِدُونِهَا بِنَاءً عَلَى تَوَهُّمِ وُجُودِ الْقُدْرَةِ الْحَقِيقِيَّةِ عِنْدَ الْفِعْلِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ يَكُونُ تَحْقِيقًا لِلْفَضْلِ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْمِيزَانِ. وَعَلَيْهِ دَلَّ سِيَاقُ كَلَامِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ قَالَ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ الْقُدْرَةُ الَّتِي بِهَا يَتَمَكَّنُ الْمَأْمُورُ مِنْ الْأَدَاءِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ وُجُودُهَا وَقْتَ الْأَمْرِ لِصِحَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَدَّى الْمَأْمُورُ بِهِ بِالْقُدْرَةِ الْمَوْجُودَةِ وَقْتَ الْأَمْرِ وَإِنَّمَا يَتَأَدَّى بِالْمَوْجُودِ مِنْهَا عِنْدَ الْأَدَاءِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ سَابِقًا عَلَى الْأَدَاءِ فَإِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَسْبِقُ الْفِعْلَ وَعَدَمُهَا عِنْدَ الْأَمْرِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْأَمْرِ وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا بِمَنْزِلَةِ عَدَمِ

وَهَذَا شَرْطٌ فِي أَدَاءِ حُكْمِ كُلِّ أَمْرٍ حَتَّى أَجْمَعُوا أَنَّ الطَّهَارَة بِالْمَاءِ لَا تَجِبُ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْهَا بِبَدَنِهِ وَعَلَى مَنْ عَجَزَ عَنْ اسْتِعْمَالِهِ إلَّا بِنُقْصَانٍ يَحِلُّ بِهِ أَوْ بِمَالِهِ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى ثَمَنِ مِثْلِهِ وَفِي مَرَضٍ يَزْدَادُ بِهِ وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ لَا يَجِبُ أَدَاؤُهَا إلَّا بِهَذِهِ الْقُدْرَةِ وَالْحَجُّ لَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ إلَّا بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَ السَّفَرِ الْمَخْصُوصِ بِهِ لَا يَحْصُلُ بِدُونِهِمَا فِي الْغَالِبِ وَلَا يَجِبُ الزَّكَاةُ إلَّا بِقُدْرَةٍ مَالِيَّةٍ حَتَّى إذَا هَلَكَ النِّصَابُ بَعْدَ الْحَوْلِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ سَقَطَ الْوَاجِبُ بِالْإِجْمَاعِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَأْمُورِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ رَسُولًا إلَى النَّاسِ كَافَّةً ثُمَّ صَحَّ الْأَمْرُ فِي حَقِّ الَّذِينَ وُجِدُوا بَعْدَهُ وَيَلْزَمُهُمْ الْأَدَاءُ بِشَرْطِ أَنْ يَبْلُغَهُمْ فَيَتَمَكَّنُوا مِنْ الْأَدَاءِ فَكَمَا يَحْسُنُ الْأَمْرُ قَبْلَ وُجُودِ الْمَأْمُورِ يَحْسُنُ قَبْلَ وُجُودِ الْقُدْرَةِ الَّتِي يَتَمَكَّنُ بِهَا مِنْ الْأَدَاءِ وَلَكِنْ بِشَرْطِ التَّمَكُّنِ عِنْدَ الْأَدَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّصْرِيحَ بِهِ لَا يُعْدِمُ صِفَةَ الْحُسْنِ فِي الْأَمْرِ فَإِنَّ الْمَرِيضَ يُؤْمَرُ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ إذَا بَرِئَ فَيَكُونُ ذَلِكَ حَسَنًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء: 103] أَيْ إذَا أَمِنْتُمْ مِنْ الْخَوْفِ فَصَلُّوا بِلَا إيمَاءٍ وَلَا مَشْيٍ فَثَبَتَ بِمَا ذُكِرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ التَّكْلِيفَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ الْحَقِيقِيَّةِ صَحِيحٌ بِنَاءً عَلَى وُجُودِهَا عِنْدَ الْفِعْلِ فَاشْتِرَاطُ الْقُدْرَةِ الَّتِي هِيَ سَلَامَةُ الْآلَاتِ وَصِحَّةُ الْأَسْبَابِ عِنْدَ التَّكْلِيفِ يَكُونُ فَضْلًا لَا مَحَالَةَ. قَوْلُهُ (وَهَذَا شَرْطٌ فِي أَدَاءِ حُكْمِ كُلِّ أَمْرٍ) أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْقُدْرَةِ بِسَلَامَةِ الْآلَاتِ شَرْطُ وُجُوبِ أَدَاءِ مَا ثَبَتَ بِكُلِّ أَمْرٍ سَوَاءٌ كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ حَسَنًا لَعَيْنه أَوْ لِغَيْرِهِ، حَتَّى أَجْمَعُوا أَنَّ الطَّهَارَةَ لَا تَجِبُ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْهَا بِبَدَنِهِ بِأَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ حَقِيقَةً، وَتَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ يَجِدْ مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ فَإِنْ وَجَدَ مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. وَفِي فَتَاوَى الْقَاضِي الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ كَانَ الْمُعِينُ حُرًّا أَوْ امْرَأَتُهُ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا إعَانَتُهُ وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِهِ، وَالْفَرْقُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الْعَبْدَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِعَانَةُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ بَدَنِهِ بِخِلَافِ الْحُرِّ وَعَنْ هَذَا قِيلَ إنْ كَانَ الْمُعِينُ يُعِينُهُ بِبَدَلٍ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ عِنْدَ الْكُلِّ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ وَأَجْمَعُوا مُؤَوَّلٌ بِمَا ذَكَرْنَا عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُعِينُهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ فِي الْمِصْرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَجِدُ فِي الْمِصْرِ مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ وَالْعَجْزُ بِعَارِضٍ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ بِخِلَافِ مَقْطُوعِ الْيَدَيْنِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ قَوْلُهُ (وَعَلَى مَنْ عَجَزَ عَنْ اسْتِعْمَالِهِ) أَيْ حُكْمًا بِأَنْ حَلَّ نُقْصَانٌ بِبَدَنِهِ بِأَنْ ازْدَادَ مَرَضُهُ بِالتَّوَضُّؤِ أَوْ بِمَالِهِ بِأَنْ لَا يَجِدَ الْمَاءَ إلَّا بِثَمَنٍ غَالٍ. ، وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الْغَالِي فَقِيلَ إنْ كَانَ لَا يَجِدُهُ إلَّا بِضَعْفِ الْقِيمَةِ فَهُوَ غَالٍ وَقِيلَ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَهُوَ غَالٍ وَيُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْمَاءِ فِي أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَعِزُّ فِيهِ الْمَاءُ كَذَا فِي فَتَاوَى الْقَاضِي الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَوْلُهُ فِي مَرَضٍ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ فِي الزِّيَادَةِ، وَهُوَ لَفٌّ وَنَشْرٌ مُشَوِّشٌ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَكَالْوُضُوءِ الصَّلَاةُ لَا يَجِبُ أَدَاؤُهَا إلَّا بِهَذِهِ الْقُدْرَةِ أَيْ الْمُكْنَةِ وَلِهَذَا كَانَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ بِحَسَبِ مَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا أَوْ بِالْإِيمَاءِ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَ السَّفَرِ الْمَخْصُوصِ بِهِ أَيْ بِالْحَجِّ، لَا يَحْصُلُ دُونَهُمَا أَيْ دُونَ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فِي الْغَالِبِ فَالزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ مِنْ ضَرُورَاتِ السَّفَرِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْعَادَةُ؛ لِأَنَّ الزَّادَ عِبَارَةٌ عَنْ قُوتِهِ وَالرَّاحِلَةَ عِبَارَةٌ عَمَّا تَحْمِلُهُ وَهُوَ لَا يَجِدُ بُدًّا عَنْهُمَا وَلَا يُشْتَرَطُ زِيَادَةُ الْمَالِ وَالْخَدَمِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ ح يَتَعَلَّقُ بِالْمُكْنَةِ الْمُيَسَّرَةِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ فِي الْغَالِبِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ بِدُونِهِمَا بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ كَمَا هُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، وَقَدْ يُوجَدُ بِدُونِ الرَّاحِلَةِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ لَا يَصِحُّ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَلَا يُقَالُ أَدْنَى الْقُدْرَةِ فِيهِ صِحَّةُ الْبَدَنِ بِحَيْثُ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ وَاكْتِسَابِ الزَّادِ فِي الطَّرِيقِ وَلِهَذَا صَحَّ النَّذْرُ بِهِ مَاشِيًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوُجُوبُ مُتَعَلِّقًا بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ

وَلِهَذَا قَالَ زُفَرُ فِي الْمَرْأَةِ تَطْهُرُ مِنْ حَيْضِهَا أَوْ نِفَاسِهَا أَوْ الْكَافِرِ يُسْلِمُ أَوْ الصَّبِيِّ يَبْلُغُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ أَنْ لَا صَلَاةَ عَلَيْهِمْ إلَّا أَنْ يُدْرِكُوا وَقْتًا صَالِحًا لِلْأَدَاءِ لِمَا قُلْنَا لَكِنَّ أَصْحَابَنَا اسْتَحْسَنُوا بَعْدَ تَمَامِ الْحَيْضِ أَوْ دَلَالَةِ انْقِطَاعِهِ قَبْلَ تَمَامِهِ بِإِدْرَاكِ وَقْتِ الْغُسْلِ أَنَّهَا تَجِبُ بِإِدْرَاكِ جُزْءٍ يَسِيرٍ مِنْ الْوَقْتِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْقُدْرَةِ لَا بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الْقُدْرَةِ حَرَجٌ عَظِيمٌ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْهَلَاكِ فِي الْغَالِبِ وَالْحَرَجُ مَنْفِيٌّ وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا فِي الصَّلَاةِ الْقُدْرَةَ الْمُتَوَهَّمَةَ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَحَقَّقُ الْأَدَاءُ بِهَا لِيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي الْخُلْفِ وَهُوَ الْقَضَاءُ لَا لِعَيْنِ الْأَدَاءِ وَلَا خُلْفَ لِلْحَجِّ يَنْتَفِي بِمُبَاشَرَتِهِ الْحَرَجُ فَلِذَلِكَ لَمْ تُعْتَبَرْ، إلَّا بِقُدْرَةٍ مَالِيَّةٍ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَدَائِهَا بِأَنْ كَانَ مَالِكًا لِلْمَالِ قَادِرًا عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَائِبِهِ حَتَّى لَوْ ثَبَتَ لَهُ التَّمَكُّنُ بِمَالِ الْغَيْرِ بِأَنْ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ الْأَدَاءِ الزَّكَاةُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الطَّهَارَةِ حَيْثُ ثَبَتَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمَاءِ بِالْإِبَاحَةِ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْعِبَادَةِ فِيهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ بَلْ الْمَقْصُودُ الطَّهَارَةُ وَهِيَ تَحْصُلُ بِالْإِبَاحَةِ وَهَهُنَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ مَقْصُودٌ مَعَ ذَلِكَ صِفَةُ الْغِنَى فِي الْمُؤَدَّى مُعْتَبَرٌ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْإِبَاحَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ بَعِيدًا مِنْ مَالِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ يَجِدُ الْمَصْرِفَ لَا يَثْبُتُ التَّمَكُّنُ حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَالُ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَيْهِ سَقَطَ الْوَاجِبُ بِالْإِجْمَاعِ. ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِهِ؛ لِأَنَّ فِي الْهَلَاكِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ خِلَافًا كَمَا سَيَأْتِي قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قَالَ زُفَرُ إلَى آخِرِهِ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَأْمُورَ بِفِعْلٍ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى تَحْصِيلِ الْمَأْمُورِ بِهِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ لَيْسَ بِحِكْمَةٍ إلَّا أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى نَوْعَيْنِ أَحَدُهُمَا سَلَامَةُ الْآلَاتِ وَصِحَّةُ الْأَسْبَابِ وَهِيَ تُسَمَّى قُدْرَةً لِحُدُوثِ الْقُدْرَةِ فِيهَا عِنْدَ قَصْدِ الْفِعْلِ فِي الْمُعْتَادِ. وَالثَّانِي حَقِيقَةُ الْقُدْرَةِ الَّتِي يُوجَدُ بِهَا الْفِعْلُ وَالتَّكْلِيفُ يَعْتَمِدُ الْأُولَى وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَمِدَ الثَّانِيَةَ غَيْرَ أَنَّ تَعَذُّرَ تَقَدُّمِ الْمَشْرُوطِ عَلَى الشَّرْطِ مَنَعَ عَنْ ذَلِكَ فَنَقَلَ الشَّرْطِيَّةَ إلَى الْأُولَى لِحُصُولِ الثَّانِيَةِ بِهَا عَادَةً عِنْدَ الْفِعْلِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ حَقِيقَةً عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَوْ عَزَمَ عَلَى الْفِعْلِ لَوَجَدَ الْفِعْلَ بِالْقُدْرَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فَكَانَتْ حَالَةُ وُجُودِ الْفِعْلِ حَالَةَ وُجُودِ الْقُدْرَتَيْنِ جَمِيعًا، فَلِهَذَا قَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا صَارَ الْإِنْسَانُ أَهْلًا لِلتَّكْلِيفِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ بِأَنْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ أَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ طَهُرَتْ الْحَائِضُ أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ بِحَيْثُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الْفَرْضِ فِيهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَادِرٍ عَلَى الْفِعْلِ حَقِيقَةً لِفَوَاتِ الْوَقْتِ الَّذِي هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِ الْقُدْرَةِ فَلَمْ يَثْبُتْ التَّكْلِيفُ لِعَدَمِ شَرْطِهِ. وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّ احْتِمَالَ الْقُدْرَةِ ثَابِتٌ بِاحْتِمَالِ امْتِدَادِ الْوَقْتِ وَهُوَ كَافٍ لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ احْتِمَالٌ بَعِيدٌ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ شَرْطًا لِلتَّكْلِيفِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ احْتِمَالَ سَفَرِ الْحَجِّ بِدُونِ زَادٍ وَرَاحِلَةٍ وَاحْتِمَالَ الْقُدْرَةِ عَلَى الصَّوْمِ لِلشَّيْخِ الْفَانِي وَاحْتِمَالَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لِلْمَرِيضِ الْمُدْنَفِ وَالْمُقْعَدِ بِزَوَالِ الْمَرَضِ وَالزَّمَانَةِ وَاحْتِمَالَ الْإِبْصَارِ لِلْأَعْمَى بِزَوَالِ الْعَمَى أَقْرَبُ إلَى الْوُجُودِ مِنْ هَذَا الِاحْتِمَالِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَصْلُحْ شَرْطًا لِلتَّكْلِيفِ فَهَذَا أَوْلَى. قَوْلُهُ (لَكِنَّ أَصْحَابَنَا اسْتَحْسَنُوا) أَيْ عَمِلُوا بِالدَّلِيلِ الْخَفِيِّ الْأَقْوَى وَتَرَكُوا الْقِيَاسَ الَّذِي عَمِلَ بِهِ زُفَرُ بَعْدَ تَمَامِ الْحَيْضِ بِأَنْ انْقَطَعَ الدَّمُ عَلَى الْعَشَرَةِ، أَوْ دَلَالَةُ انْقِطَاعِهِ أَيْ الْحَيْضِ قَبْلَ تَمَامِهِ بِأَنْ انْقَطَعَ الدَّمُ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ بِإِدْرَاكِ وَقْتِ الْغُسْلِ بَعْدَ الِانْقِطَاعِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الدَّمَ إذَا انْقَطَعَ عَلَى الْعَشَرَةِ أَيْ تَمَّ الْحَيْضُ بِتَمَامِ الْعَشَرَةِ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ شَيْءٌ قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ كَانَ عَلَيْهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا وَإِنْ لَمْ تُدْرِكْ وَقْتَ الْغُسْلِ، وَإِنْ انْقَطَعَ عَلَى مَا دُونَ الْعَشَرَةِ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَغْتَسِلَ

يَصْلُحُ لِلْإِحْرَامِ بِهَا وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْفُصُولِ؛ لِأَنَّا نَحْتَاجُ إلَى سَبَبِ الْوُجُوبِ وَذَلِكَ جُزْءٌ مِنْ الْوَقْتِ وَنَحْتَاجُ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ إلَى احْتِمَالِ وُجُودِ الْقُدْرَةِ لَا إلَى تَحَقُّقِ الْقُدْرَةِ وُجُودًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَرْطُ حَقِيقَةِ الْأَدَاءِ فَأَمَّا سَابِقًا عَلَيْهِ فَلَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْبِقُ الْفِعْلَ إلَّا فِي الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ لَكِنَّ تَوَهُّمَ الْقُدْرَةِ يَكْفِي لِوُجُوبِ الْأَصْلِ مَشْرُوعًا ثُمَّ الْعَجْزُ الْحَالِيُّ دَلِيلُ النَّقْلِ إلَى الْبَدَلِ الْمَشْرُوعِ عِنْدَ فَوَاتِ الْأَصْلِ، وَقَدْ وُجِدَ احْتِمَالُ الْقُدْرَةِ بِاحْتِمَالِ امْتِدَادِ الْوَقْتِ عَنْ الْجُزْءِ الْأَخِيرِ بِوَقْفِ الشَّمْسِ كَمَا كَانَ لِسُلَيْمَانَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه ـــــــــــــــــــــــــــــQوَتَتَحَرَّمُ لِلصَّلَاةِ كَانَ عَلَيْهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ زَمَانَ الِاغْتِسَالِ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْحَيْضِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمَةِ، وَلِهَذَا لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الرَّجْعَةِ لِلزَّوْجِ قَبْلَ الِاغْتِسَالِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الدَّمَ يَسِيلُ تَارَةً وَيَنْقَطِعُ أُخْرَى فَبِمُجَرَّدِ الِانْقِطَاعِ لَا يُحْكَمُ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ لِجَوَازِ أَنْ يُعَاوِدَهَا الدَّمُ فَإِذَا اغْتَسَلَتْ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهَا فَلَمَّا كَانَتْ مُدَّةُ الِاغْتِسَالِ مِنْ الْحَيْضِ وَجَبَ أَنْ يُدْرَكَ جُزْءٌ مِنْ الْوَقْتِ بَعْدَ مُدَّةِ الِاغْتِسَالِ لِيَجِبَ عَلَيْهَا الصَّلَاةُ. وَقَوْلُهُ يَصْلُحُ لِلْإِحْرَامِ لِمُبَالَغَةِ جَانِبِ الْقِلَّةِ لَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ شَرْطًا حَتَّى لَوْ أَدْرَكَتْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهَا الصَّلَاةُ وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْفُصُولِ أَيْ كَمَا اسْتَحْسَنُوا فِي الْحَيْضِ اسْتَحْسَنُوا فِي إيجَابِ الصَّلَاةِ عَلَى الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ وَالصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ وَالْمَجْنُونِ إذْ أَفَاقَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي الْمُلَخَّصِ فِي الْفَتْوَى فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَلَوْ زَالَ الْعُذْرُ الْمُسْقِطُ لِلْقَضَاءِ كَالْجُنُونِ وَالصِّبَا وَالْكُفْرِ وَالْحَيْضِ فِي قَدْرِ تَكْبِيرَةٍ مِنْ الْوَقْتِ لَزِمَهُ تِلْكَ الصَّلَاةُ، وَلَوْ زَالَ قُبَيْلَ الْغُرُوبِ لَزِمَهُ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَلَوْ زَالَ قُبَيْلَ الْفَجْرِ لَزِمَهُ الْعِشَاءُ وَالْمَغْرِبُ وَكَذَا ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ أَيْضًا. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُوَ جُزْءٌ مِنْ الْوَقْتِ قَدْ وُجِدَ فِي حَقِّ الْأَهْلِ فَيَثْبُتُ بِهِ أَصْلُ الْوُجُوبِ إذْ هُوَ لَيْسَ بِمُفْتَقِرٍ إلَى شَيْءٍ آخَرَ وَكَذَا شَرْطُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ مَوْجُودٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَوَقِّفٍ عَلَى حَقِيقَةِ الْقُدْرَةِ لِامْتِنَاعِ تَقَدُّمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْفِعْلِ وَاسْتِحَالَةِ تَقَدُّمِ الْمَشْرُوطِ عَلَى شَرْطِهِ بَلْ هُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى تَوَهُّمِ الْقُدْرَةِ الَّذِي ثَبَتَ بِنَاءً عَلَى سَلَامَةِ الْآلَاتِ وَصِحَّةِ الْأَسْبَابِ وَقَدْ وُجِدَا لِتَوَهُّمٍ هَهُنَا لِجَوَازِ أَنْ يَظْهَرَ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ امْتِدَادٌ بِتَوَقُّفِ الشَّمْسِ فَيَسَعُ الْأَدَاءَ فَيَثْبُتُ بِهَذَا الْقَدْرِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ ثُمَّ بِالْعَجْزِ الْحَالِيِّ عَنْ الْأَدَاءِ يَنْتَقِلُ الْحُكْمُ إلَى خَلْفِهِ وَهُوَ الْقَضَاءُ. يُوضِحُهُ أَنَّ فِي أَوَامِرِ الْعِبَادِ يَثْبُتُ لُزُومُ الْأَدَاءِ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْقُدْرَةِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ اسْقِنِي مَاءً غَدًا يَكُونُ أَمْرًا صَحِيحًا مُوجِبًا لِلْأَدَاءِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَالِ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ غَدًا لِجَوَازِ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَهُ أَوْ يَظْهَرَ عَارِضٌ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ فَكَذَلِكَ فِي أَوَامِرِ الشَّرْعِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ يَثْبُتُ بِهَذَا الْقَدْرِ كَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (فَإِنْ قِيلَ) قَدْ ذَكَرْت أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى نَوْعَيْنِ: قُدْرَةُ سَلَامَةِ الْآلَةِ وَالْقُدْرَةُ الْحَقِيقِيَّةِ فَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ تَوَهُّمَ الْقُدْرَةِ الْحَقِيقِيَّةِ كَافٍ لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ إذَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى سَلَامَةِ الْآلَةِ وَوُجُودِهَا حَقِيقَةً وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَوَهُّمَ حُدُوثِ الْآلَةِ وَسَلَامَتِهَا كَافٍ لِصِحَّتِهِ فَإِنَّ تَوَهُّمَ حُدُوثِ آلَةِ الطَّيَرَان لِلْإِنْسَانِ ثَابِتٌ وَكَذَلِكَ تَوَهُّمُ حُدُوثِ سَلَامَةِ آلَةِ الْأَبْصَارِ وَالْمَشْيِ لِلْأَعْمَى وَالْمُقْعَدِ ثَابِتٌ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ التَّكْلِيفُ بِالطَّيَرَانِ وَالْإِبْصَارِ وَالْمَشْيِ وَالتَّوَهُّمُ الَّذِي ذَكَرْتُمْ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ لِلْفِعْلِ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ كَالْيَدِ لِلْبَطْشِ وَالرِّجْلِ لِلْمَشْيِ فَلَا يَصِحُّ بِنَاءُ التَّكْلِيفِ عَلَيْهِ. (قُلْنَا) تَوَهُّمُ هَذِهِ الْقُدْرَةِ إنَّمَا لَا يَصْلُحُ شَرْطُ التَّكْلِيفِ إذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ عَيْنَ مَا كُلِّفَ بِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ غَيْرَهُ فَهُوَ كَافٍ لِصِحَّتِهِ كَالْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ حَقِيقَةَ التَّوَضُّؤِ لَا يَصِحُّ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ حَقِيقَةً فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ خَلَفُهُ وَهُوَ التَّيَمُّمُ فَتَوَهُّمُ الْمَاءِ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا كَافٍ لِصِحَّةِ الْأَمْرِ بِهِ لِيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي حَقِّ خَلَفِهِ وَيَشْتَرِطُ ح سَلَامَةَ آلَاتِ الْخَلَفِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ لَا سَلَامَةُ آلَاتِ الْأَصْلِ وَفِي مَسْأَلَتِنَا

وَذَلِكَ نَظِيرُ مَسِّ السَّمَاءِ فَصَارَ مَشْرُوعًا ثُمَّ وَجَبَ النَّقْلُ لِلْعَجْزِ الْحَالِيِّ كَمَنْ هَجَمَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَهُوَ فِي السَّفَرِ أَنَّ خِطَابَ الْأَصْلِ عَلَيْهِ يَتَوَجَّهُ لِاحْتِمَالِ وُجُودِ الْمَاءِ ثُمَّ بِالْعَجْزِ الْحَالِيِّ يَنْتَقِلُ إلَى التُّرَابِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّكْلِيفِ إيجَابُ خَلَفِهِ لَا حَقِيقَةُ الْأَدَاءِ فَيُشْتَرَطُ سَلَامَةُ الْآلَاتِ فِي حَقِّ الْخَلَفِ وَهُوَ الْقَضَاءُ لَا سَلَامَةُ آلَاتِ الْأَصْلِ وَهُوَ الْأَدَاءُ بَلْ يَكْفِي فِيهِ تَوَهُّمُ الْحُدُوثِ. قَوْلُهُ (بِاحْتِمَالِ امْتِدَادِ الْوَقْتِ عَنْ الْجُزْءِ الْأَخِيرِ) كَلِمَةُ عَنْ بِمَعْنَى مِنْ الْبَيَانِيَّةِ وَيَتَعَلَّقُ بِالْوَقْتِ، وَالْوَقْتُ بِمَعْنَى الزَّمَانِ، وَالْبَاءُ فِي بِوَقْفِ الشَّمْسِ لِلسَّبَبِيَّةِ وَتَتَعَلَّقُ بِالِامْتِدَادِ أَيْ بِاحْتِمَالِ امْتِدَادِ الزَّمَانِ الَّذِي هُوَ الْجُزْءُ الْأَخِيرُ مِنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ بِسَبَبِ وَقْفِ الشَّمْسِ، كَمَا كَانَ لِسُلَيْمَانَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ، رُوِيَ «أَنَّ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا عُرِضَ لَهُ الْخَيْلُ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ وَفَاتَهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ أَوْ وِرْدٌ لَهُ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِاشْتِغَالِهِ بِهَا وَأَهْلَكَ تِلْكَ الْخَيْلَ بِالْعَقْرِ وَضَرْبِ الْأَعْنَاقِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص: 33] تَشَؤُّمًا بِهَا حَيْثُ شَغَلَتْهُ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ وَعِبَادَتِهِ وَقَهْرًا لِلنَّفْسِ بِمَنْعِهَا عَنْ حُظُوظِهَا جَازَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ أَكْرَمَهُ بِرَدِّ الشَّمْسِ إلَى مَوْضِعِهَا مِنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ لِيَتَدَارَكَ مَا فَاتَهُ مِنْ الصَّلَاةِ أَوْ الْوَرْدِ وَبِتَسْخِيرِ الرِّيحِ بَدَلًا عَنْ الْخَيْلِ فَتَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ» ، إلَيْهِ أُشِيرَ فِي كِتَابِ عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَكِتَابِ حِصَصِ الْأَتْقِيَاءِ مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -. قَوْلُهُ (وَذَلِكَ نَظِيرُ مَسِّ السَّمَاءِ) أَيْ اعْتِبَارِ تَوَهُّمِ الْقُدْرَةِ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا فِي وُجُوبِ الْأَدَاءِ لِخَلَفِهِ نَظِيرُ اعْتِبَارِنَا تَوَهُّمَ الْبِرِّ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا فِي انْعِقَادِ الْيَمِينِ عَلَى مَسِّ السَّمَاءِ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، فَإِذَا حَلَفَ لَيَمَسُّ السَّمَاءَ أَوْ لَيُحَوِّلَنَّ هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ عِنْدَنَا وَيَأْثَمُ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْيَمِينِ تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ مِنْهَا هَتْكُ حُرْمَةِ الِاسْمِ بِاسْتِعْمَالِ الْيَمِينِ فِي هَذَا الْمَحِلِّ، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ انْعِقَادِ الْيَمِينِ أَنْ يَكُونَ مَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ فِي وُسْعِهِ إيجَادُهُ وَلِهَذَا لَمْ يَنْعَقِدْ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هَهُنَا. وَلَكِنَّنَا نَقُولُ انْعِقَادُ الْيَمِينِ بِاعْتِبَارِ تَوَهُّمِ الصِّدْقِ فِي الْخَبَرِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فَإِنَّ السَّمَاءَ عَيْنٌ مَمْسُوسَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إخْبَارًا عَنْ الْجِنِّ {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} [الجن: 8] وَالْمَلَائِكَةُ يَصْعَدُونَ إلَيْهَا وَلَوْ أَقْدَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى صُعُودِهَا لَصَعِدَهَا كَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وَكَذَلِكَ الْحَجَرُ مَحَلٌّ قَابِلٌ لِلتَّحَوُّلِ لَوْ حَوَّلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَيَنْعَقِدُ يَمِينُهُ ثُمَّ يَحْنَثُ فِي الْحَالِ لِعَجْزِهِ عَنْ إيجَادِ شَرْطِ الْبِرِّ ظَاهِرًا وَذَلِكَ كَافٍ لِلْحِنْثِ وَلَا يُؤَخَّرُ الْحِنْثُ إلَى حِينِ الْمَوْتِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْغَمُوسِ؛ لِأَنَّ تَصَوُّرَ الْبِرِّ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ مُسْتَحِيلٌ فِيهِ بِمَرَّةٍ فَلَا يَنْعَقِدُ لِلْخَلَفِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ، وَلَا يُقَالُ: إعَادَةُ الزَّمَانِ الْمَاضِي فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَيْضًا وَقَدْ فَعَلَهُ لِسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْعَقِدَ يَمِينُ الْغَمُوسِ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَيْضًا؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ تَصَوُّرَ إعَادَةِ الزَّمَانِ الْمَاضِي عَلَى أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ فِعْلٍ قَدْ وُجِدَ مِنْهُ كَاذِبًا فَيَسْتَحِيلُ فِيهِ الصِّدْقُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَإِنْ أَعَادَ الزَّمَانَ لَا يَصِيرُ الْفِعْلُ فِيهِ مَوْجُودًا مِنْ الْحَالِفِ بِدُونِ أَنْ يَفْعَلَهُ فَلِهَذَا لَمْ يَنْعَقِدْ الْغَمُوسُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. قَوْلُهُ (فَصَارَ مَشْرُوعًا) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَقَدْ وُجِدَ احْتِمَالُ الْقُدْرَةِ، وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُ فِي فَصَارَ رَاجِعٌ إلَى وُجُوبِ الْأَصْلِ أَيْ فَصَارَ وُجُوبُ الْأَصْلِ وَهُوَ الْأَدَاءُ مَشْرُوعًا بِهَذَا الِاحْتِمَالِ، ثُمَّ وَجَبَ النَّقْلُ يَعْنِي إلَى خَلَفِهِ وَهُوَ الْقَضَاءُ لِلْعَجْزِ الْحَالِيِّ. قَوْلُهُ (كَمَنْ هَجَمَ) أَيْ دَخَلَ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ لَفْظَ الْهُجُومِ دُونَ الدُّخُولِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْإِتْيَانُ بَغْتَةً وَالدُّخُولُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَإِتْيَانُ وَقْتِ الصَّلَاةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَلِأَنَّ الْعَجْزَ فِي هَذِهِ

وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ فِي اقْتِضَاءِ صِفَةِ الْحُسْنِ يَتَنَاوَلُ الضَّرْبَ الْأَوَّلَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ كَمَالَ الْأَمْرِ يَقْتَضِي كَمَالَ صِفَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَكَذَلِكَ كَوْنُهُ عِبَادَةً يَقْتَضِي هَذَا الْمَعْنَى، وَيَحْتَمِلُ الضَّرْبَ الثَّانِيَ بِدَلِيلٍ وَعَلَى هَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لَمَّا تَنَاوَلَ الْأَمْرُ بَعْدَ الزَّوَالِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْجُمُعَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِفَةِ حُسْنِهِ وَعَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمَشْرُوعُ دُونَ غَيْرِهِ حَتَّى قَالَا لَا يَصِحُّ أَدَاءُ الظُّهْرِ مِنْ الْمُقِيمِ مَا لَمْ تَفُتْ الْجُمُعَةُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْحَالَةِ أَكْثَرُ فَإِنَّ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ بِاسْتِئْذَانٍ رُبَّمَا يَتَهَيَّأُ لِذَلِكَ فَأَمَّا إذَا دَخَلَ عَلَيْهِ بَغْتَةً فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّهَيُّؤُ لِذَلِكَ فَهُجُومُ وَقْتِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُسَافِرِ مَعَ اشْتِغَالِهِ بِتَعَبِ السَّفَرِ وَعَدَمِ مَنْ يُعْلِمُهُ بِالْوَقْتِ مِنْ مُؤَذِّنٍ وَنَحْوِهِ يُحَقِّقُ الْعَجْزَ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِعَدَمِ تَهْيِئَتِهِ الْمَاءَ قَبْلَ ذَلِكَ وَمَعَ ذَلِكَ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ خِطَابُ الْأَصْلِ أَيْ الْوُضُوءُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] ، لِاحْتِمَالِ حُدُوثِ الْمَاءِ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ كَمَا هُوَ مَنْقُولٌ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ بِالْعَجْزِ الظَّاهِرِيِّ إلَى خَلَفِهِ وَهُوَ التُّرَابُ قَوْلُهُ (وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ) أَيْ الْمُطْلَقُ عَنْ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ حَسَنٌ لِعَيْنِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ يَتَنَاوَلُ الضَّرْبَ الْأَوَّلَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: هُوَ الْحَسَنُ لِعَيْنِهِ وَقَدْ تَنَوَّعَ نَوْعَيْنِ مَا حَسُنَ لِعَيْنِهِ حَقِيقَةً وَمَا أُلْحِقَ بِهِ حُكْمًا فَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ يَتَنَاوَلُ الضَّرْبَ الْأَوَّلَ دُونَ مَا عَدَاهُ مِنْ الْأَقْسَامِ، أَوْ مَعْنَاهُ يَتَنَاوَلُ الضَّرْبَ الْأَوَّلَ أَيْ النَّوْعَ الْأَوَّلَ وَهُوَ الْحَسَنُ لِعَيْنِهِ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَيْ مِنْ التَّقْسِيمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُهُ الْمَأْمُورُ بِهِ نَوْعَانِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَ بَعْدَهُ وَيَحْتَمِلُ الضَّرْبَ الثَّانِيَ أَيْ مَا حَسُنَ لِغَيْرِهِ نَصَّ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْكُتُبِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ أَيْضًا فَقَالَ، وَأَمَّا الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ فِي الْعِبَادَةِ فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا حَسُنَ لِمَعْنًى فِي عَيْنِهِ مِثْلُ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالصَّلَاةِ إلَّا بِدَلِيلٍ يَصْرِفُهُ إلَى غَيْرِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَثْبُتُ بِهِ حُسْنُ الْمَأْمُورِ بِهِ لِعَيْنِهِ وَعِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا يَثْبُتُ الْحَسَنُ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحَسَنِ فِيهِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ عَلَى مَا مَرَّ وَهُوَ ضَرُورِيٌّ وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِالْأَدْنَى وَهُوَ الْحَسَنُ لِغَيْرِهِ فَلَا يَثْبُتُ مَا وَرَاءَهُ إلَّا بِدَلِيلٍ زَائِدٍ، وَلَكِنَّا نَقُولُ يَثْبُتُ بِمُطْلَقِ الْأَمْرِ أَقْوَى أَنْوَاعِ الطَّلَبِ وَهُوَ الْإِيجَابُ فَيَقْتَضِي ذَلِكَ كَمَالَ صِفَةِ الْحُسْنِ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الطَّلَبِ مِنْ الْحَكِيمِ لَمَّا اقْتَضَى نَفْسَ الْحُسْنِ فَكَمَالُهُ يَقْتَضِي كَمَالَ الْحُسْنِ أَيْضًا وَذَلِكَ فِي الْحُسْنِ الذَّاتِيِّ إذْ هُوَ الْحُسْنُ الْحَقِيقِيُّ وَالْحُسْنُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ الْغَيْرِ لَهُ شَبَهٌ بِالْمَجَازِ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَلِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْأَمْرِ بِفِعْلٍ هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى عِبَادَةٌ فَكَانَ الْأَمْرُ بِهِ اسْتِعْبَادًا إذْ لَا فَرْقَ فِي الْمَعْنَى بَيْنَ قَوْلِهِ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ اُعْبُدُونِي بِهَا وَالْعِبَادَةُ لِلَّهِ تَعَالَى حَسَنَةٌ لِعَيْنِهَا. ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ وَكَذَلِكَ كَوْنُهُ عِبَادَةً يَقْتَضِي هَذَا الْمَعْنَى، وَقَوْلُهُمْ ثَبَتَ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ فَيَثْبُتُ الْأَدْنَى قُلْنَا ثُبُوتُهُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْعُمُومِ وَلَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ صِفَةِ الْكَمَالِ فِيهِ وَكَلَامُنَا فِي ذَلِكَ، وَذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا قَالُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَرْعُ مَسْأَلَةِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فَمَنْ قَالَ الْحُسْنُ عَقْلِيٌّ قَالَ يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ أَنَّ الْحُسْنَ رَاجِعٌ إلَى ذَاتِهِ أَوْ إلَى غَيْرِ مُتَّصِلٍ بِهِ وَمَنْ قَالَ هُوَ شَرْعِيٌّ فَالْحُسْنُ عِنْدَهُمْ مَا أَمَرَ بِهِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَأْمُورٍ بِهِ حَسَنًا إلَّا إذَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ. قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي كَمَالَ صِفَةِ الْحُسْنِ لِلْمَأْمُورِ بِهِ قَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَمَّا تَنَاوَلَ الْأَمْرَ بَعْدَ الزَّوَالِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْجُمُعَةَ وَهُوَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] ، دَلَّ هَذَا الْأَمْرُ عَلَى صِفَةِ حُسْنِهِ أَيْ عَلَى كَوْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَهُوَ الْجُمُعَةُ حَسَنًا لِعَيْنِهِ، وَعَلَى أَنَّهُ أَيْ الْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ الْمَشْرُوعُ فِي حَقِّ مَنْ تَنَاوَلَهُ الْأَمْرُ دُونَ غَيْرِهِ حَتَّى لَوْ صَلَّى الصَّحِيحُ الْمُقِيمُ الظُّهْرَ فِي مَنْزِله وَلَمْ يَشْهَدْ الْجُمُعَةَ

وَقَالَا لَمَّا لَمْ يُخَاطَبْ الْمَرِيضُ وَالْعَبْدُ وَالْمُسَافِرُ بِالْجُمُعَةِ بَلْ بِالظُّهْرِ صَارَ الظُّهْرُ حَسَنًا مَشْرُوعًا فِي حَقِّهِمْ فَإِذَا أَدَّوْهَا لَمْ تُنْتَقَضْ بِالْجُمُعَةِ مِنْ بَعْدُ، وَقُلْنَا نَحْنُ لَا خِلَافَ فِي هَذَا الْأَصْلِ لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ الْأَمْرِ بِالْجُمُعَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى نَسْخِ الظُّهْرِ كَمَا قُلْتُمْ أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْدَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ يُقْضَى الظُّهْرُ وَلَا يَصْلُحُ قَضَاءٌ لِلْجُمُعَةِ وَلَا تُقْضَى الْجُمُعَةُ بِالْإِجْمَاعِ فَثَبَتَ أَنَّهُ عَوْدٌ إلَى الْأَصْلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا يُجْزِيهِ إلَّا إذَا أَعَادَ الظُّهْرَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ الْجُمُعَةِ عِنْدَ زُفَرَ وَبَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْوَقْتِ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا هِيَ الْجُمُعَةُ فِي حَقِّهِ إذْ هُوَ مَأْمُورٌ بِالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ وَتَرْكِ الِاشْتِغَالِ بِالظُّهْرِ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ فَوْتُ الْجُمُعَةِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ انْتِفَاءُ شَرْعِيَّةِ الظُّهْرِ قَبْلَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ ضَرُورَةً إلَّا أَنَّ عِنْدَ زُفَرَ فَوْتُ الْجُمُعَةِ بِفَرَاغِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ يَشْتَرِطُ السُّلْطَانَ لِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَوْتُهَا بِخُرُوجِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ السُّلْطَانَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. قَوْلُهُ (وَقَالَا) أَيْ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ إنَّ الْمَعْذُورَ إذَا صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَصَلَّاهَا لَا يُنْتَقَضُ بِهِ الظُّهْرُ وَهُوَ الْقِيَاسُ حَتَّى لَوْ شَرَعَ مَعَ الْإِمَامِ فَقَبْلَ أَنْ يُتِمَّ الْإِمَامُ الْجُمُعَةَ خَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ لَا يَلْزَمُهُ إعَادَةُ الظُّهْرِ، وَعِنْدَنَا يُنْتَقَضُ الظُّهْرُ وَيَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ فِي حَقِّهِ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ فَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ خِطَابُ الظُّهْرِ وَصَارَ الظُّهْرُ حَسَنًا مَشْرُوعًا فِي حَقِّهِ وَلِهَذَا صَحَّ أَدَاءُ الظُّهْرِ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ غَيْرِ إسَاءَةٍ وَإِذَا صَحَّ أَدَاؤُهُ فِي وَقْتِهِ لَمْ يُنْتَقَضْ بِالْجُمُعَةِ كَمَا إذَا صَلَّى الظُّهْرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَدْرَكَ الْجَمَاعَةَ أَوْ كَمَا إذَا صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ أَدَّى الْعَصْرَ وَيَلْزَمُ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَوْ أَدَّى الْجُمُعَةَ قَبْلَ أَدَاءِ الظُّهْرِ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا كَمَا لَوْ أَدَّى غَيْرُ الْمَعْذُورِ الظُّهْرَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فَرْضَ الْوَقْتِ وَاحِدٌ وَقَدْ تَعَيَّنَ الظُّهْرُ فِي حَقِّهِ فَانْدَفَعَ غَيْرُهُ ضَرُورَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْمَعْذُورَ لَوْ أَدَّى الْجُمُعَةَ قَبْلَ أَدَاءِ الظُّهْرِ يَجُوزُ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا لَوْ أَدَّى الظُّهْرَ، فَالْأَوْجَهُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي الْأَسْرَارِ وَهُوَ أَنَّ فَرْضَ الْوَقْتِ وَاحِدٌ وَأَجْمَعْنَا أَنَّ الْمَعْذُورَ لَمْ يُؤْمَرْ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ عَيْنًا بَلْ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَالظُّهْرِ، فَإِذَا أَدَّى أَحَدَهُمَا انْدَفَعَ الْآخَرُ كَالْمُكَفِّرِ عَنْ الْيَمِينِ إذَا كَفَّرَ بِنَوْعٍ بَطَلَ سَائِرُ الْأَنْوَاعِ وَلَمْ تَرَخَّصْ نَقْضُ مَا أَدَّى بِالْآخَرِ كَمَا إذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ لَمْ يُنْتَقَضْ بِالظُّهْرِ. قَوْلُهُ (وَقُلْنَا نَحْنُ لَا خِلَافَ فِي هَذَا الْأَصْلِ) يَعْنِي فِي كَوْنِ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ مُقْتَضِيًا لِكَمَالِ الْحُسْنِ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي كَيْفِيَّةِ تَوَجُّهِ الْأَمْرِ بِالْجُمُعَةِ فَيَقُولُ الْفَرْضُ الْأَصْلِيُّ فِي هَذَا الْيَوْمِ هُوَ الظُّهْرُ فِي حَقِّ الْكَافَّةِ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْعَيْنِ مَا يُخَاطَبُ الْآحَادُ بِإِقَامَتِهِ تُرَخِّصُ شَرَائِطَ لَا يَتَمَكَّنُ الْوَاحِدُ مِنْ إقَامَتِهَا بِنَفْسِهِ فَبَقِيَ الْفَرْضُ كَمَا كَانَ مَشْرُوعًا. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا فَاتَهُ فَرْضُ الْوَقْتِ أَصْلًا يَنْوِي قَضَاءَ الظُّهْرِ بَعْدَ الْوَقْتِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَصْلُ فَرْضِ الْوَقْتِ الظُّهْرَ لِمَا صَحَّ نِيَّةُ قَضَاءِ الظُّهْرِ بَعْدَ فَوَاتِ الْوَقْتِ فَثَبَتَ أَنَّ فَرْضَ الْوَقْتِ هُوَ الظُّهْرُ فِي حَقِّ الْكُلِّ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ إلَّا أَنَّ الْأَمْرَ وَرَدَ بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ النَّسْخِ لِلظُّهْرِ كَمَا زَعَمَ الْخَصْمُ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ وَبَقَاءِ الْوَقْتِ يُؤَدَّى الظُّهْرُ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ قَضَاءً لِلْجُمُعَةِ لِاخْتِلَافِهِمَا اسْمًا وَمِقْدَارًا وَشُرُوطًا كَيْفَ وَلَا قَضَاءَ لِلْجُمُعَةِ بِالْإِجْمَاعِ فَعَرَفْنَا أَنَّ مُوجِبَ الْأَمْرِ لَيْسَ نَسْخَ الظُّهْرِ بَلْ قَضِيَّتُهُ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ مَقَامَ الظُّهْرِ بِفِعْلِنَا غَيْرَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتْمٌ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَعْذُورِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَعْذُورِ بَلْ رُخِّصَ لَهُ أَنْ لَا يُقِيمَ الْجُمُعَةَ مَقَامَ الظُّهْرِ بِفِعْلِهِ وَيَأْتِي بِالْفَرْضِ الْأَصْلِيِّ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ قَبْلَ الظُّهْرِ كَانَ ذَلِكَ فَرْضَ وَقْتِهِ. وَكَذَا الْمُقِيمُ الصَّحِيحُ إذَا صَلَّى الظُّهْرَ بَعْدَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ كَانَ فَرْضَ وَقْتِهِ وَفَرْضُ الْوَقْتِ مَا عُلِّقَ إلَّا بِالْوَقْتِ فَأَمَّا الْفَوْتُ فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ قَضَاءُ

وَثَبَتَ أَنَّ قَضِيَّةَ الْأَمْرِ أَدَاءُ الظُّهْرِ بِالْجُمُعَةِ فَصَارَ ذَلِكَ مُقَرِّرًا لَا نَاسِخًا فَصَحَّ الْأَدَاءُ وَأَمَرَ بِنَقْضِهِ بِالْجُمُعَةِ كَمَا أَمَرَ بِإِسْقَاطِهِ بِالْجُمُعَةِ وَإِنَّمَا وَضَعَ عَنْ الْمَعْذُورِ أَدَاءُ الظُّهْرِ بِالْجُمُعَةِ رُخْصَةً فَلَمْ يَبْطُلْ بِهِ الْعَزِيمَةُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ الضَّرْبَ الثَّالِثَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ يَخْتَصُّ بِالْأَدَاءِ دُونَ الْقَضَاءِ، أَمَّا إذَا فَاتَ الْأَدَاءُ بِحَالِ الْقُدْرَةِ بِتَقْصِيرِ الْمُخَاطَبِ فَقَدْ بَقِيَ تَحْتَ عُهْدَتِهِ وَجُعِلَ الشَّرْطُ بِمَنْزِلَةِ الْقَائِمِ حُكْمًا لِتَقْصِيرِهِ وَأَمَّا إذَا فَاتَ لَا بِتَقْصِيرِهِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْقُدْرَةَ كَانَتْ شَرْطًا لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يُشْتَرَطْ لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْفَائِتِ فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الظُّهْرَ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ كَمَا أَنَّ الْجُمُعَةَ مَشْرُوعَةٌ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ وَصَارَ كَأَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ الدُّلُوكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَبَبًا لِلظُّهْرِ وَالْجُمُعَةِ عَلَى أَنْ يَخْتَارَ الْعَبْدُ الْجُمُعَةَ وَأَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ الظُّهْرِ إذَا أُدِّيَتْ، وَمِثَالُهُ وَقْتُ رَمَضَانَ عُلِّقَتْ شَرْعِيَّةُ الصَّوْمِ بِالشَّهْرِ فِي حَقِّ الْكُلِّ وَيَسْقُطُ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ بِعِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا قُلْنَا إذَا صَلَّى الْمُقِيمُ الظُّهْرَ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ فَرْضُ وَقْتِهِ وَلَمْ يُنْسَخْ بِالْجُمُعَةِ كَمَا فِي حَقِّ الْمَعْذُورِ؛ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي كَوْنِ الظُّهْرِ مَشْرُوعَ الْوَقْتِ فِي حَقِّهِمَا وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِي وُجُوبِ الْفِعْلِ وَعَدَمِهِ وَعَدَمُ الْوُجُوبِ لَا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ كَالْمُسَافِرِ إذَا صَامَ الشَّهْرَ صَحَّ كَالْمُقِيمِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا فِي أَنَّ الشَّهْرَ سَبَبُ شَرْعِ هَذَا الصَّوْمِ فِي حَقِّهِمَا إلَّا أَنَّ الصَّحِيحَ الْمُقِيمُ يَأْثَمُ بِتَرْكِ الْجُمُعَةِ بِأَدَاءِ الظُّهْرِ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ النَّهْيُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ مَا أَتَى بِهِ مِنْ الْفِعْلِ لَمْ يُوجِبْ فَسَادَ الْفِعْلِ. وَأَمَّا الْمُسَافِرُ إذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ بَعْدَ الظُّهْرِ فَقَدْ انْتَقَضَ ظُهْرُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يُسَاوِي الْمُقِيمَ فِي شَرْعِيَّةِ الْجُمُعَةِ فِي حَقِّهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَإِنَّمَا يُفَارِقُهُ فِي أَنْ ثَبَتَ لَهُ رُخْصَةُ التَّرْكِ وَهَذِهِ رُخْصَةٌ حَقِيقِيَّةٌ؛ لِأَنَّهَا رُخْصَةُ تَرْفِيهٍ بِالْإِجْمَاعِ وَهِيَ مُحَقِّقَةٌ لِلْعَزِيمَةِ لَا نَافِيَةٌ لَهَا فَإِذَا قُدِّمَ عَلَى الْعَزِيمَةِ صَارَ مُعْرِضًا عَنْ الرُّخْصَةِ الَّتِي هِيَ حَقُّهُ فَالْتَحَقَ بِالْمُقِيمِ وَالْمُقِيمُ يَفْسُدُ ظُهْرُهُ بِجُمُعَتِهِ كَذَا هَذَا كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَغَيْرِهِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ لَا أَدْرِي مَا أَصْلُ فَرْضِ الْوَقْتِ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَلَكِنْ يَسْقُطُ الْفَرْضُ عَنْهُ بِأَدَاءِ الظُّهْرِ أَوْ الْجُمُعَةِ، يُرِيدُ بِهِ أَنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ وَيَتَعَيَّنُ بِفِعْلِهِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ قَوْلُهُ. (وَثَبَتَ أَنَّ قَضِيَّةَ الْأَمْرِ) يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {فَاسْعَوْا} [الجمعة: 9] . أَدَاءُ الظُّهْرِ بِالْجُمُعَةِ أَيْ إقَامَتُهَا مَقَامَ الظُّهْرِ بِالْفِعْلِ وَإِسْقَاطُهُ عَنْ الذِّمَّةِ بِأَدَائِهَا، فَصَارَ ذَلِكَ أَيْ الْأَمْرُ بِالْجُمُعَةِ مُقَرِّرًا لِلظُّهْرِ لَا نَاسِخًا لَهُ بِمَنْزِلَةِ فِدَاءِ إسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْكَبْشِ حَيْثُ وَقَعَ الذَّبْحُ عَنْ إسْمَاعِيلَ وَلِهَذَا سُمِّيَ ذَبِيحًا، وَأَمَرَ بِنَقْضِهِ أَيْ الظُّهْرِ بِالْجُمُعَةِ بَعْدَمَا أُدِّيَ كَمَا أَمَرَ بِإِسْقَاطِهِ بِالْجُمُعَةِ قَبْلَ الْأَدَاءِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَاسْعَوْا} [الجمعة: 9] يَتَنَاوَلُ مَنْ صَلَّى الظُّهْرَ وَمَنْ لَمْ يُصَلِّهِ وَلِأَنَّهُ وَقَعَ مَكْرُوهًا وَسَبِيلُهُ النَّقْضُ بِالْإِعَادَةِ وَلَا يُقَالُ فِي الْأَمْرِ بِالنَّقْضِ إبْطَالُ الْعَمَلِ وَهُوَ حَرَامٌ مَنْهِيٌّ فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ؛ لِأَنَّ النَّقْضَ لِلْإِكْمَالِ جَائِزٌ وَلِأَنَّهُ إبْطَالٌ ضِمْنِيٌّ فَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ. (وَإِنَّمَا وُضِعَ عَنْ الْمَعْذُورِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّ الْمَعْذُورَ رُخِّصَ لَهُ تَرْكُ الْجُمُعَةِ فَإِذَا تَرَخَّصَ وَأَدَّى الظُّهْرَ فِي بَيْتِهِ اسْتَوْفَى مُوجِبَ الرُّخْصَةِ فَلَا يَكُونُ أَدَاءُ الْجُمُعَةِ مِنْهُ نَقْضًا لِمَا صَنَعَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَبْدِيلُ الرُّخْصَةِ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ فِي قَوْلِهِ وَلَمْ يُنْتَقَضْ بِالْجُمُعَةِ مِنْ بَعْدُ، فَقَالَ الْعَمَلُ بِالرُّخْصَةِ لَا يُوجِبُ إبْطَالَ الْعَزِيمَةِ إذَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ أَمْكَنَ هَهُنَا لِبَقَاءِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ أَدَاءِ الظُّهْرِ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ جُمُعَتُهُ بَعْدَمَا حَضَرَ وَأَدَّى الْجُمُعَةَ لَكَانَ عَائِدًا عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ؛ لِأَنَّ السُّقُوطَ كَانَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ كَانَ فِيهِ إثْبَاتُ حَرَجٍ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَعْذُورِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ قَوْلُهُ. (يَخْتَصُّ بِالْأَدَاءِ دُونَ الْقَضَاءِ) حَتَّى إذَا قَدَرَ فِي الْوَقْتِ عَلَى الْأَدَاءِ ثُمَّ زَالَتْ الْقُدْرَةُ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ كَانَ الْقَضَاءُ وَاجِبًا عَلَيْهِ، حُكْمًا لِتَقْصِيرِهِ؛ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِإِسْقَاطِ الْوَاجِبِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ وَهِيَ لَا تَصْلُحُ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ، فَلَمْ يُشْرَطْ الْبَقَاءُ الْوَاجِبُ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الشَّيْءِ غَيْرُ وُجُودِهِ وَلِهَذَا صَحَّ إثْبَاتُ الْوُجُودِ

وَلِهَذَا قُلْنَا لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا مَلَكَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ فَلَمْ يَحُجَّ حَتَّى هَلَكَ الْمَالُ لَمْ يَبْطُلْ عَنْهُ الْحَجُّ وَكَذَلِكَ صَدَقَةُ الْفِطْرِ لَا تَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْمَالِ لِمَا ذَكَرْنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQوَنَفْيُ الْبَقَاءِ بِأَنْ يُقَالَ وُجِدَ وَلَمْ يَبْقَ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ شَرْطُ الْوُجُودِ شَرْطَ الْبَقَاءِ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ شَرْطُ الشَّيْءِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِغَيْرِهِ كَالشُّهُودِ فِي بَابِ النِّكَاحِ شَرْطٌ لِلِانْعِقَادِ لَا لِلْبَقَاءِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ؛ لِأَنَّهُ بَقَاءُ التَّكْلِيفِ الْأَوَّلِ الَّذِي وُجِدَ شَرْطُهُ لَا أَنَّهُ تَكْلِيفٌ ابْتِدَائِيٌّ فَلِهَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ الْقُدْرَةُ. ، وَهَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ مَنْ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ بِالنَّصِّ الَّذِي وَجَبَ بِهِ الْأَدَاءُ فَأَمَّا مَنْ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ بِنَصٍّ مَقْصُودٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَشْتَرِطَ الْقُدْرَةَ فِي الْقَضَاءِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ آخَرُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ أَنَّ فِي النَّفَسِ الْأَخِيرِ مِنْ الْعُمُرِ يَلْزَمُهُ تَدَارُكُ مَا فَاتَهُ مِنْ الصَّلَوَاتِ وَالصِّيَامَاتِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهَا وَتَيَقَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِقَادِرٍ عَلَى تَدَارُكِهَا وَلِهَذَا تَبْقَى عَلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَيْسَ ذَلِكَ كَالْجُزْءِ الْأَخِيرِ مِنْ الْوَقْتِ فِي حَقِّ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّا اعْتَبَرْنَا ذَلِكَ لِيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي خَلْفِهِ وَلَا خَلَفَ لِلْقَضَاءِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ وَقَدْ بَقِيَتْ الْفَوَائِتُ عَلَيْهِ فَعُلِمَ أَنَّ الْقُدْرَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْأَدَاءِ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَا إذَا فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ فِي الصِّحَّةِ فَقَضَاهَا فِي حَالَةِ الْمَرَضِ قَاعِدًا أَوْ مُضْطَجِعًا أَوْ مُومِيًا حَيْثُ يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ الْقُدْرَةَ فِي الْقَضَاءِ لِمَا خَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ كَانَتْ وَاجِبَةً وَلَمْ يَأْتِ بِهَا؛ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّهُ قَضَاهَا كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ فِي الْأَدَاءِ أَصْلُ الْقُدْرَةِ الَّتِي تُمَكِّنُهُ مِنْ الْأَدَاءِ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا لَا قُدْرَةً مُكَيِّفَةً فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ اسْتِطَاعَتَهُ عَلَى الْقِيَامِ مَا كَانَتْ شَرْطًا فِي الِابْتِدَاءِ بَلْ شَرَطْنَا ذَلِكَ لِكَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ لَا أَنْ يَكُونَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْقِيَامِ مَشْرُوطَةً فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَرِيضًا فِي الْوَقْتِ يَلْزَمُهُ الصَّلَاةُ عَلَى مَا يَسْتَطِيعُهُ فَعُلِمَ أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ مُطْلَقُ الْقُدْرَةِ لَا الْقُدْرَةُ الْمُكَيِّفَةُ فَيَكُونُ اشْتِرَاطُ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَغَيْرِهِمَا أَمْرًا عَارِضًا زَائِدًا، كَذَا رَأَيْت فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ وَلَمْ يَتَّضِحْ لِي هَذَا الْجَوَابُ وَقَوْلُهُ. (وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ وَلِعَدَمِ اشْتِرَاطِهَا لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ قُلْنَا لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ وَإِنْ كَانَ عَجْزًا كُلِّيًّا فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ فَيَبْقَى تَحْتَ عُهْدَتِهِ مُؤَاخَذًا بِهِ فَثَبَتَ أَنَّ دَوَامَ الْقُدْرَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلْبَقَاءِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ أَثَرُ عَدَمِ السُّقُوطِ فِي حَقِّ الْإِثْمِ دُونَ وُجُوبِ الْفِعْلِ فَإِنَّ الْفِعْلَ سَاقِطٌ عَنْ الْمَيِّتِ بِالْإِجْمَاعِ وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ بَقَاءِ الْقُدْرَةِ لِبَقَائِهِ فَإِنَّ مَا ثَبَتَ بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسَّرَةِ لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ فِي حَقِّ الْإِثْمِ أَيْضًا فَإِنَّهُ إذَا فَرَّطَ فِي أَدَاءِ الزَّكَاةِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ حَتَّى هَلَكَ الْمَالُ يَبْقَى الْوَاجِبُ فِي حَقِّ الْإِثْمِ حَتَّى جَازَ أَنْ يُؤَاخَذَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ سَقَطَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَلَا يَصِحُّ هَذَا الِاسْتِدْلَال. ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ بَقَاءَ الْوُجُوبِ يَسْتَغْنِي عَنْ الْقُدْرَةِ عِنْدَ الشَّيْخِ وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ ابْتِدَاءً بِدُونِ الْقُدْرَةِ وَيَظْهَرُ ثَمَرَتُهُ فِيمَا إذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْدِرَ ثَانِيًا أَثِمَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَوْتِ بِتَأْخِيرِهِ مُخْتَارًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْقُدْرَةُ قَائِمَةً عِنْدَ الْإِيجَابِ وَلَمْ يَقْدِرْ حَتَّى مَاتَ لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ لِعَدَمِ شَرْطِ الْوُجُوبِ فَإِذَا قَدَرَ عَلَى الْحَجِّ مَثَلًا بِمِلْكِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ حَالَ أَمْنِ الطَّرِيقِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ فَإِنْ لَمْ يَحُجَّ وَلَمْ يَقْدِرْ بَعْدُ حَتَّى مَاتَ يُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَيْهِ أَصْلًا لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ حَالَةَ الْبَقَاءِ مَطْلُوبًا مِنْهُ فَأَمَّا إذَا كَانَ مَطْلُوبًا مِنْهُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْقُدْرَةِ؛ لِأَنَّ طَلَبَ الْفِعْلِ بِدُونِ الْقُدْرَةِ لَا يَجُوزُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَنْظُورَ إلَيْهِ اشْتِرَاطُ الْقُدْرَةِ حَالَةَ الْفِعْلِ فَيَجِبُ الْفِعْلُ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ فِي

[القدرة الميسرة والممكنة]

وَأَمَّا الْكَامِلُ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ فَالْقُدْرَةُ الْمُيَسَّرَةُ وَهَذِهِ زَائِدَةٌ عَلَى الْأُولَى بِدَرَجَةِ كَرَامَةٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَفَرْقُ مَا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ أَنَّ الْقُدْرَةَ الْأُولَى لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ فَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِهَا الْوَاجِبُ فَبَقِيَ شَرْطًا مَحْضًا فَلَمْ يُشْتَرَطْ دَوَامُهَا لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ ـــــــــــــــــــــــــــــQتِلْكَ الْحَالَةِ فَإِنَّهُ إذَا وَجَبَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ قَائِمًا يَقْضِيهَا فِي حَالَةِ الْمَرَضِ مُضْطَجِعًا وَيَخْرُجُ بِهِ عَنْ الْعُهْدَةِ وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ مُضْطَجِعًا يَقْضِيهَا فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ قَائِمًا لَا مُضْطَجِعًا فَلَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ الْقُدْرَةُ حَالَةَ الْبَقَاءِ وَلَمْ يَكُنْ حَالَ الْبَقَاءِ مَنْظُورًا إلَيْهَا فِي ذَلِكَ لَكَانَ الْجَوَابُ عَلَى الْعَكْسِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ. ، وَبَعْضُ الْحُذَّاقِ مِنْ تَلَامِذَةِ شَيْخِنَا كَانَ يَقُولُ لَا فَرْقَ فِي اشْتِرَاطِ الْقُدْرَةِ بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ إذَا كَانَ مَطْلُوبًا بِنَفْسِهِ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقُدْرَةُ الَّتِي هِيَ سَلَامَةُ الْآلَاتِ حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَ مَطْلُوبًا لِغَيْرِهِ يُشْتَرَطُ فِيهِ نَفْسُ التَّوَهُّمِ لَا غَيْرُ عَلَى مَا مَرَّ فَكَذَا الْقَضَاءُ إذَا كَانَ الْفِعْلُ مِنْهُ مَقْصُودًا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقُدْرَةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ فِيهِ مَقْصُودًا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّوَهُّمُ أَيْضًا فَفِي النَّفَسِ الْأَخِيرِ إنَّمَا يَبْقَى عَلَيْهِ وُجُوبُ قَضَاءِ الصَّلَوَاتِ الْمُتَكَثِّرَةِ وَالصِّيَامَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ بِنَاءً عَلَى تَوَهُّمِ الِامْتِدَادِ لِيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي الْمُؤَاخَذَةِ كَمَا إنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ يَثْبُتُ فِي الْجُزْءِ الْأَخِيرِ مِنْ الْوَقْتِ بِنَاءً عَلَى التَّوَهُّمِ لِيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي الْقَضَاءِ وَكَانَ يُخْرِجُ الْفُرُوعَ وَيَقُولَ إنَّمَا يَبْقَى الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ فِي الذِّمَّةِ بَعْدَ فَوَاتِ الْقُدْرَةِ لِتَوَهُّمِ حُدُوثِ الْقُدْرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ لَمْ تُشْتَرَطْ لِلْبَقَاءِ. وَكَذَلِكَ مَا ثَبَتَ بِقُدْرَةٍ مُيَسَّرَةٍ يَبْقَى بَعْدَ فَوَاتِ الْقُدْرَةِ كَالْكَفَّارَةِ بِالْمَالِ تَبْقَى بَعْدَ فَوَاتِ الْمَالِ بِنَاءً عَلَى تَوَهُّمِ حُدُوثِ الْقُدْرَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَلَكَ بَعْدَ فَوَاتِ الْمَالِ وَانْتِقَالِ الْحُكْمِ إلَى الصَّوْمِ مَا يُؤَدِّي بِهِ الْكَفَّارَةَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِالْمَالِ وَلَوْ كَانَ بَقَاءُ الْقُدْرَةِ شَرْطًا لِبَقَائِهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الْكَفَّارَةُ بِالْمَالِ بَعْدَ سُقُوطِهَا بِفَوَاتِ الْمَالِ كَمَا لَوْ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ ثُمَّ مَلَكَ الْمَالَ وَإِنَّمَا يَسْقُطُ الزَّكَاةُ بِهَلَاكِ الْمَالِ لِتَعَيُّنِ الْمَحِلِّ حَتَّى لَوْ سُرِقَ مَالُ الزَّكَاةِ أَوْ صَارَ ضِمَارًا سَقَطَ عَنْهُ الزَّكَاةُ لِفَوَاتِ الْقُدْرَةِ وَلَوْ وَجَدَهُ بَعْدَ سِنِينَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ وَلَكِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاءُ الزَّكَاةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ وَكَذَا الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُتَعَلِّقٌ بِنَمَاءٍ مُتَعَيِّنٍ فَبِهَلَاكِهِ لَمْ يَبْقَ التَّوَهُّمُ وَكَانَ يَقُولُ لَا أَجِدُ فَرْقًا بَيْنَ الصَّلَاةِ وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي أَنَّهُ تُعْتَبَرُ الْقُدْرَةُ عِنْدَ الْفِعْلِ وَيَكْفِي قَبْلَهُ التَّوَهُّمُ. وَيَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْقُدْرَةِ فِي الْقَضَاءِ مَا مَرَّ فِي بَابِ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ أَنَّ الْأَدَاءَ إنَّمَا يَفُوتُ مَضْمُونًا إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْمِثْلِ حَتَّى لَوْ عَجَزَ عَنْ الْمِثْلِ سَقَطَ كَمَا فِي سُقُوطِ فَضْلِ الْوَقْتِ وَغَصْبِ الْمَنَافِعِ وَإِتْلَافِ مِلْكِ النِّكَاحِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْقُدْرَةُ شَرْطًا فِي الْقَضَاءِ لَمَا سَقَطَ بِالْعَجْزِ إلَّا أَنَّ مَا وَجَبَ بِالْقُدْرَةِ الْمُمَكِّنَةِ يَبْقَى بَعْدَ فَوَاتِ تِلْكَ الْقُدْرَةِ لِتَوَهُّمِ الْقُدْرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنْ تَحَقَّقَ التَّوَهُّمُ وَجَبَ الْفِعْلُ وَإِلَّا ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي الْمُؤَاخَذَةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ. وَذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ فِي مَسْأَلَةِ التَّفْرِيطِ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْقُدْرَةَ الْمَشْرُوطَةَ لِابْتِدَاءِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ يُشْتَرَطُ لِبَقَاءِ وُجُودِ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّهَا شَرْطُ الْأَدَاءِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا كَلَّفَ أَدَاءَ مَا لَيْسَ فِي الْقُدْرَةِ وَأَسْقَطَ بِالْحَرَجِ كَثِيرًا مِنْ حُقُوقِهِ وَالْأَدَاءُ حَقِيقَتُهُ وَقْتَ الْفِعْلِ فَيُشْتَرَطُ قِيَامُ تِلْكَ الْقُدْرَةِ الْمَشْرُوطَةِ لِلْأَدَاءِ وَقْتَ الْفِعْلِ أَيْضًا، أَلَا تَرَى أَنَّا نَشْتَرِطُ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّوَضُّؤِ بِالْمَاءِ حِينَ الْمُبَاشَرَةِ وَقِيَامَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ قَائِمًا حِينَ الْأَدَاءِ لَا حِينَ الْوُجُوبِ [الْقُدْرَةُ الْمُيَسَّرَةُ وَالْمُمَكَّنَة] قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْكَامِلُ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ) أَيْ مِنْ الشَّرْطِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ الْوَاجِبَ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وَيَزْدَادُ حُسْنًا بِاشْتِرَاطِهِ الْقُدْرَةَ الْمُيَسِّرَةَ، وَهَذِهِ زَائِدَةٌ عَلَى الْأُولَى وَهِيَ الْمُمَكِّنَةُ بِدَرَجَةٍ؛ لِأَنَّ بِهَا يَثْبُتُ الْإِمْكَانُ ثُمَّ الْيُسْرُ، وَإِنَّمَا شُرِطَتْ هَذِهِ الْقُدْرَةُ فِي أَكْثَرِ الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيَّةِ وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِي الْبَدَنِيَّةِ؛ لِأَنَّ أَدَاءَهَا أَشَقُّ عَلَى النَّفْسِ مِنْ الْعِبَادَاتِ

وَهَذِهِ لَمَّا كَانَتْ مُيَسَّرَةً غَيَّرَتْ صِفَةَ الْوَاجِبِ فَجَعَلَتْهُ سَمْحًا سَهْلًا لَيِّنًا فَيُشْتَرَطُ بَقَاءُ هَذِهِ الْقُدْرَةِ لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ لَا لِمَعْنَى أَنَّهَا شَرْطٌ لَكِنْ لِمَعْنَى تَبَدُّلِ صِفَةِ الْوَاجِبِ بِهَا فَإِذَا انْقَطَعَتْ هَذِهِ الْقُدْرَةُ بَطَلَ ذَلِكَ الْوَصْفُ فَيَبْطُلُ الْحَقُّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِدُونِ ذَلِكَ الْوَصْفِ وَلِهَذَا قُلْنَا الزَّكَاةُ تَسْقُطُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْبَدَنِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ شَقِيقُ الرُّوحِ مَحْبُوبُ النَّفْسِ فِي حَقِّ الْعَامَّةِ وَالْمُفَارَقَةُ عَنْ الْمَحْبُوبِ بِالِاخْتِيَارِ أَمْرٌ شَاقٌّ إلَيْهِ أَشَارَ أَبُو الْيُسْرِ، وَفَرْقُ مَا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ أَيْ الْقُدْرَتَيْنِ أَنَّ الْأُولَى لَمَّا شُرِطَتْ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهَا صِفَةُ الْوَاجِبِ إذْ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِدُونِهَا فَكَانَتْ شَرْطًا مَحْضًا لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى الْعِلَّةِ بِوَجْهٍ وَالشَّرْطُ الْمَحْضُ لَا يُشْتَرَطُ دَوَامُهُ لِبَقَاءِ الْمَشْرُوطِ كَالطَّهَارَةِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الصَّلَاةِ وَلَا يُشْتَرَطُ دَوَامُهَا لِبَقَاءِ الْجَوَازِ وَكَالشُّهُودِ فِي بَابِ النِّكَاحِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَهَذِهِ أَيْ الْقُدْرَةُ الْمُيَسِّرَةُ، غَيَّرَتْ صِفَةَ الْوَاجِبِ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مُيَسِّرَةٌ. وَقَوْلُهُ شَرْطٌ جَوَابٌ لِمَا وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَشَرْطٌ بِالْفَاءِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ غَيَّرَتْ جَوَابٌ لِمَا، وَقَوْلُهُ فَجَعَلَتْهُ تَفْسِيرًا لِلتَّغْيِيرِ، وَقَوْلُهُ سَمْحًا سَهْلًا لَيِّنًا أَلْفَاظٌ مُتَرَادِفَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ وَهَذِهِ الْقُدْرَةُ لَمَّا كَانَتْ قُدْرَةً مُيَسِّرَةً مُغَيِّرَةً صِفَةَ الْوَاجِبِ مِنْ مُجَرَّدِ الْإِمْكَانِ إلَى صِفَةِ السُّهُولَةِ شُرِطَ بَقَاؤُهَا لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ. ، وَلَيْسَ مَعْنَى التَّغْيِيرِ أَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا أَوَّلًا بِقُدْرَةٍ مُمْكِنَةٍ بِصِفَةِ الْعُسْرِ ثُمَّ تُغَيَّرُ بِاشْتِرَاطِ هَذِهِ الْقُدْرَةِ إلَى وَصْفِ الْيُسْرِ بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا بِقُدْرَةٍ مُمَكِّنَةٍ لَكَانَ جَائِزًا فَلَمَّا تَوَقَّفَ الْوُجُوبُ عَلَى هَذِهِ الْقُدْرَةِ دُونَ الْمُمَكِّنَةِ صَارَ كَأَنَّ الْوَاجِبَ تَغَيَّرَ مِنْ الْعُسْرِ إلَى الْيُسْرِ بِوَاسِطَتِهَا فَكَانَتْ مُغَيِّرَةً وَصَارَتْ شَرْطًا فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ فَيُشْتَرَطُ دَوَامُهَا بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْعِلَّةِ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا شَرْطٌ، وَلَا يُقَالُ بَقَاءُ الْحُكْمِ يَسْتَغْنِي عَنْ بَقَاءِ الْعِلَّةِ أَيْضًا كَاسْتِغْنَاءِ الْمَشْرُوطِ عَنْ بَقَاءِ الشَّرْطِ فَيَجِبُ أَنْ لَا يُشْتَرَطَ دَوَامُهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّا نَقُولُ ذَلِكَ إذَا أَمْكَنَ الْبَقَاءُ بِدُونِ الْعِلَّةِ كَالرَّمْلِ فِي الْحَجِّ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَبَقَاءُ الْعِلَّةِ شَرْطٌ وَهَهُنَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّ الْيُسْرَ لَا يَبْقَى بِدُونِهَا وَالْوَاجِبُ لَا يَبْقَى بِدُونِ هَذَا الْوَصْفِ، لِمَعْنَى تَبَدُّلِ صِفَةِ الْوَاجِبِ أَيْ مِنْ الْعُسْرِ إلَى الْيُسْرِ، ذَلِكَ الْوَصْفُ أَيْ الْيُسْرُ، فَيَبْطُلُ الْحَقُّ أَيْ الْوَاجِبُ؛ لِأَنَّهُ مَتَى وَجَبَ بِصِفَةٍ لَا تَبْقَى إلَّا بِتِلْكَ الصِّفَةِ. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِاشْتِرَاطِ بَقَاءِ هَذِهِ الْقُدْرَةِ لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهَا قُلْنَا الزَّكَاةُ تَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْمَالِ عِنْدَنَا وَكَذَا الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ عَلَّقَ وُجُوبَهُ أَيْ وُجُوبَ هَذَا الْوَاجِبِ بِقُدْرَةٍ مُيَسِّرَةٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا تَمَكَّنَ مِنْ الْأَدَاءِ وَلَمْ يُؤَدِّ ضَمِنَ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ ثُمَّ بِهَلَاكِ الْمَالِ عَجَزَ عَنْ الْأَدَاءِ لِعَدَمِ مَا يُؤَدِّي بِهِ وَمَنْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ لَمْ يَبْرَأْ بِالْعَجْزِ عَنْ الْأَدَاءِ فَبَقِيَ عَلَيْهِ إلَى الْآخِرَةِ كَمَا فِي دُيُونِ الْعِبَادِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْحَجِّ، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ فَلَمَّا لَمْ يُؤَدِّ حَتَّى ذَهَبَ الْمَالُ بَعْدَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ صَارَ مُفَوِّتًا لِلْحَقِّ عَنْ مَحِلِّهِ فَيَضْمَنُ كَمَنْ لَمْ يُصَلِّ حَتَّى ذَهَبَ الْوَقْتُ، وَلَنَا أَنَّ الْحَقَّ الْمُسْتَحَقَّ إذَا وَجَبَ بِوَصْفٍ لَا يَبْقَى إلَّا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ عَيْنُ الْوَاجِبِ ابْتِدَاءً لَا غَيْرُهُ كَالْمِلْكِ إذَا ثَبَتَ مَبِيعًا يَبْقَى كَذَلِكَ وَإِنْ ثَبَتَ هِبَةً تَبْقَى كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ مَا فِي الذِّمَّةِ مِنْ صَوْمٍ أَوْ صَلَاةٍ أَوْ مَالٍ وَهَذَا الْوَاجِبُ وَجَبَ بَعْدَ نَمَاءِ الْمَالِ حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا فَلَوْ بَقِيَ بَعْدَ هَلَاكِ ذَلِكَ الْمَالِ الَّذِي هُوَ نَمَاءٌ لَا تُقْلَبُ غَرَامَةً يَأْتِي عَلَى أَصْلِ مَالِهِ. (فَإِنْ قِيلَ) الْبَاقِي عِنْدِي غَيْرُ الْوَاجِبِ ابْتِدَاءً بَلْ هُوَ مِثْلُهُ ضَمِنَهُ بِالتَّفْوِيتِ عَنْ وَقْتِهِ وَهُوَ أَوَّلُ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ كَتَفْوِيتِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ عَنْ الْوَقْتِ أَوْ بِالْمَنْعِ عَنْ الْفَقِيرِ بَعْدَ تَعَيُّنِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مَحِلًّا لِلصَّرْفِ إلَى الْفَقِيرِ كَمَنْعِ الرَّهْنِ عَنْ الْمُرْتَهِن. (قُلْنَا) الزَّكَاةُ لَيْسَتْ بِمُوَقَّتَةٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَفْوِيتُهَا عَنْ الْوَقْتِ وَكَذَا الْمَنْعُ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ إلَّا بِتَحَقُّقِ يَدِ الْغَاصِبِ عَلَى الْمَالِ

لِأَنَّ الشَّرْعَ عَلَّقَ الْوُجُوبَ بِقُدْرَةٍ مُيَسَّرَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْأَدَاءِ تَحْصُلُ بِمَالٍ مُطْلَقٍ ثُمَّ شُرِطَ النَّمَاءُ فِي الْمَالِ لِيَكُونَ الْمُؤَدَّى جُزْءًا مِنْهُ فَيَكُونَ فِي غَايَةِ التَّيْسِيرِ فَلَوْ قُلْنَا بِبَقَاءِ الْوَاجِبِ بِدُونِ النِّصَابِ لَانْقَلَبَ غَرَامَةً مَحْضَةً فَيَتَبَدَّلُ الْوَاجِبُ فَلِذَلِكَ سَقَطَ بِهَلَاكِ الْمَالِ وَلَا يَلْزَمُ أَنَّ النِّصَابَ شَرْطٌ لِابْتِدَاءِ الْوُجُوبِ وَلَا يُشْتَرَطُ لِبَقَائِهِ فَإِنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ الْبَاقِي يَبْقَى بِقِسْطِهِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ النِّصَابِ لَا يُغَيِّرُ صِفَةَ الْوَاجِبِ أَلَا تَرَى أَنَّ تَيْسِيرَ أَدَاءِ الْخَمْسَةِ مِنْ الْمِائَتَيْنِ وَتَيْسِيرَ أَدَاءِ الدِّرْهَمِ مِنْ الْأَرْبَعِينَ سَوَاءٌ لَا يَخْتَلِفُ؛ لِأَنَّهُ رُبُعُ عُشْرٍ بِكُلِّ حَالٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِأَنْ أَبْطَلَ عَلَى صَاحِبِ الْحَقِّ حَقَّهُ مِنْ مِلْكٍ كَمَا فِي مَنْعِ الْوَدِيعَةِ عَنْ الْمَالِكِ أَوْ يَدٍ مُتَقَوِّمَةٍ كَمَا فِي مَنْعِ الرَّهْنِ عَنْ الْمُرْتَهِنِ وَلَا تَصَوُّرَ لِيَدِ الْغَاصِبِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ صَاحِبِ الْمَالِ مِلْكًا وَيَدًا وَإِنَّمَا حَقُّ الْفَقِيرِ فِي أَنْ تَعَيَّنَ مَحِلًّا لِلصَّرْفِ إلَيْهِ وَبِالْمَنْعِ لَا تَبْطُلُ تِلْكَ الْمَحَلِّيَّةُ فَلَا يُوجِبُ الضَّمَانَ كَمَنْعِ الْمُشْتَرِي الدَّارَ عَنْ الشَّفِيعِ حَتَّى صَارَ بَحْرًا وَمَنْعِ الْمَوْلَى الْعَبْدَ الْمَدْيُونَ عَنْ الْبَيْعِ أَوْ الْعَبْدَ الْجَانِيَ عَنْ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِ الْأَرْشِ حَتَّى هَلَكَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ وَلَا عَلَى مَا فِي ذِمَّتِهِ مِنْ فِعْلِ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ لَا يُتَصَوَّرُ عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ، وَلِأَنَّهُ بِالْمَنْعِ إنَّمَا يَضْمَنُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَنْ وِلَايَةٍ وَلَهُ وِلَايَةُ الْمَنْعِ مَا دَامَ يَتَحَرَّى مَنْ هُوَ أَوْلَى كَالْإِمَامِ حَتَّى قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ مِنْ مَشَايِخِنَا إذَا طَلَبَ السَّاعِي فَامْتَنَعَ مِنْ الْأَدَاءِ إلَيْهِ حَتَّى هَلَكَ الْمَالُ ضَمِنَ وَهَكَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ؛ لِأَنَّ السَّاعِيَ مُتَعَيِّنٌ لِلْأَخْذِ فَيَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ عِنْدَ طَلَبِهِ فَبِالِامْتِنَاعِ يَصِيرُ مُفَوِّتًا. وَمَشَايِخُنَا يَقُولُونَ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا، وَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو سَهْلٍ الزَّجَّاجِيُّ وَأَبُو طَاهِرٍ الدَّبَّاسُ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ مَا فَوَّتَ بِهَذَا الْحَبْسِ عَلَى أَحَدٍ مِلْكًا وَلَا يَدًا وَلَهُ رَأْيٌ فِي اخْتِيَارِ مَحَلِّ الْأَدَاءِ إنْ شَاءَ مِنْ السَّائِمَةِ وَإِنْ شَاءَ مِنْ غَيْرِهَا فَإِنَّمَا حَبَسَ السَّائِمَةَ لِيُؤَدِّيَ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ فَلَا يَضْمَنُ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَالْمَبْسُوطِ. قَوْلُهُ (عَلَّقَ وُجُوبَهُ) أَيْ وُجُوبَ هَذَا الْجَوَابِ وَهُوَ الزَّكَاةُ بِقُدْرَةٍ مُيَسِّرَةٍ بِدَلِيلَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُكْنَةَ الْأَصْلِيَّةَ تَحْصُلُ بِمِلْكِ الْخَمْسَةِ مَثَلًا وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُوجِبْهَا الشَّرْعُ إلَّا بَعْدَ مِلْكِ الْمِائَتَيْنِ لِيَكُونَ الْوَاجِبُ قَلِيلًا مِنْ كَثِيرٍ، وَالثَّانِي أَنَّ الْوُجُوبَ تَعَلَّقَ بِوَصْفِ النَّمَاءِ لِئَلَّا يُنْتَقَضَ بِهِ أَصْلُ الْمَالِ وَإِنَّمَا يُفَوَّتُ بِهِ بَعْضُ النَّمَاءِ غَيْرَ أَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ الْمُدَّةَ فِي النِّصَابِ الْمُعَدِّ لِلنُّمُوِّ مَقَامَ حَقِيقَتِهِ تَيْسِيرًا لِمَا فِي التَّعْلِيقِ بِحَقِيقَةِ النُّمُوِّ ضَرْبُ حَرَجٍ فَعَرَفْنَا أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِقُدْرَةٍ مُيَسِّرَةٍ، وَإِلَى الْوَجْهِ الثَّانِي أُشِيرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، بِمَالٍ مُطْلَقٍ أَيْ عَنْ صِفَةِ النَّمَاءِ، فَيَتَبَدَّلُ الْوَاجِبُ أَيْ مِنْ الْيُسْرِ إلَى الْعُسْرِ فَكَانَ غَيْرَ الْأَوَّلِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِسَبَبٍ آخَرَ كَصَلَاةِ الْمُقِيمِ لَا يَتَغَيَّرُ إلَى الرَّكْعَتَيْنِ إلَّا بِمُغَيِّرٍ وَهُوَ السَّفَرُ وَكَذَا عَلَى الْعَكْسِ. 1 - قَوْلُهُ (وَلَا يَلْزَمُ) جَوَابُ السُّؤَالِ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ اشْتِرَاطَ النِّصَابِ فِي الِابْتِدَاءِ لِلتَّيْسِيرِ كَاشْتِرَاطِ النَّمَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُكْنَةَ الْأَصْلِيَّةَ تَثْبُتُ بِدُونِهِ كَمَا ذَكَرْنَا فَوَجَبَ أَنْ يُشْتَرَطَ بَقَاؤُهُ لِبَقَاءِ الْوُجُوبِ كَمَا شُرِطَ لِابْتِدَائِهِ وَلَوْ مَلَكَ بَعْضَ النِّصَابِ فِي الِابْتِدَاءِ لَا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الزَّكَاةِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ لَا يَبْقَى بِبَقَاءِ الْبَعْضِ شَيْءٌ مِنْ الْوَاجِبِ وَقَدْ قُلْتُمْ بِخِلَافِهِ، فَقَالَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْيُسْرَ فِي اشْتِرَاطِ النِّصَابِ بَلْ الْيُسْرُ فِي إيجَابِ الْقَلِيلِ مِنْ الْكَثِيرِ وَذَلِكَ ثَابِتٌ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ فَإِنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إلَّا أَدَاءُ رُبُعِ عُشْرِ الْبَاقِي وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْيُسْرَ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ بِإِيجَابِ رُبُعِ الْعُشْرِ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ وَلَمْ يَكُنْ يَزْدَادُ يُسْرُ مَا تَعَلَّقَ بِجُزْءٍ بِانْضِمَامِ جُزْءٍ آخَرَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ رُبُعُ الْعُشْرِ أَيْضًا كَمَا تَعَلَّقَ بِذَلِكَ الْجُزْءِ فَكَمَا لَمْ يَزْدَدْ الْيُسْرُ بِانْضِمَامِ جُزْءٍ آخَرَ إلَيْهِ لَا يُنْتَقَضُ أَيْضًا بِهَلَاكِهِ إلَّا أَنَّ كَمَالَ النِّصَابِ شَرْطٌ فِي الِابْتِدَاءِ لِيَصِيرَ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ فَإِنَّ أَهْلَ الْوُجُوبِ هُوَ الْغَنِيُّ وَالشَّرْعُ أَكَّدَ هَذَا الشَّرْطَ فِي بَابِ الزَّكَاةِ فَاعْتُبِرَ الْغَنَاءُ بِالْمَالِ الَّذِي جُعِلَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ لَا بِمَالٍ آخَرَ وَلَا يَحْصُلُ الْغَنَاءُ بِهِ لَوْلَا مَالٌ آخَرُ إلَّا إذَا كَانَ نِصَابًا كَامِلًا فَيُشْتَرَطُ النِّصَابُ لِيَصِيرَ بِهِ غَنِيًّا أَهْلًا لِلْوُجُوبِ وَالْغَنَاءُ لَا يَثْبُتُ بِمُطْلَقِ الْمَالِ بَلْ يَثْبُتُ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَذَلِكَ أَمْرٌ لَا يُضْبَطُ لِاخْتِلَافِهِ بِالْأَشْخَاصِ وَالْأَزْمَانِ

لَكِنَّ الْغَنَاءَ وَصْفٌ لَا بُدَّ مِنْهُ لِيَصِيرَ الْمَوْصُوفُ بِهِ أَهْلًا لِلْإِغْنَاءِ إذْ الْإِغْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْغِنَى لَا يَتَحَقَّقُ كَالتَّمْلِيكِ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ وَالْغِنَى بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَلَيْسَ لِلْكَثْرَةِ حَدٌّ تُعْرَفُ بِهِ وَأَحْوَالُ النَّاسِ فِيهِ شَتَّى فَقَدَّرَ الشَّرْعُ بِحَدٍّ وَاحِدٍ فَصَارَ ذَلِكَ شَرْطًا لِلْوُجُوبِ لِمَا كَانَ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى الْأَهْلِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ وَشَرْطُ الْوُجُوبِ لَا يُشْتَرَطُ دَوَامُهُ إذْ الْوُجُوبُ فِي وَاجِبٍ وَاحِدٍ لَا يَتَكَرَّرُ فَأَمَّا قِيَامُ الْمَالِ بِصِفَةِ النَّمَاءِ فَمُيَسِّرٌ لِلْأَدَاءِ فَتُغَيَّرُ بِهِ صِفَةُ الْوَاجِبِ فَشَرَطْنَا دَوَامَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْأَمَاكِنِ فَتَوَلَّى الشَّارِعُ تَقْدِيرَهُ بِذَاتِهِ فَكَانَ النِّصَابُ شَرْطًا لِثُبُوتِ الْأَهْلِيَّةِ لَا لِثُبُوتِ الْيُسْرِ بَلْ الْيُسْرُ فِيمَا دُونَ النِّصَابِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي النِّصَابِ؛ لِأَنَّ إيتَاءَ دِرْهَمٍ مِنْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا أَيْسَرُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ مِنْ إيتَاءِ خَمْسَةٍ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ كَمَا أَنَّ إيتَاءَ خَمْسَةٍ مِنْ الْمِائَتَيْنِ أَيْسَرُ مِنْ إيتَاءِ أَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ شَرْطُ الْوُجُوبِ لَا شَرْطُ الْيُسْرِ لَمْ يُشْتَرَطْ بَقَاؤُهُ لِبَقَاءِ الْوُجُوبِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ. قَوْلُهُ (وَلَكِنَّ الْغَنَاءَ وَصْفٌ) جَوَابُ سُؤَالٍ آخَرَ يَرُدُّ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَحْصُلْ بِهِ الْيُسْرُ وَجَبَ أَنْ لَا يُشْتَرَطَ فِي الِابْتِدَاءِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا يَجِبُ إلَّا بِقُدْرَةٍ مُيَسِّرَةٍ فَقَالَ الْغَنَاءُ وَصْفٌ لَا بُدَّ مِنْهُ إلَى آخِرِهِ. قَوْلُهُ (إلَّا غَنَاءً مِنْ غَيْرِ الْغِنَى لَا يَتَحَقَّقُ) . (فَإِنْ قِيلَ) الْإِغْنَاءُ الْوَاجِبُ تَمْلِيكُ مَا يَدْفَعُ حَاجَةَ الْفَقِيرِ دُونَ الْإِغْنَاءِ الشَّرْعِيِّ وَتَحَقُّقُهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مِلْكِ النِّصَابِ فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُ وَالْإِغْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْغِنَى لَا يَتَحَقَّقُ. (قُلْنَا) الْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ صِفَةِ الْحُسْنِ عَنْ الْإِغْنَاءِ أَيْ الْإِغْنَاءُ بِصِفَةِ الْحُسْنِ مِنْ غَيْرِ الْغِنَى لَا يَتَحَقَّقُ فَلَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ شَرْعًا؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ لِدَفْعِ حَاجَةِ الْفَقِيرِ لَا لِإِحْوَاجِ الْمُؤَدِّي، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ وَلَمَّا شُرِعَتْ أَيْ صَدَقَةُ الْفِطْرِ لِلْأَغْنِيَاءِ عَنْ الْفَقِيرِ لَمْ يَكُنْ الْفَقِيرُ أَهْلًا لِوُجُوبِهَا فَتَصِيرُ مَشْرُوعَةً لِإِحْوَاجِهِ فَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ حُسْنَ الْإِغْنَاءِ الْمَأْمُورِ بِهِ مُتَعَلِّقٌ بِالْغَنَاءِ الشَّرْعِيِّ دُونَ أَصْلِهِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَيْضًا فَقَالَ: وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْإِغْنَاءُ بِصِفَةِ الْحُسْنِ مِنْ الْغِنَى وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حَسَنًا عِنْدَ عَدَمِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حُسْنُهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ شَرْعًا. (فَإِنْ قِيلَ) حُسْنُ الْإِغْنَاءِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْغَنَاءِ الشَّرْعِيِّ أَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَحَ أَقْوَامًا عَلَى الْإِيثَارِ مَعَ مِسَاسِ حَاجَتِهِمْ إلَى مَا آتَوْا بِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] (قُلْنَا) بِنَاءُ الْأَحْكَامِ عَلَى الْأُمُورِ الْغَالِبَةِ وَالْغَالِبُ مِنْ حَالِ الْبَشَرِ عَدَمُ الصَّبْرِ عَلَى الشِّدَّةِ وَإِظْهَارُ الْجَذَعِ وَالضَّجَرِ عِنْدَ إصَابَةِ الْمَكْرُوهِ قَالَ تَعَالَى {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج: 19] {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} [المعارج: 20] {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 21] فَقُلْنَا لَمْ يَحْسُنْ الْإِغْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْغِنَى لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى الْأَمْرِ الْمَذْمُومِ، فَأَمَّا مَنْ اُخْتُصَّ بِتَوْفِيقٍ مِنْ رَبِّهِ وَأُوتِيَ قُوَّةً فِي دِينِهِ حَتَّى آثَرَ مُرَادَ غَيْرِهِ عَلَى مُرَادِهِ وَصَبَرَ عَلَى الشَّدَائِدِ وَالْمَكَارِهِ فَحُسْنُ الْإِغْنَاءِ مِنْهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْغِنَى الشَّرْعِيِّ بَلْ هُوَ أَحْسَنُ مِنْ الْإِغْنَاءِ الصَّادِرِ عَنْ الْغِنَى قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ جَهْدُ الْمُقِلِّ» ، إلَّا أَنَّ هَذَا لَمَّا كَانَ نَادِرًا لَمْ يَصْلُحْ لِبِنَاءِ الْحُكْمِ فَبُنِيَ عَلَى الْأَوَّلِ. قَوْلُهُ (لَمَّا كَانَ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى الْأَهْلِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ) يَعْنِي لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ اشْتِرَاطَ النِّصَابِ لِثُبُوتِ الْأَهْلِيَّةِ وَأَصْلُ الْأَهْلِيَّةِ ثَابِتٌ بِالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ كَانَ هَذَا أَمْرًا زَائِدًا عَلَى تِلْكَ الْأَهْلِيَّةِ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ حَتَّى صَارَتْ أَهْلِيَّةُ هَذِهِ الْعِبَادَةِ بِالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ وَمِلْكِ النِّصَابِ كَمَا أَنَّ الْقُدْرَةَ الْمُمْكِنَةَ مِنْ الْفِعْلِ فِي الصَّلَاةِ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ اشْتِرَاطُهُ لِلْوُجُوبِ لَا لِلتَّيْسِيرِ كَاشْتِرَاطِ الْأَهْلِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ وَاشْتِرَاطِ الْقُدْرَةِ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يُشْتَرَطْ دَوَامُهُ إلَى آخِرِهِ، وَلَا يُقَالُ لَمَّا كَانَ النِّصَابُ شَرْطَ الْأَهْلِيَّةِ لَا شَرْطَ الْيُسْرِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْقُطَ الزَّكَاةُ بِهَلَاكِهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ سُقُوطُ الزَّكَاةِ لِفَوَاتِ النَّمَاءِ الَّذِي تَعَلَّقَ الْيُسْرُ بِهِ لَا لِفَوَاتِ النِّصَابِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا هَلَكَ بَعْضُهُ يَبْقَى بِقِسْطِهِ الْبَاقِي وَلَوْ كَانَ النِّصَابُ شَرْطَ الْيُسْرِ لَسَقَطَتْ الزَّكَاةُ

وَهَذَا بِخِلَافِ اسْتِهْلَاكِ النِّصَابِ فَإِنَّهُ لَا يُسْقِطُ الْحَقَّ وَقَدْ صَارَ غُرْمًا؛ لِأَنَّ النِّصَابَ صَارَ فِي حَقِّ الْوَاجِبِ حَقًّا لِصَاحِبِ الْحَقِّ فَيَصِيرُ الْمُسْتَهْلِكُ مُتَعَدِّيًا عَلَى صَاحِبِ الْحَقِّ فَعُدَّ قَائِمًا فِي حَقِّ صَاحِبِ الْحَقِّ فَصَارَ الْوَاجِبُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ غَيْرَ مُتَبَدِّلٍ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الْمُوسِرَ إذَا حَنِثَ فِي الْيَمِينِ ثُمَّ أُعْسِرَ وَذَهَبَ مَالُهُ أَنَّهُ يُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الشَّرْعَ خَيَّرَهُ عِنْدَ قِيَامِ الْقُدْرَةِ بِالْمَالِ وَالتَّخْيِيرُ تَيْسِيرٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِفَوَاتِ جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ لِانْتِفَاءِ الْكُلِّ بِفَوَاتِ جُزْئِهِ. قَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ هَلَاكُ النِّصَابِ يُخَالِفُ اسْتِهْلَاكَهُ بِأَنْ أَنْفَقَهُ رَبُّ الْمَالِ فِي حَاجَةِ نَفْسِهِ أَوْ أَتْلَفَهُ مَجَانَةً بِأَنْ أَلْقَاهُ فِي الْبَحْرِ مَثَلًا فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ الْحَقُّ وَإِنْ فَاتَ النَّمَاءُ وَالْمِلْكُ كَمَا فِي الْهَلَاكِ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ صَارَ فِي حَقِّ الْوَاجِبِ حَقًّا لِصَاحِبِ الْحَقِّ وَهُوَ الْفَقِيرُ، بَيَانُهُ أَنَّ النِّصَابَ وَإِنْ كَانَ فِي مِلْكِ رَبِّ الْمَالِ وَفِي يَدِهِ حَتَّى جَازَ بَيْعُهُ وَسَائِرُ تَصَرُّفَاتِهِ فِيهِ عِنْدَنَا وَلَكِنَّهُ فِي حَقِّ الْوَاجِبِ صَارَ حَقًّا لِلْفَقِيرِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ صَارَ رَصْدًا لِقَضَاءِ حَقِّهِ مِنْهُ إذْ الْوَاجِبُ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ لَا مُطْلَقُ الْمَالِ فِي الذِّمَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ النِّصَابَ مِنْ الْفَقِيرِ لَا يَنْوِي الزَّكَاةَ أَجْزَأَهُ عَنْ الزَّكَاةِ، وَلَوْ وَهَبَ مَالًا آخَرَ لَهُ لَمْ يُجْزِهِ عَنْهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ هَلَكَ الْمَالُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ مَالًا مُطْلَقًا فِي الذِّمَّةِ لَكَانَ هَلَاكُ النِّصَابِ وَبَقَاؤُهُ سَوَاءً. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ مُتَعَلِّقٌ بِالْعَيْنِ كَانَ الْمُسْتَهْلِكُ جَانِيًا عَلَى مَحَلِّ الْحَقِّ بِالْإِتْلَافِ فَيُجْعَلُ الْمَحِلُّ قَائِمًا زَجْرًا عَلَيْهِ وَنَظَرًا لِصَاحِبِ الْحَقِّ إذْ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ قَائِمًا أَدَّى إلَى فَوَاتِ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ يَصْرِفُ مَالَ الزَّكَاةِ إلَى حَاجَتِهِ فَلَا يَصِلُ الْفَقِيرُ إلَى حَقِّهِ وَإِذَا جُعِلَ قَائِمًا تَقْدِيرًا يَبْقَى الْوَاجِبُ بِبَقَائِهِ كَمَا يَثْبُتُ ابْتِدَاءً بِالنَّمَاءِ تَقْدِيرًا، وَهَذَا كَالْمَوْلَى إذَا أَعْتَقَ الْعَبْدَ الْجَانِيَ أَوْ قَتَلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ بِالْجِنَايَةِ يَضْمَنُ الْقِيمَةَ لِأَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى حَقِّهِمْ بِإِتْلَافِ مَحِلِّهِ وَلَوْ فَرَّطَ فِي تَسْلِيمِ الْعَبْدِ حَتَّى هَلَكَ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ التَّفْرِيطَ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ فَكَذَا هَذَا، وَلِأَنَّهُ خُوطِبَ بِأَدَاءِ الْعَيْنِ إلَى الْفَقِيرِ فَإِذَا أَقْدَمَ عَلَى الِاسْتِهْلَاكِ فَقَدْ قَصَدَ إسْقَاطَ الْحَقِّ الْوَاجِبِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَيَجْعَلُ الْعَيْنَ كَالْقَائِمِ رَدًّا لِقَصْدِهِ، فَإِذَا هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَلَا صُنْعَ مِنْ جِهَتِهِ فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ الْوَاجِبُ، وَنَظِيرُهُ الصَّائِمُ إذَا سَافَرَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْفِطْرُ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِاخْتِيَارِهِ وَقَصْدِهِ وَلَوْ مَرِضَ أُبِيحَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ آفَةٌ سَمَاوِيَّةٌ فَكَذَلِكَ هَهُنَا، وَلِأَنَّ السَّعْيَ لَا يَأْخُذُ ذَلِكَ الْوَاجِبَ بَلْ يَأْخُذُ وَاجِبًا آخَرَ بِسَبَبِهِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ الِاسْتِهْلَاكُ وَسَبَبُ الْوُجُوبِ إذَا تَحَقَّقَ أَمْكَنَ تَحْقِيقُ الْوُجُوبِ، وَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ الْمُيَسِّرَةَ شَرْطٌ لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ نَظَرًا لِمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ وَالْمُفَوِّتُ لَهَا لَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَطَرِيقَةُ الْإِمَامِ الْبُرَغْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ وَلِاشْتِرَاطِ بَقَاءِ الْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهَا قُلْنَا كَذَا، وَالتَّخْيِيرُ تَيْسِيرٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ شَرْعًا تُرُفِّقَ بِمَا هُوَ الْأَيْسَرُ عَلَيْهِ كَالْمُسَافِرِ إذَا خُيِّرَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُخَيَّرًا وَكَانَ الْوَاجِبُ شَيْئًا عَيْنًا بِدُونِ اخْتِيَارِهِ كَانَ أَشَقَّ عَلَيْهِ كَالْمُقِيمِ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ عَيْنًا، وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ قَدْ خُيِّرَ فِيهَا بَيْنَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ وَبَيْنَ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَلَمْ يُفِدْ التَّخْيِيرُ التَّيْسِيرَ حَتَّى قُلْتُمْ إنَّهَا وَاجِبَةٌ بِقُدْرَةٍ مُمَكِّنَةٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ ذَلِكَ لَيْسَ بِتَخْيِيرٍ مَعْنًى فَلَا يُفِيدُ التَّيْسِيرَ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّخْيِيرِ قَدْ يَكُونُ تَأْكِيدًا لِوَاجِبٍ وَقَدْ يَكُونُ تَيْسِيرًا لِأَمْرٍ عَلَى الْمُكَلَّفِ. ، فَنَظِيرُ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى {أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} [النساء: 66] ، أَيْ لَا بُدَّ أَنْ يَصْدُرَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مِنْكُمْ، وَقَوْلُك لِوَلَدِك حِينَ غَضِبْت عَلَيْهِ إمَّا أَنْ تَقْرَأَ اللَّيْلَةَ رُبُعَ الْقُرْآنِ أَوْ تَقْرَأَ الْكِتَابَ الْفُلَانِيَّ أَوْ تَكْتُبَ كَذَا جُزْءٍ مِنْ الْعِلْمِ ثُمَّ تَنَامَ وَإِلَّا لَأَنْتَقِمَنَّ مِنْك فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَأْكِيدُ مَا أَوْجَبْت عَلَيْهِ مِنْ السَّهَرِ فِي التَّعَبِ

وَلِأَنَّهُ نَقَلَ إلَى الصَّوْمِ لِقِيَامِ الْعَجْزِ عِنْدَ أَدَاءِ الصَّوْمِ مَعَ تَوَهُّمِ الْقُدْرَةِ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ مَا يُعْتَبَرُ فِي عَدَمِ سَائِرِ الْأَفْعَالِ وَهُوَ الْعَدَمُ فِي الْعُمُرِ كُلِّهِ لَكِنَّهُ اعْتَبَرَ الْعَدَمَ الْحَالِيَّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] وَتَقْدِيرُ الْعَجْزِ بِالْعُمُرِ يُبْطِلُ أَدَاءَ الصَّوْمِ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْعَجْزَ الْحَالِيَّ وَكَذَلِكَ فِي طَعَامِ الظِّهَارِ وَسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ فَثَبَتَ أَنَّ الْقُدْرَةَ مُيَسِّرَةٌ فَكَانَتْ مِنْ قَبِيلِ الزَّكَاةِ إلَّا أَنَّ الْمَالَ هَهُنَا غَيْرُ عَيْنٍ فَأَيُّ مَالٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْدُ دَامَتْ بِهِ الْقُدْرَةُ وَلِهَذَا سَاوَى الِاسْتِهْلَاكُ الْهَلَاكَ هَهُنَا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَمَّا كَانَ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ وَلَمْ يَكُنْ مُتَعَيِّنًا لَمْ يَكُنْ الِاسْتِهْلَاكُ تَعَدِّيًا ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا التَّيْسِيرِ عَلَيْهِ وَمَعْنَاهُ لَا بُدَّ لَك مِنْ أَنْ تَفْعَلَ أَحَدَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَلْبَتَّةَ وَأَنْ لَا يَفُوتَ عَنْك السَّهَرُ لَا مَحَالَةَ، وَنَظِيرُ الثَّانِي قَوْلُك لِغُلَامِك اشْتَرِ بِهَذَا الدِّرْهَمِ لَحْمًا أَوْ خُبْزًا أَوْ فَاكِهَةً فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّيْسِيرُ وَمَعْنَاهُ اخْتَرْ مِنْهَا مَا تَيَسَّرَ عَلَيْك ثُمَّ يُعْرَفُ الْمَقْصُودُ فِي التَّخْيِيرَاتِ الشَّرْعِيَّةِ بِكَوْنِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي خُيِّرَ الْمُكَلَّفُ فِيهَا مُتَمَاثِلَةً فِي الْمَعْنَى وَغَيْرَ مُتَمَاثِلَةٍ فِيهِ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ مُتَمَاثِلَةً فِي الْمَعْنَى فَالتَّخْيِيرُ يَقْتَصِرُ عَلَى الصُّورَةِ وَلَا عِبْرَةَ بِالصُّوَرِ فَيُفِيدُ تَأْكِيدَ الْوَاجِبِ وَإِنْ كَانَتْ مُخَالِفَةً فِي الْمَعَانِي غَيْرَ مُتَمَاثِلَةٍ فِيهَا كَمَا فِي الصُّوَرِ " فح " يَتَعَدَّى أَثَرُ التَّخْيِيرِ إلَى الْمَعْنَى فَيُفِيدُ التَّيَسُّرَ لَا مَحَالَةَ، فَصَدَقَةُ الْفِطْرِ مِنْ الْقَبِيلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا مِقْدَارُ مَالِيَّةِ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ وَقِيمَةُ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ تُسَاوِيهِ عِنْدَهُمْ وَكَذَا الْمَقْصُودُ دَفْعُ حَاجَةِ الْفَقِيرِ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَالْكُلُّ فِيهِ سَوَاءٌ فَلَا يُفِيدُ التَّخْيِيرُ التَّيْسِيرَ قَصْدًا بَلْ يُفِيدُ التَّأْكِيدَ وَيَصِيرُ مَعْنَاهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَقَعَ الْأَدَاءُ لَا مَحَالَةَ إمَّا بِنِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُمَاثِلُهُ فِي الْمَالِيَّةِ. ، وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ مِنْ الْقَبِيلِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ مَالِيَّةَ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ مُخْتَلِفَةٌ اخْتِلَافًا ظَاهِرًا فَالتَّخْيِيرُ فِيهَا يَقَعُ عَلَى الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى فَيُفِيدُ التَّيْسِيرَ. 1 - وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَ أَنَّ التَّخْيِيرَ يُفِيدُ التَّيْسِيرَ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا بِأَنَّ الْأَمْرَ بِأَحَدِ الْأَشْيَاءِ يُوجِبُ وَاحِدًا مِنْهَا غَيْرَ عَيْنٍ وَأَنَّ الْمَأْمُورَ مُخَيَّرٌ فِي تَعْيِينِ وَاحِدٍ مِنْهَا فِعْلًا فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فَلَا يَسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا بِأَنَّ الْكُلَّ وَاجِبٌ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ بِمَنْزِلَةِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْكُلِّ وَيَسْقُطُ بِأَدَاءِ الْبَعْضِ وَلَمَّا كَانَ الْكُلُّ وَاجِبًا لَا يُفِيدُ التَّخْيِيرُ التَّيْسِيرَ وَالْمَسْأَلَةُ طَوِيلَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ. قَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ نَقْلٌ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِقُدْرَةٍ مُيَسِّرَةٍ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَقَلَ إلَى الصَّوْمِ بِالْعَجْزِ الْحَالِيِّ مَعَ تَوَهُّمِ الْقُدْرَةِ فِيمَا بَعْدُ وَلَمْ يَعْتَبِرْ الْعَجْزَ الْمُسْتَدَامَ فِي الْعُمُرِ كَمَا اُعْتُبِرَ فِي سَائِرِ الْأَفْعَالِ مِثْلُ قَوْلِهِ إنْ لَمْ آتِ الْبَصْرَةَ فَعَبْدِي حُرٌّ أَوْ قَوْلُهُ إنْ لَمْ أُطَلِّقْك فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ إنْ لَمْ أُكَلِّمْ فُلَانًا فَعَلَيَّ كَذَا وَكَمَا اُعْتُبِرَ فِي حَقِّ الشَّيْخِ الْفَانِي حَتَّى لَوْ قَدَرَ بَعْدَ الْفِدْيَةِ لَا تُجْزِيهِ تِلْكَ الْفِدْيَةُ دَلَّ عَلَى تَيْسِيرِ الْأَمْرِ عَلَى الْمُكَلَّفِ حَيْثُ لَمْ يُشْتَرَطْ أَصْلُ الْمُكْنَةِ مَعَ احْتِمَالِ حُدُوثِهَا فِي الْعُمُرِ لِيَبْرَأَ عَنْهُمَا بِالصَّوْمِ وَلَا يَبْقَى تَحْتَ عُهْدَةِ الْوُجُوبِ إلَى حُدُوثِ الْقُدْرَةِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْعَجْزُ الْحَالِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى، {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَقَلَ الْحُكْمَ إلَى الصَّوْمِ عِنْدَ الْعَجْزِ وَلَوْ اُعْتُبِرَ الْعَجْزُ الْمُسْتَدَامُ فِي الْعُمُرِ وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ إلَّا بِآخِرِ الْعُمُرِ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ أَدَاءُ الصَّوْمِ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ الْعَجْزُ الْحَالِيُّ. وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَلَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ غَائِبٌ وَهُوَ لَا يَجِدُ مَا يُكَفِّرُ بِهِ أَجْزَأَهُ الصَّوْمُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ قُدْرَتُهُ عَلَى التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالْمِلْكِ بِدُونِ الْيَدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَالِهِ الْغَائِبِ عَبْدٌ " فح " لَا يُجْزِيهِ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ، فَإِنَّ نُفُوذَ الْعِتْقِ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ دُونَ الْيَدِ فَلَمَّا لَمْ يُشْتَرَطْ الِانْتِظَارُ إلَى وُصُولِ الْمَالِ فَلَأَنْ لَا يُشْتَرَطَ الِانْتِظَارُ إلَى حُصُولِهِ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ فِي طَعَامِ الظِّهَارِ يَعْنِي كَمَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْعَجْزُ الْحَالِيُّ فِيمَا ذَكَرْنَا فَكَذَلِكَ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي جَمِيعِ الْكَفَّارَاتِ فِي نَقْلِ الْحُكْمِ عَنْ وَاجِبٍ إلَى مَا بَعْدَهُ مِثْلَ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالصَّوْمِ وَالْقَتْلِ فَيُعْتَبَرُ فِي جَمِيعِهَا الْعَجْزُ الْحَالِيُّ فِي نَقْلِ الْحُكْمِ عَنْ الرَّقَبَةِ إلَى الصَّوْمِ. وَكَذَلِكَ فِي النَّقْلِ عَنْ الصَّوْمِ إلَى الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالصَّوْمِ حَتَّى لَوْ مَرِضَ أَيَّامًا فَكَفَّرَ بِالْإِطْعَامِ

وَصَارَتْ هَذِهِ الْقُدْرَةُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ نَظِيرَ اسْتِطَاعَةِ الْفِعْلِ الَّتِي لَا تَسْبِقُ الْفِعْلَ وَلِهَذَا قُلْنَا بَطَلَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي الْغَنَاءَ وَالْيُسْرَ وَلَا يَلْزَمُ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ وَهُوَ يُنَافِي الْيُسْرَ ـــــــــــــــــــــــــــــQجَازَ وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ بَعْدُ فَثَبَتَ أَنَّ الْقُدْرَةَ الْمَشْرُوطَةَ فِيهَا مُيَسِّرَةٌ فَكَانَتْ أَيْ الْكَفَّارَاتُ مِنْ قَبِيلِ الزَّكَاةِ، وَإِنَّمَا خُصَّ الطَّعَامُ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الصَّوْمِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ مَا يُنْقَلُ إلَيْهِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ كَالصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ. وَلَمَّا ذَكَرَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْكَفَّارَةَ مِنْ قَبِيلِ الزَّكَاةِ وَقَدْ فَارَقَتْهَا، فِي أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا يَعُودُ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَالِ بِإِصَابَةِ مَالٍ آخَرَ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَلَا يَعُودُ فِي الزَّكَاةِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا دُونَ الزَّكَاةِ، وَفِي أَنَّ الْوَاجِبَ بِالِاسْتِهْلَاكِ فِيهَا يَنْتَقِلُ إلَى الصَّوْمِ كَمَا يَنْتَقِلُ بِالْهَلَاكِ وَفِي الزَّكَاةِ خَالَفَ الِاسْتِهْلَاكُ الْهَلَاكَ كَمَا قَرَّرْنَا وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّهَا فَوْقَ الزَّكَاةِ تَعَرَّضَ لِلْجَوَابِ عَنْ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ: إلَّا أَنَّ الْمَالَ هَهُنَا غَيْرُ عَيْنٍ يَعْنِي الْوَاجِبَ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِهَذَا الْمَالِ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَالْقُدْرَةُ الْمُيَسِّرَةُ تَثْبُتُ بِمِلْكِ الْمَالِ وَلَا تَخْتَصُّ بِمَالٍ دُونَ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْمَالَ إنَّمَا اُعْتُبِرَ هَهُنَا لِكَوْنِهِ صَالِحًا لِلتَّقَرُّبِ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَحْصُلُ بِهِ الثَّوَابُ لِيَصِيرَ مُقَابِلًا بِالْأَثِمِ الَّذِي عَلَيْهِ وَلِهَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ النَّمَاءُ فَكَانَ الْمَالُ الْمَوْجُودُ وَقْتَ الْحِنْثِ وَالْمُسْتَفَادُ بَعْدَهُ فِيهِ سَوَاءً بِخِلَافِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْعَيْنِ فَلَا تَبْقَى الْقُدْرَةُ بِهَلَاكِ الْعَيْنِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ بَعْدُ أَيْ مِنْ بَعْدِ الْحِنْثِ أَوْ مِنْ بَعْدِ الْهَلَاكِ، دَامَتْ أَيْ ثَبَتَتْ. وَعَنْ الثَّانِي بِقَوْلِهِ وَلِهَذَا أَيْ وَلِكَوْنِ الْمَالِ غَيْرَ عَيْنٍ سَاوَى الِاسْتِهْلَاكُ الْهَلَاكَ فِي الْكَفَّارَاتِ حَتَّى إنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ إذَا أَتْلَفَ مَالَهُ جَازَ لَهُ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ كَمَا إذَا هَلَكَ بِغَيْرِ صُنْعٍ مِنْهُ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ حَيْثُ فَارَقَ الِاسْتِهْلَاكُ الْهَلَاكَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْوَاجِبِ بَعْدَ فَوَاتِ الْقُدْرَةِ إنَّمَا يَكُونُ بِكَوْنِهِ مُوَقَّتًا كَالصَّلَاةِ فَإِنَّهَا لَمَّا شُرِعَتْ مُوَقَّتَةً كَانَ التَّأْخِيرُ عَنْ الْوَقْتِ جِنَايَةً عَلَى نَفْسِ الْحَقِّ بِالتَّفْوِيتِ أَوْ بِالتَّعَدِّي عَلَى مَحَلِّ الْوَاجِبِ بِأَنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِمَحِلِّ عَيْنٍ كَالزَّكَاةِ وَهَهُنَا الْوَاجِبُ لِمَا لَمْ يَكُنْ مُوَقَّتًا لِيُعَدَّ تَفْوِيتُهُ عَنْ الْوَقْتِ جِنَايَةً وَلَمْ يَكُنْ الْمَالُ مُتَعَيِّنًا أَيْضًا لِيَصِيرَ اسْتِهْلَاكُهُ تَعَدِّيًا كَانَ الِاسْتِهْلَاكُ كَالْهَلَاكِ ضَرُورَةً إلَيْهِ أُشِيرَ فِي طَرِيقَةِ الْإِمَامِ الْبُرَغْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قَوْلُهُ (وَصَارَتْ هَذِهِ الْقُدْرَةُ) أَيْ الْقُدْرَةُ الْمَالِيَّةُ فِي الْكَفَّارَةِ، عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَيْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهَا تَدُومُ بِأَيِّ مَالٍ أَصَابَهُ نَطِيرَ الِاسْتِطَاعَةِ الَّتِي لَا تَسْبِقُ الْفِعْلَ مِنْ حَيْثُ إنَّ وُجُودَهَا يُعْتَبَرُ حَالَةَ الْأَدَاءِ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ كَالِاسْتِطَاعَةِ لَا يَتَقَدَّمُ الْفِعْلُ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ حَتَّى لَوْ كَانَ مُوسِرًا وَقْتَ الْحِنْثِ مُعْسِرًا وَقْتَ الْأَدَاءِ يُجْزِيهِ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ وَلَوْ كَانَ عَلَى الْعَكْسِ لَا يَجْزِيهِ. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ بِقُدْرَةٍ مُيَسِّرَةٍ وَأَنَّ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِهَا الْغَنَاءُ قُلْنَا بَطَلَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ بِالدَّيْنِ أَيْ بِالدَّيْنِ الَّذِي اقْتَرَنَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ لَكِنْ إذَا لَحِقَهُ دَيْنٌ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَذَلِكَ لَا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ كَذَا فِي فَتَاوَى الْقَاضِي الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ مَا عُرِفَ مَانِعًا لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ رَافِعًا؛ لِأَنَّهُ أَيْ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يُنَافِي الْغِنَى وَالْيُسْرَ؛ لِأَنَّ الْغِنَى إنَّمَا يَحْصُلُ بِمَا يَفْضُلُ عَنْ حَاجَتِهِ وَهَذَا الْمَالُ مَشْغُولٌ بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ إذْ الْحَاجَةُ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ أَصْلِيَّةٌ فَلَا يَحْصُلُ الْغَنَاءُ بِمِلْكِ قَدْرِ الدَّيْنِ وَلِهَذَا حَلَّ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ وَهِيَ لَا تَحِلُّ لِلْغَنِيِّ، وَكَذَلِكَ الْيُسْرُ فِيمَا إذَا كَانَ لِلْمُؤَدِّي فَضْلُ مَالٍ غَيْرُ مَشْغُولٍ بِحَاجَتِهِ وَنَعْنِي بِمَشْغُولِيَّةِ الْمَالِ بِالْحَاجَةِ أَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ تَفْرِيغَ الذِّمَّةِ عَنْ الدَّيْنِ وَاجِبٌ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِهَذَا الْمَالِ فَكَانَ كَالْمَصْرُوفِ إلَى الدَّيْنِ كَالْمَاءِ الْمُعَدِّ

لِأَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ رَجُلٌ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفٍ فَكَفَّرَ بِالصَّوْمِ بَعْدَ مَا يَقْضِي دَيْنَهُ بِمَالِهِ قَالَ يُجْزِئُهُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَصْرِفْ إلَى دَيْنِهِ مَا جَوَابُهُ فَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا يُجْزِئُهُ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ لِمَا قُلْنَا مِنْ فَوَاتِ صِفَةِ الْيُسْرِ بِهِ فَيُجْعَلُ الْمَالُ كَالْمَعْدُومِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ يَجِبُ بِالْمَالِ وَلَا يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ بِصِفَةِ الْيُسْرِ وَبِشَرْطِ الْقُدْرَةِ وَلِمَعْنَى الْإِغْنَاءِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَغْنُوهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ وَبِقَوْلِهِ «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» فَهَذَا الْإِغْنَاءُ وَجَبَ عِبَادَةً شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْغِنَى فَشُرِطَ الْكَمَالُ فِي سَبَبِهِ لِيَسْتَحِقَّ شُكْرَهُ فَيَكُونَ الْوَاجِبُ شَطْرًا مِنْ الْكَامِلِ، وَالدَّيْنُ يُسْقِطُ الْكَمَالَ وَلَا يُعْدِمُ أَصْلَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِلْعَطَشِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِيَبْتَنِيَ عَلَيْهَا الْمَسْأَلَةَ الَّتِي تَلِيهَا وَيُبَيِّنَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا. قَوْلُهُ (لِأَنَّهُ قَالَ) أَيْ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا وَالْإِضْمَارُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ جَائِزٌ عِنْدَ الشُّهْرَةِ وَعَدَمِ الِاشْتِبَاهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] وَالْمَذْكُورُ فِي أُصُولِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ قَوْلُهُ (وَلَمْ يَذْكُرْ) أَيْ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ إذَا كَفَّرَ بِالصَّوْمِ قَبْلَ صَرْفِ الْأَلْفِ إلَى الدَّيْنِ مَا جَوَابُهُ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ الْمُتَأَخِّرُونَ فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُجْزِيهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ: أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّدَقَةَ تَحِلُّ لِهَذَا وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَبَعْدَهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ مُسْتَحَقٌّ بِدَيْنِهِ فَيُجْعَلُ كَالْمَعْدُومِ فِي حَقِّ التَّكْفِيرِ بِالصَّوْمِ كَالْمُسَافِرِ إذَا كَانَ مَعَهُ مَاءٌ وَهُوَ يُخَالِفُ الْعَطَشَ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مُسْتَحَقٌّ بِعَطَشِهِ فَيُجْعَلُ كَالْمَعْدُومِ فِي حَقِّ التَّيَمُّمِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يُجْزِيهِ اسْتِدْلَالًا بِالتَّقْيِيدِ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ بَعْدَمَا يَقْضِي دَيْنَهُ، وَالتَّقْيِيدُ فِي الرِّوَايَةِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ مَا عَدَاهُ وَعَلَى هَذَا يُحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي الْكِتَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فَالتَّعْلِيلُ بِقَوْلِهِ: إنَّ الصَّدَقَةَ تَحِلُّ لَهُ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ يُجْزِيهِ فِي الْحَالَيْنِ وَالتَّقْيِيدُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَلِهَذَا اخْتَلَفُوا. قَوْلُهُ (وَجَبَتْ بِصِفَةِ الْيُسْرِ) ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الزَّكَاةِ فِي الشَّرْعِ عَلَى الْيُسْرِ وَالسُّهُولَةِ وَلِهَذَا وَجَبَ الْقَلِيلُ مِنْ الْكَثِيرِ وَوَجَبَتْ فِي النَّمَاءِ لَا فِي أَصْلِ الْمَالِ تَيْسِيرًا عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَلِهَذَا شُرِطَ لِتَكْرَارِ الْوَاجِبِ تَكْرَارُ الْحَوْلِ كَذَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لِبَعْضِ الْمَشَايِخِ، وَشَرْطُ الْقُدْرَةِ يَعْنِي قُدْرَةً تُوجِبُ هَذَا الْيُسْرَ، وَلِمَعْنَى الْإِغْنَاءِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَغْنُوهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ» نَصَّ عَلَى مَعْنَى الْإِغْنَاءِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ وَرَدَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رَوَى أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يُؤَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجُوا إلَى الْمُصَلَّى، وَقَالَ: أَغْنُوهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ» وَلَكِنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ فِي الزَّكَاةِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ؛ لِأَنَّ الْإِغْنَاءَ لَمَّا وَجَبَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِسَدِّ خَلَّةِ الْفَقِيرِ مَعَ قُصُورِ صِفَةِ الْغَنَاءِ فِيهَا لِقُصُورِ النِّصَابِ فَلَأَنْ يَجِبَ فِي الزَّكَاةِ لِهَذَا الْمَعْنَى مَعَ كَمَالِ صِفَةِ الْغَنَاءِ فِيهَا كَانَ أَوْلَى. وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ مُتَعَلِّقٌ بِالْإِغْنَاءِ لَا بِالْمَسْأَلَةِ يَعْنِي أَغْنُوهُمْ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ قِيلَ الْمِثْلُ زَائِدٌ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَفَائِدَتُهُ تَعْمِيمُ الْحُكْمِ إذْ لَوْ لَمْ يُذْكَرْ لَاقْتَصَرَ الْحُكْمُ عَلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ الْمُعَيَّنِ، وَإِنَّمَا أَدْخَلَ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ وَلِمَعْنَى الْإِغْنَاءِ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ وَالْكَفَّارَةَ فِي صِفَةِ الْيُسْرِ وَشَرْطِ الْقُدْرَةِ تَشْتَرِكَانِ فَأَمَّا مَعْنَى الْإِغْنَاءِ فَمُخْتَصٌّ بِالزَّكَاةِ فَلِهَذَا أَفْرَدَهُ بِاللَّامِ. قَوْلُهُ وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» ذَكَرَ فِي مَجَازَاتِ الْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَجَازٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُصَّدِّقَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ إذَا كَانَتْ لَهُ قُوَّةٌ مِنْ غِنَى وَالظَّهْرُ هَهُنَا كِنَايَةٌ عَنْ الْقُوَّةِ فَكَانَ الْمَالُ لِلْغِنَى بِمَنْزِلَةِ الظَّهْرِ الَّذِي عَلَيْهِ اعْتِمَادُهُ وَإِلَيْهِ اسْتِنَادُهُ وَلِذَلِكَ يُقَالُ فُلَانٌ ظَهْرٌ لِفُلَانٍ إذَا كَانَ يَتَقَوَّى بِهِ وَيَلْجَأُ فِي الْحَوَادِثِ إلَيْهِ، وَذَكَرَ فِي الْمُغْرِبِ وَأَمَّا لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى أَيْ صَادِرَةٌ عَنْ غِنًى فَالظَّهْرُ فِيهِ مَقْحَمٌ كَمَا فِي ظَهْرِ الْقَلْبِ وَظَهْرِ الْغَيْبِ، وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شَرَطَ الْغَنَاءَ لِوُجُوبِ الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ لَا صَدَقَةَ

وَلِهَذَا حَلَّتْ لَهُ الصَّدَقَةُ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِغْنَاءُ وَلِهَذَا لَا يَتَأَدَّى الزَّكَاةُ إلَّا بِعَيْنٍ مُتَقَوِّمَةٍ. وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَلَا تَسْتَغْنِي عَنْ شَرْطِ الْقُدْرَةِ وَعَنْ قِيَامِ صِفَةِ الْيُسْرِ فِي تِلْكَ الْقُدْرَةِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُشْرَعْ لِلْإِغْنَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا شُرِعَتْ سَاتِرَةً أَوْ زَاجِرَةً لَا أَمْرًا أَصْلِيًّا لِلْفَقِيرِ إغْنَاءً، وَأَلَا تَرَى أَنَّهُ يَتَأَدَّى بِالتَّحْرِيرِ وَبِالصَّوْمِ وَلَا إغْنَاءَ فِيهِمَا لَكِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ نَيْلُ الثَّوَابِ لِيُقَابَلَ بِمُوجِبِ الْجِنَايَةِ وَمَا يَقَعُ بِهِ كِفَايَةُ الْفَقِيرِ فِي بَابِ الْكَفَّارَةِ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلثَّوَابِ وَلِذَلِكَ يَتَأَدَّى بِالْإِبَاحَةِ وَلَا إغْنَاءَ يَحْصُلُ بِهَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْإِغْنَاءُ مَقْصُودًا لَمْ يَشْتَرِطْ صِفَةَ الْغِنَى فِي الْمُخَاطَبِ بِهَا بَلْ الْقُدْرَةُ وَالْيُسْرُ بِهَا شَرْطٌ وَذَلِكَ لَا يَنْعَدِمُ بِالدَّيْنِ وَيَتَبَيَّنُ أَنَّهَا لَمْ تَجِبْ شُكْرًا لِلْغِنَى بَلْ جَزَاءً لِلْفِعْلِ فَلَمْ يَشْتَرِطْ كَمَالَ صِفَةِ الْغِنَى إنَّمَا شَرَطَ أَدْنَى مَا يَصْلُحُ لِطَلَبِ الثَّوَابِ وَأَصْلُ الْمَالِ كَافٍ لِذَلِكَ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَيْسَ نَفْيَ الْوُجُودِ إذْ هِيَ تُوجَدُ وَتَصِحُّ بِدُونِ الْغَنَاءِ فَيُحْمَلُ عَلَى نَفْيِ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ أَشَدُّ مُنَاسَبَةً لِلْوُجُودِ مِنْ غَيْرِهِ وَلَيْسَ اشْتِرَاطُهُ لِثُبُوتِ الْيُسْرِ فِي الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ بَلْ لِثُبُوتِ الْأَهْلِيَّةِ عَلَى مَا مَرَّ وَلَا احْتِيَاجَ لِثُبُوتِ الْأَهْلِيَّةِ إلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ غَنَاءَ الْفَقِيرِ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهَا وَجَبَتْ لِمَعْنَى الْإِغْنَاءِ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهَا وَجَبَتْ لِمَعْنَى إغْنَاءِ الْفَقِيرِ إنَّمَا يَجِبُ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْغَنَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ بِهِ تَعَلَّقَ بَقَاءُ الْأَبْدَانِ وَبِهِ نِيطَ مَقَاصِدُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ» ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْلُوَ عَنْ شُكْرٍ يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الْعِبَادَةِ كَنِعْمَةِ الْبَدَنِ وَلَمْ يَجِبْ فِي الْمَالِ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ سِوَى الزَّكَاةِ فَتَعَيَّنَتْ لِشُكْرِ نِعْمَةِ الْمَالِ. ثُمَّ الشُّكْرُ يَسْتَدْعِي سَبَبًا كَامِلًا لِيُؤَثِّرَ فِي إيجَابِ الشُّكْرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَامِلًا كَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ مِنْ وَجْهٍ وَالْعَدَمُ لَا يُؤَثِّرُ فَيَمْتَنِعُ وُجُوبُ الشُّكْرِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَالدَّيْنُ يُسْقِطُ الْكَمَالَ أَيْ عَنْ الْغِنَى قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: وَحَاجَتُهُ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ بِالْمَالِ تُعْدِمُ تَمَامَ الْغِنَى بِمِلْكِهِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْمَالِ عَلَيْهِ وَالْمُسْتَحَقُّ بِجِهَةٍ كَالْمَصْرُوفِ إلَى تِلْكَ الْجِهَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْمُعَدِّ لِلْعَطَشِ، وَلَا يُعْدِمُ أَصْلَهُ أَيْ أَصْلَ الْغِنَى؛ لِأَنَّ الْمَالَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ وَلِهَذَا جَازَتْ تَصَرُّفَاتُهُ فِيهِ وَلَمَّا زَالَ وَصْفُ الْكَمَالِ عَنْهُ لَمْ يَجِبْ بِهِ الْإِغْنَاءُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْغِنَى الْكَامِلِ وَقَدْ عُدِمَ. قَوْلُهُ (شَطْرًا مِنْ الْكَامِلِ) أَيْ بَعْضًا مِنْهُ وَشَطْرُ الشَّيْءِ نِصْفُهُ إلَّا أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْبَعْضِ تَوَسُّعًا، وَمِنْهُ «قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْحَائِضِ تَقْعُدُ شَطْرَ عُمُرِهَا» ، سَمَّى الْبَعْضَ شَطْرًا تَوَسُّعًا فِي الْكَلَامِ وَاسْتِكْثَارًا لِلْقَلِيلِ وَمِثْلُهُ فِي التَّوَسُّعِ «تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ فَإِنَّهَا نِصْفُ الْعِلْمِ» ، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا حَلَّتْ) أَيْ وَلِانْتِفَاءِ الْغِنَى بِانْتِفَاءِ الْكَمَالِ عَنْهُ حَلَّتْ لِلْمَدْيُونِ الصَّدَقَةُ أَيْ الزَّكَاةُ وَهِيَ لَا تَحِلُّ لِغَنِيٍّ إذَا لَمْ يَكُنْ عَامِلًا وَابْنِ السَّبِيلِ. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا لَا يَتَأَدَّى الزَّكَاةُ) أَيْ وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ لِمَعْنَى الْإِغْنَاءِ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِعَيْنٍ مُتَقَوِّمَةٍ أَيْ بِتَمْلِيكِ عَيْنٍ مُتَقَوِّمَةٍ حَتَّى لَوْ أَسْكَنَ الْفَقِيرَ دَارِهِ سَنَةً بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ لَا يُجْزِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَيْسَتْ بِعَيْنٍ مُتَقَوِّمَةٍ، وَكَذَا لَوْ أَبَاحَهُ طَعَامًا بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ فَأَكَلَهُ الْفَقِيرُ لَا يُجْزِيهِ عَنْ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ مَالَ الْغَيْرِ وَبِهِ لَا يَحْصُلُ الْغِنَى، قَالَ أَبُو الْيُسْرِ الزَّكَاةُ شُرِعَتْ لِإِغْنَاءِ الْفَقِيرِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «أَغْنُوهُمْ» وَالْوَاجِبُ فِيهَا هُوَ الْإِغْنَاءُ الْكَامِلُ وَهُوَ تَمْلِيكُ مَالٍ مُحْتَرَمٍ مُتَقَوِّمٍ بِلَا نُقْصَانٍ فِي نَفْسِهِ وَالْإِغْنَاءُ الْكَامِلُ لَا يَجِبُ إلَّا عَلَى الْغَنِيِّ الْكَامِلِ كَمَا فِي التَّمْلِيكِ بِغَيْرِ عِوَضٍ لَا يَحْصُلُ إلَّا مِنْ الْمَالِكِ. قَوْلُهُ (سَاتِرَةً أَوْ زَاجِرَةً) أَيْ سَاتِرَةً بَعْدَ الْجِنَايَةِ زَاجِرَةً قَبْلَهَا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تَضَمَّنَتْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ فَبِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ هِيَ سَاتِرَةٌ لِلذَّنْبِ أَيْ مَاحِيَةٌ لَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا» أَوْ هِيَ سَاتِرَةٌ لِمُرْتَكِبِ الذَّنْبِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَزَّقَ لِبَاسَ تَقْوَاهُ بِارْتِكَابِهِ حَتَّى صَارَ عُرْيَانًا سَتَرَتْهُ الْكَفَّارَةُ وَصَارَتْ تَرْقِيعًا لِمَا مَزَّقَ، وَبِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ هِيَ زَاجِرَةٌ كَسَائِرِ الْعُقُوبَاتِ. قَوْلُهُ (وَلِذَلِكَ) أَيْ وَلِأَنَّهَا لَمْ تُشْرَعْ لِلْإِغْنَاءِ تَتَأَدَّى بِالْإِبَاحَةِ، فِي الْمُخَاطَبِ بِهَا أَيْ فِي كَوْنِهِ مُخَاطَبًا بِأَدَاءِ الْكَفَّارَةِ، بَلْ شُرِطَتْ الْقُدْرَةُ وَالْيُسْرُ بِهَا أَيْ شُرِطَتْ الْقُدْرَةُ الْمُيَسِّرَةُ. ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بَلْ الْقُدْرَةُ وَالْيُسْرُ بِهَا أَيْ تَعَلَّقَتْ أَوْ وَجَبَتْ بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ، وَذَلِكَ

وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَخْرُجُ سُقُوطُ الْعُشْرِ بِهَلَاكِ الْخَارِجِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِشَرْطِ الْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى أَدَاءِ الْعُشْرِ يَسْتَغْنِي عَنْ قِيَامِ تِسْعَةِ الْأَعْشَارِ، لَكِنَّهُ شَرَطَ ذَلِكَ لِلْيُسْرِ وَلَمْ يَجِبْ إلَّا بِأَرْضٍ نَامِيَةٍ بِالْخَارِجِ فَشَرَطَ قِيَامَهُ لِبَقَاءِ صِفَةِ الْيُسْرِ وَكَذَلِكَ الْخَرَاجُ يَسْقُطُ إذَا اصْطَلَمَ الزَّرْعَ آفَةٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا وَجَبَ بِصِفَةِ الْيُسْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا بِسَلَامَةِ الْخَارِجِ إلَّا أَنَّهُ بِطَرِيقِ التَّقْدِيرِ بِالتَّمَكُّنِ لِكَوْنِ الْوَاجِبِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْخَارِجِ وَبِدَلِيلِ أَنَّ الْخَارِجَ إذَا قَلَّ حُطَّ الْخَرَاجُ إلَى نِصْفِ الْخَارِجِ وَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ سَقَطَ بِهَلَاكِ الْخَارِجِ حَتَّى لَا يَنْقَلِبَ غُرْمًا مَحْضًا وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْحَجِّ فَإِنَّهُ إذَا وَجَبَ بِمِلْكِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ لَمْ يَسْقُطْ بِفَوْتِهِمَا؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِشَرْطِ الْقُدْرَةِ دُونَ الْيُسْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ أَدْنَى مَا يُقْطَعُ بِهِ السَّفَرُ وَلَا يَقَعُ الْيُسْرُ إلَّا بِخَدَمٍ وَمَرَاكِبَ وَأَعْوَانٍ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ بِالْإِجْمَاعِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا لِدَوَامِ الْوَاجِبِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالدَّيْنِ أَيْ الْيُسْرُ لَا يَفُوتُ بِهِ بَلْ تَيْسِيرُ الْأَدَاءِ قَائِمٌ بِمِلْكِ الْمَالِ مَعَ قِيَامِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْيُسْرَ فِيهَا ثَبَتَ بِالتَّخْيِيرِ أَوْ اعْتِبَارِ الْعَجْزِ الْحَالِيِّ كَمَا ذَكَرْنَا وَذَلِكَ لَا يَفُوتُ بِالدَّيْنِ، وَالِانْعِدَامُ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُحْدَثَةِ فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَمْ يُجَوِّزُوا عَدِمْته فَانْعَدَمَ؛ لِأَنَّ عَدِمْته بِمَعْنَى لَمْ أَجِدْهُ وَحَقِيقَتُهُ تَعُودُ إلَى قَوْلِك فَاتَ وَلَيْسَ لَهُ مُطَاوِعٌ فَكَذَا لِعَدِمْتُ إذْ لَيْسَ فِيهِ إحْدَاثُ فِعْلٍ، وَذَكَرَ فِي الْمُفَصَّلِ وَلَا يَقَعُ يَعْنِي انْفَعَلَ إلَّا حَيْثُ يَكُونُ عِلَاجٌ وَتَأْثِيرٌ، وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُهُمْ انْعَدَمَ خَطَأً إلَّا أَنَّهُ لَمَّا شَاعَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْكُتُبِ صَارَ اسْتِعْمَالُهُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْفَهْمِ، وَلِهَذَا قِيلَ الْخَطَأُ الْمُسْتَعْمَلُ أَوْلَى مِنْ الصَّوَابِ النَّادِرِ. قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ) وَهُوَ أَنَّ بَقَاءَ الْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ شَرْطٌ لِبَقَاءِ مَا تَعَلَّقَ بِهَا يَخْرُجُ مَسْأَلَةُ الْعُشْرِ، يُسْتَغْنَى عَنْ قِيَامِ تِسْعَةِ الْأَعْشَارِ يَعْنِي الْقُدْرَةَ عَلَى أَدَاءِ مَا هُوَ عُشْرٌ مِنْ الْجُمْلَةِ لَا تَفْتَقِرُ إلَى تِسْعَةِ الْأَعْشَارِ بِالنَّظَرِ إلَى ذَاتِهِ وَإِنْ افْتَقَرَتْ إلَيْهَا مِنْ حَيْثُ هُوَ عُشْرٌ كَمَا أَنَّ الْجُزْءَ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْكُلِّ نَظَرًا إلَى ذَاتِهِ فَأَمَّا مِنْ حَيْثُ هُوَ جُزْءٌ فَلَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ، بِأَرْضٍ نَامِيَةٍ بِالْخَارِجِ أَيْ بِالنَّمَاءِ الْحَقِيقِيِّ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ الْخَرَاجُ يَسْقُطُ) أَيْ كَمَا أَنَّ الْعُشْرَ يَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْخَارِجِ فَكَذَا الْخَرَاجُ يَسْقُطُ، إذَا اصْطَلَمَ الزَّرْعَ أَيْ اسْتَأْصَلَهُ آفَةٌ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِنَمَاءِ الْأَرْضِ كَالْعُشْرِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ سَبِخَةً لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَسْلَمْ الْخَارِجُ لِرَبِّ الْأَرْضِ بِأَنْ زَرَعَهَا وَلَمْ تُخْرِجْ شَيْئًا أَوْ غَرِقَتْ الْأَرْضُ ثُمَّ نَضَبَ عَنْهَا الْمَاءُ فِي وَقْتٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى زِرَاعَتِهَا قَبْلَ مُضِيِّ السَّنَةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقُدْرَةٍ مُيَسِّرَةٍ إلَّا أَنَّ النَّمَاءَ التَّقْدِيرِيَّ بِأَنْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الزِّرَاعَةِ فِي وَقْتِهَا كَافٍ لِلْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ اعْتِبَارُ النَّمَاءِ التَّقْدِيرِيِّ فِي الْخَرَاجِ لِكَوْنِ الْوَاجِبِ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ الْخَارِجِ فَلَا يُجْعَلُ تَقْصِيرُهُ عُذْرًا فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغُزَاةِ وَيُجْعَلُ النَّمَاءُ مَوْجُودًا حُكْمًا لِتَقْصِيرِهِ حَيْثُ عَطَّلَهَا مَعَ التَّمَكُّنِ كَمَا يُجْعَلُ مَوْجُودًا بَعْدَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ فِي مَالِ الزَّكَاةِ بِخِلَافِ الْعُشْرِ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ إضَافِيٌّ فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ إلَّا فِي النَّمَاءِ الْحَقِيقِيِّ وَبِخِلَافِ مَا إذَا أَصَابَ الزَّرْعَ آفَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَصِّرْ حَيْثُ لَمْ يُعَطِّلْهَا إلَّا أَنَّهُ أُصِيبَ فَلَا يَغْرَمُ شَيْئًا كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى اسْتِيصَالِهِ حَتَّى لَوْ كَانَ بَعْدَ الِاصْطِلَامِ مُدَّةٌ يُمْكِنُ فِيهَا اسْتِغْلَالُ الْأَرْضِ إلَى آخِرِ السَّنَةِ لَا يَسْقُطُ الْخَرَاجُ أَيْضًا كَذَا سَمِعْت مِنْ شَيْخِي قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ. ، قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمِمَّا حُمِدَ مِنْ سِيَرِ الْأَكَاسِرَةِ أَنَّهُمْ إذَا أَصَابَ زَرْعَ بَعْضِ الرَّعِيَّةِ آفَةٌ غَرِمُوا لَهُ مَا أَنْفَقَ فِي الزِّرَاعَةِ مِنْ بَيْتِ مَالِهِمْ وَقَالُوا التَّاجِرُ شَرِيكٌ فِي الْخُسْرَانِ كَمَا هُوَ شَرِيكٌ فِي الرِّبْحِ فَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ الْإِمَامُ شَيْئًا فَلَا أَقَلّ مِنْ أَنْ لَا يُغَرِّمَهُ الْخَرَاجَ. قَوْلُهُ (وَبِدَلِيلِ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَتَقْدِيرُهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا بِسَلَامَةِ الْخَارِجِ وَبِدَلِيلِ كَذَا، حُطَّ إلَى نِصْفِ الْخَارِجِ يَعْنِي الْخَرَاجَ كُلَّهُ وَإِنَّمَا يَجِبُ إذَا لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْخَارِجِ فَإِذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ حُطَّ إلَى نِصْفِ الْخَارِجِ لِيَسْلَمَ لَهُ النِّصْفُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَالتَّنْصِيفُ عَيْنُ الْأَنْصَافِ فَلَوْ كَانَ الْخَارِجُ مَثَلًا يُسَاوِي دِينَارًا وَالْوَاجِبُ دِينَارٌ أَنْ يَجِبَ نِصْفُ دِينَارٍ. قَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الزَّكَاةِ وَالْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ مُخَالِفٌ لِلْحَجِّ الَّذِي قَاسَهَا الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إذَا وَجَبَ بِمِلْكِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ لَمْ يَسْقُطْ بِفَوْتِهِمَا؛ لِأَنَّهَا أَيْ عِبَادَةُ الْحَجِّ وَجَبَتْ بِشَرْطِ الْقُدْرَةِ دُونَ صِفَةِ الْيُسْرِ فَإِنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ

وَكَذَلِكَ لَا يَسْقُطُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ بِهَلَاكِ الرَّأْسِ وَذَهَابِ الْغِنَى؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ بِصِفَةِ الْيُسْرِ بَلْ بِشَرْطِ الْقُدْرَةِ وَقِيَامِ صِفَةِ الْأَهْلِيَّةِ بِالْغِنَى، أَلَا تَرَى أَنَّهَا وَجَبَتْ بِسَبَبِ رَأْسِ الْحُرِّ وَلَا يَقَعُ بِهِ الْغِنَى وَوُجِدَ الْغِنَى بِثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَلَا يَقَعُ بِهَا الْيُسْرُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَامِيَةٍ فَلَمْ يَكُنْ الْبَقَاءُ مُفْتَقِرًا إلَى دَوَامِ شَرْطِ الْوُجُوبِ وَلَا يَلْزَمُ أَنَّهَا لَا تَجِبُ عِنْدَ قِيَامِ الدَّيْنِ وَقْتَ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يُعْدِمُ الْغَنَاءَ الَّذِي هُوَ شَرْطُ الْوُجُوبِ وَبِهِ يَقَعُ أَهْلِيَّةُ الْإِغْنَاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِيهِ نَفْسَ الِاسْتِطَاعَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] ، وَلَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ عَادَةً فَكَانَ مِلْكُهُمَا أَدْنَى مَا يُقْطَعُ بِهِ هَذَا السَّفَرُ، فَكَانَ أَيْ مِلْكُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ شَرْطَ الْوُجُوبِ لَا شَرْطَ الْيُسْرِ فَلَا يُشْتَرَطُ دَوَامُهُ لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ، وَذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ الْحَجُّ لَا يَجِبُ إلَّا بِمِلْكِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَيَبْقَى بِدُونِهِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطُ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الْحَجِّ بِالْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ وَلَا يَتَيَسَّرُ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَإِنَّمَا يَتَيَسَّرُ بِهِمَا السَّفَرُ وَمَا لَا يَثْبُتُ بِهِ قُدْرَةُ الْأَدَاءِ وَلَا التَّيْسِيرُ لَا يُشْتَرَطُ لِلْأَدَاءِ فَعُلِمَ أَنَّهُ شَرَطَ الْوُجُوبَ رَحْمَةً عَلَيْنَا. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَكَمَا أَنَّ الْحَجَّ لَا يَسْقُطُ بَعْدَ الْوُجُوبِ بِفَوَاتِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ لَا يَسْقُطُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ بِهَلَاكِ الرَّأْسِ الَّذِي هُوَ السَّبَبُ بِأَنْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ وَجَبَ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ بِسَبَبِهِ فَهَلَكَ، وَذَهَابُ الْمَالِ الَّذِي هُوَ الشَّرْطُ وَإِنْ لَمْ تَجِبْ ابْتِدَاءً بِدُونِهِمَا؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْغَنَاءِ لِلْوُجُوبِ لَا لِتَيْسِيرِ الْأَدَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا يَسْتَقِيمُ إيجَابُهَا إلَّا عَلَى غِنًى كَمَا لَا يَسْتَقِيمُ إلَّا عَلَى مُؤْمِنٍ؛ لِأَنَّهَا مَا شُرِعَتْ إلَّا لِإِغْنَاءِ الْفَقِيرِ خُصُوصًا هَذِهِ الصَّدَقَةُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَغْنُوهُمْ» ، فَلَوْ كَانَ الْفَقِيرُ أَهْلًا لِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ لَصَارَتْ مَشْرُوعَةً لِإِحْوَاجِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَبَيَانُهُ أَنَّهُ إذَا مَلَكَ مَا يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ إغْنَاءِ الْفَقِيرِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ بِهِ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْإِغْنَاءِ فَلَوْ اعْتَبَرَ هَذَا الْغَنَاءَ وَأَمَرَ بِالْإِغْنَاءِ لَعَادَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ؛ لِأَنَّهُ ح يَصِيرُ مُحْتَاجًا إلَى الْمَسْأَلَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ دَفْعَ حَاجَةِ نَفْسِهِ لِئَلَّا يَحْتَاجَ إلَى الْمَسْأَلَةِ أَوْلَى مِنْ دَفْعِ حَاجَةِ الْغَيْرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَغَيْرُهُ أَيْضًا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كَانَ الصَّرْفُ إلَى نَفْسِهِ أَوْلَى بَلْ وَاجِبًا إنْ خَافَ الْهَلَاكَ عَلَيْهَا وَلِهَذَا شَرَطَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يَمْلِكَ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ صَاعًا فَاضِلًا مِنْ قُوتِهِ وَقُوتِ مَنْ يَقُوتُهُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَلَيْلَتَهُ إلَّا أَنَّ عِنْدَنَا مَا دُونَ النِّصَابِ لَهُ حُكْمُ الْعَدَمِ فِي الشَّرْعِ حَتَّى حَلَّ لِمَالِكِهِ الصَّدَقَةُ فَشَرَطْنَا النِّصَابَ لِيَثْبُتَ حُكْمُ الْوُجُودِ شَرْعًا فَيَتَحَقَّقُ الْإِغْنَاءُ، وَمَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ فِي جَوَابِ مَا يُقَالُ الْمُرَادُ مِنْ الْإِغْنَاءِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ الْإِغْنَاءُ عَنْ الْمَسْأَلَةِ لَا الْإِغْنَاءُ الشَّرْعِيُّ فَلَا يَكُونُ الْغَنَاءُ الشَّرْعِيُّ شَرْطًا لِأَهْلِيَّتِهِ بِهِ إنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْإِغْنَاءِ كِفَايَةُ الْفَقِيرِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فَبَقِيَ الْغَنَاءُ الْمَشْرُوطُ فِي جَانِبِ الْمُؤَدِّي مُطْلَقًا فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي الشَّرْعِ ضَعِيفٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْغَنَاءِ فِي الْمُؤَدِّي مَا ثَبَتَ نَصًّا وَإِنَّمَا ثَبَتَ ضَرُورَةَ وُجُوبِ الْإِغْنَاءِ فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ لَيْسَ الْغَنَاءَ الشَّرْعِيَّ فَأَنَّى يَثْبُتُ اشْتِرَاطُهُ فِي الْمُؤَدَّى بِهِ فَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا أَوْلَى. قَوْلُهُ (بِثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمَهْنَةِ) الْبِذْلَةُ بِالْكِسْرَةِ مَا يُبْتَذَلُ مِنْ الثِّيَابِ وَالْمَهْنَةِ بِالْفَتْحِ الْخِدْمَةُ، وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ وَالْكِسَائِيُّ الْمِهْنَةَ بِالْكَسْرِ وَأَنْكَرَهُ الْأَصْمَعِيُّ كَذَا فِي الصِّحَاحِ، وَفِي الْمُغْرِبِ الْمَهْنَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا الْخِدْمَةُ وَالِابْتِذَالُ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْبِذْلَةُ وَالْمِهْنَةُ تَرَادُفًا، وَقِيلَ: أَرَادَ بِثِيَابِ الْبِذْلَةِ ثِيَابَ الْجَمَالِ الَّتِي تُلْبَسُ فِي الْأَعْيَادِ وَالْمَوَاسِمِ وَبِالْمَهْنَةِ الَّتِي تُلْبَسُ فِي غَيْرِهَا، فَإِذَا مَلَكَ مِنْ ثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمَهْنَةِ مَا يُسَاوِي نِصَابًا فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ يَجِبُ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَبِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمَالِ يَحْصُلُ أَصْلُ التَّمَكُّنِ وَالْغَنَاءِ فَأَمَّا صِفَةُ الْيُسْرِ فَمُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَالِ النَّامِي لِيَكُونَ الْأَدَاءُ مِنْ فَضْلِ الْمَالِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ هَهُنَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ حَوَلَانُ الْحَوْلِ الْمُحَقِّقِ لِلنَّمَاءِ بَلْ إذَا مَلَكَ نِصَابًا بِلَيْلَةِ الْفِطْرِ تَلْزَمُهُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْغَنَاءَ شَرْطُ التَّمَكُّنِ لَا شَرْطُ الْيُسْرِ فَلَا

بِخِلَافِ الدَّيْنِ عَلَى الْعَبْدِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ قِيَامَ الْغِنَى بِمَالٍ آخَرَ يَفْضُلُ عَنْ حَاجَتِهِ بَالِغًا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَبِخِلَافِ زَكَاةِ التِّجَارَةِ فَإِنَّهَا تَسْقُطُ بِدَيْنِ الْعَبْدِ الَّذِي هُوَ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَقْتَضِي صِفَةَ الْغِنَى الْكَامِلِ بِعَيْنِ النِّصَابِ لَا بِغَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ فِي تَقْسِيمِ صِفَةِ حُكْمِ الْأَمْرِ وَصِفَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي نَفْسِهِ فَأَمَّا مَا يَكُونُ صِفَةً قَائِمَةً بِغَيْرِهِ وَهُوَ الْوَقْتُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَرْتِيبِهِ عَلَى الدَّرَجَةِ الْأُولَى وَهَذَا ـــــــــــــــــــــــــــــQيُشْتَرَطُ دَوَامُهُ لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَالْإِمَامُ الْبُرْغَرِيُّ فِي كِتَابَيْهِمَا قَوْلُهُ وَلَا يَلْزَمُ أَيْ عَلَى قَوْلِنَا صَدَقَةُ الْفِطْرِ لَمْ يَجِبْ بِصِفَةِ الْيُسْرِ أَنَّ الدَّيْنَ الْقَائِمَ وَقْتَ الْوُجُوبِ يَمْنَعُ عَنْ وُجُوبِهَا كَمَا فِي الزَّكَاةِ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً بِصِفَةِ الْيُسْرِ لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ مَانِعًا مِنْ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ مَعَ الدَّيْنِ مُمْكِنٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ مَعَ أَنَّهَا تَجِبُ بِقُدْرَةِ مُيَسِّرَةٍ فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ فِيمَا تَجِبُ بِقُدْرَةٍ مُمَكِّنَةٍ كَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّا نَقُولُ الدَّيْنُ إنَّمَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّهُ يُعْدِمُ الْغَنَاءَ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي فَصْلِ الزَّكَاةِ وَالْغَنَاءُ مِنْ شُرُوطِ الْأَهْلِيَّةِ فَعَدَمُهُ يُخِلُّ بِهَا فَيَمْتَنِعُ الْوُجُوبُ لَا مَحَالَةَ. قَوْلُهُ (بِخِلَافِ الدَّيْنِ عَلَى الْعَبْدِ) إذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ الَّذِي هُوَ لِلْخِدْمَةِ دَيْنٌ بِأَنْ أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ فِي التِّجَارَةِ فَعَلِقَتْ رَقَبَتُهُ بِهِ وَمَوْلَاهُ مُوسِرٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْغَنَاءِ ثَابِتَةٌ لَهُ بِمَا يَمْلِكُ مِنْ مَالٍ آخَرَ سِوَى هَذَا الْعَبْدِ وَمَالِيَّةُ مِنْ يُؤَدِّي عَنْهُ غَيْرِ مُعْتَبَرَةٍ لِلْوُجُوبِ كَمَا فِي وَلَدِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ وَبِسَبَبِ الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّهُ شَغَلَهُ بِنَوْعٍ مِنْ خِدْمَتِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَنْفِي غِنَاهُ وَلَا صَدَقَةَ إلَّا عَلَى الْغِنَى، ثُمَّ فُرِّقَ بَيْنَ دَيْنِ الْعَبْدِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَبَيْنَهُ فِي الزَّكَاةِ حَيْثُ يَمْنَعُ دَيْنُهُ فِي الزَّكَاةِ وَلَا يَمْنَعُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَقَالَ بِخِلَافِ زَكَاةِ التِّجَارَةِ إلَى آخِرِهِ، وَبَيَانُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الزَّكَاةِ الْغَنَاءُ بِذَلِكَ الْمَالِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ حَتَّى لَوْ هَلَكَ ذَلِكَ الْمَالُ سَقَطَتْ الزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا بِمَالٍ آخَرَ وَدَيْنُ الْعَبْدِ يَمْنَعُ الْغَنَاءَ بِمَالِيَّتِهِ، فَأَمَّا الْمُعْتَبَرُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَمُطْلَقُ الْغِنَى بِأَيِّ مَالٍ كَانَ وَدَيْنُ الْعَبْدِ لَا يَمْنَعُ الْغَنَاءَ بِمَالٍ آخَرَ فَافْتَرَقَا. قَوْلُهُ (هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا) أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ بَابِ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ إلَى هَهُنَا، تَقْسِيمٌ فِي صِفَةِ حُكْمِ الْأَمْرِ وَهُوَ مَا مَرَّ فِي بَابِ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ، وَتَقْسِيمٌ فِي صِفَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ تَقْسِيمِ الْحَسَنِ، فَأَمَّا مَا يَكُونُ صِفَةً لِلْمَأْمُورِ بِهِ قَائِمَةً بِغَيْرِهِ أَيْ بِغَيْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَهُوَ الْوَقْتُ إذْ الْمَأْمُورُ بِهِ قَدْ يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُوَقَّتٌ كَمَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ حَسَنٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَرْتِيبِهِ أَيْ تَقْسِيمِهِ، عَلَى الدَّرَجَةِ الْأُولَى وَهُوَ الْأَدَاءُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُفْتَقِرُ إلَى الْوَقْتِ الْمَحْدُودِ فِي بَعْضِ الْأَوَامِرِ لَا الْقَضَاءُ الَّذِي هُوَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُوَقَّتٍ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى أَيْ الْقِسْمَةُ الْأُولَى انْقَسَمَ إلَى نَوْعَيْنِ أَدَاءً وَقَضَاءٍ وَإِلَى حَسَنٍ لِعَيْنِهِ وَلِغَيْرِهِ ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ إلَى أَنْوَاعٍ فَكَذَا فِي حُكْمِ الْوَقْتِ يَنْقَسِمُ إلَى مُوَقَّتٍ وَغَيْرِ مُوَقَّتٍ ثُمَّ إلَى مَا يَكُونُ ظَرْفًا وَمِعْيَارًا وَمُشْكِلًا فَهَذَا الِانْقِسَامُ وَالتَّرْتِيبُ كَالدَّرَجَةِ الْأُولَى كَمَا تَرَى إلَيْهِ أَشَارَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ الْعَلَّامَةُ بَدْرُ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ، وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أُسْتَاذُ الْأَئِمَّةِ حَمِيدُ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى مُرَتَّبٌ عَلَى الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ وَذَا تَرْتِيبٌ فِي نَفْسِهِ وَهَهُنَا انْقَسَمَ إلَى مُوَقَّتٍ وَغَيْرِ مُوَقَّتٍ وَهَذَا التَّرْتِيبُ فِي غَيْرِهِ وَالْمُوَقَّتُ يَنْقَسِمُ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ وَوَقْتِ الْقَضَاءِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا» ، قُلْت وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ ثُمَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ الْأَمْرِ مِنْ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ عَلَى نَوْعَيْنِ مُوَقَّتٍ وَغَيْرِ مُوَقَّتٍ فَغَيْرُ الْمُوَقَّتِ نَوْعٌ وَاحِدٌ. وَأَمَّا الْمُوَقَّتُ فَهُوَ أَنْوَاعٌ، فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ انْقَسَمَ إلَى أَدَاءً وَقَضَاءٍ وَكِلَاهُمَا انْقَسَمَ إلَى مُوَقَّتٍ وَغَيْرِ مُوَقَّتٍ وَنَعْنِي بِهِ أَنَّ مَجْمُوعَ أَقْسَامِ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا مُوَقَّتَةً وَغَيْرَ

[باب تقسيم المأمور به في حكم الوقت]

(بَابٌ) تَقْسِيمُ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي حُكْمِ الْوَقْتِ. الْعِبَادَاتُ نَوْعَانِ: مُطْلَقَةٌ وَمُؤَقَّتَةٌ، أَمَّا الْمُطْلَقَةُ فَنَوْعٌ وَاحِدٌ وَأَمَّا الْمُؤَقَّتَةُ فَأَنْوَاعٌ نَوْعٌ جُعِلَ الْوَقْتُ ظَرْفًا لِلْمُؤَدَّى وَشَرْطًا لِلْأَدَاءِ وَسَبَبًا لِلْوُجُوبِ وَهُوَ وَقْتُ الصَّلَاةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَفْضُلُ عَنْ الْأَدَاءِ فَكَانَ ظَرْفًا لَا مِعْيَارًا وَالْأَدَاءُ يَفُوتُ بِفَوَاتِهِ فَكَانَ شَرْطًا وَالْأَدَاءُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ صِفَةِ الْوَقْتِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمُوَقَّتَةٍ فَبَعْضُ أَقْسَامِ الْأَدَاءِ مُوَقَّتٌ وَبَعْضُهَا مَعَ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقَضَاءِ غَيْرُ مُوَقَّتٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابٌ تَقْسِيمُ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي حُكْمِ الْوَقْتِ] [الْعِبَادَاتُ نَوْعَانِ مُطْلَقَةٌ وَمُؤَقَّتَةٌ وَهِيَ أَنْوَاعٌ] [النَّوْع الْأَوَّل جُعِلَ الْوَقْتُ ظَرْفًا لِلْمُؤَدَّى وَشَرْطًا لِلْأَدَاءِ وَسَبَبًا لِلْوُجُوبِ] بَابُ تَقْسِيمِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي حُكْمِ الْوَقْتِ قَوْلُهُ (مُطْلَقَةٌ) أَيْ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِوَقْتٍ، وَمُوَقَّتَةٌ أَيْ مُتَعَلِّقَةٌ بِوَقْتٍ وَالْمُرَادُ بِهِ الْوَقْتُ الْمَحْدُودُ الَّذِي اُخْتُصَّ جَوَازُ أَدَائِهَا بِهِ حَتَّى لَوْ فَاتَ صَارَ قَضَاءً أَمَّا أَصْلُ الْوَقْتِ فَلَا بُدَّ لِلْمَأْمُورِ بِهِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِالْأَمْرِ فِعْلٌ لَا مَحَالَةَ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَقْتٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ بِدُونِهِ وَلِهَذَا قَالَ مُطْلَقَةٌ وَلَمْ يَقُلْ غَيْرُ مُوَقَّتَةٍ كَمَا قَالَ غَيْرُهُ. قَوْلُهُ (ظَرْفًا لِلْمُؤَدَّى وَشَرْطًا لِلْأَدَاءِ) (فَإِنْ قِيلَ) قَدْ يُسْتَفَادُ الشَّرْطِيَّةُ مِنْ الظَّرْفِيَّةِ؛ لِأَنَّ الظُّرُوفَ مَحَالُّ وَالْمَحَالُّ شُرُوطٌ عَلَى مَا عُرِفَ فَإِنَّهُ فَائِدَةٌ فِي قَوْلِهِ شَرْطًا لِلْأَدَاءِ، قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْ الْمُؤَدَّى الرَّكَعَاتُ الَّتِي تَحْصُلُ فِي الْوَقْتِ وَمِنْ الْأَدَاءِ إخْرَاجُهَا مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ فَكَانَا غَيْرَيْنِ وَاعْتُبِرَ هَذَا بِالزَّكَاةِ فَإِنَّ أَدَاءَهَا تَسْلِيمُ الدَّرَاهِمِ مَثَلًا إلَى الْفَقِيرِ وَالْمُؤَدَّى نَفْسُ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ الَّتِي حَصَلَتْ فِي يَدِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُسْتَفَادُ مِنْ ظَرْفِيَّةِ الْمُؤَدَّى شَرْطِيَّةُ الْأَدَاءِ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ شَرْطَ الشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِغَيْرِهِ، عَلَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ ظَرْفًا لِشَيْءٍ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِوُجُودِهِ كَالْوِعَاءِ ظَرْفٌ لِمَا فِيهِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يُوجَدُ بِدُونِ هَذَا الظَّرْفِ، ثُمَّ الْغَرَضُ مِنْ إيرَادِ هَذِهِ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ بَيَانُ مَا وَقَعَ بِهِ الِاشْتِرَاكُ وَالِامْتِيَازُ لِوَقْتِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَامْتَازَ وَقْتُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِ الصَّوْمِ بِكَوْنِهِ ظَرْفًا وَاشْتَرَكَا فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرْطًا لِلْأَدَاءِ وَسَبَبًا لِلْوُجُوبِ فَيَكُونُ فِي قَوْلِهِ وَشَرْطًا لِلْأَدَاءِ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ. قَوْلُهُ (أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَفْضُلُ عَنْ الْأَدَاءِ) يَعْنِي إذَا اكْتَفَى فِي الْأَدَاءِ عَلَى الْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ يَفْضُلُ الْوَقْتُ عَنْ الْأَدَاءِ وَلَوْ أَطَالَ رُكْنًا مِنْهُ مَضَى الْوَقْتُ قَبْلَ تَمَامِ الْأَدَاءِ، وَكَذَا يَجُوزُ الْأَدَاءُ فِي أَيِّ جُزْءٍ شَاءَ مِنْ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ وَلَوْ كَانَ مِعْيَارًا لِمَا جَازَ فَثَبَتَ أَنَّهُ ظَرْفٌ لَا مِعْيَارٌ، وَتَفْسِيرُ الظَّرْفِ هَهُنَا أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ وَاقِعًا فِيهِ وَلَا يَكُونُ مُقَدَّرًا بِهِ وَتَفْسِيرُ الْمِعْيَارِ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ وَاقِعًا فِيهِ وَمُقَدَّرًا بِهِ فَيَزْدَادُ وَيَنْتَقِصُ بِازْدِيَادِ الْوَقْتِ وَانْتِقَاصِهِ كَالْكَيْلِ فِي الْمَكِيلَاتِ فَكَانَ قَوْلُهُ ظَرْفًا مَحْضًا احْتِرَازًا عَنْ الْمِعْيَارِ فَإِنَّهُ ظَرْفٌ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَحْضٍ وَلِهَذَا أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ لَا مِعْيَارًا. قَوْلُهُ (فَكَانَ شَرْطًا) ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْإِتْيَانِ بِهِ فِي الْوَقْتِ وَخَارِجَ الْوَقْتِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ وَالْمَعْنَى فَعُلِمَ أَنَّ التَّفَاوُتَ إنَّمَا وَقَعَ بِاعْتِبَارِ الْوَقْتِ حَتَّى سُمِّيَ أَحَدُهُمَا أَدَاءً وَالْآخَرُ قَضَاءً. قَوْلُهُ (وَالْأَدَاءُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ صِفَةِ الْوَقْتِ) فَإِنَّ الْأَدَاءَ فِي الْوَقْتِ الصَّحِيحِ كَامِلٌ وَفِي الْوَقْتِ النَّاقِصِ نَاقِصٌ وَإِنْ وُجِدَ جَمِيعُ شَرَائِطِهِ وَتَغَيُّرُهُ بِتَغَيُّرِ الْوَقْتِ عَلَامَةُ كَوْنِ الْوَقْتِ سَبَبًا لَهُ كَالْبَيْعِ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لِلْمِلْكِ تَغَيَّرَ الْمِلْكُ بِتَغَيُّرِهِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا كَانَ الْمِلْكُ صَحِيحًا وَلَوْ كَانَ فَاسِدًا كَانَ الْمِلْكُ فَاسِدًا حَتَّى ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي حِلِّ الْوَطْءِ وَثُبُوتِ الشُّفْعَةِ وَغَيْرِهِمَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي فُرُوعِ الْفِقْهِ، وَلَا يُقَالُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ صِفَةِ الْأَدَاءِ بِاخْتِلَافِ صِفَةِ الْوَقْتِ لِكَوْنِهِ ظَرْفًا لَا لِكَوْنِهِ سَبَبًا كَمَا فِي صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ كَيْفَ وَالْوَقْتُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْأَدَاءِ بَلْ السَّبَبُ فِيهِ الْخِطَابُ فَلَا يَصِحُّ هَذَا الِاسْتِدْلَال؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْأَصْلُ هُوَ اخْتِلَافُ الْحُكْمِ بِاخْتِلَافِ

وَيُفْسِدُ التَّعْجِيلُ قَبْلَهُ فَكَانَ سَبَبًا وَهَذَا الْقِسْمُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ نَوْعٌ مِنْهَا مَا يُضَافُ إلَى الْجُزْءِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مَا يُضَافُ إلَى مَا يَلِي ابْتِدَاءَ الشُّرُوعِ مِنْ سَائِرِ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ وَنَوْعٌ آخَرُ مَا يُضَافُ إلَى الْجُزْءِ النَّاقِصِ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ وَفَسَادِهِ، وَالنَّوْعُ الرَّابِعُ مَا يُضَافُ إلَى جُمْلَةِ الْوَقْتِ وَدَلَالَةُ كَوْنِ الْوَقْتِ سَبَبًا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْمُؤَقَّتَةِ مَا جُعِلَ الْوَقْتُ مِعْيَارًا لَهُ وَسَبَبًا لِوُجُوبِهِ وَذَلِكَ مِثْلُ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ مَا جُعِلَ الْوَقْتُ مِعْيَارًا لَهُ وَلَمْ يُجْعَلْ سَبَبًا مِثْلُ أَوْقَاتِ صِيَامِ الْكَفَّارَةِ وَالنُّذُورِ وَالْأَصْلِ فِي أَنْوَاعِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ الْمُؤَقَّتَةِ أَنَّ الْوَقْتَ لَمَّا جُعِلَ سَبَبًا لِوُجُوبِهَا وَظَرْفًا لِأَدَائِهَا لَمْ يَسْتَقِمْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ الْوَقْتِ سَبَبًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ تَأْخِيرَ الْأَدَاءِ عَنْ وَقْتِهِ أَوْ تَقْدِيمَهُ عَلَى سَبَبِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْعَلَ بَعْضُهُ سَبَبًا وَهُوَ مَا يَسْبِقُ الْأَدَاءَ حَتَّى يَقَعَ الْأَدَاءُ بَعْدَ سَبَبِهِ وَلَيْسَ بَعْدَ الْكُلِّ جُزْءٌ مُقَدَّرٌ فَوَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَدْنَى (وَهُوَ) ـــــــــــــــــــــــــــــQالسَّبَبِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ يَصْرِفُهُ عَنْهُ، وَلِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ اخْتِلَافِ الْأَدَاءِ اخْتِلَافُ الْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ كَامِلًا وَنَاقِصًا بِكَمَالِ الْوَقْتِ وَنُقْصَانِهِ، وَوُجُوبُ الْأَدَاءِ وَإِنْ كَانَ بِالْخِطَابِ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ إلَّا تَسْلِيمُ ذَلِكَ الْوَاجِبِ الَّذِي ثَبَتَ بِالسَّبَبِ فِي الذِّمَّةِ فَيَخْتَلِفُ أَيْضًا بِاخْتِلَافِ الْوَاجِبِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ صَحِيحٌ. قَوْلُهُ (وَيُفْسِدُ التَّعْجِيلُ قَبْلَهُ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى سَبَبِيَّةِ الْوَقْتِ، وَلَا يُقَالُ لَا يَصْلُحُ هَذَا دَلِيلًا عَلَى السَّبَبِيَّةِ؛ لِأَنَّ التَّعْجِيلَ كَمَا لَا يَجُوزُ قَبْلَ السَّبَبِ لَا يَجُوزُ قَبْلَ الشَّرْطِ أَيْضًا كَالصَّلَاةِ قَبْلَ الطِّهَارَاتِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يُوجَدْ قَرِينَةٌ تُرَجِّحُ أَحَدَ الْجَانِبَيْنِ وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَسَادَ لِعَدَمِ السَّبَبِ وَهُوَ الدَّلِيلُ السَّابِقُ وَهُوَ تَغَيُّرُ الْأَدَاءِ بِتَغَيُّرِ الْوَقْتِ إذْ الْمَشْرُوطُ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ صِفَةِ الشَّرْطِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْفَسَادَ لِعَدَمِ السَّبَبِ لَا لِعَدَمِ الشَّرْطِ فَصَلَحَ دَلِيلًا عَلَى السَّبَبِيَّةِ، وَهَذَا كَالْمُشْتَرَكِ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى أَحَدِ مَفْهُومَيْهِ عَيْنًا مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ فَإِذَا انْضَمَّتْ إلَيْهِ قَرِينَةُ تَرْجِيحِ أَحَدِ مَفْهُومَيْهِ صَلَحَ دَلِيلًا عَلَيْهِ. 1 - قَوْلُهُ (وَهَذَا الْقِسْمُ) أَيْ الْوَقْتُ الَّذِي هُوَ ظَرْفٌ بِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ سَبَبًا أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ فَكَانَ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ تَقْسِيمًا لِسَبَبِيَّتِهِ لَا لِنَفْسِهِ مَا يُضَافُ أَيْ سَبَبِيَّةٌ تُضَافُ إلَى الْجُزْءِ الْأَوَّلِ أَيْ فِيمَا إذَا أَدَّى فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، إلَى مَا يَلِي ابْتِدَاءَ الشُّرُوعِ أَيْ فِيمَا إذَا لَمْ يُؤَدَّ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، مَا يُضَافُ إلَى الْجُزْءِ النَّاقِصِ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ وَفَسَادِهِ أَيْ فِيمَا إذَا أَخَّرَ الْعَصْرَ إلَى وَقْتِ الِاحْمِرَارِ. وَقَوْلُهُ وَفَسَادُهُ تَفْسِيرٌ لِضِيقِ الْوَقْتِ وَإِنَّمَا فَسَّرَهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يُظَنُّ أَنَّ الْجُزْءَ الْأَخِيرَ مِنْ وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ نَاقِصٌ فَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: " وَفَسَادُهُ " دَفْعًا لِهَذَا الْوَهْمِ، مَا يُضَافُ إلَى جُمْلَةِ الْوَقْتِ أَيْ فِيمَا إذَا فَاتَ الْأَدَاءُ فِي الْوَقْتِ، وَدَلَالَةُ كَوْنِ الْوَقْتِ سَبَبًا يَعْنِي مَا ذَكَرْنَا هُوَ عَلَامَةُ سَبَبِيَّةِ الْوَقْتِ فَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى سَبَبِيَّتِهِ فَمَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ وَهُوَ بَابُ بَيَانِ أَسْبَابِ الشَّرَائِعِ قَوْلُهُ (وَالْأَصْلُ فِي أَنْوَاعِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ) أَيْ الْقِسْمِ الَّذِي هُوَ ظَرْفٌ وَأَرَادَ بِالْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ الْأُولَى دُونَ النَّوْعِ الْأَخِيرِ؛ لِأَنَّا لَا نَحْتَاجُ فِيهِ إلَى جَعْلِ الْجُزْءِ سَبَبًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْ جَعْلُ كُلِّ الْوَقْتِ سَبَبًا يُوجِبُ تَأْخِيرَ الْأَدَاءِ عَنْ وَقْتِهِ أَوْ تَقْدِيمَهُ عَلَى سَبَبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رِعَايَةِ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ وَمَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ فَلَوْ رُوعِيَ فِيهِ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ يَلْزَمُ مِنْهُ تَأْخِيرُ الْأَدَاءِ عَنْ الْوَقْتِ وَفِيهِ إبْطَالُ مَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ وَالشَّرْطِيَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] ، وَلَوْ رُوعِيَ مَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ يَلْزَمُ مِنْهُ تَقْدِيمُ الْحُكْمِ عَلَى سَبَبِهِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ بِدَلَالَةِ الْعَقْلِ وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ الْوَقْتِ سَبَبًا وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ وَجَبَ أَنْ يُجْعَلَ الْبَعْضُ سَبَبًا ضَرُورَةً، وَلَا يُقَالُ لَا يَجِبُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ مُطْلَقُ الْوَقْتِ سَبَبًا وَالْمُطْلَقُ مُغَايِرٌ لِلْكُلِّ وَالْبَعْضِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي الْإِطْلَاقِ يَدْخُلُ الْكُلُّ وَالْبَعْضُ فَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يَصِحَّ جَعْلُ الْكُلِّ سَبَبًا مِنْ حَيْثُ هُوَ مُطْلَقُ الْوَقْتِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِالْبَعْضِ، وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ السَّبَبِ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ، ثُمَّ لَمَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْبَعْضُ سَبَبًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا عَلَى الْأَدَاءِ لِيَقَعَ الْأَدَاءُ بَعْدَهُ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الْكُلِّ جُزْءٌ مُقَدَّرٌ أَيْ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ يُمْكِنُ تَرْجِيحُهُ عَلَى سَائِرِ الْأَجْزَاءِ مِثْلُ الرُّبُعِ وَالْخُمُسِ وَالْعُشْرِ وَنَحْوِهَا لِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ وَفَسَادِ التَّرْجِيحِ بِلَا مُرَجِّحٍ وَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَدْنَى

وَلِهَذَا قَالُوا فِي الْكَافِرِ إذَا أَدْرَكَ الْجُزْءَ الْأَخِيرَ بَعْدَمَا أَسْلَمَ لَزِمَهُ فَرْضُ الْوَقْتِ، وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ فِي مَسْأَلَةِ الْحَائِضِ إذَا طَهُرَتْ وَأَيَّامُهَا عَشْرَةٌ إنَّ الصَّلَاةَ تَلْزَمُهَا إذَا أَدْرَكَتْ شَيْئًا مِنْ الْوَقْتِ قَلِيلًا كَانَ ذَلِكَ أَوْ كَثِيرًا وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ الْجُزْءُ السَّابِقُ أَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ سَبَبًا لِعَدَمِ مَا يُزَاحِمُهُ، وَبِدَلِيلِ أَنَّ الْأَدَاءَ بَعْدَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ صَحِيحٌ وَلَوْلَا أَنَّهُ سَبَبٌ لَمَا صَحَّ وَلَمَا صَارَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ سَبَبًا أَفَادَ الْوُجُوبَ بِنَفْسِهِ وَأَفَادَ صِحَّةَ الْأَدَاءِ لَكِنَّهُ لَمْ يُوجِبْ الْأَدَاءَ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ جَبْرٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِلَا اخْتِيَارٍ مِنْ الْعَبْدِ ثُمَّ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْوُجُوبِ تَعْجِيلُ الْأَدَاءِ بَلْ الْأَدَاءُ مُتَرَاخٍ إلَى الطَّلَبِ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ وَمَهْرِ النِّكَاحِ يَجِبَانِ بِالْعَقْدِ، وَوُجُوبُ الْأَدَاءِ يَتَأَخَّرُ إلَى الْمُطَالَبَةِ وَهُوَ الْخِطَابُ فَأَمَّا الْوُجُوبُ فَبِالْإِيجَابِ لِصِحَّةِ سَبَبِهِ لَا بِالْخِطَابِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَهُوَ الْجُزْءُ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ مِنْ الزَّمَانِ إذْ هُوَ مُرَادٌ بِكُلِّ حَالٍ وَلَا دَلِيلَ عَلَى الزَّائِدِ عَلَيْهِ فَتَعَيَّنَ لِلسَّبَبِيَّةِ وَلِهَذَا لَوْ أَدَّى بَعْدَ مُضِيِّ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ جَازَ. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِكَوْنِ السَّبَبِيَّةِ مُقْتَصِرَةً عَلَى الْجُزْءِ الْأَدْنَى قَالُوا أَيْ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إنَّ الْكَافِرَ إذَا أَسْلَمَ وَقَدْ بَقِيَ جُزْءٌ وَاحِدٌ مِنْ الْوَقْتِ لَزِمَهُ فَرْضُ الْوَقْتِ أَيْ قَضَاؤُهُ لِوُجُودِ السَّبَبِ حَالَ صَيْرُورَتِهِ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ، وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ أَرَادَ بِهِ النَّوَادِرَ الَّتِي رَوَاهَا أَبُو سُلَيْمَانَ عَنْهُ فَذَكَرَ فِيهَا امْرَأَةً أَيَّامُ أَقْرَائِهَا عَشْرَةٌ فَانْقَطَعَ الدَّمُ عَنْهَا وَعَلَيْهَا مِنْ الْوَقْتِ شَيْءٌ قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ فَعَلَيْهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا خَصَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ قَوْلَهُمْ جَمِيعًا بِاعْتِبَارِ التَّصْنِيفِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ إنَّمَا يَكُونُ لِإِثْبَاتِ الْمَذْهَبِ أَوْ لِبَيَانِ تَأْثِيرِ الْأَصْلِ وَلَا يَكُونُ لِإِثْبَاتِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ إثْبَاتُ الْأَصْلِ بِالْفَرْعِ وَمَا ذُكِرَ هَهُنَا مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. قَوْلُهُ (وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا) أَيْ وُجُوبُ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْجُزْءِ الْأَدْنَى بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ، كَانَ الْجُزْءُ السَّابِقُ أَوْلَى بِالسَّبَبِيَّةِ أَيْ حَالَ وُجُودِهِ لِعَدَمِ مَا يُزَاحِمُهُ إذْ الْمَعْدُومُ لَا يُعَارِضُ الْمَوْجُودَ. قَوْلُهُ (أَفَادَ الْوُجُوبَ بِنَفْسِهِ) أَيْ أَفَادَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ الْوُجُوبَ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى انْضِمَامِ شَيْءٍ آخَرَ إلَيْهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَوَقَّفَ عَنْ الِاسْتِطَاعَةِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمَّا وُجِدَ فِي حَقِّ الْأَهْلِ وَلَمْ يُوجَدْ مَانِعٌ ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ لَا مَحَالَةَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَاءُ زَائِدَةً وَالضَّمِيرُ رَاجِعًا إلَى الْوُجُوبِ أَيْ أَفَادَ نَفْسَ الْوُجُوبِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَفَادَ الْوُجُوبَ نَفْسَهُ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يُثْبِتَ مَعْنًى فِي الذِّمَّةِ يُفِيدُ صِحَّةَ الْأَدَاءِ وَلَا يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ قَبْلَ الطَّلَبِ، قَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيُسْرِ: نَفْسُ الْوُجُوبُ اشْتِغَالُ الذِّمَّةِ بِالْوَاجِبِ كَالصَّبِيِّ إذَا أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ يَشْتَغِلُ ذِمَّتُهُ بِوُجُوبِ الْقِيمَةِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ بَلْ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّهِ وَكَذَا الْقِصَاصُ يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاءُ الْوَاجِبِ وَهُوَ الْقِصَاصُ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ النَّفْسِ إذَا طُلِبَ مِنْ لَهُ الْقِصَاصُ بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ لِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ، ثُمَّ قَالَ الْوُجُوبُ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ وَالْأَمْرُ الْحُكْمِيُّ يُعْرَفُ بِالْحُكْمِ وَحُكْمُهُ أَنَّهُ إذَا أَدَّى مَا فِي ذِمَّتِهِ يَقَعُ وَاجِبًا. قَوْلُهُ (وَأَفَادَ صِحَّةَ الْأَدَاءِ) ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لَمَّا ثَبَتَ كَانَ جَوَازُ الْأَدَاءِ مِنْ ضَرُورَاتِهِ عَلَى مَا عَلَيْهِ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ فَإِنَّ الْوُجُوبَ يُفِيدُ جَوَازَ الْأَدَاءِ عِنْدَهُمْ، لَكِنَّهُ أَيْ لَكِنَّ السَّبَبَ أَوْ نَفْسَ الْوُجُوبِ لَا يُوجِبُ الْأَدَاءَ لِلْحَالِ، وَقَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى قَوْلِهِ لَا يُوجِبُ الْأَدَاءَ لِلْحَالِ. وَبَيَانُهُ أَنَّ الْوُجُوبَ ثَبَتَ جَبْرًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِلَا اخْتِيَارٍ مِنْ الْعَبْدِ وَالْوُجُوبُ بِلَا اخْتِيَارٍ مِنْهُ فِي مُبَاشَرَةِ سَبَبِهِ لَا يُوجِبُ الْأَدَاءَ لِلْحَالِ كَثَوْبٍ هَبَّتْ بِهِ الرِّيحُ وَأَلْقَتْهُ فِي حِجْرِ إنْسَانٍ دَخَلَ فِي عُهْدَتِهِ حَتَّى صَحَّتْ مُطَالَبَةُ صَاحِبِهِ إيَّاهُ بِهِ وَلَكِنْ لَا يَجِبُ التَّسْلِيمُ قَبْلَ الطَّلَبِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ قَبْلَ الطَّلَبِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ حُصُولَهُ فِي يَدِهِ كَانَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ فَكَذَا هَذَا بِخِلَافِ الْغَصْبِ فَأَنَّهُ مُخْتَارٌ مُتَعَدٍّ فِي مُبَاشَرَةِ سَبَبِ الضَّمَانِ فَيَجِبُ التَّسْلِيمُ قَبْلَ الطَّلَبِ إزَالَةً لِلتَّعَدِّي. ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ دَلِيلًا عَلَى ثُبُوتِ نَفْسِ الْوُجُوبِ بِوُجُودِ نَفْسِ السَّبَبِ، وَقَوْلُهُ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْوُجُوبِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ لَا يُوجِبُ الْأَدَاءَ لِلْحَالِ فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ دَلِيلًا عَلَى الْمَجْمُوعِ. ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْوُجُوبَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى اخْتِيَارِ الْعَبْدِ وَقُدْرَتِهِ

وَلِهَذَا كَانَتْ الِاسْتِطَاعَةُ مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ وَهُوَ كَثَوْبٍ هَبَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي دَارِ إنْسَانٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِالطَّلَبِ وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَمْ يُوجَدْ الْمُطَالَبَةُ بِدَلَالَةِ أَنَّ الشَّرْعَ خَيَّرَهُ فِي وَقْتِ الْأَدَاءِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ إلَّا أَنْ يَسْقُطَ خِيَارُهُ بِضِيقِ الْوَقْتِ. وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا مَاتَ قَبْلَ آخِرِ الْوَقْتِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَهُوَ كَالنَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ إذَا مَرَّ عَلَيْهِمَا جَمِيعُ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَجَبَ الْأَصْلُ وَتَرَاخَى وُجُوبُ الْأَدَاءِ وَالْخِطَابُ فَكَذَلِكَ عَنْ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQتَوَقُّفَ حَقِيقَةِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ بَلْ يَثْبُتُ جَبْرًا عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ بِلَا اخْتِيَارٍ مِنْهُ وَقَدْ وُجِدَ السَّبَبُ هَهُنَا فَيَثْبُتُ الْوُجُوبُ شَاءَ الْعَبْدُ أَوْ أَبَى وَلَكِنْ لَا يَثْبُتُ بِهِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ تَعَجُّلُ الْأَدَاءِ أَيْ تَعْجِيلُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ فَإِنَّهُ يَنْفَكُّ عَنْهُ، كَمَا فِي ثَمَنِ الْبَيْعِ وَمَهْرِ النِّكَاحِ أَيْ الثَّمَنُ وَالْمَهْرُ الثَّابِتُ بِهِمَا، يَجِبَانِ بِالْعَقْدِ أَيْ عَقْدِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ لِامْتِنَاعِ خُلُوِّ الْبَيْعِ عَنْ الثَّمَنِ وَالنِّكَاحِ عَنْ الْمَهْرِ، وَوُجُوبُ الْأَدَاءِ فِيهِمَا يَتَأَخَّرُ إلَى الْمُطَالَبَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْبَيْعُ بِأَجَلٍ يَجِبُ الثَّمَنُ فِي الْحَالِ وَيَتَأَخَّرُ الْمُطَالَبَةُ إلَى حُلُولِ الْأَجَلِ وَكَمَا فِي صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ يَثْبُتُ نَفْسُ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِ وَيَنْعَدِمُ وُجُوبُ الْأَدَاءِ فِي الْحَالِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْوُجُوبِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ لِلْحَالِ بَلْ يَتَأَخَّرُ إلَى وُجُودِ دَلِيلِهِ وَهُوَ الطَّلَبُ وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ خَيَّرَهُ فِي وَقْتِ الْأَدَاءِ أَيْ فَوَّضَ إلَيْهِ تَعَيُّنَ الْجُزْءِ الَّذِي يُؤَدِّي فِيهِ بِالْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا طَالَبَهُ بِالْأَدَاءِ فِي كُلِّ وَقْتٍ لَا فِي جُزْءٍ مُعَيَّنٍ وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ بَقِيَ الْعَبْدُ مُخَيَّرًا فِي الْأَدَاءِ فِي أَيِّ جُزْءٍ شَاءَ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَفُوتَ عَنْ الْوَقْتِ وَلِهَذَا يَتَعَيَّنُ وُجُوبُ الْأَدَاءِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ لِتَحَقُّقِ الْمُطَالَبَةِ فِيهِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْوُجُوبُ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ يَتَأَخَّرُ إلَى الْمُطَالَبَةِ يَعْنِي الْوُجُوبَ يَثْبُتُ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ السَّبَبِ الَّذِي هُوَ عَلَامَةُ إيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا لَا بِالْخِطَابِ بَلْ يَثْبُتُ بِهِ مُطَالَبَةُ الْوَاجِبِ بِالسَّبَبِ. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا كَانَتْ الِاسْتِطَاعَةُ مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ) أَيْ وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ نَفْسَ الْوُجُوبِ يَنْفَصِلُ عَنْ وُجُوبِ الْأَدَاءِ قُلْنَا الِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي هِيَ سَلَامَةُ الْآلَاتِ، مُقَارِنَةٌ لِلْفِعْلِ أَيْ مَشْرُوطَةٌ لِوُجُودِ الْفِعْلِ لَا لِنَفْسِ الْوُجُوبِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْعَاجِزِ كَالنَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ وُجُوبُ الْأَدَاءِ فِي حَقِّهِ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ فَثَبَتَ أَنَّ الْوُجُوبَ يَنْفَكُّ عَنْ وُجُوبِ الْأَدَاءِ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ فِي نُسْخَةٍ لَهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ السَّبَبَ مُوجِبٌ وَهُوَ جَبْرِيٌّ لَا يَعْتَمِدُ الْقُدْرَةَ؛ إذْ هِيَ شَرْطٌ فِي الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ لَا فِي الْجَبْرِيِّ وَلِذَلِكَ لَمْ يَشْتَرِطْ الْقُدْرَةَ سَابِقَةً عَلَى الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ نَفْسُ الْوُجُوبِ وَهُوَ جَبْرٌ وَوُجُوبُ الْأَدَاءِ وَأَنَّهُ لَا يَعْتَمِدُ الْقُدْرَةَ الْحَقِيقِيَّةَ عَلَى مَا عُرِفَ أَمَّا فِعْلُ الْأَدَاءِ فَيَعْتَمِدُ الْقُدْرَةَ فَلِذَلِكَ كَانَتْ الِاسْتِطَاعَةُ مَعَ الْفِعْلِ لَا مَعَ الْخِطَابِ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ وَلِهَذَا كَانَتْ الِاسْتِطَاعَةُ مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ أَيْ لِأَجَلِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ نَفْسَ الْوُجُوبِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى فِعْلِ الْمُكَلَّفِ وَقُدْرَتِهِ كَانَتْ الِاسْتِطَاعَةُ مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ فَكَمَا أَنَّ نَفْسَ الْوُجُوبِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى فِعْلِ الْمُكَلَّفِ وَقُدْرَتِهِ كَذَلِكَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى وُجُودِ الْفِعْلِ وَالْقُدْرَةِ الْحَقِيقِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ الْحَقِيقِيَّةَ مُقَارِنَةٌ لِلْفِعْلِ فَنَفْسُ الْوُجُوبِ يَنْفَصِلُ عَنْ وُجُوبِ الْأَدَاءِ كَذَلِكَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ يَنْفَصِلُ عَنْ وُجُودِ نَفْسِ الْفِعْلِ وَالْقُدْرَةِ الْحَقِيقِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْوُجُودَ مِنْ وُجُوبِ الْأَدَاءِ غَيْرُ مُرَادٍ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ إذْ لَوْ كَانَ مُرَادًا لَوُجِدَ الْإِيمَانُ مِنْ جَمِيعِ الْكَفَرَةِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ تَخَلُّفُ الْمُرَادِ عَنْ إرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ عَجْزٌ وَاضْطِرَارٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُتَعَالٍ عَنْهُ وَالْكُفَّارُ كُلُّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْإِيمَانِ وَلَمْ يُوجَدْ الْإِيمَانُ مِنْهُمْ حَالَ كُفْرِهِمْ وَكَذَلِكَ الْعِبَادَاتُ الْمَفْرُوضَةُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِهَا ثُمَّ قَدْ لَا تُوجَدُ فَثَبَتَ أَنَّ وُجُودَ الْفِعْلِ غَيْرُ مُرَادٍ مِنْ وُجُوبِ الْخِطَابِ، فَحَصَلَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَشْيَاءُ ثَلَاثَةٌ نَفْسُ الْوُجُوبِ وَوُجُوبُ الْأَدَاءِ وَوُجُودُ الْفِعْلِ فَنَفْسُ الْوُجُوبِ بِالسَّبَبِ وَوُجُوبُ الْأَدَاءِ بِالْخِطَابِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQوَوُجُودُ الْفِعْلِ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنَّ عَدَمَ الْفِعْلِ مِنْ الْعَبْدِ بَعْدَ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ لِعَدَمِ إرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً لِلْعَبْدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَيْبٌ عَنْهُ فَكَانَ الْعَبْدُ مُلْزَمًا وَمَحْجُوجًا عَلَيْهِ بَعْدَ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ بِالْخِطَابِ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ سَلَامَةِ الْآلَاتِ وَصِحَّةِ الْأَسْبَابِ وَالتَّكْلِيفُ يَعْتَمِدُ هَذِهِ الْقُدْرَةَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى الْعَادَةَ بِخَلْقِ الْقُدْرَةِ الْحَقِيقِيَّةِ عِنْدَ إرَادَةِ الْعَبْدِ الْفِعْلَ أَوْ مُبَاشَرَتِهِ إيَّاهُ وَوُجُودُ الْفِعْلِ يَفْتَقِرُ إلَى هَذِهِ الْقُدْرَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فَكَانَ قَوْلُهُ وَلِهَذَا كَانَتْ الِاسْتِطَاعَةُ مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْوُجُوبِ تَعَجُّلُ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ مُقَارِنَةٌ لِلْفِعْلِ الَّذِي يُوجَدُ مِنْ الْمُكَلَّفِ فَلَوْ كَانَ نَفْسُ الْوُجُوبِ يُوجِبُ تَعَجُّلَ الْأَدَاءِ كَانَتْ الِاسْتِطَاعَةُ مُقَارِنَةً لِنَفْسِ الْوُجُوبِ كَذَا ذَكَرَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ. ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ حَمَلَ الِاسْتِطَاعَةَ عَلَى حَقِيقَةِ الْقُدْرَةِ لَا عَلَى سَلَامَةِ الْآلَاتِ وَحَمَلَ قَوْلَهُ تَعَجُّلُ الْأَدَاءِ عَلَى حَقِيقَتِهِ يَعْنِي لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْوُجُوبِ أَنْ يُوجَدَ الْفِعْلُ مُقَارِنًا لَهُ وَمُتَّصِلًا بِهِ وَلِهَذَا أَيْ وَلِكَوْنِ الْفِعْلِ غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِالْوُجُوبِ كَانَتْ الِاسْتِطَاعَةُ مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ لَا مُقَارِنَةً لِلْوُجُوبِ وَلَوْ كَانَ تَعَجُّلُ الْأَدَاءِ مِنْ ضَرُورَةِ الْوُجُوبِ لَكَانَتْ مُقَارِنَةً لِلْوُجُوبِ لِاقْتِرَانِ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى الْقُدْرَةِ بِهِ، وَلَكِنْ لَا تَعَلُّقَ لِهَذَا الْوَجْهِ بِالْمَطْلُوبِ وَهُوَ تَأَخُّرُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ عَنْ نَفْسِ الْوُجُوبِ كَمَا تَرَى إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ تَأَخُّرُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ عَنْ نَفْسِ الْوُجُوبِ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّا إنَّمَا أَثْبَتْنَا الِاسْتِطَاعَةَ مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ لَا سَابِقَةً عَلَيْهِ احْتِرَازًا عَنْ تَكْلِيفِ الْعَاجِزِ وَتَحَقُّقُ الْفِعْلِ بِلَا قُدْرَةٍ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْفِعْلِ كَانَتْ عَدَمًا وَقْتَ وُجُودِ الْفِعْلِ لِاسْتِحَالَةِ بَقَاءِ الْأَعْرَاضِ إلَى الزَّمَانِ الثَّانِي فَيَكُونُ الْفِعْلُ وَاقِعًا مِمَّنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ وَلَوْ تُصُوِّرَ الْفِعْلُ بِلَا قُدْرَةٍ لَمْ يَكُنْ لِاشْتِرَاطِهَا فِي التَّكْلِيفِ فَائِدَةٌ وَلَصَحَّ تَكْلِيفُ الْعَاجِزِ وَهُوَ خِلَافُ النَّصِّ وَالْعَقْلِ فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِمُقَارَنَةِ الْقُدْرَةِ مَعَ الْفِعْلِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ تَكْلِيفِ الْعَاجِزِ ثُمَّ لَوْ لَمْ يَتَأَخَّرْ وُجُوبُ الْأَدَاءِ عَنْ نَفْسِ الْوُجُوبِ مَعَ أَنَّ نَفْسَ الْوُجُوبِ قَدْ يَثْبُتُ جَبْرًا بِلَا اخْتِيَارِ الْعَبْدِ أَيْ يَثْبُتُ عِنْدَ الْعَجْزِ وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى اخْتِيَارِ الْفِعْلِ بِدَلِيلِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ لَزِمَ مِنْهُ تَكْلِيفُ الْعَاجِزِ الَّذِي احْتَرَزْنَا عَنْهُ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِطَاعَةِ. وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ وَلَكِنْ لَا يَنْقَادُ لَهُ سَوْقُ الْكَلَامِ إذْ لَيْسَ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِيهِ مَرْجِعٌ لِعَدَمِ تَقَدُّمِ ذِكْرِ تَكْلِيفِ الْعَاجِزِ إلَّا بِإِضْمَارٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْوُجُوبِ تَعَجُّلُ الْأَدَاءِ أَيْ وُجُوبُ الْأَدَاءِ إذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَتِهِ لَزِمَ تَكْلِيفُ الْعَاجِزِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلِهَذَا أَيْ وَلِعَدَمِ جَوَازِ تَكْلِيفِ الْعَاجِزِ كَانَتْ الِاسْتِطَاعَةُ كَذَا، فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَخْلُ عَنْ تَمَحُّلٍ أَيْضًا. قَوْلُهُ (وَهُوَ كَثَوْبٍ) أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحَقُّقِ الْوُجُوبِ وَتَأَخُّرِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ نَظِيرُ ثَوْبٍ هَبَّتْ بِهِ الرِّيحُ أَيْ هَاجَتْ وَثَارَتْ بِهِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا بَعْدَمَا اسْتَوْضَحَ كَلَامَهُ بِنَظَرَيْنِ وَهُمَا الْبَيْعُ وَالنِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَقُ وَأَشْبَهُ بِمَرَامِهِ إذْ لَا اخْتِيَارَ لَهُ فِي مُبَاشَرَةِ هَذَا السَّبَبِ وَتَحَقُّقِ الْوُجُوبِ كَمَا لَا اخْتِيَارَ لَهُ فِي وُجُودِ الْوَقْتِ وَثُبُوتِ الْوُجُوبِ بِهِ فَأَمَّا الْبَيْعُ وَالنِّكَاحُ فَلَهُ فِي مُبَاشَرَتِهِمَا اخْتِيَارٌ تَامٌّ. قَوْلُهُ (وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَمْ يُوجَدْ الْمُطَالَبَةُ) أَيْ عَلَى وَجْهٍ يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْمُطَالَبَةُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ لَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ التَّأْخِيرِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَى آخِرِ الْوَقْتِ وَالتَّأْخِيرُ يُنَافِي الْمُطَالَبَةَ فَإِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ فَقَدْ انْتَهَى التَّخْيِيرُ " فح " يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ لِتَحَقُّقِ الْمُطَالَبَةِ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَا إذَا حَالَ الْحَوْلُ عَلَى النِّصَابِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُطَالَبًا بِالْأَدَاءِ مَعَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيهِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ النِّصَابُ سَقَطَتْ عَنْهُ الزَّكَاةُ فَثَبَتَ أَنَّ التَّخْيِيرَ لَا يُنَافِي الْمُطَالَبَةَ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُطَالَبَةَ عَلَى الْفَوْرِ تَحَقَّقَتْ بَلْ ثَبَتَتْ بِصِفَةِ التَّرَاخِي بِشَرْطِ أَنْ لَا يَفُوتَهُ عَنْ الْعُمُرِ عَلَى مَا عُرِفَ وَفِي آخِرِ أَجْزَاءِ الْعُمُرِ تَعَيَّنَ الْمُطَالَبَةُ كَمَا فِي آخِرِ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ هَهُنَا كَذَا قِيلَ. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قُلْنَا) تَأْثِيرُ الْمَذْهَبِ أَيْ وَلِأَنَّ الْأَدَاءَ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ عِنْدَنَا قُلْنَا إذَا مَاتَ قَبْلَ آخِرِ الْوَقْتِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى انْفِكَاكِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ عَنْ نَفْسِ الْوُجُوبِ بِمَسْأَلَةٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهَا فَقَالَ وَهُوَ أَيْ تَرَاخِي وُجُوبِ الْأَدَاءِ عَنْ الْوُجُوبِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ نَظِيرُ تَرَاخِي وُجُوبِ الْأَدَاءِ عَنْ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ إذَا مَرَّ عَلَيْهِمَا جَمِيعُ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَزْدَدْ الْإِغْمَاءُ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ حَيْثُ ثَبَتَ أَصْلُ الْوُجُوبِ وَلِهَذَا وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِمَا وَتَرَاخِي وُجُوبِ الْأَدَاءِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْخِطَابِ بِزَوَالِ الْفَهْمِ. (فَإِنْ قِيلَ) السَّبَبِيَّةُ تَثْبُتُ بِالْخِطَابِ أَيْضًا فَإِنَّ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ لَمْ يَكُنْ السَّبَبِيَّةُ ثَابِتَةً لِلْوَقْتِ فَلَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهَا فِي حَقِّ مَنْ لَا يُخَاطَبُ. (قُلْنَا) بِالْخِطَابِ عُرِفَ أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْوَقْتَ سَبَبًا فَبَعْدَ ذَلِكَ يُفْتَى بِالْوُجُوبِ فِي حَقِّ كُلِّ أَهْلٍ ثَبَتَ السَّبَبُ فِي حَقِّهِ وَلَا يُشْتَرَطُ خِطَابُ كُلِّ فَرْدٍ لِصَيْرُورَةِ السَّبَبِ فِي حَقِّهِ سَبَبًا؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْوُجُوبِ كَمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِثُبُوتِهِ جَبْرًا فَكَذَا بِسَبَبِ الْوُجُوبِ بَلْ الْحَاجَةُ فِي الْجُمْلَةِ تَقَعُ إلَى جَعْلِ الشَّرْعِ إيَّاهُ سَبَبًا وَلَا يُشْتَرَطُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ بَلْ إذَا عَرَفَ الْفَقِيهُ بِالسَّبَبِيَّةِ يُفْتِي بِالْوُجُوبِ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ ثَبَتَ السَّبَبُ فِي حَقِّهِ عَلِمَ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ عَلَيْهِ وَلَا شَكَّ فِي تَعَلُّقِ الْوُجُوبِ هُنَاكَ بِالسَّبَبِ وَلَمْ يُشْتَرَطْ عِلْمُ كُلِّ شَخْصٍ بِذَلِكَ وَكَذَلِكَ الْإِتْلَافُ جُعِلَ سَبَبًا لِلضَّمَانِ وَالنِّكَاحُ لِلْحِلِّ وَالْبَيْعُ لِلْمِلْكِ وَكُلُّ ذَلِكَ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْخِطَابُ فِي حَقِّهِمْ كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي طَرِيقَتِهِ. (فَإِنْ قِيلَ) كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الِاسْتِدْلَال وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَجِبُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّهُ خَلَفٌ عَنْهُ وَالْخَلَفُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْأَصْلِ وَقَدْ تَمَحَّلْتُمْ فِي إثْبَاتِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ فِي حَقِّ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ فِي الْجُزْءِ الْأَخِيرِ وَنَظَائِرِهِ لَا يُجَابُ الْقَضَاءُ كَمَا مَرَّ الْكَلَامُ مَعَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ وَهَهُنَا وَجَبَ الْقَضَاءُ بِالْإِجْمَاعِ فَمَعَ وُجُوبِهِ تَعَذَّرَ الْقَوْلُ بِانْتِفَاءِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ عَنْهُمَا، يُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَجِبُ إلَّا بِمَا يَجِبُ بِهِ الْأَدَاءُ وَالْأَدَاءُ لَا يَجِبُ إلَّا بِالْخِطَابِ فَوَجَبَ هَهُنَا أَمَّا سُقُوطُ الْقَضَاءِ لِعَدَمِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ أَوْ وُجُوبُ الْأَدَاءِ قَبْلَ الِانْتِبَاهِ وَالْإِفَاقَةِ " وح " لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال. (قُلْنَا) قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ عَلَى نَوْعَيْنِ نَوْعٌ يَكُونُ الْفِعْلُ فِيهِ بِنَفْسِهِ مَطْلُوبًا مِنْ الْمُكَلَّفِ حَتَّى يَأْثَمَ فِيهِ بِتَرْكِ الْفِعْلِ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ اسْتِطَاعَةِ سَلَامَةِ الْآلَاتِ وَنَوْعٌ لَا يَكُونُ فِعْلُ الْأَدَاءِ فِيهِ مَطْلُوبًا حَتَّى لَا يَأْثَمُ فِيهِ بِتَرْكِ الْأَدَاءِ بَلْ الْمَطْلُوبُ ثُبُوتُ خَلَفِهِ وَهُوَ الْقَضَاءُ وَيُكْتَفَى فِيهِ بِتَصَوُّرِ ثُبُوتِ الِاسْتِطَاعَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ حَقِيقَةُ الِاسْتِطَاعَةِ فَفِي مَسْأَلَةِ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ بِمَعْنَى كَوْنِ الْفِعْلِ فِيهِ مَطْلُوبًا عَلَى وَجْهٍ يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ لَمْ يُوجَدْ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ وَهُوَ اسْتِطَاعَةُ سَلَامَةِ الْآلَاتِ فَأَمَّا وُجُوبُ الْأَدَاءِ عَلَى وَجْهٍ يَصْلُحُ وَسِيلَةً إلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ وَلَا يَكُونُ الْفِعْلُ فِيهِ مَقْصُودًا فَمَوْجُودٌ لِوُجُودِ شَرْطِهِ وَهُوَ تَصَوُّرُ حُدُوثِ الِاسْتِطَاعَةِ بِالِانْتِبَاهِ وَالْإِفَاقَةِ فَوَجَبَ

وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوُجُوبَ يَحْصُلُ بِأَوَّلِ الْجُزْءِ خِلَافًا لِبَعْضِ مَشَايِخِنَا وَأَنَّ الْخِطَابَ بِالْأَدَاءِ لَا يَتَعَجَّلُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْقَضَاءُ بِنَاءً عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْوُجُوبِ وَعَدَمُ الْإِثْمِ بِنَاءً عَلَى انْتِفَاءِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ فَهَذَا هُوَ التَّخْرِيجُ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ الْمَبْسُوطِ أَنَّ تَصَوُّرَ الْقُدْرَةِ كَافٍ فِي وُجُوبِ الْأَدَاءِ فِي الْجُمْلَةِ لِيَنْعَقِدَ السَّبَبُ سَبَبًا فِي حَقِّ الْخَلَفِ قَائِمًا مَقَامَ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَصْلُ مُتَصَوَّرًا لَصَارَ الْخَلَفُ فِي حَقِّ كَوْنِهِ حُكْمًا لِلسَّبَبِ أَصْلًا وَهُوَ بَاطِلٌ فَلَا بُدَّ مِنْ احْتِمَالِهِ وَتَصَوُّرِهِ لِيُجْعَلَ فِي الْأَصْلِ كَأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ تَقْدِيرًا وَدَلَالَةً أَنَّ التَّصَوُّرَ كَافٍ لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ أَنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ عَلَى النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ إذَا انْتَبَهَ وَأَفَاقَ وَلَا قُدْرَةَ عَلَى الْأَدَاءِ لَهُمَا حَقِيقَةً وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقَضَاءُ لِمَا قُلْنَا مِنْ الِاحْتِمَالِ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْقَضَاءَ مَبْنِيٌّ عَلَى نَفْسِ الْوُجُوبِ دُونَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ يَعْنِي بِهِ أَنَّ الْوُجُوبَ إذَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُفْضِيًا إلَى وُجُوبِ الْأَدَاءِ أَوْ وُجُوبِ الْقَضَاءِ فَإِنْ أَمْكَنَ إيجَابُ الْأَدَاءِ وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ وَإِلَّا وَجَبَ الْحُكْمُ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ وَلَيْسَ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ ثَابِتًا أَوْ لَا ثُمَّ يَجِبُ الْقَضَاءُ لِفَوَاتِهِ بَلْ الشَّرْطُ أَنْ يَصْلُحَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِإِفْضَائِهِ إلَى وُجُوبِ الْأَدَاءِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَإِذَا امْتَنَعَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ لِمَانِعٍ ظَهَرَ وُجُوبُ الْقَضَاءِ فَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْخَلَفِيَّةِ بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ فَعَلَى هَذَا لَا يُحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ وَهُوَ الْوَقْتُ يَصْلُحُ لِلْإِفْضَاءِ إلَى وُجُوبِ الْأَدَاءِ فِي نَفْسُ الْأَمْرِ كَمَا فِي حَقِّ الْمُسْتَيْقِظِ وَالْمُفِيقِ فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُفْضِيًا إلَى الْقَضَاءِ فَلَا يَرِدُ السُّؤَالُ. قَوْلُهُ (فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوُجُوبَ بِأَوَّلِ الْجُزْءِ) أَيْ بِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ وَاللَّامُ لِتَحْسِينِ الْكَلَامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي أَوْ بَدَلٌ مِنْ الْإِضَافَةِ. قَوْلُهُ (خِلَافًا لِبَعْضِ مَشَايِخِنَا) نَفْيٌ لِقَوْلِ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ مِنْ أَصْحَابِنَا حَيْثُ قَالُوا الْوُجُوبُ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ وَقَوْلُهُ إنَّ الْخِطَابَ بِالْأَدَاءِ لَا يَتَعَجَّلُ نَفْيٌ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ الْوُجُوبَ وَوُجُوبُ الْأَدَاءِ عِبَارَتَانِ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ فَتَبَيَّنَ كُلُّ فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ، أَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فَنَقُولُ الْوَاجِبُ إذَا تَعَلَّقَ بِوَقْتٍ يَفْضُلُ عَنْ أَدَائِهِ يُسَمَّى وَاجِبًا مُوَسَّعًا كَمَا يُسَمَّى ذَلِكَ الْوَقْتُ ظَرْفًا وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَعَامَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَمَعْنَى التَّوَسُّعِ أَنَّ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ وَقْتٌ لِأَدَائِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى سُقُوطِ الْفَرْضِ وَيَجُوزُ لَهُ التَّأْخِيرُ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ إلَى أَنْ يَتَضَيَّقَ بِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ عَنْهُ فَاتَ الْأَدَاءُ " فح " يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّأْخِيرُ. ، وَأَنْكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ التَّوَسُّعَ فِي الْوُجُوبِ وَقَالَ إنَّهُ يُنَافِي الْوُجُوبَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مَا لَا يَسَعُ تَرْكُهُ وَيُعَاقَبُ عَلَيْهِ وَالْقَوْلُ بِالتَّوَسُّعِ فِيهِ يُوجِبُ أَنْ يَجُوزَ تَرْكُهُ وَلَا يُعَاقَبَ عَلَيْهِ وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الْمُتَنَافِيَيْنِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ الْوُجُوبُ يَتَعَلَّقُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ فَإِنْ أَخَّرَهُ فَهُوَ قَضَاءٌ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِهِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ فَإِنْ قَدَّمَهُ فَهُوَ نَفْلٌ يَمْنَعُ لُزُومَ الْفَرْضِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَمَوْقُوفٌ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ حَالِهِ عِنْدَ آخَرِينَ فَإِنْ بَقِيَ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ كَانَ الْمُؤَدَّى وَاجِبًا وَإِنْ لَمْ يَبْقَ كَذَلِكَ كَانَ نَفْلًا، فَمَنْ جَعَلَ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقًا بِأَوَّلِ الْوَقْتِ قَالَ الْوَاجِبُ الْمُوَقَّتُ لَا يَنْتَظِرُ لِوُجُوبِهِ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ شَرَائِطِهِ سِوَى دُخُولِ الْوَقْتِ فَعُلِمَ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ فَكَمَا فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ مَعَ أَسْبَابِهَا وَإِذَا ثَبَتَ الْوُجُوبُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَا بَعْدَهُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ امْتِنَاعِ التَّوَسُّعِ، وَفَائِدَةُ التَّوْقِيتِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQلَوْ أَتَى بِالْفِعْلِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَضَاءً بِخِلَافِ الصَّوْمِ إذَا فَاتَ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِهِ بِأَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ بَعْدَ الصُّبْحِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ الْإِمْسَاكُ فِيمَا بَقِيَ قَضَاءً، وَوَجْهُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْعِرَاقِيُّونَ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ التَّأْخِيرُ إلَى أَنْ يَتَضَيَّقَ الْوَقْتُ وَامْتَنَعَ التَّوَسُّعُ لِمَا ذَكَرْنَا كَانَ الْوُجُوبُ مُتَعَلِّقًا بِآخِرِهِ. ، ثُمَّ الْمُؤَدَّى قَبْلَهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْلًا كَمَا قَالَ الْبَعْضُ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ التَّرْكِ فِي أَوَّلِ وَقْتٍ لَا إلَى بَدَلٍ وَإِثْمٍ وَهَذَا حَدُّ النَّفْلِ إلَّا أَنَّ الْمَطْلُوبَ يَحْصُلُ بِأَدَائِهِ وَهُوَ إظْهَارُ فَضِيلَةِ الْوَقْتِ فَيُمْنَعُ لُزُومُ الْفَرْضِ كَمَنْ تَوَضَّأَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ يَقَعُ نَفْلًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ لِلصَّلَاةِ فَمَا لَمْ يَحْضُرْ وَقْتُهَا لَا يُوصَفُ بِالْوُجُوبِ وَمَعَ هَذَا يُمْنَعُ لُزُومُ الْفَرْضِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا كَالزَّكَاةِ الْمُعَجَّلَةِ قَبْلَ الْحَوْلِ فَإِنَّهُ إذَا عَجَّلَ شَاةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةٍ إلَى السَّاعِي ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ وَفِي يَدِهِ ثَمَانٍ وَثَلَاثُونَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَدْفُوعَ إنْ كَانَ قَائِمًا وَإِنْ كَانَ السَّاعِي تَصَدَّقَ بِهِ كَانَ تَطَوُّعًا وَلَوْ تَمَّ الْحَوْلُ وَفِي يَدِهِ تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ كَانَ الْمُؤَدَّى زَكَاةً وَكَالْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالْوُجُوبِ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِبَاقِي أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ فَإِنْ اتَّصَلَ بِمَجْمُوعِهَا يُوصَفُ بِالْوُجُوبِ وَإِلَّا فَلَا. وَتَمَسَّكَ الْجُمْهُورُ بِالنُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى، {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] ، وَقَوْلَ جَبْرَائِيلُ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - فِي حَدِيثِ الْإِمَامَةِ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ لَك وَلِأُمَّتِك، وَقَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «إنَّ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا وَآخِرًا» ، أَيْ لِوَقْتِهَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَهَا وَقْتُ الْأَدَاءِ الْوَاجِبِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَطْبِيقُ فِعْلِ الصَّلَاةِ عَلَى أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ وَلَا فِعْلُهَا فِي كُلِّ جُزْءٍ بِالْإِجْمَاعِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ صَالِحٌ لِوُقُوعِ الْفِعْلِ فِيهِ وَيَكُونُ الْمُكَلَّفُ مُخَيَّرًا فِي إيقَاعِهِ فِي أَيِّ جُزْءٍ أَرَادَ ضَرُورَةَ امْتِنَاعِ قِسْمٍ آخَرَ فَثَبَتَ أَنَّ التَّوَسُّعَ ثَابِتٌ شَرْعًا، وَلَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ عَقْلًا أَيْضًا كَمَا زَعَمُوا فَإِنَّ السَّيِّدَ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ خُطَّ هَذَا الثَّوْبَ فِي بَيَاضِ النَّهَارِ إمَّا فِي أَوَّلِهِ أَوْ فِي وَسَطِهِ أَوْ فِي آخِرِهِ كَيْفَ مَا أَرَدْت فَمَهْمَا فَعَلْت فَقَدْ امْتَثَلْت إيجَابِي كَانَ صَحِيحًا وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُقَالَ مَا أَوْجَبَ شَيْئًا أَصْلًا أَوْ أَوْجَبَ مُضَيَّقًا وَهُمَا مُحَالَانِ فَلَا يَبْقَى إلَّا أَنْ يُقَالَ أَوْجَبَ مُوَسَّعًا. ، وَكَذَا الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ إنَّمَا يَتَأَدَّى بِنِيَّةِ الظُّهْرِ وَلَا يَتَأَدَّى بِنِيَّةِ النَّفْلِ وَبِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَلَوْ كَانَ نَفْلًا كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ لَتَأَدَّى بِنِيَّةِ النَّفْلِ وَلَوْ كَانَ مَوْقُوفًا كَمَا زَعَمَ الْبَاقُونَ مِنْهُمْ لَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَلَاسْتَوَتْ فِيهِ نِيَّةُ النَّفْلِ وَالْفَرْضِ. وَقَوْلُهُمْ قَدْ وُجِدَ فِي الْمُؤَدَّى فِي أَوَّلِ وَقْتِ حَدِّ النَّفْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا عِقَابَ عَلَى تَرْكِهِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ تَرْكٌ بَلْ هُوَ تَأْخِيرٌ ثَبَتَ بِإِذْنِ الشَّرْعِ وَكَذَا الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ أَدْرَكَ أَوْ أَسْلَمَ أَوْ طَهُرَ فِي وَسَطِ الْوَقْتِ أَوْ فِي آخِرِهِ وَلَوْ كَانَ الْوُجُوبُ مُتَعَلِّقًا بِأَوَّلِ الْوَقْتِ كَمَا قَالَهُ الْبَعْضُ لَمَا وَجَبَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ فَوَاتِ أَوَّلِ الْوَقْتِ فِي حَالِ الصَّبِيِّ وَالْكُفْرِ وَالْحَيْضِ كَمَا لَوْ فَاتَ جَمِيعُ الْوَقْتِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْأَقْسَامَ فِي الْفِعْلِ ثَلَاثَةٌ فِعْلٌ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ مُطْلَقًا وَهُوَ الْوَاجِبُ، وَفِعْلٌ لَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ مُطْلَقًا، وَهُوَ النَّدْبُ وَفِعْلٌ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَجْمُوعِ الْوَقْتِ لَكِنْ لَا يُعَاقَبُ بِالْإِضَافَةِ إلَى بَعْضِ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ وَهَذَا قِسْمٌ ثَالِثٌ فَيَفْتَقِرُ إلَى عِبَارَةٍ ثَالِثَةٍ وَحَقِيقَتُهُ لَا تَعْدُو النَّدْبَ وَالْوُجُوبَ فَأَوْلَى الْأَلْقَابِ بِهِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQالْوَاجِبُ الْمُوَسَّعُ أَوْ النَّدْبُ الَّذِي لَا يَسَعُ تَرْكُهُ وَقَدْ وَجَدْنَا الشَّرْعَ يُسَمِّي هَذَا الْقِسْمَ وَاجِبًا بِدَلِيلِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى نِيَّةِ الْفَرْضِ فِي ابْتِدَاءِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَعَلَى أَنَّهُ يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ ثَوَابَ الْفَرْضِ لَا ثَوَابَ النَّدْبِ فَإِذًا الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ لَا يُنْكِرُهَا الْعَقْلُ وَالنِّزَاعُ يَرْجِعُ إلَى اللَّفْظِ وَاللَّفْظُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى. وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فَنَقُولُ وُجُوبُ الْأَدَاءِ مُنْفَصِلٌ عَنْ نَفْسِ الْوُجُوبِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِي الْمَرْأَةِ إذَا حَاضَتْ فِي آخِرِ الْوَقْتِ لَا يَلْزَمُهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ لَمْ يُوجَدْ وَعِنْدَهُ إنْ أَدْرَكَتْ مِنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ مِقْدَارَ مَا تُصَلِّي فِيهِ ثُمَّ حَاضَتْ يَلْزَمُهَا قَضَاؤُهَا قَوْلًا وَاحِدًا لِتَحَقُّقِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ، وَإِنْ أَدْرَكَتْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَأَصْحَابُهُ مُخْتَلِفُونَ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ اسْتِقْرَارَ الْوُجُوبِ بِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ بَعْدَ وُجُودِ الْوَقْتِ. ، وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الْوَاجِبَ فِي الْبَدَنِيَّاتِ لَيْسَ إلَّا الْفِعْلَ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ اسْمٌ لِحَرَكَاتٍ وَسَكَنَاتٍ مَعْلُومَةٍ وَهِيَ فِعْلٌ وَكَذَا الصَّوْمُ اسْمٌ لِلْإِمْسَاكِ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ وَهُوَ فِعْلٌ وَلَيْسَ مَعْنَى الْأَدَاءِ إلَّا الْفِعْلَ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْأَدَاءِ وَاسِطَةٌ كَانَ وُجُوبُ الصَّلَاةِ وَوُجُوبُ الْأَدَاءِ عِبَارَتَيْنِ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ لُزُومُ إخْرَاجِ ذَلِكَ الْفِعْلِ مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ فَلَا مَعْنًى لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَوُجُوبِ الْأَدَاءِ فِيهَا بِخِلَافِ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قَبْلَ الْأَدَاءِ مَالٌ مَعْلُومٌ فَيُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ بِالْوُجُوبِ قَبْلَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَنَظِيرُهُمَا الشِّرَاءُ مَعَ الِاسْتِئْجَارِ فَإِنَّ بِشِرَاءِ الْعَيْنِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ وَيَتِمُّ السَّبَبُ قَبْلَ فِعْلِ التَّسْلِيمِ وَبِالِاسْتِئْجَارِ لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْمَنْفَعَةِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَبْقَى وَقْتَيْنِ وَلَا يُتَصَوَّرُ تَسْلِيمُهَا بَعْدَ وُجُودِهَا بَلْ يَقْتَرِنُ التَّسْلِيمُ بِالْوُجُودِ فَإِنَّمَا تَصِيرُ مَعْقُودًا عَلَيْهَا مَمْلُوكًا بِالْعَقْدِ عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ فَكَذَلِكَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى يُفْصَلُ بَيْنَ الْمَالِيِّ وَالْبَدَنِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَوَجْهُ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ أَنَّ الْوُجُوبَ حُكْمُ إيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا بِسَبَبِهِ وَالْوَاجِبُ اسْمٌ لِمَا لَزِمَهُ بِالْإِيجَابِ وَالْأَدَاءُ فِعْلُ الْعَبْدِ الَّذِي يُسْقِطُ الْوَاجِبَ عَنْهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا لِيَخِيطَ لَهُ هَذَا الثَّوْبَ قَمِيصًا بِدِرْهَمٍ فَيَلْزَمُ الْخَيَّاطَ فِعْلُ الْخِيَاطَةِ بِالْعَقْدِ وَالْأَدَاءُ الْخِيَاطَةُ نَفْسُهَا وَبِهَا يَقَعُ تَسْلِيمُ مَا لَزِمَهُ بِالْعَقْدِ فَكَانَ الْفِعْلُ الْمُسَمَّى وَاجِبًا فِي الذِّمَّةِ غَيْرَ الْمَوْجُودِ مُؤَدًّى حَالًا بِالْقَمِيصِ، وَاعْتُبِرَ بِالنَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ فَإِنَّ هُنَاكَ أَصْلُ الْوُجُوبِ ثَابِتٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ الْقَضَاءِ بَعْدَ الِانْتِبَاهِ وَالْإِفَاقَةِ، وَوُجُوبُ الْأَدَاءِ غَيْرُ ثَابِتٍ لِزَوَالِ الْخِطَابِ عَنْهُ كَمَا مَرَّ تَحْقِيقُهُ وَهَذَا يَدُلُّك عَلَى الْمُغَايِرَةِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَإِنْ كَانَ التَّمْيِيزُ يَتَعَذَّرُ بَيْنَهُمَا بِالْعِبَارَةِ، وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ ابْتِدَاءُ عِبَادَةٍ يَلْزَمُ بَعْدَ حُدُوثِ الْأَهْلِيَّةِ بِالِانْتِبَاهِ وَالْإِفَاقَةِ بِخِطَابٍ جَدِيدٍ؛ لِأَنَّ شَرَائِطَ الْقَضَاءِ تُرَاعَى فِيهِ كَالنِّيَّةِ وَغَيْرِهَا وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ ابْتِدَاءَ فَرْضٍ لَمَا رُوعِيَتْ فِيهِ شَرَائِطُ الْقَضَاءِ بَلْ كَانَ ذَلِكَ أَدَاءً فِي نَفْسِهِ كَالْمُؤَدَّى فِي الْوَقْتِ لَوْلَا النَّوْمُ وَالْإِغْمَاءُ. وَاَلَّذِي يُحَقِّقُ هَذَا أَنَّ الْوَقْتَ لَوْ مَضَى عَلَى غَيْرِ الْأَهْلِ ثُمَّ حَدَثَتْ الْأَهْلِيَّةُ لَمَا وَجَبَ الْقَضَاءُ بِأَنْ كَانَ كَافِرًا أَوْ صَبِيًّا فِي الْوَقْتِ ثُمَّ حَدَثَتْ الْأَهْلِيَّةُ بِالْإِسْلَامِ وَالْبُلُوغِ وَحَيْثُ وَجَبَ هَا هُنَا وَمَعَ الْوُجُوبِ رُوعِيَتْ شَرَائِطُ الْقَضَاءِ دَلَّ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ وُجُوبُ أَصْلِ الصَّوْمِ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ حَتَّى لَوْ صَامَ الْمُسَافِرُ عَنْ الْوَاجِبِ صَحَّ بِالْإِجْمَاعِ وَوُجُوبُ الْأَدَاءِ مُتَرَاخٍ إلَى حَالِ الْإِقَامَةِ وَالصِّحَّةِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQحَتَّى لَوْ مَاتَ قَبْلَ الْإِقَامَةِ أَوْ الصِّحَّةِ لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، كَذَا فِي طَرِيقَةِ الشَّيْخِ أَبِي الْمُعِينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَسَيَأْتِي بَيَانُ فَسَادِ فَرْقِهِ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ اعْتَرَضَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فَقَالَ مَا ذَكَرْنَا طَرِيقَةُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا وَهِيَ وَاهِيَةٌ بِمَرَّةٍ بَلْ هِيَ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الصَّوْمِ هُوَ عَيْنُ الصَّوْمِ لَا غَيْرُهُ فَإِنَّ الصَّوْمَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَلَا فِعْلَ لَهُ إلَّا الْأَدَاءُ وَهَذَا شَيْءٌ لَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِهِ بِالدَّلِيلِ لِثُبُوتِ صِحَّتِهِ فِي الْبِدَايَةِ، قَالَ ثُمَّ يَقُولُ الصَّوْمُ مَا هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ قَضَاءِ الشَّهْوَتَيْنِ نَهَارًا لِلَّهِ تَعَالَى أَمْ غَيْرُهُ فَإِنْ قَالَ غَيْرُهُ بَانَ بَهْتُهُ وَمُكَابَرَتُهُ لِكُلِّ مُنْصِفٍ وَإِنْ قَالَ هُوَ الْإِمْسَاكُ فَنَقُولُ الْإِمْسَاكُ فِعْلُك أَمْ هُوَ مَعْنًى وَرَاءَ فِعْلِك فَإِنْ قَالَ هُوَ مَعْنًى وَرَاءَ فِعْلِي فَيُقَالُ أَيُوجَدُ بِفِعْلِك أَمْ بِغَيْرِ فِعْلِك؟ فَإِنْ قَالَ يُوجَدُ بِغَيْرِ فِعْلِي فَقَدْ جَعَلَ الصَّوْمَ مِمَّا يُوجَدُ بِلَا فِعْلِ الْعَبْدِ وَاخْتِيَارِهِ وَذَا فَاسِدٌ، وَإِنْ قَالَ يُوجَدُ بِفِعْلِي فَيُقَالُ لَهُ بِأَيِّ فِعْلٍ يُوجَدُ وَمَا ذَلِكَ الْفِعْلُ الَّذِي يُوجَدُ بِهِ الْإِمْسَاكُ الَّذِي هُوَ صَوْمٌ وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى بَيَانِ ذَلِكَ. ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ مَا الْفَرْقُ بَيْنَك وَبَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ الضَّرْبُ لَيْسَ بِفِعْلٍ لِلرَّجُلِ وَلَكِنَّهُ يُوجَدُ بِفِعْلِهِ؟ وَكَذَا الْجُلُوسُ وَالْقِيَامُ وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَفِي ارْتِكَابِ هَذَا خُرُوجٌ عَنْ الْمَعَارِفِ وَجَحْدٌ لِلضَّرُورَاتِ، وَإِنْ قَالَ الْإِمْسَاكُ فِعْلِي فَنَقُولُ إذَا حَصَلَ مِنْك الْإِمْسَاكُ فَقَدْ حَصَلَ مِنْك الْفِعْلُ فَمَا الْأَدَاءُ فِعْلٌ آخَرُ هُوَ، فَإِنْ قَالَ نَعَمْ فَإِذَا صَارَ الصَّائِمُ فَاعِلًا بِفِعْلَيْنِ أَحَدُهُمَا الْإِمْسَاكُ وَالْآخَرُ أَدَاءُ الْإِمْسَاكِ وَكَذَا كُلُّ فَاعِلٍ فَعَلَ فِعْلًا كَالْآكِلِ وَالشَّارِبِ وَالْقَائِمِ وَالْقَاعِدِ كَانَ فَاعِلًا فِعْلَيْنِ أَحَدُهُمَا ذَلِكَ الْفِعْلُ وَالْآخَرُ أَدَاؤُهُ وَهَذِهِ مُكَابَرَةٌ عَظِيمَةٌ. ثُمَّ هَذَا الْكَلَامُ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبٍ لِأَبِي الْهُذَيْلِ الْعَلَّافِ مِنْ شَيَاطِينِ الْقَدَرِيَّةِ وَهُوَ أَنَّ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ وَالْحَجَّ لَيْسَتْ بِحَرَكَاتٍ وَلَا سُكُونٍ وَهِيَ مَعَانٍ تُقَارِنُ الْحَرَكَاتِ وَالسُّكُونَ حَكَى الْمَذْهَبَ عَنْهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْكَعْبِيُّ وَهُوَ مَذْهَبٌ لَمْ يَقْدِرْ أَبُو الْهُذَيْلِ تَصْوِيرَهُ فَضْلًا عَنْ تَحْقِيقِهِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ إنَّ الْكَوْنَ مَعْنًى وَرَاءَ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ وَأَرَادَ تَصْوِيرَهُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، فَكَذَا مَا نَحْنُ فِيهِ مَكَانَ الْقَوْلِ بِجَعْلِ أَصْلِ الْوُجُوبِ غَيْرَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ مَبْنِيًّا عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ فَإِنَّ الْأَدَاءَ هُوَ حَرَكَاتٌ وَسَكَنَاتٌ وَالصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ وَالْحَجُّ مَعَانٍ وَرَاءَهَا فَيَجِبُ تِلْكَ الْمَعَانِي وَتَشْتَغِلُ الذِّمَّةُ بِهَا ثُمَّ تَحْصُلُ عِنْدَ وُجُودِ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ أَوْ بِهَا فَكَانَ التَّحَرُّكُ وَالسُّكُونُ مِنْ الْعَبْدِ أَدَاءً لَهَا وَتَحْصِيلًا لَهَا فَتَحْصُلُ هِيَ بِهَا أَوْ مَعَهَا ثُمَّ مَعَ هَذَا هَذِهِ الْعِبَادَاتُ عِنْدَهُ أَفْعَالٌ لِلْعَبْدِ فَكَذَا عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ هَذِهِ الْعِبَادَاتُ أَفْعَالٌ لِلْعَبْدِ وَهِيَ مَعَانٍ وَرَاءَ الْأَدَاءِ الَّذِي هُوَ مِنْ جِنْسِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ فَيَجِبُ بِالْأَسْبَابِ ثُمَّ بِالْأَمْرِ يَجِبُ الْحَرَكَاتُ وَالسُّكُونُ الَّتِي بِهَا أَوْ مَعَهَا تَحْصُلُ هَذِهِ الْعِبَادَاتُ الْوَاجِبَةُ فَكَانَتْ الْحَرَكَاتُ وَالسُّكُونُ الَّتِي هِيَ أَغْيَارُهَا وَهِيَ مِنْ قَرَائِنِهَا أَدَاءً لَهَا لِحُصُولِهَا بِحُصُولِ الْحَرَكَاتِ وَالسُّكُونِ. فَأَمَّا مَنْ يَقُولُ إنَّ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ هِيَ هَذِهِ الْحَرَكَاتُ وَالسُّكُونُ وَهِيَ بِنَفْسِهَا أَدَاءٌ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَجْعَلَ أَصْلَ الْوُجُوبِ غَيْرَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِوُجُوبِ الْأَصْلِ وُجُوبُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَهِيَ بِأَنْفُسِهَا أَدَاءٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ لَا يَكُونَ الْأَدَاءُ وَاجِبًا؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِعَدَمِ وُجُوبِ فِعْلٍ مَا مَعَ وُجُوبِهِ مُنَاقَضَةٌ ظَاهِرَةٌ وَذَا لَا يَقُولُهُ مَنْ لَهُ لُبٌّ، قَالَ وَقَوْلُهُمْ إنَّ مَنْ اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا لِيَخِيطَ لَهُ هَذَا الثَّوْبَ إلَى آخِرِهِ كَلَامٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُنَاكَ مَا يَحِلُّ بِالثَّوْبِ مِنْ آثَارِ الْخِيَاطَةِ الَّتِي هِيَ فِعْلُهُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQوَهُوَ مَا يَحْصُلُ فِي الثَّوْبِ مِنْ التَّرَكُّبِ عَلَى صُوَرٍ مَخْصُوصَةٍ فَأَمَّا الْفِعْلُ فَلَيْسَ بِمَعْقُودٍ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ ذَرِيعَةٌ يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَيُمْكِنُ بِهَا التَّسْلِيمُ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْوَاجِبُ بِالْعَقْدِ وَتَسْلِيمُهُ غَيْرُهُ، فَإِنَّ التَّسْلِيمَ وَهُوَ الْفِعْلُ قَائِمٌ بِالْخَيَّاطِ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَا يَصِيرُ مُسَلَّمًا بِفِعْلِهِ فِي الثَّوْبِ وَهُوَ حُصُولُ صِفَةِ التَّرَكُّبِ عَلَى هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا يَحْصُلُ بِالْفِعْلِ هُوَ غَيْرُ الْفِعْلِ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْخِيَاطَةَ فِعْلُ الْخَيَّاطِ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَهُوَ التَّرَكُّبُ الْحَاصِلُ فِي الثَّوْبِ لَيْسَ بِفِعْلٍ لَهُ حَقِيقَةً لِاسْتِحَالَةِ فِعْلِ الْعَبْدِ فِيمَا وَرَاءَ حَيِّزِهِ بَلْ هُوَ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنَّهُ يُضَافُ إلَى الْعَبْدِ حُكْمًا لِإِجْرَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْعَادَةَ بِتَخْلِيقِهِ تِلْكَ الصِّفَةَ فِي الثَّوْبِ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ الْخِيَاطَةِ. فَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَبِخِلَافِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ أَدَاءَ الصَّوْمِ لَيْسَ بِغَيْرٍ لِلصَّوْمِ وَالصَّوْمُ فِعْلُ الْعَبْدِ وَالْعَبْدُ هُوَ الصَّائِمُ كَمَا أَنَّهُ هُوَ الْمُؤَدِّي فَأَمَّا التَّرَكُّبُ الْحَاصِلُ فِي الثَّوْبِ فَلَيْسَ بِفِعْلٍ لَهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُتَرَكِّبٍ بَلْ الْمُتَرَكِّبُ هُوَ الثَّوْبُ وَلَوْ كَانَتْ صِفَةُ التَّرَكُّبِ فِعْلًا لَهُ لَكَانَ هُوَ الْمُتَرَكِّبَ فَدَلَّ أَنَّ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ تَفَاوُتًا عَظِيمًا، عَلَى أَنَّ مِنْ سَاعِدِهِ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْخِيَاطَةُ يَقُولُ هِيَ الْوَاجِبَةُ بِنَفْسِهَا وَأَدَاؤُهَا نَفْسُهَا لَا غَيْرُهَا وَوُجُوبُهَا بِالْعَقْدِ وُجُوبُ أَدَائِهَا لَا غَيْرُ بِدَلَالَةِ مَا بَيَّنَّا أَنَّ أَدَاءَ الْفِعْلِ نَفْسُهُ لَا غَيْرُ. وَقَوْلُهُمْ إنَّ فِي حَقِّ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ أَصْلُ الْوُجُوبِ ثَابِتٌ وَوُجُوبُ الْأَدَاءِ مُنْتَفٍ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَدَاءَ هُوَ نَفْسُ الصَّوْمِ أَوْ الصَّلَاةِ وَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ الشَّيْءِ مَعَ انْتِفَاءِ وُجُوبِهِ مُحَالٌ فَإِذًا لَا نُسَلِّمُ وُجُوبَ أَصْلِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ بَلْ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ عِنْدَ زَوَالِ الْإِغْمَاءِ بِخِطَابٍ مُبْتَدَأٍ، مِنْ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: 184] ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ مَرِيضٌ، وَمِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا» ، وَالْإِغْمَاءُ مِثْلُ النَّوْمِ. ، قَوْلُهُمْ هَذَا يُسَمَّى قَضَاءً وَلَوْ كَانَ ابْتِدَاءَ فَرْضٍ لَزِمَهُ لَكَانَ أَدَاءً قُلْنَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ بَلْ هُمَا لَفْظَانِ مُتَوَالِيَانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ يُقَالُ قَضَيْت الدَّيْنَ وَأَدَّيْته وَقَضَيْت الصَّلَاةَ وَأَدَّيْتهَا عَلَى أَنَّ الْمُغَايِرَةَ بَيْنَهُمَا تَثْبُتُ بِاصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ دُونَ اقْتِضَاءِ اللُّغَةِ، قَوْلُهُمْ يُرَاعَى فِيهِ شَرَائِطُ الْقَضَاءِ قُلْنَا عِنْدَ الْخَصْمِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ فِي حَقِّ النِّيَّةِ لَا فِي الصَّوْمِ وَلَا فِي الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَنْوِيَ صَوْمًا وَجَبَ عَلَيْهِ عِنْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ وَلَوْلَا الْعُذْرُ وَجَبَ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لَهُ شَرْعًا وَبِهَذَا لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الصَّوْمَ أَوْ الصَّلَاةَ كَانَا يَجِبَانِ فِي حَالَةٍ سَقَطَ عَنْ الْإِنْسَانِ أَدَاؤُهُمَا. وَقَوْلُهُمْ لَوْ مَضَى الْوَقْتُ عَلَى غَيْرِ الْأَهْلِ ثُمَّ حَدَثَتْ الْأَهْلِيَّةُ لَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ إلَى آخِرِهِ فَاسِدٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّا بَيَّنَّا بِالدَّلِيلِ أَنَّ هَذَا مُحَالٌ وَالِاشْتِغَالُ بِإِثْبَاتِ الْمُسْتَحِيلِ بِمَا يَتَحَايَلُ أَنَّهُ دَلِيلٌ ضَرْبٌ مِنْ السَّفَهِ، عَلَى أَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ عَلَى مَنْ مَضَى عَلَيْهِ الْوَقْتُ وَهُوَ مُغْمًى عَلَيْهِ أَوْ نَائِمٌ بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ مَا كَانَ يُوجِبُهُ فِي الْوَقْتِ لَوْلَا الْعُذْرُ وَفِي بَابِ الصِّبَا وَالْكُفْرِ مَا فَعَلَ هَكَذَا وَالْأَمْرُ لِصَاحِبِ الشَّرْعِ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيْحُكُمْ مَا يُرِيدُ. قَالَ وَلَا نَقُولُ يَتَحَقَّقُ وُجُوبُ أَصْلِ الصَّوْمِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ وَتَأَخُّرُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مُحَالٌ بَلْ نَقُولُ إنَّ هُنَاكَ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الصَّوْمَ عَلَى الْعَبْدِ مُعَلَّقًا بِاخْتِيَارِهِ الْوَقْتَ تَخْفِيفًا مِنْهُ عَلَى عِبَادِهِ وَمَرْحَمَةً عَلَيْهِمْ فَإِنَّ اخْتِيَارَ الْأَدَاءِ فِي الشَّهْرِ كَانَ الصَّوْمُ وَاجِبًا فِيهِ وَإِنْ أَخَّرَ إلَى حَالَتَيْ الصِّحَّةِ وَالْإِقَامَةِ لَمْ يَكُنْ الصَّوْمُ وَاجِبًا عَلَيْهِ بَلْ كَانَ وَاجِبًا بَعْدَ الصِّحَّةِ وَالْإِقَامَةِ حَتَّى

ثُمَّ إذَا انْقَضَى الْجُزْءُ الْأَوَّلُ فَلَمْ يُؤَدَّ انْتَقَلَتْ السَّبَبِيَّةُ إلَى الْجُزْءِ الثَّانِي ثُمَّ كَذَلِكَ يَنْتَقِلُ لِمَا قُلْنَا مِنْ ضَرُورَةِ تَقَدُّمِ السَّبَبِ عَلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ وَكَانَ مَا يَلِي الْأَدَاءَ بِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ نَقْلُ السَّبَبِيَّةِ عَنْ الْجُمْلَةِ إلَى الْأَقَلِّ لَمْ يَجُزْ تَقْرِيرُهُ عَلَى مَا يَسْبِقُ قُبَيْلَ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى التَّخَطِّي عَنْ الْقَلِيلِ بِلَا دَلِيلٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُدْرِكْ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ بِأَنْ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ أَوْ فِي سَفَرِهِ يَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَوْ أَدْرَكَ بَعْضَ الْأَيَّامِ دُونَ الْبَعْضِ وَجَبَ عَلَيْهِ بِقَدْرِ مَا أَدْرَكَ فَأَمَّا أَنْ يَقُولَ بِوُجُوبِ الْأَصْلِ دُونَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ فَكُلًّا، وَهَذَا كُلُّهُ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيَّةِ فَإِنَّ هُنَاكَ الْوَاجِبُ هُوَ الْمَالُ وَالْأَدَاءُ فِعْلٌ فِي ذَلِكَ فَيَجِبُ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْأَسْبَابِ الْأَمْوَالُ فِي ذِمَمِ الصِّبْيَانِ وَجَعَلَ ذَلِكَ شَرْعًا كَمَا لَوْ وُضِعَ عِنْدَ الصَّبِيِّ مَالٌ مُعَيَّنٌ فَيَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ أَدَاءُ مَا وُضِعَ فِي ذِمَّةِ الصَّبِيِّ مِنْ الْمَالِ وَتَفْرِيغُهَا عَنْهُ كَمَا لَوْ وُضِعَ فِي بَيْتِ الصَّبِيِّ مَالٌ وَهَذَا لَا يُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ فِي الْأَفْعَالِ، هَذَا كَلَامُهُ أَوْرَدْته بِلَفْظِهِ وَحَاصِلُهُ مَنْعُ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَوُجُوبِ الْأَدَاءِ وَدَعْوَى اسْتِحَالَتِهَا فِي الْوَاجِبِ الْبَدَنِيِّ. ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ عَلَى مَا زَعَمَ فَإِنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الصَّوْمَ أَوْ الصَّلَاةَ هُوَ الْفِعْلُ وَأَدَاءَ الصَّوْمِ هُوَ الْفِعْلُ أَيْضًا لَكِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمَا وَاحِدٌ. وَبَيَانُهُ أَنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ الْأَجْسَامِ وَالْأَعْرَاضِ وُجُودًا فِي الذِّهْنِ وَيُدْرَكُ ذَلِكَ بِالْعَقْلِ وَيُسَمَّى مَاهِيَّةً وَوُجُودًا فِي الْخَارِجِ وَيُدْرَكُ ذَلِكَ بِالْحِسِّ فَنَفْسُ الْوُجُوبِ عِبَارَةٌ عَنْ اشْتِغَالِ الذِّمَّةِ بِوُجُوبِ الْفِعْلِ الذِّهْنِيِّ وَوُجُوبُ الْأَدَاءِ عِبَارَةٌ عَنْ وُجُوبِ إخْرَاجِ ذَلِكَ الْفِعْلِ مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ وَلَا شَكَّ أَنَّ إخْرَاجَهُ مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ غَيْرُ ذَلِكَ التَّصَوُّرِ الْمَوْجُودِ فِي الذِّهْنِ وَإِنْ كَانَ مُطَابِقًا لَهُ وَلِهَذَا لَا يَتَبَدَّلُ ذَلِكَ التَّصَوُّرُ بِتَبَدُّلِ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ بِالْعَدَمِ بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ. وَالْبَدَنِيُّ كَالْمَالِيِّ بِلَا فَرْقٍ فَإِنَّ أَصْلَ الْوُجُوبِ فِي الْمَالِ عِبَارَةٌ عَنْ لُزُومِ مَالٍ مُتَصَوَّرٍ فِي الذِّمَّةِ، وَلُزُومُ الْأَدَاءِ عِبَارَةٌ عَنْ إخْرَاجِهِ مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ ذَلِكَ أُقِيمَ مَالٌ آخَرُ مِنْ جِنْسِهِ مَقَامَ ذَلِكَ الْمَالِ الْوَاجِبِ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْأَدَاءِ وَالْخُرُوجِ عَنْ الْعُهْدَةِ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ ذَلِكَ الْمَالُ الْوَاجِبُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ الدُّيُونُ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا لَا بِأَعْيَانِهَا فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُغَايَرَةَ بَيْنَهُمَا ثَابِتَةٌ مِنْ غَيْرِ اسْتِحَالَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ (ثُمَّ إذَا انْقَضَى الْجُزْءُ الْأَوَّلُ فَلَمْ يُؤَدَّ) أَيْ لَمْ يُشْرَعْ فِي الْأَدَاءِ، انْتَقَلَتْ السَّبَبِيَّةُ إلَى الْجُزْءِ الثَّانِي، ثُمَّ كَذَلِكَ تَنْتَقِلُ أَيْ مَا انْتَقَلَ مِنْ السَّبَبِيَّةِ إلَى الثَّانِي يَنْتَقِلُ إلَى آخِرِ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ جُزْءًا فَجُزْءًا مِثْلُ انْتِقَالِهَا إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ الْوَقْتِ لَيْسَ بِسَبَبٍ بَلْ السَّبَبُ جُزْءٌ مِنْهُ وَالْبَاقِي ظَرْفٌ وَشَرْطٌ كَانَ الْجُزْءُ الْقَائِمُ أَوْلَى بِالسَّبَبِيَّةِ مِنْ الْجُزْءِ الْفَائِتِ فَيُجْعَلُ الْقَائِمُ خَلَفًا عَنْ الْفَائِتِ فِي كَوْنِهِ سَبَبًا إلَى أَنْ يَبْلُغَ آخِرَ الْوَقْتِ فَيَصِيرَ ذَلِكَ الْجُزْءُ هُوَ السَّبَبَ عَيْنًا لَكِنْ عَلَى تَقْدِيرِ الشَّرْعِ فِيهِ فَإِذَا لَمْ يَشْرَعْ فِيهِ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ فَالْوُجُوبُ يُضَافُ إلَى كُلِّ الْوَقْتِ كَذَا فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ لِلْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَا يُقَالُ لَا ضَرُورَةَ فِي نَقْلِ السَّبَبِيَّةِ وَجَعْلِ الْقَائِمِ خَلَفًا عَنْ الْفَائِتِ إذْ الْفَوَاتُ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَقَرُّرِ السَّبَبِيَّةِ كَمَا إذَا فَاتَ الْوَقْتُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ تَغَيُّرُ الْأَحْكَامِ فِي السَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ وَالْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَنَحْوِهَا بَعْدَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ فَأَنَّ السَّبَبِيَّةَ لَوْ تَقَرَّرَتْ عَلَيْهِ لَمَا تَغَيَّرَتْ الْأَحْكَامُ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ بَعْدَ انْقِضَائِهِ كَمَا لَا يَتَغَيَّرُ بِهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْوَقْتِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَمْنَعْ تَقَرُّرُ السَّبَبِيَّةِ فَوَاتَ الْوَقْتِ لِعَدَمِ مَا يُعَارِضُهُ بَعْدَهُ وَأَمَّا هَهُنَا فَالْجُزْءُ الثَّانِي يُعَارِضُ الْأَوَّلَ وَهُوَ مَوْجُودٌ بَعْدَ فَوَاتِ الْأَوَّلِ فَكَانَ أَوْلَى بِالسَّبَبِيَّةِ. قَوْلُهُ (لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ ضَرُورَةِ تَقَدُّمِ السَّبَبِ عَلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ) يَعْنِي كَمَا أَنَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQضَرُورَةَ كَوْنِ السَّبَبِ مُتَقَدِّمًا عَلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ أَيْ عَلَى الزَّمَانِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الْأَدَاءُ أَوْجَبَتْ انْتِقَالَ السَّبَبِيَّةِ مِنْ الْكُلِّ إلَى الْجُزْءِ فَكَذَلِكَ تُوجِبُ انْتِقَالَهَا إلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ إنَّمَا يَكُونُ مُتَقَدِّمًا بِصِفَةِ الِاتِّصَالِ بِالْمُسَبِّبِ لَا بِصِفَةِ الِانْفِصَالِ إذْ الِانْفِصَالُ بِعَارِضٍ وَصِفَةُ الِاتِّصَالِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالِانْتِقَالِ إلَى مَا بَعْدَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ فَكَانَ هَذَا الِانْتِقَالُ مِنْ ضَرُورَاتِ التَّقَدُّمِ أَيْضًا كَالِانْتِقَالِ الْأَوَّلِ. قَوْلُهُ (وَكَانَ مَا يَلِي الْأَدَاءَ بِهِ أَوْلَى) كَأَنَّهُ جَوَابُ سُؤَالٍ يَرِدُ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَا نُسَلِّمُ تَحَقُّقَ الضَّرُورَةِ فِي الِانْتِقَالِ إلَى مَا بَعْدَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ عَلَى الْأَدَاءِ مِنْ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ سَبَبًا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ وَهُوَ تَقَدُّمُ السَّبَبِ مَعَ صِفَةِ الِاتِّصَالِ بِالْمُسَبَّبِ فَقَالَ مَا يَلِي الْأَدَاءَ بِهِ أَوْلَى أَيْ الْجُزْءُ الْمُتَّصِلُ بِالْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ أَوْلَى بِالسَّبَبِيَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ نَقْلُ السَّبَبِيَّةِ عَنْ كُلِّ الْوَقْتِ إلَى الْجُزْءِ الْأَدْنَى لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ، لَمْ يَجُزْ تَقْدِيرُهُ أَيْ لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ لِجَمِيعِ الْأَجْزَاءِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى التَّخَطِّي أَيْ التَّجَاوُزِ، عَنْ الْقَلِيلِ وَهُوَ الْجُزْءُ الْمُتَّصِلُ بِالْأَدَاءِ بِلَا دَلِيلٍ، يُوجِبُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ إنَّمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ سَبَبٌ أَوْ الْجُزْءَ الْأَدْنَى سَبَبٌ فَإِثْبَاتُ السَّبَبِيَّةِ لِمَا وَرَاءَ الْكُلِّ وَالْأَدْنَى يَكُونُ إثْبَاتًا بِلَا دَلِيلٍ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ الضَّرُورَةُ فِي الِانْتِقَالِ إلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ بَاقِيَةً. (فَإِنْ قِيلَ لَا ضَرُورَةَ فِي الِانْتِقَالِ إلَى مَا بَعْدَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ السَّبَبِ الْوُجُوبُ فِي الذِّمَّةِ لَا حَقِيقَةُ الْأَدَاءِ وَقَدْ ثَبَتَ الْوُجُوبُ بِالْجُزْءِ الْأَوَّلِ) مُتَّصِلًا بِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى انْتِقَالِ السَّبَبِيَّةِ عَنْهُ. (قُلْنَا) الْأَمْرُ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْأَدَاءَ لَمَّا كَانَ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ السَّبَبِ؛ لِأَنَّهُ أَدَاءُ ذَلِكَ الْوَاجِبِ كَانَ مِنْ نَتِيجَةِ ذَلِكَ السَّبَبِ أَيْضًا فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِهِ وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْبَيْعِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ الْبَيْعَ بَاقٍ حُكْمًا إلَى زَمَانِ الْأَدَاءِ شَرْعًا إذْ الْعُقُودُ الشَّرْعِيَّةُ مَوْصُوفَةٌ بِالْبَقَاءِ عَلَى مَا عُرِفَ فَيَثْبُتُ الِاتِّصَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَدَاءِ الَّذِي هُوَ حُكْمُهُ، فَأَمَّا الْجُزْءُ الْأَوَّلُ هَهُنَا فَقَدْ انْقَضَى حَقِيقَةً وَكَذَا حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِي إبْقَائِهِ حُكْمًا؛ لِأَنَّ أَمْثَالَهُ الَّتِي تَصْلُحُ لِلسَّبَبِيَّةِ تُوجَدُ بَعْدَهُ فَلَا يَثْبُتُ الِاتِّصَالُ فَلِهَذَا دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى الِانْتِقَالِ، وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ وَكَانَ مَا يَلِي الْأَدَاءَ بِهِ أَوْلَى أَنَّ الْجُزْءَ الْمُتَّصِلَ بِالْأَدَاءِ أَوْلَى بِالسَّبَبِيَّةِ مِنْ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الْمُتَّصِلَ بِالْأَدَاءِ لَمَّا صَلَحَ لِلسَّبَبِيَّةِ لَا يَجُوزُ إلْغَاؤُهُ وَجَعْلُ مَا قَبْلَهُ سَبَبًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى التَّخَطِّي عَنْ الْقَلِيلِ وَهُوَ الْجُزْءُ الْمُتَّصِلُ بِلَا دَلِيلٍ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ كَمَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الصَّلَاةِ فَانْصَرَفَ وَاسْتَقْبَلَهُ نَهْرٌ وَوَرَاءَهُ نَهْرٌ آخَرُ فَتَرَكَ الْأَقْرَبَ وَمَشْي إلَى أَبْعَدَ لَا يَجُوزُ وَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يَعْنِيهِ فَكَذَلِكَ هَذَا. (قُلْت هَذَا مَعْنًى حَسَنٌ وَيُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ) وَلَمْ يَجُزْ تَقْرِيرُهُ عَلَى مَا سَبَقَ وَلَكِنَّ قَوْلَهُ يُؤَدِّي إلَى التَّخَطِّي عَنْ الْقَلِيلِ لَا يَنْقَادُ لَهُ وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى مَا ذَكَرَ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ يُؤَدِّي إلَى التَّخَطِّي عَنْ الْقَرِيبِ إلَى الْبَعِيدِ بِلَا دَلِيلٍ، وَقَوْلُهُ بِلَا دَلِيلٍ احْتِرَازٌ عَنْ انْتِقَالِ السَّبَبِيَّةِ عَنْ الْجُزْءِ الْأَخِيرِ إلَى الْكُلِّ إنْ لَمْ يُوجَدْ الْأَدَاءُ فِي الْوَقْتِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ تَخَطِّيًا عَنْ الْقَلِيلِ إلَى الْكَثِيرِ وَلَكِنَّهُ بِالدَّلِيلِ. وَحَاصِلُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ السَّبَبِيَّةَ لَوْ لَمْ تَنْتَقِلْ عَنْ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ فَإِمَّا أَنْ تُضَمَّ إلَيْهِ الْأَجْزَاءُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَى الْأَدَاءِ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ تُضَمَّ إلَيْهِ يَلْزَمُ تَرْجِيحُ الْمَعْدُومِ عَلَى الْمَوْجُودِ مَعَ صَلَاحِيَةِ الْمَوْجُودِ لِلسَّبَبِيَّةِ وَاتِّصَالِ الْمَقْصُودِ

وَإِذَا انْتَهَى إلَى آخِرِ الْوَقْتِ حَتَّى تَعَيَّنَ الْأَدَاءُ لَازِمًا اسْتَقَرَّتْ السَّبَبِيَّةُ لِمَا يَلِي الشُّرُوعَ فِي الْأَدَاءِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْجُزْءُ صَحِيحًا كَمَا فِي الْفَجْرِ وَجَبَ كَامِلًا فَإِذَا اعْتَرَضَ الْفَسَادُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ بَطَلَ الْفَرْضُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْجُزْءُ فَاسِدًا اُنْتُقِصَ الْوَاجِبُ كَالْعَصْرِ يُسْتَأْنَفُ فِي وَقْتِ الِاحْمِرَارِ فَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَهُوَ فِيهَا لَمْ يَتَغَيَّرْ فَلَمْ وَلَا يَلْزَمُ إذَا ابْتَدَأَ الْعَصْرَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ثُمَّ مَدَّهُ إلَى أَنْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْهَا فَإِنَّهُ نَصُّ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ وَقَدْ كَانَ الْوُجُوبُ مُضَافًا إلَى سَبَبٍ صَحِيحٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِهِ وَأَنَّهُ فَاسِدٌ وَإِنْ ضُمَّتْ إلَيْهِ يَلْزَمُ التَّخَطِّي عَنْ الْقَلِيلِ بِلَا دَلِيلٍ وَهُوَ فَاسِدٌ أَيْضًا فَتَعَيَّنَ الِانْتِقَالُ، وَقَدْ اسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ أَيْضًا فَإِنَّ الْأَهْلِيَّةَ لَوْ حَدَثَتْ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ بِأَنْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ أَوْ طَهُرَتْ الْحَائِضُ أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ لَزِمَتْ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ بِالْإِجْمَاعِ فَلَوْ اسْتَقَرَّتْ السَّبَبِيَّةُ عَلَى الْجُزْءِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَنْتَقِلْ جُزْءًا فَجُزْءًا لَمَا وَجَبَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ كَمَا لَوْ حَدَثَتْ الْأَهْلِيَّةُ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَكَذَلِكَ أَدَاءُ الْعَصْرِ وَقْتَ الِاحْمِرَارِ جَائِزٌ نَصًّا وَإِجْمَاعًا وَلَوْلَا الِانْتِقَالُ لَمْ يَجُزْ كَمَا إذَا قَضَى عَصْرَ الْأَمْسِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَهَذِهِ الضَّرُورَةُ دَعَتْهُمْ إلَى الْقَوْلِ بِالِانْتِقَالِ. وَقَوْلُهُ (وَإِذَا انْتَهَى إلَى آخِرِ الْوَقْتِ) اعْلَمْ أَنَّ خِيَارَ تَأْخِيرِ الْأَدَاءِ يَثْبُتُ إلَى أَنْ يَتَضَيَّقَ الْوَقْتُ بِحَيْثُ لَا يَسَعُ فِيهِ إلَّا فَرْضَ الْوَقْتِ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى لَوْ أَخَّرَ عَنْهُ يَأْثَمُ فَأَمَّا انْتِقَالُ السَّبَبِيَّةِ فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ إلَى تَضَيُّقِ الْوَقْتِ أَيْضًا عِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى ثُبُوتِ الْخِيَارِ عِنْدَهُ وَلَمْ يَبْقَ ذَلِكَ وَعِنْدَنَا الِانْتِقَالُ ثَابِتٌ إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ صَالِحٌ لِلسَّبَبِيَّةِ وَأَنَّ الْمَعْدُومَ لَا يُعَارِضُ الْمَوْجُودَ وَإِنَّمَا لَا يَسَعُهُ التَّأْخِيرُ لِكَيْ لَا يَفُوتَ شَرْطُ الْأَدَاءِ وَهُوَ الْوَقْتُ. وَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ آخِرَ الْوَقْتِ فِي قَوْلِهِ وَإِذَا انْتَهَى أَيْ الِانْتِقَالُ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ إنْ حُمِلَ عَلَى وَقْتِ التَّضْيِيقِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ حَتَّى تَعَيَّنَ الْأَدَاءُ لَازِمًا كَانَ مُوَافِقًا لِمَذْهَبِ زُفَرَ؛ لِأَنَّ اسْتِقْرَارَ السَّبَبِيَّةِ عِنْدَ التَّضْيِيقِ مَذْهَبُهُ وَإِنْ حُمِلَ عَلَى الْجُزْءِ الْأَخِيرِ كَمَا هُوَ حَقِيقَتُهُ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ حَتَّى تَعَيَّنَ الْأَدَاءُ لَازِمًا فَائِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ قَبْلَ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنْ اسْتِقْرَارِ السَّبَبِيَّةِ اسْتِقْرَارُهَا فِي حَقِّ وُجُوبِ الْأَدَاءِ لَا فِي عَدَمِ جَوَازِ الِانْتِقَالِ وَهُوَ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ سَوْقَ الْكَلَامِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. ، أَوْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنْ تَعَيُّنِ الْأَدَاءِ تَقَرُّرُ الْوَاجِبِ يَعْنِي وَإِذَا انْتَهَى الِانْتِقَالُ إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ حَتَّى تَقَرَّرَ الْوَاجِبُ بِحَيْثُ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ اسْتَقَرَّتْ السَّبَبِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ الْجُزْءِ إنْ اتَّصَلَ الشُّرُوعُ بِهِ وَلَا يُنْتَقَلُ إلَى غَيْرِهِ إذْ لَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ شَيْءٌ يَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ إلَيْهِ وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ حَالُ الْمُكَلَّفِ عِنْدَ ذَلِكَ الْجُزْءِ فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالصِّبَا وَالْبُلُوغِ وَالْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ عَلَى مَا عُرِفَ وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الشُّرُوعُ فَيَنْتَقِلُ السَّبَبِيَّةُ إلَى كُلِّ الْوَقْتِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، فَصَارَ الْحَامِلُ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ لِلسَّبَبِيَّةِ الْجُزْءُ الْمُتَّصِلُ بِالْأَدَاءِ فَإِنْ اتَّصَلَ بِالْجُزْءِ الْأَوَّلِ كَانَ هُوَ السَّبَبَ وَإِلَّا فَيَنْتَقِلُ إلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ؛ لِأَنَّ فِي الْمُجَاوَرَةِ عَنْ الْجُزْءِ الَّذِي يَتَّصِلُ بِهِ الْأَدَاءُ فِي جَعْلِهِ سَبَبًا لَا ضَرُورَةً وَلَيْسَ بَيْنَ الْأَدْنَى وَالْكُلِّ مِقْدَارٌ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قَوْلُهُ (فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْجُزْءُ صَحِيحًا) بَيَانُ اسْتِقْرَارِ السَّبَبِيَّةِ وَاعْتِبَارِ صِفَةِ ذَلِكَ الْجُزْءِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ صَحِيحًا كَانَ الْوَاجِبُ كَامِلًا كَمَا فِي الْفَجْرِ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا أَيْ نَاقِصًا كَانَ الْوَاجِبُ نَاقِصًا، فَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ فِي خِلَالِ الْعَصْرِ لَا يَفْسُدُ الْعَصْرُ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ نَاقِصًا لِنُقْصَانٍ فِي سَبَبِهِ وَبِالْغُرُوبِ يَنْتَفِي النُّقْصَانُ فَيَتَأَدَّى كَامِلًا، وَلَوْ طَلَعَتْ فِي خِلَالِ الْفَجْرِ تَفْسُدُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تَفْسُدُ اعْتِبَارًا بِالْغُرُوبِ وَاسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ» ، رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا أَنَّ الطُّلُوعَ بِظُهُورِ حَاجِبِ الشَّمْسِ وَبِهِ لَا يَنْتَفِي الْكَرَاهَةُ بَلْ يَتَحَقَّقُ فَكَانَ مُفْسِدًا لِلْفَرْضِ وَالْغُرُوبُ بِآخِرِهِ وَبِهِ يَنْتَفِي الْكَرَاهَةُ فَلَمْ يَكُنْ مُفْسِدًا لِلْعَصْرِ

وَوَجْهُهُ أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْوَقْتَ مُتَّسِعًا وَلَكِنْ جَعَلَ لَهُ حَقَّ شَغْلِ كُلِّ الْوَقْتِ بِالْأَدَاءِ فَإِذَا شَغَلَهُ بِالْأَدَاءِ جَازَ وَإِنْ اتَّصَلَ بِهِ الْفَسَادُ؛ لِأَنَّ مَا يَتَّصِلُ مِنْ الْفَسَادِ بِالْبِنَاءِ جُعِلَ عَفْوًا؛ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْهُ مَعَ الْإِقْبَالِ عَلَى الصَّلَاةِ مُتَعَذِّرٌ وَقَدْ رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَنْ قَامَ إلَى الْخَامِسَةِ فِي الْعَصْرِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْإِتْمَامُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ ثَبَتَ فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ الْفَسَادُ صَارَ فِي الْحُكْمِ عَفْوًا فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمُؤَدَّى فِي وَقْتِ الصِّحَّةِ بِخِلَافِ حَالَةِ الِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ بِقَصْدِهِ ثَبَتَ الْفَسَادُ إذْ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ مُمْكِنٌ بِأَنْ يَخْتَارَ وَقْتًا لَا فَسَادَ فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQوَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لِبَيَانِ الْوُجُوبِ بِإِدْرَاكِ جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَلَكِنْ يَأْبَى هَذَا التَّأْوِيلَ مَا رُوِيَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ وَإِذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ» ، وَالتَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ الْآثَارِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ كَانَ قَبْلَ نَهْيِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ وَلَا يُقَالُ كَانَ ذَلِكَ نَهْيًا عَنْ التَّطَوُّعِ خَاصَّةً كَالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ فَلَا يُوجِبُ نَسْخَ هَذَا الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ بَلْ هُوَ نَهْيٌ عَنْ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ فَإِنَّ قَضَاءَ الْفَوَائِتِ فِيهَا لَا يَجُوزُ، أَلَا تَرَى أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَاتَتْهُ صَلَاةُ الصُّبْحِ غَدَاةَ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ انْتَظَرَ فِي قَضَائِهَا إلَى أَنْ ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ» فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ مَا رَوَاهُ نُسِخَ بِهِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْفَجْرَ لَا يَفْسُدُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَكِنَّهُ يَصْبِرُ حَتَّى إذَا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ أَتَمَّ صَلَاتَهُ وَكَأَنَّهُ اسْتَحْسَنَ هَذَا لِيَكُونَ مُؤَدِّيًا بَعْضَ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ وَلَوْ أَفْسَدَهَا كَانَ مُؤَدِّيًا جَمِيعَ الصَّلَاةِ خَارِجَ الْوَقْتِ وَأَدَاءُ بَعْضِ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ أَوْلَى مِنْ أَدَاءِ الْكُلِّ خَارِجَ الْوَقْتِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، وَقَوْلُهُ بَطَلَ الْفَرْضُ إشَارَةً إلَى نَفْيِ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ أَصْلَ الصَّلَاةِ يَبْطُلُ بِبُطْلَانِ الْجِهَةِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْمُصَنِّفِ. قَوْلُهُ (جُعِلَ الْوَقْتُ مُتَّسِعًا) الشَّارِعُ جَعَلَ جَمِيعَ الْوَقْتِ مَحَلًّا لِأَدَاءِ فَرْضِ الْوَقْتِ وَأُثْبِتَتْ لَهُ وِلَايَةُ شَغْلِ الْكُلِّ بِالْأَدَاءِ وَهُوَ الْعَزِيمَةُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مَشْغُولًا بِخِدْمَةِ رَبِّهِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِلْعَبْدِ وِلَايَةَ صَرْفِ بَعْضِ الْأَوْقَاتِ إلَى حَوَائِجِ نَفْسِهِ رُخْصَةً فَثَبَتَتْ أَنَّ شَغْلَ كُلِّ الْوَقْتِ بِالْعِبَادَةِ هُوَ الْعَزِيمَةُ، وَلِهَذَا جَعَلْنَا الْوَقْتَ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْعُذْرِ مَقَامَ الْأَدَاءِ لِحَاجَتِهِ إلَى شَغْلِ الْوَقْتِ بِالْأَدَاءِ وَلَا يُمْكِنُهُ الْأَقْبَالُ عَلَى الْعَزِيمَةِ هَهُنَا إلَّا بِأَنْ يَقَعَ بَعْضُ الْأَدَاءِ فِي الْوَقْتِ النَّاقِصِ فَيَصِيرَ ذَلِكَ الْبَعْضُ نَاقِصًا وَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ سَقَطَ اعْتِبَارُهُ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ حُكْمًا لَا قَصْدًا فَإِنَّهُ بِنَاءً عَلَى الْأَوَّلِ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي النَّوَادِرِ إنَّ مَنْ شَرَعَ فِي الْخَامِسَةِ بَعْدَمَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ فَإِنَّهُ يُضِيفُ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى وَيَكُونُ الرَّكْعَتَانِ تَطَوُّعًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّطَوُّعَ بَعْدَ الْعَصْرِ مَكْرُوهٌ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ بِنَاءً عَلَى الْأَوَّلِ وَقَدْ حَصَلَ حُكْمًا لَا قَصْدًا لَمْ يُعْتَبَرْ حَتَّى لَمْ تَثْبُتْ صِفَةُ الْكَرَاهَةِ كَذَا هَذَا كَذَا ذَكَرَهُ أَبُو الْيُسْرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ عَلَاءُ الدِّينِ الْمَعْرُوفُ بِالْغَنِيِّ فِي مُخْتَلَفَاتِهُ أَنَّهُ السَّبَبُ إنَّمَا هُوَ الْجُزْءُ الْقَائِمُ مِنْ الْوَقْتِ لَا جُمْلَةُ الْوَقْتِ وَنَعْنِي بِالْجُزْءِ الْقَائِمِ أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ يَنْتَقِلُ السَّبَبِيَّةُ جُزْءًا فَجُزْءًا إلَى آخِرِ الْوَقْتِ وَعَلَى هَذَا الْحَرْفِ يُخَرَّجُ الْفَرْقُ بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ فَإِنَّ الْفَجْرَ يَفْسُدُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ فِي خِلَالِهِ وَالْعَصْرَ لَا يَفْسُدُ بِالْغُرُوبِ، ثُمَّ قَالَ وَظَنَّ كَثِيرٌ مِنْ فُقَهَائِنَا أَنَّا نَعْنِي بِالْجُزْءِ الْقَائِمِ الْجُزْءَ الَّذِي هُوَ قُبَيْلَ الشُّرُوعِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ شَرَعَ فِي الْعَصْرِ فِي الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ وَطَوَّلَ الْقِرَاءَةَ حَتَّى دَخَلَ الْوَقْتُ الْمَكْرُوهُ يَجُوزُ وَلَوْ جَعَلَ الْوُجُوبَ مُضَافًا إلَى الْجُزْءِ الَّذِي هُوَ قُبَيْلَ الشُّرُوعِ لَكَانَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ كَامِلٌ بَلْ نَقُولُ بَعْدَ الشُّرُوعِ

وَأَمَّا إذَا خَلَا الْوَقْتُ عَنْ الْأَدَاءِ أَصْلًا فَقَدْ ذَهَبَ الضَّرُورَةُ الدَّاعِيَةُ عَنْ الْكُلِّ إلَى الْجُزْءِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ شَغْلِ الْأَدَاءِ فَانْتَقَلَ الْحُكْمُ إلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ الْوَقْتِ سَبَبًا فَإِذَا فَاتَتْ الْعَصْرُ أَصْلًا أُضِيفَ وُجُوبُهَا إلَى جُمْلَةِ الْوَقْتِ دُونَ الْجُزْءِ الْفَاسِدِ فَوَجَبَتْ بِصِفَةِ الْكَمَالِ فَلَمْ يَجُزْ أَدَاؤُهَا بِصِفَةِ النُّقْصَانِ وَلَا يَلْزَمُ إذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ فِي آخِرِ وَقْتِ الْعَصْرِ ثُمَّ لَمْ يُؤَدِّ حَتَّى احْمَرَّتْ الشَّمْسُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَقَدْ نَسِيَ ثُمَّ تَذَكَّرَ فَأَرَادَ أَنْ يُؤَدِّيَهَا عِنْدَ احْمِرَارِ الشَّمْسِ ـــــــــــــــــــــــــــــQكُلُّ جُزْءٍ إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْجُزْءِ الَّذِي يُلَاقِيهِ وَمَحِلٌّ لِأَدَائِهِ إلَّا أَنْ يَخْرُجَ الْوَقْتُ فَيَتَقَرَّرُ السَّبَبِيَّةُ عَلَى الْجُزْءِ الْأَخِيرِ إنْ كَانَ شَرَعَ فِيهَا فِي آخِرِ الْوَقْتِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا إذَا خَلَا الْوَقْتُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ) جَوَابُ سُؤَالٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَمَّا انْتَقَلَتْ السَّبَبِيَّةُ إلَى الْجُزْءِ الْأَخِيرِ لَزِمَ أَنْ يَجُوزَ الْأَدَاءُ فِي الْأَوْقَاتِ النَّاقِصَةِ إذَا كَانَ الْجُزْءُ الْأَخِيرُ نَاقِصًا كَالْعَصْرِ إذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ قَضَاؤُهَا فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ فَأَجَابَ بِمَا ذُكِرَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ بَيَانِ النَّوْعِ الرَّابِعِ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنْ الْوُجُوبَ يُضَافُ إلَى كُلِّ الْوَقْتِ إذَا فَاتَ الْأَدَاءُ فِي الْوَقْتِ؛ لِأَنَّا إنَّمَا جَعَلْنَا جُزْءًا مِنْ الْوَقْتِ سَبَبًا ضَرُورَةَ وُقُوعِ الْأَدَاءِ فِي الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ بِعَيْنِهِ شَرْطُ الْأَدَاءِ وَذَلِكَ سَبَبٌ أَيْضًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ الْوَاحِدُ ظَرْفًا وَسَبَبًا فَجَعَلْنَا جُزْءًا مِنْهُ سَبَبًا وَالْبَاقِيَ ظَرْفًا وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ فِيمَا إذَا جَعَلَهُ ظَرْفًا مُتَحَقِّقَةٌ فَإِذَا لَمْ يَجْعَلْهُ ظَرْفًا بِأَنْ لَمْ يُؤَدِّ فِي الْوَقْتِ حَتَّى فَاتَ سَقَطَتْ الضَّرُورَةُ وَوَجَبَ الْعَمَلُ بِالْأَصْلِ وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ الْوَقْتُ سَبَبًا لِكَمَالِهِ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ وُجِدَتْ إلَى جَمِيعِ الْوَقْتِ يُقَالُ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالظُّهْرُ اسْمٌ لِجَمِيعِ الْوَقْتِ وَلَمَّا جُعِلَ الْكُلُّ سَبَبًا وَلَا فَسَادَ فِي كُلِّ الْوَقْتِ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى وَقْفِهِ فَلَا يَصِحُّ أَدَاؤُهُ فِي وَقْتٍ نَاقِصٍ كَمَا فِي الْفَجْرِ وَقْتَ الطُّلُوعِ. وَلَا يُقَالُ لَوْ كَانَ الْوُجُوبُ مُضَافًا إلَى الْكُلِّ بَعْدَ الْفَوَاتِ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ الْوُجُوبُ ثَابِتًا فِي الْوَقْتِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ إنَّمَا بِتَرْكِ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّمَا يَنْتَقِلُ السَّبَبِيَّةُ إلَى الْكُلِّ بَعْدَ الْيَأْسِ عَنْ الْأَدَاءِ فِي الْوَقْتِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ انْتِفَاءُ الْوُجُوبِ فِي الْوَقْتِ، وَلِأَنَّهُ لَمَا كَانَ مَأْمُورًا بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ جَعْلُ بَعْضِ الْوَقْتِ سَبَبًا فِي حَقِّهِ فَكَانَ لَهُ الْقُدْرَةُ عَلَى أَنْ يُقَرِّرَ بَعْضَ الْوَقْتِ لِلسَّبَبِيَّةِ بِأَنْ يَصِلَ الْأَدَاءَ بِهِ يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ وَتَقْصِيرِهِ. (فَإِنْ قِيلَ) لَوْ أُضِيفَ الْوُجُوبُ إلَى جَمِيعِ الْوَقْتِ وَبَعْضُهُ نَاقِصٌ فِي الْعَصْرِ يَكُونُ الْوَاجِبُ نَاقِصًا ضَرُورَةً فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ قَضَاؤُهُ فِي وَقْتٍ مِثْلِهِ. (قُلْنَا) السَّبَبُ الْكَامِلُ مِنْ وَجْهٍ نَاقِصٌ مِنْ وَجْهٍ الْوَاجِبُ يَكُونُ كَذَلِكَ فَلَا يَتَأَدَّى فِي الْوَقْتِ النَّاقِصِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَذَا فِي مُخْتَلَفَاتِ الْقَاضِي الْغَنِيِّ، إلَّا أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ قَضَى الْعَصْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَوَقَعَ بَعْضُهُ فِي الْوَقْتِ النَّاقِصِ كَانَ جَائِزًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ وَقْتَ التَّغَيُّرِ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِقَضَاءِ شَيْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ كَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا لَمْ يَشْتَغِلْ بِالْأَدَاءِ حَتَّى تَحَقَّقَ التَّفْوِيتُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَيَثْبُتُ بِصِفَةِ الْكَمَالِ وَإِنَّمَا يَتَأَدَّى بِصِفَةِ النُّقْصَانِ عِنْدَ ضَعْفِ السَّبَبِ إذَا لَمْ يَصِرْ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَشْتَغِلَ بِالْأَدَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ صَيْرُورَتَهُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ. ، وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ النُّقْصَانَ فِي هَذَا الْوَقْتِ إنَّمَا يُمْكِنُ بِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ لَا بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ إذْ هُوَ وَقْتٌ كَسَائِرِ الْأَوْقَاتِ لَكِنْ فِي الِاشْتِغَالِ بِالصَّلَاةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ تَشَبُّهٌ بِعِبَادَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَتَعْظِيمِهِمْ مَا يَعْتَقِدُونَهُ آلِهَةً فِي هَذَا الْوَقْتِ فَإِذَا مَضَى مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِيهِ نُقْصَانٌ وَصَارَ كَسَائِرِ الْأَوْقَاتِ فِي حَقِّ مَا يَرْجِعُ إلَى الْإِيجَابِ فِي الذِّمَّةِ إلَّا أَنَّ النُّقْصَانَ الَّذِي ذَكَرْنَا كَانَ مُتَحَمَّلًا فِي الْوَقْتِ لِلْأَمْرِ بِالْأَدَاءِ فَإِذَا مَضَى لَمْ يَبْقَ مُتَحَمَّلًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ تَحَقَّقَ فِي الذِّمَّةِ كَامِلًا فَلَا يَتَأَدَّى بِصِفَةِ النُّقْصَانِ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَمَّا إذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ أَوْ بَلَغَ

لِأَنَّ هَذَا لَا يُرْوَى وَمِنْ حُكْمِ هَذَا الْقِسْمِ أَنَّ وَقْتَ الْأَدَاءِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُتَعَيَّنًا شَرْعًا وَالِاخْتِيَارُ فِيهِ لِلْعَبْدِ لَمْ يُقْبَلْ التَّعَيُّنُ بِتَعْيِينِهِ قَصْدًا وَنَصًّا وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ ضَرُورَةَ تَعَيُّنِ الْأَدَاءِ وَهَذَا لِأَنَّ تَعْيِينَ الشَّرْطِ أَوْ السَّبَبِ ضَرْبُ تَصَرُّفٍ فِيهِ وَلَيْسَ إلَى الْعَبْدِ وِلَايَةُ وَضْعِ الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ فَصَارَ إثْبَاتُ وِلَايَةِ التَّعْيِينِ قَصْدًا يَنْزِعُ إلَى الشَّرِكَةِ فِي وَضْعِ الْمَشْرُوعَاتِ وَإِنَّمَا إلَى الْعَبْدِ أَنْ يَرْتَفِقَ بِمَا هُوَ حَقُّهُ ثُمَّ يَتَعَيَّنُ بِهِ الْمَشْرُوعُ حُكْمًا وَنَظِيرُ هَذَا الْكَفَّارَةُ الْوَاجِبَةُ فِي الْأَيْمَانِ أَنَّ الْحَانِثَ فِيهَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَطْعَمَ عَشْرَةَ مَسَاكِينَ وَإِنْ شَاءَ كَسَاهُمْ وَإِنْ شَاءَ حَرَّرَ رَقَبَةً وَلَوْ عَيَّنَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ قَصْدًا لَمْ يَصِحَّ وَإِنَّمَا يَصِحُّ ضَرُورَةُ فِعْلِهِ لِمَا قُلْنَا وَمِنْ حُكْمِهِ أَنَّ التَّأْخِيرَ عَنْ الْوَقْتِ يُوجِبُ الْفَوَاتَ لِذَهَابِ شَرْطِ الْأَدَاءِ مِنْ حُكْمِ كَوْنِهِ ظَرْفًا لِلْوَاجِبِ أَنَّهُ لَا يَنْفِي غَيْرَهُ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ أَفْعَالًا مَعْلُومَةً فِي ذِمَّةِ مَنْ عَلَيْهِ فَبَقِيَ الْوَقْتُ خَالِيًا وَبَقِيَتْ مَنَافِعُهُ عَلَى حَقِّهِ فَلَمْ يَنْتَفِ غَيْرُهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَوْ طَهُرَتْ الْحَائِضُ فِي آخِرِ وَقْتِ الْعَصْرِ ثُمَّ قَضَوْهَا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَضَى الْوَقْتُ صَارَ الْوَاجِبُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ فَلَا يَتَأَدَّى نَاقِصًا كَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَا إذَا كَانَ مُقِيمًا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ثُمَّ سَافَرَ فِي آخِرِهِ وَفَاتَتْهُ الصَّلَاةُ حَيْثُ يَجِبُ عَلَيْهِ صَلَاةُ السَّفَرِ مَعَ أَنَّ الْوُجُوبَ مُضَافٌ إلَى كُلِّ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ النُّقْصَانُ مِنْ الْأَرْبَعِ إلَى الرَّكْعَتَيْنِ لَمْ يَثْبُتْ مِنْ قِبَلِ السَّبَبِ بَلْ يَثْبُتُ مِنْ قِبَلِ حَالِ الْمُصَلِّي فَلَا يَتَفَاوَتُ بِأَنْ يُضَافَ إلَى الْجُزْءِ أَوْ إلَى الْكُلِّ بِخِلَافِ وَقْتِ الْعَصْرِ فَإِنَّ النُّقْصَانَ فِيهِ مِنْ قِبَلِ السَّبَبِ فَيَتَفَاوَتُ بِإِضَافَتِهِ إلَى الْوَقْتِ النَّاقِصِ وَالْكَامِلِ، وَلِأَنَّ الرُّخْصَةَ بِاعْتِبَارِ السَّفَرِ وَبَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ السَّفَرُ بَاقٍ فَبِمُضِيِّ الْوَقْتِ لَا يَنْقَلِبُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ النُّقْصَانَ بِاعْتِبَارِ الْوَقْتِ وَلَمْ يَبْقَ فَيَعُودُ إلَى الْكَمَالِ. قَوْلُهُ (لِأَنَّ هَذَا لَا يُرْوَى) أَيْ عَنْ السَّلَفِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجُوزَ قَالَ أَبُو الْيُسْرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَا نُسَلِّمُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَلْ يَجُوزُ بِأَنَّهُ لَا رِوَايَةَ لِهَذَا. ، وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْفَوَاتَ عَنْ الْوَقْتِ يُوجِبُ الْقَضَاءَ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ فَلَا يَجُوزُ فِي وَقْتِ نَاقِصٍ بِخِلَافِ الْأَدَاءِ كَمَا قَالُوا فِي قَضَاءِ اعْتِكَافِ رَمَضَانَ إذَا صَامَهُ وَلَمْ يَعْتَكِفْ لَا يَجُوزُ فِي الرَّمَضَانِ الثَّانِي وَإِنْ كَانَ الْأَدَاءُ جَائِزًا فِي الرَّمَضَانِ الْأَوَّلِ. قَوْلُهُ (لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُتَعَيِّنًا) يَعْنِي لِكَوْنِ الْوَقْتِ مُتَّسِعًا وَكَوْنِ الْعَبْدِ مُخْتَارًا فِي الْأَدَاءِ وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَالِاخْتِيَارُ لِلْحَالِ، وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِ رَاجِعٌ إلَى الْأَدَاءِ أَوْ إلَى التَّعْيِينِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، قَصْدًا أَيْ بِالْقَلْبِ بِأَنْ نَوَى أَنْ يَكُونَ هَذَا الْجُزْءُ سَبَبًا، وَنَصًّا أَيْ بِالْقَوْلِ بِأَنْ يَقُولَ عَيَّنْت هَذَا الْجُزْءَ لِلسَّبَبِيَّةِ لَا يَتَعَيَّنُ وَيَجُوزُ الْأَدَاءُ بَعْدَهُ، وَهَذَا أَيْ عَدَمُ قَبُولِهِ التَّعْيِينَ قَصْدًا وَنَصًّا، وَلَيْسَ إلَى الْعَبْدِ وِلَايَةُ تَعْيِينِ الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ أَيْ مِنْ غَيْرِ تَفْوِيضٍ إلَيْهِ وَهَهُنَا كَذَلِكَ، يَنْزِعُ إلَى الشَّرِكَةِ أَيْ يَقْضِي وَيَذْهَبُ إلَيْهَا يُقَالُ فُلَانٌ نَزَعَ إلَى أَبِيهِ فِي الشَّبَهِ أَيْ ذَهَبَ، وَالتَّعْيِينُ نَوْعُ تَصَرُّفٍ؛ لِأَنَّهُ تَقْيِيدٌ لِلْمُطْلَقِ وَهُوَ نَسْخٌ لِإِطْلَاقِهِ، ثُمَّ يَتَعَيَّنُ بِهِ الْمَشْرُوعُ أَيْ بِارْتِفَاقِهِ تَعَيَّنَ مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ. قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا لِلْعَبْدِ أَنْ يَرْتَفِقَ) يَعْنِي لَيْسَ لَهُ الِاخْتِيَارُ الْمُطْلَقُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ فَلَوْ ثَبَتَ التَّعْيِينُ بِالْقَوْلِ كَانَ اخْتِيَارًا مُطْلَقًا فَإِنَّهُ خَالٍ عَنْ الرِّفْقِ وَالنَّفْعِ وَإِنَّمَا جَعَلَ إلَى الْعَبْدِ اخْتِيَارَ مَا فِيهِ رِفْقٌ وَلَا رِفْقَ لَهُ فِي اخْتِيَارِ جُزْءٍ مِنْ الْجُمْلَةِ قَوْلًا بَلْ فِيهِ نَوْعُ ضَرَرٍ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ فِيهِ فَيَفُوتُهُ الْأَدَاءُ أَصْلًا مَعَ بَقَاءِ الْوَقْتِ وَإِنَّمَا إلَيْهِ التَّعْيِينُ بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ وَفِيهِ فَائِدَةٌ بِأَنْ يَخْتَارَ الْأَدَاءَ فِي الْجُزْءِ الَّذِي تَيَسَّرَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ كَذَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لِلْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قَوْلُهُ (أَنْ لَا يَنْفِيَ غَيْرَهُ) أَيْ لَا يَمْنَعَ صِحَّةَ صَلَاةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِعْيَارًا لَا يَصِيرُ مُسْتَغْرِقًا بِالْوَاجِبِ فَلَا يَنْفِي مَشْرُوعِيَّةَ سَائِرِ أَنْوَاعِ الصَّلَاةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ اسْمٌ لِأَفْعَالٍ مَعْلُومَةٍ مِنْ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقَعْدَةِ وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ وَالْأَدَاءُ يَحْصُلُ بِمَنَافِعِ بَدَنِهِ فَكَانَ الْوَقْتُ خَلَفًا عَنْهَا فَبَقِيَ غَيْرُهَا مَشْرُوعًا فِيهِ وَالْمَنَافِعُ مَمْلُوكَةٌ لَهُ يَصْرِفُهَا إلَى أَيِّ نَوْعٍ شَاءَ كَالرَّجُلِ عَلَيْهِ دُيُونٌ وَلَهُ مَالٌ لَا يَنْفِي وُجُوبَ دَيْنٍ آخَرَ وَلَا قَضَاءَ دَيْنٍ آخَرُ عَنْ ذَلِكَ

[النوع الثاني من المؤقتة فما جعل الوقت معيارا له وسببا لوجوبه]

وَمِنْ حُكْمِهِ أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ لِيَصِيرَ مَا لَهُ مَصْرُوفًا إلَى مَا عَلَيْهِ وَمِنْ حُكْمِهِ أَنَّ تَعْيِينَ النِّيَّةِ شَرْطٌ لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ لَمَّا تَعَدَّدَ لَمْ يَصِرْ مَذْكُورًا بِالِاسْمِ الْمُطْلَقِ إلَّا عِنْدَ تَعْيِينِ الْوَصْفِ وَمِنْ حُكْمِهِ أَنَّهُ لَمَّا لَزِمَهُ التَّعْيِينُ لِمَا قُلْنَا يَسْقُطُ بِضِيقِ وَقْتِ الْأَدَاءِ لِأَنَّ التَّوْسِعَةَ أَفَادَتْ شَرْطًا زَائِدًا وَهُوَ التَّعْيِينُ فَلَا يَسْقُطُ هَذَا الشَّرْطُ بِالْعَوَارِضِ وَلَا بِتَقْصِيرِ الْعِبَادِ وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْمُؤَقَّتَةِ فَمَا جُعِلَ الْوَقْتُ مِعْيَارًا لَهُ وَسَبَبًا لِوُجُوبِهِ مِثْلُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ مِعْيَارٌ لَهُ لِأَنَّهُ قُدِّرَ وَعُرِفَ بِهِ وَسَبَبٌ لَهُ وَذَلِكَ شُهُودُ جُزْءٍ مِنْ الشَّهْرِ لِمَا نَذْكُرُ فِي بَابِ السَّبَبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَمِنْ حُكْمِهِ أَنَّ غَيْرَهُ صَارَ مَنْفِيًّا لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا أَوْجَبَ شَغْلَ الْمِعْيَارِ بِهِ وَهُوَ وَاحِدٌ فَإِذَا ثَبَتَ لَهُ وَصْفٌ انْتَفَى غَيْرُهُ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فِي مِعْيَارِهِ فَانْتَفَى غَيْرُهُ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَلَمَّا لَمْ يَبْقَ غَيْرُهُ مَشْرُوعًا لَمْ يَجُزْ أَدَاءُ الْوَاجِبِ فِيهِ مِنْ الْمُسَافِرِ لِأَنَّ شَرْعَ الصَّوْمِ فِيهِ عَامٌّ أَلَا تَرَى أَنَّ صَوْمَ الْمُسَافِرِ عَنْ الْفَرْضِ يُجْزِيهِ فَيَثْبُتُ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّهِ إلَّا أَنَّهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَالِ كَذَا هَذَا، وَكَذَلِكَ مَنْ أَجَّرَ نَفْسَهُ لِخِيَاطَةِ الثَّوْبِ مَلَكَ أَنْ يَخِيطَ ثَوْبًا آخَرَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِعْلُ الْخِيَاطَةِ وَذَلِكَ لَا يُنَافِي فِعْلًا آخَرَ كَذَا هُنَا. قَوْلُهُ (النِّيَّةُ شَرْطٌ لِيَصِيرَ مَالُهُ مَصْرُوفًا إلَى مَا عَلَيْهِ) أَيْ لِيَصِيرَ الْمَنَافِعُ الَّتِي هِيَ مَمْلُوكَةٌ لَهُ صَالِحَةً لِأَدَاءِ الْفَرْضِ وَغَيْرِهِ مَصْرُوفَةً إلَى مَا عَلَيْهِ، وَلَا يُقَالُ هَذَا تَفْسِيرُ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ صَرْفُ مَالِهِ مِنْ الْمَشْرُوعِ بَعْدَ فَوَاتِ الْوَقْتِ إلَى مَا عَلَيْهِ وَهَذَا صَرْفُ الْمَنَافِعِ فِي الْوَقْتِ إلَى مَا عَلَيْهِ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ النِّيَّةِ وَهُوَ إنْ تَعَيَّنَ فَرْضُ الْوَقْتِ لِتَعَدُّدِ الْمَشْرُوعِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَلَمْ يَصِرْ مَذْكُورًا بِالِاسْمِ الْمُطْلَقِ بِأَنْ يَقُولَ نَوَيْت أَنْ أُصَلِّيَ إلَّا عِنْدَ تَعْيِينِ الْوَصْفِ بِأَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ نَوَيْت أَنْ أُصَلِّيَ فَرْضَ الظُّهْرِ أَوْ يَقْصِدَ بِقَلْبِهِ ذَلِكَ، وَذِكْرُ فَرْضِ الْوَقْتِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَ الْبَعْضِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ شَرْطٌ وَلَا يَسْقُطُ هَذَا الشَّرْطُ بِضِيقِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْعَوَارِضِ وَهِيَ لَا تُعَارِضُ الْأَصْلَ كَالْعِصْمَةِ الثَّابِتَةِ بِالْإِسْلَامِ وَالدَّارِ لَا تَسْقُطُ بِعَارِضِ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى لَوْ دَخَلَ مُسْلِمَانِ دَارَ الْحَرْبِ وَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ يَجِبُ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وَهُوَ الْعِصْمَةُ لَمْ يَبْطُلْ بِهَذَا الْعَارِضِ فَكَذَلِكَ هَهُنَا وَجَبَ التَّعْيِينُ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْمَشْرُوعِ الَّذِي ثَبَتَ بِنَاءً عَلَى تَوَسُّعِ الْوَقْتِ فَلَا يَسْقُطُ بِعَارِضِ ضِيقِ الْوَقْتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّعَدُّدَ بَاقٍ فَإِنَّهُ لَوْ قَضَى فَرْضًا آخَرَ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ أَوْ أَدَّى نَفْلًا جَازَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الْعَوَارِضِ النَّوْمَ وَالْإِغْمَاءَ وَنَحْوَهُمَا أَيْ لَا يَسْقُطُ هَذَا الشَّرْطُ بِأَنْ نَامَ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ نَسِيَ حَتَّى ضَاقَ الْوَقْتُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْعَوَارِضِ وَكَذَلِكَ لَا يَسْقُطُ بِتَقْصِيرِ الْعِبَادِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِسُقُوطِ الْحَقِّ [النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْمُؤَقَّتَةِ فَمَا جُعِلَ الْوَقْتُ مِعْيَارًا لَهُ وَسَبَبًا لِوُجُوبِهِ] قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ مِعْيَارٌ) أَيْ الْوَقْتُ مِعْيَارٌ لِأَنَّهُ قُدِّرَ أَيْ لِأَنَّ الصَّوْمَ قُدِّرَ بِالْوَقْتِ حَتَّى ازْدَادَ بِازْدِيَادِهِ وَانْتَقَصَ بِنُقْصَانِهِ كَالْمَكِيلِ بِالْكَيْلِ وَعُرِفَ بِهِ أَيْ الصَّوْمُ عُرِفَ بِالْوَقْتِ فَقِيلَ الصَّوْمُ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ الثَّلَاثِ نَهَارًا مَعَ النِّيَّةِ بِإِذْنِ صَاحِبِ الشَّرْعِ فَإِذَا دَخَلَ الْوَقْتُ وَهُوَ النَّهَارُ فِي تَعْرِيفِهِ لَا يُوجَدُ بِدُونِهِ فَكَانَ مُقَدَّرًا بِهِ وَكَانَ الْوَقْتُ مِعْيَارًا لَهُ ضَرُورَةً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُرِفَ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَيَكُونُ تَأْكِيدًا لَقُدِّرَ أَيْ قُدِّرَ الصَّوْمُ بِالْوَقْتِ وَعُرِفَ مِقْدَارُ الصَّوْمِ بِهِ فَكَانَ مِعْيَارًا لَهُ وَسَبَبٌ لَهُ عُطِفَ عَلَى مِعْيَارٍ أَيْ الْوَقْتُ سَبَبٌ لِلصَّوْمِ كَمَا يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ وَمِنْ حُكْمِهِ أَيْ حُكْمِ هَذَا النَّوْعِ شَغْلُ الْمِعْيَارِ بِهِ أَيْ بِهَذَا الْوَاجِبِ الْمُوَقَّتِ بِهِ وَهُوَ أَيْ الْمِعْيَارُ وَاحِدٌ وَالْوَاوُ لِلْحَالِ فَإِذَا ثَبَتَ لَهُ أَيْ لِلْمِعْيَارِ وَصْفٌ وَهُوَ كَوْنُهُ مَشْغُولًا بِوَاجِبٍ يَعْنِي " الْمِعْيَارُ وَاحِدٌ " فَإِذَا صَارَ مِعْيَارًا لِلْفَرْضِ لَا يَسَعُ فِيهِ غَيْرَهُ مَعَ قِيَامِ الْفَرْضِ فِيهِ فَكَانَ مِنْ ضَرُورَةِ تَعَيُّنِ الْفَرْضِ انْتِفَاءُ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَدَاءُ صَوْمَيْنِ بِإِمْسَاكٍ وَاحِدٍ وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي هَذَا الْوَقْتِ إلَّا إمْسَاكٌ وَاحِدٌ وَهُوَ لَا يَفْضُلُ عَنْ الْمُسْتَحَقِّ فَلَا يَكُونُ غَيْرُهُ مَشْرُوعًا فِيهِ وَلَا يُتَصَوَّرُ الْأَدَاءُ شَرْعًا كَذَا قَالَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْمُسَافِرُ إذَا نَوَى وَاجِبًا آخَرَ فِي رَمَضَانَ أَوْ تَطَوُّعًا أَوْ أَطْلَقَ النِّيَّةَ وَقَعَ عَنْ فَرْضِ رَمَضَانَ لِأَنَّ شَرْعَ الصَّوْمِ عَامٌّ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ لِأَنَّ وُجُوبَهُ بِشُهُودِ الشَّهْرِ وَقَدْ تَحَقَّقَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ كَمَا تَحَقَّقَ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ وَلِهَذَا لَوْ صَامَ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ يَجْزِيه وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ شَرْعَهُ يَنْفِي شَرْعِيَّةَ

رُخِّصَ لَهُ أَنْ يَدَعَهُ بِالْفِطْرِ وَهَذَا لَا يَجْعَلُ غَيْرَ الْفَرْضِ مَشْرُوعًا فَانْعَدَمَ فِعْلُهُ لِعَدَمِ مَا نَوَاهُ وَكَذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِمَا إذَا نَوَى النَّقْلَ أَوْ أَطْلَقَ النِّيَّةَ وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ فِي هَذَا كُلِّهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْوُجُوبُ وَاقِعٌ عَلَى الْمُسَافِرِ وَلِهَذَا صَحَّ أَدَاؤُهُ بِلَا تَوَقُّفٍ إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ لَهُ التَّرْكُ قَضَاءً لِحَقِّهِ وَتَخْفِيفًا عَلَيْهِ فَلَمَّا أَسَاغَ لَهُ التَّرَخُّصَ بِمَا يَرْجِعُ إلَى مَصَالِحِ بَدَنِهِ فَفِيمَا يَرْجِعُ إلَى مَصَالِحِ دِينِهِ وَهُوَ قَضَاءُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ أَوْلَى وَصَارَ كَوْنُهُ نَاسِخًا لِغَيْرِهِ مُتَعَلِّقًا بِإِعْرَاضِهِ عَنْ جِهَةِ الرُّخْصَةِ وَتَمَسُّكِهِ بِالْعَزِيمَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْغَيْرِ فَثَبَتَ أَنَّ غَيْرَ فَرْضِ الْوَقْتِ لَمْ يَبْقَ مَشْرُوعًا فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ لَهُ التَّرَخُّصَ بِالْفِطْرِ دَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ فَإِذَا تَرَكَ التَّرَخُّصَ كَانَ هُوَ وَالْمُقِيمُ سَوَاءً فَيَقَعُ صَوْمُهُ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ بِكُلِّ حَالٍ. وَقَوْلُهُ رُخِّصَ لَهُ أَنْ يَدَعَهُ بِالْفِطْرِ مَعْنَاهُ أَنَّ التَّرَخُّصَ مُخْتَصٌّ بِالْفِطْرِ دُونَ غَيْرِهِ فَلَوْ جَوَّزْنَا لَهُ الصَّوْمَ لَا عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ صَارَ مُتَرَخِّصًا بِمَا لَمْ يَجْعَلْ الشَّرْعُ لَهُ ذَلِكَ فَكَانَ هَذَا نَصْبَ الْمَشْرُوعِ لِلشَّرْعِ لَا انْقِيَادًا لِلشَّرْعِ كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ فَانْعَدَمَ فِعْلُهُ أَيْ أَدَاؤُهُ الْوَاجِبَ الْآخَرَ أَوْ التَّطَوُّعَ لِعَدَمِ مَا نَوَاهُ أَيْ لِعَدَمِهِ فِي نَفْسِهِ شَرْعًا كَالصَّوْمِ فِي اللَّيْلِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا نَوَى عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ يَقَعُ عَمَّا نَوَى لِأَنَّ الْوُجُوبَ وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ لِوُجُودِ سَبَبِهِ وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ لَهُ التَّرَخُّصَ بِتَرْكِ الصَّوْمِ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ عِنْدَ وُجُودِ السَّفَرِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْمَشَاقِّ. وَمَعْنَى التَّرَخُّصِ أَنْ يَدَعَ مَشْرُوعَ الْوَقْتِ بِالْمَيْلِ إلَى الْأَخَفِّ فَإِذَا اشْتَغَلَ بِوَاجِبٍ آخَرَ كَانَ مُتَرَخِّصًا لِأَنَّ إسْقَاطَهُ مِنْ ذِمَّتِهِ أَخَفُّ عَلَيْهِ مِنْ إسْقَاطِ فَرْضِ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُدْرِكْ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لَا يَكُونُ مُؤَاخَذًا بِفَرْضِ الْوَقْتِ وَيَكُونُ مُؤَاخَذًا بِذَلِكَ الْوَاجِبِ وَلَمَا جَازَ لَهُ التَّرَخُّصُ بِالْفِطْرِ لِأَنَّهُ أَخَفُّ عَلَيْهِ نَظَرًا إلَى مَنَافِعِ بَدَنِهِ فَلَأَنْ يَجُوزَ لَهُ التَّرَخُّصُ بِمَا هُوَ أَخَفُّ عَلَيْهِ نَظَرًا إلَى مَصَالِحِ دِينِهِ كَانَ أَوْلَى قَوْلِهِ. (وَلِهَذَا صَحَّ أَدَاؤُهُ) وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَأَكْثَرِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَعِنْدَ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ لَا يَجُوزُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي حَقِّهِ مُضَافٌ إلَى عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ فَصَارَ هَذَا الْوَقْتُ فِي حَقِّهِ كَالشَّهْرِ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ فَلَا يَجُوزُ الْأَدَاءُ قَبْلَهُ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ» وَقَالَ «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» وَتَمَسَّكَ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَهَذَا يَعُمُّ الْمُسَافِرَ وَالْمُقِيمَ ثُمَّ قَوْلُهُ عَزَّ ذِكْرُهُ {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: 185] لِبَيَانِ التَّرَخُّصِ بِالْفِطْرِ فَيُنْفَى بِهِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ لَا جَوَازُهُ وَفِي حَدِيثِ «أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ لَا يَعِيبُ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ» وَالْأَخْبَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ وَتَأْوِيلُ حَدِيثِهِمْ إذَا كَانَ يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ حَتَّى يُخَافَ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَرَّ بِرَجُلٍ مَغْشِيٍّ عَلَيْهِ قَدْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ وَقَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ فَسَأَلَ عَنْ حَالِهِ فَقِيلَ إنَّهُ صَائِمٌ فَقَالَ لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» يَعْنِي لِمَنْ هَذَا حَالُهُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ قَوْلُهُ (بِلَا تَوَقُّفٍ) احْتِرَازٌ عَنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا الْعِرَاقِيِّينَ فَإِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ حَالِ الْمُؤَدِّي فِي آخِرِ الْوَقْتِ عِنْدَهُمْ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْجُزْءُ الْأَخِيرُ عِنْدَهُمْ وَاحْتِرَازٌ عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ فَإِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى كَمَالِ النِّصَابِ فِي آخِرِ الْحَوْلِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ النِّصَابُ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْ السَّاعِي إنْ كَانَ قَائِمًا لِأَنَّ أَصْلَ السَّبَبِ وَإِنْ وُجِدَ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ إلَّا أَنَّ وَصْفَهُ وَهُوَ النَّمَاءُ لَمْ يُوجَدْ. فَلَوْ وُجِدَ أَصْلُ السَّبَبِ قُلْنَا بِالْجَوَازِ وَلِفَوَاتِ وَصْفِهِ قُلْنَا بِالتَّوَقُّفِ وَهَهُنَا السَّبَبُ وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ فَيَصِحُّ الْأَدَاءُ بِلَا تَوَقُّفٍ كَأَدَاءِ الْحَجِّ مِنْ الْفَقِيرِ لِكَمَالِ سَبَبِهِ وَهُوَ الْبَيْتُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ بِلَا تَرَدُّدٍ وَشَكٍّ قَوْلُهُ. (وَصَارَ كَوْنُهُ نَاسِخًا لِغَيْرِهِ)

وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ بَقِيَ مَشْرُوعًا فَصَحَّ أَدَاؤُهُ وَلِأَنَّ الْأَدَاءَ غَيْرُ مَطْلُوبٍ مِنْهُ فِي سَفَرِهِ فَصَارَ هَذَا الْوَقْتُ فِي حَقِّ تَسْلِيمِ مَا عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ شَعْبَانَ فَقُبِلَ سَائِرُ الصِّيَامَاتِ، وَالطَّرِيقُ الْأَوَّلُ يُوجِبُ أَنْ لَا يَصِحَّ النَّقْلُ بَلْ يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ وَالثَّانِي يُوجِبُ أَنْ يَصِحَّ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْهُ وَأَمَّا إذَا أَطْلَقَ النِّيَّةَ فَالصَّحِيحُ أَنْ يَقَعَ عَنْ رَمَضَانَ لِأَنَّ التَّرَخُّصَ وَالتَّرْكَ لَا يَتَحَقَّقُ بِهَذِهِ الْعَزِيمَةِ وَأَمَّا الْمَرِيضُ فَإِنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَنَا فِيهِ أَنْ يَقَعَ صَوْمُهُ بِكُلِّ حَالٍ عَنْ الْفَرْضِ لِأَنَّ رُخْصَتَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِحَقِيقَةِ الْعَجْزِ فَيَظْهَرُ بِنَفْسِ الصَّوْمِ فَوَاتُ شَرْطِ الرُّخْصَةِ فَيُلْحَقُ بِالصَّحِيحِ ـــــــــــــــــــــــــــــQجَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا إنَّ شَرْعَ الصَّوْمِ لَمَّا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ لَمْ يَبْقَ غَيْرَهُ مَشْرُوعًا أَيْ صَارَ كَوْنُ صَوْمِ رَمَضَانَ نَاسِخًا لِغَيْرِهِ مِنْ الصِّيَامَاتِ مُتَعَلِّقًا بِإِعْرَاضِهِ عَنْ الرُّخْصَةِ وَتَمَسُّكِهِ بِالْعَزِيمَةِ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ أَيْ لَمْ يُعْرِضْ عَنْ الرُّخْصَةِ لِمَا ذَكَرْنَا بَقِيَ أَيْ غَيْرُ صَوْمِ الْوَقْتِ مَشْرُوعًا لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَصَحَّ أَدَاؤُهُ وَهَذَا الطَّرِيقُ يُوجِبُ أَنَّهُ إذَا نَوَى النَّفَلَ يَقَعُ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ كَمَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ مَعْنَى الرُّخْصَةِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ إذْ هُوَ يَتَجَشَّمُ لِلْحَالِ مَرَارَةَ الْجُوعِ وَيَلْزَمُهُ قَضَاءُ فَرْضِ الْوَقْتِ فِي الثَّانِي وَلَا فَائِدَةَ فِي النَّفْلِ إلَّا الثَّوَابُ وَهُوَ فِي فَرْضِ الْوَقْتِ أَكْثَرُ فَكَانَ هَذَا مَيْلًا إلَى الْأَثْقَلِ لَا إلَى الْأَخَفِّ وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ التَّرَخُّصُ بَقِيَ صَوْمُ الْوَقْتِ مَشْرُوعًا فَيَتَأَدَّى بِنِيَّةِ النَّفْلِ كَمَا فِي حَقِّ الْمُقِيمِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يَقَعُ عَمَّا نَوَى لِأَنَّ انْتِفَاءَ شَرْعِيَّةِ النَّفْلِ لَيْسَ مِنْ حُكْمِ الْوُجُوبِ وَاسْتِحْقَاقِ الْأَدَاءِ بِمَنَافِعِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ بَلْ مِنْ حُكْمِ تَعَيُّنِ هَذَا الزَّمَانِ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ وَلَا تَعَيُّنَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأَدَاءِ فِيهِ وَالتَّأْخِيرِ إلَى عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ فَلَا يَنْتَفِي صِحَّةُ أَدَاءِ صَوْمٍ آخَرَ مِنْهُ بِهَذَا الْإِمْسَاكِ كَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُسَافِرَ ابْتِدَاءً بِصَوْمِ الْعِدَّةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّرَخُّصِ بِالْفِطْرِ فَتَأَجَّلَ وُجُوبُ الصَّوْمِ فِي حَقِّهِ بِالْإِضَافَةِ كَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ رَجَبًا وَهُوَ فِي غَيْرِ رَجَبٍ لَا يَجِبُ الصَّوْمُ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ فَلَمْ يَبْقَ فِي حَقِّهِ رَمَضَانُ فَرْضًا إلَّا أَنْ يُعَجِّلَهُ وَلَمَّا نَوَى صَوْمًا آخَرَ مَا عَجَّلَهُ فَبَقِيَ رَمَضَانُ فِي حَقِّهِ كَشَعْبَانَ مَا لَمْ يُعَجِّلْ الْفَرْضَ فَيَصِحُّ مِنْهُ أَدَاءُ النَّفْلِ وَغَيْرِهِ. وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ مُتَرَخِّصٌ بِأَدَاءِ النَّفْلِ أَيْضًا كَمَا أَنَّهُ مُتَرَخِّصٌ بِأَدَاءِ فَرْضٍ آخَرَ وَإِنَّ تَرَخُّصَهُ لَا يَبْطُلُ إلَّا بِصَوْمِ الْوَقْتِ وَأَمَّا إذَا أَطْلَقَ النِّيَّةَ فَعَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي لَا يَصِحُّ نِيَّةُ النَّفْلِ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ وَإِنْ بِنِيَّةِ النَّفْلِ لِمَا وَقَعَ عَنْ صَوْمِ الْوَقْتِ مَعَ أَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الْفَرْضَ فَبِالنِّيَّةِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي تَحْتَمِلُهُ أَوْلَى أَنْ يَقَعَ عَنْهُ وَعَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي يَقَعُ بِنِيَّةِ النَّفْلِ عَنْ النَّفْلِ قِيلَ إذَا أَطْلَقَ النِّيَّةَ لَا يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ لِأَنَّ رَمَضَانَ لَمَّا صَارَ فِي حَقِّهِ كَشَعْبَانَ حَتَّى قِيلَ سَائِرُ أَنْوَاعِ الصِّيَامِ لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ النِّيَّةِ كَمَا فِي الظُّهْرِ الْمُضَيَّقِ وَلِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَحْتَمِلُ النَّفَلَ وَالْفَرْضَ وَالْوَقْتُ يَقْبَلُهُمَا فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى النَّفْلِ الَّذِي هُوَ أَدْنَى أَوْلَى كَمَا فِي خَارِجِ رَمَضَانَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ عَلَى جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ لِأَنَّ التَّرَخُّصَ وَتَرْكَ الْعَزِيمَةِ وَهِيَ صَوْمُ الْوَقْتِ لَا يَثْبُتُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ أَوْ بِنِيَّةِ صَرِيحِ النَّفْلِ عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ وَهَذِهِ النِّيَّةُ لَا تَحْتَمِلُ وَاجِبًا آخَرَ غَيْرَ فَرْضِ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَدَّى بِمِثْلِ هَذِهِ النِّيَّةِ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ فَفِيهِ أَوْلَى وَلَيْسَتْ بِنِيَّةِ صَرِيحِ النَّفْلِ أَيْضًا بَلْ هِيَ تَحْتَمِلُهُ كَمَا تَحْتَمِلُ فَرْضَ الْوَقْتِ وَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ التَّرَخُّصُ الْتَحَقَ بِالْمُقِيمِ فَإِطْلَاقُ النِّيَّةِ مِنْهُ يَنْصَرِفُ إلَى صَوْمِ الْوَقْتِ وَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ الرُّخْصَةَ عِنْدَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْفِطْرِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ تَرْفِيهٍ يَرْجِعُ إلَيْهِ وَعِنْدَهُمَا هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْفِطْرِ لَا غَيْرُ قَوْلُهُ. (أَمَّا الْمَرِيضُ فَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا) إلَى آخِرِهِ احْتَرَزَ بِهِ عَمَّا رَوَى أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْجَوَابَ فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ سَوَاءٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَبِهَذِهِ الرِّوَايَةِ أَخَذَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ

فَأَمَّا الْمُسَافِرُ فَيَسْتَوْجِبُ الرُّخْصَةَ بِعَجْزٍ مُقَدَّرٍ بِقِيَامِ سَبَبِهِ وَهُوَ السَّفَرُ فَلَا يَظْهَرُ بِنَفْسِ الصَّوْمِ فَوَاتُ شَرْطِ الرُّخْصَةِ فَلَا يَبْطُلُ التَّرَخُّصُ فَيَتَعَدَّى حِينَئِذٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQ- رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا فَصَامَ رَمَضَانَ بِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَصِيرُ صَائِمًا عَمَّا نَوَى وَلَوْ صَامَ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَصِيرُ صَائِمًا عَنْ رَمَضَانَ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يَصِيرُ صَائِمًا عَمَّا نَوَى وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَالْقَاضِي الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ وَالْإِمَامِ ظَهِيرِ الدِّينِ الْوَلْوَالِجِيِّ وَالْقَاضِي الْإِمَامِ ظَهِيرِ الدِّينِ الْبُخَارِيِّ وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ أَبِي الْفَضْلِ الْكَرْمَانِيِّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْفَضْلِ فِي الْإِيضَاحِ وَكَانَ مَشَايِخُنَا يَفْصِلُونَ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا يَتَسَاوَيَانِ قَالَ وَقَدْ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ نَصًّا أَنَّهُ إذَا نَوَى التَّطَوُّعَ يَقَعُ عَنْ التَّطَوُّعِ وَمَا ذُكِرَ هَهُنَا اخْتِيَارُ الْمُصَنِّفِ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَمَنْ تَابَعَهُمَا قُلْت وَكَشْفُ هَذَا أَنَّ الرُّخْصَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْمَرَضِ بِإِجْمَاعٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَلَا يَعْبَأُ فِيهِ بِقَوْلِ مُخَالِفِيهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرَضَ مُتَنَوِّعٌ نَوْعٌ مِنْهُ مَا يَضُرُّ بِهِ الصَّوْمُ نَحْوُ الْحُمَّيَاتِ الْمُطْبِقَةِ وَوَجَعِ الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ وَغَيْرِهَا وَنَوْعٌ مِنْهُ مَا لَا يَضُرُّ بِهِ الصَّوْمُ كَالْأَمْرَاضِ الرُّطُوبِيَّةِ وَفَسَادِ الْهَضْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالتَّرَخُّصُ إنَّمَا ثَبَتَ لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْمَشَقَّةِ وَالضَّرَرِ تَرْفِيهًا فَمِنْ الْبَعِيدِ أَنْ يَثْبُتَ فِيمَا لَا حَاجَةَ فِيهِ إلَى دَفْعِ ضَرَرٍ. فَلِذَلِكَ شُرِطَ كَوْنُهُ مُفْضِيًا إلَى الْحَرَجِ بِخِلَافِ السَّفَرِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْمَشَقَّةَ بِكُلِّ حَالٍ فَتَعَلَّقَ التَّرَخُّصُ بِنَفْسِ السَّفَرِ وَأُقِيمَ السَّفَرُ مُقَامَ الْمَشَقَّةِ لِمَا عُرِفَ ثُمَّ عِنْدَنَا يَثْبُتُ التَّرَخُّصُ بِخَوْفِ ازْدِيَادِ الْمَرَضِ كَمَا يَثْبُتُ بِحَقِيقَةِ الْعَجْزِ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فَإِنَّ مَنْ ازْدَادَ وَجَعُهُ أَوْ حُمَّاهُ بِالصَّوْمِ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ وَإِنْ لَمْ يَعْجَزْ عَنْ الصَّوْمِ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا خِلَافُ ذَلِكَ فَهَذَا الْمَرِيضُ إنْ تَحَمَّلَ زِيَادَةَ الْمَرَضِ وَصَامَ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَقَعُ عَمَّا نَوَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسَافِرِ بِوَجْهٍ فَعَلَى هَذَا لَا يَسْتَقِيمُ الْفَرْقُ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكِتَابِ إلَّا بِتَأْوِيلٍ وَهُوَ أَنَّ الْمَرَضَ لَمَّا تَنَوَّعَ كَمَا ذَكَرْنَا تَعَلَّقَ التَّرَخُّصُ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الَّذِي يَضُرُّ بِهِ الصَّوْمُ بِخَوْفِ ازْدِيَادِ الْمَرَضِ وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ الْعَجْزُ الْحَقِيقِيُّ دَفْعًا لِلْحَرَجِ وَتَعَلَّقَ فِي النَّوْعِ الثَّانِي بِحَقِيقَةِ الْعَجْزِ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ بِهِ الصَّوْمُ لَكِنْ لَمَّا آلَ أَمْرُ الْمَرِيضِ إلَى الضَّعْفِ الَّذِي عَجَزَ بِهِ عَنْ الصَّوْمِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ التَّرَخُّصُ دَفْعًا لِلْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ كَمَا يَثْبُتُ بِالْإِكْرَاهِ إذْ مَعْنَى الْعَجْزِ أَنَّهُ لَوْ صَامَ لَهَلَكَ غَالِبًا فَإِذَا صَامَ هَذَا الْمَرِيضُ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ وَلَمْ يَهْلِكْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَاجِزًا وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ التَّرَخُّصُ فَيَقَعُ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ. فَظَهَرَ أَنَّ مُرَادَ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ مِنْ قَوْلِهِ الْجَوَابُ فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ سَوَاءٌ الْمَرِيضُ الَّذِي أَضَرَّ بِهِ الصَّوْمُ وَتَعَلَّقَ تَرَخُّصُهُ بِازْدِيَادِ الْمَرَضِ وَمُرَادُ الْمُصَنِّفِ مِنْ قَوْلِهِ إنَّ رُخْصَتَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِحَقِيقَةِ الْعَجْزِ الْمَرِيضُ الَّذِي لَمْ يَضُرَّ بِهِ الصَّوْمُ وَتَعَلَّقَ تَرَخُّصُهُ بِحَقِيقَةِ الْعَجْزِ. وَقَوْلُهُ فَإِنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَنَا كَذَا أَرَادَ بِهِ نَفْسَهُ وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّ رِوَايَةَ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ أَنَّ الْجَوَابَ فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ سَوَاءٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَوْ أُجْرِيَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا وَعُمُومِهَا مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ لَأَوْجَبَتْ تَعْمِيمَ الْحُكْمِ فِي حَقِّ كُلِّ مَرِيضٍ كَعُمُومِهِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ وَذَلِكَ فَاسِدٌ فَالشَّيْخُ نَظَرَ إلَى عُمُومِهَا الظَّاهِرِيِّ وَأَشَارَ إلَى الْفَسَادِ بِقَوْلِهِ فَإِنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَنَا كَذَا يُوَضِّحُ مَا ذَكَرْنَا مَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ فَأَمَّا الْمَرِيضُ إذَا نَوَى وَاجِبًا آخَرَ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقَعُ صَوْمُهُ مِنْ رَمَضَانَ لِأَنَّ إبَاحَةَ الْفِطْرِ لَهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ الصَّوْمِ فَأَمَّا عِنْدَ الْقُدْرَةِ فَهُوَ وَالصَّحِيحُ سَوَاءٌ بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ

بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ إلَى حَاجَتِهِ الدِّينِيَّةِ قَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَمَّا صَارَ الْوَقْتُ مُتَعَيَّنًا لِهَذَا الْمَشْرُوعِ صَارَ مَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الْإِمْسَاكِ فِي هَذَا الْوَقْتِ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْفَاعِلِ فَيَقَعُ لِلْمُسْتَحِقِّ بِكُلِّ حَالٍ كَصَاحِبِ النِّصَابِ إذَا وَهَبَهُ مِنْ الْفَقِيرِ بَعْدَ الْحَوْلِ وَكَأَجِيرِ الْوَحْدِ يَسْتَحِقُّ مَنَافِعَهُ قُلْنَا لَيْسَ التَّعْيِينُ بِاسْتِحْقَاقٍ لِمَنَافِعِ الْعَبْدِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ قُرْبَةً وَإِنَّمَا الْقُرْبَةُ فِعْلٌ يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ عَنْ اخْتِيَارٍ بِلَا جَبْرٍ بَلْ الشَّرْعُ لَمْ يُشَرَّعْ فِي هَذَا الْوَقْتِ مِمَّا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْإِمْسَاكُ قُرْبَةً إلَّا وَاحِدًا فَانْعَدَمَ غَيْرُ الْفَرْضِ الْوَقْتِيِّ لِعَدَمِ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا لَا بِاسْتِحْقَاقِ مَنَافِعِهِ كَمَا يَنْعَدِمُ فِي اللَّيْلِ أَصْلًا وَلَا اسْتِحْقَاقَ ثَمَّةَ فَإِذَا بَقِيَتْ الْمَنَافِعُ لَهُ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ التَّعْيِينِ وَلَمْ يُوجَدْ لِأَنَّ عَدَمَ الْعَزِيمَةِ لَيْسَ بِشَيْءٍ بِخِلَافِ هِبَةِ النِّصَابِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ تَصْلُحُ مَجَازًا عَنْ الصَّدَقَةِ اسْتِحْسَانًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ـــــــــــــــــــــــــــــQثُمَّ قَالَ وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ الْجَوَابَ فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ سَوَاءٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ سَهْوٌ أَوْ مُؤَوَّلٌ وَمُرَادُهُ مَرِيضٌ يُطِيقُ الصَّوْمَ وَيَخَافُ مِنْهُ زِيَادَةَ الْمَرَضِ فَهَذَا يَدُلُّك بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ) التَّنْبِيهُ الْإِعْلَامُ يَعْنِي جَوَازَ التَّرَخُّصِ بِالْفِطْرِ لِحَاجَتِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ تَنْبِيهٌ عَلَى جَوَازِهِ بِأَدَاءِ الصَّوْمِ لِحَاجَتِهِ الدِّينِيَّةِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّهُ أَهَمُّ فَيَتَعَدَّى التَّرَخُّصُ أَوْ الْحُكْمُ مِنْ الْفِطْرِ إلَى الصَّوْمِ الْوَاجِبِ لِلْحَاجَةِ بِالْقِيَاسِ أَوْ بِالدَّلَالَةِ. قَوْلُهُ (وَلَمَّا صَارَ مُتَعَيَّنًا) إلَى آخِرِهِ، الصَّحِيحُ الْمُقِيمُ إذَا أَمْسَكَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ وَلَمْ يُحْضِرْهُ النِّيَّةَ لَمْ يَكُنْ صَائِمًا عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَخْرُجُ بِهِ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ مَتَى تَعَلَّقَ بِمَحَلٍّ بِعَيْنِهِ أَخَذَ حُكْمَ الْعَيْنِ الْمُسْتَحَقِّ فَعَلَى أَيِّ وَصْفٍ وُجِدَ وَقَعَ عَنْ جِهَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ كَالْأَمْرِ بِرَدِّ الْمَغْصُوبِ وَالْوَدَائِعِ لَمَّا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِمَحَلٍّ بِعَيْنِهِ فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَوْقَعَ الْفِعْلَ لَا يَقَعُ إلَّا عَنْ الْجِهَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ عَلَيْهِ كَالْأَمْرِ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ لَمَّا تَعَلَّقَ بِمَحَلِّ عَيْنٍ وَهُوَ النِّصَابُ كَانَ الصَّرْفُ إلَى الْفَقِيرِ وَاقِعًا عَنْ الْجِهَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ حَتَّى لَوْ وَهَبَ النِّصَابَ مِنْ الْفَقِيرِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ وَكَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ إنْسَانًا لِيَخِيطَ لَهُ ثَوْبًا كَانَ الْفِعْلُ الْوَاقِعُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ مَا اُسْتُحِقَّ عَلَيْهِ سَوَاءٌ قَصَدَ بِهِ التَّبَرُّعَ أَوْ أَدَاءَ الْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ وَالْفِقْهُ الْجَامِعُ لِلْكُلِّ أَنَّهُ لَمَّا أُخِذَ تَعَلُّقًا بِمَحَلِّ عَيْنٍ كَانَ مُتَعَيَّنًا عَلَى اعْتِبَارِ الْوُجُودِ فَإِذَا وُجِدَ وَقَعَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ دَيْنًا بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَجِبُ إيجَادُهُ وَلَنَا حَرْفَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الذِّمَّةِ أُمِرَ الْعَبْدُ بِتَحْصِيلِهِ وَإِيجَادِهِ فِي وَقْتٍ عُيِّنَ وَالْإِيجَادُ بِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ وَصُورَتُهُ الْإِمْسَاكُ وَمَعْنَاهُ كَوْنُهُ عِبَادَةً. وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْعَزِيمَةِ وَلَمْ تُوجَدْ فَلَا يَقَعُ عَنْ الْجِهَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ وَإِنْ تَعَيَّنَ لَهُ بِخِلَافِ هِبَةِ النِّصَابِ لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ تَمَّ بِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ وَكَذَا الْفِعْلُ فِي الْإِجَارَةِ تَمَّ بِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ وَالثَّانِي وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ مَنَافِعَهُ مَعَ تَعَيُّنِ الْوَقْتِ لِلْفَرْضِ وَاسْتِحْقَاقِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ بَقِيَتْ عَلَى مِلْكِهِ وَنَعْنِي بِهَا الصَّلَاحِيَّةَ الَّتِي يَتَمَكَّنُ بِهَا مِنْ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ أَوْ غَيْرِهَا وَهُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُؤَدِّيَ بِهَا مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ مِنْ الْعِبَادَةِ وَذَلِكَ بِأَدَاءٍ يَكُونُ مِنْهُ عَنْ اخْتِيَارٍ فَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِدُونِ الْعَزِيمَةِ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَعْزِمْ لَا يَكُونُ صَارِفًا مَالَهُ إلَى مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِعَدَمِ الْعَزِيمَةِ لِأَنَّ الْعَدَمَ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَلَا يُقَالُ الْإِمْسَاكُ وُجِدَ مِنْهُ اخْتِيَارًا فَلَا حَاجَةَ إلَى النِّيَّةِ لِيَحْصُلَ الِاخْتِيَارُ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّمَا شَرَطْنَا الِاخْتِيَارَ فِي صَرْفِ هَذَا الْفِعْلِ عَنْ الْعَادَةِ إلَى الْعِبَادَةِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِدُونِ النِّيَّةِ وَإِنَّمَا لَا يُمْكِنُهُ صَرْفُ مَنَافِعِهِ إلَى أَدَاءِ صَوْمٍ آخَرَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لَا لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ كَمَا لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ فِي اللَّيْلِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَجِيرِ فَإِنَّ الْمُسْتَحَقَّ مَنَافِعُهُ إنْ كَانَ أَجِيرًا وَاحِدًا وَالْوَصْفُ الَّذِي يَحْدُثُ فِي الثَّوْبِ إنْ كَانَ أَجِيرًا مُشْتَرَكًا فِيهِ وَذَلِكَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عَزْمٍ يَكُونُ مِنْهُ وَبِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ الْمُسْتَحِقَّ صَرْفَ جُزْءٍ مِنْ الْمَالِ إلَى الْمُحْتَاجِ لِيَكُونَ كِفَايَةً لَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فَالْهِبَةُ صَارَتْ عِبَارَةً عَنْ الصَّدَقَةِ فِي حَقِّهِ مَجَازًا لِأَنَّ الْمُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ الْعِوَضِ مِنْ الْمَصْرُوفِ إلَيْهِ كَمَا أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْغَنِيِّ صَارَتْ عِبَارَةً عَنْ الْهِبَةِ حَتَّى مَلَكَ الْمُتَصَدِّقُ الرُّجُوعَ بِدَلَالَةٍ فِي الْمَحَلِّ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ وَفِي مَسْأَلَةِ هِبَةِ النِّصَابِ مَعْنَى الْقَصْدِ حَصَلَ

لَمَّا كَانَتْ مَنَافِعُهُ بَقِيَتْ عَلَى مِلْكِهِ وَجَبَ التَّعْيِينُ حَتَّى يَصِيرَ مُخْتَارًا لَا مَجْبُورًا وَلَوْ وَضَعْنَا عَنْهُ تَعْيِينَ الْجِهَةِ لَصَارَ مَجْبُورًا فِي صِفَةِ الْعِبَادَةِ وَلَخَلَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ عَنْ الْإِقْبَالِ وَالْعَزِيمَةِ وَقُلْنَا الْأَمْرُ عَلَى مَا قُلْت إلَّا أَنَّهُ لَمَّا اتَّحَدَ الْمَشْرُوعُ فِي هَذَا الْوَقْتِ تَعَيَّنَ فِي زَمَانِهِ فَأُصِيبَ بِمُطْلَقِ الِاسْمِ وَلَمْ يُفْقَدْ بِالْخَطَإِ فِي الْوَصْفِ كَالْمُتَعَيَّنِ فِي مَكَانِهِ فَصَارَ جَوَازُهُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ عَلَى أَنَّهُ تَعْيِينٌ لَا عَلَى أَنَّ التَّعْيِينَ عَنْهُ مَوْضُوعٌ فَكَانَ هَذَا مِنَّا قَوْلًا بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ـــــــــــــــــــــــــــــQبِاخْتِيَارِ الْمَحَلِّ وَمَعْنَى الْقُرْبَةِ حَصَلَ لِحَاجَةِ الْمَحَلِّ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ وَهَبَ لِفَقِيرٍ شَيْئًا لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِيهِ لِحُصُولِ الثَّوَابِ لَهُ فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخَصْمَ نَظَرَ إلَى الْإِمْسَاكِ فَقَالَ هُوَ الْوَاجِبُ لَا غَيْرُ وَجَعَلَ تَأْثِيرَ النِّيَّةِ فِي تَحْصِيلِ الْإِيقَاعِ عَنْ الْجِهَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ إذَا تَعَلَّقَ بِمَحَلٍّ عُيِّنَ وَنَحْنُ جَعَلْنَا تَأْثِيرَهَا فِي تَحْصِيلِ مَعْنَى الْإِمْسَاكِ وَهُوَ كَوْنُهُ عِبَادَةً وَوَقَفْنَا الْحُصُولَ عَلَى وُجُودِ الْمَعْنَى كَمَا وَقَفْنَا عَلَى حُصُولِ الصُّورَةِ أَوْ جَعَلْنَا تَأْثِيرَهَا فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الِاخْتِيَارِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ فِي تَحْصِيلِ الْعِبَادَةِ ثُمَّ بَعْدَ حُصُولِ الْمَعْنَى أَوْ حُصُولِ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ عَنْ اخْتِيَارٍ أَعْرَضْنَا عَنْ تَعْيِينِ النِّيَّةِ كَمَا نَذْكُرُهُ مَعَ الشَّافِعِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُنْكِرُ هَذَا الْمَذْهَبَ لِزُفَرَ وَيَقُولُ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُ أَنَّ صَوْمَ جَمِيعِ الشَّهْرِ يَتَأَدَّى بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا الِاخْتِلَافُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ فَأَمَّا الْمَرِيضُ أَوْ الْمُسَافِرُ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ صَائِمًا مَا لَمْ يَبْقَ. وَالْفَرْقُ لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْأَدَاءَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَلَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِنِيَّتِهِ بِخِلَافِ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ وَقُلْنَا إنَّمَا يَشْتَرِطُ النِّيَّةَ لِيَصِيرَ الْفِعْلُ قُرْبَةً وَفِي هَذَا الْمُسَافِرُ وَالْمُقِيمُ سَوَاءٌ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَقَوْلُهُ كَصَاحِبِ النِّصَابِ أَدَاءً وَهِبَةً مِنْ الْفَقِيرِ بَعْدَ الْحَوْلِ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ مَقِيسًا عَلَيْهِ لِزُفَرَ إذَا لَمْ يَحْصُلْ لِلْفَقِيرِ غِنًى بِهَذِهِ الْهِبَةِ بِأَنْ كَانَ مَدْيُونًا أَوْ وَهَبَهُ مُتَفَرِّقًا فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا لِأَنَّ إيتَاءَ مَأْتِيِّ دِرْهَمٍ إلَى الْفَقِيرِ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ لَا يَصِحُّ عِنْدَهُ وَلَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ الْعُهْدَةِ فَمَا ظَنُّك فِي الْهِبَةِ بِدُونِ نِيَّةِ الزَّكَاةِ إلَّا إذَا أَرَادَ بِهِ الْإِلْزَامَ عَلَى مَذْهَبِ الْخَصْمِ مِمَّا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْإِمْسَاكُ قُرْبَةً أَيْ مِنْ فَرْضِ الْوَقْتِ وَالْقَضَاءُ وَالْمَنْذُورُ وَالْكَفَّارَةُ وَالنَّفَلُ إلَّا وَاحِدًا وَهُوَ فَرْضُ الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ التَّعْيِينِ أَيْ تَعْيِينِ الْمَنَافِعِ لِلْعِبَادَةِ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ أَيْ عَقْدُ الْهِبَةِ عِبَارَةٌ وَالْعِبَارَةُ شَيْءٌ فَأَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ مَجَازًا عَنْ الصَّدَقَةِ بِخِلَافِ عَدَمِ الْعَزِيمَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ 1 - قَوْلُهُ (لِمَا بَقِيَتْ مَنَافِعُهُ) أَيْ إلَى آخِرِهِ يَصِحُّ صَوْمُ رَمَضَانَ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ وَنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ وَنِيَّةِ الصَّوْمِ مُطْلَقًا عَنْ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَصِحُّ عَنْ أَحَدٍ بِنِيَّةٍ مَا إلَّا بِنِيَّةِ فَرْضَ رَمَضَان لِأَنَّ مَنَافِعَهُ لَمَّا بَقِيَتْ عَلَى مِلْكِهِ وَجَبَ التَّعْيِينُ أَيْ تَعْيِينُ الْجِهَةِ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ صَرْفُ مَالِهِ إلَى مَشْرُوعِ الْوَقْتِ مَا لَمْ يُعَيِّنْهُ فِي عَزِيمَتِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الصَّوْمَ مُتَنَوِّعٌ فِي أَوْصَافِهِ فَرْضًا وَنَفْلًا كَأَصْلِ الْإِمْسَاكِ مُتَنَوِّعٌ إلَى عَادَةٍ وَعِبَادَةٍ وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ مُعْتَبَرٌ فِي الْوَصْفِ كَمَا هُوَ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَصْلِ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ وَيَحْصُلُ بِهِ زِيَادَةُ ثَوَابٍ وَيَسْتَحِقُّ تَارِكُهُ زِيَادَةَ تَغْلِيظٍ فِي الْعِقَابِ فَكَانَ الْوَصْفُ بِنَفْسِهِ عِبَادَةً كَأَصْلِ الصَّوْمِ وَمِنْ الْمُمْتَنِعِ حُصُولُ عِبَادَةٍ لَا عَنْ اخْتِيَارٍ مِنْ الْعَبْدِ فَكَمَا شُرِطَتْ الْعَزِيمَةُ لِلْأَصْلِ نَفْيًا لِلْجَبْرِ فَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ لِلْوَصْفِ لِهَذَا الْمَعْنَى كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا يُقَالُ تَعَيَّنَ الْمَحَلِّ لِقَبُولِ الْمَشْرُوعِ دُونَ غَيْرِهِ قَدْ أَغْنَى عَنْ تَعْيِينِ الْوَصْفِ لِأَنَّا نَقُولُ تَعَيُّنُ الْوَصْفِ وَاجِبٌ عَلَى الْعَبْدِ لِيَقَعَ عَنْ اخْتِيَارٍ وَلَا يُغْنِي تَعَيُّنُ الْمَحَلِّ عَنْ ذَلِكَ شَيْئًا إذْ نَحْنُ مَا اعْتَبَرْنَا النِّيَّةَ لِلتَّمْيِيزِ حَتَّى يَسْقُطَ اعْتِبَارُ التَّمَيُّزِ بِالنِّيَّةِ بِتَعَيُّنِ الْمَحَلِّ وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَتْ لِلتَّحْصِيلِ عَلَى مَا حَقَّقْنَا وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ حُجَّةُ الْفَرْضِ حَيْثُ يَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ بِالْإِجْمَاعِ وَبِنِيَّةِ النَّفْلِ عِنْدِي لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ. وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQ- عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يُلَبِّي عَنْ شُبْرُمَةَ فَقَالَ وَمَنْ شُبْرُمَةَ فَقَالَ أَخٌ لِي أَوْ صَدِيقٌ لِي فَقَالَ أَحَجَجْت عَنْ نَفْسِك قَالَ لَا فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حُجَّ عَنْ نَفْسِك ثُمَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» فَأُمِرَ بِالْحَجِّ لِنَفْسِهِ بِإِحْرَامٍ انْعَقَدَ لِغَيْرِهِ فَجَوَّزْنَا عَنْ الْفَرْضِ بِنِيَّةِ النَّفْلِ أَيْضًا دَلَالَةً وَلَا يُمْكِنُ إلْحَاقُ الصَّوْمِ بِالْحَجِّ لِأَنَّ أَمْرَ الْحَجِّ عَظِيمُ الْخَطَرِ لِمَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى زِيَادَةِ مَشَقَّةٍ وَلَيْسَ الصَّوْمُ فِي مَعْنَاهُ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْأَمْرُ عَلَى مَا قُلْت أَيْ لَا بُدَّ لِلْوَصْفِ مِنْ التَّحْصِيلِ بِالنِّيَّةِ نَفْيًا لِلْجَبْرِ كَمَا لَا بُدَّ لِلْأَصْلِ مِنْهُ إلَّا أَنَّ النِّيَّةَ الْمَوْجُودَةَ شَامِلَةٌ لِلْأَصْلِ وَالْوَصْفِ. وَبَيَانُهُ أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ نِيَّةُ الصَّوْمِ الْمَشْرُوعِ فِيهِ حَتَّى إذَا نَوَى بِهَذَا الْوَصْفِ أَجْزَأَهُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ فَرْضًا وَهُوَ بِنِيَّةِ أَصْلِ الصَّوْمِ نَوَى مَشْرُوعُ الْوَقْتِ لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ فِيهِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْفَرْضُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَالْوَاحِدُ فِي مَكَان أَوْ زَمَانٍ يُنَالُ بِاسْمِ جِنْسِهِ كَمَا يُنَالُ بِاسْمِ نَوْعِهِ بِاسْمِهِ الْعَلَمِ فَإِنَّ زَيْدًا لَوْ نُودِيَ يَا إنْسَانُ أَوْ يَا رَجُلُ وَهُوَ مُنْفَرِدٌ فِي الدَّارِ كَانَ كَمَا قِيلَ يَا زَيْدُ فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ الْإِمْسَاكُ قَدْ وُجِدَ بِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ لِأَنَّهُ نَوَى الصَّوْمَ وَهُوَ وَاحِدٌ فَيَتَنَاوَلُهُ مُطْلَقُ الِاسْمِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ عُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إنَّهُ صَوْمٌ عُيِّنَ فَيَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ كَالنَّفْلِ وَفِي غَيْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ لَا صَوْمَ مَعَ النَّفْلِ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ فِي أَصْلِ الشَّرْعِ وَإِنَّمَا يُوجَدُ غَيْرُهُ بِعَوَارِضَ وَكَذَلِكَ إذَا نَوَى النَّفَلَ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِأَنَّهُ نَفْلٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَلَغَتْ نِيَّةُ النَّفْلِ وَبَقِيَتْ نِيَّةُ الصَّوْمِ فَصَارَ كَمَا لَوْ نَوَى الصَّوْمَ مُطْلَقًا بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا نَوَى الْفَرْضَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ وَلَا فَرْضَ عَلَيْهِ يَكُونُ نَفْلًا لِأَنَّ الْوَصْفَ لَغَا فَبَقِيَ مُطْلَقُ النِّيَّةِ. (فَإِنْ قِيلَ) الْوَاحِدُ فِي الْمَكَانِ إنَّمَا يُنَالُ بِاسْمِ جِنْسِهِ إذَا كَانَ مَوْجُودًا وَهَهُنَا الصَّوْمُ مَعْدُومٌ يُوجَدُ بِتَحْصِيلِهِ فَكَيْفَ يُنَالُ الْمَعْدُومُ بِاسْمِ جِنْسِهِ (قُلْنَا) كَوْنُهُ مَعْدُومًا لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يُنَالَ بِاسْمِ نَوْعِهِ بِأَنْ نَوَى الصَّوْمَ الْمَشْرُوعَ فِي الْوَقْتِ فَكَذَلِكَ بِاسْمِ جِنْسِهِ لِأَنَّ اسْمَ جِنْسِهِ اسْمُهُ كَمَا أَنَّ اسْمَ نَوْعِهِ اسْمُهُ (فَإِنْ قِيلَ) لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَتَأَدَّى بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ أَوْ بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّ الْمُتَوَحِّدَ فِي الْمَكَانِ يُنَالُ بِاسْمِهِ وَلَا يُنَالُ بِاسْمِ غَيْرِهِ فَإِنَّ زَيْدًا لَا يُنَالُ بِاسْمِ عَمْرٍو وَإِنْ كَانَ يُنَالُ بِاسْمِ إنْسَانٍ وَرَجُلٍ كَيْفَ وَأَنَّهُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ مُعْرِضٌ عَنْ الْفَرْضِ لِأَنَّهُ تَرَكَ الثَّقِيلَ إلَى الْخَفِيفِ فَإِنَّهُ لَوْ أَفْطَرَ فِي النَّفْلِ أَوْ فِي الْقَضَاءِ لَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ مُقْبِلًا عَلَيْهِ لِتَضَادٍّ بَيْنَهُمَا يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ اعْتَقَدَ الْمَشْرُوعَ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَنَّهُ نَفْلٌ يَكْفُرُ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ نَاوِيًا لِلصَّوْمِ الْمَشْرُوعِ بِنِيَّةِ النَّفْلِ. (قُلْنَا) إنَّهُ قَدْ نَوَى أَصْلَ الصَّوْمِ وَوَصْفَهُ وَالْوَقْتُ لَا يَقْبَلُ وَصْفَهُ فَلَغَتْ نِيَّةُ الْوَصْفِ وَبَقِيَتْ نِيَّةُ الْأَصْلِ إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ بُطْلَانِ الْوَصْفِ بُطْلَانُ الْأَصْلِ لِأَنَّ قِوَامَ الْأَصْلِ لَيْسَ بِالْوَصْفِ وَأَصْلُ الصَّوْمِ جِنْسُهُ لَا اسْمُ غَيْرِهِ بِخِلَافِ عَمْرٍو فَإِنَّهُ لَيْسَ بِاسْمِ جِنْسٍ أَصْلًا وَالْأَعْرَاضُ إنَّمَا تَثْبُتُ فِي ضِمْنِ نِيَّةِ النَّفْلِ وَقَدْ لَغَتْ الِاتِّفَاقَ فَيَلْغُو مَا فِي ضِمْنِهَا وَنَظِيرُهُ الْحَجُّ عَلَى مَذْهَبِهِ وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلُهُ إنَّهُ لَوْ اعْتَقَدَ فِيهِ أَنَّهُ نَفْلٌ يَكْفُرُ وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي طَرِيقَتِهِ أَنَّ الْفَرِيضَةَ اسْمٌ لِفِعْلٍ أَلْزَمهُ اللَّهُ تَعَالَى وَبَيَّنَ مِقْدَارَهُ وَأَظْهَرَ لَنَا إلْزَامَهُ لِذَلِكَ الْفِعْلِ بِطَرِيقٍ لَا رِيبَةَ فِيهِ فَلَوْلَا الْإِلْزَامُ الظَّاهِرُ لَمَا سُمِّيَ الْفِعْلُ فَرِيضَةً وَالْعِبَادَةُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يَحْصُلُ عَلَى طَرِيقِ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى فِيهِ

لَمَّا وَجَبَ التَّعْيِينُ شَرْطًا بِالْإِجْمَاعِ وَجَبَ مِنْ أَوَّلِهِ لِأَنَّ أَوَّلَ أَجْزَائِهِ فِعْلٌ مُفْتَقِرٌ إلَى الْعَزِيمَةِ فَإِذَا تَرَاخَى بَطَلَ فَإِذَا اعْتَرَضَتْ الْعَزِيمَةُ مِنْ بَعْدُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْمَاضِي بِوَجْهٍ لِأَنَّ إخْلَاصَ الْعَبْدِ فِيمَا قَدْ عَمِلَهُ لَا يَتَحَقَّقُ وَإِنَّمَا هُوَ لِمَا لَمْ يَعْمَلْهُ بَعْدُ فَإِذَا فَسَدَ ذَلِكَ الْجُزْءُ فَسَدَ الْبَاقِي لِأَنَّهُ لَا يَنْجَزِئُ وَوَجَبَ تَرْجِيحُ جَانِبِ الْفَسَادِ احْتِيَاطًا ـــــــــــــــــــــــــــــQلِغَيْرِهِ شَرِكَةٌ وَلِهَذَا كَانَتْ الْعِبَادَةُ مَشْرُوعَةً بِخِلَافِ هَوَى النَّفْسِ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَلَى مُوَافَقَةِ الْهَوَى لَتَسَارَعَ إلَيْهَا الْمُكَلَّفُونَ لِمَا فِيهَا مِنْ دَاعِيَةِ الْهَوَى وَاسْتِلْذَاذِ النَّفْسِ لِذَلِكَ فَيَتَحَقَّقُ فِيهَا الشَّرِكَةُ فَيَزُولُ مَعْنَى الْإِخْلَاصِ فَكَانَتْ الْعِبَادَةُ اسْمًا لِلْفِعْلِ لَا لِعَيْنِهِ بَلْ لِوُجُودِ فِعْلٍ آخَرَ مِنْ الْفَاعِلِ وَهُوَ الْإِخْلَاصُ وَهُوَ يَحْصُلُ بِالنِّيَّةِ وَهِيَ أَنْ يَقْصِدَ بِقَلْبِهِ تَوْجِيهَ فِعْلِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ فَإِذَا وُجِدَ الْقَصْدُ هَهُنَا كَانَ الْإِمْسَاكُ عِبَادَةً فَبَعْدَ ذَلِكَ اتِّسَامُهُ بِسِمَةِ الْفَرْضِيَّةِ لَنْ يَتَعَلَّقَ بِفِعْلٍ يُوجَدُ مِنْ الْعَبْدِ بَلْ يَتَعَلَّقُ بِوُجُودِ الْإِلْزَامِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقٍ ظَهَرَ ثُبُوتُهُ بِيَقِينٍ وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فِي هَذَا الْيَوْمِ بِعَيْنِهِ فَتَتَّسِمُ هَذِهِ الْعِبَادَةُ بِهَذِهِ السِّمَةِ شَاءَ الْعَبْدُ أَوْ لَمْ يَشَأْ كَالْمَوْلُودِ إذَا وُلِدَ وَقَدْ كَانَتْ أُمُّهُ وَلَدَتْ قَبْلَهُ آخَرَ يَتَّسِمُ هَذَا بِسِمَةِ الْأُخُوَّةِ لِوُجُودِ مَنْ يُقَابِلُهُ. فَكَذَا هَذَا غَيْرَ أَنَّ مَنْ نَوَى نَفْلًا أَوْ وَاجِبًا آخَرَ ظَنَّ أَنْ لَا أَمْرَ بِتَحْصِيلِ عِبَادَةِ الصَّوْمِ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَأَنَّ الْعِبَادَةَ وَإِنْ حَصَلَتْ وَحَصَلَ الْإِمْسَاكُ لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَتَّسِمْ بِسِمَةِ الْفَرْضِ لِزَوَالِ الْأَمْرِ بِالْإِمْسَاكِ الْمُعَيَّنِ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَهَذَا الظَّنُّ مِنْهُ فَاسِدٌ كَمَا ظَنَّ أَنَّ هَذَا الْمَوْلُودَ لَا يُسَمَّى أَخًا لِأَنَّ أُمَّهُ مَا وَلَدَتْ قَبْلَهُ وَقَدْ كَانَتْ وَلَدَتْ كَانَ الظَّنُّ بَاطِلًا وَالْإِثْمُ ثَابِتًا كَذَا هَذَا قَالَ وَعَنْ هَذَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُصَوَّرَةٌ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ إذَا شَكَّ إنْسَانٌ فِيهِ وَشَرَعَ بِهَذِهِ النِّيَّاتِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى يَكُونَ هَذَا الظَّنُّ مَعْفُوًّا فَأَمَّا لَوْ وُجِدَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَيَّامِ فَيُخْشَى عَلَيْهِ الْكُفْرُ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَا أَمْرَ بِالْإِمْسَاكِ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْمُعَيَّنِ بِتَعْيِينِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْإِمْسَاكِ وَمِثْلُ هَذَا الظَّنِّ يُخْشَى مِنْهُ الْكُفْرُ ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَنْ وَقَفَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا عَرَفَ جَيِّدَ الْخُصُومِ عَنْ سُنَنِ الصَّوَابِ بِتَعَلُّقِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» فَإِنَّا سَلَّمْنَا أَنَّ الْعَمَلَ لَنْ يَصِيرَ عِبَادَةً بِدُونِ النِّيَّةِ لَكِنْ وُجِدَتْ النِّيَّةُ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَإِنَّمَا الْخَصْمُ هُوَ الَّذِي تَرَكَ الْعَمَلَ بِالْجَبْرِ حَيْثُ أَخْرَجَ عَمَلَهُ الْمَقْرُونَ بِالْإِخْلَاصِ عَنْ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً وَكَذَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» يَقْتَضِي جَوَازَ الصَّوْمِ لِوُجُودِ النِّيَّةِ ثُمَّ يَكُونُ الصَّوْمُ فَرْضَ الْوَقْتِ لِوُجُودِ الْإِلْزَامِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ تَوَقَّفَ عَلَيْهِ بِطَرِيقٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ 1 - قَوْلُهُ (لَمَا وَجَبَ التَّعْيِينُ شَرْطًا بِالْإِجْمَاعِ) أَيْ وَجَبَ تَعْيِينُ مَشْرُوعِ الْوَقْتِ بِاتِّفَاقٍ بَيْنَنَا أَمَّا بِتَعْيِينِ الْوَصْفِ كَمَا قُلْت أَوْ بِتَعْيِينِ الْأَصْلِ كَمَا قُلْتُمْ وَجَبَ أَنْ يَشْتَرِطَ مِنْ أَوَّلِهِ فَإِذَا صَامَ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ لَا يُجْزِيهِ لِأَنَّ الصَّوْمَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ النَّهَارِ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ إلَّا بِالنِّيَّةِ فَإِذَا خَلَا أَوَّلُهُ عَنْ النِّيَّةِ فَسَدَ لِفَقْدِ شَرْطٍ وَلَا وَجْهَ إلَى تَصْحِيحِهِ بِأَعْمَالِ النِّيَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ فِي الْمَاضِي بِطَرِيقِ الْإِلْحَاقِ بِأَوَّلِ النَّهَارِ لِأَنَّ الْعَزْمَ أَثَرُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ حَيْثُ تَحْقِيقُهُ وَإِيجَادُهُ دُونَ تَصْحِيحِ الْمَاضِي لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ يَدِهِ وَلَمْ يَبْقَ قَادِرًا وَلَا وَجْهَ لِاعْتِبَارِهِ فِي الْأَكْثَرِ وَإِقَامَتِهِ مَقَامَ الْكُلِّ لِأَنَّهُ أَمْرٌ تَرُدُّهُ الْحَقِيقَةُ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْكُلِّ وَلَمْ يُوجَدْ فَإِنْزَالُهُ مُوجِدًا فِي الْكُلِّ بِالْإِيجَادِ فِي الْبَعْضِ خِلَافُ الْحَقِيقَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُكْتَفَى بِالْإِمْسَاكِ فِي الْأَكْثَرِ وَلَا يُقَامُ مُقَامَ الْكُلِّ فَكَذَا فِي اعْتِبَارِ النِّيَّةِ الَّتِي بِهَا يُوجَدُ مَعْنَى الصَّوْمِ وَإِذَا فَسَدُوا لَهُ بِعَدَمِ الْعَزِيمَةِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مُتَجَزِّئٍ فَسَدَ الْبَاقِي ضَرُورَةَ عَدَمِ التَّجَزِّي. وَلَا يُقَالُ لَمَّا صَحَّ الْبَاقِي بِوُجُودِ الْعَزِيمَةِ فِيهِ صَحَّ الْكُلُّ ضَرُورَةَ عَدَمِ التَّجَزِّي أَيْضًا لِأَنَّا نَقُولُ تَرْجِيحُ الْفَسَادِ فِي بَابِ الْعِبَادَةِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ إذْ فِيهِ الْخُرُوجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ وَوَجَبَ

وَهَذَا بِخِلَافِ التَّقْدِيمِ لِأَنَّ التَّقْدِيمَ وَاقِعٌ عَلَى جُمْلَةِ الْإِمْسَاكِ وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ مَا يُبْطِلُهُ فَبَقِيَ فَأَمَّا الْمُعْتَرِضُ فَلَا يَحْتَمِلُ التَّقَدُّمَ أَلَا تَرَى أَنَّ النِّيَّةَ بَعْدَ نِصْفِ النَّهَارِ لَا يَصِحُّ وَأَلَا تَرَى أَنَّ فِي الصَّوْمِ الدَّيْنُ وَجَبَ الْفَصْلُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ـــــــــــــــــــــــــــــQتَرْجِيحُ الْفَسَادِ احْتِيَاطًا وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ النَّفَلُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ شَرْعًا فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ صَائِمًا مِنْ حِينَ نَوَى لِمَا بَيَّنَهُ. قَوْلُهُ (وَهَذَا بِخِلَافِ التَّقْدِيمِ) أَيْ تَأْخِيرُ النِّيَّةِ عَنْ أَوَّلِ الْإِمْسَاكَاتِ يُخَالِفُ تَقْدِيمَهَا عَلَيْهِ حَيْثُ جَازَ التَّقْدِيمُ مَعَ أَنَّ النِّيَّةَ لَمْ تَقْتَرِنْ بِأَوَّلِهِ أَيْضًا وَلَمْ يَجُزْ التَّأْخِيرُ وَالْفَرْقُ أَنَّ التَّقْدِيمَ وَاقِعٌ عَلَى جُمْلَةِ الْإِمْسَاكِ يَعْنِي أَنَّهُ قَدْ عَزَمَ فِي اللَّيْلِ أَنَّهُ يُمْسِكُ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ الْفَجْرِ إلَى الْغُرُوبِ فَصَحَّتْ النِّيَّةُ بِوَضْعِهَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا عَزْمًا فِي الْمُسْتَقْبِلِ وَلَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى مَا قَدَّمَ مِنْ النِّيَّةِ مَا يُبْطِلُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مَا يُضَادُّهُ مِنْ تَرْكِ الْعَزِيمَةِ وَالْإِفْطَارِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْمُوَاقَعَةُ فِي اللَّيْلِ لَا يُنَافِي الْعَزِيمَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْمُنَافَاةِ اتِّحَادَ الْمَحَلِّ وَاللَّيْلُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلصَّوْمِ أَصْلًا فَالْأَكْلُ وَمَا يُشْبِهُهُ لَا يُنَافِي عَزِيمَتَهُ فَإِذَا لَمْ يَبْطُلْ يُحْكَمُ بِبَقَائِهَا إلَى حِينِ الشُّرُوعِ لِتَعَذُّرِ اعْتِبَارِهَا مُقْتَرِنَةً بِحَالَةِ الشُّرُوعِ وَلِهَذَا عَمَّ الْجَوَازُ أَنْوَاعَ الصِّيَامَاتِ مِنْ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ فَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَقْدِيمُهُ أَصْلًا فَلَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِهِ لِأَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يُقَدَّرُ حُكْمًا إذَا تُصُوِّرَ حَقِيقَةً وَهَذَا كَالنِّيَّةِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ جُعِلَتْ بَاقِيَةً حُكْمًا إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ. أَمَّا النِّيَّةُ الْمَوْجُودَةُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ فَلَا يُحْكَمُ بِاقْتِرَانِهَا بِأَوَّلِ الصَّلَاةِ لِلتَّعَذُّرِ كَذَا هُنَا ثُمَّ اسْتَوْضَحَ الشَّيْخُ مَا ذُكِرَ مِنْ الْفَرْقِ بِمَسْأَلَتَيْنِ فَقَالَ أَلَا تَرَى أَنَّ النِّيَّةَ بَعْدَ نِصْفِ النَّهَارِ لَا تَصِحُّ وَلَوْ جَازَ الْحُكْمُ بِاقْتِرَانِ هَذِهِ النِّيَّةِ بِأَوَّلِ الْإِمْسَاكِ كَمَا جَازَ فِي الْمُتَقَدِّمَةِ لَمَا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ بَيْنَ أَوَّلِ النَّهَارِ وَآخِرِهِ كَمَا لَمْ يَخْتَلِفْ الْحُكْمُ هُنَاكَ بَيْنَ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَآخِرِهِ وَأَلَا تَرَى أَنَّ فِي الصَّوْمِ الدَّيْنِ وَجَبَ الْفَصْلُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَيْ بَيْنَ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ وَتَأْخِيرِهَا حَيْثُ جَازَ التَّقْدِيمُ وَلَمْ يَجُزْ التَّأْخِيرُ بِالْإِجْمَاعِ فَكَذَلِكَ هَهُنَا لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنْ سَائِرِ الصِّيَامَاتِ فَإِنَّ الْإِفْطَارَ فِيهِ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ دُونَ غَيْرِهِ وَعِنْدَنَا إذَا صَامَ فِي رَمَضَانَ بِنِيَّةٍ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ يُجْزِيهِ وَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ طَرِيقُ أَصْحَابِنَا فَمِنْهُمْ مَنْ سَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّفْلِ وَفِي الْجَوَازِ وَمِنْهُمْ مَنْ سَوَّى بَيْنَ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ وَتَأْخِيرِهَا وَهَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ فَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ فَنَقُولُ لَمَّا كَانَتْ النِّيَّةُ شَرْطًا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ شَرْطًا عَلَى وَجْهٍ لَا يُؤَدِّي إلَى فَوَاتِ الْمَشْرُوطِ وَلِهَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ مُقَارَنَتُهَا بِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْعِبَادَةِ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ وَلَا بِالْجُزْءِ الْأَوَّلِ فِي بَابِ الصَّوْمِ لِامْتِنَاعِ تَحْصِيلِهَا وَتَعَذُّرِ تَحْصِيلِهَا عَلَى وَجْهٍ يَفُوتُ فِي الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَجْوِيزِ التَّقْدِيمِ لِيَحْصُلَ التَّكْلِيفُ بِقَدْرِ الْوُسْعِ وَالتَّأْخِيرُ يُسَاوِي التَّقْدِيمَ فِي هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّا لَوْ لَمْ نُجَوِّزْ التَّأْخِيرَ لَأَدَّى إلَى التَّفْوِيتِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُنْشِئُ النِّيَّةَ مِنْ اللَّيْلِ وَهُوَ أَمْرٌ غَالِبٌ وَقَدْ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ رَأْسُ الشَّهْرِ وَهُوَ أَيْضًا أَمْرٌ مُعْتَادٌ وَقَدْ تَطْهُرُ الْمَرْأَةُ عَنْ الْحَيْضِ وَلَا تَشْعُرُ إلَّا بَعْدَ انْفِجَارِ الصُّبْحِ. وَكَذَا الصَّبِيُّ قَدْ يَبْلُغُ فِي اللَّيْلِ وَلَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الِانْتِبَاهِ وَكَذَا الْكَافِرُ قَدْ يُسْلِمُ فِي اللَّيْلِ وَلَا يَعْلَمُ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ النَّهَارِ وَإِذَا ثَبَتَ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الْحَاجَةِ وَجَبَ إلْحَاقُ التَّأْخِيرِ بِالتَّقْدِيمِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى فَوَاتِ الصَّوْمِ (فَإِنْ قِيلَ) لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْحَاجَتَيْنِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى جَوَازِ التَّقْدِيمِ عَامَّةٌ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ وَإِلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ خَاصَّةً فِي حَقِّ الْبَعْضِ ثَابِتَةٌ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَأَحْكَامُ الشَّرْعِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَا عَلَيْهِ أَحْوَالُ الدَّهْمَاءِ لَا عَلَى مَا يُبْتَلَى بِهِ الْأَشْخَاصُ الْجُزْئِيَّةُ عَلَى مَا عُرِفَ وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ مَحَلًّا لِلنِّيَّةِ وَإِنْ كَانَ يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الْحَائِضِ النَّائِمَةِ وَالصَّبِيِّ الْمُحْتَلِمِ إلَى مَا بَعْدَ الزَّوَالِ وَلَمْ يَعْتَبِرْ الْحَاجَةَ الْخَاصَّةَ فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى

وَقُلْنَا نَحْنُ إنَّ الْحَاجَةَ إلَى النِّيَّةِ لَأَنْ يَصِيرَ الْإِمْسَاكُ قُرْبَةً وَهَذَا الْإِمْسَاكُ وَاحِدٌ غَيْرُ مُتَجَزِّئٍ صِحَّةً وَفَسَادًا وَالثَّبَاتُ عَلَى الْعَزِيمَةِ حَالَ الْأَدَاءِ سَاقِطٌ بِالْإِجْمَاعِ لِلْعَجْزِ وَحَالَ الِابْتِدَاءِ سَاقِطٌ أَيْضًا لِلْعَجْزِ وَصَارَ حَالُ الِابْتِدَاءِ هُنَا نَظِيرَ حَالِ الْبَقَاءِ فِي الصَّلَاةِ وَحَالُ الْبَقَاءِ نَظِيرَ حَالِ الِابْتِدَاءِ فِي صَلَاةٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّ الْجَوَازَ لَوْ ثَبَتَ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْحَاجَةِ لَثَبَتَ فِي حَقِّ مَنْ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ الْحَاجَةُ لَا فِي حَقِّ الْكُلِّ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ لِحَاجَةٍ عَامَّةٍ سَقَطَ فِيهِ اعْتِبَارُ الْحَاجَةِ وَوَجَبَ إجْرَاءُ الْحُكْمِ فِيهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَمَا ثَبَتَ لِحَاجَةٍ خَاصَّةٍ اُقْتُصِرَ عَلَى مَوْضِعِهَا لِكَوْنِهَا عَارِضَةً وَفِي اعْتِبَارِهَا تَغْلِيبُ الْعَارِضِ عَلَى الْأَصْلِ وَلِهَذَا لَمْ يَبْقَ لِلْحَاجَةِ عِبْرَةٌ فِي الْإِجَارَةِ وَنَحْوِهَا وَإِنْ شُرِعَتْ لِدَفْعِ الْحَوَائِجِ لِكَوْنِهَا عَامَّةً وَاعْتُبِرَتْ فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ حَتَّى اُقْتُصِرَ عَلَى مَنْ تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ فِي حَقِّهِ لِكَوْنِهَا خَاصَّةً إذْ الْأَصْلُ وُجُودُ الْمَاءِ وَكَوْنُ الْعَوَزِ وَالْعَدَمِ فِيهِ عَارِضًا. (قُلْنَا) إنَّا إنَّمَا سَوَّيْنَا بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْحَاجَةِ لَا بِاعْتِبَارِ قَدْرِهَا فَنَطْلُبُ الْمُسَاوَاةَ فِي أَصْلِ الْحَاجَةِ لَا فِي قَدْرِهَا وَقَدْ وُجِدَتْ كَمَا بَيَّنَّا فَيَفْسُدُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا بِالدَّوَامِ وَعَدَمِهِ وَكَذَا بِالْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ إذْ الْخَاصَّةُ مِنْهَا فِي مَوْضِعِهَا كَالْعَامَّةِ فِي مَوَاضِعِهَا وَالْحَاجَةُ إلَى تَجْوِيزِ الصَّوْمِ بِالنِّيَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ خَاصَّةٌ فِيمَا يُشْرَعُ مِنْ الصَّوْمِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَاخْتَصَّ الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ فِيهِ وَمَا ذُكِرَ أَنَّ بِنَاءَ الْأَحْكَامِ عَلَى مَا عُمِّمَ وَغَلَبَ دُونَ مَا شَذَّ وَنَدَرَ كَلَامٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا كَانَ مِنْ الْخَاصِّ فِي حَيِّزِ النُّدْرَةِ فَأَمَّا مَا كَانَ فِي نَفْسِهِ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ فَلَهُ الْعِبْرَةُ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَكْثَرَ كَعَدَمِ الْمَاءِ اُعْتُبِرَ فِي حَقِّ جَوَازِ التَّيَمُّمِ شَرْعًا وَإِنْ كَانَ الْوُجُودُ هُنَا هُوَ الْغَالِبَ لِدُخُولِ الْعَدَمِ فِي نَفْسِهِ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ وَخُرُوجِهِ عَنْ حَدِّ النُّدْرَةِ وَهَهُنَا الْأَعْذَارُ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ لِكَثْرَةِ جَهَالَتِهَا إذْ مِنْ ضَرُورَةِ كَثْرَةِ الْجِهَاتِ كَثْرَتُهَا عَلَى أَنَّ الْجِهَةَ لَوْ لَمْ تَكُنْ إلَّا جِهَةَ النِّسْيَانِ لَدَخَلَتْ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ لِاسْتِيلَائِهِ عَلَى طَبْعِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْجِنْسِ فَكَيْفَ وَقَدْ كَثُرَتْ الْجِهَاتُ عَلَى مَا سَبَقَ وَقَوْلُهُمْ مَا ثَبَتَ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ الْقَاصِرَةِ لَمْ يَعْدُ مَوْضِعُهَا قُلْنَا فَجَوَّزُوا فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ وَخَالَفُونَا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ لَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْعُذْرُ فِيمَا وَرَاءَ مَحَلِّ الْحَاجَةِ عَلَى أَنَّ وُجُودَ النِّيَّةِ مِنْ النَّهَارِ فِي حَقِّ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ مِنْ نِسْيَانٍ أَوْ جَهْلٍ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ مِنْ حَيْثُ الْعَادَةُ بَلْ يُوجَدُ مِنْهُ النِّيَّةُ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا فِي اللَّيْلِ بِأَكْلِ زِيَادَةٍ مِنْ الطَّعَامِ عَلَى الْمُعْتَادِ أَوْ شُرْبِ زِيَادَةِ شُرْبِهِ وَإِنْ تُصُوِّرَ وَوُجِدَ فَهُوَ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ فَيُلْحَقُ بِالْعَدَمِ. أَوْ نَقُولُ إذَا تَحَقَّقَ فَقَدْ صَارَ عَاجِزًا عِنْدَ انْفِجَارِ الصُّبْحِ عَنْ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ فَصَارَ كَالْمَعْذُورِينَ وَإِذَا حَقَّقْتَ مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ فَاصْغَ لِشَرْحِ مَا فِي الْكِتَابِ فَقَوْلُهُ الْحَاجَةُ إلَى النِّيَّةِ لَأَنْ يَصِيرَ الْإِمْسَاكُ قُرْبَةً مَعْنَاهُ النِّيَّةُ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا لِغَيْرِهَا لَا لِذَاتِهَا فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى تَفْوِيتِ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَهَذَا الْإِمْسَاكُ وَاحِدٌ أَيْ الْكَفُّ إلَى آخِرِ النَّهَارِ رُكْنٌ وَاحِدٌ مُمْتَدٌّ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا أَرْكَانٌ غَيْرُ مُتَجَزِّئٍ صِحَّةً وَفَسَادًا حَتَّى لَوْ فَسَدَ جُزْءٌ مِنْهُ فَسَدَ الْكُلُّ وَلَوْ حُكِمَ بِصِحَّةِ جُزْءٍ بَعْدَمَا تَمَّ يُحْكَمُ بِصِحَّةِ الْكُلِّ وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ الصَّوْمَ وَإِنْ كَانَ مُتَرَكِّبًا مِنْ جِنْسِ الْإِمْسَاكِ الدَّائِمِ مِنْ أَوَّلِ الْيَوْمِ إلَى آخِرِهِ وَلَكِنْ جُعِلَ جِنْسُ الْإِمْسَاكِ كُلِّهِ فِي حَقِّ كَوْنِهِ صَوْمًا كَشَيْءٍ لَا يَتَجَزَّأُ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمُتَعَدِّدَةَ إذَا دَخَلَتْ تَحْتَ خِطَابٍ وَاحِدٍ صَارَتْ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] لَمَّا دَخَلَ جَمِيعُ الْبَدَنِ تَحْتَ الْخِطَابِ صَارَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ حَتَّى جَازَ نَقْلُ الْبَلَّةِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ لِعَدَمِ هَذَا الْمَعْنَى فَكَذَلِكَ هَهُنَا لَمَّا دَخَلَتْ الْإِمْسَاكَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] صَارَتْ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فَلَا يَتَجَزَّأُ صِحَّةً وَفَسَادًا وَالثَّبَاتُ عَلَى

ثُمَّ الْعَجْزُ أَطْلَقَ التَّقْدِيمَ مَعَ الْفَصْلِ عَنْ رُكْنِ الْعِبَادَةِ وَجُعِلَ مَوْجُودًا تَقْدِيرًا فَصَارَ لَهُ فَصْلُ الِاسْتِيعَابِ. وَنُقْصَانُ حَقِيقَةِ الْوُجُودِ عِنْدَ الْأَدَاءِ عَلَى حَدِّ الْإِخْلَاصِ وَالْعَجْزُ الدَّاعِي إلَى التَّأْخِيرِ مَوْجُودٌ فِي الْجُمْلَةِ فِي حَقِّ مَنْ يُقِيمُ بَعْدَ الصُّبْحِ أَوْ يُفِيقُ عَنْ إغْمَائِهِ وَفِي يَوْمِ الشَّكِّ ضَرُورَةٌ لَازِمَةٌ لِأَنَّ تَقْدِيمَ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ عَنْ صَوْمِ الْفَرْضِ حَرَامٌ وَنِيَّةُ النَّفْلِ عِنْدَك لَغْوٌ فَقَدْ جَاءَتْ الضَّرُورَةُ فَلَأَنْ يَثْبُتَ بِهَا التَّأْخِيرُ مَعَ الْوَصْلِ بِالرُّكْنِ أَوْلَى وَلِهَذَا رُجْحَانٌ فِي الْوُجُودِ عِنْدَ الْفِعْلِ وَهُوَ حَدُّ حَقِيقَةِ الْأَصْلِ وَنُقْصَانُ الْقُصُورِ عَنْ الْجُمْلَةِ بِقَلِيلٍ يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ فَاسْتَوَيَا فِي طَرِيقِ الرُّخْصَةِ بَلْ هُوَ أَرْجَحُ وَهَذَا الْوَجْهُ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ بِالْفِطْرِ فِيهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعَزِيمَةِ حَالَ أَدَاءِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ بِأَنْ يُدَاوِمَ عَلَى الْعَزْمِ إلَى حَالَةِ الِانْتِهَاءِ سَاقِطٌ عَنْ الْمُكَلَّفِ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ لِأَنَّ اعْتِبَارَ النِّيَّةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُوقِعُهُ فِي الْحَرَجِ وَرُبَّمَا لَا يَكُونُ فِي الْوُسْعِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ لِلْعَجْزِ وَلِهَذَا لَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَخْطِرْ بِبَالِهِ الصَّوْمُ بَعْدَمَا وَجَدَ الْعَزْمَ يَتَأَدَّى صَوْمُهُ وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ قِرَانُ النِّيَّةِ بِأَوَّلِهَا لِاسْتِدَامَةِ النِّيَّةِ مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا وَحَالَ الشُّرُوعِ فِي الْأَدَاءِ أَيْ الثَّبَاتِ عَلَى الْعَزِيمَةِ فِي حَالَةِ الشُّرُوعِ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ سَاقِطٌ عَنْهُ بِالْإِجْمَاعِ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ نَوَى فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ لَا يَشْتَرِطُ أَنْ يَسْتَدِيمَ تِلْكَ النِّيَّةَ إلَى حَالَةِ الشُّرُوعِ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ اقْتِرَانُ الْعَزِيمَةِ بِأَوَّلِ حَالِ الْأَدَاءِ أَيْضًا لِلْعَجْزِ وَهُوَ أَنَّ وَقْتَ الشُّرُوعِ مُشْتَبِهٌ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالنُّجُومِ وَمَعْرِفَةِ سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ وَقْتُ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ فِي حَقِّ عَامَّةِ الْخَلْقِ الَّذِينَ ثَبَتَ أُمُورُ الشَّرَائِعِ عَلَى عَادَاتِهِمْ وَلَمْ يَحْرُمْ النَّوْمُ فِيهِ شَرْعًا أَيْضًا بَلْ سُنَّ لِمَنْ قَامَ بِاللَّيْلِ وَبَعْدَمَا كَانَ مُتَيَقِّظًا وَلَمْ يَشْتَبِهْ أَوَّلُ الْفَجْرِ بِاللَّيْلِ فَسَقَطَ اشْتِرَاطُ اقْتِرَانِ النِّيَّةِ بِأَوَّلِهِ وَصَارَ حَالُ الِابْتِدَاءِ فِي الصَّوْمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَخْرُجُ فِي قِرَانِ النِّيَّةِ وَبِهَا نَظِيرُ حَالِ الْبَقَاءِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَخْرُجُ فِيهَا عَلَى الثَّبَاتِ عَلَى الْعَزِيمَةِ وَحَالُ الْبَقَاءِ فِي الصَّوْمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُمْكِنُ قِرَانُ النِّيَّةِ بِهَا مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ نَظِيرَ حَالِ الِابْتِدَاءِ فِي الصَّلَاةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ اقْتِرَانَ النِّيَّةِ بِابْتِدَاءِ الصَّوْمِ مُتَعَذِّرٌ وَالثَّبَاتُ عَلَى الْعَزِيمَةِ حَالَ بَقَائِهِ كَذَلِكَ وَقِرَانُ أَصْلِ النِّيَّةِ بِهِ حَالَ الْبَقَاءِ غَيْرُ مُتَعَذِّرٍ كَمَا فِي ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ. وَالْغَرَضُ مِنْ إيرَادِ هَذَا الْكَلَامِ هُوَ الْإِشَارَةُ إلَى أَنَّ النِّيَّةَ الْمُتَّصِلَةَ بِهِ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَيْهَا لِكَوْنِهَا مُتَّصِلَةً بِرُكْنِ الْعِبَادَةِ كَالنِّيَّةِ الْمُتَّصِلَةِ بِابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ أَوْلَى بِاعْتِبَارٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَيْهَا لِهَذَا الْمَعْنَى ثُمَّ هَذَا الْعَجْزُ وَهُوَ تَعَذُّرُ قِرَانِ النِّيَّةِ بِابْتِدَائِهِ أَطْلَقَ التَّقْدِيمَ أَيْ أَجَازَهُ مَعَ فَصْلِ النِّيَّةِ عَنْ رُكْنِ الْعِبَادَةِ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ لِأَنَّهُ إذَا نَوَى فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ ثُمَّ لَمْ يَخْطِرْ بِبَالِهِ الصَّوْمُ إلَى الْغُرُوبِ جَازَ صَوْمُهُ بِالْإِجْمَاعِ مَعَ أَنَّ النِّيَّةَ لَمْ تُوجَدْ حَالَ الشُّرُوعِ وَلَا حَالَ الْبَقَاءِ حَقِيقَةً وَجُعِلَ أَيْ الْعَزْمُ الْمُتَقَدِّمُ وَالْمَعْدُومُ حَقِيقَةً مَوْجُودٌ تَقْدِيرًا فَصَارَ لَهُ أَيْ لِمَا قَدَّمَ مِنْ النِّيَّةِ فَضْلُ اسْتِيعَابٍ أَيْ هُوَ مُسْتَوْعِبٌ لِجَمِيعِ الْإِمْسَاكَاتِ تَقْدِيرًا لِأَنَّهُ نَوَى الْإِمْسَاكَ مِنْ الصُّبْحِ إلَى الْغُرُوبِ وَنُقْصَانُ حَقِيقَةِ الْوُجُودِ عِنْدَ الْأَدَاءِ أَيْ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ حَقِيقَةً حَالَةَ الْأَدَاءِ عَلَى حَدِّ الْإِخْلَاصِ أَيْ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَكَلِمَةُ عَلَى مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَدَاءِ لَا بِالْوُجُودِ وَالْأَدَاءِ عَلَى حَدِّ الْإِخْلَاصِ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقْتَرِنَةً بِالْأَدَاءِ لِيَمْتَازَ الْعِبَادَةَ عَنْ الْعَادَةِ وَقَدْ عُدِمَتْ هُنَا حَقِيقَةً وَإِنْ وُجِدَتْ تَقْدِيرًا وَالْعَجْزُ الدَّاعِي إلَى التَّأْخِيرِ مَوْجُودٌ فِي الْجُمْلَةِ يَعْنِي بِهِ أَنَّ الْعَجْزَ الَّذِي ذَكَرْنَا كَمَا هُوَ دَاعٍ إلَى جَوَازِ التَّقْدِيمِ وَمُرَخِّصٌ لَهُ فَكَذَلِكَ هُوَ دَاعٍ إلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ فِي حَقِّ بَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ كَمَا فِي حَقِّ الْمُقِيمِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَأَمْثَالِهِ وَخُلَاصَةُ الْمَعْنَى أَنَّ الضَّرُورَةَ لَمْ تَنْدَفِعْ بِتَجْوِيزِ التَّقْدِيمِ فِي الْجِنْسِ لِأَنَّ فِيهِمْ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَعْذَارِ وَإِنَّمَا يَنْدَفِعُ بِالْكُلِّيَّةِ بِتَجْوِيزِ النِّيَّةِ مِنْ النَّهَارِ وَفِي يَوْمِ الشَّكِّ ضَرُورَةٌ لَازِمَةٌ أَيْ فِي حَقِّ الْكُلِّ لِأَنَّ تَقْدِيمَ النِّيَّةِ عَنْ صَوْمِ الْفَرْضِ أَيْ فَرْضِ الْوَقْتِ حَرَامٌ وَلَوْ نَوَى لَيْلَةَ الشَّكِّ أَدَاءَ صَوْمِ فَرْضِ رَمَضَانَ غَدًا وَبَانَ الْيَوْمُ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. وَكَذَا لَا يَجُوزُ بِنِيَّةِ النَّفْلِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQفَثَبَتَ أَنَّ الضَّرُورَةَ فِيهِ لَازِمَةٌ لَا تَرْتَفِعُ إلَّا بِتَأْخِيرِ النِّيَّةِ فَلَأَنْ يَثْبُتَ بِهَذِهِ الضَّرُورَةِ جَوَازُ التَّأْخِيرِ مَعَ أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالرُّكْنِ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ أَوْلَى وَهَذَا الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ ثُمَّ هَذَا الْعَجْزُ أُطْلِقَ التَّقْدِيمُ مَعَ الْفَصْلِ عَنْ رُكْنِ الْعِبَادَةِ يَعْنِي لَمَّا جَازَ الصَّوْمُ بِنِيَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ مَعَ فَصْلِهَا عَنْ رُكْنِ الْعِبَادَةِ وَالِاشْتِغَالِ بِأَعْمَالٍ أُخَرَ مُنَافِيَةٍ لِلصَّوْمِ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْوِقَاعِ لِلضَّرُورَةِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي النِّيَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ فَلَأَنْ يَجُوزَ بِهَا مَعَ وَصْلِهَا بِالرُّكْنِ كَانَ أَوْلَى (فَإِنْ قِيلَ) هَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إنْ لَوْ أَمْكَنَ اعْتِبَارُ الْمُتَأَخِّرَةِ تَقْدِيرًا كَالْمُتَقَدِّمَةِ وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ لِأَنَّ النِّيَّةَ مَتَى تَقَدَّمَتْ وَصَحَّتْ بِمَوْضُوعِهَا عَزْمًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَقِيَتْ كَذَلِكَ وَاقْتَرَنَتْ بِكُلِّ جُزْءٍ لِأَنَّ نِيَّتَهُ انْتَظَمَتْ أَجْزَاءَ الْوَقْتِ وَلَوْ نَوَى صَوْمَ الْبَعْضِ لَمْ يَصِحَّ فَمَتَى تَأَخَّرَتْ صَارَتْ كَمَا نَوَى صَوْمَ بَعْضِ الْيَوْمِ إذْ هِيَ لَا تَعْمَلُ فِي الْمَاضِي بِوَجْهٍ مَا (قُلْنَا) لَا حَاجَةَ إلَى الْقَوْلِ بِبَقَائِهِ حُكْمًا لِأَنَّهُ قَامَ دَلِيلُ سُقُوطِ الِامْتِدَادِ حَقِيقَةً فَلَئِنْ سَاغَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ بِالِاقْتِرَانِ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ حُكْمًا مَعَ انْعِدَامِهِ حَقِيقَةً جَازَ لِآخَرَ أَيْضًا أَنْ يَجْعَلَ الِاقْتِرَانَ بِجُزْءٍ مِنْهُ حَقِيقَةً كَالِاقْتِرَانِ بِالْكُلِّ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ اتِّصَافُهُ بِكَوْنِهِ صَوْمًا جُمْلَةً الْإِمْسَاكَاتِ فِي الْيَوْمِ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَكَانَ الِاقْتِرَانُ مِنْهُ بِجُزْءٍ مِنْهُ حَقِيقَةً اقْتِرَانًا بِالْكُلِّ حُكْمًا كَذَا فِي إشَارَاتِ الْأَسْرَارِ. ثُمَّ شَرَعَ الشَّيْخُ فِي بَيَانِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فَقَالَ وَلِهَذَا أَيْ وَلِمَا أُخِّرَ مِنْ النِّيَّةِ رُجْحَانٌ عَلَى النِّيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الْوُجُودِ عِنْدَ الْفِعْلِ أَيْ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَوْجُودَةٌ عِنْدَ الْفِعْلِ حَقِيقَةً بِخِلَافِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهُوَ أَيْ الْوُجُودُ عِنْدَ الْفِعْلِ حَدُّ حَقِيقَةِ الْأَصْلِ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقْتَرِنَةً بِالْعَمَلِ فَإِذَا اقْتَرَنَتْ بِهِ حَقِيقَةً كَانَ هَذَا حَقِيقَةَ الْأَصْلِ وَالِاقْتِرَانُ بِهِ تَقْدِيرًا لَيْسَ مِنْ حَقِيقَتِهِ فَكَانَ حَدُّ حَقِيقَةِ الْأَصْلِ أَنْ يَكُونَ الِاقْتِرَانُ حَقِيقَةً لَا تَقْدِيرًا وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعِبَادَاتِ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقْتَرِنَةً بِهَا وَهُوَ مَوْجُودٌ هَهُنَا فِي الْمُتَأَخِّرَةِ دُونَ الْمُتَقَدِّمَةِ وَنُقْصَانُ الْقُصُورِ أَيْ وَلَهُ نُقْصَانٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَاصِرٌ عَلَى الْجُمْلَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي أَوَّلِهِ وَلَكِنَّ مَا قَصُرَ عَنْهُ الْعَدَمُ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا وُجِدَ فِيهِ الْعَزِيمَةُ يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ لِأَنَّ الْقَلِيلَ مَحَلُّ الْعَفْوِ كَالنَّجَاسَةِ الْقَلِيلَةِ وَالِانْكِشَافِ الْقَلِيلِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ وَابْتِلَاعِ مَا دُونَ الْحِمَّصَةِ مِمَّا بَيْنَ الْأَسْنَانِ فِي حَقِّ الصَّوْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَاسْتَوَيَا مِنْ حَيْثُ إنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَالًا وَنُقْصَانًا فَالْكَمَالُ فِي الْمُتَقَدِّمَةِ الِاسْتِيعَابُ وَالنُّقْصَانُ فِيهَا عَدَمُهَا عِنْدَ الْفِعْلِ وَالْكَمَالُ فِي الْمُتَأَخِّرَةِ الْوُجُودُ عِنْدَ الْفِعْلِ وَالنُّقْصَانُ فِيهَا قُصُورُهَا عَنْ الْجُمْلَةِ حَقِيقَةً فَكَانَا مُسْتَوِيَيْنِ فِي طَرِيقِ الرُّخْصَةِ أَيْ فِي جَوَازِ التَّرَخُّصِ بِهَا بَلْ هَذَا رَاجِحٌ أَيْ التَّأْخِيرُ أَوْلَى بِالتَّرَخُّصِ بِهِ لِأَنَّ الِاسْتِيعَابَ فِيهِ مَوْجُودٌ تَقْدِيرًا أَيْضًا لِأَنَّا نَقُولُ أَقَمْنَا النِّيَّةَ فِي الْأَكْثَرِ مُقَامَ الْكُلِّ كَمَا أَنَّ الِاسْتِيعَابَ ثَابِتٌ تَقْدِيرًا لَا تَحْقِيقًا فَصَارَ جِهَةُ النُّقْصَانِ فِي الْمُتَأَخِّرَةِ مُعَارِضَةً لِجِهَةِ الْكَمَالِ فِي الْمُتَقَدِّمَةِ فَسَلَّمَ جِهَةَ الْكَمَالِ وَهِيَ الْوُجُودُ عِنْدَ الْفِعْلِ لِلْمُتَأَخِّرَةِ عَنْ التَّعَارُضِ فَصَارَ التَّأْخِيرُ أَرْجَحَ. (فَإِنْ قِيلَ) يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مِنْ النَّهَارِ أَفْضَلَ عِنْدَكُمْ وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ إذْ النِّيَّةُ أَفْضَلُ مِنْ اللَّيْلِ بِالْإِجْمَاعِ (قُلْنَا) إنَّمَا كَانَتْ النِّيَّةُ مِنْ اللَّيْلِ أَفْضَلَ لِأَنَّ فِيهَا الْمُسَارَعَةَ إلَى الْأَدَاءِ وَالتَّأَهُّبَ لَهُ أَوْ الْأَخْذَ بِالِاحْتِيَاطِ لِإِكْمَالٍ فِي الصَّوْمِ كَمَا أَنَّ الِابْتِكَارَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْلَى مِنْ السَّعْيِ بَعْدَ النِّدَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُسَارَعَةِ لَا لِتَعَلُّقِ

وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُمَا وَلَمَّا صَحَّ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْبَعْضِ لِلضَّرُورَةِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى مَالَهُ حُكْمُ الْكُلِّ مِنْ وَجْهٍ خَلَفًا عَنْ الْكُلِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْوُجُودَ فِي الْأَكْثَرِ لِأَنَّ الْأَقَلَّ فِي مُقَابَلَتِهِ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي تَرْكِ هَذَا الْكُلِّ تَقْدِيرًا فَلَمْ نُجَوِّزْهُ بَعْدَ الزَّوَالِ وَرَجَّحْنَا الْكَثِيرَ عَلَى الْقَلِيلِ لِأَنَّهُ فِي الْوُجُودِ رَاجِحٌ وَبَطَلَ التَّرْجِيحُ عَلَى مَا قُلْنَا بِصِفَةِ الْعِبَادَة لِأَنَّهُ حَالٌ بَعْدَ الْوُجُودِ، وَالْكَثْرَةُ وَالْقِلَّةُ مِنْ بَابِ الْوُجُودِ وَالْوُجُودُ قَبْلَ الْحَالِ فَوَجَبَ التَّرْجِيحُ بِهِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي بَابِ التَّرْجِيحِ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَلِأَنَّ صِيَانَةَ الْوَقْتِ الَّذِي لَا دَرَكَ لَهُ أَصْلًا عَلَى الْعِبَادِ وَاجِبٌ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مَشَايِخِنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQكَمَالِ الصَّلَاةِ نَفْسِهَا بِهِ وَكَذَلِكَ الْمُبَادَرَةُ إلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ قَوْلُهُ (وَلَمَّا صَحَّ الِاقْتِصَارُ) إلَى قَوْلِهِ بَعْدَ الزَّوَالِ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ النِّيَّةَ بَعْدَ نِصْفِ النَّهَارِ لَا يَصِحُّ أَيْ لَمَّا صَحَّ اقْتِصَارُ النِّيَّةِ عَلَى بَعْضِ الْإِمْسَاكِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ الْبَعْضِ حُكْمُ الْكُلِّ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى يَكُونَ قِرَانُ النِّيَّةِ بِهِ كَقِرَانِهَا بِالْكُلِّ تَقْدِيرًا وَذَلِكَ هُوَ الْأَكْثَرُ إذْ لَهُ حُكْمُ الْكُلِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ بِخِلَافِ الرُّبْعِ وَالثُّلُثِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَهُمَا حُكْمُ الْكُلِّ فِي بَعْضِ مَوَاضِعِ الِاحْتِيَاطِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ لِأَنَّهُ لَوْ أُعْطِيَ لِلرُّبْعِ حُكْمُ الْكُلِّ لَكَانَتْ الثَّلَاثَةُ الْأَرْبَاعِ الَّتِي تُقَابِلُهُ بِذَلِكَ أَوْلَى فَأَمَّا مَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ فَغَلَبَ عَلَى مَا يُقَابِلُهُ وَقَرُبَ إلَى الْكُلِّ فَكَانَ الْحُكْمُ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَى وِفَاقِ الدَّلِيلِ خَلَفًا عَنْ الْكُلِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى آخِرِهِ وَهَذَا كَالْمِثْلِ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ الْقِيمَةُ جُعِلَ خَلَفًا عَنْ الْمِثْلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إذَا انْقَطَعَ الْمِثْلُ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْوُجُودَ فِي الْأَكْثَرِ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى الْمَصِيرِ إلَى مَالَهُ حُكْمُ الْكُلِّ أَنْ يَشْتَرِطَ وُجُودَ النِّيَّةِ فِي الْأَكْثَرِ لِأَنَّ الْأَقَلَّ الَّذِي لَمْ يُصَادِفْهُ النِّيَّةُ فِي مُقَابِلَةِ الْأَكْثَرِ الَّذِي صَادَفَتْهُ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي تَرْكِ هَذَا الْكُلِّ الثَّابِتِ تَقْدِيرًا يَعْنِي إنَّمَا وَجَبَ تَرْكُ اعْتِبَارِ الْكُلِّ الْحَقِيقِيِّ لِلضَّرُورَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَلَا ضَرُورَةَ فِي تَرْكِ هَذَا الْكُلِّ التَّقْدِيرِيِّ وَاعْتِبَارِ مَا دُونَهُ فَلِهَذَا لَمْ نُجَوِّزْ الصَّوْمَ بِالنِّيَّةِ بَعْدَ الزَّوَالِ وَلَا يُقَالُ قَدْ يَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ أَيْضًا فِي حَقِّ الَّذِي أَقَامَ أَوْ أَفَاقَ بَعْدَ الزَّوَالِ وَاَلَّذِي بَلَغَ أَوْ أَسْلَمَ فِي اللَّيْلِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْبُلُوغِ أَوْ وُجُوبِ الصَّوْمِ إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ لِأَنَّا إنَّمَا اعْتَبَرْنَا الضِّرْوَةَ فِي تَرْكِ اعْتِبَارِ الْكُلِّ لِوُجُودِ خَلَفِهِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ وَهَهُنَا قَدْ فَاتَ الْأَكْثَرُ وَبِفَوَاتِهِ فَاتَ الصَّوْمُ لِأَنَّ الْأَقَلَّ الَّذِي صَادَفَتْهُ النِّيَّةُ فِي مُقَابَلَةِ الْأَكْثَرِ الَّذِي لَمْ تُصَادِفْهُ النِّيَّةُ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ فَكَانَ وُجُودُ الضَّرُورَةِ هَهُنَا كَوُجُودِهَا بَعْدَ الْغُرُوبِ فَلَا يُعْبَأُ بِهَا. قَوْلُهُ (وَرَجَّحْنَا الْكَثِيرَ عَلَى الْقَلِيلِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَوَجَبَ تَرْجِيحُ الْفَسَادِ احْتِيَاطًا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَثِيرَ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ رَاجِحٌ عَلَى الْقَلِيلِ فَالْكَثْرَةُ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْأَوْصَافِ كَالصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ إلَّا أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ يَثْبُتُ لِلشَّيْءِ بِاعْتِبَارِ ازْدِيَادٍ فِي أَجْزَاءِ ذَاتِهِ فَكَانَتْ الْكَثْرَةُ وَصْفًا رَاجِعًا إلَى الذَّاتِ بِخِلَافِ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْأَوْصَافِ الْمَحْضَةِ الَّتِي لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْوُجُودِ فَإِنَّهُمَا يَطْرَآنِ بَعْدَ الْوُجُودِ فَكَانَ التَّرْجِيحُ بِالْكَثْرَةِ رَاجِعًا إلَى الذَّاتِ وَبِالصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ رَاجِعًا إلَى الْحَالِ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الذَّاتَ أَصْلٌ وَالْحَالُ تَبَعٌ وَعِبَارَةُ الشَّيْخِ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ وَلَمَّا وُجِدَتْ النِّيَّةُ فِي الْأَكْثَرِ فَقَدْ وُجِدَ بَعْضُ الْعِبَادَةِ وَعُدِمَ الْبَعْضُ فَالشَّافِعِيُّ رَجَّحَ جَانِبَ الْعَدَمِ عَلَى جَانِبِ الْوُجُودِ احْتِيَاطًا لِأَمْرِ الْعِبَادَةِ وَنَحْنُ رَجَّحْنَا الْمَوْجُودَ عَلَى الْمَعْدُومِ بِاعْتِبَارِ الْكَثْرَةِ وَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ بِمَعْنًى رَاجِعٍ إلَى الذَّاتِ وَمَا فَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَاجِعٌ إلَى الْعَدَمِ وَهُوَ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَلَا يَصْلُحُ مُرَجِّحًا. قَوْلُهُ (وَلِأَنَّ صِيَانَةَ الْوَقْتِ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى الدَّلِيلِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ فِي الْوُجُودِ رَاجِحٌ يَعْنِي وَرَجَّحْنَا الْكَثِيرَ الْمَوْجُودَ فِيهِ النِّيَّةُ عَلَى الْقَلِيلِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ النِّيَّةُ فِيهِ لِأَنَّ الْكَثِيرَ فِي الْوُجُودِ أَيْ فِي وُجُودِهِ وَذَاتِهِ رَاجِحٌ وَلِأَنَّ صِيَانَةَ الْوَقْتِ الَّذِي لَا دَرَكَ لَهُ أَصْلًا عَلَى الْعِبَادِ وَاجِبٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْهِمْ الْأَدَاءَ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَبِفَوَاتِهِ يَفُوتُ

إنَّ أَدَاءَ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا مَعَ النُّقْصَانِ أَوْلَى فَصَارَ هَذَا التَّرْجِيحُ مُتَعَارِضًا وَهَذَا الْوَجْهُ يُوجِبُ أَنْ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ـــــــــــــــــــــــــــــQالْأَدَاءُ لَا إلَى خَلَفٍ فِي حَقِّ فَضِيلَةِ الْوَقْتِ فَوَجَبَ صِيَانَتُهُ احْتِرَازًا عَنْ الْفَوَاتِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِقَوْلِهِ «مَنْ فَاتَهُ صَوْمٌ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يَقْضِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ» وَلَا وَجْهَ إلَى الصِّيَانَةِ فِي حَقِّ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ الْمَذْكُورِينَ إلَّا بِتَجْوِيزِ هَذَا الصَّوْمِ بِالنِّيَّةِ الْمَوْجُودَةِ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ إذْ التَّجْوِيزُ مَعَ خَلَلٍ تَمَكَّنَ فِيهِ أَقْرَبُ إلَى قَضَاءِ حَقِّ الْعِبَادَةِ مِنْ التَّفْوِيتِ (فَإِنْ قِيلَ) لَا يَجُوزُ تَغْيِيرُ الشَّرْطِ وَإِسْقَاطُهُ لِفَوَاتِ الْفَضِيلَةِ كَمَنْ عَلَيْهِ الْفَجْرُ لَوْ خَافَ فَوْتَ الْجُمُعَةِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ التَّرْتِيبُ وَكَذَا لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ فِي الْجُمُعَةِ وَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ عِنْدَ خَوْفِ فَوْتِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَكَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ خَوْفِ فَوْتِ الْوَقْتِ لِأَنَّ الْفَائِتَ هُوَ الْفَضِيلَةُ وَجَازَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ وَالْجِنَازَةِ لِأَنَّ الْفَائِتَ أَصْلُ الْعِبَادَةِ وَهَهُنَا الْفَائِتُ الْفَضِيلَةُ فَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُ الشَّرْطِ وَإِسْقَاطُهُ لِفَوَاتِهَا (قُلْنَا) نَحْنُ لَا نَقُولُ بِإِسْقَاطِ الشَّرْطِ وَتَغْيِيرِهِ لِاسْتِدْرَاكِ الْفَضِيلَةِ وَلَكِنْ نَقُولُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مَشْرُوعَةً عَلَى وَجْهٍ لَا يُؤَدِّي إلَى فَوَاتِ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى اسْتِدْرَاكِهَا كَمَا كَانَتْ مَشْرُوعَةً عَلَى وَجْهٍ لَا يُؤَدِّي إلَى فَوَاتِ أَصْلِ الصَّوْمِ إذْ الْحَاجَةُ تُدْفَعُ مَا أَمْكَنَ وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ عِنْدَ خَوْفِ فَوْتِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْوَقْتِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُ هَذِهِ الْفَضَائِلِ إلَّا بِفَوْتِ فَضِيلَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَدَاءُ الصَّلَاةِ بِالْوُضُوءِ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ أَدَائِهَا بِالتَّيَمُّمِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِدْرَاكُ فَضِيلَةٍ بِتَفْوِيتِ فَضِيلَةٍ أُخْرَى وَكَذَا لَا يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ لِفَوْتِ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ الْوَقْتَ وَقْتُ الْفَائِتَةِ بِشَهَادَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَإِنَّمَا وَقْتُ الْجُمُعَةِ بَعْدَ قَضَائِهَا فَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا قَبْلَ الْوَقْتِ وَفِي قَوْلِهِ لَأَدْرَكَ لَهُ أَصْلًا إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ صَوْمِ الْقَضَاءِ وَنَحْوِهِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ لِأَنَّا إنَّمَا جَوَّزْنَاهُ فِي رَمَضَانَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لِصِيَانَةِ فَضِيلَةِ الْوَقْتِ الَّذِي لَا يُدْرَكُ بِالْفَوَاتِ أَصْلًا عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ وَلَا حَاجَةَ فِي الْقَضَاءِ إلَى صِيَانَةِ الْوَقْتِ لِأَنَّ كُلَّ الْأَوْقَاتِ فِيهِ سَوَاءٌ فَبَقِيَ عَلَى الْأَصْلِ. قَوْلُهُ (إنَّ أَدَاءَ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا مَعَ النُّقْصَانِ أَوْلَى) أَيْ مِنْ الْقَضَاء لِأَنَّهُ أَقْرَب إلَى صِيَانَة حَقِّ الْعِبَادَةِ مِنْ التَّفْوِيتِ كَأَدَاءِ الْعَصْرِ وَقْتَ الِاحْمِرَارِ أَوْلَى مِنْ قَضَائِهَا بَعْدَ الْغُرُوبِ قَوْلُهُ (فَصَارَ هَذَا التَّرْجِيحُ مُتَعَارِضًا) أَيْ صَارَ تَرْجِيحُ الْكَثِيرِ عَلَى الْقَلِيلِ لِصِحَّةِ التَّأْخِيرِ مُتَعَارِضًا لِأَنَّ مَا يُوجَبُ تَرْجِيحُهُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا اقْتِرَانُ النِّيَّةِ بِرُكْنِ الْعَمَلِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّأْخِيرُ أَوْلَى مِنْ التَّقْدِيمِ وَأَنْ تَجِبَ الْكَفَّارَةُ إذَا أَفْطَرَ وَالثَّانِي صِيَانَةُ الْوَقْتِ وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ التَّأْخِيرُ دُونَ التَّقْدِيمِ وَأَنْ لَا يَجِبَ الْكَفَّارَةُ بِالْفِطْرِ لِتَمَكُّنِ خَلَلٍ فِيهِ وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ فَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهِ مُتَعَارِضًا وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ تَرْجِيحَنَا الْكَثِيرَ فِي صُورَةِ التَّأْخِيرِ بِكَوْنِ الْعِبَادَةِ مُؤَدَّاةً فِي الْوَقْتِ يُعَارِضُهُ تَرْجِيحُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَنَّ الْجُزْءَ الْأَوَّلَ مِنْ النَّهَارِ عَرِيَ عَنْ النِّيَّةِ فَيُحْكَمُ بِالْفَسَادِ احْتِيَاطًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ التَّرْجِيحَيْنِ رَاجِعٌ إلَى حَالِ الْعِبَادَةِ بِخِلَافِ التَّرْجِيحِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الذَّاتِ فَلَمْ يُعَارِضْهُ تَرْجِيحُ الشَّافِعِيِّ هُوَ رَاجِعٌ إلَى الْحَالِ وَلِهَذَا دُلَّ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ إذَا أَفْطَرَ بِخِلَافِ التَّرْجِيحِ الثَّانِي لِأَنَّهُ ضَعُفَ بِالْمُعَارِضِ فَصَارَ لَهُ شُبْهَةُ عَدَمِ وُجُودِ الصَّوْمِ فَلَا يَجِبُ الْكَفَّارَةُ. قَوْلُهُ (وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ إذَا أَصْبَحَ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ ثُمَّ نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ أَكَلَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ شُرُوعَهُ فِي الصَّوْمِ قَدْ صَحَّ

وَلَمْ نَقُلْ بِالِاسْتِنَادِ وَلَا بِفَسَادِ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مَعَ احْتِمَالِ طَرِيقِ الصِّحَّةِ وَالْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ قُرْبَةٌ مَعَ قُصُورِ مَعْنَى الطَّاعَةِ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا مَشَقَّةَ فِي الْإِمْسَاكِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَصَارَ إثْبَاتُ الْعَزِيمَةِ فِيهِ تَقْدِيرًا لَا تَحْقِيقًا وَفَاءً لِحَقِّهِ وَتَوْفِيرًا لِحَظِّهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَيَتَكَامَلُ جِنَايَتُهُ بِالْفِطْرِ كَمَا لَوْ كَانَ نَوَى بِاللَّيْلِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَعْزِمْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» يَنْفِي كَوْنَهُ صَائِمًا بِهَذِهِ النِّيَّةِ وَالْحَدِيثُ وَإِنْ تُرِكَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِهِ يَبْقَى شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَمِنْ وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» وَمَا ذُكِرَ هَهُنَا مُوَافِقٌ لِلْمَنْظُومَةِ وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي طَرِيقَتِهِ لَا فَرْقَ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بَيْنَ مَا إذَا نَوَى مِنْ اللَّيْلِ وَبَيْنَ مَا إذَا نَوَى مِنْ النَّهَارِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَفِي النَّوَادِرِ قَالَ لَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فِيمَا إذَا نَوَى مِنْ النَّهَارِ وَالصَّحِيحُ مَا ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (فَإِنْ قِيلَ) لَا نَظِيرَ لِمَا اخْتَرْتُمْ مِنْ جَوَازِ تَأْخِيرِ النِّيَّةِ فِي الشَّرْعِ فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ فَأَمَّا لِجَوَازِ التَّقْدِيمِ فَنَظَائِرُ جَمَّةٌ كَتَقْدِيمِ نِيَّةِ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا وَتَقْدِيمِ نِيَّةِ الزَّكَاةِ عَلَى الْأَدَاءِ وَغَيْرِهِمَا (قُلْنَا) نَحْنُ مَا جَعَلْنَا النِّيَّةَ الْمُتَأَخِّرَةَ مُتَقَدِّمَةَ لَكِنْ جَعَلْنَا الْإِمْسَاكَاتِ مَوْقُوفَةً عَلَى النِّيَّةِ فَبَعْدَ وُجُودِهَا يَنْقَلِبُ صَوْمًا شَرْعِيًّا وَتَوَقَّفَ الْأَمْرُ عَلَى مَا يُوجَدُ بَعْدَ مَوْجُودٍ فِي الْحِسِّيَّاتِ وَالشَّرْعِيَّاتِ فَإِنَّ الرَّمْيَ حُكْمُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْإِصَابَةِ وَتَصَرُّفَاتُ الْفُضُولِيِّ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْإِجَازَةِ وَالتَّعْلِيقَاتُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الشَّرْطِ وَكَذَا الظُّهْرُ الْمُؤَدَّى يَوْمَ الْجُمُعَةِ حُكْمُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى وُجُود السَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ وَعَدَمِهِ وَكَذَا الْوَقْتِيَّةُ الْمُؤَدَّاةُ مَعَ تَذَكُّرِ الْفَائِتَةِ حُكْمُهَا مَوْقُوفٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا عُرِفَ فَكَانَ تَوَقُّفُ الْإِمْسَاكَاتِ عَلَى وُجُودِ النِّيَّةِ فِي الْأَكْثَرِ طَرِيقًا مَسْلُوكًا. قَوْلُهُ (وَلَمْ نَقُلْ بِالِاسْتِنَادِ) جَوَابٌ عَمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّ النِّيَّةَ الْمُعْتَرِضَةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْمَاضِي بِوَجْهٍ فَقَالَ إنَّمَا يَلْزَمُ عَلَى مَنْ قَالَ بِصِحَّةِ هَذَا الصَّوْمِ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ كَمَا اخْتَارَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الِاسْتِنَادَ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْمَوْجُودِ لَا فِي الْمَعْدُومِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَحَدَثَتْ زِيَادَةٌ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَهَلَكَتْ ثُمَّ أُجِيزَ الْبَيْعُ حَتَّى اسْتَنَدَ حُكْمُهُ إلَى أَوَّلِ الْمُدَّةِ لَا يَظْهَرُ أَثَرُ الِاسْتِنَادِ فِي ذَلِكَ الْهَالِكِ حَتَّى لَا يَسْقُطَ بِمُقَابَلَتِهِ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ وَهَهُنَا مَا تَقَدَّمَ عَلَى النِّيَّةِ قَدْ عُدِمَ فَلَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِصِحَّتِهِ بِطَرِيقِ اسْتِنَادِ النِّيَّةِ إلَيْهِ وَهُوَ مَعْنَى مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - النِّيَّةُ الْمُعْتَرِضَةُ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْمَاضِي بَلْ الصَّحِيحُ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ مِنْ إقَامَةِ الْأَكْثَرِ مُقَامَ الْكُلِّ وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. قَوْلُهُ (وَلَا بِفَسَادِ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ) رَدٌّ لِقَوْلِهِ أَوَّلَ الْجُزْءِ الْفِعْلُ مُفْتَقِرٌ إلَى الْعَزِيمَةِ فَيَفْسُدُ بِعَدَمِ الْعَزِيمَةِ وَمِنْ فَسَادِهِ يَلْزَمُ فَسَادُ الْبَاقِي فَقَالَ نَحْنُ لَا نَقُولُ بِفَسَادِ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مَعَ احْتِمَالِ طَرِيقِ صِحَّتِهِ وَذَلِكَ بِأَنْ يُجْعَلَ الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ مَوْقُوفًا عَلَى وُجُودِ النِّيَّةِ إلَى وَقْتٍ يُمْكِنُ صَوْنُ الْعِبَادَةِ عَنْ الْفَوَاتِ فَإِنْ حَصَلَتْ النِّيَّةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ كَحُصُولِهَا فِي الْجَمِيعِ وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْفِعْلَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ كَانَ عِبَادَةً لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِمْسَاكَاتِ فِي كَوْنِهَا صَوْمًا شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا يَتَجَزَّى فَاقْتِرَانُ النِّيَّةِ بِجُزْءٍ مِنْهَا كَانَ اقْتِرَانًا بِجَمِيعِهَا ضَرُورَةَ عَدَمِ التَّجَزُّؤِ وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلْ النِّيَّةُ بِشَيْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْإِمْسَاكِ حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ الَّذِي أَمْكَنَ الِاسْتِدْرَاكُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ صَوْمًا فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْعِبَادَةِ مُقْتَرِنٌ بِالنِّيَّةِ تَقْدِيرًا كَمَا فِي النِّيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَأَنَّ الْقَوْلَ بِفَسَادِ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ فَاسِدٌ لِانْتِفَاءِ دَلِيلِ الْفَسَادِ وَهُوَ انْعِدَامُ النِّيَّةِ قَوْلُهُ (وَالْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ قُرْبَةٌ) إلَى آخِرِهِ بِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ

وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قُلْنَا إنَّ صَوْمَ النَّفْلِ مُقَدَّرٌ بِكُلِّ الْيَوْمِ حَتَّى فَسَدَ بِوُجُودِ الْمُنَافِي فِي أَوَّلِهِ وَلَمْ يَتَأَدَّ إلَّا مِنْ أَوَّلِهِ وَلَمْ يَتَأَدَّ بِالنِّيَّةِ فِي الْآخِرِ لِأَنَّ الصَّوْمَ عُرِفَ قُرْبَةً بِمِعْيَارِهِ وَلَمْ يُعْرَفْ مِعْيَارُهُ إلَّا بِيَوْمٍ كَامِلٍ فَلَمْ يَجُزْ شَرْعُ الْعِبَادَةِ وَأَمَّا الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ يَوْمِ النَّحْرِ فَلَمْ يُشْرَعْ صَوْمًا وَلَكِنْ لِيَكُونَ ابْتِدَاءُ التَّنَاوُلِ مِنْ الْقَرَابِينِ كَرَاهِيَةً لِلْأَضْيَافِ أَنْ يَتَنَاوَلُوا مِنْ غَيْرِ طَعَامِ الضِّيَافَةِ قَبْلَ طَعَامِهَا ـــــــــــــــــــــــــــــQبَيَانَ احْتِمَالِ طَرِيقِ الصِّحَّةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ. وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمُعْتَادَ فِي الْأَكْلِ هُوَ الْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ فَأَمَّا مَا وَرَاءَهُمَا فَمِنْ السَّرَفِ وَالشَّرَهِ وَلِهَذَا وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ الْغَدَاءَ وَالْعَشَاءَ فَقَالَ {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] وَالصَّوْمُ عِبَادَةٌ فَيَكُونُ تَرْكًا لِلْمُعْتَادِ لِيَحْصُلَ مَعْنَى الْمَشَقَّةِ لِأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ عَلَى خِلَافِ هَوَى النَّفْسِ وَلَيْسَ فِيهِ تَرْكُ الْعَشَاءِ بَلْ تَأْخِيرُهُ إلَى الْغُرُوبِ فَكَانَ مَعْنَاهُ تَأْخِيرَ الْعِشَاءِ وَتَرْكَ الْغَدَاءِ الْمُعْتَادِ وَهُوَ عِنْدَ الضَّحْوَةِ وَأَمَّا مَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ التَّرْكِ فَخَارِجٌ عَلَى الْعَادَةِ وَلَا مَشَقَّةَ فِيمَا يَخْرُجُ مَخْرَجَ الْعَادَةِ فَكَانَ ابْتِدَاءُ الرُّكْنِ مِنْ الضَّحْوَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إلَّا أَنَّ الْإِمْسَاكَ فِيهَا لَا يَصْلُحُ لِلرُّكْنِيَّةِ إلَّا بِمَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِمْسَاكِ الْمُعْتَادِ فَكَانَ هُوَ وَاجِبَ التَّحْصِيلِ ضَرُورَةَ صَيْرُورَةِ هَذَا الْإِمْسَاك رُكْنًا فَكَانَ هَذَا أَصْلًا وَمَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ تَبَعًا لَهُ وَمَعْنَى النِّيَّةِ الْقَصْدُ إلَى تَرْكِ الْغَدَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِذَا نَوَى فِي هَذَا الْوَقْتِ فَقَدْ تَحَقَّقَ مَعْنَى النِّيَّةِ وَكَانَتْ مُقْتَرِنَةً حَقِيقَةً بِأَوَّلِ الْعِبَادَةِ مَعْنًى وَهُوَ أَصْلٌ فَيُسْتَتْبَعُ تَبَعُهُ فِيمَا يَثْبُتُ فِيهِ كَالْأُمِّ يُسْتَتْبَعُ وَلَدُهَا فِي الْإِسْلَامِ وَالْعَتَاقِ وَالرِّقِّ وَالِاسْتِيلَادِ وَالتَّدْبِيرِ وَكَالْأَمِيرِ وَالْمَوْلَى يَسْتَتْبِعُ الْعَسْكَرَ وَالْعَبْدُ فِي نِيَّةِ الْإِقَامَةِ فَيَثْبُتُ النِّيَّةُ فِيمَا تَقَدَّمَ تَقْدِيرًا وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ تَحْقِيقًا وَكَانَ إثْبَاتُ النِّيَّةِ فِيهِ تَقْدِيرًا لَا تَحْقِيقًا وَفَاءً لِحَقِّهِ وَتَوْفِيرًا لِحَظِّهِ وَإِذَا وُجِدَتْ النِّيَّةُ الْمُنَاسِبَةُ لَهُ لَا يَجِبُ الْحُكْمُ بِفَسَادِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ثُمَّ هَذَا الْحُكْمُ وَهُوَ جَوَازُ الصَّوْمِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فَأَمَّا الْمَرِيضُ أَوْ الْمُسَافِرُ فَكَالصَّحِيحِ الْمُقِيمِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ لَهُمَا الصَّوْمُ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَذَكَرَ فِي فَتَاوَى الْقَاضِي الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ وَغَيْرِهِ مَرِيضٌ أَوْ مُسَافِرٌ لَمْ يَنْوِ الصَّوْمَ مِنْ اللَّيْلِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ثُمَّ نَوَى بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ يُجْزِيهِمَا وَبِهِ أَخَذَ الْحَسَنُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يُجْزِيهِمَا وَجْهُ عَدَمِ الْجَوَازِ أَنَّ الْأَدَاءَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِمَا فِي هَذَا الْوَقْتِ فَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمَا إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ كَالْقَضَاءِ وَوَجْهُ الْجَوَازِ أَنَّ الْوُجُوبَ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِمَا كَمَا فِي حَقِّ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ إلَّا أَنَّ لَهُمَا التَّرَخُّصَ بِالْفِطْرِ فَإِذَا لَمْ يَتَرَخَّصَا صَحَّتْ مِنْهُمَا النِّيَّةُ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ كَمَا يَصِحُّ مِنْ الْمُقِيمِ وَكَالنَّفَلِ. قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ) وَهُوَ أَنَّ وَقْتَ الصَّوْمِ مِعْيَارٌ قُلْنَا النَّفَلُ مُقَدَّرٌ بِكُلِّ الْيَوْمِ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَمَّا كَانَ مِعْيَارًا لِهَذِهِ الْعِبَادَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ الْمِعْيَارُ لِيُوجَدَ وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الصَّائِمُ أَهْلًا لِلصَّوْمِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ لِيَتَحَقَّقَ مِنْهُ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ فَيَفْسُدُ بِوُجُودِ الْمُنَافِي فِي أَوَّلِهِ مِنْ كُفْرٍ أَوْ حَيْضٍ أَوْ نَحْوِهِمَا حَتَّى إذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ أَوْ طَهُرَتْ الْحَائِضُ بَعْدَ الْفَجْرِ وَأَرَادَ أَنْ يَتَنَفَّلَ بِصَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَكَذَا لَا يَتَأَدَّى بِالنِّيَّةِ بَعْدَ انْتِصَافِ النَّهَارِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ شَرْعًا بَلْ يَصِيرُ صَائِمًا مِنْ حِينَ نَوَى لِأَنَّ «النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ إنِّي إذًا لَصَائِمٌ» وَهِيَ كَلِمَةٌ تُنْبِئُ عَنْ الْإِخْبَارِ لِلْحَالِ وَلِأَنَّ مَبْنَى التَّطَوُّعِ عَلَى النَّشَاطِ فَيَتَأَدَّى بِقَدْرِ مَا يُؤَدِّيه أَلَا تَرَى أَنَّ صَلَاةَ النَّفْلِ تَجُوزُ قَاعِدًا وَرَاكِبًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ وَالنُّزُولِ وَكَذَا الصَّدَقَةُ النَّافِلَةُ لَيْسَتْ بِمُقَدَّرَةٍ وَإِنْ كَانَتْ الْوَاجِبَةُ مُقَدَّرَةً وَلِهَذَا يَجُوزُ عِنْدَهُ بِنِيَّةٍ بَعْدَ الزَّوَالِ فِي قَوْلٍ وَكَذَا مَعَ الْمُنَافِي فِي أَوَّلِهِ كَالْكُفْرِ وَالْحَيْضِ فِي قَوْلٍ وَلَكِنْ بِشَرْطِ عَدَمِ الْأَكْلِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لِأَنَّ رُكْنَهُ إمْسَاكٌ يُخَالِفُ هَوَى النَّفْسِ وَلَا يَحْصُلُ

وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ الصَّوْمُ الْمَنْذُورُ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ لَمَّا انْقَلَبَ بِالنَّذْرِ صَوْمُ الْوَقْتِ وَاجِبًا لَمْ يَبْقَ نَفْلًا لِأَنَّهُ وَاحِدٌ لَا يَقْبَلُ وَصْفَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ فَصَارَ وَاحِدًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَأُصِيبَ بِمُطْلَقِ الِاسْمِ وَمَعَ الْخَطَإِ فِي الْوَصْفِ وَتَوَقَّفَ مُطْلَقُ الْإِمْسَاكِ فِيهِ عَلَى صَوْمِ الْوَقْتِ وَهُوَ الْمَنْذُورُ لَكِنَّهُ إذَا صَامَهُ عَنْ كَفَّارَةٍ أَوْ قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ صَحَّ عَمَّا نَوَى لِأَنَّ التَّعْيِينَ حَصَلَ بِوِلَايَةِ النَّاذِرِ وَوِلَايَتُهُ لَا تَعْدُوهُ فَصَحَّ التَّعْيِينُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حَقِّهِ وَهُوَ أَنْ لَا يَبْقَى النَّفَلُ مَشْرُوعًا فَأَمَّا فِي مَا يَرْجِعُ إلَى حَقِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَهُوَ أَنْ لَا يَبْقَى الْوَقْتُ مُحْتَمِلًا لِحَقِّهِ فَلَا فَاعْتُبِرَ فِي احْتِمَالِ ذَلِكَ الْعَارِضُ بِمَا لَوْ لَمْ يَنْذُرْ. ـــــــــــــــــــــــــــــQذَلِكَ مَعَ الْأَكْلِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ بِخِلَافِ عَدَمِ النِّيَّةِ أَوْ الْأَهْلِيَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَجْعَلُ الْإِمْسَاكَ مُوَافِقًا لِلْعَادَةِ عَلَى أَنَّ الْأَكْلَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لَا يَمْنَعُ عَنْ صِحَّةِ الصَّوْمِ فِي بَاقِيهِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَيْضًا مِنْهُمْ أَبُو زَيْدٍ الْقَاشَانِيُّ وَقَدْ يُوجَدُ فِي الشَّرْعِ إمْسَاكُ بَعْضِ الْيَوْمِ قُرْبَةً كَمَا فِي يَوْمِ الْأَضْحَى فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَيَّامِ أَيْضًا وَلَنَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّوْمَ لَا يُعْرَفُ قُرْبَةً إلَّا بِمِعْيَارٍ شَرْعِيٍّ وَلَمْ يُعْرَفْ مِعْيَارُهُ فِي الشَّرْعِ إلَّا يَوْمٌ كَامِلٌ فَاَلَّذِي يَخْتَرِعُهُ الْعَبْدُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ مِعْيَارًا لَهُ إذْ لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي مَعْرِفَةِ الْمَقَادِيرِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتَأَدَّى بِالنِّيَّةِ بَعْدَ الزَّوَالِ كَالْفَرْضِ لِفَوَاتِ أَكْثَرِ الرُّكْنِ بِلَا نِيَّةٍ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ بَعْدَ الزَّوَالِ فِي يَوْمٍ لَمْ يَأْكُلْ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ كَانَ الْإِمْسَاكُ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ صَوْمًا لَصَحَّ كَالنَّذْرِ بِالصَّدَقَةِ وَإِنْ قُلْت لِأَنَّ النَّذْرَ إيجَابُ الْمَشْرُوعِ وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ النَّفَلَ تَبَعٌ لِلْفَرْضِ فَيَكُونُ مُقَدَّرًا بِتَقْدِيرِهِ فِي الْجُمْلَةِ كَنَافِلَةِ الصَّلَاةِ مُقَدَّرَةٌ بِرَكْعَتَيْنِ لِأَنَّهُ أَدْنَى مَقَادِيرِ الْفَرْضِ وَيَجُوزُ قَاعِدًا أَوْ رَاكِبًا لِأَنَّ الْفَرْضَ يَجُوزُ بِتِلْكَ الْهَيْئَةِ عِنْدَ الْعُذْرِ وَكَذَا الصَّدَقَةُ بِالْقَلِيلِ قَدْ تَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ حَتَّى لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ فَأَدَّى دَانِقًا سَقَطَ عَنْهُ الْوَاجِبُ بِقَدْرِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهَهُنَا الْإِمْسَاكُ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ قَصْدًا لَا يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ بِحَالٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ النَّفَلُ بِهِ وَلَا تَمَسُّكَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ فَإِنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنِّي إذَا لَصَائِمٌ إخْبَارٌ عَنْ حَالَةِ الْعَزْمِ فَعَبَّرَ بِلِسَانِهِ مَا خَطَرَ بِقَلْبِهِ وَكَانَ فِيهِ بَيَانُ جَوَازِ الْعَزْمِ دُونَ تَغْيِيرِ الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ وَكَانَ قَوْلُهُ لَصَائِمٌ مُنْصَرِفًا إلَى الصَّوْمِ الْمَعْهُودِ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي مَا ذُكِرَ مِنْ قَوْلِهِ مَبْنَى التَّطَوُّعِ عَلَى النَّشَاطِ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِنَشَاطِهِ فِي التَّقْدِيرِ أَصْلًا فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَةً أَوْ يَكْتَفِي بِسَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ أَوْ تَقَدَّمَ السُّجُودُ عَلَى الرُّكُوعِ وَأَرَادَ أَنْ يَصُومَ أَوَّلَ النَّهَارِ دُونَ آخِرِهِ بِأَنْ نَوَى أَنْ يَصُومَ إلَى الْعَصْرِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا أَثَرُ نَشَاطِهِ فِي أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي فِعْلِهِ فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ الْمَشْرُوعَ الْمُقَدَّرَ الشَّرْعِيَّ فَيُثَابُ عَلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ مِنْ غَيْرِ تَوَجُّهِ عِقَابٍ عَلَيْهِ لَا فِي تَغْيِيرِ التَّقْدِيرِ الشَّرْعِيِّ وَأَمَّا الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ يَوْمِ النَّحْرِ فَلَيْسَ بِصَوْمٍ وَلِهَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ النِّيَّةُ وَإِنَّمَا نُدِبَ إلَيْهِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْأَمْصَارِ لِيَكُونَ ابْتِدَاءُ التَّنَاوُلِ مِنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ هَذَا الْحُكْمُ فِي حَقِّ أَهْلِ السَّوَادِ لِأَنَّ لَهُمْ حَقَّ التَّضْحِيَةِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَلَيْسَ لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ أَنْ يُضَحُّوا إلَّا بَعْدَ الصَّلَاةِ 1 - قَوْلُهُ (وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ) أَيْ مِنْ جِنْسِ مَا صَارَ الْوَقْتُ مُتَعَيَّنًا لَهُ كَشَهْرِ رَمَضَانَ لِلصَّوْمِ الْمَشْرُوعِ فِيهِ الصَّوْمُ الْمَنْذُورُ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ أَيْ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ رَجَبًا أَوْ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَاحْتُرِزَ بِهِ عَنْ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ نَذَرْت أَنْ أَصُومَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً لَمَّا انْقَلَبَ صَوْمُ الْوَقْتِ وَهُوَ النَّفَلُ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ وَسَائِرِ الصِّيَامَاتِ بِمَنْزِلَةِ الْعَوَارِضِ وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّعْيِينُ وَالتَّبْيِيتُ وَاجِبًا أَيْ بِالنَّذْرِ لَمْ يَبْقَ نَفْلًا لِأَنَّ الصَّوْمَ الْمَشْرُوعَ فِي وَقْتٍ لَا يَقْبَلُ وَصْفَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ أَيْ مُتَنَافِيَيْنِ أَوْ مُتَغَايِرَيْنِ وَهُمَا كَوْنُهُمَا نَفْلًا وَوَاجِبًا لِأَنَّ النَّفَلَ مَا لَا يَسْتَحِقُّ الْعَبْدُ الْعُقُوبَةَ بِتَرْكِهِ وَالْوَاجِبُ مَا لَا يَسْتَحِقُّهَا بِتَرْكِهِ فَإِذَا ثَبَتَ الْوُجُوبُ بِالنَّذْرِ انْتَفَى النَّفَلُ ضَرُورَةً فَصَارَ

[النوع الثالث الوقت الذي جعل معيارا لا سببا]

وَأَمَّا الْوَقْتُ الَّذِي جُعِلَ مِعْيَارًا لَا سَبَبًا فَمِثْلُ الْكَفَّارَاتِ الْمُؤَقَّتَةِ بِأَوْقَاتٍ غَيْرِ مُتَعَيَّنَةٍ وَكَقَضَاءِ رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ، وَالْوَقْتُ فِيهَا مِعْيَارٌ لَا سَبَبٌ وَمِنْ حُكْمِهَا أَنَّهَا مِنْ حَيْثُ جُعِلَتْ قُرْبَةً لَا تَسْتَغْنِي عَنْ النِّيَّةِ وَذَلِكَ فِي أَكْثَرِ الْإِمْسَاكِ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا غَيْرُ مُتَعَيَّنَةٍ لَا يَتَوَقَّفُ الْإِمْسَاكُ فِيهَا إلَّا لِصَوْمِ الْوَقْتِ وَهُوَ النَّفَلُ فَأَمَّا عَلَى الْوَاجِبِ فَلَا لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ الْوَقْتِ وَإِنَّمَا التَّوَقُّفُ عَلَى الْمَوْضُوعَاتِ الْأَصْلِيَّةِ فَأَمَّا عَلَى الْمُحْتَمَلِ فَلَا فَلِهَذَا كَانَتْ النِّيَّةُ مِنْ أَوَّلِهِ شَرْطًا لِيَقَعَ الْإِمْسَاكُ مِنْ أَوَّلِهِ مِنْ الْعَارِضِ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ الْوَقْتُ فَأَمَّا إذَا تَوَقَّفَ عَلَى وَجْهٍ فَلَا يُحْتَمَلُ الِانْتِقَالُ إلَى غَيْرِهِ وَمِنْ حُكْمِهِ أَنَّهُ لَا فَوَاتَ لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ الْوَقْتُ مُتَعَيَّنًا. ـــــــــــــــــــــــــــــQأَيْ الصَّوْمُ الْمَشْرُوعُ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَاحِدٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يَحْتَمِلْ صِفَةَ النَّفْلِيَّةِ وَإِنْ بَقِيَ مُحْتَمِلًا لِصِفَةِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ فَأُصِيبَ بِمُطْلَقِ الِاسْمِ أَيْ يَقَعُ عَنْ الْمَنْذُورِ بِالنِّيَّةِ الْمُطْلَقَةِ وَمَعَ الْخَطَإِ فِي الْوَصْفِ أَيْ بِنِيَّةِ النَّفْلِ كَصَوْمِ رَمَضَانَ لَكِنَّهُ إذَا صَامَهُ أَيْ صَوْمَ الْوَقْتِ أَوْ صَامَ الْوَقْتَ عَلَى طَرِيقِ الِاتِّسَاعِ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ صَحَّ عَمَّا نَوَى لِأَنَّ التَّعْيِينَ أَيْ تَعْيِينَ النَّاذِرِ الْوَقْتَ لِلصَّوْمِ الْمَنْذُورِ حَصَلَ بِوِلَايَتِهِ فَلَا يَعْدُوهُ لِحَقِّهِ أَيْ لِحَقِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ. فَاعْتُبِرَ أَيْ هَذَا الْوَقْتُ فِي احْتِمَالِ ذَلِكَ الْعَارِضِ وَهُوَ مَا يَرْجِعُ إلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ بِمَا لَوْ لَمْ يَنْذِرْ أَيْ بِعَدَمِ النَّذْرِ أَوْ الْمَعْنَى فَاعْتُبِرَ النَّذْرُ أَوْ التَّعْيِينُ فِي حَقِّ إبْطَالِ احْتِمَالِ الْوَقْتِ ذَلِكَ الْعَارِضَ وَهُوَ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ بِمَا لَوْ لَمْ يَنْذِرْ أَيْ بِالْعَدَمِ يَعْنِي كَمَالُ الْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ فِي هَذَا الْيَوْمِ هُوَ النَّفَلُ حَقًّا لِلْعَبْدِ وَصَوْمُ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ كَانَ مُحْتَمَلَهُ فَإِذَا نَذَرَ فَقَدْ تَصَرَّفَ فِيمَا هُوَ حَقُّهُ بِالْإِيجَابِ لَا فِيمَا هُوَ حَقُّ الشَّرْعِ وَهُوَ احْتِمَالُ الْوَقْتِ لِصَوْمِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ إذْ لَوْ ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي ذَلِكَ صَارَ الْعَبْدُ مُبَدِّلًا لِلْمَشْرُوعِ وَاَلَّذِي لَيْسَ بِحَقِّهِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ كَمَنْ سَلَّمَ وَعَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ يُرِيدُ بِهِ قَطْعَ الصَّلَاةِ لَا يُعْمِلُ إرَادَتَهُ فِيهِ لِأَنَّهُ تَبْدِيلٌ لِلْمَشْرُوعِ فَكَذَا هَذَا وَاعْلَمْ أَنَّ إيرَادَ هَذَا الْقِسْمِ فِي هَذَا النَّوْعِ مُشْكِلٌ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ فِي بَيَانِ مَا جُعِلَ الْوَقْتُ مِعْيَارًا لَهُ وَسَبَبًا لِوُجُوبِهِ وَفِي هَذَا الْقِسْمِ الْوَقْتُ مِعْيَارٌ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ إذْ السَّبَبُ فِيهِ النَّذْرُ عَلَى مَا عُرِفَ فَكَانَ إيرَادُهُ فِي الْقِسْمِ الَّذِي يَلِيهِ أَوْلَى وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ فِي هَذَا النَّوْعِ لِأَنَّ شَبَهَهُ بِصَوْمِ رَمَضَانَ أَقْوَى مِنْ شَبَهِهِ بِصَوْمِ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ الْوَقْتَ فِيهِ مِعْيَارٌ وَشَرْطٌ لِلْأَدَاءِ وَفِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ الْوَقْتُ مِعْيَارٌ لَا غَيْرُ فَلِهَذَا أَوْرَدَهُ هَهُنَا [النَّوْع الثَّالِث الْوَقْتُ الَّذِي جُعِلَ مِعْيَارًا لَا سَبَبًا] قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْوَقْتُ الَّذِي جُعِلَ مِعْيَارًا لَا سَبَبًا) وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَقْسَامِ الْمُوَقَّتَةِ فَالشَّيْخُ ذَكَرَ هَذَا الْقِسْمِ فِي أَقْسَامِ الْمُوَقَّتَةِ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَشَايِخِ ذَكَرَهُ فِي الْمُطْلَقَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ لَهُ شَبَهًا بِهِمَا جَمِيعًا فَشَبَهُهُ بِالْمُوَقَّتَةِ أَنَّهُ تَعَلَّقَ بِوَقْتٍ مُقَدَّرٍ لَهُ وَهُوَ النَّهَارُ لَا بِمُطْلَقِ الْوَقْتِ كَالزَّكَاةِ حَتَّى لَوْ أَدَّاهُ لَيْلًا لَمْ يُعْتَبَرْ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَشَبَهُهُ بِالْمُطْلَقَةِ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِوَقْتٍ مُتَعَيَّنٍ يَفُوتُ الْأَدَاءُ كَمَا يَفُوتُ بِفَوَاتِ شَهْرِ رَمَضَانَ بَلْ مَتَى أَدَّاهُ يَكُونُ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا فَاخْتَارَ الشَّيْخُ جَانِبَ كَوْنِهِ مُوَقِّتًا وَاخْتَارَ غَيْرُهُ جَانِبَ كَوْنِهِ مُطْلَقًا وَالْوَقْتُ فِيهَا أَيْ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الصِّيَامَاتِ مِعْيَارٌ وَلِهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ قَضَاءُ صَوْمَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَأَدَاءُ كَفَّارَتَيْنِ بِالصَّوْمِ فِي شَهْرَيْنِ لَا سَبَبٌ فَإِنَّ سَبَبَ الْكَفَّارَاتِ مَا يُضَافُ إلَيْهِ مِنْ ظِهَارٍ أَوْ قَتْلٍ أَوْ يَمِينٍ وَنَحْوِهَا. وَسَبَبُ الْقَضَاءِ التَّفْوِيتُ أَوْ الْفَوَاتُ أَوْ مَا هُوَ سَبَبُ الْأَدَاءِ وَسَبَبُ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ أَيْ الْمَنْذُورُ الْمُطْلَقُ النَّذْرِ وَمِنْ حُكْمِهَا أَيْ مِنْ حُكْمِ هَذِهِ الصِّيَامَاتِ أَنَّهَا مِنْ حَيْثُ جُعِلَتْ قُرْبَةً لَا تَسْتَغْنِي عَنْ النِّيَّةِ وَتَكْفِي فِي أَكْثَرِ الْإِمْسَاكِ كَصَوْمِ رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ الْمُعَيَّنِ وَالتَّطَوُّعِ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا غَيْرُ مُتَعَيَّنَةٍ فِي هَذَا الْوَقْتِ بَلْ هِيَ مِنْ مُحْتَمَلَاتِهِ لَا يَكُونُ تَوَقُّفُ الْإِمْسَاكِ فِي هَذِهِ الصِّيَامَاتِ إلَّا عَلَى صَوْمِ الْوَقْتِ وَهُوَ النَّفَلُ إذْ هُوَ الْمَوْضُوعُ الْأَصْلِيُّ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ فَأَمَّا عَلَى الْوَاجِبِ فَلَا أَيْ فَأَمَّا التَّوَقُّفُ عَلَى الْوَاجِبِ وَهُوَ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَاتُ فَلَا يَكُونُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مُحْتَمَلُ الْوَقْتِ وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّوَقُّفُ عَلَى الْمَوْضُوعَاتِ الْأَصْلِيَّةِ كَمَا فِي قَوْلِك رَأَيْت أَسَدًا

[النوع الرابع من المؤقتة فهو المشكل]

وَأَمَّا النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ الْمُؤَقَّتَةِ فَهُوَ الْمُشْكِلُ مِنْهُ وَهُوَ حَجُّ الْإِسْلَامِ وَمَعْنَى قَوْلِنَا إنَّهُ مُشْكِلٌ أَنَّ وَقْتَهُ الْعُمْرُ وَأَشْهُرُ الْحَجِّ فِي كُلِّ عَامٍ صَالِحٌ لِأَدَائِهِ أَمْ أَشْهُرُ الْحَجِّ مِنْ الْعَامِ الْأَوَّلِ وَقْتٌ مُتَعَيَّنٌ لِأَدَائِهِ وَلَا خِلَافَ فِي الْوَصْفِ الْأَوَّلِ حَتَّى إذَا أَخَّرَ عَنْ الْعَامِ الْأَوَّلِ كَانَ مُؤَدِّيًا فَأَمَّا الْوَصْفُ الثَّانِي فَهُوَ صَحِيحٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِي الْحَالِ وَأَشْهُرُ الْحَجِّ فِي هَذَا الْعَامِ الَّذِي لَحِقَهُ الْخِطَابُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَإِذَا أَدْرَكَ الْعَامَ الثَّانِيَ صَارَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِ الْأَوَّلِ لَا يَصِيرُ كَذَلِكَ إلَّا بِشَرْطِ الْإِدْرَاكِ وَقَالَ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ وَصِدْقُهُ عَلَى رُؤْيَةِ الْهَيْكَلِ الْمَعْلُومِ لَا عَلَى رُؤْيَةِ إنْسَانٍ شُجَاعٍ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَوْضِعُ اللَّفْظِ وَالثَّانِي مُحْتَمَلُهُ وَهَذَا لِأَنَّ التَّوَقُّفَ إنَّمَا يُثْبِتُ ضَرُورَةَ اسْتِدْرَاكِ فَضِيلَةِ صَوْمِ الْوَقْتِ الَّتِي لَا يُدْرَكُ أَصْلًا وَالضَّرُورَةُ فِيمَا هُوَ الْمَوْضُوعُ الْأَصْلِيُّ لِلْوَقْتِ لَا فِيمَا هُوَ مُحْتَمَلُهُ فَإِذَا كَانَ الْوَقْتُ عَيْنًا لِفَرْضٍ كَرَمَضَانَ كَانَ الْوَقْفُ عَلَيْهِ فَنَفَذَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ رَمَضَانَ فَالْأَصْلُ فِيهِ النَّفَلُ فَلَا يَنْفُذُ عَلَى غَيْرِهِ. فَلِهَذَا كَانَتْ النِّيَّةُ شَرْطًا مِنْ أَوَّلِهِ لِيَقَعَ الْإِمْسَاكُ مِنْ أَوَّلِهِ مِنْ مُحْتَمَلِ الْوَقْتِ فَإِذَا نَوَى مِنْ اللَّيْلِ صَوْمَ الْقَضَاءِ يَنْعَقِدُ الْإِمْسَاكُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ لِمُحْتَمَلِ الْوَقْتِ فَيَجُوزُ وَأَمَّا إذَا انْعَقَدَ الْإِمْسَاكُ لِمَوْضُوعِ الْوَقْتِ وَهُوَ النَّفَلُ لَا يُمْكِنُ صَرْفُهُ إلَى مُحْتَمَلِ الْوَقْتِ وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ جَوَابٌ عَنْ كَلَامِ الْخَصْمِ فَإِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ صَوْمِ رَمَضَانَ وَصَوْمِ الْقَضَاءِ فِي عَدَمِ جَوَازِ التَّأْخِيرِ فَفَرَّقَ الشَّيْخُ بَيْنَهُمَا بِمَا ذَكَرَهُ وَمِنْ حُكْمِهِ أَنَّهُ لَا فَوَاتَ لَهُ ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ وَمِنْ حُكْمِهِ أَنَّهُ لَا يَتَضَيَّقُ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ وَحَكَى عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَتَضَيَّقُ كَالْحَجِّ وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ الْمُؤَقَّتَةِ فَهُوَ الْمُشْكِلُ] قَوْلُهُ (وَأَمَّا النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ الْمُوَقَّتَةِ فَهُوَ الْمُشْكِلُ) أَيْ الَّذِي لَا يُعْلَمُ أَنَّ وَقْتَهُ مُتَوَسِّعٌ أَمْ مُتَضَيَّقٌ مِنْهُ أَيْ مِنْ الْمُوَقَّتَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ حَجُّ الْإِسْلَامِ إسْنَادُ الْإِشْكَالِ إلَى الْحَجِّ مَجَازٌ إذْ الْإِشْكَالُ فِي وَقْتِهِ لَا فِي نَفْسِهِ وَبَيَانُ الْإِشْكَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ أَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ تَتَأَدَّى بِأَرْكَانٍ مَعْلُومَةٍ وَلَا يَسْتَغْرِقُ الْأَدَاءُ جَمِيعَ الْوَقْتِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُشْبِهُ وَقْتَ الصَّلَاةِ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا أَدَاءُ حِجَّةٍ وَاحِدَةٍ يُشْبِهُ وَقْتَ الصَّوْمِ وَالثَّانِي بِالنِّسْبَةِ إلَى سِنِي الْعُمْرِ فَإِنَّ الْحَجَّ فَرْضُ الْعُمْرِ وَوَقْتُهُ أَشْهُرُ الْحَجِّ وَهِيَ مِنْ السَّنَةِ الْأُولَى يَتَعَيَّنُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَفْضُلُ عَنْ الْأَدَاءِ وَبِاعْتِبَارِ أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ السِّنِينَ الَّتِي يَتَأَتَّى يَفْضُلُ الْوَقْتُ عَنْ الْأَدَاءِ وَذَلِكَ مُحْتَمَلٌ فِي نَفْسِهِ فَكَانَ مُشْتَبِهًا كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِلَى الْوَجْهِ الثَّانِي أَشَارَ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ وَكَذَا فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ فَقَالَ وَقْتُ الْحَجِّ وَقْتٌ عُيِّنَ جُعِلَ ظَرْفًا لِأَدَاءِ الْحَجِّ وَمَعْنَى إشْكَاله أَنَّهُ إذَا أَخَّرَ الْحَجّ عَنْ هَذَا الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ لَهُ ظَرْفًا فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ الشَّكُّ وَالْإِشْكَالُ فِي أَدَائِهِ فَإِنَّهُ إنْ عَاشَ أَدَّى وَإِنْ مَاتَ تَحَقَّقَ الْفَوَاتُ فَسَمَّيْنَاهُ مُشْكِلًا وَهَكَذَا فِي التَّقْوِيمِ أَيْضًا وَهُوَ الصَّحِيحُ. قَوْلُهُ (وَأَشْهُرُ الْحَجِّ فِي كُلِّ عَامٍ) إلَى آخِرِهِ يَعْنِي لَا يَدْرِي أَوَقْتُهُ مُتَوَسِّعٌ فِي الْحَقِيقَةِ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَمْ مُتَضَيَّقٌ فَإِنْ عَاشَ سِنِينَ كَانَ أَشْهُرُ الْحَجِّ مِنْ كُلِّ عَامٍ صَالِحًا لِأَدَائِهِ بِمَنْزِلَةِ آخِرِ الْوَقْتِ فِي الصَّلَاةِ وَكَانَ الْوَقْتُ فِي حَقِّهِ مُتَوَسِّعًا وَإِنْ لَمْ يَعِشْ كَانَ أَشْهُرُ الْحَجِّ مِنْ الْعَامِ الْأَوَّلِ مُتَعَيَّنًا لِأَدَائِهِ وَكَانَ الْوَقْتُ مُتَضَيَّقًا كَمَا بَيَّنَّا وَلَا خِلَافَ فِي الْوَصْفِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ عَامٍ صَالِحٌ لِأَدَائِهِ حَتَّى إذَا أُخِّرَ عَنْ الْعَامِ الْأَوَّلِ وَأَدَّاهُ فِي عَامٍ آخَرَ كَانَ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا بِالِاتِّفَاقِ لِكَوْنِ ذَلِكَ عَامًا مِنْ عُمْرِهِ فَأَمَّا الْوَصْفُ الثَّانِي وَهُوَ تَعْيِينُ أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ الْعَامِ الْأَوَّلِ لِلْأَدَاءِ فَهُوَ صَحِيحٌ أَيْ ثَابِتٌ مَعَ الْوَصْفِ الْأَوَّلِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَعْنِي أَشْهُرُ الْحَجِّ مِنْ الْعَامِ الْأَوَّلِ مُتَعَيَّنٌ لِلْأَدَاءِ فِي الْحَالِ كَوَقْتِ الصَّلَاةِ لِلصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى أَنَّهُ يَعِيشُ إلَى الْقَابِلِ أَمْ لَا فَيَأْثَمُ بِتَأْخِيرِهِ عَنْهُ كَمَا فِي الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهُ إذَا أَدَّاهُ فِي الْعَامِ الثَّانِي كَانَ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ. قَوْلُهُ

مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُوَسَّعًا يَسَعُ تَأْخِيرَهُ عَنْ الْعَامِ الْأَوَّلِ وَقَالَ الْكَرْخِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ مَشَايِخِنَا إنَّ هَذَا يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ عَنْ الْوَقْتِ يُوجِبُ الْفَوْرَ أَمْ لَا مِثْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْعُشْرِ وَالنَّذْرِ بِالصَّدَقَةِ الْمُطْلَقَةِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ عَلَى الْفَوْرِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى التَّرَاخِي فَكَذَلِكَ الْحَجُّ فَأَمَّا تَعَيُّنُ الْوَقْتِ فَلَا. وَاَلَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يُوجِبُ الْفَوْرَ بِلَا خِلَافٍ فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْحَجِّ فَمَسْأَلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ فَذَهَبَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّ فَرْضُ الْعُمْرِ بِلَا خِلَافٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَأَدَّى فِي كُلِّ عَامٍ إلَّا فِي وَقْتٍ خَاصٍّ فَيَكُونُ وَقْتُهُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي عُمْرِهِ وَإِلَيْهِ تَعْيِينُهُ كَصَوْمِ الْقَضَاءِ وَقْتُهُ النُّهُرُ دُونَ اللَّيَالِي وَإِلَى الْعَبْدِ تَعْيِينُهُ فَلَا يَتَعَيَّنُ الَّذِي يَلِيهِ إلَّا بِتَعْيِينِهِ بِطَرِيقِ الْأَدَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَتَى أَدَّاهُ كَانَ مُؤَدِّيًا وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ مُتَعَيَّنًا لَصَارَ بِالتَّأْخِيرِ مُفَوِّتًا ـــــــــــــــــــــــــــــQبِمَنْزِلَةِ يَوْمٍ أَدْرَكَهُ فِي حَقِّ قَضَاءِ رَمَضَانَ) يَعْنِي مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ إذْ لَوْ أَدْرَكَ يَوْمًا مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْقَضَاءِ فِي هَذَا الْيَوْمِ حَتَّى لَوْ أَخَّرَ عَنْهُ لَا يَأْثَمُ لِأَنَّ وَقْتَ الْقَضَاءِ جَمِيعُ الْعُمْرِ فَكَذَلِكَ هَهُنَا وَإِنَّمَا خَصَّ هَذَا النَّظِيرُ دُونَ أَوَّلِ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ فِي الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّهُ مِثْلُهُ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِوَقْتِ الْحَجِّ مِنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ وَقْتَ أَدَاءِ الصَّوْمِ يَنْقَطِعُ بِإِقْبَالِ اللَّيْلِ إلَى الْغَدِ كَمَا أَنَّ وَقْتَ أَدَاءِ الْحَجِّ يَنْقَطِعُ بِانْقِضَاءِ أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ هَذَا الْعَامِ إلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ الْعَامِ الْقَابِلِ بِخِلَافِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّلْ مِنْ أَجْزَائِهِ مَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْأَدَاءِ. قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا يُعْرَفُ) أَيْ حَقِيقَةُ الْخِلَافِ فِي تَعَيُّنِ الْأَشْهُرِ مِنْ الْعَامِ الْأَوَّلِ لِلْأَدَاءِ بِمَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ الْحَجِّ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وُجُوبُهُ بِطَرِيقِ التَّضْيِيقِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ تَعَيُّنُ الْأَشْهُرِ مِنْ الْعَامِ الْأَوَّلِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وُجُوبُهُ بِطَرِيقِ التَّوَسُّعِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ جَوَازُ التَّأْخِيرِ عَنْ الْعَامِ الْأَوَّلِ وَعَدَمُ تَعَيُّنِهِ لِلْأَدَاءِ (فَإِنْ قِيلَ) لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ وَقْتَهُ مُتَضَيَّقٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَمْ يَبْقَ مُشْكِلًا كَوَقْتِ الصَّوْمِ وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ مُتَوَسِّعٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ زَالَ الْإِشْكَالُ عَنْهُ أَيْضًا كَوَقْتِ الصَّلَاةِ (قُلْنَا) إنَّمَا حَكَمَ أَبُو يُوسُفَ بِالتَّضَيُّقِ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ حَتَّى لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَفْوِيتِ الْعِبَادَةِ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ انْقَطَعَ جِهَةُ التَّوَسُّعِ بِالْكُلِّيَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَ الْعَامَ الثَّانِيَ جَازَ أَدَاؤُهُ فِيهِ وَإِنَّمَا قَالَ مُحَمَّدٌ بِالتَّوَسُّعِ نَظَرًا إلَى ظَاهِرِ الْحَالِ لَا أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّضَيُّقَ عِنْدَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَ قَبْلَ إدْرَاكِ الْأَشْهُرِ مِنْ الْعَامِ الثَّانِي كَانَ الْأَشْهُرُ مِنْ الْعَامِ الْأَوَّلِ مُتَعَيَّنًا لِلْأَدَاءِ عِنْدَهُ. فَثَبَتَ أَنَّ الْإِشْكَالَ لَمْ يَزُلْ بِمَا قَالَاهُ قَوْلُهُ (مِثْلُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ) جَمَعَ الشَّيْخُ بَيْنَ مَا وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ مَا وَجَبَ بِإِيجَابِ الْعَبْدِ فَالزَّكَاةُ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ وَالْعَشْرُ نَظِيرُ الْأَوَّلِ وَالنَّذْرُ بِالصَّدَقَةِ الْمُطْلَقَةِ أَيْ غَيْرِ الْمُقَيَّدَةِ بِوَقْتِ نَظِيرُ الثَّانِي فَأَمَّا تَعَيُّنُ الْوَقْتِ فَلَا أَيْ إمَّا أَنْ يَكُونَ تَعْيِينُ الْوَقْتِ مُخْتَلَفًا فِيهِ ابْتِدَاءً فَلَا يَعْنِي مَسْأَلَةَ الْحَجِّ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ أَوَّلَ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ مُتَعَيَّنٌ لِلْأَدَاءِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ لَا أَنَّ الْخِلَافَ فِيهَا ابْتِدَائِيٌّ. قَوْلُهُ (فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْحَجِّ فَمَسْأَلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ) أَيْ غَيْرُ بِنَائِيَّةٍ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ حَتَّى يَأْثَمَ بِنَفْسِ التَّأْخِيرِ رَوَاهُ عَنْهُ بِشْرٌ وَالْمُعَلَّى وَهَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَالَ سُئِلَ عَمَّنْ لَهُ مَالٌ أَيَحُجُّ بِهِ أَمْ يَتَزَوَّجُ قَالَ بَلْ يَحُجُّ بِهِ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَهُ عَلَى الْفَوْرِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَسَعُهُ التَّأْخِيرُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَفُوتَهُ بِالْمَوْتِ فَإِنْ أَخَّرَهُ وَمَاتَ قَبْلَ إدْرَاكِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فَهُوَ آثِمٌ بِالِاتِّفَاقِ أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّ التَّأْخِيرَ كَانَ بِشَرْطِ عَدَمِ الْفَوْتِ وَقَدْ فَوِّتْ فَيَأْثَمُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ وَإِنْ مَاتَ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ. وَهَذَا الْخِلَافُ فِي التَّأْثِيمِ بِالتَّأْخِيرِ فَأَمَّا الْوُجُوبُ فَثَابِتٌ عِنْدَ الْكُلِّ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِيصَاءُ بِالْإِحْجَاجِ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا فِي تَأْخِيرِ صَوْمِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ وَيَجِبُ الْإِيصَاءُ بِالْفِدْيَةِ وَإِنْ جَازَ تَأْخِيرُهُ وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُسْتَصْفَى أَنَّ التَّأْخِيرَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ جَائِزٌ فِي حَقِّ الشَّابِّ الصَّحِيحِ دُونَ الشَّيْخِ وَالْمَرِيضِ لِأَنَّ الْبَقَاءَ إلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ غَالِبٌ فِي حَقِّ الشَّابِّ الصَّحِيحِ دُونَ الشَّيْخِ وَالْمَرِيضِ وَذَكَرَ فِي إشَارَاتِ الْأَسْرَارِ لِأَبِي فَضْلٍ الْكَرْمَانِيِّ وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجِبُ مُوَسَّعًا يَحِلُّ فِيهِ التَّأْخِيرُ إلَّا إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ إذَا أَخَّرَ

وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بَقِيَ وَقْتًا لِلنَّفْلِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ فِي مُدَّةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا حَجٌّ وَاحِدٌ وَلَوْ تَعَيَّنَ لِلْفَرْضِ لِمَا بَقِيَ النَّفَلُ مَشْرُوعًا كَمَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرَ مُتَعَيَّنٍ إلَّا بِالْأَدَاءِ وَمَتَى تَعَيَّنَ بِالْأَدَاءِ لَمْ يَبْقَ النَّفَلُ فِيهِ مَشْرُوعًا وَلِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ مِنْ الْعَامِ الْأَوَّلِ مُتَعَيَّنَةٌ لِلْأَدَاءِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ التَّأْخِيرُ عَنْهَا كَوَقْتِ الظُّهْرِ لِلظُّهْرِ وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا لِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَدَاءِ لِحَقِّهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَهَذَا وَاحِدٌ لَا مُزَاحِمَ لَهُ لِأَنَّ الْمُزَاحَمَةَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِإِدْرَاكِ وَقْتٍ آخَرَ وَهُوَ مَشْكُوكٌ لِأَنَّهُ لَا يُدْرِكُهُ إلَّا بِالْحَيَاةِ إلَيْهِ وَالْحَيَاةُ وَالْمَمَاتُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ سَوَاءٌ فِي الِاحْتِمَالِ فَلَا يَثْبُتُ الْإِدْرَاكُ بِالشَّكِّ فَيَبْقَى هَذَا الْوَقْتُ مُتَعَيَّنًا بِلَا مُعَارَضَةٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَفُوتُ ثُمَّ ذَكَرَ فِي آخِرِ كَلَامِ مُحَمَّدٍ وَأَمَّا إذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ فَإِنْ كَانَ الْمَوْتُ فَجْأَةً لَمْ يَلْحَقْهُ إثْمٌ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ ظُهُورِ إمَارَاتٍ يَشْهَدُ قَلْبُهُ بِأَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ يَفُوتُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ التَّأْخِيرُ وَيَصِيرُ مُتَضَيَّقًا عَلَيْهِ لِقِيَامِ الدَّلِيل فَإِنَّ الْعَمَلَ بِدَلِيلِ الْقَلْبِ وَاجِبٌ عِنْدَ عَدَمِ الْأَدِلَّةِ وَاسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَنَّ الْحَجَّ فَرْضُ الْعُمْرِ فَكَانَ جَمِيعُ الْعُمْرِ وَقْتَ أَدَائِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَأَدَّى فِي كُلِّ عَامٍ إلَّا فِي وَقْتٍ خَاصٍّ وَهُوَ أَشْهُرُ الْحَجِّ فَيَكُونُ وَقْتُهُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَيْ فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِهَا لَا أَشْهُرُ الْحَجِّ مِنْ هَذَا الْعَامِ بِعَيْنِهَا. وَمَا مِنْ سَنَةٍ يَمْضِي إلَّا وَيُتَوَهَّمُ إدْرَاكُ الْوَقْتِ بَعْدَهَا وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْعَجْزُ بِعَارِضِ الْمَوْتِ فَرَجَّحْنَا الْحَيَاةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَا كَانَ ثَابِتًا فَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ الْمُزِيلُ وَفِيهِ شَكٌّ فَلَمْ يُعْتَبَرْ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِتَعَيُّنِهِ فِعْلًا كَصَوْمِ الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ مُوَقَّتٌ بِالْعُمْرِ وَوَقْتُ أَدَائِهِ النُّهُرُ دُونَ اللَّيَالِي كَمَا أَنَّ وَقْتَ الْحَجِّ أَشْهُرُ الْحَجِّ دُونَ بَاقِي السَّنَةِ وَمَعَ هَذَا لَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِتَعَيُّنِ الْعَبْدِ فِعْلًا فَكَذَا هَذَا وَلِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ مِنْ السَّنَةِ الْأُولَى فِي حَقِّ الْمُخَاطَبِ بِهِ آخِرُ الْوَقْتِ فَيَحْرُمُ التَّأْخِيرُ عَنْهُ كَمَا فِي آخِرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَقْتَ فِي حَقِّهِ أَشْهُرُ الْحَجِّ مِنْ عُمْرِهِ لَا مِنْ جَمِيعِ الدَّهْرِ وَالْأَشْهُرِ الَّتِي مِنْ عُمْرِهِ مَا كَانَ مُتَّصِلًا بِعُمْرِهِ وَهَذِهِ الْأَشْهُرُ هِيَ الْمُتَّصِلَةُ بِعُمْرِهِ يَقِينًا وَاَلَّتِي لَمْ يَجِئْ بَعْدُ غَيْرُ مُتَّصِلَةٍ بِعُمْرِهِ فَلَا تَصِيرُ وَقْتَ حَجِّهِ إلَّا بِالِاتِّصَالِ. وَذَلِكَ مَشْكُوكٌ وَالِانْفِصَالُ فِي الْحَالِ ثَابِتٌ فَلَا يَرْتَفِعُ بِالشَّكِّ وَعَلَى اعْتِبَارِ الِانْفِصَالِ لَا يَبْقَى وَقْتٌ لِحَجِّهِ غَيْرُ الْوَقْتِ الْحَاضِرِ فَيَكُونُ التَّأْخِيرُ عَنْهُ تَفْوِيتًا كَالتَّأْخِيرِ عَنْ آخِرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ يُحَقِّقُهُ أَنَّ بِمُضِيِّ وَقْتِ عَرَفَةَ يَفُوتُ وَقْتُ الْحَجِّ فِي الْحَالِ وَلَا يُرْجَى عَوْدُهُ إلَّا بِالْعَيْشِ إلَى الْعَامِ الْقَابِلِ وَفِيهِ شَكٌّ لِأَنَّ الْعَيْشَ إلَى سَنَةٍ لَيْسَ بِأَرْجَحَ مِنْ الْمَوْتِ فَلَا يَثْبُتُ الْعَوْدُ بِالشَّكِّ وَلَا يَرْتَفِعُ حُكْمُ الْفَوْتِ بِخِلَافِ الْوَاجِبِ الْمُطْلَقِ عَنْ الْوَقْتِ حَيْثُ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ لِأَنَّ الْفَوْتَ فِيهِ بِالْمَوْتِ وَالْعُمْرُ ثَابِتٌ لِلْحَالِ وَالْمَوْتُ مُحْتَمَلٌ فَلَا يَرْتَفِعُ الثَّابِتُ بِالْمُحْتَمَلِ فَأَمَّا الثَّابِتُ هَهُنَا فَالْفَوْتُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ فَلَا يَرْتَفِعُ بِالْمُحْتَمَلِ وَهُوَ الْعَيْشُ إلَى السَّنَةِ الْقَابِلَةِ وَنَظِيرُهُ الْمَفْقُودُ لَا يُورَثُ عَنْهُ مَالُهُ لِأَنَّ مِلْكَهُ ثَابِتٌ فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ وَلَا يَرِثُ عَنْ وَاحِدٍ لِأَنَّ مِلْكَ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا لَهُ فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ أَيْضًا وَبِخِلَافِ تَأْخِيرِ صَوْمِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ لِأَنَّ الْمَوْتَ فِي لَيْلَةٍ نَادِرٌ فَلَمْ يُعَدَّ تَفْوِيتًا عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فَصَارَ حَرْفُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْخَصْمَ يَقُولُ لَا فَوَاتَ إلَّا بِالْمَوْتِ فَإِنَّ جَمِيعَ الْعُمْرِ وَقْتُ الْأَدَاءِ وَيُعْتَبَرُ الظَّاهِرُ لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ مِنْ الْقُدْرَةِ وَلَا يُبْطِلُهَا بِالْمَوْهُومِ وَنَحْنُ نَقُولُ إذَا تَعَذَّرَ الْأَدَاءُ عَلَيْهِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَقَدْ تَحَقَّقَ الْفَوَاتُ وَلَهُ احْتِمَالُ أَنْ لَا يَكُونَ فَوَاتًا بِالْإِدْرَاكِ وَفِيهِ شَكٌّ فَحَكَمْنَا بِالْفَوَاتِ لِلْحَالِ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ فَوَاتًا. (فَإِنْ قِيلَ) قَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَّ سَنَةَ عَشْرٍ مِنْ الْهِجْرَةِ وَنَزَلَتْ فَرْضِيَّتُهُ سَنَةَ سِتٍّ مِنْهَا فَعُلِمَ أَنَّ التَّأْخِيرَ جَائِزٌ (قُلْنَا) تَأْخِيرُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ لِعُذْرٍ وَهُوَ اشْتِغَالُهُ بِأَمْرِ الْحُرُوبِ وَغَيْرِهِ وَلِأَنَّ التَّأْخِيرَ إنَّمَا حُرِّمَ لِلْفَوْتِ وَذَلِكَ بِالشَّكِّ فِي الْعَيْشِ وَقَدْ ارْتَفَعَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَعِيشُ إلَى أَنْ يُبَيِّنَ أَمْرَ الْحَجِّ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أَرْكَانِ الدِّينِ وَيُعَلِّمُ النَّاسَ الْمَنَاسِكَ وَلَمْ يَكُنْ عِلْمٌ قَبْلَ عَامِ الْحَجِّ فَلَمَّا ارْتَفَعَ الشَّكُّ فِي حَقِّهِ اتَّسَعَ الْوَقْتُ وَصَارَ كَأَوَّلِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَهَذَا الدَّلِيلُ لَمْ يَثْبُتْ فِي

وَيَصِيرُ السَّاقِطُ بِطَرِيقِ التَّعَارُضِ كَالسَّاقِطِ بِالْحَقِيقَةِ فَيَصِيرُ كَوَقْتِ الظُّهْرِ فِي التَّقْدِيرِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ لِأَنَّ تَأْخِيرَهُ عَنْ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لَا يُفَوِّتُهُ وَالتَّعَارُضُ لِلْحَالِ غَيْرُ قَائِمٍ لِأَنَّ الْحَيَاةَ إلَى الْيَوْمِ الثَّانِي غَالِبَةٌ، وَالْمَوْتُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِالْفُجَاءَةِ نَادِرٌ فَلَا يُتْرَكُ الظَّاهِرُ بِالنَّادِرِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اسْتَوَتْ الْأَيَّامُ كُلُّهَا كَأَنَّهُ أَدْرَكَهَا جُمْلَةً فَخُيِّرَ بَيْنَهَا وَلَا يَتَعَيَّنُ أَوَّلُهَا وَلَا يَلْزَمُ أَنَّ النَّفَلَ بَقِيَ مَشْرُوعًا لِأَنَّا إنَّمَا اعْتَبِرْنَا التَّعْيِينَ احْتِيَاطًا وَاحْتِرَازًا عَنْ الْفَوْتِ فَظَهَرَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَأْثَمِ لَا غَيْرُ فَأَمَّا أَنْ يَبْطُلَ اخْتِيَارُ جِهَةِ التَّقْصِيرِ وَالْمَأْثَمِ فَلَا وَلَا يَلْزَمُ إذَا أَدْرَكَ الْعَامَ الثَّانِيَ لِأَنَّا إنَّمَا عَيَّنَّا الْأَوَّلَ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فَإِذَا أَدْرَكَهُ وَذَهَبَ الشَّكُّ صَارَ الثَّانِي هُوَ الْمُتَعَيَّنُ وَسَقَطَ الْمَاضِي لِأَنَّ الْمَاضِيَ لَا يَحْتَمِلُ الْأَدَاءَ بَعْدَ مُضِيِّهِ وَفِي إدْرَاكِ الثَّالِثِ شَكٌّ فَقَامَ الثَّانِي مَقَامَ الْأَوَّلِ وَمِنْ حُكْمِ هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ وَقْتَ الْحَجِّ ظَرْفٌ لَهُ لَا مِعْيَارٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQحَقِّ غَيْرِهِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مُحَمَّدٌ مِنْ الْقَوْلِ بِجَوَازِ التَّأْخِيرِ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَفِي هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمَا مُشْكِلٌ لِأَنَّ الْعَاقِبَةَ مَسْتُورَةٌ فَلَا يُمْكِنُ بِنَاءُ الْأَمْرِ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ إذَا سَأَلَنَا سَائِلٌ وَقَالَ قَدْ وَجَبَ عَلَيَّ حَجٌّ وَأُرِيدُ أَنْ أُؤَخِّرَهُ إلَى السَّنَةِ الَّتِي تَأْتِي وَالْعَاقِبَةُ مَسْتُورَةٌ عَنِّي فَهَلْ يَحِلُّ لِي التَّأْخِيرُ مَعَ الْجَهْلِ بِالْعَاقِبَةِ أَمْ لَا فَإِنْ قُلْنَا نَعَمْ فَلَمْ يَأْثَمْ بِالْمَوْتِ الَّذِي لَيْسَ إلَيْهِ. وَإِنْ قُلْنَا لَا يَحِلُّ فَهُوَ خِلَافُ مَذْهَبِهِ وَإِنْ قُلْنَا إنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّك تَمُوتُ قَبْلَ إدْرَاكِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لَا يَحِلُّ لَك التَّأْخِيرُ وَإِنْ كَانَ فِي عِلْمِهِ أَنَّك تَحْيَا فَلَكَ التَّأْخِيرُ فَيَقُولُ أَوْ مَا يَدْرِينِي مَاذَا فِي عِلْمِ اللَّهِ فَمَا فَتْوَاكُمْ فِي حَقِّ الْجَاهِلِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْجَزْمِ بِالتَّحْلِيلِ أَوْ التَّحْرِيمِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ الْقَوْلُ بِعَدَمِ الْإِثْمِ وَإِنْ مَاتَ كَمَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَوْ الْإِثْمُ بِنَفْسِ التَّأْخِيرِ وَإِنْ لَمْ يَمُتْ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ كَذَا رَأَيْت فِي بَعْضِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ فَثَبَتَ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْفَضْلِ فِي إشَارَاتِ الْأَسْرَارِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ. قَوْلُهُ (وَيَصِيرُ السَّاقِطُ بِطَرِيقِ التَّعَارُضِ كَالسَّاقِطِ بِالْحَقِيقَةِ) يَعْنِي قَدْ سَقَطَ أَشْهُرُ الْعَامِ الْقَابِلِ مِنْ كَوْنِهَا وَقْتَ الْحَجِّ فِي حَقِّهِ لِتَعَارُضِ دَلِيلِ الْإِدْرَاكِ وَهُوَ الْحَيَاةُ وَدَلِيلِ عَدَمِ الْإِدْرَاكِ وَهُوَ الْمَمَاتُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ سَقَطَ حَقِيقَةً أَيْ صَارَ كَأَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ بَعْدُ لَيْسَ مِنْ عُمْرِهِ أَصْلًا فَيَبْقَى هَذَا الْوَقْتُ الْمَوْجُودُ بِلَا مُعَارِضٍ فَيَصِيرُ كَوَقْتِ الظُّهْرِ فَالتَّأْخِيرُ عَنْهُ يَكُونُ تَفْوِيتًا كَتَأْخِيرِ الظُّهْرِ عَنْ وَقْتِهِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ أَيْ صَوْمِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ وَنَحْوِهِمَا أَنَّ تَأْخِيرَهُ عَنْ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لَا يُفَوِّتُهُ لِمَا ذُكِرَ فَلَمْ يَكُنْ دَلِيلُ عَدَمِ الْإِدْرَاكِ مُسَاوِيًا لِدَلِيلِ الْإِدْرَاكِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَالتَّعَارُضُ لِلْحَالِ غَيْرُ قَائِمٍ أَيْ تَعَارُضُ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ فِي لَيْلَةٍ غَيْرُ قَائِمٍ لِأَنَّ الْحَيَاةَ غَالِبَةٌ وَالْمَوْتُ نَادِرٌ فَلَا يَسْقُطُ إدْرَاكُ الْيَوْمِ الثَّانِي بِاحْتِمَالِ الْمَوْتِ لِأَنَّ السُّقُوطَ بِتَعَارُضِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ وَلَمْ يُوجَدْ وَإِذَا لَمْ يَسْقُطْ كَانَ مُزَاحِمًا لِلْيَوْمِ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَثْبُتْ تَعَيُّنُهُ لِلْأَدَاءِ فَجَازَ التَّأْخِيرُ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لِأَنَّ التَّعَارُضَ لِلْحَالِ قَائِمٌ أَيْ تَعَارُضُ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فِي الْحَالِ قَائِمٌ وَإِنْ وُجِدَ احْتِمَالُ الْمَوْتِ قَبْلَ مَجِيءِ الْيَوْمِ كَمَا فِي الْحَجِّ لِأَنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ فَلَا يُقَابِلُ الْغَالِبَ وَهُوَ الْحَيَاةُ وَإِذَا ثَبَتَ التَّعَارُضُ لَمْ يَتَعَيَّنْ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ لِلْأَدَاءِ فَجَازَ التَّأْخِيرُ. وَقَوْلُهُ لِلْحَالِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التَّعَارُضَ فِي الْحَجِّ لِلْحَالِ مَعْدُومٌ وَإِنْ اُحْتُمِلَ أَنْ يَثْبُتَ بِالْإِدْرَاكِ فَأَمَّا التَّعَارُضُ هَهُنَا فَقَبْلَ الْإِدْرَاكِ ثَابِتٌ وَهَذَا اللَّفْظُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا فِي هَذِهِ النُّسْخَةِ أَصَحُّ. قَوْلُهُ (وَلَا يَلْزَمُ أَنَّ النَّفَلَ بَقِيَ مَشْرُوعًا) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ بَقِيَ وَقْتًا لِلنَّفْلِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ التَّعْيِينَ إنَّمَا ثَبَتَ هَهُنَا يُعَارِضُ خَوْفَ الْفَوْتِ لَا أَنَّهُ أَمْرٌ أَصْلِيٌّ فَيَظْهَرُ التَّعْيِينُ أَيْ أَثَرُهُ فِي حُرْمَةِ التَّأْخِيرِ وَحُصُولِ الْإِثْمِ بِهِ لَا فِي انْتِفَاءِ شَرْعِيَّةِ النَّفْلِ بِخِلَافِ تَعَيُّنِ رَمَضَانَ لِلْفَرْضِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ أَصْلِيٌّ ثَبَتَ بِتَعْيِينِ الشَّارِعِ فَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي انْتِفَاءِ النَّفْلِ وَحُصُولِ الْإِثْمِ جَمِيعًا فَأَمَّا أَنْ يُبْطِلَ أَيْ بِهَذَا التَّعْيِينِ جِهَةَ اخْتِيَارِ التَّقْصِيرِ وَالْمَأْثَمِ بِالشُّرُوعِ فِي النَّفْلِ فَلَا نَعْنِي شُرُوعَهُ فِي النَّفْلِ اخْتِيَارَ جِهَةِ الْإِثْمِ وَالتَّقْصِيرِ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْفَرْضَ وَقَدْ بَقِيَ لَهُ اخْتِيَارُ ذَلِكَ كَمَا لَهُ اخْتِيَارُ جَانِبِ التَّرْكِ أَصْلًا وَفِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ إذْ لَوْ لَمْ يَبْقَ لَهُ اخْتِيَارُ ذَلِكَ لَحَصَلَتْ الْعِبَادَةُ جَبْرًا وَالْفِعْلُ الْجَبْرِيُّ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً 1 - قَوْلُهُ (وَمِنْ حُكْمِ هَذَا الْأَصْلِ) أَيْ وَقْتِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQالْحَجِّ أَوْ الْوَقْتِ الْمُشْكِلِ أَنَّهُ ظَرْفٌ لَا مِعْيَارٌ وَقَوْلُهُ إنَّ وَقْتَ الْحَجِّ إقَامَةٌ لِلْمُظْهَرِ مُقَامَ الْمُضْمَرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَيْ وَقْتَ الْحَجِّ يَفْضُلُ عَنْ أَدَاءِ الْحَجِّ فَإِنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ وَهُوَ الرُّكْنُ الْأَعْظَمُ فِيهِ يَفْضُلُ عَنْهُ وَكَذَلِكَ وَقْتُ الطَّوَافِ وَالرَّمْيِ وَغَيْرِهِمَا وَلَوْ كَانَ مِعْيَارًا لَا يَفْضُلُ عَنْهُ كَوَقْتِ الصَّوْمِ عَنْ الصَّوْمِ وَأَنَّ الْحَجَّ أَفْعَالٌ عُرِفَتْ بِأَسْمَائِهَا كَالْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالرَّمْيِ وَغَيْرِهَا وَصِفَتُهَا أَيْ وَهَيْئَتُهَا وَتَرْتِيبُهَا مِثْلُ كَيْفِيَّةِ الطَّوَافِ وَالرَّمَلِ فِيهِ وَكَيْفِيَّةِ السَّعْيِ وَالرَّمْيِ وَتَقْدِيمِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ لَا بِمِعْيَارِهَا أَيْ لَا مَدْخَلَ لِلْوَقْتِ فِي مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ فَكَانَ ظَرْفًا كَوَقْتِ الظُّهْرِ وَمُشَابَهَتُهُ لِوَقْتِ الصَّوْمِ لَيْسَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُقَدَّرٌ لِلْعِبَادَةِ بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ فِيهِ إلَّا حَجٌّ وَاحِدٌ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ اشْتِبَاهًا فِي ظَرْفِيَّتِهِ فَإِنَّهُ لَوْ أُذِنَ فِيهِ بِأَدَاءِ حَجٍّ آخَرَ لَكَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ بَلْ عَلَى أَمْثَاله مِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ فِي الْأَوَّلِ كَمَا فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ فَثَبَتَ أَنَّهُ فِي ذَاتِهِ ظَرْفٌ لَا مِعْيَارٌ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ ظَرْفٌ لَا يُدْفَعُ غَيْرُهُ مِنْ جِنْسِهِ كَوَقْتِ الظُّهْرِ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْعِبَادَةُ مَتَى أُعْمِلَتْ بِأَفْعَالٍ مَعْلُومَةٍ بِنَفْسِهَا صَارَتْ مُتَقَدِّرَةً بِتِلْكَ الْأَفْعَالِ لَا بِالْوَقْتِ وَإِذَا لَمْ يَتَقَدَّرْ بِالْوَقْتِ لَا يَصِيرُ الْوَقْتُ مِعْيَارًا لِذَلِكَ الْفِعْلِ فَلَا يَصِيرُ مُسْتَغْرَقًا بِهِ فَلَا يَقْتَضِي تَعَيُّنُهُ مَحَلًّا لِذَلِكَ الْفِعْلِ نَفْيَ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْحَالَّ بِمَحِلٍّ إنَّمَا يَنْفِي غَيْرَهُ إذَا اسْتَغْرَقَهُ كَالصَّوْمِ لَمَّا قُدِّرَ بِالْوَقْتِ اسْتَغْرَقَهُ وَنُفِيَ غَيْرُهُ وَالِانْتِفَاءُ بِسَبَبِ الْفَرْضِ لَيْسَ بِنَصِّ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَلَى دَفْعِ غَيْرِهِ صَرِيحًا بَلْ بِحُكْمِ ضِيقِ الْوَقْتِ وَذَلِكَ بِاسْتِغْرَاقِ الْحَالِّ لِلْمَحَلِّ كُلِّهِ وَلَا اسْتِغْرَاقَ إلَّا إذَا قُدِّرَتْ الْعِبَادَةُ بِالْوَقْتِ وَالْحَجُّ لَمْ يُقَدَّرْ بِالْوَقْتِ فَإِنَّهُ إذَا فُسِّرَ عَنْ قَدْرِهِ قِيلَ أَنَّهُ إحْرَامٌ وَوُقُوفٌ وَطَوَافٌ كَالصَّلَاةِ قِيَامٌ وَقِرَاءَةٌ وَرُكُوعٌ وَسُجُودٌ فَلَا يَسْتَغْرِقُ الْوَقْتَ فَلَا يَنْفِي غَيْرَهُ وَالْأَمْرُ بِالتَّعَجُّلِ لَا يُنَافِي مَا قُلْنَاهُ كَالْأَمْرِ بِتَعْجِيلِ الصَّلَاةِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ لَا يَنْفِي غَيْرَهُ. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ وَقْتَ الْحَجِّ ظَرْفٌ لَا مِعْيَارٌ قُلْنَا إذَا نَوَى التَّطَوُّعَ مَنْ عَلَيْهِ حِجَّةُ الْإِسْلَامِ يَصِحُّ وَيَقَعُ عَمَّا نَوَى وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَلْغُو نِيَّةُ النَّفْلِ وَيَقَعُ عَنْ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ لَمَّا عَظُمَ أَمْرُ الْحَجِّ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ كُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ عُدِمَتْ فِي غَيْرِهَا مِنْ الطَّاعَاتِ وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ فِي الْعُمْرِ إلَّا مَرَّةً حُجِرَ عَنْ الصَّرْفِ إلَى التَّطَوُّعِ مَعَ قِيَامِ الْفَرْضِ صِيَانَةً لَهُ أَيْ لِحَجِّ الْإِسْلَامِ عَنْ الْفَوْتِ وَإِشْفَاقًا عَلَيْهِ أَيْ عَلَى الْمُكَلَّفِ لِأَنَّ تَحَمُّلَ الْمَشَاقِّ الْكَثِيرَةِ وَتَرْكَ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ وَاخْتِيَارَ النَّفْلِ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّ الثَّوَابَ فِي أَدَاءِ الْفَرْضِ أَكْثَرُ وَأَنَّ الْعِقَابَ عَلَى تَرْكِهِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ أَدَائِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ مِنْ السَّفَهِ وَالسَّفِيهُ عِنْدِي مُسْتَحِقُّ الْحَجْرِ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا صِيَانَةً لِمَالِهِ كَالْمُبَذِّرِ فَفِي أَمْرِ الدِّينِ أَوْلَى فَيَجْعَلُ نِيَّةَ النَّفْلِ لَغْوًا تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الْحَجْرِ وَيَبْقَى أَصْلُ نِيَّةِ الْحَجِّ وَبِهِ يَتَأَدَّى فَرْضُ الْحَجِّ بِالْإِجْمَاعِ تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ لَوْ نَوَى الْفَرْضَ ثُمَّ طَافَ أَوْ وَقَفَ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ تَلْغُو نِيَّتُهُ وَوَقَعَ ذَلِكَ عَنْ الْفَرْضِ لِمَا ذَكَرْنَا فَكَذَا فِي أَصْلِ الْحَجِّ وَلَا يُقَالُ لَمَّا لَغَتْ نِيَّةُ النَّفْلِ لَمْ يَبْقَ أَصْلُ النِّيَّةِ كَمَا فِي الصَّوْمِ عَلَى أَصْلِهِ لِأَنَّا نَقُولُ الصِّفَةُ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ قَدْ يَنْفَصِلُ عَنْ الْأَصْلِ فَإِنَّهُ لَوْ عُدِمَ وَصْفُ الصِّحَّةِ فِي الْحَجِّ بَقِيَ أَصْلُ الْإِحْرَامِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ لِأَنَّ الصِّفَةَ هُنَاكَ لَا تَنْفَصِلُ عَنْ الْأَصْلِ فَإِنَّ الصِّحَّةَ إذَا عُدِمَتْ لَمْ يَبْقَ أَصْلُ الصَّوْمِ لَكِنَّا نَقُولُ الْحَجْرُ عَنْ هَذَا يُفَوِّتُ الِاخْتِيَارَ وَفَوَاتُ الِاخْتِيَارِ يُنَافِي الْعِبَادَةَ

وَجَوَازُهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ بِدَلَالَةِ التَّعْيِينِ مِنْ الْمُؤَدِّي إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ النَّفَلَ وَعَلَيْهِ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ فَصَارَ التَّعْيِينُ لِمَعْنًى فِي الْمُؤَدِّي لَا فِي الْمُؤَدَّى فَإِذَا نَوَى النَّفَلَ فَقَدْ جَاءَ صَرِيحٌ بِخِلَافِهِ فَيَبْطُلُ بِهِ بِخِلَافِ شَهْرِ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ مُتَعَيَّنٌ لَا مُزَاحِمَ لَهُ فِي وَقْتِهِ لَا لِمَعْنًى فِي الْمُؤَدِّي وَهَذَا كَنَقْدِ الْبَلَدِ لَمَّا تَعَيَّنَ لِمَعْنًى فِي الْمُؤَدِّي وَهُوَ تَيَسُّرُ إصَابَتِهِ دَلَالَةً بَطَلَ عِنْدَ التَّصْرِيحِ بِغَيْرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQفَيَكُونُ الْقَوْلُ بِالْحَجْرِ لِصِيَانَةِ الْحَجِّ مُؤَدِّيًا إلَى تَفْوِيتِ الْحَجِّ بَيَانُهُ أَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ وَالْعِبَادَةُ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ لِأَنَّ مَا لَا اخْتِيَارَ لِلْعَبْدِ فِيهِ لَا يَصْلُحُ طَاعَةً أَوْ عِصْيَانًا عَلَى مَا عُرِفَ فَإِذَا نَوَى النَّفَلَ فَقَدْ أَعْرَضَ عَنْ الْفَرْضِ بِأَبْلَغَ مِنْ تَرْكِ أَصْلِ الْعَزِيمَةِ لِأَنَّ الْوَقْتَ فِي ذَاتِهِ قَابِلٌ لِلنَّفْلِ فَمَعَ هَذَا لَوْ وَقَعَ عَنْ الْفَرْضِ كَانَ وَاقِعًا بِدُونِ اخْتِيَارِهِ وَهَذَا هُوَ الْجَبْرُ الصَّرِيحُ فَالْقَوْلُ بِهِ يَكُونُ مُفْضِيًا إلَى إبْطَالِهِ فَيَكُونُ عَائِدًا عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ فَالْقَوْلُ بِصِحَّتِهِ يَكُونُ قَوْلًا بِإِبْطَالِهِ إذْ الْعِبَادَةُ لَا تَقَعُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ قَطُّ بِخِلَافِ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلنَّفْلِ فَلَا تَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ النَّفْلِ أَصْلًا فَلَا يَثْبُتُ الْإِعْرَاضُ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ فِي ضِمْنِ النَّفْلِ عَلَى مَا مَرَّ وَقَوْلُهُ وَقَطُّ لَا يَصِحُّ الْعِبَادَةُ بِلَا اخْتِيَارٍ رَدٌّ لِقَوْلِهِ وَصَحَّ أَصْلُهُ بِلَا نِيَّةٍ وَقَوْلُهُ وَلَكِنْ الِاخْتِيَارُ فِي كُلِّ بَابٍ بِمَا يَلِيقُ بِهِ إلَى آخِرِهِ جَوَابٌ عَنْ صِحَّةِ إحْرَامِ الرُّفْقَةِ عَنْهُ بِدُونِ أَمْرِهِ وَقَصْدِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَعْنِي إنَّمَا جَوَّزْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ فِيهِ مَوْجُودٌ عِنْدَهُ تَقْدِيرًا لَا عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ أَصْلًا. وَبَيَانُهُ أَنَّ الْإِحْرَامَ شَرْطُ الْأَدَاءِ عِنْدَنَا بِمَنْزِلَةِ الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ وَلِهَذَا جَوَّزْنَا تَقْدِيمَهُ عَلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَالرُّفْقَةُ إنَّمَا تُعْقَدُ لِيُعِينَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عِنْدَ الْعَجْزِ وَلَمَّا عَاقَدَهُمْ عَقْدَ الرُّفْقَةِ فَقَدْ اسْتَعَانَ بِهِمْ فِي كُلِّ مَا يَعْجِزُ عَنْ مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ وَالْإِذْنُ دَلَالَةٌ بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ إفْصَاحًا كَمَا فِي شُرْبِ مَاءِ السِّقَايَةِ وَإِذَا ثَبَتَ الْأَذَانُ قَامَتْ نِيَّتُهُمْ مَقَامَ نِيَّتِهِ كَمَا لَوْ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ نَصًّا فَكَانَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الِاخْتِيَارِ كَافِيًا فِيمَا هُوَ شَرْطُ الْعِبَادَةِ فَأَمَّا الْأَفْعَالُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَجْرِيَ عَلَى بَدَنِهِ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا وَإِلَيْهِ مَالَ الشَّيْخُ لِأَنَّ النِّيَابَةَ تَجْرِي فِي الشُّرُوطِ وَلَا تَجْرِي فِي الْأَفْعَالِ أَلَا تَرَى أَنَّ النِّيَابَةَ تَجْرِي فِي الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ لَوْ غَسَلَ أَعْضَاءَ الْمُحْدِثِ غَيْرُهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِتِلْكَ الطَّهَارَةِ وَلَا تَجْرِي النِّيَابَةُ فِي أَعْمَالِ الصَّلَاةِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ النِّيَابَةَ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْعَجْزِ وَفِي أَصْلِ الْإِحْرَامِ تَحَقَّقَ عَجْزُهُ عَنْهُ بِسَبَبِ الْإِغْمَاءِ فَيَنُوبُ عَنْهُ أَصْحَابُهُ فَأَمَّا الْأَفْعَالُ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ فِيهَا الْعَجْزُ لِأَنَّهُمْ إذَا حَضَرُوا الْمَوَاقِفَ كَانَ هُوَ الْوَاقِفَ وَإِذَا طَافُوا بِهِ كَانَ هُوَ الطَّائِفَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ طَافَ رَاكِبًا بِعُذْرٍ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ نِيَابَتُهُمْ عَنْهُ فِي الْأَفْعَالِ يَصِحُّ أَيْضًا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ الْأَصَحُّ إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَقِفُوا بِهِ وَأَنْ يَطُوفُوا بِهِ لِيَكُونُوا أَقْرَبَ إلَى أَدَائِهِ لَوْ كَانَ رَفِيقًا وَلَوْ أَدَّوْا عَنْهُ كَانَ جَائِزًا لِأَنَّ الْحَجَّ يُؤَدَّى بِالنَّائِبِ عِنْدَ الْعَجْزِ بِالْإِجْمَاعِ. قَوْلُهُ (وَجَوَازُهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ) إلَى آخِرِهِ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ يَصِحُّ بِإِطْلَاقِ النِّيَّةِ يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّ جَوَازَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ تَعْيِينَ الْفَرْضِ سَاقِطٌ بَلْ هُوَ شَرْطٌ وَلَكِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ بِالْقَلْبِ أَوْ بِاللِّسَانِ حَالَةَ الْإِحْرَامِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَتَكَلَّفُ لِحَجِّ النَّفْلِ وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ فَصَارَ الْفَرْضُ مُتَعَيَّنًا بِدَلَالَةِ الْحَالِ فَاسْتُغْنِيَ عَنْ التَّعْيِينِ وَانْصَرَفَ مُطْلَقُ النِّيَّةِ إلَيْهِ فَإِذَا سَمَّى شَيْئًا آخَرَ نَصًّا انْدَفَعَ بِهِ مَا تَعَيَّنَ بِالْحَالِ وَأَمَّا الْإِحْرَامُ عَنْ الْأَبَوَيْنِ فَإِنَّمَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ ثَوَابَهُ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا وَلَهُ وِلَايَةُ ذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ لِأَنَّهُ حَقُّهُ فَيَصْرِفُهُ إلَى مَنْ شَاءَ لَا أَنْ يَكُونَ الْأَفْعَالُ وَاقِعًا عَنْهُمَا أَوْ عَنْ أَحَدِهِمَا وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا بَعْدَمَا أَحْرَمَ عَنْهُمَا لِأَنَّ جَعْلَ الثَّوَابِ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا إنَّمَا يَصِحُّ بَعْدَ الْأَدَاءِ فَلَغَتْ نِيَّتُهُ قَبْلَهُ وَلِهَذَا لَمْ يَسْقُطْ حِجَّةُ الْإِسْلَامِ عَنْهُمَا كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ إذَا حَجَّ الرَّجُلُ عَنْ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ حِجَّةَ الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ أَوْصَى بِهَا الْمَيِّتُ أَجْزَأَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَتَمَسَّكَ فِيهِ بِأَحَادِيثَ ثُمَّ ذَكَرَ فِي آخِرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِنَّمَا

[الأمر المطلق عن الوقت فعلى التراخي]

وَأَمَّا الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ عَنْ الْوَقْتِ فَعَلَى التَّرَاخِي خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQقُيِّدَ الْجَوَابُ بِالِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَمَا صَحَّ الْحَدِيثُ لِأَنَّ سُقُوطَ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ عَنْ الْمَيِّتِ بِأَدَاءِ الْوَرَثَةِ طَرِيقَةُ الْعِلْمِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ وَالْعِلْمُ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَلِهَذَا قُيِّدَ الْجَوَابُ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَأَمَّا قَوْلُهُ إذَا طَافَ أَوْ وَقَفَ مُتَطَوِّعًا يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ عَقْدَ الْإِحْرَامِ قَدْ انْعَقَدَ لِلْفَرْضِ وَلَا اعْتِبَارَ لِلنِّيَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ إنَّمَا الْمُعْتَبَرُ هُوَ النِّيَّةُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ الَّذِي هُوَ جَامِعٌ كَمَا لَوْ سَجَدَ سَجْدَةً فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ لَمْ يُعْتَبَرْ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ انْعَقَدَتْ لِلْفَرْضِ وَالنِّيَّةُ تُعْتَبَرُ عِنْدَ التَّحْرِيمَةِ (فَإِنْ قِيلَ) مَا ذَكَرْتُمْ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَمِعَ رَجُلًا يُلَبِّي عَنْ شُبْرُمَةَ فَقَالَ وَمَنْ شُبْرُمَةَ قَالَ أَخٌ لِي أَوْ صَدِيقٌ لِي فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَحَجَجْت عَنْ نَفْسِك فَقَالَ لَا فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حُجَّ عَنْ نَفْسِك ثُمَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» (قُلْنَا) لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ تَأْوِيلَهُ عِنْدَنَا أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ لِلتَّعْلِيمِ عَلَى سَبِيلِ الْأَدَبِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْحَجَّ وَلَمْ يَقُلْ أَنْتَ حَاجٌّ عَنْ نَفْسِك وَكَانَ هَذَا حِينَ كَانَ الْخُرُوجُ عَنْهُ مُمْكِنًا بِالْعُمْرَةِ فَانْتُسِخَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ عَنْ الْوَقْتِ فَعَلَى التَّرَاخِي] قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ عَنْ الْوَقْتِ فَعَلَى التَّرَاخِي) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ أَمْ عَلَى التَّرَاخِي فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَعَامَّةُ الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَأَبُو حَامِدٍ إلَى أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ وَكَذَا كُلُّ مَنْ قَالَ بِالتَّكْرَارِ يَلْزَمُهُ الْقَوْلُ بِالْفَوْرِ لَا مَحَالَةَ وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّهُ عَلَى الْوَقْفِ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْفَوْرِ وَلَا عَلَى التَّرَاخِي إلَّا بِدَلِيلٍ وَمَعْنَى قَوْلِنَا عَلَى الْفَوْرِ أَنَّهُ يَجِبُ تَعْجِيلُ الْفِعْلِ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ وَمَعْنَى قَوْلِنَا عَلَى التَّرَاخِي أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَجِبُ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ حَتَّى لَوْ أَتَى بِهِ فِيهِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مَذْهَبًا لِأَحَدٍ تَمَسَّكَ الْقَائِلُونَ بِالْفَوْرِ بِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْفِعْلِ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَتَى بِهِ فِيهِ يُسْقِطُ الْفَرْضَ عَنْهُ بِالِاتِّفَاقِ فَجَوَازُ تَأْخِيرِهِ عَنْهُ نَقْضٌ لِوُجُوبِهِ إذْ الْوَاجِبُ مَا لَا يَسَعُ تَرْكُهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ تَأْخِيرَهُ تَرْكٌ لِفِعْلِهِ فِي وَقْتِ وُجُوبِهِ فَثَبَتَ أَنَّ فِي التَّأْخِيرِ نَقْضَ الْوُجُوبِ فِي وَقْتِ الْوُجُوبِ وَهُوَ بَاطِلٌ وَلِأَنَّ التَّأْخِيرَ تَفْوِيتٌ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي أَوْ لَا يَقْدِرُ وَبِالِاحْتِمَالِ لَا يَثْبُتُ التَّمَكُّنُ مِنْ الْأَدَاءِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مُعَارِضًا لِلْمُتَيَقَّنِ بِهِ فَيَكُونُ تَأْخِيرُهُ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ تَفْوِيتًا وَلِهَذَا يُسْتَحْسَنُ ذَمُّهُ عَلَى ذَلِكَ إذَا عَجَزَ عَنْ الْأَدَاءِ وَلِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِالْأَمْرِ اعْتِقَادُ الْوُجُوبِ وَأَدَاءُ الْفِعْلِ وَأَحَدُهُمَا وَهُوَ الِاعْتِقَادُ يَثْبُتُ بِمُطْلَقِ الْأَمْرِ لِلْحَالِ فَكَذَلِكَ الثَّانِي وَاعْتُبِرَ الْأَمْرُ بِالنَّهْيِ وَالِانْتِهَاءُ الْوَاجِبُ بِالنَّهْيِ يَثْبُتُ عَلَى الْفَوْرِ فَكَذَا الِائْتِمَارُ الْوَاجِبُ بِالْأَمْرِ وَتَمَسَّكَ الْقَائِلُونَ بِالتَّرَاخِي بِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ مَا وُضِعَتْ إلَّا لِطَلَبِ الْفِعْلِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ فَلَا تُفِيدُ زِيَادَةً عَلَى مَوْضُوعِهَا كَسَائِرِ الصِّيَغِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْأَشْيَاءِ وَهَذَا لِأَنَّ قَوْلَهُ افْعَلْ لَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِلْوَقْتِ بِوَجْهٍ كَمَا لَا تَعَرُّضَ لِقَوْلِهِ فَعَلَ وَيَفْعَلُ عَلَى زَمَانٍ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ وَمُتَقَدِّمٍ أَوْ مُتَأَخِّرٍ فَكَمَا لَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمَاضِيَ وَالْمُسْتَقْبَلَ بِزَمَانٍ لَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْأَمْرِ بِهِ أَيْضًا لِأَنَّ التَّقْيِيدَ فِي الْمُطْلَقِ يَجْرِي مَجْرَى النَّسْخِ وَلِهَذَا لَمْ يَتَقَيَّدْ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان يَزِيدُ مَا قُلْنَا إيضَاحًا أَنَّ مَدْلُولَ الصِّيغَةِ طَلَبُ الْفِعْلِ وَالْفَوْرُ وَالتَّرَاخِي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQخَارِجِيَّانِ إلَّا أَنَّ الزَّمَانَ مِنْ ضَرُورَاتِ حُصُولِ الْفِعْلِ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يُوجَدُ مِنْ الْعِبَادِ إلَّا فِي زَمَانٍ وَالزَّمَانُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ فِي صَلَاحِيَّتِهِ لِلْحُصُولِ وَاحِدٌ فَاسْتَوَتْ الْأَزْمِنَةُ كُلُّهَا وَصَارَ كَمَا لَوْ قِيلَ افْعَلْ فِي أَيِّ زَمَانٍ شِئْت فَيَبْطُلُ تَخْصِيصُهُ وَتَقْيِيدُهُ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَمَرَهُ بِالضَّرْبِ مُطْلَقًا لَا يَتَقَيَّدُ بِآلَةٍ دُونَ آلَةٍ وَشَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ لِمَا ذَكَرْنَا فَكَذَا الزَّمَانُ فَثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ بِصِيغَةٍ لَا يُفِيدُ الْفَوْرَ وَكَذَا بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْوُجُوبُ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا وَإِنْ كَانَ الْمُكَلَّفُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ مُخَيَّرًا بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ فَيَجُوزُ لَهُ التَّأْخِيرُ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ فَوَاتُهُ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فَيَكُونُ هَذَا الْأَمْرُ مُقْتَضِيًا طَلَبَ الْفِعْلِ فِي مُدَّةِ عُمْرِهِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُخْلِيَ زَمَانَ الْعُمْرِ مِنْهُ فَيَثْبُتُ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ بِوَصْفِ التَّوَسُّعِ لَا بِوَصْفِ التَّضَيُّقِ، وَالتَّكْلِيفُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَائِزٌ عَقْلًا وَشَرْعًا أَمَّا عَقْلًا فَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِغُلَامِهِ افْعَلْ كَذَا فِي هَذَا الشَّهْرِ أَوْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي أَيِّ وَقْتٍ شِئْت بِشَرْطِ أَنْ لَا تُخْلَى هَذِهِ الْمُدَّةَ عَنْ الْوَاجِبِ صَحَّ وَلَمْ يُسْتَنْكَرْ وَأَمَّا شَرْعًا فَلِأَنَّ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمَعْلُومَةِ وَقَضَاءَ الْوَاجِبَاتِ فِي الْعُمْرِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ وَلِهَذَا يَكُونُ مُؤَدِّيًا فِي أَيِّ وَقْتٍ فَعَلَهُ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى الْفَوْرِ لَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِهِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ كَلِمَاتِهِمْ فَنَقُولُ قَوْلُهُمْ فِي جَوَازِ التَّأْخِيرِ نَقْضُ الْوُجُوبِ إذْ الْوَاجِبُ لَا يَسَعُ تَرْكُهُ قُلْنَا مَا ذَكَرْتُمْ حُكْمُ الْوَاجِبِ الْمُضَيَّقِ فَأَمَّا الْمُوَسَّعُ فَحُكْمُهُ جَوَازُ التَّأْخِيرِ إلَى وَقْتِ مِثْلِهِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُخْلِيَ الْوَقْتَ عَنْهُ وَلَوْ أَخْلَى عَصَى وَأَثِمَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ التَّأْخِيرِ نَقْضُ الْوُجُوبِ وَقَوْلُهُمْ فِي التَّأْخِيرِ تَفْوِيتٌ وَذَلِكَ حَرَامٌ قُلْنَا الْفَوَاتُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِمَوْتِهِ وَلَيْسَ فِي مُجَرَّدِ التَّأْخِيرِ تَفْوِيتٌ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَدَاءِ فِي جُزْءٍ يُدْرِكُهُ مِنْ الْوَقْتِ بَعْدَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ حَسَبَ تَمَكُّنِهِ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ وَمَوْتُ الْفَجْأَةِ نَادِرٌ لَا يَصْلُحُ لِبِنَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ لَهُ التَّأْخِيرُ إلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ بِأَمَارَةِ أَنَّهُ إذَا أَخَّرَ يَفُوتُ الْمَأْمُورُ بِهِ وَالظَّنُّ عَنْ أَمَارَةٍ دَلِيلٌ مِنْ دَلَائِلِ الشَّرْعِ كَالِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ فَيَجُوزُ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ (فَإِنْ قِيلَ) مَا قَوْلُكُمْ فِيمَنْ مَاتَ بَغْتَةً أَيَمُوتُ عَاصِيًا أَمْ غَيْرَ عَاصٍ فَإِنْ قُلْتُمْ يَمُوتُ عَاصِيًا فَمُحَالٌ لِأَنَّا إذَا أَطْلَقْنَا لَهُ التَّأْخِيرَ وَاخْتَرَمَتْهُ الْمَنِيَّةُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحِسَّ بِحُضُورِهَا لَمْ يُتَصَوَّرْ إطْلَاقُ وَصْفِ الْعِصْيَانِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعِصْيَانَ بِالتَّأْخِيرِ مَعَ إطْلَاقِ التَّأْخِيرِ مُحَالٌ وَإِنْ قُلْتُمْ يَمُوتُ غَيْرَ عَاصٍ فَلَمْ يَبْقَ لِلْوُجُوبِ فَائِدَةٌ (قُلْنَا) اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إذَا مَاتَ بَعْدَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْأَدَاءِ يَمُوتُ عَاصِيًا لِأَنَّ التَّأْخِيرَ إنَّمَا أُبِيحَ لَهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ تَفْوِيتًا وَتَقْيِيدُ الْمُبَاحِ بِشَرْطٍ فِيهِ خَطَرٌ مُسْتَقِيمٌ فِي الشَّرْعِ كَالرَّمْيِ إلَى الصَّيْدِ يُبَاحُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُصِيبَ آدَمِيًّا وَهَذَا لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ تَرْكِ التَّرَخُّصِ بِالتَّأْخِيرِ بِالْمُسَارَعَةِ إلَى الْأَدَاءِ الَّتِي هِيَ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا فَقُلْنَا بِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْبِنَاءِ عَلَى الظَّاهِرِ مَا دَامَ يَرْجُو الْحَيَاةَ عَادَةً وَإِنْ مَاتَ كَانَ مُفَرِّطًا لِتَمَكُّنِهِ مِنْ تَرْكِ التَّرَخُّصِ بِالتَّأْخِيرِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا يَمُوتُ عَاصِيًا وَلَكِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ فَائِدَةِ الْوُجُوبِ وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّأْخِيرَ عَنْ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ إلَى وَقْتٍ مِثْلِهِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَفْوِيتُ الْمَأْمُورِ بِهِ ثُمَّ إذَا أَحَسَّ بِالْفَوَاتِ

[باب النهي]

عَلَى مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَمِنْ هَذَا الْأَصْلِ (بَابُ النَّهْيِ) : ـــــــــــــــــــــــــــــQبِظُهُورِ عَلَامَاتِ الْمَوْتِ مَنَعْنَاهُ مِنْ التَّأْخِيرِ لِأَنَّهُ تَفْوِيتُ تَعَدٍّ فَإِذَا مَاتَ بَغْتَةً وَفَجْأَةً فَهُوَ غَيْرُ مُفَوِّتٍ لِلْمَأْمُورِ بِهِ لِأَنَّهُ أَخَّرَ عَنْ وَقْتٍ إلَى وَقْتٍ مِثْلِهِ وَقَدْ أَطْلَقْنَا لَهُ ذَلِكَ فَصَارَ الْفَوَاتُ عِنْدَ مَوْتِهِ بَغْتَةً مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ أَمَارَاتِ الْمَوْتِ مُضَافًا إلَى صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى لَا إلَى الْعَبْدِ لِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ مَا كَانَ مُطْلَقًا لَهُ فَلَمْ يَصِحَّ وَصْفُ فِعْلِهِ بِالتَّفْوِيتِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُوصَفَ بِالْعِصْيَانِ ثُمَّ عَدَمُ وَصْفِهِ بِالْعِصْيَانِ لَمْ يَدُلَّ عَلَى فَوَاتِ فَائِدَةِ الْوُجُوبِ لِأَنَّا حَقَّقْنَا صِفَةَ الْوَاجِبِيَّةِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى فِعْلِ الْعَبْدِ مِنْ مَنْعِهِ مِنْ التَّفْوِيتِ فَبِوُجُودِ الْفَوَاتِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَبْطُلُ فَائِدَةُ الْوُجُوبِ وَقَوْلُهُمْ وَجَبَ تَعْجِيلُ الِاعْتِقَادِ فَيَجِبُ تَعْجِيلُ الْفِعْلِ قُلْنَا اعْتِقَادُ الْوُجُوبِ يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ الْعُمْرِ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ تَعْجِيلُ وُجُوبِهِ وَكَذَا الِانْتِهَاءُ فِي النَّهْيِ فَأَمَّا أَدَاءُ الْوَاجِبِ فَلَا يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ الْعُمْرِ فَلَا يَتَعَيَّنُ لِلْأَدَاءِ جُزْءٌ مِنْ الْعُمْرِ إلَّا بِدَلِيلٍ عَلَى أَنَّا نَقُولُ يَجِبُ اعْتِقَادُ وُجُوبِهِ عَلَى التَّوَسُّعِ كَمَا يَلْزَمُهُ فِعْلُهُ عَلَى التَّوَسُّعِ فَإِذَا وَجَبَ الْفِعْلُ عَلَى حَسَبِ مَا يَعْتَقِدُهُ مِنْ الْوُجُوبِ وَوَجَبَ الِاعْتِقَادُ عَلَى حَسَبِ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْفِعْلِ لَمْ يَقَعْ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (عَلَى مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ فَعَلَى التَّرَاخِي لَا بِقَوْلِهِ خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ فَإِنَّهُ لَمْ يُشِرْ إلَى مَذْهَبِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَالْإِشَارَةُ قَوْلُهُ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يُوجِبُ الْفَوْرَ بِلَا خِلَافٍ [بَابُ النَّهْيِ] [النَّهْيُ الْمُطْلَقُ نَوْعَانِ] [النَّهْي عَنْ الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ] قَوْلُهُ (وَمِنْ هَذَا الْأَصْلِ) أَيْ وَمِنْ الْخَاصِّ (بَابُ النَّهْيِ) لِأَنَّهُ خَاصٌّ فِي التَّحْرِيمِ كَالْأَمْرِ خَاصٌّ فِي الْإِيجَابِ ثُمَّ النَّهْيُ فِي اللُّغَةِ الْمَنْعُ وَمِنْهُ النُّهْيَةُ لِلْعَقْلِ لِأَنَّهُ مَانِعٌ عَنْ الْقَبِيحِ وَفِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْأُصُولِ هُوَ اسْتِدْعَاءُ تَرْكِ الْفِعْلِ بِالْقَوْلِ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ لَا تَفْعَلْ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ وَقِيلَ هُوَ اقْتِضَاءُ كَفٍّ عَنْ فِعْلٍ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ وَهَذِهِ الْعِبَارَاتُ بَعْضُهَا قَرِيبٌ مِنْ بَعْضٍ وَيُفْهَمُ مَا فِيهَا مِنْ الِاحْتِرَازَاتِ عَمَّا ذَكَرْنَا فِي حَدِّ الْأَمْرِ وَلَمَّا كَانَ النَّهْيُ مُقَابِلَ الْأَمْرِ فَكُلُّ مَا قِيلَ فِي حَدِّ الْأَمْرِ مِنْ مُزَيَّفٍ أَوْ مُخْتَارٍ قِيلَ مُقَابِلُهُ فِي حَدِّ النَّهْيِ ثُمَّ صِيغَةُ النَّهْيِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَرَدِّدَةً بَيْنَ التَّحْرِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32] وَالْكَرَاهَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] إذْ مَعْنَاهُ وَلَا تَبَايَعُوا وَالتَّحْقِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} [طه: 131] الْآيَةَ وَبَيَانِ الْعَاقِبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا} [إبراهيم: 42] وَالدُّعَاءِ كَقَوْلِ الدَّاعِي لَا تَكِلْنِي إلَى نَفْسِي وَالتَّآسِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} [التحريم: 7] وَالْإِرْشَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101] وَالشَّفَقَةِ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تَتَّخِذُوا الدَّوَابَّ كَرَاسِيَّ» فَهِيَ مَجَازٌ فِي غَيْرِ التَّحْرِيمِ وَالْكَرَاهَةِ بِالِاتِّفَاقِ فَأَمَّا الْكَلَامُ فِي أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي التَّحْرِيمِ دُونَ الْكَرَاهَةِ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ أَوْ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ أَوْ الْمَعْنَوِيِّ أَوْ مَوْقُوفٌ فَعَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْأَمْرِ مِنْ الْمُزَيَّفِ وَالْمُخْتَارِ كَذَا فِي عَامَّةِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَذُكِرَ فِي التَّقْوِيمِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى الِاخْتِلَافِ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِهِ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَصِيرَ مُوجِبُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَاحِدًا وَهُوَ الْوَقْفُ وَهَذَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ. ثُمَّ مُوجِبُ النَّهْيِ وُجُوبُ الِانْتِهَاءِ عَنْ مُبَاشَرَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِأَنَّهُ ضِدُّ الْأَمْرِ فَكَمَا

قَالَ وَالنَّهْيُ الْمُطْلَقُ نَوْعَانِ نَهْيٌ عَنْ الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ مِثْلِ الزِّنَا وَالْقَتْلِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَهْيٌ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مِثْلِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَالنَّهْيُ عَنْ الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ دَلَالَةٌ عَلَى كَوْنِهَا قَبِيحَةً فِي أَنْفُسِهَا لِمَعْنًى فِي أَعْيَانِهَا بِلَا خِلَافٍ إلَّا إذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّ طَلَبَ الْفِعْلِ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ مَعَ بَقَاءِ اخْتِيَارِ الْمُخَاطَبِ يَتَحَقَّقُ بِوُجُوبِ الِائْتِمَارِ فَكَذَلِكَ طَلَبُ الِامْتِنَاعِ عَنْ الْفِعْلِ بِآكَدِ الْوُجُوهِ وَذُكِرَ فِي الْمِيزَانِ أَنَّ حُكْمَ النَّهْيِ صَيْرُورَةُ الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ حَرَامًا وَثُبُوتُ الْحُرْمَةِ فِيهِ فَإِنَّ النَّهْيَ وَالتَّحْرِيمَ وَاحِدٌ وَمُوجِبُ التَّحْرِيمِ هُوَ الْحُرْمَةُ كَمُوجِبِ التَّمْلِيكِ هُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ هَذَا هُوَ حُكْمُ النَّهْيِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نَهْيٌ فَأَمَّا وُجُوبُ الِانْتِهَاءِ فَحُكْمُ النَّهْيِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَمْرٌ بِضِدِّهِ فَفِي الْحَقِيقَةِ وُجُوبُ الِانْتِهَاءِ حُكْمُ الْأَمْرِ الثَّابِتِ بِالنَّهْيِ وَكَوْنُ الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ حَرَامًا حُكْمُ النَّهْيِ وَمُقْتَضَى النَّهْيِ شَرْعًا قُبْحُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَمَا أَنَّ مُقْتَضَى الْأَمْرِ حُسْنُ الْمَأْمُورِ بِهِ لِأَنَّ الْحَكِيمَ لَا يَنْهَى عَنْ فِعْلٍ إلَّا لِقُبْحِهِ كَمَا لَا يَأْمُرُ بِشَيْءٍ إلَّا لِحُسْنِهِ قَالَ تَعَالَى {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النحل: 90] فَكَانَ الْقُبْحُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ شَرْعًا لَا لُغَةً لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْأَمْرِ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي صِفَةِ الْقُبْحِ انْقَسَمَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ مَا قَبُحَ لِعَيْنِهِ وَضْعًا كَالْعَبَثِ وَالسَّفَهِ وَالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ وَمَا الْتَحَقَ بِهِ شَرْعًا كَبَيْعِ الْحُرِّ وَالْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ وَمَا قَبُحَ لِغَيْرِهِ وَصْفًا كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَمَا قَبُحَ لِغَيْرِهِ مُجَاوِرًا إيَّاهُ جَمْعًا كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ عَلَى مَا سَتَعْرِفُهُ. قَوْلُهُ (وَالنَّهْيُ الْمُطْلَقُ نَوْعَانِ) أَيْ الْمُطْلَقُ عَنْ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ قَبِيحٌ لِعَيْنِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ أَوْ الْمُطْلَقُ عَنْ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ عَلَى حَقِيقَته أَوْ مَصْرُوفٌ إلَى مَجَازِهِ نَهْيٌ عَنْ الْأَفْعَال الْحِسِّيَّةِ وَهِيَ الَّتِي تُعْرَفُ حِسًّا وَلَا يَتَوَقَّفُ حُصُولُهَا وَتَحَقُّقُهَا عَلَى الشَّرْعِ وَنَهْيٌ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ الَّتِي يَتَوَقَّفُ حُصُولُهَا وَتَحَقُّقُهَا عَلَى الشَّرْعِ فَالزِّنَا وَالْقَتْلُ وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَأَمْثَالُهَا لَا يَتَوَقَّفُ تَحَقُّقُهَا وَمَعْرِفَتُهَا عَلَى الشَّرْعِ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَعْلُومَةً قَبْلَ الشَّرْعِ عِنْدَ أَهْلِ الْمِلَلِ أَجْمَعَ فَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَمْ يَكُنْ كَوْنُهَا قُرْبَةً وَعِبَادَةً عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ مَعْلُومًا قَبْلَ الشَّرْعِ وَكَذَا الصَّوْمُ وَالْبَيْعُ وَأَشْبَاهُهُمَا وَلَا يُقَالُ هَذِهِ الْأَفْعَالُ يُعْرَفُ حِسًّا كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْقَتْلِ فَإِنَّا إذَا رَأَيْنَا مَنْ يُصَلِّي أَوْ يَبِيعُ عَلِمْنَا حِسًّا أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ كَمَا عَلِمْنَا الْقَتْلَ وَشُرْبَ الْخَمْرِ لِأَنَّا نَقُولُ نَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا فِعْلًا يُعْرَفُ بِالْحِسِّ فَأَمَّا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا صَلَاةً وَعَقْدًا حَتَّى كَانَتْ سَبَبَ ثَوَابٍ وَسَبَبَ مِلْكٍ فَلَا يُعْرَفُ إلَّا بِالشَّرْعِ. (فَإِنْ قِيلَ) فَالْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ وَنَحْوُهُمَا لَمْ يَتَوَقَّفْ تَحَقُّقُهَا عَلَى الشَّرْعِ فَإِنَّ أَهْلَ الْمِلَلِ كُلَّهُمْ يَتَعَاطَوْنَهَا مِنْ غَيْرِ شَرْعٍ وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ الشَّرْعِ أَيْضًا (قُلْنَا) إنَّهُمْ إنَّمَا يَتَعَاطَوْنَ مُبَادَلَةَ الْمَالِ بِالْمَالِ أَوْ بِالْمَنْفَعَةِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِعْت وَاشْتَرَيْت عَقْدًا عِنْدَهُمْ بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ لَا تَكَادُ تُضْبَطُ فَلَا بَلْ إنَّمَا هِيَ يَثْبُتُ بِالشَّرْعِ. وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ أَيْ الْمَذْكُورَ مِثْلُ الْحَجِّ وَالنِّكَاحِ لِمَعْنًى فِي أَعْيَانِهَا بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَثْبُتَ الْقُبْحُ بِاقْتِضَاءِ النَّهْيِ فِيمَا أُضِيفَ إلَيْهِ النَّهْيُ لَا فِيمَا لَمْ يُضَفْ إلَيْهِ فَلَا يُتْرَكُ هَذَا الْأَصْلُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا ضَرُورَةَ هَهُنَا لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَحْقِيقُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مَعَ صِفَةِ الْقُبْحِ لِأَنَّهَا تُوجَدُ حِسًّا فَلَا يَمْتَنِعُ وُجُودُهَا بِسَبَبِ الْقُبْحِ إلَّا إذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ أَيْ خِلَافِ كَوْنِهَا قَبِيحَةً فِي نَفْسِهَا كَالْوَطْءِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْأَذَى بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] لَا لِذَاتِهِ وَلِهَذَا يَثْبُتُ بِهِ الْحِلُّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ وَالنَّسَبُ وَتَكْمِيلُ الْمَهْرِ وَالْإِحْصَانُ وَسَائِرُ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَثْبُتُ عَلَيْهِ وَنَظِير الْأَوَّلِ قَوْلُ الطَّبِيبِ لِلْمَرِيضِ لَا تَأْكُلْ اللَّحْمَ فَإِنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْأَكْلِ لِمَعْنًى فِي اللَّحْمِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُوَافِقُهُ وَنَظِيرُ الثَّانِي قَوْلُك لِغَيْرِك لَا تَأْكُلْ هَذَا اللَّحْمَ وَقَدْ

[النهي المطلق عن التصرفات الشرعية]

وَأَمَّا النَّهْيُ الْمُطْلَقُ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَيَقْتَضِي قُبْحًا لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَكِنْ مُتَّصِلًا بِهِ حَتَّى يَبْقَى الْمَنْهِيُّ مَشْرُوعًا مَعَ إطْلَاقِ النَّهْيِ وَحَقِيقَتِهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَلْ يَقْتَضِي هَذَا الْقِسْمُ قُبْحًا فِي عَيْنِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى مَشْرُوعًا أَصْلًا بِمَنْزِلَةِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ إلَّا أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ فَيَجِبُ إثْبَاتُ مَا احْتَمَلَهُ النَّهْيُ وَرَاءَ حَقِيقَتِهِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأُصُولِ وَبَيَانِ هَذَا الْأَصْلِ فِي صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَالرِّبَا وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ عِنْدَنَا لِأَحْكَامِهَا وَعِنْدَهُ بَاطِلَةٌ مَنْسُوخَةٌ لَا حُكْمَ لَهَا ـــــــــــــــــــــــــــــQعَرَفْت أَنَّهُ مَسْمُومٌ يَكُونُ الْمَنْعُ لِقُبْحٍ فِي غَيْرِهِ وَهُوَ السُّمُّ لَا لِعَيْنِهِ. [النَّهْيُ الْمُطْلَقُ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ] قَوْلُهُ (وَأَمَّا النَّهْيُ الْمُطْلَقُ) أَيْ عَنْ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ قَبِيحٌ لِعَيْنِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ (لَكِنْ مُتَّصِلًا بِهِ) أَيْ لَكِنْ يَقْتَضِي قُبْحًا مُتَّصِلًا بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَعَ إطْلَاقِ النَّهْيِ أَيْ مَعَ كَمَالِ النَّهْيِ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ كَامِلٌ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ لِلتَّحْرِيمِ لَا لِلتَّنْزِيهِ وَحَقِيقَتُهُ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ لِطَلَبِ الِامْتِنَاعِ عَنْ الْفِعْلِ بِنَاءً عَلَى اخْتِيَارِ الْعَبْدِ لَا أَنْ يَصِيرَ مَجَازًا عَنْ النَّسْخِ وَالنَّفْيِ إلَّا أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلَيْنِ فَيَجِبُ إثْبَاتُ مَا احْتَمَلَهُ النَّهْيُ وَرَاءَ حَقِيقَتِهِ أَيْ عَلَى خِلَافِ حَقِيقَتِهِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأُصُولِ أَيْ الْأَصْلَيْنِ فَحَقِيقَتُهُ وَمُوجِبُهُ عِنْدَنَا فِي الْأَفْعَالِ الشَّرْعِيَّةِ أَنْ يَثْبُتَ الْقُبْحُ فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَأَنْ يَبْقَى الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مَشْرُوعًا لِيُتَصَوَّرَ امْتِنَاعُ الْمُكَلَّفِ عَنْهُ بِاخْتِيَارِهِ وَمُحْتَمَلُهُ أَنْ يَثْبُتَ الْقُبْحُ فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَلَا يَبْقَى مَشْرُوعًا أَصْلًا وَيَصِيرُ النَّهْيُ مَجَازًا عَنْ النَّسْخِ فَالنَّهْيُ الْمُطْلَقُ يُحْمَلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ قَبِيحًا لِغَيْرِهِ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ إلَّا أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ فَيَجِبُ إثْبَاتُ مُحْتَمَلِهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ أَصْلًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] وَكَمَا فِي بَيْعِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ وَحَقِيقَتُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَثْبُتَ الْقُبْحُ فِي عَيْنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَلَا يَبْقَى مَشْرُوعًا أَصْلًا كَمَا فِي الْفِعْلِ الْحِسِّيِّ وَمُحْتَمَلُهُ أَنْ يَثْبُتَ الْقُبْحُ فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَيَبْقَى الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مَشْرُوعًا كَمَا كَانَ فَالنَّهْيُ الْمُطْلَقُ يُحْمَلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ أَصْلًا إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ بِصَرْفِهِ عَنْ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ فَيُحْمَلُ عَلَى مُحْتَمَلِهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَبِيحًا لِغَيْرِهِ كَالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَالطَّلَاقِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ فَيَجِبُ إثْبَاتُ مَا احْتَمَلَهُ النَّهْيُ وَرَاءَ حَقِيقَتِهِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأُصُولِ. وَبَيَانُ هَذَا الْأَصْلِ أَيْ هَذَا الِاخْتِلَافِ يَعْنِي أَثَرَ هَذَا الِاخْتِلَافِ يَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَحَاصِلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ النَّهْيَ الْمُطْلَقَ عَنْ الْأَفْعَالِ الشَّرْعِيَّةِ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَعِنْدَ أَصْحَابِنَا لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كَالْغَزَالِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ فِي الْعِبَادَاتِ دُونَ الْمُعَامَلَاتِ ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْبُطْلَانِ مُطْلَقًا أَيْ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ جَمِيعًا اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ يَدُلُّ عَلَيْهِ لُغَةً وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَدُلُّ عَلَيْهِ شَرْعًا لَا لُغَةً وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْبُطْلَانِ مُطْلَقًا اخْتَلَفُوا أَيْضًا فَذَهَبَ أَصْحَابُنَا إلَى أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الصِّحَّةِ وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ كَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ إلَى أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ تَفْسِيرِ الصِّحَّةِ وَالْبُطْلَانِ وَالْفَسَادِ تَوْضِيحًا لِهَذِهِ الْأَقْوَالِ فَنَقُولُ الصِّحَّةُ فِي الْعِبَادَاتِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الْفِعْلِ مُسْقِطًا لِلْقَضَاءِ وَعِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ عَنْ مُوَافَقَةِ أَمْرِ الشَّرْعِ بِالصَّلَاةِ وَجَبَ الْقَضَاءُ أَوْ لَمْ يَجِبْ فَصَلَاةُ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ صَحِيحَةٌ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ لِمُوَافَقَةِ أَمْرِ الشَّرْعِ بِالصَّلَاةِ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُسْقِطَةٍ لِلْقَضَاءِ وَفِي عُقُودِ الْمُعَامَلَاتِ مَعْنَى الصِّحَّةِ كَوْنُ الْعَقْدِ سَبَبًا لِتَرَتُّبِ ثَمَرَاتِهِ الْمَطْلُوبَةِ عَلَيْهِ شَرْعًا كَالْبَيْعِ لِلْمِلْكِ وَأَمَّا الْبُطْلَانُ فَمَعْنَاهُ فِي الْعِبَادَاتِ عَدَمُ سُقُوطِ الْقَضَاءِ بِالْفِعْلِ وَفِي عُقُودِ الْمُعَامَلَاتِ تَخَلُّفُ الْأَحْكَامِ عَنْهَا وَخُرُوجُهَا عَنْ كَوْنِهَا أَسْبَابًا

احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَنَّ الْعَمَلَ بِحَقِيقَةِ كُلِّ قِسْمٍ وَاجِبٌ لَا مَحَالَةَ إذْ الْحَقِيقَةُ أَصْلٌ فِي كُلِّ بَابٍ وَالنَّهْيُ فِي اقْتِضَاءِ الْقُبْحِ حَقِيقَةٌ كَالْأَمْرِ فِي اقْتِضَاءِ الْحُسْنِ حَقِيقَةٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQمُفِيدَةً لِلْأَحْكَامِ عَلَى مُقَابَلَةِ الصِّحَّةِ وَأَمَّا الْفَسَادُ فَيُرَادِفُ الْبُطْلَانَ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَكِلَاهُمَا عِبَارَةٌ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ وَعِنْدَنَا هُوَ قِسْمٌ ثَالِثٌ مُغَايِرٌ لِلصَّحِيحِ وَالْبَاطِلِ وَهُوَ مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ بِوَصْفِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ فِيهِ أَنَّ الصَّحِيحَ مَا اسْتَجْمَعَ أَرْكَانَهُ وَشَرَائِطَهُ بِحَيْثُ يَكُونُ مُعْتَبَرًا شَرْعًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَيُقَالُ صَلَاةٌ صَحِيحَةٌ وَصَوْمٌ صَحِيحٌ وَبَيْعٌ صَحِيحٌ إذَا وَجَدَ أَرْكَانَهُ وَشَرَائِطَهُ قَالَ وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الصِّحَّةَ لَيْسَتْ بِمَعْنًى زَائِدٍ عَلَى التَّصَرُّفِ بَلْ إنَّمَا يَرْجِعُ إلَى ذَاتِهِ مِنْ وُجُودِ أَرْكَانِهِ وَشَرَائِطِهِ الْمَوْضُوعَةِ لَهُ شَرْعًا وَالْفَاسِدُ مَا كَانَ مَشْرُوعًا فِي نَفْسِهِ فَائِتُ الْمَعْنَى مِنْ وَجْهٍ لِمُلَازَمَةِ مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ إيَّاهُ بِحُكْمِ الْحَالِ مَعَ تَصَوُّرِ الِانْفِصَالِ فِي الْجُمْلَةِ وَالْبَاطِلُ مَا كَانَ فَائِتَ الْمَعْنَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَعَ وُجُودِ الصُّورَةِ إمَّا لِانْعِدَامِ مَعْنَى التَّصَرُّفِ كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ أَوْ لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةٍ لِلتَّصَرُّفِ كَبَيْعِ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَاعْلَمْ أَنَّ الصِّحَّةَ عِنْدَنَا قَدْ يُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى مُقَابَلَةِ الْفَاسِدِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى مُقَابَلَةِ الْبَاطِلِ فَإِذَا حَكَمْنَا عَلَى شَيْءٍ بِالصِّحَّةِ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ جَمِيعًا بِخِلَافِ الْبَاطِلِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ أَصْلًا وَبِخِلَافِ الْفَاسِدِ فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ دُونَ وَصْفِهِ فَالنَّهْيُ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ يَدُلُّ عَلَى الصِّحَّةِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ عِنْدَنَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ يَصْلُحُ لِإِسْقَاطِ الْقَضَاءِ فِي الْعِبَادَاتِ كَمَا إذَا نَذَرَ صَوْمَ يَوْمِ النَّحْرِ وَأَدَّاهُ فِيهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلِتَرَتُّبٍ الْأَحْكَامِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهَا بِالْمَعْنَى الثَّانِي لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ بِوَصْفِهِ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِالْفَسَادِ لُغَةً تَمَسَّكُوا بِأَنَّ السَّلَفَ فَهِمُوا الْفَسَادَ مِنْ النَّوَاهِي حَتَّى احْتَجَّ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي بُطْلَانِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] وَاسْتَدَلَّتْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى فَسَادِ عُقُودِ الرِّبَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278] وَبِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ وَلَا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ» الْحَدِيثُ وَهُمْ أَرْبَابُ اللِّسَانِ فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ لُغَةً وَلِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ لُغَةً وَالنَّهْيُ يُقَابِلُهُ فَيَقْتَضِي مَا يُقَابِلُهُ الصِّحَّةَ وَهُوَ الْبُطْلَانُ لِوُجُوبِ تَقَابُلِ أَحْكَامِ الْمُتَقَابِلَاتِ وَمَنْ قَالَ بِالْفَسَادِ شَرْعًا لَا لُغَةً قَالَ لَا دَلِيلَ فِي اللَّفْظِ عَلَى الْفَسَادِ إذْ لَوْ صَرَّحَ الشَّارِعُ وَقَالَ حَرَّمْت عَلَيْك اسْتِيلَادَ جَارِيَةِ الِابْنِ وَنَهَيْتُك عَنْهُ لِعَيْنِهِ وَلَكِنْ إنْ فَعَلْت مَلَكْتهَا وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْمِلْكِ وَحَرَّمْت عَلَيْك صَوْمَ يَوْمِ النَّحْرِ وَلَكِنْ إنْ صُمْت خَرَجْت عَنْ عُهْدَةِ النَّذْرِ وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْجَزَاءِ لَمْ يَتَنَاقَضْ بِخِلَافِ قَوْلِهِ حَرَّمْت عَلَيْك الصَّوْمَ وَأَمَرْتُك بِهِ أَوْ أَبَحْته لَك وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الصَّحَابَةَ تَمَسَّكُوا لِلْفَسَادِ بَلْ لِلتَّحْرِيمِ وَالْمَنْعِ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لُغَةً وَلَكِنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ شَرْعًا. وَبَيَانُهُ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ وَالنَّهْيُ فِي اقْتِضَاءِ الْقُبْحِ حَقِيقَةٌ كَالْأَمْرِ فِي اقْتِضَاءِ الْحُسْنِ حَقِيقَةٌ يَعْنِي حَقِيقَةُ النَّهْيِ أَنْ يَكُونَ مُقْتَضِيًا لِلْقُبْحِ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ شَرْعًا كَمَا أَنَّ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ مُقْتَضِيًا لِلْحُسْنِ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ شَرْعًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ ضَرُورَةِ حُكْمٍ لِلْآمِرِ وَالنَّاهِي أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قِيلَ نَهْيُ الشَّارِعِ لَا يَقْتَضِي الْقَبْحَ يُكَذَّبُ الْقَائِلُ كَمَا لَوْ قِيلَ أَمْرُهُ لَا يَقْتَضِي الْحُسْنَ وَصِحَّةُ تَكْذِيبِ النَّافِي مِنْ أَمَارَاتِ الْحَقِيقَةِ وَلَوْ نَصَبْت حَقِيقَتَهُ عَلَى التَّمْيِيزِ مِنْ الْقُبْحِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ النَّهْيَ فِي اقْتِضَاءِ الْقُبْحِ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي ذَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَالْأَمْرِ فِي اقْتِضَاءِ الْحُسْنِ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي ذَاتِ

ثُمَّ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَاجِبٌ حَتَّى كَانَ حَسَنًا لِمَعْنًى فِي عَيْنِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ فَكَذَلِكَ النَّهْيُ فِي صِفَةِ الْقُبْحِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُطْلَقَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَتَنَاوَلُ الْكَامِلَ مِنْهُ وَيَحْتَمِلُ الْقَاصِرَ وَالْكَمَالُ فِي صِفَةِ الْقُبْحِ فِيمَا قُلْنَا فَمَنْ قَالَ بِأَنَّهُ يَكُونُ مَشْرُوعًا فِي الْأَصْلِ قَبِيحًا فِي الْوَصْفِ يَجْعَلُهُ مَجَازًا فِي الْأَصْلِ حَقِيقَةً فِي الْوَصْفِ وَهَذَا عَكْسُ الْحَقِيقَةِ وَقَلْبُ الْأَصْلِ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ كَانَ لِتَخْرِيجِ الْفُرُوعِ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَنْعَدِمَ الْمَشْرُوعُ بِاقْتِضَاءِ النَّهْيِ وَالثَّانِي أَنْ يَنْعَدِمَ بِحُكْمِهِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مِنْ ضَرُورَاتِ كَوْنِ التَّصَرُّفِ مَشْرُوعًا أَنْ يَكُونَ مَرَضِيًّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13] وَلِلْمَشْرُوعَاتِ دَرَجَاتٌ وَأَدْنَاهَا أَنْ تَكُونَ مَرْضِيَّةً وَكَوْنُ الْفِعْلِ قَبِيحًا مَنْهِيًّا يُنَافِي هَذَا الْوَصْفَ وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِي الْمَشِيئَةِ وَالْقَضَاءِ وَالْحُكْمِ كَالْكُفْرِ، وَسَائِرِ الْمَعَاصِي فَإِنَّهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقَضَاءِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ تُوجَدُ لَا بِرِضَاهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَأْمُورِ بِهِ يَكُونُ تَعَسُّفًا لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَأْبَاهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ وَالْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ الْحَسَنِ وَاجِبٌ. ثُمَّ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَاجِبٌ حَتَّى إنَّ مُطْلَقَهُ يَقْتَضِي حُسْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ لِعَيْنِهِ لَا لِغَيْرِهِ وَالضَّمِيرُ فِي كَانَ رَاجِعٌ إلَى مَفْهُومٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْأَمْرِ وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ كَالْأَمْرِ بِالْقِتَالِ وَالْحُدُودِ فَكَذَلِكَ النَّهْيُ فِي صِفَةِ الْقُبْحِ أَيْ فَكَالْأَمْرِ النَّهْيُ فِي صِفَةِ الْقُبْحِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِحَقِيقَتِهِ وَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ قُبْحٌ لِعَيْنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَا لِغَيْرِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ 1 - ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ تَأْثِيرِ مَا ذُكِرَ فَقَالَ وَهَذَا أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ اقْتِضَاءِ النَّهْيِ قُبْحًا فِي عَيْنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَتَنَاوَلُ الْكَامِلَ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ إذْ النَّاقِصُ مَوْجُودٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَمَعَ شُبْهَةِ الْعَدَمِ لَا يَثْبُتُ حَقِيقَةُ الْوُجُودِ وَالْكَمَالِ فِي صِفَةِ الْقُبْحِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَا فِي غَيْرِهِ كَمَا فِي جَانِبِ الْحَسَنِ فَكَانَ هَذَا هُوَ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ وَمَنْ قَالَ بِأَنَّهُ يَكُونُ مَشْرُوعًا فِي الْأَصْلِ قَبِيحًا فِي الْوَصْفِ يَجْعَلُهُ مَجَازًا فِي الْأَصْلِ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ الْأَصْلَ مَنْهِيًّا عَنْهُ حَقِيقَةً مَعَ أَنَّ النَّهْيَ أُضِيفَ إلَيْهِ حَقِيقَةً فِي الْوَصْفِ أَيْ يَجْعَلُ النَّهْيَ حَقِيقَةً فِي الْوَصْفِ مَعَ أَنَّ النَّهْيَ غَيْرُ مُضَافٍ إلَيْهِ وَهَذَا عَكْسُ الْحَقِيقَةِ أَيْ عَكْسُ مَا يَقْتَضِيهِ حَقِيقَةُ الْكَلَامِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمُ النَّهْيِ وَمُقْتَضَاهُ فِيمَا أُضِيفَ إلَيْهِ النَّهْيُ وَأَنْ لَا يَثْبُتَ فِيمَا لَمْ يُضَفْ إلَيْهِ فَمَتَى ثَبَتَ مُقْتَضَاهُ فِيمَا لَمْ يُضَفْ إلَيْهِ وَلَمْ يَثْبُتْ فِيمَا أُضِيفَ إلَيْهِ كَانَ عَكْسَ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ فِيهِ إثْبَاتَ مَا لَمْ يُوجِبْهُ الْكَلَامُ وَإِبْطَالُ مَا أَوْجَبَهُ وَقَلْبُ الْأَصْلِ لِأَنَّ الْوَصْفَ تَابِعٌ لِلْأَصْلِ وَفِيمَا قَالُوا يَصِيرُ الْأَصْلُ تَابِعًا لِلْوَصْفِ فِي صِحَّةِ إضَافَةِ النَّهْيِ إلَيْهِ إذْ لَوْلَا الْوَصْفُ لَمْ يَصِحَّ إضَافَةُ النَّهْيِ إلَيْهِ وَهُوَ فِي التَّحْقِيقِ مُرَادِفٌ لِلْأَوَّلِ. قَوْلُهُ (وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ) وَهُوَ أَنَّ النَّهْيَ بِحَقِيقَتِهِ يَقْتَضِي الْقُبْحَ فِي عَيْنِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ كَانَ لِتَخْرِيجِ الْفُرُوعِ وَهُوَ خُرُوجُ الْأَفْعَالِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَنْهِيَّةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَشْرُوعَةً طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَنْعَدِمَ مَشْرُوعِيَّتُهَا بِاقْتِضَاءِ النَّهْيِ أَيْ بِمُقْتَضَاهُ وَهُوَ الْقُبْحُ أَوْ بِاقْتِضَاءِ النَّهْيِ عَدَمَ الْمَشْرُوعِيَّةِ لِأَنَّهُ لِمَا اقْتَضَى الْقُبْحَ وَهُوَ لَا يَثْبُتُ مَعَ بَقَاءِ الْمَشْرُوعِيَّةِ وَكَانَ انْتِفَاؤُهَا بِاقْتِضَاءِ النَّهْيِ أَيْضًا كَثُبُوتِ الْقُبْحِ وَالثَّانِي أَنْ تَنْعَدِمَ بِحُكْمِ النَّهْيِ وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرَةٌ إذْ الْمُقْتَضِي يَتَقَدَّمُ عَلَى النَّصِّ لِصِحَّتِهِ وَالْحُكْمُ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَيْ بَيَانُ الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ الْقُبْحُ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِالنَّهْيِ لَزِمَ أَنْ لَا يَبْقَى مَشْرُوعًا لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ الشَّيْءِ مَشْرُوعًا أَنْ يَكُونَ مَرَضِيًّا بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13] أَيْ بَيَّنَ وَأَوْضَحَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا أَمَرَ بِهِ نُوحًا وَالتَّوْصِيَةُ الْأَمْرُ بِطَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ وَشَرْعُ الشَّارِعِ ذَاتُهُ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِ الْمَشْرُوعِ مَرَضِيًّا فَكَيْفَ إذَا كَانَ مِمَّا وَصَّى بِهِ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وَالتَّمَسُّكُ بِالْآيَةِ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ أَنْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ الدِّينِ جَمِيعَ الشَّرَائِعِ فَأَمَّا الْمُرَادُ مِنْهُ لَوْ كَانَ التَّوْحِيدَ وَالْإِيمَانَ وَمَا لَا يَجْرِي فِيهِ النَّسْخُ مِنْ الشَّرَائِعِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَهْلُ التَّفْسِيرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] إذْ هِيَ أَنْ الْمُفَسِّرَةُ بِمَعْنَى أَيْ فَكَانَ تَفْسِيرًا لِمَا وَصَّى بِهِ فَلَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّهَا تَدُلُّ " ح " عَلَى أَنَّ سِوَى مَا ذَكَرْنَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ تَسَاهَلَ فِيهِ لِكَوْنِهِ أَمْرًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ شَرْعَ الشَّيْءِ اسْتِعْبَادٌ

فَصَارَ النَّهْيُ عَنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ نَسْخًا بِمُقْتَضَاهُ وَهُوَ التَّحْرِيمُ السَّابِقُ وَالثَّانِي أَنَّ مِنْ حُكْمِ النَّهْيِ وُجُوبَ الِانْتِهَاءِ وَأَنْ يَصِيرَ الْفِعْلُ عَلَى خِلَافِ مُوجَبِهِ مَعْصِيَةً هَذَا مُوجَبُ حَقِيقَتِهِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ مَعْصِيَةً وَبَيْنَ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا وَطَاعَةً تَضَادٌّ وَتَنَافٍ وَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِالزِّنَا لِأَنَّهَا شُرِعَتْ نِعْمَةً تُلْحَقُ بِهَا الْأَجْنَبِيَّةُ بِالْأُمَّهَاتِ وَالزِّنَا حَرَامٌ مَحْضٌ فَلَمْ يَصْلُحْ سَبَبًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ هُوَ نِعْمَةٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ الشَّارِعِ لِعِبَادِهِ يُوضَعُ طَرِيقٌ يُصَلُّونَ بِسُلُوكِهِ إلَى السَّعَادَةِ الْعُظْمَى وَهِيَ رِضَاءُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَرْضِيًّا لَهُ لِيَصْلُحَ لِلْعَبْدِ رِضَاهُ بِسُلُوكِهِ قَالَ تَعَالَى {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [التوبة: 100] {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ} [التوبة: 21] {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] وَالْقَبِيحُ لِذَاتِهِ لَا يَكُونُ مَرْضِيًّا لِلْحَكِيمِ الْعَلِيمِ فَثَبَتَ أَنَّ بَيْنَ الْقُبْحِ وَبَيْنَ الْمَشْرُوعِيَّةِ تَنَافِيًا وَقَدْ ثَبَتَ الْقُبْحُ بِالنَّهْيِ لِمَا ذَكَرْنَا فَيَنْتَفِي الْمَشْرُوعِيَّةُ ضَرُورَةً قَوْلُهُ (فَصَارَ النَّهْيُ عَنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ نَسْخًا) أَيْ بَيَانًا لِانْتِهَاءِ مُدَّةِ الْمَشْرُوعِيَّةِ فِيهَا بِمُقْتَضَاهُ وَهُوَ التَّحْرِيمُ السَّابِقُ يَعْنِي إنَّمَا صَارَ النَّهْيُ نَسْخًا بِمَا اقْتَضَاهُ النَّهْيُ وَهُوَ الْقُبْحُ وَالْحُرْمَةُ وَهَذَا لِأَنَّ النَّهْيَ مَعَ الْمَشْرُوعِيَّةِ لَا يَصِحُّ فَيُثْبِتُ الْقُبْحَ وَالْحُرْمَةَ سَابِقَيْنِ عَلَى النَّهْيِ لِيَصِحَّ النَّهْيُ فَصَارَ كَأَنَّ النَّاهِيَ قَالَ حَرَّمْت عَلَيْك هَذَا الْفِعْلَ فَلَا تَفْعَلُوا فَيَصِيرُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ التَّحْرِيمُ سَابِقًا عَلَى النَّهْيِ ضَرُورَةً كَذَا فِي فَوَائِدِ مَوْلَانَا الْعَلَّامَةِ حَمِيدِ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - 1 - (قَوْلُهُ وَالثَّانِي) أَيْ الطَّرِيقُ الثَّانِي وَهُوَ انْتِفَاءُ الْمَشْرُوعِيَّةِ بِحُكْمِ النَّهْيِ هُوَ أَنَّ مِنْ حُكْمِ النَّهْيِ وُجُوبَ الِانْتِهَاءِ وَصَيْرُورَةَ الْفِعْلِ عَلَى خِلَافِ مُوجِبِهِ وَهُوَ تَرْكُ الِانْتِهَاءِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى الْفِعْلِ مَعْصِيَةً وَبَيْنَ كَوْنِهِ أَيْ كَوْنِ الْفِعْلِ مَعْصِيَةً وَبَيْنَ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا كَمَا إذَا كَانَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ كَعَقْدِ الرِّبَا وَطَاعَةً كَمَا إذَا كَانَ مِنْ الْعِبَادَاتِ تَضَادٌّ وَتَنَافِي التَّضَادِّ رَاجِعٌ إلَى كَوْنِهِ طَاعَةً وَمَعْصِيَةً وَالتَّنَافِي رَاجِعٌ إلَى كَوْنِهِ مَشْرُوعًا وَمَعْصِيَةً مِنْ قَبِيلِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُشَوَّشِ أَمَّا التَّضَادُّ بَيْنَ الْمَعْصِيَةِ وَالطَّاعَةِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُمَا أَمْرَانِ وُجُودِيَّانِ بَيْنَهُمَا غَايَةُ الْخِلَافِ. وَأَمَّا التَّنَافِي بَيْنَ الْمَشْرُوعِيَّةِ وَالْمَعْصِيَةِ فَمِنْ حَيْثُ إنَّ الشَّيْءَ إذَا كَانَ مَشْرُوعًا لَا يَكُونُ مَعْصِيَةً أَلْبَتَّةَ وَبَيْنَ اللَّامَعْصِيَةِ وَالْمَعْصِيَةِ تَنَافٍ ثُمَّ شَرَعَ فِي تَخْرِيجِ الْفُرُوعِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ بَعْدَ تَمْهِيدِهِ وَالْجَوَابُ عَمَّا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَقَالَ وَلِهَذَا أَيْ وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي قُبْحَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَانْتِفَاءَ مَشْرُوعِيَّتِهِ لَمْ تَثْبُتْ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ وَهِيَ حُرْمَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى آبَاءِ الرَّجُلِ وَإِنْ عَلَوَا وَعَلَى أَوْلَادِهِ وَإِنْ سَفَلُوا وَحُرْمَةُ أُمَّهَاتِهَا وَإِنْ عَلَوْنَ وَبَنَاتِهَا وَإِنْ سَفَلْنَ عَلَى الرَّجُل بِالزِّنَا لِأَنَّ الْمُصَاهَرَةَ شُرِعَتْ نِعْمَةً وَكَرَامَةً كَالنَّسَبِ فَإِنَّهُ ثَبَتَ كَرَامَةً لِبَنِي آدَمَ اخْتَصُّوا بِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَتَعَلَّقَ بِهِ أَنْوَاعٌ مِنْ الْكَرَامَاتِ مِنْ الْحَضَانَةِ وَالنَّفَقَةِ وَالْإِرْثِ وَالْوِلَايَاتِ وَكَذَا حُرْمَةُ النِّكَاحِ ثَبَتَتْ كَرَامَةً صِيَانَةً لِلْمَحَارِمِ عَنْ الِاسْتِذْلَالِ بِالنِّكَاحِ الَّذِي فِيهِ ضَرْبُ اسْتِرْقَاقٍ وَلِهَذَا تَعَلَّقَتْ بِأَسْمَاءٍ تُنْبِئُ عَنْ الْكَرَامَةِ نَحْوُ اسْمِ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ وَالْأُخْتِ فَأُلْحِقَتْ أُمُّ الْمَرْأَةِ وَابْنَتُهَا بِالْمَحَارِمِ بِالنَّصِّ فَكَانَ ثُبُوتُ هَذِهِ الْحُرْمَةِ نِعْمَةً وَكَرَامَةً وَأَشَارَ الشَّيْخُ إلَى مَعْنَى النِّعْمَةِ بِقَوْلِهِ تُلْحَقُ بِهَا أَيْ بِهَذِهِ الْحُرْمَةِ الْأَجْنَبِيَّةُ بِالْأُمَّهَاتِ حَتَّى حَلَّتْ الْخَلْوَةُ بِهَا وَالْمُسَافَرَةُ وَالنَّظَرُ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّسَبِ وَمَنَّ بِهِمَا عَلَيْنَا فَقَالَ. {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54] أَيْ ذَا نَسَبٍ وَذَا صِهْرٍ وَالصِّهْرُ حُرْمَةُ الْخُتُونَةِ وَقِيلَ خَلْطَةٌ تُشْبِهُ الْقَرَابَةَ فِي تَحْرِيمِ النِّكَاحِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا نِعْمَةٌ لَا يَسْتَحِقُّ بِمَا هُوَ حَرَامٌ مَحْضٌ وَهُوَ الزِّنَا لِأَنَّ الْحَرَامَ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ هُوَ نِعْمَةٌ كَاللِّوَاطَةِ وَوَطْءِ الصَّغِيرَةِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْحُكْمِ لَا يُقَالُ أَهِنْ الْعَالِمَ وَأَعِزَّ الْجَاهِلَ لِأَنَّ الْإِهَانَةَ لَا تُنَاسِبُ الْعَالِمَ كَمَا أَنَّ الْإِعْزَازَ لَا يُلَائِمُ الْجَاهِلَ

وَكَذَلِكَ الْغَصْبُ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ لِمَا قُلْنَا وَلَا يَلْزَمُ إذَا جَامَعَ الْمُحْرِمُ أَوْ أَحْرَمَ مُجَامِعًا أَنَّهُ يَبْقَى مَشْرُوعًا مَعَ كَوْنِهِ فَاسِدًا لِأَنَّ الْإِحْرَامَ مَنْهِيٌّ لِمَعْنَى الْجِمَاعِ وَهُوَ غَيْرُهُ لَا مَحَالَةَ لَكِنَّهُ مَحْظُورُهُ فَصَارَ مُفْسِدًا وَالْإِحْرَامُ لَازِمٌ شَرْعًا لَا يَحْتَمِلُ الْخُرُوجَ بِاخْتِيَارِ الْعِبَادِ فَفَسَدَ وَلَمْ يَنْقَطِعْ بِجِنَايَةِ الْجَانِي، وَكَلَامُنَا فِيمَا يَنْعَدِمُ شَرْعًا لَا فِيمَا لَا يَنْقَطِعُ بِجِنَايَةِ الْجَانِي ـــــــــــــــــــــــــــــQوَلَا مُنَاسَبَةَ هُنَا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حَرَامٌ مَحْضٌ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْعُقُوبَاتِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْوَطْءِ الْمَشْرُوعِ مِنْ لُزُومِ الْمَهْرِ وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ وَثُبُوتِ النَّسَبِ وَهَذَا مَعْنَى مَا نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الزِّنَا فِعْلٌ رُجِمْت عَلَيْهِ وَالنِّكَاحُ أَمْرٌ حُمِدْت عَلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْمَلَ أَحَدُهُمَا عَمَلَ الْآخَرِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا تَعَلُّقُ وُجُوبِ الِاغْتِسَالِ وَفَسَادِ الصَّوْمِ وَالْإِحْرَامِ وَالِاعْتِكَافِ بِهِ مَعَ أَنَّهَا أَحْكَامٌ مَشْرُوعَةٌ لِأَنَّا عَلَّلْنَا لِمَنْعِ ثُبُوتِ مَا هُوَ نِعْمَةٌ وَكَرَامَةٌ وَبِهِ وَالِاغْتِسَالُ شُرِعَ لِلتَّطْهِيرِ وَزَوَالِ النَّجَاسَةِ وَهِيَ فِي الزِّنَا مَوْجُودَةٌ بَلْ أَشَدُّ فَكَانَ أَوْلَى بِإِيجَابِ الِاغْتِسَالِ وَكَذَلِكَ فَسَادُ الصَّوْمِ وَالْإِحْرَامِ وَالِاعْتِكَافِ بِهِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ فِي شَيْءٍ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ التَّغْلِيظِ وَالتَّشْدِيدِ فَيَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِالزِّنَا وَاحْتَرَزَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ حَرَامٌ عَنْ الْوَطْءِ الْحَلَالِ كَوَطْءِ الْمَنْكُوحَةِ وَالْمَمْلُوكَةِ وَبِقَوْلِهِ مَحْضٌ عَنْ الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ كَالْوَطْءِ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَبِمَا إذَا زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ فَوَطِئَهَا وَوَطِئَ الْجَارِيَةَ الْمُشْتَرَكَةَ وَوَطِئَ الرَّجُلُ أَمَةَ ابْنِهِ فَإِنَّ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ تَثْبُتُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِيهَا لَيْسَ بِحَرَامٍ مَحْضٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ هَذِهِ الْحُرْمَةُ كَمَا يَثْبُتُ بَعْضُ أَحْكَامِ الْوَطْءِ الْمَشْرُوعِ مِثْلَ سُقُوطِ الْحَدِّ وَوُجُوبِ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ وَثُبُوتِ النَّسَبِ وَتَأْيِيدُ مَا ذَكَرْنَا بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَمَّنْ تَتَبَّعَ امْرَأَةً حَرَامًا أَيَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّهَا وَابْنَتَهَا فَقَالَ الْحَرَامُ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ» وَبِمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ غَشِيَ أُمَّ امْرَأَتِهِ هَلْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ فَقَالَ لَا الْحَرَامُ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ. وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَيْضًا قَوْلُهُ (وَكَذَا الْغَصْبُ) إذَا غَصَبَ شَيْئًا وَقَضَى الْقَاضِي بِالضَّمَانِ أَوْ تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَثْبُتَ الْمِلْكَ لِلْغَاصِبِ فِي الْمَغْصُوبِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْغَصْبِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِالْغَصْبِ أَصْلًا وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ فِي مِلْكِ الْأَكْسَابِ وَنُفُوذِ الْبَيْعِ وَوُجُوبِ الْكَفَنِ عَلَى الْغَاصِبِ إذَا مَاتَ الْمَغْصُوبُ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ لِأَنَّ الْغَصْبَ عُدْوَانٌ مَحْضٌ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ لِأَنَّ الْمِلْكَ نِعْمَةٌ وَكَرَامَةٌ يَصِلُ بِهِ إلَى مَقَاصِدِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ فَيَتَعَلَّقُ بِسَبَبٍ مَشْرُوعٍ لَا مَحْظُورٍ لِأَنَّ الْمَحْظُورَ سَبَبٌ لِلْعُقُوبَةِ لَا لِلْكَرَامَةِ وَالنِّعْمَة أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَتَلَ عَبْدَ غَيْرِهِ ثُمَّ ضَمِنَ قِيمَتَهُ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ حَتَّى يَكُونَ الْكَفَنُ عَلَى الْمَالِكِ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ كَذَلِكَ هَهُنَا بِخِلَافِ وُجُوبِ الضَّمَانِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْغَرَامَةِ عَلَى الْجَانِي وَالْمِلْكُ فِي الضَّمَانِ إنَّمَا يَقَعُ لِلْمَالِكِ لَا بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ وَلَكِنْ بِمِلْكِ الْأَصْلِ وَاعْلَمْ أَنَّ بِنَاءَ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ مُشْكِلٌ لِأَنَّ الزِّنَا وَالْغَصْبَ مِنْ الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ وَلَا خِلَافَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْهَا يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْمَشْرُوعِيَّةِ وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِمَشْرُوعِيَّةِ الزِّنَا وَالْغَصْبِ وَنَحْنُ إنَّمَا جَعَلْنَاهُمَا سَبَبَيْنِ لِلْحُرْمَةِ وَالْمِلْكِ لَا لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْمَشْرُوعِيَّةَ فِيهِمَا بَلْ لِمَا نَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ وَكَلَامُنَا فِي النَّهْيِ عَنْ الْأَفْعَالِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا يَسْتَقِيمُ بِنَاؤُهُمَا عَلَيْهِ إلَّا مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ وَهُوَ أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْمَشْرُوعِيَّةِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ شَرْعِيًّا أَوْ حِسِّيًّا. قَوْلُهُ (وَلَا يَلْزَمُ) أَيْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمَشْرُوعِ يُوجِبُ فَسَادَهُ وَقُبْحَهُ وَمَعَ صِفَةِ الْفَسَادِ لَا تَبْقَى الْمَشْرُوعِيَّةُ إنَّ الْمُحْرِمَ إذَا جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ

وَلَا يَلْزَمُ الطَّلَاقُ فِي الْحَيْضِ أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَهُوَ الضَّرَرُ بِالْمَرْأَةِ بِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ أَوْ بِتَلْبِيسِ أَمْرِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا ـــــــــــــــــــــــــــــQيَفْسُدُ حَجُّهُ وَإِحْرَامُهُ وَيَبْقَى مَعَ صِفَةِ الْفَسَادِ حَتَّى لَزِمَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ لِيَخْرُجَ عَنْ هَذَا الْإِحْرَامِ وَكَذَا إذَا أَحْرَمَ مُجَامِعًا لِأَهْلِهِ يَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ بِصِفَةِ الْفَسَادِ مَعَ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ النَّهْيَ وَالْفَسَادَ لَا يُنَافِي الشَّرْعِيَّةَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ الْأَخِيرَةَ لِأَنَّهُ لَوْ أَجَابَ عَنْ الْأُولَى بِأَنَّ الْإِحْرَامَ قَدْ انْعَقَدَ صَحِيحًا وَهُوَ لَازِمٌ لَا يُمْكِنُ الْخُرُوجُ عَنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ الْأَفْعَالِ أَوْ بِالدَّمِ عِنْدَ الْإِحْصَارِ فَلَا يُؤَثِّرُ الْمُفْسِدُ فِي رَفْعِهِ صُورَةً وَإِنْ أَثَّرَ فِي مَعْنَاهُ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ يَرِدُ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ لِأَنَّ الْمُفْسِدَ فِيهَا مُقَارِنٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الِانْعِقَادِ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا لِيُجِيبَ عَنْهُمَا بِجَوَابٍ يَشْمَلُهُمَا وَهُوَ أَنَّ الْجِمَاعَ غَيْرُ الْإِحْرَامِ وَلَيْسَ بِوَصْفٍ لَهُ أَيْضًا لِأَنَّ الْجِمَاعَ فِعْلٌ وَالْإِحْرَامُ قَوْلٌ وَالْفِعْلُ لَا يَصِيرُ مِنْ أَوْصَافِ الْقَوْلِ لَكِنَّهُ يُوجَدُ مَعَهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَاوَرَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَدْ يَنْفَصِلُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ فَكَانَ النَّهْيُ عَنْ الْإِحْرَامِ مُجَامِعًا نَهْيًا لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ مُتَّصِلٍ بِهِ وَصْفًا فَكَانَ مِنْ قَبِيلِ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ فَلَمْ يُوجِبْ إعْدَامَهُ فَانْعَقَدَ صَحِيحًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الْإِحْرَامَ يُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالشُّرُوعُ فِي الْفَاسِدِ لَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ بِحَالٍ كَمَنْ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ مَعَ انْكِشَافِ الْعَوْرَةِ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ انْعَقَدَ صَحِيحًا ثُمَّ فَسَدَ. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَفْسُدَ كَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي وَرَدَ النَّهْيُ لِأَجْلِهِ هُوَ الْجِمَاعُ مُجَاوِرٌ لَا مُتَّصِلٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لَكِنَّهُ مَحْظُورُهُ كَالْكَلَامِ لِلصَّلَاةِ وَالْحَدَثِ لِلطَّهَارَةِ فَفَسَدَ لِارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ كَمَا يَفْسُدُ الِاعْتِكَافُ بِهِ فَهَذَا مَعْنَى اسْتِدْرَاكِ الشَّيْخِ فِي قَوْلِهِ لَكِنَّهُ مَحْظُورُهُ فَصَارَ مُفْسِدًا وَلَا يُقَالُ لَمَّا كَانَ الْجِمَاعُ مِنْ مَحْظُورَاتِهِ حَتَّى أَفْسَدَهُ لَزِمَ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الِانْعِقَادِ إذْ الْمَنْعُ أَسْهَلُ مِنْ الرَّفْعِ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّمَا يُوصَفُ الْجِمَاعُ بِكَوْنِهِ مَحْظُورَ الْإِحْرَامِ بَعْدَ وُجُودِ الْإِحْرَامِ لَا قَبْلَهُ لِأَنَّ الشَّيْءَ مَا لَمْ يُوجَدْ لَا يُوصَفُ بِأَنَّ لَهُ مَحْظُورٌ فَلَمْ يَكُنْ الْجِمَاعُ الْمُقَارِنُ مِنْ مَحْظُورَاتِ إحْرَامِهِ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ الِانْعِقَادِ فَإِذَا دَاوَمَ عَلَيْهِ بَعْدَمَا انْعَقَدَ الْإِحْرَامُ صَارَ مِنْ مَحْظُورَاتِهِ فَأَفْسَدَهُ كَمَا إذَا جَامَعَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ ابْتِدَاءً وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَبْقَى بَعْدَمَا فَسَدَ غَيْرَ أَنَّ الْإِحْرَامَ لَازِمٌ شَرْعًا لَا يَحْتَمِلُ الْبَعْضَ بِالْأَسْبَابِ النَّاقِصَةِ مِنْ الْخَارِجِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فَأَثَّرَ الْمُفْسِدُ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْخُرُوجِ مِنْ الْإِحْرَامِ فَلَزِمَهُ الْمُضِيُّ ضَرُورَةً لِيَخْرُجَ عَنْهُ بِالْأَدَاءِ كَمَا شُرِعَ وَبَابُ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنًى عَنْ الْقَوَاعِدِ وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ إنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّ النَّهْيَ وَفِي وَضْعِهِ لِرَفْعِ الْمَشْرُوعِيَّةِ فَيُؤَثِّرُ فِيمَا يَقْبَلُ ذَلِكَ لَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ بِمَانِعٍ بَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ بِدَلِيلِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحَقَائِقِ. وَذَكَرْنَا فِي الْقَوَاطِعِ أَنَّ انْعِقَادَهُ عَلَى الْفَسَادِ وَإِلْزَامَهُ أَفْعَالَهُ يَجْرِي مَجْرَى نَوْعِ مُعَاقَبَةٍ مِنْ الشَّرْعِ وَالْمُؤَاخَذَاتُ مِنْ الشَّرْعِ عَلَى أَنْوَاعٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْإِلْزَامُ وَإِبْقَاءُ الْمَرْءِ فِي عَهْدِهِ أَفْعَالُ الْحَجِّ لِيَفْعَلَهَا وَلَا يَسْقُطُ بِهَا الْحَجُّ عَنْ ذِمَّتِهِ وَلَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهَا نَوْعُ مُعَاقَبَةٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ لِارْتِكَابِهِ النَّهْيَ وَفِعْلِهِ الْحَجَّ عَلَى وَجْهِ الْمَعْصِيَةِ فَلَمْ يَدْخُلْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي قُلْنَاهُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ وَلَمْ يَنْقَطِعْ بِجِنَايَةِ الْجَانِي قَوْلُهُ (وَلَا يَلْزَمُ) أَيْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الطَّلَاقُ فِي الْحَيْضِ فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا وَكَذَا الطَّلَاقُ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ وَقَدْ بَقِيَ مَشْرُوعًا بَعْدَ النَّهْيِ حَتَّى كَانَ وَاقِعًا مُوجِبًا لِحُكْمٍ مَشْرُوعٍ وَهُوَ الْفُرْقَةُ لِأَنَّ هَذَا الطَّلَاقَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ غَيْرِ مُتَّصِلٍ بِهِ وَصْفًا وَذَلِكَ

وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ سَبَبًا لِلرُّخْصَةِ لِلنَّهْيِ وَلَا يَمْلِكُ الْكَافِرُ مَالَ الْمُسْلِمِ بِالِاسْتِيلَاءِ لِلنَّهْيِ أَيْضًا فَلَمْ يَصْلُحْ سَبَبًا مَشْرُوعًا وَلَا يَلْزَمُ الظِّهَارُ لِأَنَّ كَلَامَنَا فِي حُكْمٍ مَطْلُوبٍ تَعَلَّقَ بِسَبَبٍ مَشْرُوعٍ لَهُ لِيَبْقَى سَبَبًا وَالْحُكْمُ بِهِ مَشْرُوعًا مَعَ وُقُوعِ النَّهْيِ عَلَيْهِ فَأَمَّا مَا هُوَ حَرَامٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ تَعَلَّقَ بِهِ جَزَاءٌ زَاجِرٌ عَنْهُ فَيَعْتَمِدُ حُرْمَةَ سَبَبِهِ كَالْقِصَاصِ لَيْسَ بِحُكْمٍ مَطْلُوبٍ بِسَبَبٍ مَشْرُوعٍ بَلْ جَزَاءٍ شُرِعَ زَاجِرًا فَاعْتَمَدَ حُرْمَةَ سَبَبِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَعْنَى فِي الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ هُوَ الْإِضْرَارُ بِالْمَرْأَةِ مِنْ حَيْثُ تَطْوِيلُ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا فَإِنَّ الْحَيْضَةَ الَّتِي أَوْقَعَ فِيهَا الطَّلَاقَ لَيْسَتْ بِمَحْسُوبَةٍ مِنْ الْعِدَّةِ بِالِاتِّفَاقِ فَإِنَّ عِنْدِي الِاعْتِدَادَ بِالْأَطْهَارِ لَا بِالْحِيَضِ وَعِنْدَكُمْ لَا يَحْتَسِبُ هَذِهِ الْحَيْضَةَ مِنْ حِيَضِ الْعِدَّةِ لِانْتِقَاضِهَا وَلِهَذَا لَا يُحَرِّمُ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ إذَا لَمْ يُؤَدِّ إلَى الضِّرَارِ فَإِنْ طَلَّقَهَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَإِلَى مَا ذَكَرْنَا إشَارَةٌ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] وَفِي الطَّلَاقِ فِي طُهْرِ الْجِمَاعِ هُوَ تَلْبِيسُ أَمْرِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا لَا تَدْرِي أَنَّ الْوَطْءَ مُعَلَّقٌ فَيُعْتَدُّ بِالْحَبَلِ أَوْ غَيْرُ مُعَلَّقٍ فَيُعْتَدُّ بِالْإِقْرَارِ وَالْحَامِلُ قَدْ تَحِيضُ عَلَى أَصْلِيٍّ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّزَوُّجِ. وَكَذَا تَلْبِيسُ أَمْرِ النَّفَقَةِ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَامِلًا وَجَبَ لَهَا النَّفَقَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] وَلَوْ لَمْ تَكُنْ حَامِلًا وَكَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا لَا يَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ عِنْدَهُ فَتَشُكُّ فِي طَلَبِ النَّفَقَةِ. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِمَا قُلْنَا إنَّ النَّهْيَ يَنْفِي الْمَشْرُوعِيَّةَ لَمْ يَكُنْ سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ أَيْ السَّفَرُ الَّذِي هُوَ مَعْصِيَةٌ كَسَفَرِ الْآبِقِ وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ وَالْبَاغِي سَبَبًا لِلرُّخْصَةِ لِلنَّهْيِ أَيْ لِكَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ شَرْعًا يَعْنِي لَمَّا كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ كَانَ مَعْصِيَةً وَالرُّخْصَةُ نِعْمَةٌ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِدَفْعِ الْحَرَجِ عِنْدَ السَّيْرِ الْمَدِيدِ فَيَسْتَدْعِي سَبَبًا مَشْرُوعًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمَعْصِيَةِ. قَوْلُهُ (وَلَا يَمْلِكُ الْكَافِرُ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ إذْ هُوَ بَيَانُ شَرْعٍ أَيْ لَا يَكُونُ سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ سَبَبًا وَلَا يَمْلِكُ الْكَافِرُ مَالَ الْمُسْلِمِ بِالِاسْتِيلَاءِ أَيْ بِالِاسْتِيلَاءِ التَّامِّ الْمُطْلَقِ وَذَلِكَ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُمْ مَا دَامُوا فِي دَارِنَا كَانُوا مَقْهُورِينَ حُكْمًا وَلَا يَتِمُّ الِاسْتِيلَاءُ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمُلْكِ بِالِاتِّفَاقِ لِلنَّهْيِ أَيْضًا أَيْ لِكَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ شَرْعًا كَالسَّفَرِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اسْتِيلَاءٌ عَلَى مَالٍ مَعْصُومٍ مُحْتَرَمٍ فَيَكُونُ حَرَامًا مَنْهِيًّا عَنْهُ خُصُوصًا عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ أَجْمَعَ وَعَلَى أَصْلِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْحُرُمَاتِ وَالْمَنَاهِي وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ الَّذِي هُوَ نِعْمَةٌ كَاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى رِقَابِنَا وَكَاسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِ عَلَى هَذَا الْمَالِ وَيَرُدُّ مَا قُلْنَا فِي مَسْأَلَتَيْ الزِّنَا وَالْغَصْبِ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَيْضًا قَوْلُهُ (وَلَا يَلْزَمُ) أَيْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الظِّهَارُ فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مَحْظُورٌ. وَقَدْ انْعَقَدَ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ الَّتِي هِيَ عِبَادَةٌ وَلَمْ يَنْعَدِمْ بِالنَّهْيِ لِأَنَّ كَلَامَنَا فِي النَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْ التَّصَرُّفِ الْمَوْضُوعِ لِحُكْمٍ مَطْلُوبٍ شَرْعًا وَالظِّهَارُ لَيْسَ بِتَصَرُّفٍ مَوْضُوعٍ لِحُكْمٍ مَطْلُوبٍ شَرْعًا بَلْ هُوَ حَرَامٌ فَإِنَّهُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ وَالْكَفَّارَةُ إنَّمَا وَجَبَتْ جَزَاءً لِتِلْكَ الْجَرِيمَةِ وَثُبُوتُ وَصْفِ الْخَطَرِ فِي السَّبَبِ لِلْجَزَاءِ لَا يُخْرِجُ السَّبَبَ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِإِيجَابِ الْجَزَاءِ بَلْ يُحَقِّقُهُ كَمَا فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ فَإِنَّهُ مَحْظُورٌ مَحْضٌ وَمَعَ ذَلِكَ أَوْجَبَ الْقِصَاصَ وَثُبُوتُ وَصْفِ الْحَظْرِ فِيهِ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِإِيجَابِهِ فَكَذَا فِي الظِّهَارِ وَلَنَا مَا احْتَجَّ بِهِ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ فِي بَابِ الرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ إذَا طَلَّقَ لِغَيْرِ السُّنَّةِ لَا يَقَعُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ فَقَالَ أَنَهَانَا عَمَّا يَكُونُ أَوْ لَا يَكُونُ وَالنَّهْيُ عَمَّا لَا يَكُونُ لَغْوٌ لَا يُقَالُ لِلْأَعْمَى لَا تُبْصِرْ وَلِلْآدَمِيِّ لَا تَطِرْ. وَبَيَانُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ابْتَلَى عِبَادَهُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِنَاءً عَلَى اخْتِيَارِهِمْ فَمَنْ أَطَاعَهُ بِالِائْتِمَارِ بِمَا أَمَرَ وَالِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى بِاخْتِيَارِهِ نَالَ الْجَنَّةَ بِفَضْلِهِ وَمَنْ عَصَاهُ بِتَرْكِ الِائْتِمَارِ وَالِانْتِهَاءِ اسْتَحَقَّ النَّارَ بِعَدْلِهِ وَالِابْتِلَاءُ بِالنَّهْيِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ

وَلَنَا مَا احْتَجَّ بِهِ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ أَنَّ صِيَامَ الْعِيدِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ مَنْهِيٌّ وَالنَّهْيُ لَا يَقَعُ عَلَى مَا لَا يَتَكَوَّنُ وَبَيَانُهُ أَنَّ النَّهْيَ يُرَادُ بِهِ عَدَمُ الْفِعْلِ مُضَافًا إلَى اخْتِيَارِ الْعِبَادِ وَكَسْبِهِمْ فَيُعْتَمَدُ تَصَوُّرُهُ لِيَكُونَ الْعَبْدُ مُبْتَلًى بَيْنَ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ بِاخْتِيَارِهِ فَيُثَابَ عَلَيْهِ وَبَيْنَ أَنْ يَفْعَلَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَيَلْزَمَهُ جَزَاؤُهُ وَالنَّسْخُ لِإِعْدَامِ الشَّيْءِ شَرْعًا لِيَنْعَدِمَ فِعْلُ الْعَبْدِ لِعَدَمِ الْمَشْرُوعِ بِنَفْسِهِ لِيَصِيرَ امْتِنَاعُهُ بِنَاءً عَلَى عَدَمِهِ وَفِي النَّهْيِ يَكُونُ عَدَمُهُ بِنَاءً عَلَى امْتِنَاعِهِ وَهُمَا فِي طَرَفَيْ نَقِيضٍ فَلَا يَصِحُّ الْجَمْعُ بِحَالٍ وَالْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ فِي النَّهْيِ مَا ذَكَرْنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQبِحَيْثُ لَوْ أَقْدَم عَلَيْهِ يُوجَدُ حَتَّى يَبْقَى الْعَبْدُ مُبْتَلًى بَيْنَ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى الْفِعْلِ فَيُعَاقَبُ أَوْ يَكُفُّ عَنْهُ فَيُثَابُ بِامْتِنَاعِهِ مُخْتَارًا عَنْ تَحْقِيقِ الْفِعْلِ لِلنَّهْيِ فَيَكُونُ عَدَمُ الْفِعْلِ مُضَافًا إلَى كَسْبِهِ وَاخْتِيَارِهِ هَذَا مُوجِبُ حَقِيقَةِ النَّهْيِ وَأَمَّا النَّسْخُ فَلِبَيَانِ أَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَبْقَ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ شَرْعًا كَالتَّوَجُّهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَحِلِّ الْأَخَوَاتِ لَمْ يَبْقَ مَشْرُوعًا أَصْلًا وَصَارَ بَاطِلًا شَرْعًا فَامْتِنَاعُ الْعَبْدِ عَنْ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى عَدَمِهِ فِي نَفْسِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِاخْتِيَارِهِ وَلِهَذَا لَا يُثَابُ عَلَى الِامْتِنَاعِ فِي الْمَنْسُوخِ. نَظِيرُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ امْتَنَعَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ مَعَ الْقُدْرَةِ يُثَابُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعَدَمَ بِنَاءً عَلَى امْتِنَاعِهِ وَكَسْبِهِ وَلَوْ امْتَنَعَ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُهَا لَا يُثَابُ عَلَيْهِ لِأَنَّ امْتِنَاعَهُ عَنْهُ بِنَاءً عَلَى عَدَمِهَا ثُمَّ النَّهْيُ كَمَا يُوجِبُ تَصَوُّرَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ يَقْتَضِي قُبْحَهُ أَيْضًا لِمَا مَرَّ فَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ وَإِلَّا وَجَبَ التَّرْجِيحُ فَفِي الْفِعْلِ الْحِسِّيِّ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ بِسَبَبِ الْقُبْحِ فَأَمَّا الْفِعْلُ الشَّرْعِيُّ فَلَا يُمْكِنُ فِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ الْقُبْحِ فَوَجَبَ التَّرْجِيحُ ثُمَّ إمَّا أَنْ يُرَجِّحَ جَانِبَ الْقُبْحِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْخَصْمِ أَوْ جَانِبَ التَّصَوُّرِ فَقُلْنَا تَرْجِيحُ جَانِبِ التَّصَوُّرِ أَوْلَى مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ التَّصَوُّرَ هُوَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ لِلنَّهْيِ لُغَةً وَعُرْفًا وَشَرْعًا أَمَّا لُغَةً فَلِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ لَازِمُهُ انْتَهَى يُقَالُ نَهَيْته فَانْتَهَى كَمَا يُقَالُ أَمَرْته فَائْتَمَرَ وَالِائْتِمَارُ وَالِامْتِنَاعُ وَاحِدٌ أَمَّا عُرْفًا فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُسْتَقْبَحُ أَنْ يُقَالَ لِلْأَعْمَى لَا تَبْصُرُ وَلِلْإِنْسَانِ لَا تَطِرْ وَأَمَّا شَرْعًا فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ تَحَقُّقَ الِابْتِلَاءِ بِهِ وَالْقُبْحِ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ الشَّرْعِيَّةِ فَكَانَ اعْتِبَارُ الْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي لَا وُجُودَ لِحَقِيقَتِهِ بِدُونِهِ شَرْعًا وَعُرْفًا وَلُغَةً أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ مَا هُوَ دُونَهُ وَهُوَ ثَابِتٌ شَرْعًا لَا لُغَةً وَثَانِيهَا أَنَّ مَعَ اعْتِبَارِ جَانِبِ التَّصَوُّرِ أَمْكَنَ اعْتِبَارُ جَانِبِ الْقُبْحِ أَيْضًا بِأَنْ يَكُونَ الْقُبْحُ رَاجِعًا إلَى الْوَصْفِ فَكَانَ فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ وَجْهٍ وَمَعَ اعْتِبَارِ جَانِبِ الْقُبْحِ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ جَانِبِ التَّصَوُّرِ بِوَجْهٍ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى وَثَالِثُهَا أَنَّ اعْتِبَارَ جَانِبِ الْقُبْحِ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ حَقِيقَةِ النَّهْيِ لِأَنَّهُ " ح " يَصِيرُ نَسْخًا وَهُوَ غَيْرُ النَّهْيِ حَدًّا وَحَقِيقَةً وَفِي إبْطَالِهِ إبْطَالُ الْقُبْحِ الَّذِي ثَبَتَ مُقْتَضَى بِهِ لِأَنَّ فِي إبْطَالِ الْمُقْتَضَى إبْطَالَ الْمُقْتَضِي ضَرُورَةً فَكَانَ اعْتِبَارُ الْقُبْحِ وَإِثْبَاتُهُ فِي عَيْنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَائِدًا عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ وَلَيْسَ فِي اعْتِبَارِ جَانِبِ التَّصَوُّرِ ذَلِكَ وَفِيهِ تَحْقِيقُ النَّهْيِ مَعَ رِعَايَةِ مُقْتَضَاهُ فَكَانَ اعْتِبَارُهُ أَوْلَى. ثُمَّ إنَّكَ قَدْ عَلِمْت أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ أَمْرِ الشَّارِعِ وَنَهْيِهِ وُجُوبُ الِائْتِمَارِ وَوُجُوبُ الِانْتِهَاءِ لَا وُجُودُ الْفِعْلِ وَعَدَمُهُ لِأَنَّ تَخَلُّفَ الْمُرَادِ عَنْ إرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ فَكَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ يُرَادُ بِهِ عَدَمُ الْفِعْلِ يُطْلَبُ بِهِ عَدَمُهُ أَوْ يُرَادُ بِهِ عَدَمُ الْفِعْلِ فِي وَضْعِهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى أَنَّهُ صَادِرٌ مَنْ الشَّارِعِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ يُرَادُ بِهِ عَدَمُ الْفِعْلِ فِي حَقِّ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ الِامْتِنَاعَ عَنْ مُبَاشَرَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَأَمَّا فِي حَقِّ الْكُلِّ فَالْمُرَادُ مِنْ النَّهْيِ إيجَابُ الِانْتِهَاءِ لَا حُصُولُهُ وَمِنْ الْأَمْرِ إيجَابُ الِائْتِمَارِ لَا غَيْرُ وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ. قَوْلُهُ (وَهُمَا فِي طَرَفَيْ نَقِيضٍ) أَيْ كَوْنُ الِامْتِنَاعِ عَنْ الشَّيْءِ مَبْنِيًّا عَلَى عَدَمِهِ مَعَ كَوْنِ عَدَمِ الشَّيْءِ مَبْنِيًّا عَلَى الِامْتِنَاعِ عَنْهُ مُتَنَاقِضَانِ أَيْ مُخَالِفَانِ وَأَنَّهُمْ قَدْ يُطْلِقُونَ التَّضَادَّ وَالتَّنَافِي وَالتَّنَاقُضَ وَلَا يُرِيدُونَ بِهَا مَعَانِيَهَا الْمُصْطَلَحَةَ بَيْنَ قَوْمٍ وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ نَفْسَ الْمُخَالَفَةِ وَالْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ أَنَّ

فَأَمَّا الْقُبْحُ فَوَصْفٌ قَائِمٌ بِالنَّهْيِ مُقْتَضًى بِهِ تَحْقِيقًا لِحُكْمِهِ فَكَانَ تَابِعًا فَلَا يَجُوزُ تَحْقِيقُهُ عَلَى وَجْهٍ يَبْطُلُ بِهِ مَا أَوْجَبَهُ وَاقْتَضَاهُ فَيَصِيرُ الْمُقْتَضِي دَلِيلًا عَلَى الْفَسَادِ بَعْدَ أَنْ كَانَ دَلِيلًا عَلَى الصِّحَّةِ بَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالْأَصْلِ فِي مَوْضِعِهِ وَالْعَمَلُ بِالْمُقْتَضِي بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْقُبْحَ وَصْفًا لِلْمَشْرُوعِ فَيَصِيرَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ بِوَصْفِهِ فَيَصِيرَ فَاسِدًا هَذَا غَايَةُ تَحْقِيقِ هَذَا الْأَصْلِ فَأَمَّا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَدْ حَقَّقَ الْمُقْتَضَى وَأَبْطَلَ الْمُقْتَضِيَ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْمُنَاقَضَةِ وَالْفَسَادِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالنَّهْيَ لِطَلَبِ الِامْتِنَاعِ عَنْ الْفِعْلِ مُضَافًا إلَى اخْتِيَارِ الْعَبْدِ وَكَسْبِهِ فَيُعْتَمَدُ التَّصَوُّرُ فَأَمَّا الْقُبْحُ أَيْ قُبْحُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَوَصْفٌ قَائِمٌ أَيْ ثَابِتٌ بِالنَّهْيِ لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَا أَنَّهُ قَائِمٌ بِحَقِيقَةِ النَّهْيِ لِأَنَّهُ مَنَعَ مِنْ الْقَبِيحِ وَذَلِكَ حَسَنٌ مُقْتَضَى حَالٍ وَالْعَامِلُ فِيهِ قَائِمٌ بِهِ أَيْ بِالنَّهْيِ تَحْقِيقًا لِحُكْمِهِ أَيْ لِأَجْلِ تَحْقِيقِ حُكْمِ النَّهْيِ وَهُوَ طَلَبُ الْإِعْدَامِ فَكَانَ أَيْ الْقُبْحُ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ تَابِعًا لِلنَّهْيِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ ثَبَتَ بِهِ فَلَا يَجُوزُ تَحْقِيقُهُ أَيْ إثْبَاتُ الْقُبْحِ الَّذِي ثَبَتَ اقْتِضَاءً عَلَى وَجْهٍ يَبْطُلُ بِهِ أَيْ بِالْقُبْحِ مَا أَوْجَبَ الْقُبْحُ وَاقْتِضَاءً وَهُوَ النَّهْيُ فَيَصِيرُ الْمُقْتَضَى " ح " دَلِيلًا عَلَى الْفَسَادِ أَيْ فَسَادِ الْمُقْتَضِي بَعْدَ أَنْ كَانَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّته. بَلْ يَجِب الْعَمَلُ إضْرَابٌ عَنْ قَوْلِهِ فَلَا يَجُوزُ تَحْقِيقُهُ أَيْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالْأَصْلِ وَهُوَ النَّهْيُ فِي مَوْضِعِهِ وَهُوَ مَا وَرَدَ النَّهْيُ فِيهِ وَذَلِكَ بِإِبْقَاءِ الْمَشْرُوعِيَّةِ لِيَبْقَى النَّهْيُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالْمُقْتَضَى وَهُوَ الْقُبْحُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ إلَى آخِرِهِ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فَوَجَبَ إثْبَاتُ الْقُبْحِ فِي غَيْرِهِ لِيُمْكِنَ تَحْرِيمُ الْفِعْلِ بِذَلِكَ الْغَيْرِ وَلَكِنْ يُثْبِتُهُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ أَلْزَمَ فَيَجْعَلُهُ قَبِيحًا لِوَصْفٍ زَائِدٍ مُتَّصِلٍ بِهِ مَا أَمْكَنَ كَمَا يَثْبُتُ الْحُسْنُ لِلْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ أَلْزَمَ وَهُوَ الْإِثْبَاتُ لِعَيْنِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ تَحَقُّقَ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ وَالْوُجُودِ مِنْ قِبَلِهِ وَفِي النَّهْيِ لَوْ أَثْبَتَ الْقُبْحَ لِعَيْنِهِ انْعَدَمَ الْمَشْرُوعِيَّةُ وَالنَّهْيُ لِلِانْتِهَاءِ لَا لِلْإِعْدَامِ فَلَمْ نُثْبِتْهُ لِعَيْنِهِ لِيَبْقَى مَشْرُوعًا وَأَثْبَتْنَاهُ وَصْفًا لَهُ مَا أَمْكَنَ لِيَكُونَ حُرْمَةُ الْفِعْلِ لَازِمَةً أَبَدًا لِمَعْنَى رَاجِعٍ إلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِأَنَّ الْوَصْفَ مِنْهُ قَالَ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ فِي الْجَوَابِ عَمَّا ذَكَرْنَا إنَّ الْفِعْلَ الْمَشْرُوعَ وُجُودُهُ بِأَمْرَيْنِ بِفِعْلِ الْعَبْدِ وَبِإِطْلَاقِ الشَّرْعِ فَبِالنَّهْيِ انْتَهَى الطَّلَاقُ فَلَمْ يَبْقَ مَشْرُوعًا فَأَمَّا تَصَوُّرُ الْفِعْلِ مِنْ الْعَبْدِ فَعَلَى حَالِهِ فَيَصِحُّ النَّهْيُ بِنَاءً عَلَيْهِ بِبَيِّنَةِ أَنَّ الْعَبْدَ مَأْذُونٌ بِالصَّوْمِ مَأْمُورٌ بِهِ وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ إلَّا النِّيَّةُ وَالْإِمْسَاكُ فَأَمَّا اعْتِبَارُهُ وَصَيْرُورَتُهُ عِبَادَةً فَمُفَوَّضٌ إلَى الشَّرْعِ لَا إلَى الْعَبْدِ فَبِالنَّهْيِ خَرَجَ الْفِعْلُ عَنْ الِاعْتِبَارِ وَصَيْرُورَتُهُ صَوْمًا لِزَوَالِ إذْنِ الشَّرْعِ وَإِطْلَاقِهِ فَلَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ صَوْمًا نَظَرًا إلَى زَوَالِ إطْلَاقِ الشَّرْعِ وَكَانَ صَوْمًا نَظَرًا إلَى فِعْلِ الْعَبْدِ وَإِذَا بَقِيَ تَصَوُّرُ الْفِعْلِ مِنْ الْعَبْدِ صَحَّ النَّهْيُ وَتَحَقَّقَ وَلِهَذَا لَوْ ارْتَكَبَهُ كَانَ عَاصِيًا مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ لِارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَإِتْيَانِهِ بِمَا فِي وُسْعِهِ وَطَاقَتِهِ مِنْ فِعْلِ الصَّوْمِ إذْ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إلَّا هَذَا الْقَدْرُ الَّذِي وُجِدَ مِنْهُ. قَالَ وَهَذَا لِأَنَّ الصِّحَّةَ وَالْفَسَادَ مَعْنَيَانِ مُتَلَقَّيَانِ مِنْ الشَّرْعِ وَلَيْسَ إلَى الْعَبْدِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا إلَيْهِ إيقَاعُ الْفِعْلِ بِاخْتِيَارِهِ فَإِنْ وَقَعَ عَلَى وَفْقِ أَمْرِ الشَّرْعِ وَإِطْلَاقِهِ صَحَّ وَإِلَّا فَلَا قَالَ وَلِهَذَا أَبْطَلْنَا صَوْمَ اللَّيْلِ وَصَوْمَ الْحَائِضِ مَعَ تَحَقُّقِ الْإِمْسَاكِ حِسِّيًّا وَصُورَةً لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُوَافِقْ أَمْرَ الشَّرْعِ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ قُلْت وَحَاصِلُهُ يَئُولُ إلَى أَنَّ النَّهْيَ رَاجِعٌ إلَى الْفِعْلِ الْمُتَصَوَّرِ مِنْ الْعَبْدِ حِسًّا لَا شَرْعًا وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ بِدُونِ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ إيَّاهُ يُسَمَّى بِالِاسْمِ الشَّرْعِيِّ حَقِيقَةً فَإِنَّ الصَّوْمَ اسْمٌ لِفِعْلٍ مَعْلُومٍ مُعْتَبَرٍ فِي الشَّرْعِ فَبِدُونِ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ لَا يُسَمَّى صَوْمًا حَقِيقَةً أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمْسَاكَ فِي اللَّيْلِ لَا يُسَمَّى صَوْمًا وَإِنْ وُجِدَتْ النِّيَّةُ لِعَدَمِ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ إيَّاهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ صَرْفُ النَّهْيِ إلَيْهِ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً وَالنَّهْيُ وَرَدَ عَنْ مُطْلَقِ الصَّوْمِ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الصَّوْمَ إنَّمَا صَارَ صَوْمًا بِصُورَتِهِ

فَإِنْ قِيلَ هَذَا صَحِيحٌ فِي الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ لِأَنَّهَا لَا تَنْعَدِمُ بِصِفَةِ الْقُبْحِ فَأَمَّا الشَّرْعِيَّةُ فَتَنْعَدِمُ لِمَا قُلْنَا فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمَشْرُوعَاتِ تَحْتَمِلُ هَذَا الْوَصْفَ قِيلَ لَهُ قَدْ وَجَدْنَا الْمَشْرُوعَ يَحْتَمِلُ الْفَسَادَ بِالنَّهْيِ كَالْإِحْرَامِ الْفَاسِدِ وَالطَّلَاقِ الْحَرَامِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَمَعْنَاهُ وَكَذَا كَانَ الْبَيْعُ وَمَعْنَى الصَّوْمِ كَوْنُهُ صَوْمًا فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْنَى الْبَيْعِ كَوْنُهُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ الْمَعْنَى لَمْ يَبْقَ لِلصُّورَةِ عِبْرَةٌ فَلَا يُسَمَّى صَوْمًا وَبَيْعًا إلَّا مَجَازًا كَتَسْمِيَةِ صُورَةِ الْأَسَدِ أَسَدًا وَأَجَابَ الْغَزَالِيُّ أَيْضًا فِي الْمُسْتَصْفَى عَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْمَ يُصْرَفُ إلَى مَوْضُوعِهِ اللُّغَوِيِّ إلَّا مَا صَرَفَهُ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ فِي الشَّرْعِ وَقَدْ أَلْفَيْنَا عُرْفَ الشَّرْعِ فِي الْأَوَامِرِ أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ وَالْبَيْعُ لِمَعَانِيهَا الشَّرْعِيَّةِ أَمَّا فِي الْمَنْهِيَّاتِ فَلَمْ يَثْبُتْ هَذَا الْعُرْفُ الْمُغَيِّرُ لِلْوَضْعِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ إقْرَائِك وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] . وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْمَنَاهِي عَمَّا لَا يَنْعَقِدُ أَصْلًا فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ عُرْفُ اسْتِعْمَالِ الشَّرْعِ أَوْ تَعَارَضَ فِيهِ عُرْفُ الشَّرْعِ فَيَرْجِعُ إلَى أَصْلِ الْوَضْعِ وَنَقُولُ مَنْ صَامَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَدْ ارْتَكَبَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَنْعَقِد صَوْمُهُ وَحَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ أَيْضًا يَرْجِعُ إلَى أَنَّ النَّهْيَ مَصْرُوفٌ إلَى الصَّوْمِ اللُّغَوِيِّ وَهُوَ فَاسِدٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَوْ أَمْسَكَ حَمِيَّةً أَوْ لِعَدَمِ اشْتِهَاءٍ أَوْ عَدَمِ طَعَامٍ لَا يَكُونُ مُرْتَكِبًا لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِالِاتِّفَاقِ مَعَ تَحَقُّقِ الْإِمْسَاكِ اللُّغَوِيِّ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ إلَّا الصَّوْمَ الشَّرْعِيَّ وَلِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لَوْ كَانَ الصَّوْمَ اللُّغَوِيَّ فَلَا نَهْيَ إذًا عَنْ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ فَبَقِيَ ثَابِتًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْفِعْلُ عِنْدَ النَّهْيِ كَانَ مُتَصَوَّرًا فَكَفَى ذَلِكَ لِصِحَّةِ النَّهْيِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إبْقَائِهِ مَشْرُوعًا بَعْدَ ذَلِكَ وَالْجَوَابُ أَنَّ النَّهْيَ لِإِعْدَامِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْ قَبْلِ الْمَنْهِيِّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَالْأَمْرِ لِلْإِيجَادِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَصَوَّرًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِيَتَحَقَّقَ الِانْتِهَاءُ بِالنَّهْيِ كَمَا فِي الْأَمْرِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِبَقَائِهِ مَشْرُوعًا وَلَا يُقَالُ حَقِيقَةُ النَّهْيِ أَنْ يَكُونَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ قَبِيحًا فِي ذَاتِهِ وَمُتَصَوَّرًا فِي نَفْسِهِ فَكَمَا قُلْتُمْ إنَّ انْتِفَاءَ التَّصَوُّرِ شَرْعًا مَعَ بَقَاءِ التَّصَوُّرِ مِنْ الْعَبْدِ يَجْعَلُهُ مَجَازًا فَكَذَلِكَ انْتِفَاءُ الْقُبْحِ عَنْ ذَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَانْصِرَافُهُ إلَى وَصْفِهِ يَجْعَلُ النَّهْيَ فِيهِ مَجَازًا أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ مُوجِبُ النَّهْيُ وَهُوَ التَّحْرِيمُ نَظَرًا إلَى ذَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِي غَيْرِهِ. لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّهْيَ بِإِثْبَاتِ الْقُبْحِ فِي وَصْفِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ يَصِيرُ مَجَازًا بَلْ هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بَعْدُ يَبْقَى وَاجِبَ الِانْتِهَاءِ مَعَ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمْرَ إذَا وَرَدَ لِحُسْنٍ فِي غَيْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا يَصِيرُ مَجَازًا فِي الْمَأْمُورِ بِهِ كَالْأَمْرِ بِالْجِهَادِ وَالطَّهَارَةِ لَمْ يَصِرْ مَجَازًا بَلْ يَبْقَى عَلَى حَقِيقَتِهِ وَهُوَ الْإِيجَابُ فَكَذَا هَذَا وَلَا نُسَلِّمُ أَيْضًا أَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَثْبُتُ فِيمَا أُضِيفَ إلَيْهِ النَّهْيُ بَلْ يَثْبُتُ حَتَّى لَوْ أَقْدَمَ عَلَى بَيْعِ الرِّبَا مَثَلًا يَصِيرُ عَاصِيًا مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ حَرَامًا وَلَكِنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ حَرَامًا يَصْلُحُ سَبَبًا لِحُصُولِ الْمِلْكِ إذْ لَا تَنَاقُضَ فِي قَوْلِ الشَّارِحِ حَرَّمْت الْبَيْعَ وَجَعَلْته سَبَبًا لِحُصُولِ الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ لِأَنَّ شَرْطَ التَّحْرِيمِ التَّعَرُّضُ لِعِقَابِ الْآخِرَةِ فَقَطْ دُونَ تَخَلُّفِ الثَّمَرَاتِ وَالْأَحْكَامِ عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَصِيرُ مَجَازًا فَهُوَ أَوْلَى مِمَّا قَالُوا لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَجَازًا فِي الْإِسْنَادِ مَعَ بَقَاءِ النَّهْيِ فِي ذَاتِهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَا قَالُوا مَجَازًا فِي ذَاتِهِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ نَسْخًا وَهُوَ غَيْرُ النَّهْيِ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى. قَوْلُهُ (فَإِنْ قِيلَ هَذَا صَحِيحٌ) أَيْ الْجَمْعُ بَيْنَ الْعَمَلِ بِحَقِيقَةِ الْمَنْهِيِّ وَبَيْنَ الْفَسَادِ وَالْقُبْحِ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إنَّمَا يَصِحُّ فِي الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ لِأَنَّهَا لَا تَنْعَدِمُ وَتُوجَدُ بِصِفَةِ الْقُبْحِ وَالْفَسَادِ فَأَمَّا الْأَفْعَالُ الشَّرْعِيَّةُ فَتَنْعَدِمُ بِالْقُبْحِ لِمَا قُلْنَا مِنْ التَّنَافِي وَالتَّضَادِّ بَيْنَ الْمَشْرُوعِيَّةِ وَالْقُبْحِ فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ

وَالصَّلَاةِ الْحَرَامِ وَالصَّوْمِ الْمَحْظُورِ يَوْمَ الشَّكِّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَوَجَبَ إثْبَاتُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ رِعَايَةً لِمَنَازِلِ الْمَشْرُوعَاتِ وَمُحَافَظَةً لِحُدُودِهَا وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تُخَرَّجُ الْفُرُوعُ كُلُّهَا مِنْهَا أَنَّ الْبَيْعَ بِالْخَمْرِ مَنْهِيٌّ بِوَصْفِهِ وَهُوَ الثَّمَنُ لِأَنَّ الْخَمْرَ مَالٌ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ فَصَلَحَ ثَمَنًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَصَارَ فَاسِدًا لَا بَاطِلًا وَلَا خَلَلَ فِي رُكْنِ الْعَقْدِ وَلَا فِي مَحَلِّهِ فَصَارَ قَبِيحًا بِوَصْفِهِ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى خَمْرًا بِعَبْدٍ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنٌ لِصَاحِبِهِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ فِي الْخَمْرِ لِعَدَمِ مَحَلِّهِ وَانْعَقَدَ فِي الْعَبْدِ لِوُجُودِ مَحَلِّهِ وَفَسَدَ بِفَسَادِ ثَمَنِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْمَشْرُوعَاتِ يَحْتَمِلُ أَيْ يُقْبَلُ هَذَا الْوَصْفَ وَهُوَ الْفَسَادُ 1 - قَوْلُهُ (وَالصَّلَاةُ الْحَرَامُ) كَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ وَالْمَوَاطِنِ السَّبْعَةِ وَالصَّوْمِ الْمَحْظُورِ يَوْمَ الشَّكِّ الِاسْتِدْلَال بِهِ أَوْضَحُ لِأَنَّ المحظورية وَصْفُ الصَّوْمِ. وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ أَيْ الْمَذْكُورَ نَحْوُ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَالْحَلِفِ عَلَى فِعْلٍ مَحْظُورٍ مِثْلِ قَتْلِ زَيْدٍ وَسَبِّ الْأَبَوَيْنِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ إثْبَاتُهُ أَيْ إثْبَاتُ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَيْ صِفَةِ الْفَسَادِ رِعَايَةً لِمَنَازِلِ الْمَشْرُوعَاتِ وَهُوَ أَنْ يُنَزَّلَ الْأَصْلُ وَهُوَ الْمُقْتَضِي فِي مَنْزِلِهِ وَالتَّبَعُ وَهُوَ الْمُقْتَضَى فِي مَنْزِلِهِ وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يَجْعَلَ التَّبَعَ مُبْطِلًا لِلْأَصْلِ وَمُحَافَظَةً لِحُدُودِهَا وَهِيَ أَنْ يُجْعَلَ النَّهْيُ نَهْيًا وَالنَّسْخُ نَسْخًا لَا أَنْ يُجْعَلَ كِلَاهُمَا فِي الْمَشْرُوعَاتِ وَاحِدًا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ) وَهُوَ أَنَّ النَّهْيَ فِي الْمَشْرُوعَاتِ يَقْتَضِي بَقَاءَ مَشْرُوعِيَّتِهَا. قَوْلُهُ (مَنْهِيٌّ بِوَصْفِهِ) وَهُوَ الثَّمَنُ أَسْلَمَ أَنَّ الْبَيْعَ مَبْنَاهُ عَلَى الْبَدَلَيْنِ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ عَنْ تَرَاضٍ لَكِنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْمَبِيعُ دُونَ الثَّمَنِ وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمَبِيعِ وَلَا يُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ عَلَى الثَّمَنِ وَيَنْفَسِخُ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ دُونَ الثَّمَنِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِيَّتِهِ الْوُصُولُ إلَى مَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إلَيْهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْأَعْيَانِ فَإِنَّ مَنْ احْتَاجَ إلَى طَعَامٍ أَوْ ثَوْبٍ مَثَلًا وَلَيْسَ عِنْدَهُ ذَلِكَ لَا تَنْدَفِعُ حَاجَتُهُ إلَّا بِالظَّفَرِ عَلَى مَقْصُودِهِ فَشُرِعَ الْبَيْعُ وَسِيلَةً إلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ وَلَمَّا كَانَ الِانْتِفَاعُ يَتَحَقَّقُ بِالْأَعْيَانِ لَا بِالْأَثْمَانِ إذْ لَيْسَ فِي ذَوَاتِ الْأَثْمَانِ نَفْعٌ إلَّا مِنْ حَيْثُ الْوَسِيلَةُ إلَى الْمَقَاصِدِ كَانَتْ الْأَعْيَانُ أُصُولًا فِي الْبُيُوعِ وَكَانَتْ الْأَثْمَانُ أَتْبَاعًا لَهَا فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَوْصَافِ فَإِذَا بَاعَ عَبْدًا بِالْخَمْرِ كَانَ فَاسِدًا لِكَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِأَنَّ أَحَدَ الْبَدَلَيْنِ وَهُوَ الْخَمْرُ وَاجِبُ الِاجْتِنَابِ فَلَا يَجُوزُ تَسْلِيمُهُ وَتَسَلُّمُهُ إلَّا أَنَّهَا فِي ذَاتِهَا مَالٌ لِأَنَّ الْمَالَ مَا يَمِيلُ إلَيْهِ الطَّبْعُ وَيُمْكِنُ ادِّخَارُهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ كَذَا قِيلَ وَقِيلَ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي خُلِقَ لِمَصَالِحِ الْآدَمِيِّ وَيَجْرِي فِيهِ الشُّحُّ وَالضِّنَةُ وَهِيَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِمُتَقَوِّمَةٍ لِأَنَّ الْمُتَقَوِّمَ مَا هُوَ وَاجِبُ الْإِبْقَاءِ إمَّا بِعَيْنِهِ أَوْ بِمِثْلِهِ أَوْ بِقِيمَتِهِ كَمَا عُرِفَ فَصَلَحَتْ ثَمَنًا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَالٌ وَلَمْ يَصْلُحْ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا لَيْسَتْ بِمُتَقَوِّمَةٍ فَلَا يُمْنَعُ أَصْلُ الِانْعِقَادِ لِأَنَّ مَا هُوَ رُكْنُ الْعَقْدِ وَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ الصَّادِرُ مِنْ الْأَهْلِ صَادَفَ مَحَلَّهُ وَهُوَ الْمَبِيعُ مِنْ غَيْرِ خَلَلٍ فِي الرُّكْنِ وَلَا فِي الْمَحَلِّ وَإِنَّمَا الْخَلَلُ فِيمَا هُوَ جَارٍ مَجْرَى الْوَصْفِ وَهُوَ الثَّمَنُ فَصَارَ الْعَقْدُ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ قَبِيحًا بِوَصْفِهِ وَهُوَ الثَّمَنُ فَكَانَ فَاسِدًا لَا بَاطِلًا. وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَحَلَّ الْعَقْدِ الْمَالِيَّةُ فِي الْبَدَلَيْنِ وَبِتَخَمُّرِ الْعَصِيرِ لَا تَنْعَدِمُ الْمَالِيَّةُ وَإِنَّمَا يَنْعَدِمُ التَّقَوُّمُ شَرْعًا فَإِنَّ الْمَالِيَّةَ بِكَوْنِ الْعَيْنِ مُنْتَفَعًا بِهَا وَقَدْ أَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي الْخَمْرِ بِقَوْلِهِ {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] وَلِأَنَّهَا كَانَتْ مَالًا مُتَقَوِّمًا قَبْلَ التَّحْرِيمِ وَإِنَّمَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ حُرْمَةُ التَّنَاوُلِ وَنَجَاسَةُ الْعَيْنِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِمَا انْعِدَامُ الْمَالِيَّةِ كَالسِّرْقِينِ إلَّا أَنَّهُ فَسَدَ تَقَوُّمُهَا شَرْعًا ضَرُورَةَ وُجُوبِ الِاجْتِنَابِ عَنْهَا بِالنَّصِّ وَلِهَذَا بَقِيَتْ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَانْعَقَدَ الْعَقْدُ بِوُجُودِ رُكْنِهِ فِي مَحَلِّهِ بِصِفَةِ الْفَسَادِ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ خَمْرًا بِعَبْدٍ) أَيْ بَيْعُ الْخَمْرِ بِالْعَبْدِ كَبَيْعِ الْعَبْدِ بِالْخَمْرِ فِي انْعِقَادِ الْبَيْعِ بِصِفَةِ الْفَسَادِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لِأَنَّ دُخُولَ الْبَاءِ فِي أَحَدِ

بِخِلَافِ الْمَيِّتَةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ لَا بِمُتَقَوِّمَةٍ فَوَقَعَ الْبَيْعُ بِلَا ثَمَنٍ وَهُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَكَذَلِكَ جِلْدُ الْمَيِّتَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا مُتَقَوِّمٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْبَدَلَيْنِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ هُوَ الثَّمَنَ لِأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي الْأَتْبَاعِ وَالْوَسَائِلِ يُقَالُ كَتَبْت بِالْقَلَمِ وَالْأَثْمَانُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَقَدْ دَخَلَتْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْعَبْدِ فَيَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْخَمْرُ مَبِيعَةً فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ كَمَا إذَا بَاعَهَا بِالدَّرَاهِمِ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّ الْبَاءَ فِيهَا دَخَلَتْ فِي الْخَمْرِ فَبَقِيَ الْعَبْدُ مَبِيعًا فَقَالَ الشَّيْخُ هُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ هَذَا بَيْعُ مُقَايَضَةٍ أَيْ بَيْعُ عَرَضٍ بِعَرَضٍ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا لِصَاحِبِهِ بِخِلَافِ بَيْعِهَا بِالدَّرَاهِمِ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ تَعَيَّنَتْ لِلثَّمَنِيَّةِ فَبَقِيَتْ الْخَمْرُ مَبِيعَةً. وَفِي قَوْلِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنٌ لِصَاحِبِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَيَّنٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا يَصْلُحُ ثَمَنًا لِصَاحِبِهِ إذَا كَانَ الْآخَرُ عَيْنًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مُتَعَيَّنًا لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ إلَّا فِي عَقْدٍ خَاصٍّ فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ غَيْرَ عَيْنٍ لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا وَلَا مَبِيعًا لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فِي الْبُيُوعِ وَإِذَا كَانَتْ الْخَمْرُ غَيْرَ عَيْنٍ لَمْ تَصْلُحْ مَبِيعَةً فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنٌ لِصَاحِبِهِ لَا يَسْتَقِيمُ إلَّا أَنْ يَكُونَا مُتَعَيَّنَيْنِ وَلَكِنْ إذَا كَانَتْ الْخَمْرُ غَيْرَ عَيْنٍ يَجِبُ أَنْ يَنْعَقِدَ فِي الْعَبْدِ فَاسِدًا وَإِنْ أَدْخَلَ الْبَاءَ فِي الْعَبْدِ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لِكَوْنِهِ مَبِيعًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَمَا إذَا بَاعَ خَلًّا غَيْرَ مُعَيَّنٍ بِعَبْدٍ أَوْ دَرَاهِمَ بِثَوْبٍ صَحَّ وَتَعَيَّنَ الْعَبْدُ وَالثَّوْبُ لِلْمَبِيعَةِ ثُمَّ بَيَّنَ حُكْمَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَقَالَ فَلَمْ يَنْعَقِدْ أَيْ الْبَيْعُ فِي الصُّورَتَيْنِ فِي الْخَمْرِ لِعَدَمِ مَحَلِّهِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ الْمِلْكُ فِيهَا وَإِنْ اتَّصَلَ بِهَا الْقَبْضُ وَيَنْعَقِدُ فِي الْعَبْدِ لِوُجُودِ مَحَلِّهِ وَلَكِنْ بِصِفَةِ الْفَسَادِ لِفَسَادِ ثَمَنِهِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ فِي الصُّورَتَيْنِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ قَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْمَيْتَةِ) أَيْ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ فَإِنَّهُ إذَا بَاعَ الْعَبْدَ بِالْمَيْتَةِ أَوْ الْمَيْتَةَ بِالْعَبْدِ بَطَلَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ أَيْ الْمَذْكُورَ لَيْسَ بِمَالٍ فِي الْحَالِ وَلَا فِي الْمَالِ بِخِلَافِ الْخَمْرِ وَكَذَا لَا يُعَدُّ مَالًا فِي دَيْنٍ سَمَاوِيٍّ فَوَقَعَ الْعَقْدُ بِلَا ثَمَنٍ وَهُوَ بَاطِلٌ لِعَدَمِ رُكْنِهِ. وَكَذَا جِلْدُ الْمَيْتَةِ لَيْسَ بِمَالٍ فِي الْحَالِ وَلَا فِي الْمَالِ وَلِهَذَا لَوْ تُرِكَ كَذَلِكَ يَفْسُدُ وَإِنَّمَا تَحْصُلُ الْمَالِيَّةُ بِصُنْعٍ مُكْتَسَبٍ وَهُوَ الدِّبَاغُ وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْبَيْعِ وَلَوْ قَضَى قَاضٍ بِجَوَازِهِ لَا يَنْفُذُ فَلِانْعِدَامِ مَا هُوَ رُكْنُ الْعَقْدِ لَمْ يَنْعَقِدْ الْعَقْدُ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ (وَلَا مُتَقَوِّمٌ) بِدَلِيلِ أَنَّ إنْسَانًا لَوْ اسْتَهْلَكَهُ لَا يَضْمَنُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ جُزْءُ الْمَيْتَةِ وَيَحْصُلُ التَّأَلُّمُ بِقَطْعِهِ كَاللَّحْمِ بِخِلَافِ الشَّعْرِ وَالْمَيْتَةُ لَيْسَتْ بِمَالٍ وَلَا مُتَقَوِّمَةٍ فَكَذَا جُزْؤُهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَلَا مُتَقَوِّمٍ احْتِرَازًا عَنْ الْمَنَافِعِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِأَمْوَالٍ حَقِيقَةً وَلَكِنَّهَا يَتَقَوَّمُ فِي الْعُقُودِ قَالُوا الْمُرَادُ بِالْمَيْتَةِ هِيَ الَّتِي مَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا أَمَّا الْبَيْعُ بِالْمَيْتَةِ الَّتِي مَاتَتْ بِالْخَنْقِ وَالْجُرْحِ فِي غَيْرِ الْمَذْبَحِ فَفَاسِدٌ لَا بَاطِلٌ كَذَا رَأَيْت بِخَطِّ شَيْخِي قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي ذَبِيحَةِ الْمَجُوسِيِّ وَكُلُّ شَيْءٍ يَعْمَلُونَهُ وَهُوَ عِنْدَهُمْ ذَكَاةٌ كَالتَّخْنِيقِ وَالْوَقْذِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْبَيْعُ بَيْنَهُمْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَوْ اسْتَهْلَكَهَا مُسْلِمٌ ضَمِنَ الْقِيمَةَ وَلَيْسَ كَالْمَيْتَةِ حَتْفَ أَنْفِهَا وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ وَالْمَيْتَةُ حَتْفَ أَنْفِهَا سَوَاءٌ لِأَنَّ الذَّكَاةَ فِعْلٌ شَرْعِيٌّ وَالْفَاعِلُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ فَصَارَ هَذَا الذَّبْحُ فِي حَقِّهِ وَالْمَوْتُ حَتْفَ أَنْفِهِ سَوَاءٌ لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُمْ يَتَمَوَّلُونَهُ كَالْخُمُورِ وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِبِنَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى مَا يَدِينُونَ بِخِلَافِ الْمَيْتَةِ حَتْفَ أَنْفِهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ فِي حَقِّ أَحَدٍ وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي التَّجْنِيسِ مِنْ غَيْرِ

[صوم يوم العيد وأيام التشريق]

وَكَذَلِكَ بَيْعُ الرَّبَّا مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ وَهُوَ وُجُودُ رُكْنِهِ فِي مَحَلِّهِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ بِوَصْفِهِ وَهُوَ الْفَضْلُ فِي الْعِوَضِ فَصَارَ فَاسِدًا لَا بَاطِلًا وَكَذَلِكَ الشَّرْطُ الْفَاسِدُ فِي الْبَيْعِ مِثْلُ الرِّبَا وَلِهَذَا قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] إنَّ النَّهْيَ بِعَدَمِ الْوَصْفِ مِنْ شَهَادَتِهِ وَهُوَ الْأَدَاءُ وَيَبْقَى الْأَصْلُ فَيَصِيرُ فَاسِدًا. وَمِنْهَا صَوْمُ يَوْمِ الْعِيدِ ـــــــــــــــــــــــــــــQخِلَافٍ لِمُحَمَّدٍ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ بَيْعُ الرِّبَا) أَيْ مِثْلُ الْبَيْعِ بِالْخَمْرِ بَيْعُ الرِّبَا وَهُوَ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِمَالٍ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَضْلٌ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِوَصْفِهِ وَهُوَ الْفَضْلُ أَيْ بِالْفَضْلِ يَفُوتُ الْمُسَاوَاةُ الَّتِي هِيَ شَرْطُ الْجَوَازِ وَهُوَ تَبَعٌ كَالْوَصْفِ وَكَذَلِكَ الشَّرْطُ الْفَاسِدُ فِي الْبَيْعِ مِثْلُ الرِّبَا وَهُوَ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِيهِ نَفْعٌ أَوْ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ وَالرِّبَا قَدْ يَكُونُ اسْمًا لِلْعَقْدِ وَلِنَفْسِ الْفَضْلِ فَفِي قَوْلِهِ بَيْعُ الرِّبَا مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ الْمُرَادُ مِنْهُ الْعَقْدُ أَيَّ بَيْعٍ هُوَ رِبَا وَفِي قَوْلِهِ الشَّرْطُ الْفَاسِدُ مِثْلُ الرِّبَا الْمُرَادُ مِنْهُ نَفْسُ الْفَضْلِ أَيْ الشَّرْطُ الْفَاسِدُ فِي إفْسَادِ الْبَيْعِ وَعَدَمِ الْمَنْعِ مِنْ الِانْعِقَادِ مِثْلُ الدِّرْهَمِ الزَّائِدِ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ عَلَى مَا وَصَفْنَا فِي مَعْنَى الدِّرْهَمِ الزَّائِدِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فَضْلٌ اُسْتُحِقَّ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ فَأَخَذَ حُكْمَهُ ثُمَّ النَّهْيُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] . وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ وَلَا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ» الْحَدِيثُ وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ» وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَرَدَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْبَيْعِ وَهُوَ الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ وَالشَّرْطُ الْفَاسِدُ فَلَا يَنْعَدِمُ بِهِ أَصْلُ الْمَشْرُوعِ لِأَنَّهُ إيجَابٌ وَقَبُولٌ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ وَلَا يَخْتَلُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالدِّرْهَمِ الزَّائِدِ وَلَا بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ فَكَانَا أَمْرَيْنِ زَائِدَيْنِ عَلَى الْعَقْدِ فَكَانَا غَيْرَهُ لَكِنْ يَثْبُتُ بِهِ صِفَةُ الْفَسَادِ وَالْحُرْمَةِ وَمِلْكُ الْيَمِينِ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّ صَيْدَ الْحَرَمِ مَمْلُوكٌ لِلْمَالِكِ وَكَذَا الْخَمْرُ وَجِلْدُ الْمَيْتَةِ مَمْلُوكَانِ وَحَرُمَ الِانْتِفَاعُ بِهَا فَلَمَّا كَانَتْ الْحُرْمَةُ لَا تَنَافِي مِلْكَ الْيَمِينِ لَا تَنَافِي سَبَبَهُ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَفْسُدَ الْعَقْدُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّهْيَ رَاجِعٌ إلَى غَيْرِهِ إلَّا أَنَّ النَّهْيَ إنْ لَمْ يَتَّصِلْ بِأَصْلِ الْعَقْدِ اتَّصَلَ بِوَصْفِهِ لِأَنَّ الْفَضْلَ أَوْ الشَّرْطَ إذَا دَخَلَ فِيهِ صَارَ مِنْ حُقُوقِهِ وَكَوَصْفِهِ فَإِنَّهُ يُقَالُ بَيْعٌ رَابِحٌ لِمَكَانِ زِيَادَةِ مَا اشْتَرَى وَبَيْعٌ لَازِمٌ وَغَيْرُ لَازِمٍ لِمَكَانِ شَرْطِ الْخِيَارِ وَبَيْعٌ حَالٌّ وَنَسَاءٌ لِمَكَانِ الْأَجَلِ وَلَمَّا وَرَدَ النَّهْيُ لِمَعْنَى فِي صِفَتِهِ لَا أَصْلِهِ رُفِعَ وَصْفُ الْبَيْعِ لَا أَصْلُهُ وَوُصِفَ الْمَشْرُوعُ أَنَّهُ بَيْعٌ حَلَالٌ جَائِزٌ فَارْتَفَعَ الْوَصْفُ وَصَارَ حَرَامًا فَاسِدًا وَبَقِيَ الْأَصْلُ مُوجِبًا لِلْمُلْكِ (فَإِنْ قِيلَ) لَمَّا بَقِيَ أَصْلُهُ مُوجِبًا لِلْمِلْكِ فَلِمَاذَا تَوَقَّفَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ عَلَى الْقَبْضِ. (قُلْنَا) لِأَنَّ السَّبَبَ لَمَّا ضَعُفَ بِصِفَةِ الْفَسَادِ لَمْ يَنْهَضْ سَبَبًا لِلْمِلْكِ إلَّا بِأَنْ يَتَقَوَّى بِالْقَبْضِ كَالْهِبَةِ وَالتَّبَرُّعَاتِ فَانْعَدَمَ الْمِلْكُ قَبْلَ الْقَبْضِ لِقُصُورِ السَّبَبِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ وَلِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي بَقَاءَ الْمَشْرُوعِيَّةِ قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] إنَّ النَّهْيَ لِعَدَمِ الْوَصْفِ مِنْ شَهَادَتِهِ أَيْ شَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ وَهُوَ الْأَدَاءُ حَتَّى لَوْ شَهِدَ لَا يُقْبَلُ وَكَذَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَهْلِيَّةِ اللِّعَانِ أَيْضًا لِأَنَّ اللِّعَانَ أَدَاءٌ وَقَدْ فَسَدَ الْأَدَاءُ وَيَبْقَى الْأَصْلُ أَيْ أَصْلُ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ عَدَمَ الْقَبُولِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ إذَا كَانَتْ الشَّهَادَةُ مَوْجُودَةً شَرْعًا وَإِذَا بَقِيَ أَصْلُهَا انْعَقَدَ النِّكَاحُ بِهَا كَمَا يَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ الْأَعْمَى لِأَنَّ الِانْعِقَادَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وَصْفِ الْأَدَاءِ وَأَهْلِيَّتِهِ [صَوْمُ يَوْمِ الْعِيدِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ] قَوْلُهُ (مِنْهَا صَوْمُ يَوْمِ الْعِيدِ) الصَّوْمُ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ الْأَضْحَى وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ مَشْرُوعٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ثُمَّ إذَا صَحَّ نَذْرُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يُفْتَى بِأَنْ يُفْطِرَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ

وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ حَسَنٌ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَيَقْضِي فِي أَيَّامٍ أُخَرَ لِيَحْصُلَ لَهُ الْعِبَادَةُ عَلَى الْخُلُوصِ وَيَتَخَلَّصُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَلَوْ صَامَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ خَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ وَلَيْسَ إلَى الْعَبْدِ شَرْعُ مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ كَالصَّوْمِ لَيْلًا. وَبَيَانُهُ أَنَّ الشَّرْعَ عَيَّنَ هَذَا الزَّمَانَ لِلْأَكْلِ بِقَوْلِهِ «فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» عَرَّفَهَا بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَلَنْ يَحْصُلَ التَّعْرِيفُ إلَّا بِوُجُودٍ خَاصٍّ مِنْ الْفِعْلِ فِيهَا أَوْ وُجُوبِهِ، وَوُجُودُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأَيَّامِ فَلَا يَحْصُلُ بِهِ التَّعْرِيفُ وَإِنَّمَا الْخَاصُّ فِيهَا وُجُوبُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَكَانَ ذَلِكَ جَعْلًا مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ لَهَا مَحَالَّ وُجُوبِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَيَنْدَفِعُ الْوُجُوبُ بِجَوَازِ الضِّدِّ فَدَلَّ أَنَّ الصَّوْمَ فِيهَا مُمْتَنِعُ الْوُجُودِ شَرْعًا كَمَا فِي اللَّيْلِ وَأَيَّامِ الْحَيْضِ وَلِهَذَا قَالَا لَا يَجُوزُ الظُّهْرُ مِنْ الْحُرِّ الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ الْوَقْتَ تَعَيَّنَ لِلْجُمُعَةِ فِي حَقِّهِ حَتْمًا فَلَمْ يَبْقَ الظُّهْرُ ضَرُورَةً لِأَنَّهُمَا لَمْ يُشْرَعَا مَجْمُوعَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّوْمَ اسْمٌ لِمَا هُوَ قُرْبَةٌ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ يَكُونُ مَعْصِيَةً فَلَا يَكُونُ صَوْمًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَدَاءُ شَيْءٍ مِنْ الْوَاجِبَاتِ بِهِ وَلَوْ بَقِيَ مَشْرُوعًا بَعْدَ النَّهْيِ لَصَحَّ كَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِمْ إنَّمَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الذِّمَّةِ كَامِلٌ وَهَذَا صَوْمٌ نَاقِصٌ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْكَامِلُ لِأَنَّ النُّقْصَانَ لَا يَمْنَعُ قَضَاءَ الْوَاجِبِ كَمَا إذَا تَرَكَ الْفَاتِحَةَ أَوْ السُّورَةَ أَوْ التَّعْدِيلَ فِي قَضَاءِ الْفَائِتَةِ يُمْكِنُ فِيهِ النُّقْصَانُ حَتَّى وَجَبَ جَبْرُهُ بِالسُّجُودِ وَلَمْ يُمْنَعْ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ فَعَرَفْنَا أَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ لِصَيْرُورَتِهِ مَعْصِيَةً وَعَدَمِ بَقَاءِ مَشْرُوعِيَّتِهِ وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ النَّذْرُ بِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ» . وَلَنَا مَا مَرَّ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمَشْرُوعِ يَقْتَضِي بَقَاءَ مَشْرُوعِيَّتِهِ إلَى آخِرِهِ وَمَا ذُكِرَ هَهُنَا أَنَّ الصَّوْمَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ حَسَنٌ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ وَهُوَ فِي التَّحْقِيقِ رَاجِعٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الشَّرَائِعَ كُلَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحِكْمَةِ عَلَى مَا عُرِفَ تَفَاصِيلُهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةُ فِي الصَّوْمِ حُصُولُ التَّقْوَى لِمُبَاشَرَةٍ إذْ لَا مَشْرُوعَ أَدَلُّ عَلَى التَّقْوَى مِنْهُ فَإِنَّ مَنْ أَدَّى هَذِهِ الْأَمَانَةَ كَانَ أَشَدَّ أَدَاءً لِغَيْرِهَا مِنْ الْأَمَانَاتِ وَأَكْثَرَ اتِّقَاءً لِمَا يُخَافُ حُلُولُهُ مِنْ النِّقْمَةِ بِمُبَاشَرَةِ شَيْءٍ مِنْ الْقَاذُورَاتِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184] وَفِيهِ أَيْضًا مَعْرِفَةُ قَدْرِ النِّعَمِ، وَمَعْرِفَةُ مَا عَلَيْهِ الْفُقَرَاءُ مِنْ تَحَمُّلِ مَرَارَةِ الْجُوعِ فَيَكُونُ حَامِلًا لَهُ عَلَى الْمُوَاسَاةِ إلَيْهِمْ وَفِيهِ أَيْضًا انْطِفَاءُ حَرَارَةِ الشَّهْوَةِ الْخَدَّاعَةِ الْمُنْسِيَةِ لِلْعَوَاقِبِ، وَرَدُّ جِمَاحِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، وَانْقِيَادُهَا لِطَاعَةِ مَوْلَاهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانٍ لَا تُحْصَى كَثْرَةً ثُمَّ لَا بُدَّ لِهَذِهِ الْعِبَادَةِ مِنْ تَعْيِينِ وَقْتٍ لِأَنَّ صَوْمَ الْوِصَالِ مُتَعَذِّرٌ وَالْوَقْتُ عَلَى قِسْمَيْنِ النُّهُرُ وَاللَّيَالِي، وَاللَّيَالِي أُعِدَّتْ لِلسُّكُونِ وَالرَّاحَةِ وَضْعًا وَالنُّهُرُ أُعِدَّتْ لِلتَّصَرُّفِ وَالتَّقَلُّبِ لِلِاكْتِسَابِ وَابْتِغَاءِ الرِّزْقِ وَذَلِكَ مُؤَدٍّ إلَى الْجُوعِ وَالْعَطَشِ حَامِلٌ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لِمَا فِي الْحَرَكَةِ مِنْ التَّحْلِيلِ فَتَعَيَّنَتْ النُّهُرُ لِلصَّوْمِ لِيَكُونَ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ وَلِيَتَحَقَّقَ الْحِكَمُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ثُمَّ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي مُسَاوَاةٌ بَيْنَ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَسَائِرِ الْأَيَّامِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَكَانَ الشَّرْعُ الْوَارِدُ فِي جَعْلِ سَائِرِ الْأَيَّامِ مَحَلًّا لِهَذِهِ الْعِبَادَةِ وَارِدًا بِجَعْلِ هَذِهِ الْأَيَّامِ مَحَلًّا لَهَا أَيْضًا لِلْمُسَاوَاةِ وَتَحَقُّقِ الْحِكَمِ فِيهَا حَسَبَ تَحَقُّقِهَا فِي تِلْكَ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ حَسَنٌ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ، وَاَلَّذِي يَدُلُّ

وَهُوَ الْإِمْسَاكُ لِلَّهِ تَعَالَى فِي وَقْتِهِ طَاعَةً وَقُرْبَةً قَبِيحٌ بِوَصْفِهِ وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ الضِّيَافَةِ الْمَوْضُوعَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ بِالصَّوْمِ فَلَمْ تَنْقَلِبْ الطَّاعَةُ مَعْصِيَةً بَلْ هُوَ طَاعَةٌ انْضَمَّ إلَيْهَا وَصْفٌ هُوَ مَعْصِيَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّوْمَ يَقُومُ بِالْوَقْتِ وَلَا فَسَادَ فِيهِ وَالنَّهْيُ يَتَعَلَّقُ بِوَصْفِهِ وَهُوَ أَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ فَصَارَ فَاسِدًا وَمَعْنَى الْفَاسِدِ مَا هُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِوَصْفِهِ مِثْلُ الْفَاسِدِ مِنْ الْجَوَاهِرِ وَبَيَانُهُ عَلَى وَجْهٍ يُعْقَلُ أَنَّ النَّاسَ أَضْيَافُ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ الْعِيدِ وَالْمُتَنَاوَلُ مِنْ جِنْسِ الشَّهَوَاتِ بِأَصْلِهِ طَيِّبٌ بِوَصْفِهِ فَصَارَ تَرْكُهُ طَاعَةً بِأَصْلِهِ مَعْصِيَةً بِوَصْفِهِ عَلَى مِثَالِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى بَقَاءِ الْمَشْرُوعِيَّةِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ لِلْمُتَمَتِّعِ أَنْ يَصُومَ صَوْمَ الْمُتْعَةِ فِيهَا فِي أَظْهَرِ أَقْوَالِهِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ (وَهُوَ الْإِمْسَاكُ) أَيْ أَصْلُ الصَّوْمِ الْإِمْسَاكُ لِلَّهِ تَعَالَى (فِي وَقْتِهِ) عَلَى سَبِيلِ الطَّاعَةِ وَالْقُرْبَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ طَاعَةً لِتَنَاوُلِ الْفَرْضِ مِنْهُ لِأَنَّ الطَّاعَةَ اسْمٌ لِفِعْلٍ عُمِلَ بِأَمْرٍ آخَرَ إذَا قَصَدَ الْفَاعِلُ جَعْلَهُ لِلْأَمْرِ فَإِنَّ الْفِعْلَ وَإِنْ وُجِدَ لَا يَسْتَحِقُّ اسْمَ الطَّاعَةِ مَا لَمْ يُوجَدْ هُنَاكَ أَمْرٌ كَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ قُرْبَةً لِتَنَاوُلِ النَّفْلِ لِأَنَّهَا اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَصَارَ التَّقْدِيرُ أَصْلُ الصَّوْمِ الْإِمْسَاكُ لِلَّهِ تَعَالَى طَاعَةً إنْ وُجِدَ الْأَمْرُ كَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَقُرْبَةً إنْ لَمْ يُوجَدْ كَصَوْمِ أَيَّامِ الْبِيضِ وَغَيْرِهَا وَهَهُنَا إنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْإِمْسَاكُ عَلَى سَبِيلِ الطَّاعَةِ فَقَدْ يَتَحَقَّقُ عَلَى سَبِيلِ الْقُرْبَةِ فَكَانَ مَشْرُوعًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَرَادُفًا وَهُوَ الْأَظْهَرُ ثُمَّ لَمَّا عُرِفَ بِدَلَالَةِ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَشْرُوعِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِذَاتِهِ كَانَ النَّهْيُ لِغَيْرِهِ لَا مَحَالَةَ لَكِنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ قَامَ بِهِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَصَارَ كَالْوَصْفِ لَهُ بِحَيْثُ لَا تَصَوُّرَ لِوُجُودِ ذَلِكَ الْغَيْرِ إلَّا بِالصَّوْمِ فَصَارَ قَبِيحًا بِوَصْفِهِ ثُمَّ ذَلِكَ الْغَيْرُ تَرْكُ الْإِجَابَةِ وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الضِّيَافَةِ الْمَوْضُوعَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ بِالصَّوْمِ وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِالصَّوْمِ لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى الْمُغَايِرَةِ تَصَوُّرُ الصَّوْمِ بِدُونِ الْإِعْرَاضِ وَكَفَى لِثُبُوتِ الْمُغَايِرَةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ تَصَوُّرُ وُجُودِ أَحَدِهِمَا بِدُونِ صَاحِبِهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ بَلْ هُوَ طَاعَةٌ أَيْ الصَّوْمُ فِي هَذَا الْوَقْتِ طَاعَةٌ انْضَمَّ إلَيْهِ وَصْفٌ هُوَ مَعْصِيَةٌ. وَقَوْلُهُ فَلَمْ يَنْقَلِبْ الطَّاعَةُ مَعْصِيَةً مَعْنَاهُ أَنَّ بِحُدُوثِ هَذَا الْوَصْفِ أَوْ بِوُرُودِ النَّهْيِ لَمْ يَنْقَلِبْ الصَّوْمُ الَّذِي هُوَ طَاعَةٌ مَعْصِيَةً بَلْ هُوَ طَاعَةٌ انْضَمَّ إلَيْهِ وَصْفٌ هُوَ مَعْصِيَةٌ وَهُوَ الْإِعْرَاضُ ثُمَّ اسْتَوْضَحَ مَا ذَكَرَ بِقَوْلِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّوْمَ يَقُومُ بِالْوَقْتِ أَيْ يُوجَدُ بِهِ لِأَنَّهُ مِعْيَارٌ وَلَا يُتَصَوَّرُ الصَّوْمُ بِدُونِهِ وَلَا فَسَادَ فِيهِ أَيْ فِي نَفْسِ الْوَقْتِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ النَّهْيُ بِالصَّوْمِ بِاعْتِبَارِ نَفْسِ الْوَقْتِ أَيْضًا. وَالنَّهْيُ يَتَعَلَّقُ بِوَصْفِهِ أَيْ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّوْمِ بِاعْتِبَارِ وَصْفِ الْوَقْتِ وَهُوَ أَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ، وَالْمُتَّصِلُ بِالْوَقْتِ كَالْمُتَّصِلِ بِالصَّوْمِ لِأَنَّهُ يَقُومُ بِهِ فَأَوْجَبَ فَسَادَ الصَّوْمِ وَبَقِيَ أَصْلُ الصَّوْمِ مَشْرُوعًا. قَوْلُهُ (مِثْلُ الْفَاسِدِ مِنْ الْجَوَاهِرِ) الْجَوْهَرُ مُعَرَّبُ " كوهر " وَالْمُرَادُ مِنْهُ هَهُنَا مَا هُوَ الْمَفْهُومُ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ يُقَالُ لُؤْلُؤَةٌ فَاسِدَةٌ إذَا بَقِيَ أَصْلُهَا وَذَهَبَ لَمَعَانُهَا وَبَيَاضُهَا وَاصْفَرَّتْ وَكَذَا يُقَالُ لَحْمٌ فَاسِدٌ إذَا بَقِيَ أَصْلُهُ وَلَمْ يَبْقَ مُنْتَفَعًا بِهِ فَكَذَا الْمُرَادُ مِنْ الْفَاسِدِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِوَصْفِهِ. قَوْلُهُ (وَبَيَانُهُ) أَيْ بَيَانُ كَوْنِ الصَّوْمِ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ بِوَصْفِهِ (عَلَى وَجْهٍ يُعْقَلُ) أَيْ عَلَى طَرِيقٍ يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ يَعْنِي عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ أَنَّ النَّاسَ أَضْيَافُ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ الْعِيدِ بِلُحُومِ الْقَرَابِينِ وَتَوْسِعَةِ النَّعَمِ (وَالْمُتَنَاوَلُ مِنْ جِنْسِ الشَّهَوَاتِ بِأَصْلِهِ) لِأَنَّهُ مِمَّا تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ وَتَرْغَبُ فِيهِ (طَيِّبٌ بِوَصْفِهِ) لِكَوْنِهِ ضِيَافَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا وَصَفَهُ بِالطَّيِّبِ لِاسْتِوَاءِ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَالْهَاشِمِيِّ فِيهِ بِخِلَافِ الصَّدَقَةِ (فَكَانَ تَرْكُهُ) أَيْ تَرْكُ الْمُتَنَاوِلِ (طَاعَةً بِأَصْلِهِ) أَيْ بِالنَّظَرِ إلَى أَصْلِ الْمُتَنَاوِلِ فَإِنَّهُ كَفَّ النَّفْسَ عَمَّا تَشْتَهِيهِ وَهُوَ طَاعَةٌ بِوَصْفِهِ أَيْ هَذَا التَّرْكُ مَعْصِيَةٌ بِالنَّظَرِ إلَى وَصْفِ الْمُتَنَاوِلِ لِأَنَّهُ تَرْكُ ضِيَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مَعْصِيَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQالضَّمِيرُ فِي أَصْلِهِ وَوَصْفِهِ رَاجِعًا إلَى التَّرْكِ أَيْ تَرْكِ الْمُتَنَاوِلِ أَصْلُهُ طَاعَةٌ وَوَصْفُهُ مَعْصِيَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا وَحَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الصَّوْمِ وَهُوَ تَرْكُ الْإِجَابَةِ وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الضِّيَافَةِ لَكِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالصَّوْمِ وَصْفًا فَفَسَدَ الصَّوْمُ بِهِ وَهَذَا هُوَ طَرِيقَةُ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ وَالشَّيْخَيْنِ وَعَامَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَاعْتَرَضَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فَقَالَ النَّهْيُ وَرَدَ عَنْ عَيْنِ الصَّوْمِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا تَصُومُوا فَصَرْفُهُ إلَى غَيْرِهِ عُدُولٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ النَّهْيُ وَرَدَ لِمَعْنَى تَرْكِ الْإِجَابَةِ فَفِيهِ اعْتِرَاضَاتٌ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ غَيْرُ الصَّوْمِ بَلْ هُوَ عَيْنُ الصَّوْمِ وَذَلِكَ لِأَنَّ فِعْلَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ هُوَ بِعَيْنِهِ تَرْكٌ لِصَاحِبِهِ إنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ كَالْحَرَكَةِ مَعَ السُّكُونِ فَإِنَّ التَّحَرُّكَ هُوَ تَرْكُ السُّكُونِ وَالسُّكُونَ تَرْكُ التَّحَرُّكِ بِعَيْنِهِ لَيْسَ وَرَاءَ هَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ فِعْلٌ آخَرُ يَكُونُ تَرْكًا لِأَنَّ التَّحَرُّكَ مُنَافٍ لِلسُّكُونِ وَكَذَا عَلَى الْعَكْسِ فَوَقَعَتْ الْغُنْيَةُ عَنْ إثْبَاتِ فِعْلٍ آخَرَ لَمْ يَقْصِدْ الْفَاعِلُ فِعْلَهُ وَلَا خَطَرَ بِبَالِهِ مُبَاشَرَتُهُ وَلَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ بِالْمُشَاهَدَةِ لِنَفْيِ هَذَا الضِّدِّ وَلَوْ جَازَ إثْبَاتُ فِعْلٍ آخَرَ مَعَ أَنَّ هَذَا الْمَوْجُودَ كَافٍ لَنَفْي ضِدِّهِ لَأَمْكَنَ إثْبَاتُ مَا لَا يَتَنَاهَى مِنْ الْأَفْعَالِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ أَخْذُ الْفِعْلِ تَرْكًا فَإِنَّهُ لَيْسَ بِتَرْكٍ لِمَا هُوَ آخِذٌ لَهُ وَإِنَّمَا يَسْتَحِيلُ أَنْ لَوْ كَانَ آخِذًا لِمَا هُوَ تَارِكٌ لَهُ وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ لَهُ أَضْدَادٌ كَثِيرَةٌ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا تَرْكٌ لِجَمِيعِ أَضْدَادِهِ فَالْقِيَامُ تَرْكُ الْقُعُودِ وَالِاتِّكَاءِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالِاضْطِجَاعِ، وَالْإِسْلَامُ تَرْكٌ لِلْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ وَجَمِيعِ الْأَدْيَانِ ثُمَّ الصَّوْمُ ضِدٌّ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَلِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَكَانَ بِنَفْسِهِ تَرْكًا لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ لِلصَّوْمِ غَيْرٌ هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فَكَانَ النَّهْيُ عَنْ تَرْكِ الْإِجَابَةِ نَهْيًا عَنْ عَيْنِ الصَّوْمِ. وَقَوْلُهُمْ لَا بَلْ هُوَ غَيْرُهُ لِتَصَوُّرِ الصَّوْمِ بِدُونِ التَّرْكِ وَهَذَا هُوَ حَدُّ الْمُغَايَرَةِ وَهُوَ غَيْرُ سَدِيدٍ وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ شَرْطِ الْمُغَايَرَةِ لِيَتَّضِحَ عَوَارُ هَذَا الْكَلَامِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ يُطْلَبُ مِنْ حَيْثُ الذَّاتِ دُونَ الْجِنْسِ فَإِنْ تُصُوِّرَ وُجُودُ أَحَدِهِمَا مَعَ عَدَمِ صَاحِبِهِ مِنْ حَيْثُ الذَّاتِ فَهُمَا مُتَغَايِرَانِ وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ الِانْفِكَاكُ بَيْنَ جِنْسِهِمَا كَجَوْهَرٍ مُعَيَّنٍ مَعَ أَعْرَاضِهِ الْمُعَيَّنَةِ مُتَغَايِرَانِ لِجَوَازِ وُجُودِهِمَا مَعَ عَدَمِ صَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ الِانْفِكَاكُ بَيْنَ جِنْسِ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ مُسْتَحِيلًا لِاسْتِحَالَةِ تَعَرِّي الْجَوَاهِرِ عَنْ الْأَعْرَاضِ وَاسْتِحَالَةِ قِيَامِ الْأَعْرَاضِ بِأَنْفُسِهَا دُونَ جَوْهَرٍ وَعَلَى الْقَلْبِ مِنْ هَذَا الْعَرَضِيَّةُ مَعَ الْوُجُودِ فِي عَرَضٍ مُعَيَّنٍ لَيْسَا بِمُتَغَايِرِينَ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَلَا يُتَصَوَّرُ عَدَمُ مَعْنَى الْعَرَضِيَّةِ مَعَ ثُبُوتِ الْوُجُودِ وَلَا عَدَمُ الْوُجُودِ مَعَ تَقَرُّرِ الْعَرَضِيَّةِ فَكَانَ الْعَرَضُ شَيْئًا وَاحِدًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ اجْتَمَعَ فِيهِ مَعْنَيَانِ مُتَغَايِرَانِ وَإِنْ كَانَ يُتَصَوَّرُ انْفِكَاكُ مَعْنَى الْوُجُودِ فِي الْجُمْلَةِ عَنْ مَعْنَى الْعَرَضِيَّةِ فَإِنَّ الْجَوَاهِرَ مَوْجُودَةٌ وَلَيْسَتْ بِأَعْرَاضٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى مَوْجُودٌ وَلَيْسَ بِعَرَضٍ وَكَذَا الْجَوْهَرِيَّةُ مَعَ الْوُجُودِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَكَذَا اللَّهُ تَعَالَى مَوْجُودٌ وَهُوَ قَائِمٌ بِذَاتِهِ وَهُوَ مُتَّحِدُ الذَّاتِ وَإِنْ كَانَ الْوُجُودُ فِي الْجُمْلَةِ قَدْ يَنْفَكُّ عَنْ الْقِيَامِ بِالذَّاتِ. ثُمَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَإِنَّ تَرْكَ الْإِجَابَةِ وَتَرْكَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْمُعَيَّنِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَإِنْ كَانَ فِي الْجُمْلَةِ يُتَصَوَّرُ انْفِكَاكُهَا عَنْ الْآخَرِ، فَمَنْ اعْتَبَرَ الْعَيْنَ فِي هَذَا الْبَابِ بِالْجِنْسِ وَجَعَلَ جَوَازَ الِانْفِكَاكِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي الْجُمْلَةِ دَلِيلًا عَلَى ثُبُوتِ الْمُغَايَرَةِ فِي الْمُعَيَّنِ وَإِنْ كَانَ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْمُغَايِرَةُ فَهُوَ الْقَائِلُ بِكَوْنِ الْعَرَضِ الْمَوْجُودِ شَيْئَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ وَكَوْنِ الْجَوْهَرِ الْمَوْجُودِ شَيْئَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ وَكَوْنِ الْبَارِي الْمَوْجُودِ الْقَائِمِ بِالذَّاتِ مُتَغَايِرَيْنِ، وَخُرُوجُ هَذَا عَنْ قَضِيَّةِ الْعُقُولِ وَدَلَائِلِ الْحَقِّ وَدُخُولُهُ فِي حَيِّزِ الْمُمْتَنِعِ الْمُحَالِ مِمَّا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ ثُمَّ قَالَ وَاَلَّذِي أَظُنُّ فِيهِ الشِّفَاءَ لَنْ يُتَوَصَّلَ إلَيْهِ إلَّا بِمَعْرِفَةِ مُقَدِّمَاتٍ مِنْهَا أَنَّ التَّرْكَ ضِدٌّ لِلْمَتْرُوكِ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ ثَوَابٌ وَعِقَابٌ فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ بَاشَرَ ضِدًّا لَهَا يُعَاقَبُ عَلَى مُبَاشَرَةِ ذَلِكَ الضِّدِّ الْمَنْهِيِّ لَا لِانْعِدَامِ الصَّلَاةِ مِنْ قِبَلِهِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُعَاقَبُ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ مَنْهِيٍّ بَاشَرَهُ وَمَأْثَمٍ ارْتَكَبَهُ وَمِنْهَا مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْفِعْلَ إذَا كَانَ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَرْكًا لِلْآخَرِ إلَى آخِرِ مَا بَيَّنَّا وَمِنْهَا أَنَّ مَا كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ وَهُوَ بِنَفْسِهِ تَرْكٌ لِلْأَضْدَادِ كُلِّهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ وَصْفُهُ فِي الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ إلَى الْمَتْرُوكِ كَمَنْ أُمِرَ بِالتَّحَرُّكِ إلَى الْيَمِينِ وَنُهِيَ عَنْ التَّحَرُّكِ إلَى الْيَسَارِ فَتَحَرَّكَ أَمَامَهُ كَانَ هَذَا التَّحَرُّكُ تَرْكًا لِلتَّحَرُّكِ إلَى الْيَمِينِ الَّذِي هُوَ وَاجِبٌ وَتَرْكٌ الْوَاجِبِ حَرَامٌ، وَتَرْكًا لِلتَّحَرُّكِ إلَى الْيَسَارِ الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ وَتَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَاجِبٌ وَهَذَا التَّرْكُ فِعْلٌ وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ وُصِفَ بِالْوُجُوبِ بِالنِّسْبَةِ إلَى ضِدٍّ وَبِالْحُرْمَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى ضِدٍّ آخَرَ. وَمِنْهَا أَنَّ مَا كَانَ مُتَّحِدًا حَقِيقَةً يَلْحَقُ فِي الْحُكْمِ بِالْمُتَعَدِّدِ لِعَارِضٍ أَوْجَبَ ذَلِكَ مِنْ مُصَادَفَتِهِ الْمَحَالَّ الْمُتَعَدِّدَةَ أَوْ تَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ الْمُخْتَلِفَةِ بِهِ فَإِنَّ الرَّامِيَ إلَى إنْسَانٍ عَامِدًا لَوْ أَصَابَ السَّهْمُ الْمَقْصُودَ إلَيْهِ وَنَفَذَهُ وَأَصَابَ آخَرَ لَمْ يَقْصِدْهُ أُخِذَ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ بِأَحْكَامِ الْعَمْدِ وَفِي حَقِّ الثَّانِي بِأَحْكَامِ الْخَطَإِ وَالْفِعْلُ فِي نَفْسِهِ وَاحِدٌ وَجُعِلَ مُتَعَدِّدًا لِتَعَدُّدِ مَحَالِّ أَثَرِهِ وَاخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ وَمِنْهَا أَنَّ الْعَارِضَ مَعَ الْأَصْلِ إذَا اجْتَمَعَا وَأَمْكَنَ اعْتِبَارُهُمَا وَجَبَ الِاعْتِبَارُ وَيُجْعَلُ الْأَصْلُ مَتْبُوعًا وَالْعَارِضُ تَابِعًا لِاسْتِحَالَةِ الْقَلْبِ وَتَعَذُّرِ التَّسْوِيَةِ وَبَعْدَ الْوُقُوفِ عَلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ نَخُوضُ فِي إيضَاحِ مَا رُمْنَا إيضَاحَهُ فَيَقُولُ الصَّوْمُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ تَرْكٌ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَلِإِجَابَةِ دَعْوَةِ اللَّهِ تَعَالَى عِبَادَهُ بِالْقَرَابِينِ الَّتِي هِيَ خَالِصُ أَمْوَالِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهَا أَمْوَالٌ خَالِصَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى جُعِلَتْ مَحَالًّا لِإِقَامَةِ التَّقَرُّبِ إلَيَّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِإِرَاقَةِ دِمَاءِ الْأَنْعَامِ قَدْ شَرَّفَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُمَّتَهُ بِهَذِهِ الضِّيَافَةِ فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ إجَابَةُ دَعْوَتِهِ وَالْمُسَارَعَةُ إلَى قَبُولِ إكْرَامِهِ، فَكَانَ الصَّوْمُ تَرْكًا لِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ غَيْرَ أَنَّهُ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ كَانَ عِبَادَةً مَأْذُونًا فِيهَا لِمَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ الَّتِي بَيَّنَّا وَبِالْإِضَافَةِ إلَى إجَابَةِ الدَّعْوَةِ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ فِي حَقِّهَا تَرْكٌ لِلْوَاجِبِ فَيَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَهُوَ فِي ذَاتِهِ مُتَّحِدٌ وَهَذِهِ الْأَضْدَادُ مُتَعَدِّدَةٌ بِلَا شَكٍّ فَإِنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ غَيْرُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لِتَصَوُّرِ وُجُودِهَا بِدُونِ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ، وَتَغَايُرُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ فِي أَنْفُسِهَا مِمَّا لَا يُشْكِلُ فَكَانَ الصَّوْمُ الَّذِي هُوَ مُتَّحِدٌ فِي نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ إلَى الْأَضْدَادِ الْمُتَعَدِّدَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَعَدِّدِ وَهُوَ بِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ إلَى إجَابَةِ الدَّعْوَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَبِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ إلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ عِبَادَةٌ مُسْتَحْسَنَةٌ فَكَانَ النَّهْيُ بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ رَاجِعًا إلَى الذَّاتِ وَبِاعْتِبَارِ الْحُكْمِ رَاجِعًا إلَى غَيْرِ مَا هُوَ صَوْمٌ مُسْتَحْسَنٌ عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرْت مِنْ الْمِثَالِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ. ثُمَّ إجَابَةُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQالدَّعْوَةِ لَيْسَتْ بِضِدٍّ أَصْلِيٍّ لِلصَّوْمِ فَإِنَّ الصَّوْمَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَيَّامِ لَيْسَ بِتَرْكٍ لِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ وَهُوَ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ تَرْكٌ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ لِكَوْنِهَا أَضْدَادًا لَهُ أَصْلِيَّةً فَكَانَ الصَّوْمُ بِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ إلَى هَذِهِ الْأَضْدَادِ بِمَنْزِلَةِ الْأَصْلِ وَبِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ إلَى إجَابَةِ الدَّعْوَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّابِعِ، فَتَرْكُ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ فِي الصَّوْمِ جُعِلَ كَأَنَّهُ وَصْفٌ لَهُ وَتَرْكُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ جُعِلَ كَأَنَّهُ مَوْصُوفٌ مَتْبُوعٌ فَبَقِيَ الصَّوْمُ مَشْرُوعًا وَبَقِيَ فِيهِ نَوْعُ خَلَلٍ فَأَمْكَنَ إيجَابُهُ بِالْقَوْلِ، لِأَنَّ بِالْقَوْلِ يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمَشْرُوعِ مِنْهُ وَبَيْنَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ فِي الْكِتَابِ إنَّمَا وَصْفُ الْمَعْصِيَةِ مُتَّصِلٌ بِذَاتِهِ فِعْلًا لَا بِاسْمِهِ ذَكَرًا وَلَوْ صَامَ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ لَا يَجُوزُ لِحُصُولِهِ مُخْتَلًّا فِي نَفْسِهِ لِاسْتِحَالَةِ التَّمْيِيزِ فِي الْفِعْلِ بَيْنَ تَرْكِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَبَيْنَ تَرْكِ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ وَهَذَا كَمَا جَوَّزَ عُلَمَاؤُنَا بَيْعَ السَّمْنِ الذَّائِبِ الَّذِي مَاتَتْ فِيهِ الْفَأْرَةُ لِإِمْكَانِ إيرَادِ الْبَيْعِ عَلَى السَّمْنِ دُونَ صِفَةِ النَّجَاسَةِ وَمَنَعُوا مِنْ أَكْلِهِ لِاسْتِحَالَةِ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لَوْ صَامَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ النَّذْرِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَ النَّذْرَ إلَى هَذِهِ الْأَيَّامِ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ قَدْرَ مَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا وَقَدْ أَتَى بِذَلِكَ الْقَدْرِ كَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتِقَ هَذِهِ الرَّقَبَةَ وَهِيَ عَمْيَاءُ خَرَجَ عَنْ نَذْرِهِ بِإِعْتَاقِهَا وَإِنْ كَانَ لَا يَتَأَدَّى شَيْءٌ مِنْ الْوَاجِبَاتِ بِهَا. وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَصُومَ فِي وَقْتٍ آخَرَ لِيَكُونَ مُؤَدِّيًا أَكْمَلَ مِمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ مَعَ التَّخَلُّصِ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَمَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي وَقْتٍ آخَرَ وَإِنْ صَلَّى فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ خَرَجَ عَنْ مُوجِبِ نَذْرِهِ وَلَا يُقَالُ إنَّ النَّهْيَ لَوْ كَانَ لِتَرْكِ الْإِجَابَةِ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْثَمَ مَنْ لَمْ يَأْكُلْ بِدُونِ النِّيَّةِ لِأَنَّا نَقُولُ مَنْ لَمْ يَأْكُلْ بِدُونِ النِّيَّةِ لِعَدَمِ الطَّعَامِ أَوْ لِلْحُمِّيَّةِ لَا يَأْثَمُ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْإِجَابَةَ عَنْ عُذْرٍ أَمَّا مَنْ لَمْ يَأْكُلْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّعَامِ وَانْعِدَامِ الْعُذْرِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الْغَصْبُ دُونَ الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةُ فِعْلٌ مَعْلُومٌ يَتَأَدَّى بِأَرْكَانٍ وَشَرَائِطَ مَعْلُومَةٍ وَالْغَصْبُ أَيْضًا شَيْءٌ مَعْلُومٌ لَا اتِّحَادَ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ وَلَا يَلْزَمُ أَنَّ مَنْ رَأَى رَجُلًا يَغْرَقُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ وَقَدْ أَمْكَنَهُ التَّخْلِيصُ لَوْ قَطَعَ الصَّلَاةَ فَلَمْ يَقْطَعْ حَيْثُ يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِتَرْكِهَا مَنْهِيًّا عَنْ تَرْكِ التَّخْلِيصِ، وَالْمُضِيُّ فِي الصَّلَاةِ هُوَ تَرْكُ التَّخْلِيصِ فَكَانَتْ الصَّلَاةُ مَنْهِيًّا عَنْهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَرْكُ التَّخْلِيصِ ثُمَّ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ قَضَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ كَامِلًا وَكَذَا لَوْ رَأَى رَجُلًا يَقْتُلُ آخَرَ وَيُمْكِنُهُ الدَّفْعُ فَمَضَى فِي صَلَاتِهِ أَوْ اشْتَغَلَ بِهَا ابْتِدَاءً حَيْثُ جَازَتْ صَلَاتُهُ مَعَ مَا بَيَّنَّا. وَكَذَا مِنْ اشْتَغَلَ بِالصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ عِنْدَ اسْتِنْفَارِ النَّاسِ إلَى عَدُوٍّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَظَلَّهُمْ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَنْفِرَ إلَيْهِمْ عَلَى هَذَا أَيْضًا لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَيْسَتْ بِتَرْكٍ لِلتَّخْلِيصِ وَالدَّفْعِ فَإِنَّهَا مَعَ التَّخْلِيصِ وَالدَّفْعِ مُمْكِنَةٌ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ قُرْبِ الْغَرِيقِ مِنْهُ فَيَأْخُذُ بِيَدِهِ فَيُخَلِّصَهُ وَقَرُبَ الْقَاصِدُ لِلْقَتْلِ مِنْهُ فَيَقْبِضُ عَلَى يَدِهِ أَوْ يَتَعَلَّقُ بِثِيَابِهِ أَوْ بَعْضِ أَعْضَائِهِ فَيُمْكِنُهُ فَلَوْ كَانَتْ الصَّلَاةُ تَرْكًا لِلتَّخْلِيصِ وَالدَّفْعِ لَمَا تُصُوِّرَ حُصُولُهُمَا فِي حَالَةِ الصَّلَاةِ أَلْبَتَّةَ لِأَنَّ تَرْكَ كُلِّ فِعْلٍ ضِدَّهُ بِاجْتِمَاعِ الْفِعْلِ مَعَ تَرْكِهِ مُسْتَحِيلٌ كَاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَدَلَّ أَنَّ التَّرْكَ مَعْنًى وَرَاءَ الصَّلَاةِ يُقَارِنُ الصَّلَاةَ وَارْتِكَابَ النَّهْيِ بِفِعْلٍ لَا يَمْنَعُ

وَلِهَذَا صَحَّ النَّذْرُ بِهِ لِأَنَّهُ نَذْرٌ بِالطَّاعَةِ وَإِنَّمَا وَصْفُ الْمَعْصِيَةِ مُتَّصِلٌ بِذَاتِهِ فِعْلًا لَا بِاسْمِهِ ذِكْرًا وَلِهَذَا قُلْنَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِيهِ مُتَّصِلٌ بِالْمَعْصِيَةِ فَأُمِرَ بِالْقَطْعِ حَقًّا لِصَاحِبِ الشَّرْعِ فَصَارَ مُضَافًا إلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ فَبَرِئَ الْعَبْدُ عَنْ عُهْدَتِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ صِحَّةِ فِعْلٍ آخَرَ هُوَ عِبَادَةٌ وَلَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ كَالْمُصَلِّي يَرْمِي بِبَصَرِهِ إلَى مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهِ مِنْ الْأَجْنَبِيَّاتِ وَالطَّائِفُ يَنْظُرُ إلَى أَعْضَاءِ الْأَجْنَبِيَّاتِ أَوْ يَقْذِفُ مُحْصَنًا فَكَذَا مَا نَحْنُ فِيهِ وَهَذَا لِأَنَّ الرُّكْنَ فِي بَابِ الصَّلَاةِ هُوَ الْأَفْعَالُ الْمَعْهُودَةُ وَالصَّلَاةُ فِي الْحَقِيقَةِ هَذِهِ الْأَفْعَالُ لَا غَيْرُهَا وَتَرْكُ التَّخْلِيصِ وَالدَّفْعِ بِتَرْكِ اسْتِعْمَالِ الْيَدِ، وَتَرْكُ اسْتِعْمَالِهَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ لَيْسَ مِنْ الْأَرْكَانِ إذْ لَا أَدَاءَ لَهَا بِذَلِكَ إنَّمَا اسْتِعْمَالُهَا جُعِلَ مِنْ بَابِ النَّوَاقِضِ لَوْ كَثُرَ لِوُجُودِ الْإِعْرَاضِ عَنْ الْعِبَادَةِ فَأَمَّا تَرْكُ اسْتِعْمَالِهَا فَلَيْسَ مِنْ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ هِيَ تَرْكُ اسْتِعْمَالِهَا بَلْ هِيَ أَدَاءُ الْأَرْكَانِ. وَكَذَا الْمُشْتَغِلُ بِالصَّلَاةِ فِي وَقْتِ التَّغَيُّرِ عَلَى هَذَا لِأَنَّ التَّرْكَ حَصَلَ بِتَرْكِ الْمَشْيِ، وَالصَّلَاةُ لَيْسَتْ بِتَرْكِ الْمَشْيِ إنَّمَا هِيَ أَفْعَالٌ أُخَرُ وَرَاءَ تَرْكِ الْمَشْيِ وَهُوَ الْقَرَارُ عَلَى الْمَكَانِ وَالْقَرَارُ مَعْنًى وَرَاءَ الْأَرْكَانِ الْمَعْهُودَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ الْقَرَارُ عَلَى الْمَكَانِ بِدُونِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَيَكُونُ بِهِ تَارِكًا لِلذَّهَابِ وَيُتَصَوَّرُ تَرْكُ اسْتِعْمَالِ آلَةِ التَّخْلِيصِ وَالدَّفْعِ وَهِيَ الْيَدُ بِدُونِ الصَّلَاةِ وَيَحْصُلُ التَّرْكُ فَكَانَ تَرْكُ الْمَشْيِ مَعْنًى مُقَارِنًا لِأَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَالْمَنْهِيُّ هُوَ لَا هِيَ، فَأَمَّا فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ فَالصَّوْمُ هُوَ بِنَفْسِهِ تَرْكُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ الشَّيْخِ أَبِي الْمُعِينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَخُلَاصَةُ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ عَيْنُ الصَّوْمِ بِجِهَةٍ، وَالْمَشْرُوعَ عَيْنُهُ أَيْضًا وَلَكِنْ بِجِهَةٍ أُخْرَى وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ مَشْرُوعًا حَرَامًا بِجِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَزُبْدَةُ الطَّرِيقَةِ الْأُولَى أَنَّ الْمَشْرُوعَ هُوَ الصَّوْمُ وَالْمَنْهِيَّ عَنْهُ غَيْرُهُ وَلَكِنَّهُ وَصْفٌ لَهُ قَائِمٌ بِهِ فَالشَّيْخُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيَّنَ الطَّرِيقَةَ الْأُولَى وَأَلْحَقَ بِآخِرِ كَلَامِهِ مَا يُشِيرُ إلَى الطَّرِيقَةِ الثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ وَبَيَانُهُ عَلَى وَجْهِ تَعَقُّلٍ إلَى آخِرِهِ وَيُوقَفُ عَلَيْهِ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ الطَّاعَةَ وَهِيَ الصَّوْمُ لَمْ يَنْقَلِبْ مَعْصِيَةً بِالنَّهْيِ (صَحَّ النَّذْرُ بِهِ) أَيْ بِهَذَا الصَّوْمِ أَوْ وَلِأَنَّ تَرْكَ الْمُتَنَاوَلِ وَهُوَ الصَّوْمُ طَاعَةٌ بِأَصْلِهِ صَحَّ النَّذْرُ بِهِ (لِأَنَّهُ نَذْرٌ بِالطَّاعَةِ) لِأَنَّ كَفَّ النَّفْسِ عَنْ الشَّهَوَاتِ بِذَاتِهِ قُرْبَةٌ وَهُوَ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ الصَّوْمُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مَعْصِيَةٌ فَلَا يَصِحُّ النَّذْرُ بِهِ (وَالْمَعْصِيَةُ مُتَّصِلٌ بِذَاتِهِ فِعْلًا لَا بِاسْمِهِ ذِكْرًا) أَيْ وَصْفٌ هُوَ مَعْصِيَةٌ وَهُوَ تَرْكُ الْإِجَابَةِ مُتَّصِلٌ بِفِعْلِ الصَّوْمِ لَا بِذِكْرِ الصَّوْمِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إلَّا ذِكْرُ الصَّوْمِ وَهُوَ قَوْلُهُ نَذَرْتُ أَنْ أَصُومَ لِلَّهِ يَوْمَ النَّحْرِ أَوْ أَصُومَ لِلَّهِ غَدًا وَغَدًا يَوْمُ النَّحْرِ فَلَمْ يَمْنَعُ صِحَّةَ النَّذْرِ بِهِ (فَإِنْ قِيلَ) ذِكْرُ الصَّوْمِ ذِكْرٌ لِلْمَعْصِيَةِ لِأَنَّ الصَّوْمَ عَيْنُهُ تَرْكُ الْإِجَابَةِ عَلَى مَا ذَكَرْت وَهُوَ مَعْصِيَةٌ فَكَانَ ذِكْرًا لِلصَّوْمِ وَإِيجَابُهُ ذِكْرًا لِلْمَعْصِيَةِ وَقَصْدًا إلَيْهِ فَلَمْ يَصِحَّ كَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَضْرِبَ أَبَاهُ أَوْ يَشْتُمَ أُمِّهِ لَمْ يَصِحَّ وَالْعِصْيَانُ نَفْسُ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ ذِكْرًا لَهُ وَقَصْدًا إلَيْهِ كَانَ مَعْصِيَةً أَيْضًا فَلَمْ يَصِحَّ (قُلْنَا) لَمْ يَنْعَقِدْ هَذَا النَّذْرُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ ذِكْرُ الْمَعْصِيَةِ وَلَكِنَّهُ انْعَقَدَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ ذِكْرُ طَاعَةٍ وَإِيجَابُ قُرْبَةٍ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ جِهَةَ الْقُرْبَةِ أَصْلٌ فِيهِ فَيَصِحُّ النَّذْرُ بِهِ (فَإِنْ قِيلَ) مَا وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا أَضَافَ النَّذْرَ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ بِأَنْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ لَمْ يَصِحَّ نَذْرُهُ وَإِذَا أَضَافَ إلَى الْغَدِ بِأَنْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا وَغَدٌ يَوْمُ النَّحْرِ صَحَّ نَذْرُهُ (قُلْنَا) وَجْهُهُ أَنَّهُ إذَا نَصَّ عَلَى يَوْمِ النَّحْرِ فَقَدْ صَرَّحَ فِي نَذْرِهِ بِمَا هُوَ

[الصلاة وقت طلوع الشمس ودلوكها]

وَمِنْهَا الصَّلَاةُ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَدُلُوكِهَا مَشْرُوعَةٌ بِأَصْلِهَا إذْ لَا قُبْحَ فِي أَرْكَانِهَا وَشُرُوطِهَا، وَالْوَقْتُ صَحِيحٌ بِأَصْلِهِ فَاسِدٌ بِوَصْفِهِ وَهُوَ أَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى الشَّيْطَانِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، إلَّا أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُوجَدُ بِالْوَقْتِ لِأَنَّهُ ظَرْفُهَا لَا مِعْيَارُهَا ـــــــــــــــــــــــــــــQمَنْهِيٌّ عَنْهُ فَلَمْ يَصِحَّ. وَإِذَا قَالَ غَدًا فَلَمْ يُصَرِّحْ فِي نَذْرِهِ بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَصَحَّ نَذْرُهُ وَهُوَ كَالْمَرْأَةِ إذَا قَالَتْ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ يَوْمَ حَيْضِي لَمْ يَصِحَّ نَذْرُهَا وَلَوْ قَالَتْ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا وَغَدٌ يَوْمُ حَيْضِهَا صَحَّ نَذْرُهَا وَيَجِبُ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ وَالْجَوَابُ عَنْهُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْحَيْضَ وَصْفُ الْمَرْأَةِ لَا وَصْفُ الْيَوْمِ وَقَدْ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ كَوْنَهَا طَاهِرَةً عَنْ الْحَيْضِ شَرْطٌ لِيَكُونَ أَهْلًا لِأَدَاءِ الصَّوْمِ فَلَمَّا عَلَّقَتْ النَّذْرَ بِصِفَةٍ لَا تَبْقَى أَهْلًا لِلْأَدَاءِ مَعَهَا لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ أَهْلِهِ كَالرَّجُلِ يَقُولُ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ يَوْمًا أَكَلْت فِيهِ. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ هَذَا الصَّوْمَ مَعْصِيَةٌ بِوَصْفِهِ قُلْنَا إنَّهُ لَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إذَا شَرَعَ فِي صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ رَوَاهُ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْهُ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ، وَالْكَشْفِ لِأَبِي جَعْفَرٍ وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ إذَا أَصْبَحَ يَوْمَ الْفِطْرِ صَائِمًا ثُمَّ أَفْطَرَ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لَهُمَا أَنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ كَالنَّذْرِ بِدَلِيلِ سَائِرِ الْأَيَّامِ وَالنَّهْيُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الشُّرُوعِ فِي حَقِّ الْقَضَاءِ كَمَنْ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي هَذَا الصَّوْمِ مُتَّصِلٌ بِالْمَعْصِيَةِ لِأَنَّهُ مُرْتَكِبٌ لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَهُوَ تَرْكُ الْإِجَابَةِ بِنَفْسِ الشُّرُوعِ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إتْمَامُهُ وَحِفْظُهُ بَلْ أُمِرَ بِقَطْعِهِ رِعَايَةً لِحَقِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَهُوَ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ فَصَارَ كَأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ قَالَ لَهُ اقْطَعْ لِأَجْلِ حَقِّي فَلَا يَجِبُ عَلَى الْقَاطِعِ شَيْءٌ لِحُصُولِهِ مُضَافًا إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ (فَبَرِئَ الْعَبْدُ عَنْ عُهْدَتِهِ) أَيْ عُهْدَةِ الْقَطْعِ أَوْ عُهْدَةِ مَا شَرَعَ فِيهِ كَمَنْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِإِتْلَافِ مَالِهِ فَأَتْلَفَهُ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّهُ بِأَمْرِهِ بِخِلَافِ النَّذْرِ فَإِنَّهُ بِنَذْرِهِ مَا صَارَ مُرْتَكِبًا لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَبِخِلَافِ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ عَلَى مَا نَذْكُرُ. [الصَّلَاةُ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَدُلُوكِهَا] قَوْلُهُ (وَمِنْهَا) أَيْ وَمِنْ الْفُرُوعِ الْمُخَرَّجَةِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ الصَّلَاةُ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَدُلُوكِهَا أَيْ زَوَالِهَا أَوْ غُرُوبِهَا يُقَالُ دَلَكَتْ الشَّمْسُ أَيْ زَالَتْ أَوْ غَابَتْ أَيْ الصَّلَاةُ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ الْمَكْرُوهَةِ مَشْرُوعَةٌ بِأَصْلِهَا لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْمَشْرُوعِيَّةَ وَلَا قُبْحَ فِي أَرْكَانِهَا مِنْ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لِأَنَّهَا تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى لِتَكُونَ حَسَنَةً كَمَا فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ وَشُرُوطُهَا مِنْ الطَّهَارَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فَبَقِيَتْ مَشْرُوعَةً بَعْدَ النَّهْيِ كَمَا كَانَتْ قَبْلَهُ وَالْوَقْتُ صَحِيحٌ بِأَصْلِهِ أَيْضًا لِأَنَّهُ زَمَانٌ كَسَائِرِ الْأَزْمِنَةِ صَالِحٌ لِظَرْفِيَّةِ الْعِبَادَةِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَهِيَ مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ عَنْبَسَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لَهُ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ الصَّلَاةِ «صَلِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلَاةِ حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ حَتَّى تَرْتَفِعَ فَإِنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ ثُمَّ صَلِّ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ حِينَ تُسَجَّرُ جَهَنَّمُ فَإِذَا أَقْبَلَ الظِّلُّ فَصَلِّ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلَاةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ» . وَفِي حَدِيثِ الصُّنَابِحِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَالَ إنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ وَإِنَّ الشَّيْطَانَ يُزَيِّنُهَا فِي عَيْنِ مَنْ يَعْبُدُهَا

وَهُوَ سَبَبُهَا فَصَارَتْ الصَّلَاةُ نَاقِصَةً لَا فَاسِدَةً فَقِيلَ لَا يَتَأَدَّى بِهِ الْكَامِلُ ـــــــــــــــــــــــــــــQحَتَّى يَسْجُدُوا لَهَا فَإِذَا ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا فَإِذَا كَانَتْ عِنْدَ قِيَامِ الظَّهِيرَةِ قَارَنَهَا فَإِذَا مَالَتْ فَارَقَهَا فَإِذَا دَنَتْ لِلْمَغِيبِ قَارَنَهَا فَإِذَا غَرَبَتْ فَارَقَهَا فَلَا تُصَلُّوا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ» فَهَذَا مَعْنَى نِسْبَةِ الْوَقْتِ إلَى الشَّيْطَانِ وَرَأَيْت فِي بَعْضِ الْقَصَصِ أَنَّ زَرَادُشْتَ اللَّعِينَ أَمَرَ الْمَجُوسَ بِالصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ فَجَاءَ الشَّرْعُ بِحُرْمَةِ الصَّلَاةِ فِيهَا مُخَالَفَةً لَهُمْ وَقَرْنَا الشَّيْطَانِ نَاحِيَتَا رَأْسِهِ قِيلَ إنَّهُ يُقَابِلُ الشَّمْسَ حِينَ طُلُوعِهَا فَيَنْصِبُ حَتَّى يَكُونَ طُلُوعُهَا بَيْنَ قَرْنَيْهِ فَيَنْقَلِبُ سُجُودُ الْكُفَّارِ لِلشَّمْسِ عِبَادَةً لَهُ. وَقِيلَ هُوَ مَثَلٌ، ثُمَّ لَمَّا أَثْبَتَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ صَوْمِ الْأَيَّامِ الْخَمْسَةِ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ النَّهْيَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا وَرَدَ لِمَعْنًى فِي وَصْفِ الْوَقْتِ شَرَعَ فِي بَيَانِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا فَقَالَ (إلَّا أَنَّ الصَّلَاةَ) أَيْ لَكِنَّ الصَّلَاةَ (لَا تُوجَدُ بِالْوَقْتِ) لِأَنَّ الْوَقْتَ لِلصَّلَاةِ ظَرْفٌ وَلَا تَأْثِيرَ لِلظَّرْفِ فِي اتِّحَادِ الْمَظْرُوفِ بَلْ هِيَ تُوجَدُ بِأَفْعَالٍ مَعْلُومَةٍ فَلَا يَكُونُ فَسَادُهُ مُؤَثِّرًا فِيهَا لِأَنَّهُ مُجَاوِرٌ بِخِلَافِ الصَّوْمِ لِأَنَّهُ تُوجَدُ بِالْوَقْتِ لِأَنَّهُ مِعْيَارٌ لَهُ عَلَى مَا مَرَّ. قَوْلُهُ (وَهُوَ سَبَبُهَا) إشَارَةً إلَى جَوَابِ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ فَسَادُ الظَّرْفِ لَمَّا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْمَظْرُوفِ لِأَنَّهُ مُجَاوِرٌ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُؤَثِّرَ فِي نُقْصَانِهِ أَيْضًا حَتَّى يَتَأَدَّى بِهِ الْكَامِلُ كَمَا لَا يُؤَثِّرُ فَسَادُ ظَرْفِ الْمَكَانِ فِيهِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ حَيْثُ تَأَدَّى بِهَا الْكَامِلُ فَقَالَ الْوَقْتُ وَإِنْ كَانَ ظَرْفًا لَكِنَّهُ سَبَبٌ لِلصَّلَاةِ فَفَسَادُهُ يُؤَثِّرُ فِي الْمُسَبِّبِ لَا مَحَالَةَ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُجَاوِرًا وَلَمْ يَكُنْ وَصْفًا. يُؤَثِّرُ فِي النُّقْصَانِ لَا فِي الْفَسَادِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ فَإِنَّ الْمَكَانَ فِيهَا لَيْسَ بِسَبَبٍ وَلَا وَصْفٍ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْفَسَادِ وَلَا فِي النُّقْصَانِ بَلْ يُوجِبُ كَرَاهَةً وَهِيَ لَا يَمْنَعُ أَدَاءَ الْوَاجِبِ وَفِي قَوْلِهِ وَهُوَ سَبَبُهَا إشَارَةً إلَى أَنَّ الْوَقْتَ سَبَبٌ لِمَا شَرَعَ فِيهِ مِنْ النَّفْلِ كَمَا هُوَ سَبَبٌ لِمَا شَرَعَ فِيهِ مِنْ الْفَرْضِ وَإِلَّا لَمْ يَسْتَقِمْ هَذَا الْكَلَامُ لِأَنَّ كَلَامَنَا فِي النَّفْلِ لَا فِي الْفَرْضِ وَقِيلَ فِي مَعْنَى سَبَبِيَّةِ الْوَقْتِ إنْ أَدْرَكَ كُلَّ زَمَانٍ وَالْبَقَاءُ إلَيْهِ نِعْمَةٌ فَيَسْتَدْعِي شُكْرًا وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الِاشْتِغَالُ بِالْخِدْمَةِ فِي كُلِّ الْأَزْمِنَةِ شُكْرًا إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَخَّصَ بِالْإِيجَابِ فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ دُونَ الْبَعْضِ فَإِذَا نَذَرَ أَوْ شَرَعَ فَقَدْ أَخَذَ بِمَا هُوَ الْعَزِيمَةُ فَثَبَتَ أَنَّ مُطْلَقَ الْوَقْتِ سَبَبٌ فَقِيلَ لَا يَتَأَدَّى بِهِ أَيْ بِالْمَذْكُورِ وَهُوَ الصَّلَاةُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ الْكَامِلِ وَهُوَ مَا وَجَبَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لِأَنَّ الْكَامِلَ لَا يَتَأَدَّى بِالنَّاقِصِ. (فَإِنْ قِيلَ) لَا يَمْنَعُ النُّقْصَانُ عَنْ الْجَوَازِ كَمَا لَا يَمْنَعُ الْكَرَاهَةَ عَنْهُ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ أَوْ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ فِي أَدَاءِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي قَضَائِهَا يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ وَأَنْ يُمْكِنَ فِيهِ النُّقْصَانُ وَلِهَذَا وَجَبَ جَبْرُهُ بِالسُّجُودِ إنْ كَانَ سَاهِيًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَتَأَدَّى بِهِ الْكَامِلُ كَمَا يَتَأَدَّى بِالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ (قُلْنَا) النُّقْصَانُ إنَّمَا يَمْنَعُ إذَا كَانَ رَاجِعًا إلَى نَفْسِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَصْلًا أَوْ وَصْفًا لِأَنَّ ذَلِكَ دَخَلَ تَحْتَ الْأَمْرِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَمْنَعَ فَوَاتَ مَا دَخَلَ تَحْتَ الْأَمْرِ عَنْ الْجَوَازِ فَأَمَّا مَا لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْأَمْرِ فَفَوَاتُهُ لَا يَمْنَعُ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالْمَأْمُورِ بِهِ وَذَلِكَ كَمَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً عَمْيَاءَ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْوَصْفَ دَخَلَ تَحْتَ الْأَمْرِ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً تَجُوزُ وَأَنْ يُمْكِنَ فِيهِمَا نُقْصَانٌ بِفَوَاتِ الْإِيمَانِ لِأَنَّ وَصْفَ الْإِيمَانِ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْأَمْرِ فَنُقْصَانُهُ لَا يَمْنَعُ عَنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ

وَيَضْمَنُ بِالشُّرُوعِ، وَالصَّوْمُ يَقُومُ بِالْوَقْتِ وَيُعْرَفُ بِهِ فَازْدَادَ الْأَثَرُ فَصَارَ فَاسِدًا فَلَمْ يَضْمَنْ بِالشُّرُوعِ. وَالنَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQثُمَّ الْوَقْتُ فِي الصَّلَاةِ دَاخِلٌ تَحْتَ الْأَمْرِ بِالدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ فَنُقْصَانُهُ يَمْنَعُ عَنْ الْجَوَازِ كَوَصْفِ الْعَمَى فِي الرَّقَبَةِ، فَأَمَّا وَاجِبَاتُهَا فَلَمْ تَدْخُلُ تَحْتَ الْأَمْرِ فَفَوَاتُهَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ عَنْ الْجَوَازِ كَفَوَاتِ وَصْفِ الْإِيمَانِ فِي الرَّقَبَةِ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ كَامِلٌ أَصْلًا وَوَصْفًا، وَإِنَّمَا حَكَمْنَا بِالنُّقْصَانِ عَمَلًا بِأَخْبَارِ الْآحَادِ الَّتِي لَا تُزَادُ عَلَى الْكِتَابِ وَتُوجِبُ الْعَمَلَ لَا الْعِلْمَ وَلِهَذَا قُلْنَا يَنْجَبِرُ بِالسُّجُودِ فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَأْمُورِ بِهِ وَكَذَا الْمَكَانُ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْأَمْرِ فَلَا يُنْتَقَصُ الْمَأْمُورُ بِهِ بِنُقْصَانِهِ قَوْلَهُ (وَيَضْمَنُ بِالشُّرُوعِ) حَتَّى لَوْ قَطَعَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَهَا فِي وَقْتٍ يَحِلُّ فِيهِ الصَّلَاةُ فَإِنَّ قَضَاءَهَا فِي وَقْتٍ آخَرَ مَكْرُوهٍ أَجْزَأَهُ. وَقَدْ أَسَاءَ لِأَنَّهُ لَوْ أَتَمَّهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَجْزَأَهُ فَكَذَا إذَا قَضَاهَا فِي وَقْتٍ مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَقَالَ زُفَرُ لَا يَضْمَنُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا فَلَمْ تَجِبْ صِيَانَتُهَا عَنْ الْبُطْلَانِ كَالصَّوْمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَلَنَا أَنَّ فَسَادَ الْوَقْتِ لَمَّا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي إفْسَادِهَا بَقِيَتْ صَحِيحَةً وَإِنْ صَارَتْ نَاقِصَةً فَوَجَبَتْ صِيَانَتُهَا عَنْ الْبُطْلَانِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ لِأَنَّهُ يَقُومُ بِالْوَقْتِ إذْ الْوَقْتُ فِيهِ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَاهِيَّةِ حَتَّى قِيلَ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ الثَّلَاثِ نَهَارًا وَلِهَذَا لَوْ أَمْسَكَ فِي اللَّيْلِ لَا يَكُونُ صَوْمًا بِحَالٍ (وَيُعْرَفُ بِهِ) أَيْ يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ بِالْوَقْتِ حَتَّى ازْدَادَ بِازْدِيَادِهِ وَانْتَقَصَ بِانْتِقَاصِهِ. (فَازْدَادَ الْأَثَرُ) أَيْ أَثَرُ فَسَادِ الْوَقْتِ فِي الصَّوْمِ فَصَارَ فَاسِدًا فَلَمْ يُضْمَنْ بِالشُّرُوعِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ فِي الصَّلَاةِ يُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ بِذَلِكَ الشُّرُوعِ لَا بِصِفَةِ الْكَرَاهَةِ بِأَنْ يَصِيرَ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ فَلِهَذَا لَزِمَهُ وَفِي الصَّوْمِ بَعْدَ الشُّرُوعِ لَا يُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ بِدُونِ صِفَةِ الْكَرَاهَةِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ وَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مَا تَرَكَّبَ مِنْ أَجْزَاءٍ مُتَّفِقَةٍ مُتَجَانِسَةٍ يَكُونُ لِلْبَعْضِ اسْمُ الْكُلِّ كَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَالْخَلِّ وَاللَّبَنِ فَإِنَّ اسْمَ الْمَاءِ كَمَا يَنْطَلِقُ عَلَى جَمِيعِ مَاءِ الْبَحْرِ يَنْطَلِقُ عَلَى قَطْرَةٍ مِنْهُ لِكَوْنِ أَجْزَاءِ الْمَاءِ مُتَّفِقَةً مُتَجَانِسَةً فِي نَفْسِهَا، وَمَا تَرَكَّبَ مِنْ أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ لَا يَكُونُ لِلْبَعْضِ اسْمُ الْكُلِّ كَالسَّكَنْجَبِينَ الْمُتَرَكِّبِ مِنْ الْمَاءِ وَالسُّكَّرِ وَالْخَلِّ لَا يَكُونُ لِلْبَعْضِ مِنْهُ اسْمُ الْكُلِّ فَإِنَّ الْخَلَّ لَا يُسَمَّى سَكَنْجَبِينًا وَكَذَا الْآدَمِيُّ مَعَ الْأَجْزَاءِ الْبَسِيطَةِ مِنْ اللَّحْمِ وَالدَّمِ وَالْعَظْمِ وَالْعَصَبِ وَالْأَجْزَاءِ الْمُتَرَكِّبَةِ كَالْوَجْهِ وَالْيَدِ وَالرَّجُلِ هَكَذَا فَإِنَّ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ مِنْ أَيْ النَّوْعَيْنِ كَانَ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْآدَمِيِّ مَعْرُوفٌ ذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ لَا نِزَاعَ فِي ذَلِكَ ثُمَّ الصَّوْمُ تَرَكَّبَ مِنْ أَجْزَاءٍ مُتَّفِقَةٍ وَهِيَ الْإِمْسَاكَاتُ الْمَوْجُودَةُ مِنْ انْشِقَاقِ الْفَجْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَكَانَ اسْمُ الصَّوْمِ وَاقِعًا عَلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَالنَّهْيُ وَرَدَ عَنْ الصَّوْمِ، وَجُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ صَوْمٌ فَكَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَصُومَ فَشَرَعَ فِيهِ ثُمَّ أَفْسَدَ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ فَكَانَ مَا انْعَقَدَ مِنْهُ انْعَقَدَ مَشْرُوعًا مَحْظُورًا عَلَى مَا قَرَّرْنَا وَلَوْ مَضَى فِيهِ لَكَانَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ مَشْرُوعًا مَحْظُورًا وَالْمُضِيُّ إنَّمَا يَلْزَمُ لِإِبْقَاءِ مَا انْعَقَدَ عَلَى مَا انْعَقَدَ وَالْمُنْعَقِدُ الْمَاضِي كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَيْهِمَا، فَالْمُضِيُّ لَوْ لَزِمَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْرِيرِ الطَّاعَةِ لَا يَلْزَمُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْرِيرِ الْمَعْصِيَةِ لِأَنَّ تَقْرِيرَهَا حَرَامٌ، وَالتَّوْبَةَ عَمَّا سَبَقَ مِنْ الْمَعْصِيَةِ وَالنَّدَمَ عَلَيْهِ فَرِيضَةٌ، وَتَقْرِيرُ مَا انْعَقَدَ طَاعَةً وَاجِبٌ لَكِنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ وَتَعَارَضَتْ فِيهِ الْأَخْبَارُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَتَمَكَّنَتْ فِيهِ الشُّبْهَةُ. فَأَمَّا افْتِرَاضُ التَّوْبَةِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ فَلَا شَكَّ فِيهِ فَكَانَ جَانِبُ تَرْكِ الْمُضِيِّ مُرَجَّحًا عَلَى

[النهي عن الصلاة في أرض مغصوبة]

مُتَعَلِّقٌ بِمَا لَيْسَ بِوَصْفٍ فَلَمْ تَفْسُدْ فَكَذَلِكَ الْبَيْعُ وَقْتَ النِّدَاءِ وَهُوَ بِخِلَافِ بَيْعِ الْحُرِّ وَالْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ فَصَارَ النَّهْيُ مَجَازًا عَنْ النَّفْيِ وَهَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ صَحِيحَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُشَابَهَةِ وَلَا خِلَافَ فِيهِ إنَّمَا الْكَلَامُ فِي حُكْمِ حَقِيقَتِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQجَانِبِ وُجُوبِ الْمُضِيِّ فَلَمْ يَجِبْ الْمُضِيُّ فَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ بِخِلَافِ مَا إذَا شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ ثُمَّ أَفْسَدَ حَيْثُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَرَكَّبَتْ مِنْ أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ غَيْرِ مُتَجَانِسَةٍ مِنْ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ فَلَا يَكُونُ لِبَعْضِهَا اسْمُ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا يَنْطَلِقُ الِاسْمُ عِنْدَ انْضِمَامِ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ بِأَنْ يُقَيِّدَ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ وَصَارَتْ الرَّكَعَاتُ بَعْدَ ذَلِكَ أَجْزَاءً مُتَجَانِسَةً فَكَانَ لِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ اسْمُ الصَّلَاةِ وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يُصَلِّيَ فَشَرَعَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ، وَمَنْ انْتَقَلَ مِنْ الْفَرْضِ إلَى النَّفْلِ قَبْلَ تَمَامِهِ لَا يُجْعَلُ مُتَنَفِّلًا مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ السَّجْدَةُ لِأَنَّ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ لَيْسَ بِصَلَاةٍ وَالنَّهْيُ وَرَدَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ فَلَمْ يَكُنْ الشُّرُوعُ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَلَا الْقِيَامُ وَلَا الْقِرَاءَةُ وَلَا لِلرُّكُوعِ وَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ النَّهْيُ عِنْدَ وُجُودِ السَّجْدَةِ فَمَا مَضَى قَبْلَ ذَلِكَ انْعَقَدَ عِبَارَةً مَحْضَةً وَإِبْطَالُهَا حَرَامٌ وَصِيَانَتُهَا وَاجِبَةٌ وَلَا تَحْصُلُ الصِّيَانَةُ بِدُونِ الْمُضِيِّ فَكَانَ الْمُضِيُّ فِي حَقِّ مَا مَضَى امْتِنَاعًا عَنْ إبْطَالِ الْعَمَلِ وَهُوَ وَاجِبٌ وَفِي حَقِّ مَا يُسْتَقْبَلُ تَحْصِيلُ طَاعَةٍ وَتَحْصِيلُ مَعْصِيَةٍ فَكَانَ الْمُضِيُّ طَاعَةً وَمَعْصِيَةً وَامْتِنَاعًا عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَهِيَ إبْطَالُ الْعِبَادَةِ وَتَرْكُ الْمُضِيِّ امْتِنَاعًا عَنْ مَعْصِيَةٍ وَطَاعَةٍ وَارْتِكَابُ مَعْصِيَةٍ وَهِيَ إبْطَالُ عِبَادَةٍ مَحْضَةٍ فَتَرَجَّحَتْ جِهَةُ الْمُضِيِّ عَلَى جِهَةِ الْإِفْسَادِ فَوَجَبَ الْمُضِيُّ. فَإِذَا أَفْسَدَ فَقَدْ أَفْسَدَ عِبَادَةً وَجَبَ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِيهَا فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [النَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ] قَوْلُهُ (مُتَعَلِّقٌ بِمَا لَيْسَ بِوَصْفٍ) أَيْ لَيْسَ بِوَصْفٍ وَلَا سَبَبٍ فَلَمْ تَفْسُدْ وَلَمْ يُنْتَقَضْ أَيْضًا حَتَّى تَأَدَّى بِهَا الْوَاجِبُ الْكَامِلُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ إلَّا أَنَّ غَرَضَ الشَّيْخِ لَمَّا كَانَ هُوَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَبَيْنَ بَيْعِ الرِّبَا لَا غَيْرُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِعَدَمِ الِانْتِقَاضِ وَإِنَّمَا كَانَ النَّهْيُ مُتَعَلِّقًا بِمَا لَيْسَ بِوَصْفٍ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ فِي الصَّلَاةِ بِشَغْلِ الْأَرْضِ وَفِي الْبَيْعِ بِتَرْكِ السَّعْيِ وَهُمَا أَمْرَانِ مُنْفَكَّانِ عَنْ الصَّلَاةِ وَالْبَيْعِ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّغْلَ يُوجَدُ بِدُونِ الصَّلَاةِ وَالصَّلَاةُ تُوجَدُ بِدُونِ الشَّغْلِ وَكَذَا الْبَيْعُ يُوجَدُ بِدُونِ تَرْكِ السَّعْيِ بِأَنْ تَبَايَعَا فِي الطَّرِيقِ ذَاهِبَيْنِ وَتَرْكُ السَّعْيِ يُوجَدُ بِدُونِ الْبَيْعِ بِأَنْ مَكَثَ مِنْ غَيْرِ بَيْعٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ النَّهْيُ لِأَمْرٍ مُجَاوِرٍ فَأَوْجَبَ الْكَرَاهَةَ دُونَ الْفَسَادِ وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ الْقُبْحُ الْمُتَّصِلُ بِالْمَشْرُوعِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ اتِّصَالٌ كَامِلٌ وَوَسَطٌ وَنَاقِصٌ فَالْكَامِلُ فِي صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ بِالشُّرُوعِ وَلَمْ يَتَأَدَّ بِهِ الْكَامِلُ وَالْوَسَطُ فِي الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ إذْ اتِّصَالُ الْقُبْحِ بِهَا أَقَلُّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الصَّوْمِ وَأَكْثَرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ وَلِذَلِكَ لَا يَتَأَدَّى بِهِ الْكَامِلُ وَتُضْمَنُ بِالشُّرُوعِ وَالنَّاقِصُ فِي الصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ وَلِذَلِكَ ثَبَتَ فِيهَا الْكَرَاهَةُ دُونَ الْفَسَادِ وَالنُّقْصَانِ لِأَنَّ الْقُبْحَ فِيهَا عَلَى طَرِيقِ الْمُجَاوَرَةِ لَا عَلَى طَرِيقِ الِاتِّصَالِ فِي الْحَقِيقَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهَا صَحِيحَةٌ وَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ وَالزَّيْدِيَّةِ وَالْجُبَّائِيُّ وَابْنُهُ أَبُو هَاشِمٍ إلَى أَنَّهَا لَا تَصِحُّ قَائِلِينَ بِأَنَّ الْقَوْلَ بِصِحَّتِهَا يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ بِذَاتِهِ حَرَامًا وَحَلَالًا لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ الْمُعَيَّنَ غَصْبٌ وَمُتَعَلِّقُ الْحُرْمَةِ بِالِاتِّفَاقِ فَلَوْ صَحَّتْ لَكَانَ هُوَ بِعَيْنِهِ مُتَعَلِّقَ الْوُجُوبِ أَيْضًا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQوَذَلِكَ بَاطِلٌ وَهَذَا لِأَنَّ فِعْلَهُ وَاحِدٌ وَهُوَ كَوْنُهُ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَهُوَ فِي حَالَةِ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ غَاصِبٌ بِفِعْلِهِ عَاصٍ بِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَرِّبًا بِمَا هُوَ عَاصٍ بِهِ مُثَابًا بِمَا هُوَ مُعَاقَبٌ عَلَيْهِ. وَلَا يُفِيدُ قَوْلَكُمْ أَمْكَنَ انْفِكَاكَ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ لِأَنَّهُ وَإِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ صُورَةِ النِّزَاعِ لَكِنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ فِيمَا تَنَازَعْنَا فِيهِ فَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَتَمَسَّكَ الْجُمْهُورُ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ فَإِنَّهُمْ مَا أَمَرُوا الظَّلَمَةَ بِقَضَاءِ الصَّلَوَاتِ الْمُؤَدَّاةِ فِي الدُّورِ الْمَغْصُوبَةِ مَعَ كَثْرَةِ وُقُوعِهَا وَلَا نَهَوْا الظَّالِمِينَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَرَاضِي الْمَغْصُوبَةِ إذْ لَوْ أَمَرُوا بِهِ وَنَهُوا عَنْهَا لَانْتَشَرَ وَبِأَنَّ الْفِعْلَ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فِي نَفْسِهِ إذَا كَانَ لَهُ وَجْهَانِ مُخْتَلِفَانِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَطْلُوبًا مِنْ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ مَكْرُوهًا مِنْ الْوَجْهِ الثَّانِي وَإِنَّمَا الِاسْتِحَالَةُ فِي أَنْ يُطْلَبَ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يُكْرَهُ لِعَيْنِهِ، ثُمَّ فِعْلُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ صَلَاةٌ مَطْلُوبٌ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ غَصْبٌ مَكْرُوهٌ وَالْغَصْبُ يُعْقَلُ دُونَ الصَّلَاةِ وَالصَّلَاةُ تُعْقَلُ دُونَ الْغَصْبِ وَقَدْ اجْتَمَعَ الْوَجْهَانِ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ وَمُتَعَلِّقُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْوَجْهَانِ الْمُتَغَايِرَانِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا إذَا قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ خِطْ هَذَا الثَّوْبَ وَلَا تَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَإِنْ ارْتَكَبْت النَّهْيَ عَاقَبْتُك وَإِنْ امْتَثَلْت أَعْتَقْتُك فَخَاطَ الثَّوْبَ فِي تِلْكَ الدَّارِ فَيَصِحُّ مِنْ السَّيِّدِ أَنْ يُعَاقِبَهُ وَيُعْتِقَهُ وَيَقُولَ أَطَاعَ بِالْخِيَاطَةِ وَعَصَى بِدُخُولِ الدَّارِ فَكَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ فَالْفِعْلُ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَقَدْ تَضَمَّنَ تَحْصِيلَ أَمْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ يُطْلَبُ أَحَدُهُمَا وَيُكْرَهُ الْأُخَرُ وَبِأَنْ جَمَعَهُمَا الْمُكَلَّفُ لَمْ يَخْرُجَا عَنْ حَقِيقَتِهِمَا وَهُوَ أَيْضًا كَمَنْ رَمَى سَهْمًا إلَى مُسْلِمٍ بِحَيْثُ يَمْرُقُ إلَى كَافِرٍ وَإِلَى كَافِرٍ بِحَيْثُ يَمْرُقُ إلَى مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ يُثَابُ وَيُعَاقَبُ، وَيُمْلَكُ سَلَبُ الْكَافِرِ عِنْدَ مَنْ جَعَلَهُ سَبَبًا لِذَلِكَ وَيُقْتَلُ بِالْمُسْلِمِ قِصَاصًا لِتَضَمُّنِ فِعْلِهِ الْوَاحِدِ أَمْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَبِهَذَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا قَالُوا إنَّهُ غَاصِبٌ بِفِعْلِهِ وَلَا فِعْلَ لَهُ إلَّا قِيَامَهُ وَرُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ فَكَانَ مُتَقَرِّبًا بِعَيْنِ مَا هُوَ غَاصِبٌ بِهِ لِأَنَّا إنَّمَا جَعَلْنَاهُ عَاصِيًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَسْتَوْفِي مَنَافِعَ الدَّارِ وَمُتَقَرِّبًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَتَى بِصُورَةِ الصَّلَاةِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي مَسْأَلَةِ الْخِيَاطَةِ وَقَدْ يُعْلَمُ كَوْنُهُ غَاصِبًا مَنْ لَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ مُصَلَّيَا وَيُعْلَمُ كَوْنُهُ مُصَلِّيًا مَنْ لَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ غَاصِبًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَكَنَ وَلَمْ يَفْعَلْ فِعْلًا لَكَانَ غَاصِبًا فِي حَالَةِ النَّوْمِ وَعَدَمِ اسْتِعْمَالِ الْقُدْرَةِ وَإِنَّمَا يَتَقَرَّبُ بِأَفْعَالِهِ وَلَيْسَتْ تِلْكَ الْأَفْعَالُ شَرْطًا لِكَوْنِهِ غَاصِبًا فَثَبَتَ أَنَّهُمَا وَجْهَانِ مُخْتَلِفَانِ وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ وَاحِدًا وَلَمَّا فَرَّغَ الشَّيْخُ مِنْ بَيَانِ تَخْرِيجِ الْفُرُوعِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ شَرَعَ فِي جَوَابِ مَا يَرُدُّ نَقْضًا عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ فَقَالَ وَهَذَا يُخَالِفُ أَيْ بَقَاءَ الْمَشْرُوعِيَّةِ مَعَ وُرُودِ النَّهْيِ يُخَالِفُ بَيْعَ الْحُرِّ أَوْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْفُرُوعِ يُخَالِفُ بَيْعَ الْحُرِّ وَالْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ مِنْ حَيْثُ إنَّ النَّهْيَ فِيهَا لَمْ يَقْتَضِ بَقَاءَ الْمَشْرُوعِيَّةِ حَتَّى بَطَلَتْ أَصْلًا وَقَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ فِي الْفُرُوعِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِأَنَّهَا بُيُوعٌ أُضِيفَتْ إلَى غَيْرِ مَحَلِّهَا إذْ الْمَعْدُومُ لَا يَصْلُحُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ وَلَا بُدَّ لِلِانْعِقَادِ مِنْ الْمَحَلِّ فَبَطَلَتْ لِعَدَمِ الْمَحَلِّ وَصَارَ النَّهْيُ عَنْهَا مُسْتَعَارًا لِلنَّفْيِ بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ وَاسْتِعَارَةُ النَّهْيِ لِلنَّفْيِ صَحِيحَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُشَابَهَةِ وَهِيَ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي نَفْسِ الرَّفْعِ فَأَحَدُهُمَا بِرَفْعِ الْأَصْلِ وَالْآخَرُ بِرَفْعِ الصِّفَةِ أَوْ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِبَارَةٌ عَنْ الْعَدَمِ أَوْ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحَرَّمٌ وَلِهَذَا صَحَّتْ اسْتِعَارَةُ النَّفْيِ لِلنَّهْيِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] وَالْمَضَامِينُ مَا تَضَمَّنَتْهُ أَصْلَابُ الْفُحُولِ وَمِنْهُ قَوْلُ

[النكاح بغير شهود]

وَكَذَلِكَ صَوْمُ اللَّيَالِي لِأَنَّ الْوِصَالَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَلَا مُمْكِنٍ وَالنَّهَارُ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ لِشَهْوَةِ الْبَطْنِ غَالِبًا فَتَعَيَّنَ لِلصَّوْمِ تَحْقِيقًا لِلِابْتِلَاءِ فَصَارَ النَّهْيُ مُسْتَعَارًا عَنْ النَّفْيِ. وَلَا يَلْزَمُ النِّكَاحُ بِغَيْرِ شُهُودٍ لِأَنَّهُ مَنْفِيٌّ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» فَكَانَ نَسْخًا وَإِبْطَالًا وَإِنَّمَا يَسْقُطُ الْحَدُّ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ وَالْعِدَّةُ لِشُبْهَةِ الْعَقْدِ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ شُرِعَ لِمِلْكِ ضَرُورِيّ لَا يَنْفَصِلُ عَنْ الْحِلِّ حَتَّى لَمْ يُشْرَعْ مَعَ الْحُرْمَةِ وَمِنْ قَضِيَّةِ النَّهْيِ التَّحْرِيمُ فَبَطَل الْعَقْدُ لِمُضَادَّةٍ ثَبَتَتْ بِمُقْتَضَى النَّهْيِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِمِلْكِ الْعَيْنِ وَالتَّحْرِيمُ لَا يُضَادُّهُ لِأَنَّ الْحِلَّ فِيهِ تَابِعٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ شُرِعَ فِي مَوْضِعِ الْحُرْمَةِ وَفِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْحِلَّ أَصْلًا كَالْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَالْعَبْدِ وَالْبَهَائِمِ وَكَمِلْكِ الْخَمْرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالشَّاعِرِ: إنَّ الْمَضَامِينَ الَّتِي فِي الصُّلْبِ ... مَاءُ الْفُحُولِ فِي الظُّهُورِ الْحُدْبِ جَمْعُ مَضْمُونٍ مِنْ ضَمِنَ الشَّيْءَ بِمَعْنَى تَضَمَّنَهُ يُقَالُ ضَمِنَ كِتَابُهُ كَذَا وَكَانَ مَضْمُونُ كِتَابِهِ كَذَا. وَالْمَلَاقِيحُ مَا فِي الْبُطُونِ مِنْ الْأَجِنَّةِ جَمْعُ مَلْقُوحٍ أَوْ مَلْقُوحَةٍ مِنْ لَقَحَتْ الدَّابَّةُ إذَا حَبِلَتْ وَهُوَ فِعْلٌ لَازِمٌ فَلَا يَجِيءُ اسْمُ الْمَفْعُولِ مِنْهُ إلَّا مَوْصُولًا بِحَرْفِ الْجَرِّ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَعْمَلُوهُ مَحْذُوفَ الْجَارِ وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ بِعْت الْوَلَدَ الَّذِي سَيَحْصُلُ مِنْ هَذَا الْفَحْلِ أَوْ مِنْ هَذِهِ النَّاقَةِ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ فَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ صَوْمُ اللَّيَالِي) أَيْ وَكَبَيْعِ الْحُرِّ وَالْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ صَوْمُ اللَّيَالِي فِي أَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ مَعَ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِأَنَّ الْوِصَالَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَإِنَّ الشَّرْعَ أَخْرَجَ زَمَانَ اللَّيْلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لِلصَّوْمِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ وَقْتًا لَهُ أَصْلًا فَكَانَ النَّهْيُ عَنْهُ بِمَعْنَى النَّفْيِ ثُمَّ صَوْمُ الْفَرْضِ يَتَأَدَّى بِصِيَامِ أَيَّامِ الْوِصَالِ إذَا نَوَاهُ لِأَنَّ الْقُبْحَ فِي الْمُجَاوِرِ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ فِي اللَّيْلِ لَا لِمَعْنًى مُتَّصِلٍ بِوَقْتِ الصَّوْمِ بِخِلَافِ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ لِأَنَّ الْقُبْحَ لِمَعْنًى اتَّصَلَ بِوَقْتِ الصَّوْمِ. قَوْلُهُ (وَلَا مُمْكِنٍ) لِأَنَّ الْآدَمِيَّ لَا يَحْيَى بِدُونِ الْأَكْلِ عَلَى مَا عَلَيْهِ جِبِلَّتُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُعَيِّنَ بَعْضَ الزَّمَانِ لِلصَّوْمِ وَبَعْضَهُ لِلْفِطْرِ فَتَعَيَّنَتْ النُّهُرُ لِلصَّوْمِ لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ يَتَحَقَّقُ فِيهَا لِأَنَّ فِي النَّفْسِ دَاعِيَةٌ إلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَذَلِكَ فِي النَّهَارِ فِي الْعَادَةِ فَيَتَحَقَّقُ خِلَافُ هَوَى النَّفْسِ بِالْإِمْسَاكِ عَنْ الشَّهَوَاتِ فِيهِ، فَأَمَّا الْإِمْسَاكُ فِي اللَّيْلِ فَعَلَى وِفَاقِ هَوَاهَا فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ عَلَى الْكَمَالِ إذْ أَصْلُ بِنَاءِ الْعِبَادَةِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْعَادَةِ لَا عَلَى مُوَافَقَتِهَا وَلَا يُقَالُ بِأَنَّ الْجِمَاعَ يُوجَدُ فِي اللَّيَالِي عَادَةً وَهُوَ إحْدَى الْمُفْطِرَاتِ فَكَانَ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ فِي اللَّيْلِ عَلَى خِلَافِ هَوَى النَّفْسِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ اللَّيْلُ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ أَيْضًا لِأَنَّا نَقُولُ شَهْوَةُ الْفَرْجِ تَابِعَةٌ لِشَهْوَةِ الْبَطْنِ وَلِهَذَا كَانَ الصَّوْمُ وِجَاءً عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ فَلَا يُعْتَبَرُ بِنَفْسِهَا. [النِّكَاحُ بِغَيْرِ شُهُودٍ] قَوْلُهُ (وَلَا يَلْزَمُ النِّكَاحُ بِغَيْرِ شُهُودٍ) أَيْ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ النِّكَاحُ بِغَيْرِ شُهُودٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَشْرُوعًا مَعَ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِدَلِيلِ تَحَقُّقِ حُكْمِ النَّهْيِ فِيهِ وَهُوَ الْحُرْمَةُ وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ حُمِلَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» عَلَى حَقِيقَتِهِ يَلْزَمُ الْخُلْفُ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى النَّهْيِ كَمَا حُمِلَ قَوْله تَعَالَى {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] عَلَيْهِ لِهَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ بَلْ نَقُولُ هُوَ مَنْفِيٌّ فَكَانَ ذَلِكَ إخْبَارًا عَنْ عَدَمِهِ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهَارَةٍ» وَكَقَوْلِك لَا دَخْلَ فِي الدَّارِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ بَقَاءَ الْمَشْرُوعِيَّةِ بَلْ يُوجِبُ انْتِفَاءَ ضَرُورَةِ صِدْقِ الْخَبَرِ وَمَا ذُكِرَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ الْخُلْفُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي النِّكَاحِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ مُنْتَفٍ أَصْلًا وَ. قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا يَسْقُطُ الْحَدُّ) جَوَابُ سُؤَالٍ يَرِدُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَبْقَ مَشْرُوعًا أَصْلًا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْقُطَ الْحَدُّ وَلَا يَثْبُتَ النَّسَبُ وَلَا يَجِبَ الْعِدَّةُ وَالْمَهْرُ فِيهِ لِأَنَّهَا مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ، وَالْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ السَّبَبِ فَقَالَ إنَّمَا يُثْبِتُ هَذِهِ الْأَحْكَامَ لِشُبْهَةِ الْعَقْدِ وَهِيَ وُجُودُ صُورَتِهِ فِي مَحَلِّهِ لَا لِانْعِقَادِ أَصْلِ الْعَقْدِ إذْ الشُّبْهَةُ مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ قَوْلُهُ (وَلِأَنَّ النِّكَاحَ شُرِعَ لِمِلْكٍ ضَرُورِيٍّ) يَعْنِي وَلَئِنْ كَانَ صِيغَتُهُ نَهْيًا لَمْ يَكُنْ الْقَوْلُ بِبَقَاءِ الْمَشْرُوعِيَّةِ وَالْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ وَلَوَجَبَ حَمْلُهَا عَلَى النَّفْيِ وَالنَّسْخِ أَيْضًا لِأَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا يُوجِبُ بَقَاءَ الْمَشْرُوعِيَّةِ فِيمَا أَمْكَنَ إثْبَاتُ مُوجِبِهِ وَهُوَ الْحُرْمَةُ مَعَ

[نكاح المحارم]

وَكَذَلِكَ نِكَاحُ الْمَحَارِمِ مَنْفِيٌّ لِعَدَمِ مَحَلِّهِ فَلَفْظُ النَّهْيِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] مُسْتَعَارٌ عَنْ النَّفْيِ. وَأَمَّا اسْتِيلَاءُ أَهْلِ الْحَرْبِ فَإِنَّمَا صَارَ مَنْهِيًّا بِوَاسِطَةِ الْعِصْمَةِ وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّنَا دُونَ أَهْلِ الْحَرْبِ لِانْقِطَاعِ وِلَايَتِنَا عَنْهُمْ وَلِأَنَّ الْعِصْمَةَ مُتَنَاهِيَةٌ يَتَنَاهَى سَبَبُهَا وَهُوَ الْإِحْرَازُ فَسَقَطَ النَّهْيُ فِي حُكْمِ الدُّنْيَا. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَشْرُوعِيَّةِ لَا فِيمَا لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ وَالنِّكَاحُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لِأَنَّهُ شُرِعَ لِمِلْكٍ ضَرُورِيٍّ لَا يَنْفَصِلُ عَنْ الْحَلِّ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ أَنْ لَا يَكُونَ مَشْرُوعًا لِأَنَّهُ اسْتِيلَاءٌ عَلَى حُرَّةٍ مِثْلِهِ فِي الشَّرَفِ وَالْكَرَامَةِ وَاسْتِرْقَاقٌ لَهَا حُكْمًا مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ وَلَكِنَّهُ إنَّمَا شُرِعَ ضَرُورَةَ بَقَاءِ النَّسْلِ إذَا لَوْ لَمْ يُشْرَعْ لَاجْتَمَعَ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ عَلَى وَجْهِ السِّفَاحِ بِدَاعِيَةِ الشَّهْوَةِ وَفِيهِ مَا لَا يَخْفَى مِنْ الْفَسَادِ فَشُرِعَ النِّكَاحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ لِيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ. وَلِهَذَا سُمِّيَ ذَلِكَ الْمِلْكُ حِلًّا فِي نَفْسِهِ وَلِهَذَا لَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ حَتَّى بَقِيَتْ حُرَّةً مَالِكَةً لِأَجْزَائِهَا وَمَنَافِعِهَا بَعْدَ النِّكَاحِ كَمَا كَانَتْ قَبْلَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ طَرَفَهَا أَوْ آجَرَتْ نَفْسَهَا أَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ كَانَ الْأَرْشُ وَالْأَجْرُ وَالْعُقْرُ لَهَا دُونَ الزَّوْجِ وَإِذَا كَانَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ فِي النِّكَاحِ الْحِلَّ وَمُوجِبُ النَّهْيِ الْحُرْمَةُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ مُوجِبِهِمَا لِتَضَادٍّ بَيْنَهُمَا ثُمَّ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ فَيَنْعَدِمُ الْحِلُّ ضَرُورَةً وَمِنْ ضَرُورَةِ انْعِدَامِهِ خُرُوجُ السَّبَبِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا، لِأَنَّ الْأَسْبَابَ الشَّرْعِيَّةَ تُرَادُ لِأَحْكَامِهَا لَا لِذَوَاتِهَا وَمِنْ ضَرُورَةِ خُرُوجِ السَّبَبِ عَنْ الْمَشْرُوعِيَّةِ صَيْرُورَةُ النَّهْيِ فِيهِ بِمَعْنَى النَّفْيِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا انْعِقَادُ النِّكَاحِ وَبَقَاؤُهُ مَعَ حُرْمَةِ الِاسْتِمْتَاعِ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ وَالِاعْتِكَافِ وَالْحَيْضِ وَكَذَا بَقَاؤُهُ مَعَ الظِّهَارِ الْمُوجِبِ لِلْحُرْمَةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا انْعَقَدَ وَبَقِيَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ لِيَظْهَرَ أَثَرُهُ بَعْدَ زَوَالِ هَذِهِ الْعَوَارِضِ فَإِنَّهَا تَزُولُ لَا مَحَالَةَ فَالْإِحْرَامُ يَنْتَهِي بِضِدِّهِ، وَالْحَيْضُ تَنْتَهِي بِالطُّهْرِ، وَحُرْمَةُ الظِّهَارِ تَزُولُ بِالْكَفَّارَةِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَهُنَاكَ مَانِعٌ حِسِّيٌّ لَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهَا إلَّا بِرَفْعِهِ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ عَنْ صِحَّةِ النِّكَاحِ لِأَنَّ بَعْدَ رَفْعِ الْمَانِعِ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَالْحُرْمَةُ لَيْسَتْ بِمُغَيَّاةٍ إلَى غَايَةٍ يُمْكِنُ إظْهَارُ أَثَرِ النِّكَاحِ بَعْدَ انْتِهَائِهَا فَلَا يَكُونُ فِي الِانْعِقَادِ فَائِدَةٌ أَصْلًا. [نِكَاحُ الْمَحَارِمِ] قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ نِكَاحُ الْمَحَارِمِ مَنْفِيٌّ) أَيْ مَحْمُولٌ عَلَى النَّفْيِ لِعَدَمِ مَحَلِّهِ لِأَنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فِيهِ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْعَيْنِ، وَالْحُرْمَةُ مَتَى أُضِيفَتْ إلَى الْعَيْنِ أَخْرَجَتْهَا عَنْ مَحَلِّيَّةِ الْفِعْلِ لِأَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَكَانَتْ إضَافَةُ الْحُرْمَةِ إلَيْهِنَّ نَفْيًا لِلْحِلِّ لَا نَهْيًا. قَوْلُهُ (مُسْتَعَارٌ عَنْ النَّفْيِ) أَيْ لِلنَّفْيِ يَعْنِي إنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ النِّكَاحِ الْمَذْكُورِ فِي النَّصِّ الْعَقْدَ فَالنَّهْيُ مَحْمُولٌ عَلَى النَّفْيِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْحُرْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالْمُصَاهَرَةِ هِيَ الْحُرْمَةُ الثَّابِتَةُ بِالنَّسَبِ عَلَى أَنْ تَقُومَ الْمُصَاهَرَةُ مَقَامَ النَّسَبِ فَكَانَ تَقْدِيرُهُ وَحَرَّمَتْ عَلَيْكُمْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ فَتَخْرُجُ عَنْ مَحَلِّيَّةِ النِّكَاحِ فَكَانَ النَّهْيُ مَجَازًا بِمَعْنَى النَّفْيِ لَا مَحَالَةَ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْكَرْدَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَرِدُ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] نَقْضًا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لِأَنَّ كَلَامَنَا فِيمَا كَانَ مَشْرُوعًا ثُمَّ صَارَ مَنْهِيًّا عَنْهُ أَيَبْقَى مَشْرُوعًا بَعْدَ النَّهْيِ أَمْ لَا وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَشْرُوعًا أَصْلًا بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا} [النساء: 22] فَلَمْ يَكُنْ مِنْ هَذَا الْبَابِ ثُمَّ مَا ذُكِرَ جَوَابٌ عَنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَرِدُ نَقْضًا عَلَى الْأَصْلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ وَهُوَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْأَفْعَالِ الشَّرْعِيَّةِ يُوجِبُ بَقَاءَ الْمَشْرُوعِيَّةِ. [اسْتِيلَاءُ أَهْلِ الْحَرْبِ] فَلَمَّا فَرَغَ عَنْهُ شَرَعَ فِي جَوَابِ مَا يَرِدُ نَقْضًا عَلَى الْأَصْلِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْمَشْرُوعِيَّةِ عَنْهَا أَصْلًا وَهِيَ أَرْبَعُ مَسَائِلَ فَقَالَ وَأَمَّا اسْتِيلَاءُ أَهْلِ الْحَرْبِ وَوَجْهُ وُرُودِهِ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ فِعْلٌ حِسِّيٌّ وَالنَّهْيُ عَنْ الْفِعْلِ الْحِسِّيِّ يُوجِبُ قُبْحًا فِي عَيْنِهِ وَانْتِفَاءَ الْمَشْرُوعِيَّةِ عَنْهُ وَقَدْ قُلْتُمْ بِخِلَافِهِ حَيْثُ جَعَلْتُمُوهُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ الَّذِي هُوَ نِعْمَةٌ وَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ سَبَبٍ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQمَشْرُوعٍ رِعَايَةً لِلتَّنَاسُبِ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ فَكَانَ هَذَا نَقْضًا لِذَلِكَ الْأَصْلِ. وَتَوْجِيهُ الْجَوَابِ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِذَاتِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اسْتَوْلَى عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ أَوْ عَلَى صَيْدٍ يَصِيرُ مَمْلُوكًا لَهُ بِالْإِجْمَاعِ فَثَبَتَ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِغَيْرِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا عِصْمَةَ الْمَحَلِّ، وَالْعِصْمَةُ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّنَا دُونَ أَهْلِ الْحَرْبِ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَثْبُتُ بِالْخِطَابِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَمْ يَثْبُتْ الْخِطَابُ فِي حَقِّهِمْ لِانْقِطَاعِ وِلَايَةِ التَّبْلِيغِ وَالْإِلْزَامِ فَكَانُوا فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ أَعْنِي ثُبُوتَ الْعِصْمَةِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْخِطَابُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ اسْتِيلَاؤُهُمْ عَلَى هَذَا الْمَالِ وَاسْتِيلَاؤُهُمْ عَلَى الصَّيْدِ سَوَاءٌ وَلَكِنْ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا اسْتِيلَاؤُهُمْ عَلَى رِقَابِنَا فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ تَمَلُّكَهَا بِالِاسْتِيلَاءِ وَيَعْتَقِدُونَ إبَاحَةَ ذَلِكَ وَمَعَ هَذَا لَا يَمْلِكُونَهَا فَلِذَلِكَ ضُمَّ إلَيْهِ دَلِيلًا آخَرَ يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْأَمْوَالِ وَالرِّقَابِ فَقَالَ وَلِأَنَّ الْعِصْمَةَ مُتَنَاهِيَةٌ يَعْنِي وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْعِصْمَةَ ثَابِتَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ إلَّا أَنَّهَا انْتَهَتْ بِانْتِهَاءِ سَبَبِهَا وَهُوَ الْإِحْرَازُ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الشَّيْءِ مُحَرَّمَ التَّعَرُّضِ مُحَصَّنًا لِحَقِّ الشَّرْعِ أَوْ لِحَقِّ الْعَبْدِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْإِحْرَازِ وَهُوَ يَتَحَقَّقُ بِالْيَدِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً بِأَنْ كَانَ فِي تَصَرُّفِهِ أَوْ بِالدَّارِ عَلَى مَا عُرِفَ وَقَدْ انْتَهَى كِلَاهُمَا بِإِحْرَازِهِمْ الْمَأْخُوذَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَيَنْتَهِي الْعِصْمَةُ الثَّانِيَةُ بِهِ كَمَا يَنْتَهِي عِصْمَةُ النَّفْسِ بِانْتِهَاءِ الْإِسْلَامِ وَإِذَا انْتَهَتْ الْعِصْمَةُ بِانْتِهَاءِ سَبَبِهَا سَقَطَ النَّهْيُ وَلَمْ يَبْقَ الِاسْتِيلَاءُ مَحْظُورًا لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِنَاءً عَلَى عِصْمَةِ الْمَحَلِّ وَلَمْ يَبْقَ (فَإِنْ قِيلَ) ابْتِدَاءُ الِاسْتِيلَاءِ وَرَدَ عَلَى مَحَلٍّ مَعْصُومٍ فَيَلْغُو لِعَدَمِ مُصَادَفَتِهِ مَحَلَّهُ فَلَا يَفْسُدُ زَوَالُ الْعِصْمَةِ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَنْ أَخَذَ صَيْدَ الْحَرَمِ وَأَخْرَجَهُ لَا يَمْلِكُهُ وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ يَجِبُ الضَّمَانُ وَإِنْ زَالَتْ عِصْمَةُ الْحَرَمِ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْأَخْذِ لَاقَاهُ وَهُوَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْمِلْكِ. وَكَذَا إذَا اشْتَرَى خَمْرًا فَصَارَتْ خَلًّا لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ وَإِنْ صَارَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ بَعْدَ زَوَالِ الْخَمْرِيَّةِ كَذَلِكَ هَذَا (قُلْنَا) قَدْ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ لِلْفِعْلِ الْمُمْتَدِّ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ كَأَنَّهُ يَحْدُثُ سَاعَةً فَسَاعَةً كَمَا فِي لُبْسِ الْخُفِّ فِي حَقِّ الْمَسْحِ وَلُبْسِ الثَّوْبِ فِي حَقِّ الْحِنْثِ، وَالِاسْتِيلَاءُ فِعْلٌ مُمْتَدٌّ فَصَارَ بَعْدَ الْإِدْخَالِ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَأَنَّهُ اسْتَوْلَى عَلَى مَالٍ غَيْرِ مَعْصُومٍ ابْتِدَاءً فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ كَاسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْمَالِ وَهُوَ مَالُ أَهْلِ الْحَرْبِ وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الصَّيْدِ أَنَّهُ يَمْلِكُ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ عَنْ الْحَرَمِ حَتَّى لَوْ بَاعَ يَجُوزُ بَيْعُهُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ وَلَوْ أَكَلَهُ يَحِلُّ إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ الْإِرْسَالُ وَلَوْ لَمْ يُرْسِلْ يَجِبُ الْجَزَاءُ تَعْظِيمًا لِلْحَرَمِ وَصِيَانَةً لِحُرْمَتِهِ فَإِنَّا لَوْ قُلْنَا بِأَنَّ مَنْ أَخَذَ الصَّيْدَ وَأَخْرَجَهُ لَا يَجِبُ الْإِرْسَالُ وَالْجَزَاءُ يُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى تَفْوِيتِ الْأَمْنِ عَنْ الصَّيْدِ وَإِلَى هَتْكِ حُرْمَةِ الْحَرَمِ فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْبَيْعِ فَلَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُمْتَدٍّ فَإِذَا لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ بَطَلَ أَصْلًا وَهَذَا بِخِلَافِ اسْتِيلَائِهِمْ عَلَى رِقَابِ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ بِحَالٍ لِأَنَّ عِصْمَتَهَا عَنْ الِاسْتِرْقَاقِ ثَبَتَتْ بِالْحُرِّيَّةِ الْمُتَأَكَّدَةِ بِالْإِسْلَامِ وَلَمْ تَنْتَهِ بِالْإِحْرَازِ الْمَوْجُودِ مِنْهُمْ وَبِخِلَافِ مَا إذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ مُسْتَأْمَنًا فَاسْتَوْلَى عَلَى مَالِهِ مُسْلِمٌ حَيْثُ لَا يَمْلِكُهُ وَإِنْ لَمْ تَبْقَ الْعِصْمَةُ بِزَوَالِ الْيَدِ وَالدَّارِ جَمِيعًا، وَتَحَقَّقَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى مَالٍ غَيْرِ مَعْصُومٍ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ لَمْ يَتِمَّ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتِمُّ بِالْإِحْرَازِ وَالْمُسْلِمُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ وَمَالَهُ بِدَارِهِمْ بَلْ يَدْخُلُهَا عَلَى سَبِيلِ الْعَارِيَّةِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَهْلِ

[الملك بالغصب]

وَأَمَّا الْمِلْكُ بِالْغَصْبِ فَلَا يَثْبُتُ مَقْصُودًا بِهِ بَلْ شَرْطًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ الضَّمَانُ لِأَنَّهُ شُرِعَ جَبْرًا وَلَا جَبْرَ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ عَلَى مِلْكِهِ إذْ الْجَبْرُ يَعْتَمِدُ الْفَوَاتَ ـــــــــــــــــــــــــــــQدَارِ الْإِسْلَامِ حَيْثُمَا كَانَ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَحَقِيقَةُ الْخِلَافِ أَنَّ عِصْمَةَ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ يَثْبُتُ بِالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ أَمْ بِمُجَرَّدِ الْإِسْلَامِ فَعِنْدَنَا تَثْبُتُ بِالْإِحْرَازِ وَعِنْدَهُ تَثْبُتُ بِالْإِسْلَامِ أَوْ بِمَا يَخْلُفُهُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَهُوَ عَقْدُ الذِّمَّةِ وَقَدْ عُرِفَ تَحْقِيقُهُ فِي مَوْضِعِهِ ثُمَّ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمَّا زَالَ الْعَاصِمُ وَهُوَ الْإِحْرَازُ بِالدَّارِ بَطَلَتْ الْعِصْمَةُ فَيُمْلَكُ بِالِاسْتِيلَاءِ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ عَلَى مَالِ غَيْرِ مَعْصُومٍ لَيْسَ بِمَحْظُورٍ فَيَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ وَعِنْدَهُ لَمَّا بَقِيَ الْعَاصِمُ وَهُوَ إسْلَامُ الْمَالِكِ لَمْ تَزُلْ الْعِصْمَةُ فَلَا يُمْلَكُ بِالِاسْتِيلَاءِ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ الَّذِي هُوَ نِعْمَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْمِلْكُ بِالْغَصْبِ] قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْمِلْكُ بِالْغَصْبِ) إلَى آخِرِهِ جَوَابٌ عَنْ نَقْضٍ آخَرَ يَرِدُ عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ أَيْضًا وَوَجْهُ وُرُودِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الِاسْتِيلَاءِ وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا قَالُوا سَبَبُ الْمِلْكِ فِي الْمَغْصُوبِ لِلْغَاصِبِ تَقَرُّرُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ كَيْ لَا يَجْتَمِعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ وَلَكِنَّ هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَنَا يَثْبُتُ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ وَلِهَذَا نَفَذَ بَيْعُ الْغَاصِبِ وَسُلِّمَ الْكَسْبُ لَهُ وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْغَصْبُ هُوَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْمِلْكِ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ وَهَذَا أَيْضًا وَهْمٌ فَإِنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ لِلْغَاصِبِ حَقِيقَةً وَلِهَذَا لَا يُسَلَّمُ لَهُ الْوَلَدُ وَلَوْ كَانَ الْغَصْبُ هُوَ السَّبَبَ لِلْمِلْكِ لَكَانَ إذَا تَمَّ لَهُ الْمِلْكُ بِذَلِكَ السَّبَبِ يَمْلِكُ الزَّوَائِدَ الْمُتَّصِلَةَ وَالْمُنْفَصِلَةَ كَالْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ إذَا تَمَّ بِالْإِجَازَةِ يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِزَوَائِدِهِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ. وَمَعَ هَذَا فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ بَعْضُ الشُّنْعَةِ لِأَنَّ الْغَصْبَ عُدْوَانٌ مَحْضٌ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَالْأَسْلَمُ أَنْ يُقَالَ الْغَصْبُ يُوجِبُ رَدَّ الْعَيْنِ وَرَدَّ الْقِيمَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ بِطَرِيقِ الْجَبْرِ مَقْصُودًا بِهَذَا السَّبَبِ ثُمَّ يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِهِ لِلْغَاصِبِ شَرْطًا لِلْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ لَا حُكْمًا ثَابِتًا بِالْغَصْبِ مَقْصُودًا وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْوَلَدَ لِأَنَّ الْمِلْكَ كَانَ شَرْطًا لِلْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ وَالْوَلَدُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْقِيمَةِ وَهُوَ بَعْدَ الِانْفِصَالِ لَيْسَ بِتَبَعٍ فَلَا يَثْبُتُ هَذَا الْحُكْمُ فِيهِ بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ فَإِنَّهَا تَبَعٌ مَحْضٌ وَالْكَسْبُ كَذَلِكَ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ فَيَكُونُ تَبَعًا مَحْضًا وَثُبُوتُهُ فِي الْبَيْعِ بِثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ سَوَاءٌ ثَبَتَ فِي الْمَتْبُوعِ مَقْصُودًا بِسَبَبِهِ أَوْ شَرْطًا لِغَيْرِهِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَلَا بُدَّ مِنْ كَشْفِ سِرِّ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ الْيَدِ الْفَائِتَةِ أَمْ بِمُقَابَلَةِ الْعَيْنِ فَعِنْدَنَا يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ الْعَيْنِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ الْيَدِ قَالَ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ بِالْغَصْبِ مَا فَاتَ بِالْغَصْبِ وَهُوَ الْيَدُ فَكَانَ شَرْعُ الضَّمَانِ لِجَبْرِ مَا ذَكَرْنَا مَا فَاتَ عَلَى الْمَالِكِ لِأَنَّهُ ضَمَانُ جَبْرٍ بِالِاتِّفَاقِ لَا بِإِزَاءِ مَا هُوَ قَائِمٌ لِيَفُوتَ وَإِذَا كَانَ الضَّمَانُ لِجَبْرِ مَا ذَكَرْنَا بَقِيَ الْمِلْكُ فِي الْمَغْصُوبِ كَمَا كَانَ. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ الْمِلْكُ فِي الضَّمَانِ لِلْمَالِكِ يَدًا لَا ذَاتًا عَلَى مِثَالِ الْمَضْمُونِ لَكِنَّ إثْبَاتَ يَدِ الْمِلْكِ بِدُونِ مِلْكِ الذَّاتِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَإِنَّ الْيَدَ كَانَتْ ثَابِتَةً عَلَى وَجْهٍ يَتَمَكَّنُ بِهَا مِنْ الِانْتِفَاعِ وَهَذَا بِدُونِ مِلْكِ الذَّاتِ لَا يُتَصَوَّرُ فَأَثْبَتْنَا الْمِلْكَ فِي الذَّاتِ ضَرُورَةَ تَحَقُّقِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الْفَائِتِ وَالْجَابِرِ وَمَا ثَبَتَ ضَرُورَةً غَيْرُهُ كَانَ عَدَمًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَغْصُوبَ إذَا كَانَ مُدَبَّرًا وَتَعَذَّرَ رَدُّهُ وَجَبَ الضَّمَانُ مُقَابَلًا بِالْيَدِ بِالِاتِّفَاقِ وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ ضَرُورَةَ تَحَقُّقِ الْمُمَاثَلَةِ وَفَصْلُ الْمُدَبَّرِ يُوَضِّحُ أَنَّ الضَّمَانَ بِمُقَابَلَةِ الْيَدِ إذْ لَوْ كَانَ بَدَلًا عَنْ الْعَيْنِ وَكَانَ مِنْ شَرْطِ الْقَضَاءِ بِهِ زَوَالُ مِلْكِ الْمَالِكِ عَنْ الْعَيْنِ لَمَّا قَضَى الْقَاضِي بِهِ فِي مَحَلِّهِ لَا يَتَحَقَّقُ هَذَا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQالشَّرْطُ وَإِنْ تَمَّ بِقَضَاءٍ بِالْقَاضِي يَنْبَغِي أَنْ يَزُولَ مِلْكُهُ عَنْ الْمُدَبَّرِ كَمَا لَوْ قَضَى بِجَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الضَّمَانَ بِمُقَابَلَةِ قَطْعِ الْيَدِ لَمْ تَقَعْ الْحَاجَةُ إلَى إزَالَةِ مِلْكِ الْعَيْنِ عَنْ الْمَالِكِ إلَى الْغَاصِبِ كَمَا فِي الْمُدَبَّرِ إذَا لَيْسَ فِيهِ اجْتِمَاعُ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ «قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الشَّاةِ الْمَغْصُوبَةِ الْمَصْلِيَّةِ أَطْعِمُوهَا الْأَسَارَى» فَقَدْ أَمَرَهُمْ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا وَلَوْ لَمْ يَمْلِكُوهَا لَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ بِمِلْكِ الْغَيْرِ إذَا كَانَ مَالِكُهَا مَعْلُومًا لَا يَجُوزُ وَلَكِنْ يَحْفَظُ عَلَيْهِ عَيْنَ مِلْكِهِ فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ يُبَاعُ فَيُحْفَظُ عَلَيْهِ ثَمَنُهُ وَلِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَمَقْصُودُ صَاحِبِ الدَّرَاهِمِ مَثَلًا عَيْنُ الدَّرَاهِمِ لَا امْتِلَاءُ كِيسِهِ وَيَدِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تُقَوَّمُ الْعَيْنُ بِهِ وَيُسَمَّى الْوَاجِبُ قِيمَةَ الْعَيْنِ لَا قِيمَةَ الْيَدِ وَيَتَقَدَّرُ بِمَالِيَّةِ الْعَيْنِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَلَّفَ عَنْ الضَّمَانِ الْأَصْلِيِّ بِالْغَصْبِ، وَالْمَضْمُونُ الْأَصْلِيُّ هُوَ الْمَالُ الْمَغْصُوبُ بِعَيْنِهِ بِالْإِجْمَاعِ وَعَلَيْهِ رَدُّهُ إلَى مَالِكِهِ لِيَخْرُجَ عَنْ الضَّمَانِ الْأَصْلِيِّ بِالْغَصْبِ فَكَذَا الْخُلْفُ يَكُونُ خُلْفًا عَنْ ذَلِكَ الْمَضْمُونِ وَهُوَ الْمَالُ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ إلَى مَا ذَكَرَهُ الْخَصْمُ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ هَذَا كَمَا لَا يُقْضَى بِالْقِيمَةِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ يَمِينِ الْمَغْصُوبِ وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا قَالَهُ الْخَصْمُ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمُتَقَوِّمَ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ مَعَ إمْكَانِ جَعْلِهِ بَدَلًا عَنْ الْمُتَقَوِّمِ وَلَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ وَنَحْنُ جَعَلْنَاهُ بَدَلًا عَمَّا هُوَ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْوَاجِبَ بَدَلُ الْعَيْنِ وَإِنَّمَا يَجِبُ بِطَرِيقِ الْجَبْرِ بِالْإِنْفَاقِ، وَالْجَبْرُ يَسْتَدْعِي الْفَوَاتَ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجْبُرُ الْفَائِتَ دُونَ الْقَائِمِ كَانَ مِنْ ضَرُورَةِ الْقَضَاءِ بِقِيمَةِ الْعَيْنِ انْعِدَامُ مِلْكِهِ فِي الْعَيْنِ لِيَكُونَ جَبْرًا لِمَا فَاتَ وَلِتَتَحَقَّقَ الْمُمَاثَلَةُ الَّتِي هِيَ شَرْطُ ضَمَانِ الْعُدْوَانِ وَمَا لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ إلَّا بِشَرْطٍ فَإِذَا وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى إثْبَاتِهِ يُقَدَّمُ شَرْطُهُ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ كَمَا فِي قَوْلِهِ اعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَعْتَقَهُ يُقَدَّمُ التَّمْلِيكُ مِنْهُ عَلَى نُفُوذِ الْعِتْقِ عَنْهُ ضَرُورَةَ كَوْنِهِ شَرْطًا فِي الْمَحَلِّ لَا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ أَعْتِقْهُ عَنِّي سَبَبًا لِلتَّمْلِيكِ مَقْصُودًا وَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّا نُثْبِتُ بِالْعُدْوَانِ الْمَحْضِ مَا هُوَ حَسَنٌ مَشْرُوعٌ بِهِ وَهُوَ الْقَضَاءُ بِالْقِيمَةِ جَبْرًا لِحَقِّهِ فِي الْفَائِتِ ثُمَّ انْعِدَامُ الْمِلْكِ فِي الْعَيْنِ لَمَّا كَانَ مِنْ شَرْطِ هَذَا الْمَشْرُوعِ يَثْبُتُ بِهِ فَيَكُونُ حَسَنًا بِحُسْنِهِ. وَصَحَّ الْأَمْرُ بِإِيجَابِ الْبَدَلِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ شَرْطُهُ بَعْدُ وَهُوَ عَدَمُ مِلْكِ الْأَصْلِ إذَا كَانَ الشَّرْطُ مِمَّا يَثْبُتُ بِالِائْتِمَارِ بِهِ مُقْتَضًى كَالْأَمْرِ بِالْإِعْتَاقِ صَحَّ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ مِلْكُ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَثْبُتُ مُقْتَضَى الِائْتِمَارِ بِهِ فَإِذَا أَعْتَقَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِالشِّرَاءِ أَوَّلًا ثُمَّ الْعِتْقُ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِالشِّرَاءِ ثُمَّ أَمَرَ بِالْإِعْتَاقِ فَكَذَا هَهُنَا يَزُولُ مِلْكُ الْأَصْلِ أَوَّلًا مُقْتَضًى بِهِ ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِلْكُ الْبَدَلِ كَمَا لَوْ أَتَى بِمَا يَنُصُّ عَلَى الْإِزَالَةِ مِنْ ضَمَانِ بَيْعٍ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْغَصْبَ مُوجِبٌ لِلْمِلْكِ فِي الْبَدَلَيْنِ كَالْبَيْعِ إلَّا أَنَّهُ أَوْجَبَ اقْتِضَاءً وَالشِّرَاءَ نَصًّا (فَإِنْ قِيلَ) قَدْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ بَدَلُ الْعَيْنِ إلَّا أَنَّهُ بَدَلُ خِلَافَةٍ لَا بَدَلُ مُقَابَلَةٍ لِأَنَّ فِي بَدَلِ الْمُقَابَلَةِ قِيَامَ الْمُبْدَلِ شَرْطٌ كَالثَّمَنِ مَعَ الْمُثْمَنِ لِيُقَابِلَ بِهِ الْبَدَلَ، وَفِي بَدَلِ الْخِلَافَةِ الشَّرْطُ عَدَمُ الْأَصْلِ لِيَقُومَ الْخَلَفُ مَقَامَهُ كَالتَّيَمُّمِ مَعَ الْوُضُوءِ وَالِاعْتِدَادِ بِالْأَشْهُرِ مَعَ الِاعْتِدَادِ بِالْأَقْرَاءِ ثُمَّ هَهُنَا عَدَمُ الْأَصْلِ شَرْطٌ فَعُلِمَ أَنَّهُ بَدَلُ خِلَافَةٍ وَفِي بَدَلِ الْخِلَافَةِ إذَا ثَبَتَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ سَقَطَ حُكْمُ الْخَلَفِ كَالْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ إذَا حَصَلَتْ أَسْقَطَتْ

[الزنا لا يوجب حرمة المصاهرة أصلا بنفسه]

وَشَرْطُ الْحُكْمِ تَابِعٌ لَهُ فَصَارَ حَسَنًا لِحُسْنِهِ وَإِنَّمَا قَبُحَ لَوْ كَانَ مَقْصُودًا بِهِ وَفِي ضَمَانِ الْمُدَبَّرِ قُلْنَا بِزَوَالِ الْمُدَبَّرِ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى لِكَوْنِهِ مَالًا مَمْلُوكًا تَحْقِيقًا لِشَرْطِ الْمَشْرُوعِ وَهُوَ وُجُوبُ الضَّمَانِ وَلَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي صِيَانَةً لِحَقِّهِ وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْمُدَبَّرِ جُعِلَ مُقَابَلًا بِالْفَائِتِ وَهُوَ الْيَدُ دُونَ الرَّقَبَةِ وَهَذَا طَرِيقٌ جَائِزٌ لَكِنْ لَا يُصَارُ إلَيْهِ عَنْ الْمُقَابَلَةِ بِالرَّقَبَةِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ وَالضَّرُورَةِ فَالطَّرِيقُ الْأَوَّلُ وَاجِبٌ وَهَذَا جَائِزٌ. وَأَمَّا الزِّنَا فَلَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ أَصْلًا بِنَفْسِهِ إنَّمَا هُوَ سَبَبٌ لِلْمَاءِ وَالْمَاءُ سَبَبٌ لِلْوَلَدِ وُجُودًا ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّيَمُّمَ فَهَهُنَا إذَا عَادَ الْعَبْدُ مِنْ الْإِبَاقِ جَاءَتْ الْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ اعْتِبَارُ الْخَلَفِ (قُلْنَا) نَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّهُ بَدَلُ خِلَافَةٍ وَلَكِنَّا نَحْتَاجُ إلَى إزَالَةِ الْأَصْلِ عَنْ مِلْكِهِ حَالَ مَا يَقْضِي الْقَاضِي بِإِدْخَالِ الْبَدَلِ فِي مِلْكِهِ احْتِرَازًا عَنْ اجْتِمَاعِ الْبَدَلِ وَالْمَبْدُولِ فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ فَإِذَا دَخَلَ الْبَدَلُ فِي مِلْكِهِ وَزَالَ الْأَصْلُ عَنْ مِلْكِهِ وَوَقَعَ الْفَرَاغُ عَنْهُ لَا يُلْتَفَتُ إلَى حُصُولِ الْقُدْرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ فَلَا يُوجِبُ سُقُوطَ اعْتِبَارِ الْبَدَلِ كَمَنْ تَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْمَاءِ قَوْلُهُ. (وَشَرْطُ الشَّيْءِ تَابِعٌ لَهُ) لِأَنَّهُ يَثْبُتُ لِتَصْحِيحِ الْغَيْرِ لَا أَنْ يَثْبُتَ مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ وَلِهَذَا يَثْبُتُ بِثُبُوتِ الْمَشْرُوطِ وَيَسْقُطُ بِسُقُوطِهِ كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ (فَصَارَ) أَيْ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْغَاصِبِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ (حَسَنًا بِحُسْنِهِ) أَيْ بِحُسْنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي هُوَ مَشْرُوطُهُ وَهُوَ الضَّمَانُ وَإِنْ قَبُحَ أَنْ لَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْغَاصِبِ مَقْصُودًا بِالْغَصْبِ ثُمَّ أَجَابَ الشَّيْخُ عَنْ فَصْلِ الْمُدَبَّرِ بِوَجْهَيْنِ تَقْرِيرُ الْأَوَّلِ أَنَّا نَقُولُ فِي فَصْلِ الْمُدَبَّرِ بِزَوَالِهِ عَنْ مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بَعْدَ تَقَرُّرِ حَقِّهِ فِي الْقِيمَةِ تَحْقِيقًا لِشَرْطِ الْمَشْرُوعِ وَهُوَ الضَّمَانُ وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يَظْهَرْ الْمُدَبَّرُ بَعْدَ ذَلِكَ وَظَهَرَ لَهُ كَسْبٌ كَانَ لِلْغَاصِبِ دُونَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَلَكِنْ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْغَاصِبِ صِيَانَةً لِحَقِّ الْمُدَبَّرِ فَإِنَّ حَقَّ الْعِتْقِ ثَبَتَ لَهُ بِالتَّدْبِيرِ، وَالْمِلْكُ فِي الْمُدَبَّرِ يَحْتَمِلُ الزَّوَالَ وَلَكِنْ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ، وَالزَّوَالُ كَافٍ لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ فَيَثْبُتُ هَذَا الْقَدْرُ وَنَظِيرُهُ الْوَقْفُ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ وَلَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ (فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي) أَرَادَ بِهِ الْغَاصِبَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ وَتَقْدِيرُ الثَّانِي أَنَّ فِي الْمُدَبَّرِ الْقِيمَةَ لَيْسَتْ بِبَدَلٍ عَنْ الْعَيْنِ لِأَنَّ مَا هُوَ شَرْطُهُ وَهُوَ انْعِدَامُ الْمِلْكِ فِي الْعَيْنِ مُتَعَذِّرٌ فِي الْمُدَبَّرِ فَيُجْعَلُ هَذَا خَلَفًا عَنْ النُّقْصَانِ الَّذِي حَلَّ بِيَدِهِ وَلَكِنْ هَذَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَفِي كُلِّ مَحَلٍّ يُمْكِنُ إيجَادُ الشَّرْطِ فِيهِ لَا يَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ فَيُجْعَلُ بَدَلًا عَنْ الْعَيْنِ وَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَادُ الشَّرْطِ يُجْعَلُ خَلَفًا عَنْ النُّقْصَانِ الَّذِي حَلَّ بِيَدِهِ وَنَظِيرُهُ فَصْلَانِ أَحَدُهُمَا ضَمَانُ الْعِتْقِ فَإِنَّهُ بِمُقَابَلَةِ الْعَيْنِ فِي كُلِّ مَحَلٍّ يَحْتَمِلُ إيجَادَ شَرْطِهِ وَهُوَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ وَفِيمَا لَا يَحْتَمِلُ إيجَادَ الشَّرْطِ كَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ عِنْدَهُمْ لَا يُجْعَلُ بَدَلًا عَنْ الْعَيْنِ وَكَذَلِكَ ضَمَانُ الصُّلْحِ فَإِنَّهُ إذَا أَخَذَ الْقِيمَةَ بِالتَّرَضِّي كَانَ الْمَأْخُوذُ بَدَلًا عَنْ الْعَيْنِ فِي كُلِّ مَحَلٍّ يَحْتَمِلُ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ وَفِي كُلِّ مَحَلٍّ لَا يَحْتَمِلُ تَمْلِيكَ الْعَيْنِ بِجَعْلِ الْمَأْخُوذِ بِمُقَابَلَةِ الْجِنَايَةِ الَّتِي حَلَّتْ بِيَدِهِ فَكَذَلِكَ إذَا أَخَذَ الْقِيمَةَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. قَوْلُهُ (فَالطَّرِيقُ الْأَوَّلُ) أَيْ جَعْلُ الضَّمَانِ مُقَابَلًا بِالْعَيْنِ (وَاجِبٌ) أَيْ ثَابِتٌ مُتَقَرِّرٌ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ (وَهَذَا) أَيْ جَعْلُهُ مُقَابَلًا بِقَطْعِ الْيَدِ (جَائِزٌ) أَيْ مُمْكِنٌ مُحْتَمَلٌ يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَالْمَجَازِ مَعَ الْحَقِيقَةِ لَا يَتْرُكُ الْحَقِيقَةَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَيُصَارُ إلَى الْمَجَازِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. [الزِّنَا لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ أَصْلًا بِنَفْسِهِ] قَوْلُهُ (وَأَمَّا الزِّنَا فَلَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ أَصْلًا) وَهَذَا يَرِدُ نَقْضًا عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ أَيْضًا بِالطَّرِيقِ الَّذِي مَرَّ ذِكْرُهُ فَقَالَ نَحْنُ لَا نُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ بِالزِّنَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ زِنًا وَلَكِنَّا جَعَلْنَاهُ مُوجِبًا لِهَذِهِ الْحُرْمَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَبَبٌ لِلْمَاءِ كَالْوَطْءِ الْحَلَالِ وَالْمَاءُ سَبَبٌ لِوُجُودِ الْوَلَدِ الَّذِي هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْكَرَامَاتِ وَالْحُرُمَاتِ. وَبَيَانُهُ أَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْحُرْمَةِ فِي الْوَطْءِ الْحَلَالِ لَيْسَ لِعَيْنِ الْمِلْكِ وَلَكِنْ لِمَعْنَى الْبَعْضِيَّةِ وَهُوَ أَنَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQمَاءَ الرَّجُلِ يَخْتَلِطُ بِمَاءِ الْمَرْأَةِ فِي الرَّحِمِ وَيَصِيرَانِ شَيْئًا وَاحِدًا وَيَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْإِنْسَانِ يَعْتِقُ وَيُوصَى لَهُ وَيَرِثُ وَبَيْنَ الْوَاطِئِ وَالْمَاءِ بَعْضِيَّةٌ وَكَذَا بَيْنَ الْمَوْطُوءَةِ وَهَذَا الْمَاءِ فَيَصِيرُ بَعْضُهَا مُخْتَلِطًا بِبَعْضِهِ فَيَثْبُتُ حُكْمُ الْبَعْضِيَّةِ الَّتِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ أُمَّهَاتِهَا وَبَنَاتِهَا، وَالْبَعْضِيَّةُ الَّتِي بَيْنَ الْوَاطِئِ وَآبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ لِذَلِكَ الْمَاءِ الَّذِي هُوَ بَعْضُهَا وَإِذَا ثَبَتَ لِلْمَاءِ وَالْمَاءُ بَعْضُهُمَا تَعَدَّتْ الْبَعْضِيَّةُ إلَيْهِمَا ثُمَّ لَمَّا صَارَ هَذَا الْمَاءُ إنْسَانًا اسْتَحَقَّ سَائِرَ كَرَامَاتِ الْبَشَرِ وَمِنْ جُمْلَتِهَا حُرْمَةُ الْمَحَارِمِ فَيَثْبُتُ الْحُرْمَةُ فِي حَقِّهِ لِلْبَعْضِيَّةِ أَعْنِي تَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمَّهَاتُ الْمَوْطُوءَةِ وَبَنَاتُهَا وَأَبَاءُ الْوَاطِئِ وَأَبْنَاؤُهُ لِلْبَعْضِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَعَدَّى مِنْهُ هَذِهِ الْحُرْمَةَ إلَى الطَّرَفَيْنِ لِتَعَدِّي الْبَعْضِيَّةِ مِنْهُ إلَيْهِمَا أَيْ يَتَعَدَّى حُرْمَةَ آبَاءِ الْوَاطِئِ وَأَبْنَائِهِ مِنْ الْوَلَدِ إلَى الْمَرْأَةِ وَحُرْمَةَ أُمَّهَاتِ الْمَوْطُوءَةِ وَبَنَاتِهَا مِنْهُ إلَى الرَّجُلِ لِصَيْرُورَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بَعْضًا لِلْآخَرِ بِوَاسِطَتِهِ لِأَنَّ جُزْأَهُ صَارَ جُزْءًا مِنْهَا إذْ الْوَلَدُ مُضَافٌ بِكَمَالِهِ إلَيْهَا وَجُزْؤُهَا صَارَ جُزْءًا مِنْهُ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إلَيْهِ بِتَمَامِهِ أَيْضًا فَصَارَ الْوَلَدُ عَلَى هَذَا التَّحْقِيقِ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ بَيْنَهُمَا بِالْبَعْضِيَّةِ الَّتِي تَحْدُثُ بَيْنَهُمَا بِوَاسِطَتِهِ حُكْمًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى تَعْلِيلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ بِهِ حَيْثُ قَالَ كَيْفَ تَبِيعُونَهُنَّ وَقَدْ اخْتَلَطَتْ لُحُومُكُمْ بِلُحُومِهِنَّ وَدِمَاؤُكُمْ بِدِمَائِهِنَّ ثُمَّ أُقِيمَ الْوَطْءُ مَقَامَ الْوَلَدِ لِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى حَقِيقَةِ الْعُلُوقِ مُتَعَذِّرٌ وَهُوَ سَبَبٌ ظَاهِرٌ مُفْضٍ إلَيْهِ فَأُقِيمَ مَقَامَهُ وَجُعِلَ الْوَلَدُ كَالْحَاصِلِ تَقْدِيرًا وَاعْتِبَارًا لِلِاحْتِيَاطِ وَكَمَا أَنَّ الْوَطْءَ الْحَلَالَ مُفْضٍ إلَيْهِ فَكَذَا الْحَرَامُ مُفْضٍ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمَا فِي الْإِفْضَاءِ إلَيْهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ أَيْضًا، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُثْبِتَ الْحُرْمَةَ بَيْنَ الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَارَ بَعْضًا لِلْآخَرِ وَالِاسْتِمْتَاعُ بِالْبَعْضِ حَرَامٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] وَبِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نَاكِحُ الْيَدِ مَلْعُونٌ» إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ فِي حَقِّ الْمَوْطُوءَةِ ضَرُورَةَ إقَامَةِ النَّسْلِ كَمَا سَقَطَتْ حَقِيقَةُ الْبَعْضِيَّةِ فِي حَقِّ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِهَذَا الْمَعْنَى حَتَّى حَلَّتْ حَوَّاءُ لِآدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَدْ خُلِقَتْ مِنْهُ حَقِيقَةً، وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ بِنْتُهُ ثُمَّ هَذِهِ الْبَعْضِيَّةُ لَا يَخْتَلِفُ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ فَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْحُرْمَةِ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ هَذِهِ الْبَعْضِيَّةِ بِالْمَحَلِّ فَإِنَّ إلْقَاءَ الْبَذْرِ إنَّمَا يَكُونُ حَرْثًا فِي الْمَحَلِّ الَّذِي خُلِقَ مَنْبَتًا لَهُ وَذَلِكَ النِّسَاءُ لَا الرِّجَالُ إلَّا أَنَّ إتْيَانَ دُبُرِ الْمَرْأَةِ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ عِنْدَنَا لِمَعْنَى الْمِسَاسِ عَنْ شَهْوَةٍ وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْوَطْءِ الَّذِي هُوَ حَرْثٌ مِنْ النِّسَاءِ وَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الرَّجُلِ سَبَبًا لِوَطْءٍ هُوَ حَرْثٌ وَالْبَعْضِيَّةُ فِي الْحَرْثِ فَمَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ لَا يَكُونُ عِلَّةً لِلْحُرْمَةِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ. فَلِهَذَا قُلْنَا لَا تَثْبُت الْحُرْمَةُ بِاللِّوَاطَةِ وَلَا بِوَطْءِ الْمَيْتَةِ وَلَا بِوَطْءِ الصَّغِيرَةِ وَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ زِنًا مُوجِبٌ لِلْحَدِّ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْكَرَامَةِ كَمَا قَالَ وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ حَرْثٌ لِلْوَلَدِ وَهُوَ مُبَاحٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلْحُرْمَةِ، وَالْكَرَامَةُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ حَرْثٌ فَيَكُونُ هَذِهِ الْحُرْمَةُ مُضَافَةً إلَى مَا هُوَ مُبَاحٌ لَا إلَى مَا هُوَ مَحْظُورٌ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي جَانِبِهَا الْفِعْلَ زِنًا تُرْجِمَ عَلَيْهِ وَإِذَا حَبِلَتْ بِهِ كَانَ لِذَلِكَ الْوَلَدِ مِنْ الْحُرْمَةِ مَا لِغَيْرِهِ مِنْ بَنِي آدَمَ وَيَكُونُ نَسَبُهُ ثَابِتًا مِنْهَا وَتَحْرُمُ هِيَ عَلَيْهِ وَيُتَوَقَّفُ فِي رَجْمِ الْأُمِّ إلَى أَنْ تَلِدَ وَيَنْقَطِعَ الرَّضَاعُ وَثُبُوتُ هَذَا كُلِّهِ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ لِأَنَّهُ حَرْثٌ لَا لِأَنَّهُ

وَالْوَلَدُ هُوَ الْأَصْلُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحُرُمَاتِ وَلَا عِصْيَانَ وَلَا عُدْوَانَ فِيهِ ثُمَّ يَتَعَدَّى مِنْهُ إلَى أَطْرَافِهِ وَيَتَعَدَّى مِنْهُ إلَى أَسْبَابِهِ وَمَا يُعْمَلُ لِقِيَامِهِ مَقَامَ غَيْرِهِ فَإِنَّمَا يُعْمَلُ بِعِلَّةِ الْأَصْلِ أَلَا تَرَى أَنَّ التُّرَابَ لَمَّا قَامَ مَقَامَ الْمَاءِ نُظِرَ إلَى كَوْنِ الْمَاءِ مُطَهِّرًا وَسَقَطَ وَصْفُ التُّرَابِ فَكَذَلِكَ يُهْدَرُ وَصْفُ الزِّنَا بِالْحُرْمَةِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ مَا لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ فِي إيجَابِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQزِنًا فَكَذَلِكَ هَهُنَا وَإِنَّمَا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْ جَانِبِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الِانْتِسَابِ التَّشَرُّفُ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزَّانِي (فَإِنْ قِيلَ) فَعَلَى مَا ذَكَرْتُمْ يَكُونُ الزِّنَا مَحْظُورًا مِنْ وَجْهٍ مُبَاحًا مِنْ وَجْهٍ وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا وَجَبَ بِهِ الْحَدُّ كَمَا فِي الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ (قُلْنَا) هَذَا الْفِعْلُ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ زِنًا مَحْظُورٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَكِنْ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ سَبَبًا لِلْبَعْضِيَّةِ لَيْسَ بِمَحْظُورٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ لِلْفِعْلِ جِهَتَانِ إحْدَاهُمَا مَشْرُوعٌ وَالْأُخْرَى مَحْظُورٌ كَمَا مَرَّ، فَوُجُوبُ الْحَدِّ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ زِنًا وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ هُوَ مَحْظُورٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَثُبُوتُ وَصْفٍ آخَرَ لِأَصْلِ الْفِعْلِ لَا يَقْدَحُ فِي الْفِعْلِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ زِنًا لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ فِيهِ مِلْكًا وَلَا شُبْهَةً فَلَا يُوقِعُ خَلَلًا فِيمَا هُوَ سَبَبٌ لِلْحَدِّ فَيَجِبُ الْحَدُّ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الشَّرْعُ أَعْرَضَ عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ فِي بَابِ الْحَدِّ لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ عَنْهَا. وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا قَالُوا الْحُرْمَةُ تَثْبُتُ هَهُنَا بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ كَمَا يَثْبُتُ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ عُقُوبَةً وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَقُولُونَ الْمَحْرَمِيَّةُ لَا تَثْبُتُ حَتَّى لَا تُبَاحَ الْخَلْوَةُ وَالْمُسَافَرَةُ وَلَكِنَّ هَذَا فَاسِدٌ فَإِنَّ التَّعْلِيلَ لِتَعْدِيَةِ حُكْمِ النَّصِّ لَا لِإِثْبَاتِ حُكْمٍ آخَرَ سِوَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَإِنَّ ابْتِدَاءَ الْحُكْمِ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِالتَّعْلِيلِ، وَالْمَنْصُوصُ حُرْمَةٌ ثَابِتَةٌ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ فَإِنَّمَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ لِتَعْدِيَةِ تِلْكَ الْحُرْمَةِ إلَى الْفُرُوعِ لَا لِإِثْبَاتِ حُرْمَةٍ أُخْرَى كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ قُلْت وَإِنَّمَا اخْتَارَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا هَذَا الطَّرِيقَ لِأَنَّ ثُبُوتَ هَذِهِ الْحُرْمَةِ لِمَا كَانَ بِطَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ فِي إثْبَاتِ حُرْمَةِ الْمُنَاكَحَةِ وَالْمُسَافَرَةِ وَالْخَلْوَةِ جَمِيعًا كَمَا قَالُوا فِيمَا إذَا كَانَ الرَّضَاعُ ثَابِتًا غَيْرَ مَشْهُورٍ بَيْنَ النَّاسِ لَا تَحِلُّ الْمُنَاكَحَةُ وَلَا الْخَلْوَةُ وَالْمُسَافَرَةُ أَيْضًا لِلِاحْتِيَاطِ وَالِاحْتِرَازِ عَنْ التُّهْمَةِ وَمَذْهَبُنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ وَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ وَمَسْرُوقٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْبُرْغَرِيُّ فِي طَرِيقَتِهِ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ فِي الْأَسْرَارِ فَقَالَ وَيَدُلُّ لَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ ثُمَّ بِمَا ذَكَرْنَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّا لَا نَجْعَلُ الْحَرَامَ مُحَرِّمًا لِلْحَلَالِ وَإِنَّمَا بُنِيَتْ الْحُرْمَةُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْفِعْلَ حَرْثٌ لِلْوَلَدِ وَحُرْمَةُ هَذَا الْفِعْلِ لِكَوْنِهِ زِنًا، مَعَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرُ مُجْرًى عَلَى ظَاهِرِهِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْحَرَامِ يُحَرِّمُ الْحَلَالَ كَمَا إذَا وَقَعَتْ قَطْرَةٌ مِنْ خَمْرٍ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ وَكَالْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ وَوَطْءِ الْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَوَطْءِ الْأَبِ جَارِيَةَ الِابْنِ فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ حَرَامٌ حَرَّمَ الْحَلَالَ لَا لِأَنَّهُ حَرَامٌ بَلْ لِلْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا فَكَذَلِكَ هَهُنَا كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ قَوْلُهُ (وَالْوَلَدُ هُوَ الْأَصْلُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحُرُمَاتِ) أَيْ الْحُرُمَاتِ الْأَرْبَعِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. (وَلَا عِصْيَانَ) بِالنَّظَرِ إلَى حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى (وَلَا عُدْوَانَ) بِالنَّظَرِ إلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ أَيْضًا فِي الْوَلَدِ لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا عِصْيَانَ وَلَا عُدْوَانَ فِي صُنْعِهِ وَلِهَذَا اسْتَحَقَّ هَذَا الْوَلَدُ جَمِيعَ كَرَامَاتِ الْبَشَرِ الَّتِي اسْتَحَقَّهَا الْمَخْلُوقُ مِنْ مَاءِ الرَّشْدَةِ كَمَا ذَكَرْنَا (ثُمَّ يَتَعَدَّى) أَيْ الْحُرُمَاتِ الْمَذْكُورَةَ (مِنْهُ) أَيْ الْوَلَدِ (إلَى أَطْرَافِهِ) أَيْ طَرَفَيْهِ وَهُمَا الْأَبُ وَالْأُمُّ لَا غَيْرُ لِأَنَّ حُرْمَةَ أُمَّهَاتِ الْمَوْطُوءَةِ وَبَنَاتِهَا لَا يَتَعَدَّى مِنْهُ إلَّا إلَى الْأَبِ وَكَذَلِكَ حُرْمَةُ آبَاءِ الْوَاطِئِ وَأَبْنَائِهِ لَا يَتَعَدَّى إلَّا إلَى الْأُمِّ وَلَا يَسْتَقِيمُ تَفْسِيرُ الْأَطْرَافِ بِالْأَبَوَيْنِ

[سفر المعصية فغير منهي لمعنى فيه]

وَأَمَّا سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ فَغَيْرُ مَنْهِيٍّ لِمَعْنًى فِيهِ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ خُرُوجٌ مَدِيدٌ مُبَاحٌ وَإِنَّمَا الْعِصْيَانُ فِي فِعْلِ قَطْعِ الطَّرِيقِ أَوْ التَّمَرُّدِ عَلَى الْمَوْلَى وَهُوَ مُجَاوِرٌ لَهُ فَكَانَ كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا النَّهْيُ عَنْ الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِكَمَالِ الْقُبْحِ فِيهَا وَهُوَ مُقْتَضًى مَعَ كَمَالِ الْمَقْصُودِ مُمْكِنٌ عَلَى مَا قُلْنَا وَالنَّهْيُ فِي صِفَةِ الْقُبْحِ يَنْقَسِمُ انْقِسَامَ الْأَمْرِ مَا قَبُحَ لِعَيْنِهِ وَضْعًا مِثْلُ الْكُفْرِ وَالْكَذِبِ وَالْعَبَثِ وَمَا قَبُحَ مُلْحَقًا بِالْقَسَمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ بَيْعُ الْحُرِّ وَالْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَمَّا وُضِعَ لِتَمْلِيكِ الْمَالِ كَانَ بَاطِلًا فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ وَمَا قَبُحَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَهُوَ الْبَيْعُ وَقْتَ النِّدَاءِ وَالصَّلَاةُ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ فَافْهَمْ (وَيَتَعَدَّى) أَيْ سَبَبِيَّةَ ثُبُوتِ هَذِهِ الْحُرْمَةِ وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ رَاجِعٌ إلَى الْمَفْهُومِ لَا إلَى الْمَذْكُورِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَى مَا رَجَعَ إلَيْهِ الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي يَتَعَدَّى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لَا يَتَعَدَّى إلَى الْأَسْبَابِ وَلِهَذَا أُعِيدَ لَفْظُ يَتَعَدَّى وَإِلَّا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَقُولَ وَإِلَى أَسْبَابِهِ (إلَى أَسْبَابِهِ) أَيْ أَسْبَابِ الْوَلَدِ مِنْ النِّكَاحِ وَالْوَطْءِ وَالتَّقْبِيلِ وَالْمَسِّ بِشَهْوَةٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَالنَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ خِلَافًا لَهُ وَلِابْنِ أَبِي لَيْلَى (وَمَا يُعْمَلُ لِقِيَامِهِ مَقَامَ غَيْرِهِ) أَيْ يُعْمَلُ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ وَالْبِدَايَةِ. فَإِنَّمَا يُعْمَلُ بِعِلَّةِ الْأَصْلِ أَيْ بِالْمَعْنَى الَّذِي يُعْمَلُ بِهِ الْأَصْلُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى أَوْصَافِ نَفْسِهِ وَصَلَاحِيَّتِهِ لِلْحُكْمِ بَلْ يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ إلَى صَلَاحِيَّةِ الْأَصْلِ كَالنَّوْمِ وَالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ وَالسَّفَرِ لَمَّا أُقِيمَتْ مَقَامَ خُرُوجِ النَّجَاسَةِ وَخُرُوجِ الْمَنِيِّ وَالْمَشَقَّةِ عَمِلَتْ عَمَلَهَا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى أَوْصَافِ أَنْفُسِهَا وَصَلَاحِيَّتِهَا لِلْحُكْمِ وَكَالتُّرَابِ لَمَّا أُقِيمَ مَقَامَ الْمَاءِ فِي إفَادَةِ التَّطْهِيرِ نُظِرَ إلَى صَلَاحِيَّةِ الْمَاءِ لِلتَّطْهِيرِ وَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَى وَصْفِ التُّرَابِ الَّذِي هُوَ تَلْوِيثٌ فَكَذَلِكَ هَهُنَا أُقِيمَ الزِّنَا مَقَامَ الْوَلَدِ بِمَعْنَى السَّبَبِيَّةِ فَأَخَذَ حُكْمَ الْوَلَدِ وَأُهْدِرَ وَصْفُ الزِّنَا بِالْحُرْمَةِ لِأَنَّهُ مَعَ هَذِهِ الصِّفَةِ سَبَبٌ صَالِحٌ لِلْوَلَدِ وَلِهَذَا أُقِيمَ مَقَامَهُ وَالْوَلَدُ لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ وَالْقُبْحِ لِمَا ذَكَرْنَا وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ «وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ» فَذَلِكَ فِي مَوْلُودٍ خَاصٍّ لِأَنَّا نُشَاهِدُ أَنَّ وَلَدَ الزِّنَا قَدْ يَكُونُ أَصْلَحُ، وَمَنْفَعَتُهُ أَعْوَدُ إلَى النَّاسِ مِنْ وَلَدِ الرَّشْدَةِ كَذَا فِي طَرِيقَةِ الصَّدْرِ الْحَجَّاجِ قُطْبِ الدِّينِ السَّرْبَلِيِّ (لِقِيَامِهِ) أَيْ الزِّنَا (مَقَامَ مَا لَا يُوصَفُ) وَهُوَ الْوَلَدُ (بِذَلِكَ) أَيْ بِوَصْفِ الْحُرْمَةِ (فِي إيجَابِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ) أَيْ قِيَامُهُ مَقَامَ الْوَلَدِ وَإِهْدَارُ وَصْفِ الْحُرْمَةِ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ خَاصَّةً لَا فِي حَقِّ سُقُوطِ الْحَدِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ فَغَيْرُ مَنْهِيٍّ لِمَعْنًى فِيهِ] قَوْلُهُ (وَأَمَّا سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ رَابِعَةُ الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعِ الَّتِي تَرِدُ نَقْضًا عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ فَأَجَابَ وَقَالَ إنَّهُ لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ لِمَعْنًى فِي عَيْنِهِ بَلْ هُوَ مَنْهِيٌّ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ مُجَاوِرٍ لَهُ فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ صَيْرُورَتَهُ مَعْصِيَةً لِذَاتِهِ، وَانْتِفَاءُ مَشْرُوعِيَّتِهِ كَالْوَطْءِ حَالَةَ الْحَيْضِ وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَالِاصْطِيَادِ بِقَوْسِ الْغَيْرِ وَهَذَا لِأَنَّ خُطَاهُ إنَّمَا صَارَتْ سَفَرًا بِقَصْدِهِ مَكَانًا بَعِيدًا لَا بِقَصْدِهِ الْإِغَارَةَ وَالْبَغْيَ وَالتَّمَرُّدَ عَلَى الْمَوْلَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَصَدَ ذَلِكَ الْمَكَانَ بِلَا قَصْدِ الْإِغَارَةِ صَارَ مُسَافِرًا وَلَوْ قَصَدَ الْإِغَارَةَ بِدُونِ أَنْ يَقْصِدَ مَكَانًا بَعِيدًا لَمْ يَصِرْ مُسَافِرًا وَإِنْ طَافَ الدُّنْيَا، وَكَذَلِكَ إذَا تَبَدَّلَ قَصْدُهُ بِقَصْدِ الْحَجِّ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَاصِيًا وَلَمْ يَتَغَيَّرْ سَفَرُهُ وَكَذَا الْعَبْدُ إذَا لَحِقَهُ إذْنُ مَوْلَاهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ سَفَرُهُ وَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَاصِيًا فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ مَعْنَى الْمَعْصِيَةِ مُجَاوِرٌ لِهَذَا السَّفَرِ فَصَلُحَ سَبَبًا لِلتَّرْخِيصِ. قَوْلُهُ (وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّهْيَ الْمُطْلَقَ عَنْ الْأَفْعَالِ الشَّرْعِيَّةِ يُوجِبُ قُبْحًا فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ حَتَّى بَقِيَ مَشْرُوعًا (النَّهْيُ عَنْ الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ) حَيْثُ يُوجِبُ قُبْحًا فِي عَيْنِهَا حَتَّى لَا تَبْقَى مَشْرُوعَةً أَصْلًا (لِأَنَّ الْقَوْلَ بِكَمَالِ الْقُبْحِ) الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى النَّهْيِ فِي الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ (مَعَ كَمَالِ الْمَقْصُودِ) وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مُتَصَوَّرُ الْوُجُودِ مِنْ الْعَبْدِ لِيَتَحَقَّقَ الِابْتِلَاءُ (عَلَى مَا قُلْنَا) أَيْ قَبْلَ هَذَا أَنَّ الْأَفْعَالَ الْحِسِّيَّةَ لَا تَنْعَدِمُ بِصِفَةِ الْقُبْحِ. قَوْلُهُ (وَالنَّهْيُ) أَيْ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ (فِي صِفَةِ الْقُبْحِ يَنْقَسِمُ انْقِسَامَ الْأَمْرِ) أَيْ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي صِفَةِ الْحُسْنِ تَحْقِيقًا لِلْمُقَابَلَةِ إذْ النَّهْيُ يُقَابِلُ الْأَمْرَ (مَا قَبُحَ لِعَيْنِهِ وَضْعًا) وَهُوَ قِسْمَانِ قِسْمٌ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَسْقُطَ الْقُبْحُ عَنْهُ بِحَالٍ كَالْكُفْرِ وَهُوَ عَلَى مُقَابَلَةِ الْإِيمَانِ وَقِسْمٌ يَحْتَمِلُ

[باب معرفة أحكام العموم]

وَمَا قَبُحَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَهُوَ مُلْحَقٌ بِهِ وَصْفًا وَذَلِكَ مِثْلُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَصِيَامِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ يَقَعُ عَلَى الْقَسَمِ الْأَوَّلِ وَعَنْ الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ يَقَعُ عَلَى هَذَا الْقِسْمِ الَّذِي قُلْنَا إنَّهُ مُلْحَقٌ بِهِ وَصْفًا. (بَابُ مَعْرِفَةِ أَحْكَام الْعُمُومِ) : الْعَامُّ عِنْدَنَا يُوجِبُ الْحُكْمَ فِيمَا تَنَاوَلَهُ قَطْعًا وَيَقِينًا بِمَنْزِلَةِ الْخَاصِّ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَذْهَبَ هُوَ الَّذِي حَكَيْنَا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ إنَّ الْخَاصَّ لَا يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ الْخَاصُّ بِهِ مِثْلُ حَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ فِي بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نُسِخَ وَهُوَ خَاصٌّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «اسْتَنْزِهُوا مِنْ الْبَوْلِ» ـــــــــــــــــــــــــــــQذَلِكَ كَالْكَذِبِ فَإِنَّ قُبْحَهُ يَسْقُطُ فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَفِي الْحَرْبِ وَفِي إرْضَاءِ الْمَنْكُوحَتَيْنِ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ وَهُوَ فِي مُقَابَلَةِ الصَّلَاةِ. وَمَا قَبُحَ مُلْحَقًا بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِثْلُ بَيْعِ الْحُرِّ وَالْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ وَمِثْلُ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ فَإِنَّ الْبَيْعَ فِي نَفْسِهِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَصَالِحُ وَلَكِنَّ الشَّرْعَ لَمَا قَصُرَ مَحَلُّهُ عَلَى مَالٍ مُتَقَوِّمٍ حَالَ الْعَقْدِ وَالْحُرُّ لَيْسَ بِمَالٍ وَكَذَا الْمَاءُ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ مِنْهُ الْحَيَوَانُ لَيْسَ بِمَالٍ صَارَ بَيْعُهُ عَبَثًا لِحُلُولِهِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ نَحْوَ ضَرْبِ الْمَيِّتِ وَأَكْلِ مَا لَا يُتَغَدَّى بِهِ وَكَذَلِكَ الشَّرْعُ لَمَّا قَصَرَ أَهْلِيَّةَ الْعَبْدِ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ عَلَى حَالِ طَهَارَتِهِ عَنْ الْحَدَثِ صَارَ فِعْلُ صَلَوَاتِهِ مَعَ الْحَدَثِ عَبَثًا لِخُرُوجِهِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ نَحْوَ كَلَامِ الطَّائِرِ وَالْمَجْنُونِ فَالْتَحَقَا بِالْقَبِيحِ وَضْعًا بِوَاسِطَةِ عَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ شَرْعًا كَذَا فِي التَّقْوِيمِ وَهَذَا فِي مُقَابَلَةِ الصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ (وَمَا قَبُحَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ) مُجَاوِرٌ يَقْبَلُ الِانْفِكَاكَ مِثْلُ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَالصَّلَاةِ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ وَهَذَا فِي مُقَابَلَةِ السَّعْيِ وَالطَّهَارَةِ وَمَا قَبُحَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَهُوَ مُلْحَقٌ بِهِ وَصْفًا مِثْلُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَصَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ وَهَذَا فِي مُقَابَلَةِ الْجِهَادِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْعُمُومِ] (قَوْلُهُ) الْعَامُّ عِنْدَنَا يُوجِبُ الْحُكْمَ فِيمَا تَنَاوَلَهُ أَيْ فِي جَمِيعِ الْأَفْرَادِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَهُ قَطْعًا وَيَقِينًا وَقَدْ فَسَّرْنَاهُمَا فِي أَوَّلِ بَابِ أَحْكَامِ الْخُصُوصِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ مَشَايِخِنَا كَمَا سَتَقِفُ عَلَيْهِ وَيُشِيرُ قَوْلُهُ الْعَامُّ بِعُمُومِهِ إلَى اسْتِوَاءِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ فِي ذَلِكَ وَفِيهِ خِلَافٌ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ وَهَذَا إذَا أَمْكَنَ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِيهِ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ لِكَوْنِ الْمَحَلِّ غَيْرَ قَابِلٍ لَهُ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20] فَحِينَئِذٍ يَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ مَا هُوَ الْمُرَادُ بِهِ بِبَيَانٍ ظَاهِرٍ بِمَنْزِلَةِ الْمُجْمَلِ وَلَا يَعْمَلُ فِيهِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ (لَا يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ) أَيْ لَا يَتَرَجَّحُ عَلَيْهِ مَنْقُولٌ مَنْ قَضَى عَلَيْهِ بِمَعْنَى حَكَمَ لِأَنَّ الرَّاجِحَ حَاكِمٌ عَلَى الْمَرْجُوحِ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ الْخَاصُّ بِالْعَامِّ إذَا كَانَ الْعَامُّ مُتَأَخِّرًا. قَوْلُهُ (مِثْلُ حَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ) وَهُوَ مَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ قَوْمًا مِنْ عُرَنَةَ أَتَوْا الْمَدِينَةَ فَاجْتَوَوْهَا أَيْ كَرِهُوا بِالْمَقَامِ بِهَا لِأَنَّهَا لَمْ تُوَافِقْهُمْ فَاصْفَرَّتْ أَلْوَانُهُمْ وَانْتَفَخَتْ بُطُونُهُمْ فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يَخْرُجُوا إلَى إبِلِ الصَّدَقَةِ وَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَفَعَلُوا وَصَحُّوا ثُمَّ ارْتَدُّوا وَمَالُوا إلَى الرُّعَاةِ وَقَتَلُوهُمْ وَاسْتَاقُوا الْإِبِلَ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَثَرِهِمْ قَوْمًا فَأُخِذُوا فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ وَتَرَكَهُمْ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ حَتَّى مَاتُوا قَالَ الرَّاوِي حَتَّى رَأَيْت بَعْضَهُمْ يَكْدُمُ الْأَرْضَ بِفِيهِ مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ» هَذَا حَدِيثٌ خَاصٌّ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي أَبْوَالِ الْإِبِلِ ثُمَّ هُوَ مَنْسُوخٌ عِنْدَهُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «اسْتَنْزِهُوا الْبَوْلَ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ» إذَا الْبَوْلُ اسْمُ جِنْسٍ مُحَلَّى بِاللَّامِ فَيَتَنَاوَلُ أَبْوَالَ الْإِبِلِ وَغَيْرَهَا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْعَامُّ مِثْلَ الْخَاصِّ لَمَا صَحَّ نَسْخُ الْأَوَّلِ بِالثَّانِي إذْ مِنْ شَرْطِهِ الْمُمَاثَلَةُ (فَإِنْ قِيلَ) إنَّمَا يَصِحُّ الْقَوْلُ بِالنَّسْخِ إذَا ثَبَتَ تَقَدُّمُ الْأَوَّلِ وَتَأَخُّرُ الثَّانِي وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَعْرِفْ التَّارِيخَ. (قُلْنَا) قَدْ ثَبَتَ تَقَدُّمُ الْأَوَّلِ بِدَلِيلِ

وَمِثْلُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» نُسِخَ بِقَوْلِهِ «مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ» وَلِمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَنْ أَوْصَى بِخَاتَمِهِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ بِالْفَصِّ مِنْهُ لِآخَرَ بِكَلَامٍ مَفْصُولٍ أَنَّ الْحَلْقَةَ لِلْأَوَّلِ وَالْفَصَّ بَيْنَهُمَا وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّهُ الْأَوَّلُ بِالْعُمُومِ وَالثَّانِي بِالْخُصُوصِ وَهَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا. ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّ الْمُثْلَةَ الَّتِي تَضَمَّنَهَا ذَلِكَ الْحَدِيثُ قَدْ نُسِخَتْ بِالِاتِّفَاقِ وَهِيَ كَانَتْ مَشْرُوعَةً فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ فَدَلَّ انْتِسَاخُهُ عَلَى تَقَدُّمِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ وَلَمْ يَثْبُتْ تَقَدُّمُ الْحَدِيثِ الثَّانِي بِدَلِيلٍ بَلْ فِيهِ مُجَرَّدُ احْتِمَالٍ فَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ وَمِثْلُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» يَجِبُ الْعُشْرُ فِي قَلِيلِ مَا أَخْرَجَتْهُ الْأَرْضُ وَكَثِيرِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ» وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَجِبُ الْعُشْرُ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» قَالَا الْمُرَادُ مِنْ الصَّدَقَةِ الْعُشْرُ لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ إذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا وَلَا يَجِبُ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ إذَا لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا فَكَانَ هَذَا الْحَدِيثُ نَصًّا فِي الْمَسْأَلَةِ وَالْجَوَابُ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْعَامَّ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ مِثْلُ الْخَاصِّ ثُمَّ إذَا وَرَدَا فِي حَادِثَةٍ وَيُعْرَفُ تَارِيخُهُمَا كَانَ الثَّانِي نَاسِخًا إنْ كَانَ هُوَ الْعَامُّ وَمُخَصَّصًا إنْ كَانَ هُوَ الْخَاصُّ كَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا ثُمَّ قَالَ لَهُ لَا تُعْطِ أَحَدًا شَيْئًا كَانَ نَسْخًا لِلْأَوَّلِ وَلَوْ قَالَ لَا تُعْطِ أَحَدًا شَيْئًا ثُمَّ قَالَ أَعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا كَانَ تَخْصِيصًا لَهُ. وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ تَارِيخَهُمَا يُجْعَلُ الْعَامُّ آخِرًا لِلِاحْتِيَاطِ وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ كَذَا فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ نُسِخَ بِقَوْلِهِ «مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ» وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّمَا عَمِلَ بِالْحَدِيثِ الْعَامِّ دُونَ الْخَاصِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَفِيمَا تَقَدَّمَ أَيْضًا لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُ أَنَّ الْعَامَّ الْمُتَّفَقَ عَلَى قَبُولِهِ أَوْلَى مِنْ الْخَاصِّ الْمُخْتَلَفِ فِي قَبُولِهِ لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَسَاوَيَا يُرَجَّحُ الْعَامُّ بِكَوْنِهِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ عَلَى الْخَاصِّ فَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمَا عَمِلَا بِهِ فِيمَا وَرَاءَ الْخَمْسَةِ الْأَوْسُقِ وَحَكَمَا بِتَفَاوُتِ الْوَاجِبِ عِنْدَ قِلَّةِ الْمُؤْنَةِ وَكَثْرَتِهَا فَأَوْجَبَا الْعُشْرَ فِيمَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ وَنِصْفَ الْعُشْرِ فِيمَا سُقِيَ بِدَالِيَةٍ عَمَلًا بِهَذَا الْحَدِيثِ وَجَعَلَا الْحَدِيثَ الْخَاصَّ مُخَصِّصًا لَهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يَعْمَلْ بِالْحَدِيثِ الْخَاصِّ أَصْلًا فَكَانَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ. قَوْلُهُ (وَلِمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ) عَطْفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الدَّلِيلِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ، الْعَامُّ بِمَنْزِلَةِ الْخَاصِّ فِيمَا تَنَاوَلَهُ عِنْدَنَا لِمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ كَذَا وَلِمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ إذَا أَوْصَى بِخَاتَمِهِ لِإِنْسَانٍ وَبِفَصِّهِ لِآخَرَ فِي كَلَامِ مَوْصُولٍ كَانَتْ الْحَلَقَةُ لِلْأَوَّلِ وَالْفَصُّ لِلثَّانِيَّ بِالِاتِّفَاقِ وَأَمَّا إذَا فَصَلَ فَكَذَا الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَكُونُ الْفَصُّ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ بِإِيجَابِهِ فِي الْكَلَامِ الثَّانِي تَبَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ إيجَابُ الْحَلَقَةِ لِلْأَوَّلِ بِدُونِ الْفَصِّ وَهَذَا الْبَيَانُ مِنْهُ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ مَفْصُولًا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا يُلْزِمُهُ شَيْئًا فِي حَالِ حَيَاتِهِ فَيَكُونُ الْبَيَانُ الْمَوْصُولُ فِيهِ وَالْمَفْصُولُ سَوَاءً كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ بِالرَّقَبَةِ لِإِنْسَانٍ وَبِالْخِدْمَةِ أَوْ الْغَلَّةِ لِآخَرَ كَذَا الدَّارُ مَعَ السُّكْنَى وَالْبُسْتَانُ مَعَ الثَّمَرَةِ. وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ اسْمُ الْخَاتَمِ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الْحَلَقَةَ وَالْفَصَّ جَمِيعًا فَكَانَ إيجَابُ الْفَصِّ لِلثَّانِي تَخْصِيصًا لِذَلِكَ الْعُمُومِ وَتَخْصِيصُ الْعَامِّ إنَّمَا يَصِحُّ مَوْصُولًا فَإِذَا كَانَ مَفْصُولًا لَا يَكُونُ تَخْصِيصًا بَلْ يَكُونُ مُعَارِضًا فَكَانَ كَلَامُهُ الثَّانِي فِي الْفَصِّ إيجَابًا لِلثَّانِي وَبَقِيَ عُمُومُ الْإِيجَابِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا كَانَ، وَالْعَامُّ مِثْلُ الْخَاصِّ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ فَثَبَتَ

[رب المال والمضارب إذا اختلفا في العموم والخصوص]

وَقَالُوا فِي رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ إذَا اخْتَلَفَا فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْعُمُومَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ فَجَعَلْنَاهُ بَيْنَهُمْ نِصْفَيْنِ وَلَيْسَتْ الْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ رُجُوعًا عَنْ الْأُولَى كَمَا لَوْ أَوْصَى بِالْخَاتَمِ لِلثَّانِي بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْمَسَائِلِ لِأَنَّ اسْمَ الرَّقَبَةِ وَالدَّارِ وَالْبُسْتَانِ لَا يَتَنَاوَلُ الْخِدْمَةَ وَالسُّكْنَى وَالثَّمَرَةَ وَلَكِنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ إنَّمَا يُسْتَخْدَمُ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِهِ وَلَا حَقَّ لِلْغَيْرِ فِيهِ فَإِذَا أَوْجَبَ الْخِدْمَةَ لِلْغَيْرِ لَمْ يَبْقَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ حَقٌّ بِحُكْمِ التَّعَارُضِ فِي الْإِيجَابِ وَكَذَا السُّكْنَى وَالثَّمَرَةُ يُوضِحُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَوْصَيْت بِهَذَا الْخَاتَمِ إلَّا فَصَّهُ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ صِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ فِيمَا إذَا كَانَ الْكَلَامُ مُتَنَاوِلًا لَهُ وَلِهَذَا جَعَلَ عِبَارَةَ عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى وَبِمِثْلِهِ لَوْ أَوْصَى بِالرَّقَبَةِ إلَّا خِدْمَتَهَا أَوْ بِالدَّارِ إلَّا سُكْنَاهَا أَوْ بِالْبُسْتَانِ إلَّا ثَمَرَتَهُ بَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْإِيجَابَ لَمْ يَتَنَاوَلْ هَذَا الْأَشْيَاءَ حَتَّى لَمْ يَعْمَلْ الِاسْتِثْنَاءُ فِي إخْرَاجِهَا فَإِذَا أَوْجَبَهَا لِلْآخَرِ اخْتَصَّ بِهَا مَنْ أَوْجَبَهَا كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. وَهَكَذَا الْخِلَافُ مَذْكُورٌ فِي الْهِدَايَةِ وَالْإِيضَاحِ وَالزِّيَادَاتِ لِلْقَاضِي الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ وَالزِّيَادَاتِ لِلْإِمَامِ الْعَتَّابِيِّ وَالْمَنْظُومَةِ وَشُرُوحِهَا فَكَانَ قَوْلُ الشَّيْخِ (وَهَذِهِ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا) مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَهُ رِوَايَةً عَنْ الشَّيْخَيْنِ عَلَى وِفَاقِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَتَاوَاهُمْ وَمُحَاجَّتُهُمْ أَمَّا الْفَتْوَى فَقَدْ قَالُوا فِي رَجُلٍ أَوْصَى إلَى آخِرِهِ فَقَدْ أَسْنَدَ هَذَا الْقَوْلَ إلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ وَكَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الزِّيَادَاتِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافِ أَبِي يُوسُفَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ خِلَافَهُ فِي الْمَبْسُوطِ أَوْ تُصْرَفُ الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ وَهَذَا إلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ أَيْ كَوْنُ الْعَامِّ مِثْلُ الْخَاصِّ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا أَوْ إلَى قَوْلِهِ وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّهُ الْأَوَّلُ بِالْعُمُومِ وَالثَّانِي بِالْخُصُوصِ ثُمَّ الْخَاتَمُ لَيْسَ بِعَامٍّ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ أَفْرَادًا مُتَّفِقَةَ الْحُدُودِ بَلْ الْفَصُّ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ فِي اسْمِ الْإِنْسَانِ وَلَا يَصِيرُ الْإِنْسَانُ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ تَمَامًا فَكَذَلِكَ الْخَاتَمُ لَكِنَّهُ شَبِيهٌ بِالْعَامِّ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْفَصَّ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْخَاتَمِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَفَوَاتُهُ لَا يُخِلُّ بِالْحَقِيقَةِ أَيْضًا كَمَا أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى الثَّلَاثَةِ فِي الْعَامِّ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ. وَقَدْ يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِمِثْلِهِ كَالْوَاحِدِ مَعَ الْعَشَرَةِ فِي مَسْأَلَةِ الصِّفَاتِ، فَإِنَّهُ جُعِلَ نَظِيرَ الصِّفَاتِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَيْنَ الْعَشَرَةِ وَلَا غَيْرَهَا كَالصِّفَاتِ لَيْسَتْ عَيْنَ الذَّاتِ وَلَا غَيْرَهُ لَا أَنَّهُ نَظِيرٌ لِلصِّفَاتِ حَقِيقَةً لِأَنَّ ذَاتَ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ مُنَزَّهَةٌ عَنْ النَّظِيرِ وَكَذَلِكَ الْوَاحِدُ جُزْءٌ مِنْ الْعَشَرَةِ وَالصِّفَاتُ لَيْسَتْ بِجُزْءٍ لِلذَّاتِ وَرَأَيْت فِي بَعْضِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْعُمُومَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى لَفْظٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَامًّا لِتَعَدُّدِهِ بِاعْتِبَارِ أَجْزَاءٍ يَصِحُّ افْتِرَاقُهَا حِسًّا كَعَشَرَةٍ فَإِنَّ اسْتِثْنَاءَ بَعْضِهَا يُسَمَّى تَخْصِيصًا وَهُوَ لَا يَجْرِي إلَّا فِي الْعَامِّ. [رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ إذَا اخْتَلَفَا فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ] قَوْلُهُ (وَقَالُوا) أَيْ الْعُلَمَاءُ الثَّلَاثَةُ (فِي رَبِّ الْمَالِ إلَى آخِرِهِ) إذَا اخْتَلَفَ الْمُضَارِبُ وَرَبُّ الْمَالِ فِي الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ التَّصَرُّفِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِأَنَّ الْعُمُومَ لَوْ كَانَ ثَابِتًا بِالتَّنْصِيصِ أَوْ بِاتِّفَاقِهِمَا ثُمَّ نَهَاهُ رَبُّ الْمَالِ عَنْ الْعُمُومِ قَبْلَ التَّصَرُّفِ عَمِلَ نَهْيُهُ فَهَهُنَا أَوْلَى فَيُجْعَلُ اخْتِلَافُهُمَا حَجْرًا لَهُ عَنْ الْعُمُومِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ التَّصَرُّفِ وَقَدْ ظَهَرَ رِبْحٌ فَقَالَ الْمُضَارِبُ أَمَرْتَنِي بِالْبَزِّ وَقَدْ خَالَفْت فَالرِّبْحُ لِي وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ لَمْ أُسَمِّ شَيْئًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ قَالَ الْمُضَارِبُ وَفِي الْعَقْدِ خُسْرَانٌ دَفَعْت الْمَالَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ

[العام الذي لم يثبت خصوصه لا يحتمل الخصوص بخبر الواحد والقياس]

وَلَوْلَا اسْتِوَاؤُهُمَا وَقِيَامُ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَهُمَا لَمَا وَجَبَ التَّرْجِيحُ بِهِ بِدَلَالَةِ الْعَقْدِ. وَقَدْ قَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِنَا إنَّ الْعَامَّ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ خُصُوصُهُ لَا يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسُ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي الشَّهِيدُ فِي كِتَابِ الْغَرَرِ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةُ أَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا مَا قُلْنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQوَلَمْ تُسَمِّ شَيْئًا وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ دَفَعْته إلَيْك مُضَارَبَةً فِي الْبَزِّ وَقَدْ خَالَفْت فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ مَعَ يَمِينِهِ اسْتِحْسَانًا عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ وَهُوَ الْقِيَاسُ وَفِي قَوْلِ الشَّيْخِ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْعُمُومَ إشَارَةً إلَى مَا قُلْنَا يَعْنِي أَيُّهُمَا يَدَّعِي الْعُمُومَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ. فَزُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ الْإِذْنُ مُسْتَفَادٌ مِنْ جِهَةِ رَبِّ الْمَالِ وَلَوْ أَنْكَرَ الْإِذْنَ أَصْلًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَلِكَ إذَا قَرَّبَهُ بِصِفَةٍ دُونَ صِفَةٍ كَالْمُعِيرِ مَعَ الْمُسْتَعِيرِ إذَا اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ الْإِعَارَةِ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْمُعِيرِ وَالْمُوَكِّلُ مَعَ الْوَكِيلِ إذَا اخْتَلَفَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُوَكِّلِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَلَنَا أَنَّ مُقْتَضَى الْمُضَارَبَةِ الْعُمُومُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَحْصِيلُ الرِّبْحِ وَتَمَامُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْعُمُومِ فِي التَّفْوِيضِ لِلتَّصَرُّفِ إلَيْهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ خُذْ هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ يَصِحُّ وَيَمْلِكُ بِهِ جَمِيعَ التِّجَارَاتِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ الْعُمُومَ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عَلَى مَا يُوجِبُ التَّخْصِيصَ كَالْوَكَالَةِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ لَمَا وَجَبَ التَّرْجِيحُ بِدَلَالَةِ الْعَقْدِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ الْعُمُومُ فَالْمُدَّعِي لِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ مُتَمَسِّكٌ بِمَا هُوَ الْأَصْلُ وَالْآخَرُ يَدَّعِي تَخْصِيصًا زَائِدًا فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِالْأَصْلِ كَمَا فِي الْبَيْعِ إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا شَرْطًا زَائِدًا مِنْ خِيَارٍ أَوْ أَجَلٍ. قَوْلُهُ (وَلَوْلَا اسْتِوَاؤُهُمَا) أَيْ وَلَوْلَا الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ أَوْ بَيْنَ الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ (لَمَا وَجَبَ التَّرْجِيحُ) أَيْ تَرْجِيحُ الْعُمُومِ هَهُنَا (بِدَلَالَةِ الْعَقْدِ) وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ التَّرْجِيحَ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ إذْ لَا تَرْجِيحَ عِنْدَ عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ بَلْ لَا يُعْمَلُ بِالْأَدْنَى لِأَنَّهُ لَا يُسَاوِي الْأَعْلَى وَلَا يُقَاوِمُهُ. [الْعَامَّ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ خُصُوصُهُ لَا يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسُ] قَوْلُهُ (الْعَامُّ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ خُصُوصُهُ) يَعْنِي الْعَامَّ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ لَا يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ أَيْ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسُ لِأَنَّهُمَا ظَنِّيَّانِ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْقَطْعِيِّ بِهِمَا لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ وَالظَّنِّيُّ لَا يُعَارِضُ الْقَطْعِيَّ هَذَا أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ عَدَمِ جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِهِمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ عُلَمَائِنَا وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْجَصَّاصِ وَعِيسَى بْنِ أَبَانَ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ جَمَعَ الصَّحَابَةَ وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَرُدُّوا كُلَّ حَدِيثٍ مُخَالِفٍ لِلْكِتَابِ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَدَّ حَدِيثَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فِي الْمَبْتُوتَةِ أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَقَالَ لَا نَتْرُكُ كِتَابَ اللَّهِ بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ وَرَدَّتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حَدِيثَ تَعْذِيبِ الْمَيِّتِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ وَتَلَتْ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] أَوْرَدَ هَذَا كُلَّهُ الْجَصَّاصُ ذَكَرَهُ أَبُو الْيُسْرِ فِي أُصُولِهِ (وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي الشَّهِيدُ) يَعْنِي الْحَاكِمَ أَبَا الْفَضْلِ مُحَمَّدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ السُّلَمِيُّ الْمَرْوَزِيِّ صَاحِبَ الْمُخْتَصَرِ هَكَذَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ وَظَنِّي أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْقَاضِيَ الشَّهِيدَ أَبَا نَصْرٍ الْمُحْسِنَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ الْمُحْسِنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْخَالِدِيَّ الْمَرْوَزِيِّ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَعْرُوفُ بِالْقَاضِي الشَّهِيدِ فَأَمَّا أَبُو الْفَضْلِ فَمَعْرُوفٌ بِالْحَاكِمِ الشَّهِيدِ (مَا قُلْنَا) وَهُوَ أَنَّ الْعَامَّ مِثْلُ الْخَاصِّ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ قَطْعًا قَوْلُهُ. (وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ وَلِأَنَّ تَخْصِيصَ الْعَامِّ مِنْ الْكِتَابِ لَا يَجُوزُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِالْقِيَاسِ ابْتِدَاءً قُلْنَا إلَى آخِرِهِ إذَا تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ عَامِدًا لَا تَحِلُّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQالذَّبِيحَةُ عِنْدَنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] الْآيَةَ وَمُطْلَقُ النَّهْيِ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِحَرْفِ مِنْ لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ لِلْمُبَالَغَةِ فَيَقْتَضِي حُرْمَةَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ، وَالْهَاءُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] إنْ كَانَتْ كِنَايَةً عَنْ الْأَكْلِ فَالْفِسْقُ أَكْلُ الْحَرَامِ وَإِنْ كَانَتْ كِنَايَةً عَنْ الْمَذْبُوحِ فَالْمَذْبُوحُ الَّذِي يُسَمَّى فِسْقًا فِي الشَّرْعِ يَكُونُ حَرَامًا كَمَا قَالَ تَعَالَى {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَحِلُّ لِحَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْمُسْلِمُ يَذْبَحُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ سَمَّى أَوْ لَمْ يُسَمِّ» وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ «قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هُنَا أَقْوَامًا حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِشِرْكٍ يَأْتُونَنَا بِلُحْمَانٍ لَا يُدْرَى يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا أَمْ لَا قَالَ اُذْكُرُوا أَنْتُمْ اسْمَ اللَّهِ وَكُلُوا» . قَالَ وَلَا مُتَمَسَّكَ لَكُمْ فِي الْآيَةِ لِأَنَّ النَّاسِيَ قَدْ خُصَّ مِنْهَا بِالنَّصِّ وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «سُئِلَ عَمَّنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ نَاسِيًا فَقَالَ كُلُوهُ فَإِنَّ تَسْمِيَةَ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ» فَيُخَصُّ الْعَامِدُ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ لِشُمُولِ الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ إيَّاهُمَا فَإِنَّ وُجُودَ التَّسْمِيَةِ فِي الْقَلْبِ حَالَةَ الْعَمْدِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي حَالَةِ النِّسْيَانِ أَوْ نَخُصُّهُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ وَالْبَرَاءِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَأَجَابَ الشَّيْخُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْآيَةَ لَحِقَهَا خُصُوصٌ لِأَنَّ النَّاسِيَ لَيْسَ بِتَارِكٍ لِلذِّكْرِ بَلْ هُوَ ذَاكِرٌ فَإِنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ الْمِلَّةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَقَامَ الذِّكْرِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِلْعَجْزِ كَمَا أَقَامَ الْأَكْلَ نَاسِيًا مَقَامَ الْإِمْسَاكِ فِي الصَّوْمِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّاسِيَ ذَاكِرٌ حُكْمًا لَا يُثْبِتُ التَّخْصِيصَ فِي الْآيَةِ فَبَقِيَتْ عَلَى عُمُومِهَا فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا بِالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الظَّنِّيَّ لَا يُعَارِضُ الْقَطْعَ وَلِأَنَّ التَّخْصِيصَ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا بَقِيَ تَحْتَ الْعَامِّ مَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ أَمَّا الْفَرْدُ الْوَاحِدُ فِي اسْمِ الْجِنْسِ أَوْ الثَّلَاثَةِ فِي اسْمِ الْجَمْعِ وَهَهُنَا لَمْ يَبْقَ تَحْتَ النَّصِّ إلَّا حَالَةَ الْعَمْدِ فَلَوْ أُلْحِقَ الْعَمْدُ بِالنِّسْيَانِ لَمْ يَبْقَ النَّصُّ مَعْمُولًا بِهِ أَصْلًا فَيَكُونُ الْقِيَاسُ أَوْ خَبَرُ الْوَاحِدِ ح مُعَطِّلًا لِلنَّصِّ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ إلْحَاقُ الْعَامِدِ بِالنَّاسِي لِأَنَّ النَّاسِيَ عَاجِزٌ مُسْتَحِقٌّ لِلنَّظَرِ وَالتَّخْفِيفِ وَالْعَامِدُ جَانٍ مُسْتَحَقٌّ لِلتَّغْلِيظِ وَالتَّشْدِيدِ فَإِثْبَاتُ التَّخْفِيفِ فِي حَقِّهِ بِإِقَامَةِ الْمِلَّةِ مَقَامَ الذِّكْرِ خَلَفًا عَنْهُ لَا يَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِهِ فِي حَقِّ الْعَامِدِ إذْ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِ الْمَعْذُورِ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ فِي الذَّبْحِ وَغَيْرِ الذَّبْحِ كَمَا أَنَّ فِي اشْتِرَاطِ الذِّكْرِ فِي الذَّبْحِ يَفْصِلُ بَيْنَ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِهِ وَكَمَا فِي الْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ يَفْصِلُ بَيْنَ النَّاسِي وَالْعَامِدِ وَلِأَنَّ الْخَلَفَ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْأَصْلِ كَمَا فِي التُّرَابِ مَعَ الْمَاءِ، وَالْعَجْزُ إنَّمَا تَحَقَّقَ فِي حَقِّ النَّاسِي دُونَ الْعَامِدِ وَلِأَنَّ الْعَامِدَ مُعْرِضٌ عَنْ التَّسْمِيَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ مُسَمِّيًا حُكْمًا مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْهَا بِخِلَافِ النَّاسِي فَإِنَّهُ غَيْرُ مُعْرِضٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَدَلِيلُهَا لِأَنَّهَا سَأَلَتْ عَنْ الْأَكْلِ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّكِّ فِي التَّسْمِيَةِ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ أَنَّ التَّسْمِيَةَ مِنْ شَرَائِطِ الْحِلِّ وَإِنَّمَا أَفْتَى النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِإِبَاحَةِ الْأَكْلِ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ وَهُوَ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَدَعُ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا لِأَنَّ السُّؤَالَ كَانَ عَنْ الْأَعْرَابِ كَمَنْ اشْتَرَى لَحْمًا فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ يُبَاحُ لَهُ التَّنَاوُلُ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ وَإِنْ كَانَ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ ذَبِيحَةُ مَجُوسِيٍّ وَأَمَّا حَدِيثُ الْبَرَاءِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَمَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ النِّسْيَانِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «وَإِنْ تَعَمَّدَ لَمْ يَحِلَّ» كَذَا فِي

وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] عَامٌّ لَمْ يَلْحَقْهُ خُصُوصٌ لِأَنَّ النَّاسِيَ فِي مَعْنَى الذَّاكِرِ لِقِيَامِ الْمِلَّةِ مَقَامَ الذِّكْرِ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] لَمْ يَلْحَقْهُ الْخُصُوصُ فَلَا يَصِحُّ تَخْصِيصُهُ بِالْآحَادِ وَالْقِيَاسِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْعَامُّ يُوجِبُ الْحُكْمَ لَا عَلَى الْيَقِينِ وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَبْسُوطِ (فَإِنْ قِيلَ) الْمُرَادُ مِنْ الْآيَةِ إمَّا مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ كَمَا قَالَ الْكَلْبِيُّ أَوْ ذَبَائِحُ الْمُشْرِكِينَ لِلْأَوْثَانِ كَمَا قَالَ عَطَاءٌ أَوْ الْمَيْتَةُ وَالْمُنْخَنِقَةُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] وَأَكْلُ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ لَا يُوجِبُ الْفِسْقَ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ يَأْكُلُهُ وَبِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ} [الأنعام: 121] أَيْ لَيُوَسْوِسَونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنَّمَا كَانُوا يُجَادِلُونَهُمْ فِي تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَيَقُولُونَ إنَّكُمْ تَأْكُلُونَ مَا قَتَلْتُمُوهُ وَلَا تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَهُ اللَّهُ لَا فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ. وَبِدَلِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] وَإِنَّمَا يَكْفُرُ الْإِنْسَانُ إذَا أَطَاعَ الْكُفَّارَ فِي إبَاحَةِ الْمَيْتَةِ لَا فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ (قُلْنَا) الْآيَةُ بِظَاهِرِهَا وَعُمُومِهَا يَتَنَاوَلُ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا وَغَيْرَهُ وَالْعِبْرَةُ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ وقَوْله تَعَالَى {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] قُلْنَا أَكْلُ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ فِسْقٌ أَيْضًا حَتَّى إنَّ مَنْ يَعْتَقِدُ حُرْمَتَهُ يَفْسُقُ بِأَكْلِهِ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَكِنْ مَنْ أَكَلَهُ مُعْتَقِدًا إبَاحَتَهُ إنَّمَا لَا يَفْسُقُ لِتَأْوِيلِهِ كَمَا لَا يُحْرَمُ الْبَاغِي عَنْ الْمِيرَاثِ بِقَتْلِ الْعَادِلِ لِأَنَّهُ يَقْتُلُهُ مُتَأَوِّلًا قَوْله تَعَالَى {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام: 121] قُلْنَا سَلَّمْنَا أَنَّ هَذَا النَّصَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ مُجَادَلَتُهُمْ فِي الْمَيْتَةِ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَابَ بِجَوَابٍ أَعَمَّ مِمَّا سَأَلُوا كَمَا هُوَ دَأْبُ التَّنْزِيلِ وَهِيَ الْحُرْمَةُ عَلَى وَصْفٍ يَشْمَلُ الْمَيْتَةَ وَغَيْرَهَا وَهُوَ تَرْكُ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ التَّحْرِيمَ بِوَصْفٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ كَالْمَيْتَةِ فَيَكُونُ الْآيَةُ بَيَانًا أَنَّ الْمَيْتَةَ حُرِّمَتْ لِكَوْنِهَا مَتْرُوكَةَ التَّسْمِيَةِ وَأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ مُؤَثِّرٌ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ كَمَا أَنَّ وَصْفَ الْمَوْتِ مُؤَثِّرٌ فِيهِ فَإِذَا حُمِلَتْ عَلَى الْمَيِّتَةِ وَعَلَى ذَبَائِحِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا ذَكَرَهُ الْخَصْمُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ هَذَا الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ كَانَ فِيهِ إبْطَالُ الْوَصْفِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ كَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَا يَفْصِلُ بَيْنَ النِّسْيَانِ وَالْعَمْدِ وَيُحَرِّمُ الْمَتْرُوكَ نَاسِيًا أَيْضًا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ وَكَانَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَفْصِلَانِ بَيْنَ النَّاسِي وَالْعَامِدِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا فَقَدْ كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى الْحُرْمَةِ إذَا تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَامِدًا وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُونَ إذَا تَرَكَهَا نَاسِيًا وَكَفَى بِإِجْمَاعِهِمْ حُجَّةً وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا لَا يُسْمَعُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِ الْبَيْعِ فِيهِ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] مُبَاحُ الدَّمِ بِرِدَّةٍ أَوْ زِنًا أَوْ قَطْعِ طَرِيقٍ أَوْ قِصَاصٍ إذَا الْتَجَأَ إلَى الْحَرَمِ لَا يُقْتَلُ فِيهِ عِنْدَنَا وَلَا يُؤْذَى لِيَخْرُجَ وَلَكِنْ لَا يُطْعَمُ وَلَا يُسْقَى وَلَا يُجَالَسُ وَلَا يُبَايَعُ حَتَّى يُضْطَرَّ إلَى الْخُرُوجِ فَيُقْتَلَ خَارِجَ الْحُرُمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] عَلَّقَ الْأَمْنَ بِالشَّرْطِ فَيَثْبُتُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لَا أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا قَبْلَهُ فَكَانَ مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ صَارَ آمِنًا، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْأَمْنُ إلَّا بِإِزَالَةِ الْخَوْفِ، وَغَيْرُ الْجَانِي لَيْسَ بِخَائِفٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ الْأَمْنِ فِي حَقِّهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ النَّصَّ مُتَنَاوِلٌ لِلْجَانِي فَيَثْبُتُ الْأَمْنُ فِي حَقِّهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقْتَلُ فِيهِ لِأَنَّ الْجَانِيَ قَدْ خُصَّ مِنْ الْآيَةِ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ أَمَرَ بِقَتْلِ نَفَرٍ مِنْهُمْ ابْنُ خَطَلٍ فَوَجَدُوهُ مُتَعَلِّقًا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَقَتَلُوهُ» . وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْحَرَمُ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ» وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الطَّرَفِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ قِصَاصٌ فِي الطَّرَفِ فَدَخَلَ الْحَرَمَ اُسْتُوْفِيَ مِنْهُ فِي الْحَرَمِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQفَلَمَّا لَمْ يَبْطُلْ أَدْوَنُ الْحَقَّيْنِ بِالْحَرَمِ فَأَعْلَاهُمَا أَوْلَى وَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَا إذَا أَنْشَأَ الْقَتْلَ فِيهِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَا إذَا الْتَجَأَ إلَيْهِ وَقَالَ وَمَعْنَى الْآيَةِ وَمَنْ حَجَّهُ فَدَخَلَهُ كَانَ آمِنًا مِنْ الذُّنُوبِ الَّتِي اكْتَسَبَهَا أَوْ مِنْ النَّارِ فَأَجَابَ الشَّيْخُ عَنْ كَلَامِهِ وَقَالَ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ هَذَا الْعَامِّ بِالْآحَادِ وَالْقِيَاسِ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْحَقْهُ خُصُوصٌ فَبَقِيَ قَطْعِيًّا فَلَا يُعَارِضُهُ الدَّلَائِلُ الظَّنِّيَّةُ. وَذَكَرَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ التَّمَسُّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إثْبَاتِ الْأَمْنِ لِلْجَانِي الدَّاخِلِ فِي الْحَرَمِ مُشْكِلٌ لِأَنَّ الضَّمِيرَ الْبَارِزَ فِي دَخَلَهُ رَاجِعٌ إلَى الْبَيْتِ لَا إلَى الْحَرَمِ فَإِنَّ الْبَيْتَ هُوَ الْمَذْكُورُ إلَّا إذَا وَقَعَ النِّزَاعُ فِي الْجَانِي إذَا دَخَلَ الْبَيْتَ فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهَا وَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيمَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ أَيْضًا لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ عِنْدَ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ فَأَمَّا إذَا سَلَّمَ الْخَصْمُ أَنَّ دُخُولَ الْبَيْتِ يُفِيدُ الْأَمْنَ وَلَكِنَّ دُخُولَ الْحَرَمِ لَا يُفِيدُهُ فَالْإِلْزَامُ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مُتَعَذِّرٌ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ فَبَعْضُهُمْ قَالُوا لَا يَصِيرُ آمِنًا بِالدُّخُولِ فِي الْبَيْتِ وَلَكِنْ لَا يُقْتَلُ فِي الْبَيْتِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَلْوِيثِهِ بَلْ يُؤْخَذُ وَيُخْرَجُ مِنْ الْبَيْتِ وَيُقْتَلُ، وَبَعْضُهُمْ قَالُوا يَصِيرُ آمِنًا بِالدُّخُولِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَأْمَنْ بِالدُّخُولِ فِي الْحَرَمِ وَلَا يُقَالَ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ عَيْنَ الْكَعْبَةِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] وَمَقَامُ إبْرَاهِيمَ خَارِجَ الْبَيْتِ فِي الْحَرَمِ لِأَنَّا نَقُولُ مَقَامُ إبْرَاهِيمَ مَا قَامَ عِنْدَهُ إبْرَاهِيمُ وَتَعَبَّدَ، وَإِبْرَاهِيمُ كَانَ يَقُومُ فِي الْبَيْتِ وَلَا يُقَالُ أَيْضًا إنَّ الْبَيْتَ لَمَّا صَارَ مَأْمَنًا لَهُ صَارَ الْحَرَمُ مَأْمَنًا لَهُ أَيْضًا تَبَعًا لَهُ لِأَنَّهُ مِنْ حَرِيمِهِ لِأَنَّا نَقُولُ حُرْمَةُ التَّبَعِ دُونَ حُرْمَةِ الْمَتْبُوعِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْبَيْتِ مَأْمَنًا لِلْجَانِي أَنْ يَكُونَ الْحَرَمُ كَذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْبَيْتِ قِبْلَةً لِلصَّلَاةِ كَوْنُ الْحَرَمِ كَذَلِكَ. وَمِنْ الطَّوَافِ حَوْلَ الْبَيْتِ وُجُوبُهُ حَوْلَ الْحَرَمِ، وَمِنْ وُجُوبِ تَبْرِئَةِ الْبَيْتِ عَنْ النَّجَاسَاتِ وُجُوبُ تَبْرِئَةِ الْحَرَمِ عَنْهَا فَكَذَلِكَ هَذَا كَذَا فِي طَرِيقَةِ الصَّدْرِ الْحَجَّاجِ قُطْبِ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ هُوَ الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ فَإِنَّ صِفَةَ " الْأَمْنِ " تَعُمُّ الْبَيْتَ وَالْحَرَمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67] وَقَالَ إخْبَارًا عَنْ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة: 126] وَلِهَذَا ثَبَتَ الْأَمْنُ لِلصَّيْدِ بِدُخُولِ الْحَرَمِ فَلَا مَعْنَى لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْبَيْتِ وَالْحَرَمِ وَلَمَّا أَخَذَ الْحَرَمُ حُكْمَ الْبَيْتِ فِي الْأَمْنِ صَارَ الْبَيْتُ وَالْحَرَمُ بِمَنْزِلَةِ شَيْءٍ وَاحِدٍ فِيمَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كَذَلِكَ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ الرَّاجِعُ إلَى الْبَيْتِ مُتَنَاوِلًا لِلْحَرَمِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} [آل عمران: 97] وَلَمْ يَقُلْ فِي حَرَمِهِ آيَاتٌ مَعَ أَنَّ مَقَامَ إبْرَاهِيمَ خَارِجَ الْبَيْتِ وَمَا قَالُوا مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ هُوَ الْبَيْتُ بِاعْتِبَارِ عِبَادَتِهِ فِيهِ فَاسِدٌ لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ لَمْ يُفَسِّرْهُ بِذَلِكَ. وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] فَسَّرَ الْآيَاتِ بِمَقَامِ إبْرَاهِيمَ إذْ هُوَ عَطْفُ بَيَانٍ لِآيَاتٍ وَلَيْسَ فِي كَوْنِ الْبَيْتِ مُتَعَبَّدًا لَهُ آيَةٌ بَلْ هِيَ ظُهُورُ أَثَرِ قَدَمِهِ فِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ وَغَوْصُهُ فِيهَا إلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِبْقَاؤُهُ دُونَ سَائِرِ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ لِإِبْرَاهِيمَ خَاصَّةً، وَحِفْظُهُ مَعَ كَثْرَةِ الْأَعْدَاءِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَلَاحِدَةِ أَلْفَ سَنَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قِيلَ فِيهِ آيَاتٌ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا قَالُوا لَقِيلَ هُوَ آيَةٌ بَيِّنَةٌ مَقَامُ إبْرَاهِيمَ فَثَبَتَ أَنَّ الطَّرِيقَ الْأَوَّلَ صَحِيحٌ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَصْلَ الطَّرَفِ لِأَنَّ الْأَطْرَافَ فِي حُكْمِ الْأَمْوَالِ عَلَى مَا عُرِفَ وَالْأَمْنُ ثَبَتَ لِلْأَنْفُسِ فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ دَخَلَهُ} [آل عمران: 97] يَتَنَاوَلُ الْأَنْفُسَ لَا الْأَطْرَافَ إلَّا أَنَّ الْأَمَانَ يَثْبُتُ فِيهَا تَبَعًا لِلنَّفْسِ حَتَّى لَمْ يُحِلَّ الْجِنَايَةَ عَلَى أَطْرَافِ الْمُرْتَدِّ وَالْكَافِرِ

[العام يوجب الحكم لا على اليقين]

وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْوَقْفُ وَاجِبٌ فِي كُلِّ عَامٍّ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ يَثْبُتُ بِهِ أَخَصُّ الْخُصُوصِ، أَمَّا مَنْ قَالَ بِالْوَقْفِ فَقَدْ احْتَجَّ بِأَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ مُجْمَلٌ فِيمَا أُرِيدَ بِهِ لِاخْتِلَافِ أَعْدَادِ الْجَمْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُؤَكَّدُ بِمَا يُفَسِّرُهُ فَيُقَالُ جَاءَنِي الْقَوْمُ أَجْمَعُونَ وَكُلُّهُمْ، فَلَمَّا اسْتَقَامَ تَفْسِيرُهُ بِمَا يُوجِبُ الْإِحَاطَةَ عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ مُحْتَمَلًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْخَاصَّ لَا يُؤَكَّدُ بِمِثْلِهِ يُقَالُ جَاءَنِي زَيْدٌ نَفْسُهُ لَا جَمِيعُهُ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْمَجَازَ دُونَ الْبَيَانِ فَلَا يُؤَكَّدُ بِالْجَمِيعِ وَقَدْ ذُكِرَ الْجَمْعُ وَأُرِيدَ بِهِ الْبَعْضُ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173] وَإِنَّمَا هُوَ وَاحِدٌ فَلِذَلِكَ وَجَبَ الْوَقْفُ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي الْحَرَمِ فَإِذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ وَالْقَطْعُ بِالْجِنَايَةِ أَوْ السَّرِقَةُ لَا يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَهُ إلَّا مِنْ الَّذِي ثَبَتَ تَبَعًا بِخِلَافِ طَرَفِ الصَّيْدِ فَإِنَّ طَرَفَهُ بِمَنْزِلَةِ ذَاتِهِ لِأَنَّ الصَّيْدَ لَا يَبْقَى مُتَوَحِّشًا بَعْدَ فَوَاتِ طَرَفِهِ فَكَانَ إتْلَافُ طَرَفِهِ إخْرَاجًا لَهُ عَنْ الصَّيْدِيَّةِ وَلِأَنَّ مَنْ ثَبَتَ فِيهِ بِنَصٍّ مَقْصُودٍ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا» الْحَدِيثَ وَكَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْ إنْشَاءِ الْقَتْلِ فِيهِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ فِيهِ لِأَنَّ النَّصَّ تَنَاوَلَ الدَّاخِلَ فِي الْحَرَمِ وَبِالدُّخُولِ يَثْبُتُ الْأَمَانُ وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِ وَلِأَنَّ الْمُلْتَجِئَ إلَى الْحَرَمِ مُعَظِّمٌ حُرْمَتَهُ بِالِالْتِجَاءِ إلَيْهِ فَاسْتَحَقَّ الْأَمْنَ، وَالْمُنْشِئُ هَاتِكٌ لِحُرْمَتِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَمْنُ. وَأَمَّا قَتْلُ ابْنِ خَطَلٍ فَقَدْ كَانَ فِي سَاعَةِ أُحِلَّتْ مَكَّةُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ أَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَالزِّيَادَةُ لَيْسَتْ بِمَشْهُورَةٍ وَلَئِنْ ثَبَتَتْ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْقِطُ الْعُقُوبَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْعَامُّ يُوجِبُ الْحُكْمَ لَا عَلَى الْيَقِينِ] قَوْلُهُ (قَالَ الشَّافِعِيُّ الْعَامُّ يُوجِبُ الْحُكْمَ لَا عَلَى الْيَقِينِ) يَعْنِي مُوجِبُ الْعَامِّ عِنْدَهُ ظَنِّيٌّ بِمَنْزِلَةِ الْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلِهَذَا جَوَّزَ تَخْصِيصَ الْعَامِّ ابْتِدَاءً بِهِمَا وَجَعَلَ الْخَاصَّ أَوْلَى بِالْمَصِيرِ إلَيْهِ مِنْ الْعَامِّ مُتَقَدِّمًا كَانَ أَوْ مُتَأَخِّرًا كَذَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَلَى هَذَا دَلَّتْ مَسَائِلُهُ فَإِنَّهُ رَجَّحَ خَبَرَ الْعَرَايَا عَلَى عُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ كَيْلٌ بِكَيْلٍ» الْحَدِيثَ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَبَيَانُهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَجَازَ الْعَرِيَّةَ وَهِيَ أَنْ يَبْتَاعَ الرَّجُلُ مَا عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ خَرْصًا بِمِثْلِ مَا يَعُودُ إلَيْهِ بَعْدَ الْجَفَافِ تَمْرًا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا» سُئِلَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا عَرَايَاكُمْ هَذِهِ قَالَ «إنَّ مَحَاوِيجَ الْأَنْصَارِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ الرُّطَبَ لِيَأْتِيَنَا وَلَيْسَ بِأَيْدِينَا نَقْدٌ نَبْتَاعُهُ وَعِنْدَنَا فُضُولُ قُوتِنَا مِنْ التَّمْرِ فَرَخَّصَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَبْتَاعَ بِخَرْصِهَا تَمْرًا فَنَأْكُلَ مَعَ النَّاسِ الرُّطَبَ» فَرَجَّحَ خَبَرَ الرُّخْصَةِ لِخُصُوصِهِ عَلَى الْخَبَرِ الْعَامِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَعِنْدَنَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ الْبَيْعُ لِأَنَّ مَا عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ تَمْرٌ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالتَّمْرِ إلَّا كَيْلًا بِكَيْلٍ عَمَلًا بِعُمُومِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ فَرَجَّحْنَاهُ بِعُمُومِهِ وَلَكِنْ بِكَوْنِهِ مُتَّفَقًا عَلَى قَبُولِهِ عَلَى الْخَاصِّ الْمُخْتَلَفِ فِي قَبُولِهِ، وَقُلْنَا الْعَرِيَّةُ الَّتِي رَخَّصَ فِيهَا هِيَ الْعَطِيَّةُ وَهِيَ أَنْ يَهَبَ الرَّجُلُ ثَمَرَةَ بُسْتَانِهِ لِرَجُلٍ ثُمَّ يَشُقَّ عَلَى الْمُعْرِي دُخُولُهُ فِي بُسْتَانِهِ لِمَكَانِ أَهْلِهِ فِيهِ وَلَا يَرْضَى مِنْ نَفْسِهِ خُلْفَ الْوَعْدِ وَالرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ فَيُعْطِيَهُ مَكَانَ ذَلِكَ تَمْرًا مَحْدُودًا بِالْخَرْصِ لِيَنْدَفِعَ ضَرَرُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَكُونَ مُخْلِفًا لِلْوَعْدِ وَهَذَا عِنْدَنَا جَائِزٌ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَمْ يَصِرْ مِلْكًا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مَا دَامَ مُتَّصِلًا بِمِلْكِ الْوَاهِبِ فَمَا يُعْطِيهِ مِنْ التَّمْرِ لَا يَكُونُ عِوَضًا عَنْهُ بَلْ يَكُونُ هِبَةً مُبْتَدَأَةً وَإِنَّمَا سُمِّيَ ذَلِكَ تَبَعًا مَجَازًا لِأَنَّهُ فِي الصُّورَةِ عِوَضٌ يُعْطِيهِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ خُلْفِ الْوَعْدِ، وَاتَّفَقَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّ الرُّخْصَةَ مَقْصُورَةٌ عَلَيْهِ فَنَقَلَ كَمَا وَقَعَ عِنْدَهُ وَكَذَلِكَ رَجَّحَ الشَّافِعِيُّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» عَلَى عُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ» كَمَا رَجَّحَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، إلَّا أَنَّهُ رَجَّحَ نَظَرًا إلَى خُصُوصِهِ وَعُمُومِ الْآخَرَ فَإِنَّ الْخَاصَّ عِنْدَهُ رَاجِحٌ عَلَى الْعَامِّ بِكُلِّ حَالٍ، وَهُمَا رَجَّحَاهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ التَّارِيخَ لَمَّا لَمْ يُعْرَفْ بَيْنَهُمَا جُعِلَا كَأَنَّهُمَا وَرَدَا مَعًا فَجُعِلَ الْخَاصُّ مُخَصِّصًا لِلْعَامِّ حَتَّى لَوْ عُلِمَ كَوْنُ الْعَامِّ مُتَأَخِّرًا كَانَ نَاسِخًا لِلْخَاصِّ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ قَوْلُهُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQوَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْوَقْفُ وَاجِبٌ فِي كُلِّ عَامٍّ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ) يَعْنِي عَلَى الْعُمُومِ أَوْ الْخُصُوصِ وَيُسَمَّوْنَ الْوَاقِفِيَّةَ وَقَدْ تَحَزَّبُوا فِرَقًا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَيْسَ فِي اللُّغَةِ صِيغَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِلْعُمُومِ خَاصَّةٌ لَا تَكُونُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَالْأَلْفَاظُ الَّتِي ادَّعَاهَا أَرْبَابُ الْعُمُومِ أَنَّهَا عَامَّةٌ لَا تُفِيدُ عُمُومًا وَلَا خُصُوصًا بَلْ هِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا أَوْ مُجْمَلَةٌ فَيَتَوَقَّفُ فِي حَقِّ الْعَمَلِ وَالِاعْتِقَادِ جَمِيعًا إلَّا أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى الْمُرَادِ كَمَا يُتَوَقَّفُ فِي الْمُشْتَرَكِ أَوْ كَمَا يُتَوَقَّفُ فِي الْمُجْمَلِ. وَالْخَبَرُ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَهُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَعَامَّةِ الْمُرْجِئَةِ وَإِلَيْهِ مَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَثْبُتُ بِهِ أَخَصُّ الْخُصُوصِ وَهُوَ الْوَاحِدُ فِي اسْمِ الْجِنْسِ وَالثَّلَاثَةُ فِي صِيغَةِ الْجَمْعِ وَيَتَوَقَّفُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ وَيُسَمَّوْنَ أَصْحَابَ الْخُصُوصِ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ فِي حَقِّ الْكُلِّ فِي حَقِّ الِاعْتِقَادِ دُونَ الْعَمَلِ فَقَالُوا يَجِبُ أَنْ يُعْتَقَدَ عَلَى الْإِبْهَامِ أَنَّ مَا أَرَادَ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فَهُوَ حَقٌّ وَلَكِنَّهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ وَهُوَ مَذْهَبُ مَشَايِخِ سَمَرْقَنْدَ رَئِيسُهُمْ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْخَبَرِ وَبَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَتَوَقَّفَ فِي الْخَبَرِ وَأَجْرَى الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ عَلَى الْعُمُومِ وَهَذَا قَوْلٌ حَكَاهُ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ شِهَابٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَأَجْرَى الْأَخْبَارَ عَلَى ظَوَاهِرِهَا فِي الْعُمُومِ فَعِنْدَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ لَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِعَامٍّ أَصْلًا وَكَذَا عِنْدَ الْفَرِيقِ الثَّانِي فِيمَا وَرَاءَ أَخَصِّ الْخُصُوصِ وَعِنْدَ الْفَرِيقِ الثَّالِثِ يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِظَوَاهِر الْعُمُومَاتِ فِي الْأَحْكَامِ لَا فِي الِاعْتِقَادَاتِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الْعَمَلُ وَهِيَ تُوجِبُ الْعَمَلَ وَكَذَا إذَا قَالَ عَلَيَّ دَرَاهِمُ لِفُلَانٍ فَعِنْدَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ وَالرَّابِعِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إلَّا بَعْدَ الْبَيَانِ كَمَا لَوْ قَالَ عَلَيَّ شَيْءٌ وَعِنْدَ الْفَرِيقِ الثَّانِي يَلْزَمُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ لِأَنَّهَا أَخَصُّ الْخُصُوصِ وَكَذَا عِنْدَ الْفَرِيقِ الْخَامِسِ وَأَرْبَابِ الْعُمُومِ أَيْضًا، لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْعُمُومِ هَهُنَا مُتَعَذِّرٌ فَيُصَارُ إلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ ثُمَّ لَمَّا كَانَ وُجُوبُ التَّوَقُّفِ عِنْدَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ لِلْإِجْمَالِ أَوْ لِلِاشْتِرَاكِ أَشَارَ الشَّيْخُ فِي بَيَانِ شُبْهَتِهِمْ إلَى الْمَعْنَيَيْنِ. فَأَشَارَ إلَى الْإِجْمَالِ بِقَوْلِهِ اللَّفْظُ مُجْمَلٌ فِيمَا أُرِيدَ بِهِ أَيْ فِي مَعْرِفَةِ الْمُرَادِ بِهِ حَقِيقَةً لِأَنَّ الِاسْتِغْرَاقَ لَيْسَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعُمُومِ وَشَرَائِطِهِ عِنْدَكُمْ عَلَى مَا مَرَّ ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ يَسْتَقِيمُ أَنْ يُقْرَنَ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ وَالتَّفْسِيرِ مَا يُوجِبُ عُمُومَ الصِّيغَةِ وَإِحَاطَتَهَا لِلْجَمِيعِ فَيُقَالُ جَاءَنِي الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَأَجْمَعُونَ، وَلَوْ كَانَ الْعُمُومُ وَالْإِحَاطَةُ مُوجَبَ اللَّفْظِ لَمْ يَسْتَقِمْ تَفْسِيرُهُ بِمَا هُوَ عَيْنُ مُوجَبِهِ كَالْخَاصِّ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يُقْرَنَ بِهِ مَا هُوَ بَيَانُ مُوجِبِهِ بِأَنْ يُقَالَ جَاءَنِي زَيْدٌ كُلُّهُ أَوْ جَمِيعُهُ وَلَمَّا اسْتَقَامَ ذَلِكَ عَرَفْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْإِحَاطَةِ بِنَفْسِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْبَعْضُ مُرَادًا مِنْهُ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ لِأَنَّ أَعْدَادَ الْجَمْعِ مُخْتَلِفَةٌ وَلَيْسَ بَعْضُهَا أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ لِاسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ فَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ بِالتَّأَمُّلِ فِي صِيغَةِ اللَّفْظِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُجْمَلِ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ وَحَاصِلُ الْفَرْقِ أَنَّ قَوْلَهُ جَاءَنِي زَيْدٌ مَوْضُوعُهُ الْأَصْلِيُّ مَعْلُومٌ لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَا وُضِعَ لَهُ أَيْضًا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَهُوَ مَجِيءُ الْخَبَرِ أَوْ الْكِتَابِ، أَمَّا الْمَوْضُوعُ الْأَصْلِيُّ فِي الْعَامِّ فَالْجَمْعُ وَذَلِكَ يُوجَدُ

وَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ الْأَخَصَّ وَهُوَ الثَّلَاثَةُ مِنْ الْجَمَاعَةِ وَالْوَاحِدُ مِنْ الْجِنْسِ مُتَيَقَّنٌ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي الْكُلِّ فِيمَا دُونَهُ مِنْ الْأَعْدَادِ إلَى الثَّلَاثَةِ وَمَعَ ذَلِكَ يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَا وُضِعَ لَهُ أَيْضًا وَهُوَ الْفَرْدُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَلِهَذَا يُؤَكَّدُ بِمَا يَقْطَعُ الِاحْتِمَالَيْنِ أَيْ احْتِمَالَ الْمَجَازِ وَاحْتِمَالَ الْبَعْضِ فَيُقَالُ جَاءَنِي الْقَوْمُ أَنْفُسُهُمْ كُلُّهُمْ أَوْ أَجْمَعُونَ وَلَا يُقَالُ جَاءَنِي زَيْدٌ نَفْسُهُ كُلُّهُ أَوْ جَمِيعُهُ، وَإِذَا كَانَ الِاحْتِمَالُ وَالِاشْتِبَاهُ فِيهِ مَوْضُوعُهُ الْأَصْلِيُّ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُجْمَلِ بِخِلَافِ الْخَاصِّ. وَأَشَارَ إلَى الِاشْتِرَاكِ بِقَوْلِهِ (وَقَدْ ذُكِرَ الْجَمْعُ) أَيْ صِيغَةُ الْجَمْعِ (وَأُرِيدَ بِهِ الْبَعْضُ) أَيْ الْبَعْضُ الْخَاصُّ (مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173] كَانَ أَبُو سُفْيَانَ وَاعَدَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ أَنْ يُوَافِيَهُ الْعَامَ الْمُقْبِلَ بِبَدْرٍ الصُّغْرَى فَلَمَّا دَنَا الْمَوْعِدُ رُعِبَ وَنَدِمَ وَجَعَلَ لِنُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيِّ عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ عَلَى أَنْ يُخَوِّفَ الْمُؤْمِنِينَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ الَّذِينَ يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران: 173] أَيْ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ (وَإِنَّمَا هُوَ الْوَاحِدُ) إنَّ النَّاسَ أَيْ أَهْلَ مَكَّةَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ أَيْ الْجَيْشَ لِقِتَالِكُمْ فَاخْشَوْهُمْ وَلَا تَأْتُوهُمْ فَزَادَهُمْ ذَلِكَ الْقَوْلُ إيمَانًا أَيْ ثُبُوتًا فِي دِينِهِمْ وَإِقَامَةً عَلَى نُصْرَةِ نَبِيِّهِمْ وَلَمَّا اُسْتُعْمِلَتْ هَذِهِ الصِّيَغُ فِي الْخُصُوصِ اسْتِعْمَالًا شَائِعًا كَمَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي الْعُمُومِ بَلْ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْخُصُوصِ أَكْثَرُ فَقَلَّ مَا وُجِدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْكَلِمَاتِ الْمُطْلَقَةِ فِي الْمُحَاوَرَاتِ مِنْ الْعُمُومَاتِ مَا لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ تَخْصِيصُ قَضَيْنَا بِأَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ إذْ الْأَصْلُ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةُ كَمَا قَضَيْنَا بِاشْتِرَاكِ اسْمِ الْعَيْنِ لَمَّا رَأَيْنَا الْعَرَبَ يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ الْعَيْنِ فِي مُسَمَّيَاتِهِ اسْتِعْمَالًا وَاحِدًا مُتَشَابِهًا فَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْعُمُومِ مَجَازٌ فِي الْخُصُوصِ فَهُوَ مُتَحَكِّمٌ كَمَنْ ادَّعَى عَلَى الْعَكْسِ وَإِذَا ثَبَتَ الِاشْتِرَاكُ وَجَبَ التَّوَقُّفُ لَا مَحَالَةَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْمُرَادُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى الْمُرَادِ إلَّا بِالْبَيَانِ وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي قَدْ تَوَقَّفَ عَلَيْهِ بِالتَّأَمُّلِ وَبِالْبَيَانِ كَمَا فِي الْمُشْتَرَكِ قَوْلُهُ (وَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ) بِفَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِهَا وَهُوَ الْقَوْلُ بِأَخَصِّ الْخُصُوصِ أَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى الْقَوْلِ بِالتَّوَقُّفِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى إهْمَالِ اللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ مَعَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ مُحْتَمَلَاتِهِ ثُمَّ تَنَاوَلَ اللَّفْظَ لِلْأَخَصِّ وَهُوَ الثَّلَاثَةُ مِنْ الْجَمَاعَةِ وَالْوَاحِدُ مِنْ الْجِنْسِ مُتَيَقَّنٌ لِثُبُوتِهِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ أَعْنِي تَقْدِيرَ إرَادَةِ الْعُمُومِ وَتَقْدِيرَ إرَادَةِ الْخُصُوصِ وَتَنَاوُلُهُ لِلْعُمُومِ مُحْتَمَلٌ فَالْعَمَلُ بِالْمُتَيَقَّنِ وَجَعْلُ اللَّفْظِ حَقِيقَةً فِيهِ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ، وَوَجْهُ قَوْلِ مَشَايِخِ سَمَرْقَنْدَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ صِيَغَ الْعُمُومِ مَوْضُوعَةٌ لَهُ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ وَلَكِنْ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ صَارَتْ مُشْتَرَكَةً وَوُرُودُ هَذِهِ النُّصُوصِ كَانَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي صَارَتْ مُشْتَرَكَةً فَلَوْ اعْتَقَدْنَا فِيهَا الْعُمُومَ لَا نَأْمَنُ عَنْ الْوُقُوعِ فِي الْخَطَأِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا الْخُصُوصَ إذْ أَكْثَرُ الْعُمُومَاتِ غَيْرُ مُسْتَوْعَبَةٍ، وَلَوْ قُلْنَا بِالتَّوَقُّفِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ أَوْ بِأَخَصِّ الْخُصُوصِ كَمَا قَالُوا لَا نَأْمَنُ مِنْ أَنْ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ إلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ ارْتِكَابِ مَحْظُورٍ إذْ احْتِمَالُ إرَادَةِ الْعُمُومِ قَائِمٌ أَيْضًا فَقُلْنَا بِالتَّوَقُّفِ فِي حَقِّ الِاعْتِقَادِ وَبِالْعُمُومِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ احْتِيَاطًا وَوَجْهُ قَوْلِ مَنْ تَوَقَّفَ فِي الْخَبَرِ دُونَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى التَّكْلِيفِ بِأَوَامِرَ وَنَوَاهٍ عَامَّةٍ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لِلْعُمُومِ لَمَا كَانَ التَّكْلِيفُ عَامًّا، بِخِلَافِ الْخَبَرِ إذْ لَيْسَ فِيهِ تَكْلِيفٌ فَوَجَبَ التَّوَقُّفُ فِيهِ بِالدَّلِيلِ الَّذِي قَالَهُ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ وَوَجْهُ قَوْلِ مَنْ عَكَسَ الْأَمْرَ أَنَّ احْتِمَالَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ

وَوَجْهُ قَوْلِنَا وَالشَّافِعِيِّ إنَّهُ مُوجِبٌ لِأَنَّ الْعُمُومَ مَعْنًى مَقْصُودٌ بَيْنَ النَّاسِ شَرْعًا وَعُرْفًا فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَفْظُهُ وُضِعَ لَهُ لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ لَا يَقْصُرُ عَنْ الْمَعَانِي أَبَدًا أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتِقَ عَبِيدَهُ كَانَ السَّبِيلُ فِيهِ أَنْ يَعُمَّهُمْ فَيَقُولَ عَبِيدِي أَحْرَارٌ وَالِاحْتِجَاجُ بِالْعُمُومِ مِنْ السَّلَفِ مُتَوَارَثٌ وَقَدْ احْتَجَّ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْحَمْلِ أَنَّهُ يَنْسَخُ سَائِرَ وُجُوهِ الْعِدَدِ بِقَوْلِهِ {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وَقَالَ إنَّهُ آخِرُهُمَا نُزُولًا ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالتَّحْرِيمِ وَالتَّنْزِيهِ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَهِيَ الطَّلَبُ وَالْمَنْعُ قَائِمٌ فَيُتَوَقَّفُ فِيهِمَا بِخِلَافِ الْخَبَرِ لِمَا نَذْكُرُ مِنْ دَلِيلِ أَرْبَابِ الْعُمُومِ. قَوْلُهُ (وَوَجْهُ قَوْلِنَا وَالشَّافِعِيِّ إنَّهُ مُوجِبٌ) إلَى آخِرِهِ وَاعْلَمْ أَنَّ فِي دَلَائِلِ أَرْبَابِ الْعُمُومِ كَثْرَةً وَلَكِنَّ الشَّيْخَ أَشَارَ إلَى اثْنَيْنِ مِنْهَا إلَى الدَّلِيلِ الْمَعْقُولِ وَإِلَى إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَقَوْلُهُ (الْعُمُومَ مَعْنًى مَقْصُودٌ إلَى قَوْلِهِ عَبِيدِي أَحْرَارٌ) إشَارَةٌ إلَى الْمَعْقُولِ قَوْلُهُ (وَالِاحْتِجَاجُ إلَى آخِرِهِ) إشَارَةٌ إلَى الْإِجْمَاعِ أَمَّا بَيَانُ الْأَوَّلِ فَهُوَ أَنَّ الْأَسْمَاءَ وُضِعَتْ دَلَالَاتٌ عَلَى الْمَعَانِي الْمَقْصُودَةِ وَقَدْ مَرَّ تَحْقِيقُهُ فِي بَابِ الْأَمْرِ ثُمَّ مَعْنَى الْعُمُومِ مَقْصُودٌ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ كَمَعْنَى الْخُصُوصِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ لَفْظٌ مَوْضُوعٌ مُخْتَصٌّ بِهِ كَسَائِرِ الْمَقَاصِدِ، إذْ الْأَلْفَاظُ لَا تَقْصُرُ عَنْ الْمَعَانِي أَعْنِي الْمَعَانِيَ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا تَفْهِيمُ الْغَيْرِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِاللَّفْظِ الْخَاصِّ لَهُ فِي ذَلِكَ مُرَادٌ لَا يَحْصُلُ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ وَهُوَ تَخْصِيصُ الْفَرْدِ بِشَيْءٍ فَكَانَ لِتَحْصِيلِ مُرَادِهِ لَفْظٌ مَوْضُوعٌ وَهُوَ الْخَاصُّ فَكَذَا الْمُتَكَلِّمُ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ لَهُ مُرَادٌ فِي الْعُمُومِ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِاللَّفْظِ الْخَاصِّ وَلَا يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ التَّنْصِيصُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِمَّا هُوَ مُرَادٌ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِمُرَادِهِ لَفْظٌ مَوْضُوعٌ لُغَةً أَيْضًا قَوْلُهُ (أَلَا تَرَى) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ عُرْفًا يَعْنِي الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مَقْصُودٌ بَيْنَ النَّاسِ عُرْفًا أَنَّ (مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتِقَ جَمِيعَ عَبِيدِهِ جُمْلَةً يَقُولُ عَبِيدِي أَحْرَارٌ) وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى تَحْصِيلِ هَذَا الْمَقْصُودِ إلَّا بِالتَّعْمِيمِ فَمَنْ جَعَلَ مُوجِبَهُ التَّوَقُّفَ فَإِنَّهُ يَسُدُّ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ بَابَ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ فِي الْعُمُومِ بِاسْتِعْمَالِ صِيغَتِهِ إلَيْهِ أَشَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَاعْتَرَضُوا عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ فَقَالُوا هَذَا قِيَاسٌ أَوْ اسْتِدْلَالٌ وَاللُّغَةُ ثَبَتَتْ تَوْقِيفًا وَنَقْلًا لَا قِيَاسًا وَإِنْ سَلِمَ أَنْ ذَلِكَ وَاجِبٌ فِي الْحِكْمَةِ لَا نُسَلِّمُ عِصْمَةَ وَاضِعِي اللُّغَةِ حَتَّى لَا يُخَالِفُوا الْحِكْمَةَ فِي وَضْعِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ عَقَلَتْ الْمَاضِيَ وَالْمُسْتَقْبَلَ وَالْحَالَ ثُمَّ لَمْ تَضَعْ لِلْحَالِ لَفْظًا خَاصًّا حَتَّى لَزِمَ اسْتِعْمَالُ الْمُسْتَقْبَلِ فِيهَا وَكَمَا عَقَلَتْ الْأَلْوَانَ عَقَلَتْ الرَّوَائِحَ ثُمَّ لَمْ تَضَعْ لِلرَّوَائِحِ أَسَامِيَ حَتَّى لَزِمَ تَعْرِيفُهَا بِالْإِضَافَةِ فَيُقَالُ رِيحُ الْمِسْكِ وَرِيحُ الْعُودِ وَلَا يُقَالُ لَوْنُ الدَّمِ وَلَوْنُ الزَّعْفَرَانِ بَلْ يُقَالُ أَحْمَرُ أَوْ أَصْفَرُ. وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُمْ وَضَعُوا لِلْعُمُومِ لَفْظًا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ وَضَعُوا فِيهِ لَفْظًا خَاصًّا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَقَطْ فَإِنَّ الْعَيْنَ مَوْضُوعٌ لِلْبَاصِرَةِ وَلَكِنْ بِصِفَةِ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَ أَشْيَاءَ لِأَنَّهُمْ اسْتَعْمَلُوهُ فِي غَيْرِ الْبَاصِرَةِ فَكَذَلِكَ صِيَغُ الْعُمُومِ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَأَمَّا بَيَانُ الثَّانِي وَهُوَ الْعُمْدَةُ فِي الْبَابِ فَهُوَ أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِالْعُمُومِ أَيْ بِالْعَامِّ عَنْ السَّلَفِ وَهُمْ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ مُتَوَارَثٌ أَيْ ثَابِتٌ فَقَدْ اخْتَلَفَ عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّهَا تَعْتَدُّ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ أَيْ وَأَزْوَاجُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ أَيْ يُسْتَوْفَى أَزْوَاجُهُمْ {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] أَيْ يَعْتَدِدْنِ هَذِهِ الْمُدَّةَ وَقِيلَ عَشْرًا ذَهَابًا إلَى اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ دَاخِلَةٌ مَعَهَا يَقْتَضِي أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ} [الطلاق: 4] أَيْ ذَوَاتُ الْحَمْلِ مِنْ النِّسَاءِ {أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] أَيْ عِدَّتُهُنَّ وَضْعُ حَمْلِهِنَّ يَقْتَضِي أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَالتَّارِيخُ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ احْتِيَاطًا وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّهَا تَعْتَدُّ

وَصَارَ نَاسِخًا لِلْخَاصِّ الَّذِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَدَلَّ عَلَى مَا قُلْنَا إنَّهُ مُوجِبٌ مِثْلَ الْخَاصِّ وَاحْتَجَّ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَطْئًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَقَالَ أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] فَصَارَ التَّحْرِيمُ أَوْلَى ـــــــــــــــــــــــــــــQبِوَضْعِ الْحَمْلِ لَا غَيْرُ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ} [الطلاق: 4] مُتَأَخِّرٌ فِي النُّزُولِ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 234] الْآيَةَ حَتَّى قَالَ مَنْ شَاءَ بِأَهِلَّتِهِ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ الْقُصْرَى يَعْنِي سُورَةَ الطَّلَاقِ نَزَلَتْ بَعْدَ الْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا كَمَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهَا فَصَارَ بِعُمُومِهِ نَاسِخًا لِمَا تَقَدَّمَهُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] فَلِهَذَا أَوْجَبَ عَلَيْهَا الِاعْتِدَادَ بِوَضْعِ الْحَمْلِ لَا غَيْرُ. قَوْلُهُ (فَصَارَ نَاسِخًا) أَيْ صَارَ قَوْله تَعَالَى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ} [الطلاق: 4] نَاسِخًا لِلْخَاصِّ الَّذِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 234] وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ النَّصَّيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخَرِ عَامٌّ مِنْ وَجْهٍ خَاصٌّ مِنْ وَجْهٍ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ} [الطلاق: 4] عَامٌّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَغَيْرُهَا خَاصٌّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا أُولَاتِ الْأَحْمَالِ. وَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234] خَاصٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَوَّلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا عَامٌّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا الْحَامِلَ وَغَيْرَ الْحَامِلِ فَنَسَخَ قَوْله تَعَالَى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ} [الطلاق: 4] بِعُمُومِهِ حُكْمَ هَذَا النَّصِّ الْخَاصِّ النِّسْبِيِّ فِي حَقِّ الْحَامِلِ لِكَوْنِهِ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فَصَارَ نَاسِخًا لِلْخَاصِّ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَرَمَيْنِ الْإِمَامَيْنِ عَمِلَ بِالْعُمُومِ كَمَا هُوَ مُوجَبُ الصِّيغَةِ إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا جَمَعَ بَيْنَ النَّصَّيْنِ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالتَّارِيخِ وَالْآخَرَ عَمِلَ بِالْمُتَأَخِّرِ لِمَعْرِفَتِهِ بِهِ وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَطْئًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَحْرُمُ ذَلِكَ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] يُوجِبُ تَحْرِيمَهُ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ لَمَّا حَرَّمَ نِكَاحًا وَهُوَ سَبَبٌ مُفْضٍ إلَى الْوَطْءِ فَلَأَنْ يُحَرِّمَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا وَطْئًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ كَانَ أَوْلَى وَقَوْلُهُ جَلَّ جَلَالُهُ {أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] يُوجِبُ حِلَّهُ فَكَانَ الْأَخْذُ بِمَا يُحَرِّمُ أَوْلَى احْتِيَاطًا وَوَافَقَهُ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي أَنَّ النَّصَّيْنِ يُوجِبَانِ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ إلَّا أَنَّهُ رَجَّحَ الْمُوجِبَ لِلْحِلِّ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ فَعَمِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْعُمُومِ. وَلَا يُقَالُ الْمُبِيحُ عِبَارَةٌ وَالْمُحَرِّمُ دَلَالَةٌ فَلَا يَتَعَارَضَانِ لِأَنَّا نَقُولُ قَدْ خُصَّ مِنْ الْمُبِيحِ الْأَمَةُ الْمَجُوسِيَّةُ وَالْأُخْتُ مِنْ الرَّضَاعِ وَأُخْتُ الْمَنْكُوحَةِ وَغَيْرُهُنَّ فَكَانَ أَدْنَى مِنْ الْقِيَاسِ فَيُعَارِضُهُ الدَّلَالَةُ بَلْ تَتَرَجَّحُ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّا نَقُولُ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةٌ بِالْعِبَارَةِ أَيْضًا فَإِنْ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا} [النساء: 23] يَتَنَاوَلُ الْجَمْعَ مِنْ حَيْثُ النِّكَاحُ وَالْوَطْءُ جَمِيعًا وَكَذَلِكَ قَدْ اشْتَهَرَ الِاحْتِجَاجُ بِالْعُمُومَاتِ عَنْ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي الْوَقَائِعِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ فَإِنَّهُمْ عَمِلُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] فَاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى إرْثِ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حَتَّى نَقَلَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» وَأَجْرَوْا قَوْله تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] وَ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا} [الإسراء: 33] {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278] {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] وَ {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا» «مَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ» «لَا يَرِثُ الْقَاتِلُ» «لَا يُقْتَلُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْصَى عَلَى الْعُمُومِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ «لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95] قَالَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَكَانَ ضَرِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ بِمَنْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا يَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَنَزَلَ قَوْلُهُ عَزَّ ذِكْرُهُ {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] » فَعَقَلَ الضَّرِيرُ وَغَيْرُهُ عُمُومَ لَفْظِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] . قَالَ بَعْضُ الْكُفَّارِ أَنَا أَخْصِمُ لَكُمْ مُحَمَّدًا فَجَاءَ وَقَالَ أَلَيْسَ عُبِدَ الْمَلَائِكَةُ وَعُبِدَ الْمَسِيحُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونُوا مِنْ حَصَبِ جَهَنَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] الْآيَةَ تَنْبِيهًا عَلَى التَّخْصِيصِ وَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - تَعَلُّقَهُ بِالْعُمُومِ وَمَا قَالُوا لَهُ لَمَّا اسْتَدَلَّ اسْتَدْلَلْتَ بِلَفْظٍ مُشْتَرَكٍ أَوْ مُجْمَلٍ وَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] قَالَتْ الصَّحَابَةُ فَأَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ ظُلْمَ النِّفَاقِ وَالْكُفْرِ وَاحْتَجَّ عُمَرُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» فَدَفَعَهُ أَبُو بَكْرٍ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إلَّا بِحَقِّهَا» وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ التَّعَلُّقَ بِالْعُمُومِ هَذَا وَأَمْثَالُهُ لَا تَنْحَصِرُ حِكَايَتُهُ فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الْقَوْلَ بِالْعُمُومِ مَذْهَبُ السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ قَبْلَ ظُهُورِ الْوَاقِفِيَّةِ مُتَوَارَثٌ ذَلِكَ عَنْهُمْ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُجْرُونَ أَلْفَاظَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الْعُمُومِ إلَّا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى تَخْصِيصِهِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ دَلِيلَ الْخُصُوصِ لَا دَلِيلَ الْعُمُومِ فَكَانَ الْقَوْلُ بِالتَّوَقُّفِ أَوْ بِأَخَصِّ الْخُصُوصِ مُخَالِفًا لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ فَوَجَبَ رَدُّهُ قَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالطَّرِيقُ الْمُخْتَارُ فِي إثْبَاتِ الْعُمُومِ عِنْدَنَا أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى صِيغَةٍ تَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْعُمُومِ لَا يَخْتَصُّ بِلُغَةِ الْعَرَبِ بَلْ هِيَ ثَابِتَةٌ فِي جَمِيعِ اللُّغَاتِ فَيَبْعُدُ أَنْ يَغْفُلَ عَنْهَا جَمِيعُ أَصْنَافِ الْخَلْقِ فَلَا يَضَعُوهَا مَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا وَيَدُلُّ عَلَى وَضْعِهَا تَوَجُّهُ الِاعْتِرَاضِ عَلَى مَنْ عَصَى الْأَمْرَ الْعَامَّ وَسُقُوطُ الِاعْتِرَاضِ عَمَّنْ أَطَاعَ وَلُزُومُ النَّقْضِ وَالْخُلْفِ عَلَى الْخَبَرِ الْعَامِّ. وَجَوَازُ بِنَاءِ الِاسْتِحْلَالِ عَلَى الْمُحَلِّلَاتِ الْعَامَّةِ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ تَدُلُّ عَلَى الْغَرَضِ وَبَيَانُهَا أَنَّ السَّيِّدَ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ مَنْ دَخَلَ الْيَوْمَ دَارِي فَأَعْطِهِ رَغِيفًا أَوْ دِرْهَمًا فَأَعْطَى كُلَّ دَاخِلٍ لَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ وَأَنْ يُعَاتِبَهُ فِي إعْطَائِهِ وَاحِدًا مِنْ الدَّاخِلِينَ وَيَقُولَ لِمَ أَعْطَيْتَ هَذَا مِنْ جُمْلَتِهِمْ وَهُوَ قَصِيرٌ وَأَنَا أَرَدْتُ الطِّوَالَ أَوْ هُوَ أَسْوَدُ وَأَنَا أَرَدْتُ الْبِيضَ وَلِلْعَبْدِ أَنْ يَقُولَ مَا أَمَرْتَنِي بِإِعْطَاءِ الطِّوَالِ وَالْبِيضِ بَلْ بِإِعْطَاءِ مَنْ دَخَلَ وَهَذَا دَخَلَ فَالْعُقَلَاءُ إذَا سَمِعُوا فِي اللُّغَاتِ كُلِّهَا رَأَوْا اعْتِرَاضَ السَّيِّدِ سَاقِطًا وَعُذْرَ الْعَبْدِ مُتَوَجِّهًا وَقَالُوا لِلسَّيِّدِ أَنْتَ أَمَرْتَهُ بِإِعْطَاءِ مَنْ دَخَلَ وَهَذَا قَدْ دَخَلَ وَلَوْ أَنَّهُ أَعْطَى الْجَمِيعَ إلَّا وَاحِدًا فَعَاتَبَهُ السَّيِّدُ وَقَالَ لِمَ لَمْ تُعْطِهِ فَقَالَ الْعَبْدُ لِأَنَّ هَذَا طَوِيلٌ أَوْ أَبْيَضُ وَكَانَ لَفْظُك عَامًّا فَقُلْت لَعَلَّكَ أَرَدْتَ الْقِصَارَ أَوْ السُّودَ اسْتَوْجَبَ التَّأْدِيبَ بِهَذَا الْكَلَامِ وَقِيلَ لَهُ مَالَكَ وَالنَّظَرَ إلَى الطُّولِ وَاللَّوْنِ وَقَدْ أَمَرْتُكَ بِإِعْطَاءِ الدَّاخِلِ فَهَذَا مَعْنَى سُقُوطِ الِاعْتِرَاضِ عَنْ الْمُطِيعِ وَتَوَجُّهِهِ عَلَى الْعَاصِي وَأَمَّا النَّقْضُ عَلَى الْخَبَرِ فَهُوَ مَا إذَا قَالَ مَا رَأَيْتُ الْيَوْمَ أَحَدًا وَكَانَ قَدْ رَأَى جَمَاعَةً كَانَ كَلَامُهُ خُلْفًا مَنْقُوضًا وَكَذِبًا فَإِنْ قَالَ أَرَدْتُ أَحَدًا غَيْرَ تِلْكَ الْجَمَاعَةِ كَانَ مُسْتَنْكَرًا وَهَذِهِ إحْدَى صِيَغِ الْعُمُومِ فَإِنَّ النَّكِرَةَ فِي النَّفْيِ تَعُمُّ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى {إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا} [الأنعام: 91] إنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا نَقْضًا عَلَى كَلَامِهِمْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَامًّا فَلِمَ وَرَدَ النَّقْضُ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُمْ

وَذَلِكَ عَامٌّ كُلُّهُ ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ كُلُّ عَامٍّ يَحْتَمِلُ إرَادَةَ الْخُصُوصِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ فَتَمَكَّنَتْ فِيهِ الشُّبْهَةُ فَذَهَبَ الْيَقِينُ، وَلَنَا أَنَّ الصِّيغَةَ مَتَى وُضِعَتْ لِمَعْنًى كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَاجِبًا بِهِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ، وَإِرَادَةُ الْبَاطِنِ لَا تَصْلُحُ دَلِيلًا لِأَنَّا لَمْ نُكَلَّفْ دَلِيلًا دَرْكُ الْغَيْبِ فَلَا يَبْقَى لَهُ عِبْرَةً أَصْلًا ـــــــــــــــــــــــــــــQأَرَادُوا غَيْرَ مُوسَى فَلَمْ يَلْزَمْ دُخُولُ مُوسَى تَحْتَ اسْمِ الْبَشَرِ. وَأَمَّا الِاسْتِحْلَالُ بِالْعُمُومِ فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ أَعْتَقْت عَبِيدِي أَوْ إمَائِي وَمَاتَ عَقِيبَهُ جَازَ لِمَنْ سَمِعَهُ أَنْ يُزَوِّجَ مِنْ أَيِّ عَبِيدِهِ شَاءَ أَوْ يَتَزَوَّجَ بِأَيِّ جَوَارِيهِ بِغَيْرِ رِضَاءِ الْوَرَثَةِ وَإِذَا قَالَ الْعَبِيدُ الَّذِينَ هُمْ فِي يَدِي مِلْكُ فُلَانٍ كَانَ ذَلِكَ إقْرَارًا مَحْكُومًا بِهِ فِي الْجَمِيعِ وَبِنَاءُ أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْعُمُومَاتِ فِي سَائِرِ اللُّغَاتِ لَا يَنْحَصِرُ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَنْفِقْ عَلَى عَبْدِي غَانِمٍ أَوْ عَلَى زَوْجَتِي زَيْنَبَ وَلَهُ عَبْدَانِ اسْمُهُمَا غَانِمٌ وَزَوْجَتَانِ اسْمُهُمَا زَيْنَبُ يَجِبُ الْمُرَاجَعَةُ وَالِاسْتِفْهَامُ لِأَنَّهُ أَتَى بِاسْمٍ مُشْتَرَكٍ غَيْرِ مَفْهُومٍ فَلَوْ كَانَ لَفْظُ الْعُمُومِ مُشْتَرَكًا فِيمَا وَرَاءَ أَقَلِّ الْجَمْعِ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ التَّوَقُّفُ عَلَى الْعَبْدِ إذَا أَعْطَى ثَلَاثَةً مِمَّنْ دَخَلَ الدَّارَ وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَاجَعَ فِي الْبَاقِي وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ كُلِّهِمْ فِي اللُّغَاتِ كُلِّهَا (فَإِنْ قِيلَ) إنْ سَلَّمْنَا لَكُمْ مَا ذَكَرْتُمُوهُ فَإِنَّمَا نُسَلِّمُ بِسَبَبِ الْقَرَائِنِ فَإِذَا عَرِيَ عَنْ الْقَرَائِنِ فَلَا نُسَلِّمُ وَفِي قَوْلِهِ أَنْفِقْ عَلَى عَبِيدِي وَجَوَّارِيَّ فِي غَيْبَتِي إنَّمَا كَانَ مُطِيعًا بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْجَمِيعِ بِقَرِينَةِ الْحَاجَةِ إلَى النَّفَقَةِ وَفِي قَوْلِهِ أَعْطِ مَنْ دَخَلَ دَارِي لِقَرِينَةِ إكْرَامِ الزَّائِرِ (قُلْنَا) فَلْنُقَدِّرْ أَضْدَادَهَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لَا تُنْفِقْ عَلَى عَبِيدِي وَزَوْجَاتِي كَانَ عَاصِيًا بِالْإِنْفَاقِ مُطِيعًا بِالتَّصْنِيعِ وَلَوْ قَالَ اضْرِبْهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى ثَلَاثَةٍ بَلْ إذَا ضَرَبَهُمْ جَمِيعًا عُدَّ مُطِيعًا وَلَوْ قَالَ مَنْ دَخَلَ دَارِي فَخُذْ مِنْهُ شَيْئًا بَقِيَ الْعُمُومُ. قَوْلُهُ (وَذَلِكَ عَامٌّ كُلُّهُ) إشَارَةٌ إلَى مَا احْتَجَّ ابْنُ مَسْعُودٍ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِنْ الْآيَاتِ فَعُمُومُ الْأُولَيَيْنِ ظَاهِرٌ وَكَذَا عُمُومُ الثَّالِثَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] إذْ مَعْنَاهُ وَحَرُمَ عَلَيْكُمْ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَالْجَمْعُ اسْمُ جِنْسٍ مُحَلَّى بِاللَّامِ فَيَتَنَاوَلُ الْجَمْعَ نِكَاحًا وَوَطْئًا قَوْلُهُ (ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ) إلَى آخِرِهِ اخْتَلَفَ أَرْبَابُ الْعُمُومِ فِي مُوجِبِ الْعَامِّ فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ مِنْهُمْ مُوجِبُهُ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ مَشَايِخِ سَمَرْقَنْدَ وَعِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا الْعِرَاقِيِّينَ مِنْهُمْ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ مُوجِبُهُ قَطْعِيٌّ كَمُوجِبِ الْخَاصِّ وَتَابَعَهُمْ فِي ذَلِكَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ وَعَامَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ الشَّيْخُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِي وُجُوبِ الِاعْتِقَادِ وَجَوَازِ تَخْصِيصِهِ بِالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ ابْتِدَاءً فَعِنْدَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ لَا يَجِبُ أَنْ يُعْتَقَدَ الْعُمُومُ فِيهِ وَيَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَعِنْدَ الْفَرِيقِ الثَّانِي عَلَى الْعَكْسِ تَمَسَّكَ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ بِأَنَّ الْيَقِينَ وَالْقَطْعَ لَا يَثْبُتُ مَعَ الِاحْتِمَالِ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ قَطْعِ الِاحْتِمَالِ ثُمَّ احْتِمَالُ إرَادَةِ الْخُصُوصِ فِي الْعَامِّ قَائِمٌ لِأَنَّهُ لَا يَرِدُ إلَّا عَلَى احْتِمَالِ الْخُصُوصِ فِي نَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِلْخُصُوصِ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ - لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [النساء: 75 - 170] . وَإِذَا كَانَ الِاحْتِمَالُ ثَابِتًا فِي نَفْسِهِ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِثُبُوتِ مُوجِبِهِ قَطْعًا مَعَ الِاحْتِمَالِ كَالثَّابِتِ بِالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْخَاصِّ فَإِنَّ احْتِمَالَ إرَادَةِ الْمَجَازِ وَالنَّسْخِ قَائِمٌ فِيهِ وَمَعَ ذَلِكَ يَثْبُتُ مُوجَبُهُ قَطْعًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْمَجَازِ ثَابِتٌ فِي الْعُمُومِ أَيْضًا مَعَ احْتِمَالِ التَّخْصِيصِ فَكَانَ الِاحْتِمَالُ فِيهِ أَكْثَرَ وَأَقْوَى فَيَجُوزُ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي رَفْعِ الْقَطْعِ وَالْيَقِينِ وَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ أَنَّ احْتِمَالَ التَّخْصِيصِ لَا يُخْرِجُ الْعَامَّ عَنْ حَقِيقَتِهِ لِأَنَّ الْعُمُومَ بَاقٍ بَعْدَ التَّخْصِيصِ إلَى الثَّلَاثِ لِمَا نَذْكُرُ أَنَّ الْعَامَّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQبَعْدَ التَّخْصِيصِ لَا يَصِيرُ مَجَازًا فِيمَا وَرَاءَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ احْتِمَالُ إرَادَةِ التَّخْصِيصِ بِمَنْزِلَةِ إرَادَةِ مُسَمًّى آخَرَ لِهَذِهِ الصِّيغَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي رَفْعِ الْيَقِينِ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ كَالْمُشْتَرَكِ إذَا تَرَجَّحَ بَعْضُ وُجُوهِهِ بِدَلِيلٍ ظَاهِرٍ كَانَ احْتِمَالُ إرَادَةِ الْمُسَمَّى الْآخَرِ مُعْتَبَرًا فِي رَفْعِ الْقَطْعِ وَالْيَقِينِ، فَأَمَّا احْتِمَالُ إرَادَةِ الْمَجَازِ فِي الْخَاصِّ فَيُخْرِجُهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَأَصْلِهِ فَكَانَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ فَلَا يُعْتَبَرُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَأَمَّا احْتِمَالُ النَّسْخِ فَذَكَرَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ فِي أُصُولِهِ أَنَّ الْخَاصَّ بِنَفْسِهِ لَا يُوجِبُ شَيْئًا مَا لَمْ يُتَفَحَّصْ وَلَمْ يُتَأَمَّلْ فَإِذَا تُفُحِّصَ عَنْهُ وَلَمْ يُوقَفْ عَلَى النَّسْخِ فَقَدْ زَالَ الِاحْتِمَالُ فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ فِي زَمَانِنَا ابْتِدَاءُ النَّسْخِ حَتَّى أَنَّ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ الْخَاصُّ يُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ لِتَوَهُّمِ الِانْتِسَاخِ فَأَمَّا إرَادَةُ الْخُصُوصِ فَمَوْهُومٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَكُلُّ عَامٍ مُحْتَمِلٌ لِلْخُصُوصِ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَيُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ رِوَايَةِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ أَخْبَارُ الْآحَادِ الْخَاصَّةُ فِي مُعَارَضَةِ عُمُومِ الْكِتَابِ وَتَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِهَا وَبِالْقِيَاسِ فَكَانَ ذَلِكَ اتِّفَاقًا مِنْهُمْ أَنَّهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ. وَتَمَسَّكَ مَنْ قَالَ بِأَنَّ مُوجِبَهُ قَطْعِيٌّ بِأَنَّ اللَّفْظَ مَتَى وُضِعَ لِمَعْنًى كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى عِنْدَ إطْلَاقِهِ وَاجِبًا أَيْ لَازِمًا وَثَابِتًا بِذَلِكَ اللَّفْظِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ، ثُمَّ صِيغَةُ الْعُمُومِ مَوْضُوعَةٌ لَهُ وَحَقِيقَةٌ فِيهِ فَكَانَ مَعْنَى الْعُمُومِ وَاجِبًا وَثَابِتًا بِهَا قَطْعًا حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ كَمَا فِي الْخَاصِّ فَإِنَّ مُسَمَّاهُ ثَابِتٌ بِهِ قَطْعًا لِكَوْنِهِ مَوْضُوعًا لَهُ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى صَرْفِهِ إلَى الْمَجَازِ فَأَمَّا الِاحْتِمَالُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْخَصْمُ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ أَصْلًا لِأَنَّهُ إرَادَةٌ فِي بَاطِنِ الْمُكَلَّفِ وَهِيَ غَيْبٌ عَنَّا وَلَيْسَ فِي وُسْعِنَا الْوُقُوفُ عَلَيْهَا فَلَا يُعْتَبَرُ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ دَلِيلٌ فَقَبْلَ ظُهُورِهِ يَكُونُ مُوجِبُهُ ثَابِتًا قَطْعًا بِمَنْزِلَةِ الْخَاصِّ فَإِنَّ إرَادَةَ الْمَجَازِ لَمَّا كَانَتْ غَيْبًا لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ كَانَ مُوجِبُهُ ثَابِتًا قَطْعًا قَبْلَ ظُهُورِ الدَّلِيلِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ وُرُودَ صِيغَةِ الْعُمُومِ عَلَى إرَادَةِ الْخُصُوصِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ يُوهِمُ التَّلْبِيسَ عَلَى السَّامِعِ وَيُؤَدِّي إلَى تَكْلِيفِ الْمُحَالِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ وُرُودُ الْعَامِّ عَلَى إرَادَةِ الْخُصُوصِ وَلَا وُرُودُ الْخَاصِّ عَلَى إرَادَةِ الْمَجَازِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ يُفْهِمُ السَّامِعَ مُرَادَ الْخِطَابِ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْخَصْمُ مَالَ إلَى أَنَّ الْإِرَادَةَ مُغَيِّرَةٌ حُكْمَ الْحَقِيقَةِ لَا مَحَالَةَ وَاحْتِمَالُ الْإِرَادَةِ ثَابِتٌ حَالَ التَّكَلُّمِ فَيَثْبُتُ احْتِمَالُ التَّغَيُّرِ بِهِ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا لَمْ يُكَلِّفْنَا مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْإِرَادَةِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ فَلَزِمَنَا الْعَمَلُ بِالْعُمُومِ الظَّاهِرِ دُونَ مَا لَا نَصِلُ إلَيْهِ مِنْ الْإِرَادَةِ الْبَاطِنَةِ وَبَقِيَ احْتِمَالُ الْإِرَادَةِ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْعِلْمِ فَلَا نَعْلَمُ قَطْعًا وَأَنَّهُ كَلَامٌ حَسَنٌ وَلَكِنْ يَجِبُ أَنْ نَقُولَ كَذَلِكَ فِي حَقِيقَةِ الْخَاصِّ مَعَ مَجَازِهِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا لَمْ يُكَلِّفْنَا مَا لَيْسَ فِي وُسْعِنَا وَلَيْسَ فِي وُسْعِنَا الْوُقُوفُ عَلَى الْبَاطِنِ إلَّا بِدَلَالَةٍ ظَاهِرَةٍ لَمْ يَجْعَلْ الْبَاطِنَ حُجَّةً أَصْلًا فِي حَقِّنَا وَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ فِي الْعَمَلِ وَالْعِلْمِ جَمِيعًا وَجَعَلَ الْحُجَّةَ مَا يَظْهَرُ بِهِ الْبَاطِنُ وَإِنْ كَانَ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْحُجَّةِ فِي الْحَقِيقَةِ إقَامَةً لِلسَّبَبِ الظَّاهِرِ مَقَامَ مَا هُوَ حُجَّةٌ بَاطِنَةٌ تَيْسِيرًا عَلَى الْعِبَادِ كَإِقَامَةِ الْبُلُوغِ مَقَامَ اعْتِدَالِ الْعَقْلِ وَكَإِقَامَةِ دَلِيلِ الْمَحَبَّةِ وَالْبُغْضِ وَهُوَ الْإِخْبَارُ مَقَامَ حَقِيقَتِهِمَا حَتَّى سَقَطَ اعْتِبَارُ الِاعْتِدَالِ فَلَمْ يُخَاطَبْ الصَّبِيُّ وَإِنْ اعْتَدَلَ عَقْلُهُ وَخُوطِبَ الْبَالِغُ وَإِنْ لَمْ يَعْتَدِلْ عَقْلُهُ وَكَذَا

[باب العام إذا لحقه الخصوص]

وَالْجَوَابُ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ طَائِفَةُ أَهْلِ الْمَقَالَةِ الْأُولَى أَنَّا نَدَّعِي أَنَّهُ مُوجِبٌ لِمَا وُضِعَ لَهُ لَا أَنَّهُ مُحْكِمٌ لِمَا وُضِعَ لَهُ فَكَانَ مُحْتَمَلًا أَنْ يُرَادَ بِهِ بَعْضُهُ فَيَصْلُحُ تَوْكِيدُهُ بِمَا يَحْسِمُ بَابَ الِاحْتِمَالِ لِيَصِيرَ مُحْكَمًا كَالْخَاصِّ يَحْتَمِلُ الْمَجَازَ فَتَوْكِيدُهُ بِمَا يَقْطَعُهُ لَا بِمَا يُفَسِّرُهُ فَيُقَالُ جَاءَنِي زَيْدٌ نَفْسُهُ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْمَجِيءِ مَجَازًا. (بَابُ الْعَامِّ إذَا لَحِقَهُ الْخُصُوصُ) فَإِنْ لَحِقَ هَذَا الْعَامَّ خُصُوصٌ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ لَا يَبْقَى حُجَّةً أَصْلًا سَوَاءٌ كَانَ الْمَخْصُوصُ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا، وَقَالَ غَيْرُهُ إنْ كَانَ الْمَخْصُوصُ مَعْلُومًا بَقِيَ الْعَامُّ فِيمَا وَرَاءَ الْمَخْصُوصِ عَلَى مَا كَانَ وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا يَسْقُطُ حُكْمُ الْعُمُومِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنْ كَانَ الْمَخْصُوصُ مَعْلُومًا بَقِيَ الْعَامُّ فِيمَا وَرَاءَهُ عَلَى مَا كَانَ فَأَمَّا إذَا كَانَ مَجْهُولًا فَإِنَّ دَلِيلَ الْخُصُوصِ يَسْقُطُ، فَعَلَى قَوْلِ الْكَرْخِيِّ يَبْطُلُ الِاسْتِدْلَال ـــــــــــــــــــــــــــــQسَقَطَ اعْتِبَارُ حَقِيقَةِ الْمَحَبَّةِ وَالْبُغْضِ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ أَخْبَرْتِنِي أَنَّكِ تُحِبِّينِي أَوْ تُبْغِضِينِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَتَطْلُقُ بِالْإِخْبَارِ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا فَكَذَا هَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَعْضِ تَصَانِيفِهِ وَلَمَّا سَقَطَ اعْتِبَارُ الْإِرَادَةِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ بِالِاتِّفَاقِ يَسْقُطُ فِي حَقِّ الْعِلْمِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْعِلْمَ عَمَلُ الْقَلْبِ وَالْقَلْبُ أَصْلٌ وَالْعَمَلُ يَقُومُ بِالْجَوَارِحِ وَإِنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْقَلْبِ فَلَمَّا سَقَطَ فِي حَقِّ التَّبَعِ فَفِي حَقِّ الْأَصْلِ أَوْلَى وَلَكِنْ يَرِدُ عَلَيْهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسُ فَإِنَّ اعْتِبَارَ الِاحْتِمَالِ فِيهِمَا سَاقِطٌ فِي حَقِّ الْعَمَلِ ثُمَّ لَمْ يَسْقُطْ فِي حَقِّ الْعِلْمِ بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَا هَهُنَا. قَوْلُهُ (وَالْجَوَابُ عَمَّا احْتَجَّتْ بِهِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى) يَعْنِي الْوَاقِفِيَّةَ (أَنَّا نَدَّعِي أَنَّهُ) أَيْ الْعَامَّ (مُوجِبٌ لِمَا وُضِعَ لَهُ) وَهُوَ الْعُمُومُ قَطْعًا عِنْدَ عَدَمِ دَلِيلِ الْخُصُوصِ (لَا أَنَّهُ مُحْكِمٌ لِمَا وُضِعَ لَهُ) أَيْ فِيمَا وُضِعَ لَهُ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ صَلَاحِيَّتُهُ لِإِرَادَةِ الْخُصُوصِ (فَكَانَ مُحْتَمَلًا أَنْ يُرَادَ بِهِ بَعْضُهُ) أَيْ صَالِحًا فِي ذَاتِهِ لِذَلِكَ وَقَدْ حَقَّقْنَا هَذَا فِي (أَوَّلِ بَابِ أَحْكَامِ الْخَاصِّ) بِمَا يَحْسِمُ أَيْ يَقْطَعُ بِالْكُلِّيَّةِ. (بَابُ الِاحْتِمَالِ) أَيْ صَلَاحِيَّتُهُ الْآنَ يُرَادُ بِهِ بَعْضُهُ (لِيَصِيرَ مُحْكَمًا) أَيْ غَيْرَ قَابِلٍ لِمَعْنًى آخَرَ يَعْنِي إنَّمَا صَلُحَ تَوْكِيدُهُ مَعَ أَنَّهُ بِدُونِ التَّوْكِيدِ يُوجِبُ الْعُمُومَ وَالْإِحَاطَةَ لِيَصِيرَ مُحْكَمًا لَا لِمَا ظَنَّهُ الْخَصْمُ أَنَّهُ مُجْمَلٌ أَوْ مُشْتَرَكٌ فَيَصِيرُ بِهَذَا التَّوْكِيدِ مُفَسَّرًا وَيَكُونُ هَذَا التَّوْكِيدُ إزَالَةً لِخَفَائِهِ وَتَعْيِينًا لِبَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ (كَالْخَاصِّ يَحْتَمِلُ الْمَجَازَ فَتَوْكِيدُهُ بِمَا) يَقْطَعُ احْتِمَالَ الْمَجَازِ (لَا بِمَا يُفَسِّرُهُ) فَيُقَالُ جَاءَنِي زَيْدٌ نَفْسُهُ (لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْمَجِيءِ) أَيْ غَيْرَ مَجِيءِ زَيْدٍ بَلْ يَحْتَمِلُ مَجِيءَ خَبَرِهِ وَكِتَابِهِ وَإِنَّمَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِجَوَابِ أَصْحَابِ الْخُصُوصِ لِأَنَّ فِيمَا ذُكِرَ جَوَابًا عَمَّا احْتَجُّوا بِهِ أَيْضًا وَإِنَّمَا سَوَّيْنَا فِي مُوجِبِ الْعَامِّ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ صِيغَةِ الْعُمُومِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْكُلِّ فَلَا وَجْهَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْخَبَرِ وَغَيْرِهِ وَقَوْلُ الْفَارِقِ الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى التَّكَالِيفِ بِأَوَامِرَ وَنَوَاهٍ عَامَّةٍ قُلْنَا فَكَذَا الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى التَّكْلِيفِ بِأَخْبَارٍ عَامَّةٍ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى مَعْنَى كَوْنِهِمْ مُكَلَّفِينَ بِمَعْرِفَتِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29] وَكَذَلِكَ عُمُومَاتُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ إذْ بِمَعْرِفَتِهَا يَتَحَقَّقُ الِانْزِجَارُ عَنْ الْمَعَاصِي وَالِانْقِيَادُ لِلطَّاعَاتِ وَمَعَ التَّسَاوِي فِي التَّكْلِيفِ لَا مَعْنَى لِلْفَرْقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْعَامِّ إذَا لَحِقَهُ الْخُصُوصُ] اعْلَمْ أَنَّ التَّخْصِيصَ لُغَةً تَمْيِيزُ بَعْضِ الْجُمْلَةِ بِحُكْمٍ وَلِهَذَا يُقَالُ خُصَّ فُلَانٌ بِكَذَا وَفِي اصْطِلَاحِ هَذَا الْعِلْمِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْأُصُولِيِّينَ فِيهِ فَقِيلَ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بَيَانُ مَا لَمْ يَرِدْ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ وَقِيلَ هُوَ إخْرَاجُ مَا تَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ عَنْهُ. وَقِيلَ هُوَ تَعْرِيفُ أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لِلْعُمُومِ إنَّمَا هُوَ الْخُصُوصُ وَقِيلَ هُوَ قَصْرُ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ، وَفِي كُلِّ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ كَلَامٌ وَالْحَدُّ الصَّحِيحُ عَلَى مَذْهَبِنَا أَنْ يُقَالَ هُوَ قَصْرُ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ بِدَلِيلٍ مُسْتَقِلٍّ مُقْتَرِنٍ وَاحْتَرَزْنَا بِقَوْلِنَا مُسْتَقِلٍّ عَنْ الصِّفَةِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَنَحْوِهِمَا إذْ لَا بُدَّ عِنْدَنَا لِلتَّخْصِيصِ مِنْ مَعْنَى الْمُعَارَضَةِ وَلَيْسَ فِي الصِّفَةِ ذَلِكَ وَلَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّهُ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الصَّدْرِ وَلِهَذَا يَجْرِي الِاسْتِثْنَاءُ حَقِيقَةً فِي الْعَامِّ وَالْخَاصِّ وَلَا يَجْرِي التَّخْصِيصُ حَقِيقَةً إلَّا فِي الْعَامِّ، وَلِهَذَا لَا يَتَغَيَّرُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQمُوجِبُ الْعَامِّ بِاسْتِثْنَاءٍ مَعْلُومٍ بِالِاتِّفَاقِ وَيَتَغَيَّرُ بِاسْتِثْنَاءٍ مَجْهُولٍ بِلَا خِلَافٍ وَبِقَوْلِنَا مُقْتَرِنٌ عَنْ النَّاسِخِ فَإِنَّهُ إذَا تَرَاخَى دَلِيلُ التَّخْصِيصِ يَكُونُ نَسْخًا لَا تَخْصِيصًا وَسَتَقِفُ عَلَى حَقِيقَةِ الْكُلِّ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ التَّخْصِيصُ يَجُوزُ فِي جَمْعِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ أَمْرًا كَانَ أَوْ نَهْيًا أَوْ خَبَرًا وَذَهَبَ شُذُوذٌ لَا يُؤْبَهُ بِهِمْ إلَى امْتِنَاعِهِ فِي الْخَبَرِ كَامْتِنَاعِ النَّسْخِ فِيهِ وَلِأَنَّهُ يُوهِمُ الْكَذِبَ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَمَّا احْتَمَلَ فِي نَفْسِهِ التَّخْصِيصَ كَانَ قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ رَافِعًا لِلْوَهْمِ وَالتَّخْصِيصُ لَيْسَ مِنْ النَّسْخِ فِي شَيْءٍ كَيْفَ وَقَدْ وَقَعَ التَّخْصِيصُ فِي الْخَبَرِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا وَقَعَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 42] {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] وَقَدْ أَتَتْ تِلْكَ الرِّيحُ عَلَى الْجِبَالِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ تَجْعَلْهُمَا كَالرَّمِيمِ وَتِلْكَ الْمَرْأَةُ لَمْ تُؤْتَ كُلَّ الْأَشْيَاءِ وَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ اخْتَلَفُوا فِي الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ فِي فَصْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ هَلْ يَبْقَى عَامًّا فِي الْبَاقِي بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ أَمْ يَصِيرُ مَجَازًا وَالثَّانِي أَنَّهُ هَلْ يَبْقَى حُجَّةً بَعْدَ التَّخْصِيصِ أَمْ لَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ قِيلَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ فِي الْعَامِّ الِاسْتِيعَابُ أَمْ نَفْسُ الِاجْتِمَاعِ فَمَنْ شَرَطَ فِيهِ الِاجْتِمَاعَ دُونَ الِاسْتِغْرَاقِ قَالَ إنَّهُ يَبْقَى حَقِيقَةً فِي الْعُمُومِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ التَّخْصِيصُ إلَى مَا دُونَ الثَّلَاثَةِ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ مَجَازًا وَمَنْ قَالَ شَرْطُهُ الِاسْتِيعَابُ قَالَ يَصِيرُ مَجَازًا بَعْدَ التَّخْصِيصِ وَإِنْ خُصَّ مِنْهُ فَرْدٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْكُلَّ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جُزْئِهِ فَلَا يَبْقَى عَامًّا ضَرُورَةً فَعَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ مَجَازًا لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِعُمُومِهِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَامًّا وَقِيلَ بَلْ هِيَ مَسْأَلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ سَوَاءٌ كَانَ شَرْطًا لِعُمُومِ الِاجْتِمَاعِ أَوْ الِاسْتِيعَابِ لِأَنَّ عَامَّةَ شَارِطِي الِاسْتِيعَابِ جَعَلُوهُ حَقِيقَةً فِي الْبَاقِي بَعْدَ التَّخْصِيصِ وَذَهَبَ بَعْضُ مَنْ شَرَطَ الِاسْتِيعَابَ إلَى اجْتِمَاعِ جِهَةِ الْحَقِيقَةِ وَجِهَةِ الْمَجَازِ فِيهِ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَنَاوَلَ بَقِيَّةَ الْمُسَمَّيَاتِ كَمَا تَنَاوَلَ قَبْلَ التَّخْصِيصِ كَانَ حَقِيقَةً فِيهَا وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ اخْتَصَّ بِهَا وَقَصَرَ عَمَّا عَدَاهَا كَانَ مَجَازًا وَفِي أَقْوَالِ هَذَا الْفَصْلِ كَثْرَةٌ تَعْرِفُ شَرْحَهَا وَبَيَانَ وُجُوهِهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ أَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي عُقِدَ الْبَابُ لِبَيَانِهِ فَنَقُولُ اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي كَوْنِ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ مِنْهُ حُجَّةً فَذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ وَعِيسَى بْنُ أَبَانَ فِي رِوَايَةٍ وَأَبُو ثَوْرٍ مِنْ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يَبْقَى حُجَّةً بَعْدَ التَّخْصِيصِ بَلْ يَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ إلَى الْبَيَانِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَخْصُوصُ مَعْلُومًا كَمَا يُقَالُ اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ وَلَا تَقْتُلُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ، أَوْ مَجْهُولًا كَمَا لَوْ قِيلَ اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ وَلَا تَقْتُلُوا بَعْضَهُمْ إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ بِهِ أَخُصُّ الْخُصُوصِ إذَا كَانَ مَعْلُومًا وَقَالَ عَامَّتُهُمْ إنْ كَانَ الْمَخْصُوصُ مَجْهُولًا يَسْقُطُ حُكْمُ الْعُمُومِ حَتَّى لَا يَبْقَى حُجَّةً فِيمَا بَقِيَ وَيُتَوَقَّفُ فِيهِ إلَى الْبَيَانِ وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا بَقِيَ الْعَامُّ فِيمَا وَرَاءَهُ عَلَى مَا كَانَ ثُمَّ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ إنَّ مُوجِبَهُ قَطْعِيٌّ قَبْلَ التَّخْصِيصِ يَبْقَى عِنْدَهُ قَطْعِيًّا حَتَّى لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ إنَّ مُوجِبَهُ ظَنِّيٌّ يَبْقَى عِنْدَهُ ظَنِّيًّا. وَحَاصِلُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ تَخْصِيصَ الْمَعْلُومِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَامِّ أَصْلًا وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْمَخْصُوصَ إنْ كَانَ مَعْلُومًا يَبْقَى الْعَامُّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ فِيمَا وَرَاءَهُ عَلَى مَا كَانَ وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا يَسْقُطُ دَلِيلُ الْخُصُوصِ وَيَبْقَى الْعَامُّ مُوجَبًا حُكْمَهُ فِي

بِعَامَّةِ الْعُمُومَاتِ لِمَا دَخَلَهَا مِنْ الْخُصُوصِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِآيَةِ السَّرِقَةِ وَآيَةِ الْبَيْعِ لِأَنَّ مَا دُونَ ثَمَنِ الْمِجَنِّ خُصَّ مِنْ آيَةِ السَّرِقَةِ وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَخُصَّ الرِّبَا مِنْ قَوْلِهِ {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَكَذَلِكَ نُصُوصُ الْحُدُودِ لِأَنَّ مَوَاضِعَ الشُّبْهَةِ مِنْهَا مَخْصُوصَةٌ وَفِيهَا ضَرْبُ جَهَالَةٍ وَاخْتِلَافُ وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّ الْعَامَّ يَبْقَى حُجَّةً بَعْدَ الْخُصُوصِ مَعْلُومًا كَانَ الْمَخْصُوصُ أَوْ مَجْهُولًا إلَّا أَنَّ فِيهِ ضَرْبَ شُبْهَةٍ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْعُمُومِ قَبْلَ الْخُصُوصِ، وَدَلَالَةُ صِحَّةِ هَذَا الْمَذْهَبِ إجْمَاعُ السَّلَفِ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِالْعُمُومِ وَدَلَالَةُ أَنَّ فِي ذَلِكَ شُبْهَةَ إجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ وَالْآحَادِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْكُلِّ كَمَا كَانَ قَبْلَ لُحُوقِ دَلِيلِ الْخُصُوصِ بِهِ وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ مَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ فِي طَرِيقَتِهِ وَفِيهِ أَقْوَالٌ أُخَرُ صَفَحْنَا عَنْ ذِكْرِهَا كَمَا أَعْرَضَ الْمُصَنِّفُ عَنْهَا قَوْلُهُ (بِعَامَّةِ الْعُمُومَاتِ) أَيْ بِأَكْثَرِهَا (مَا دُونَ ثَمَنِ الْمِجَنِّ خُصَّ مِنْ الْآيَةِ) وَذَلِكَ مَجْهُولٌ وَلِهَذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ فَقِيلَ رُبْعُ دِينَارٍ وَقِيلَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَقِيلَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَخَصَّ الرَّبَّا وَهُوَ مَجْهُولٌ لِأَنَّهُ مُجْمَلٌ وَبَعْدَمَا الْتَحَقَ خَبَرُ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ بَيَانًا بِهِ لَمْ تَزُلْ الْجَهَالَةُ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِهِ أَنَّ الرِّبَا يَجْرِي فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مُقْتَصِرٌ عَلَيْهَا وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - خَرَجَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ الدُّنْيَا وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَبْوَابَ الرِّبَا وَإِذَا بَقِيَتْ الْجَهَالَةُ لَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ عِنْدَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَآيَةِ السَّرِقَةِ وَالْبَيْعِ نُصُوصُ الْحُدُودِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا (لِأَنَّ مَوَاضِعَ الشُّبْهَةِ مِنْهَا مَخْصُوصَةٌ) بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» وَقَدْ تَلَقَّتْهُ الْعُلَمَاءُ بِالْقَبُولِ فَيَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ. (وَفِيهِ) أَيْ فِيمَا خُصَّ وَهُوَ مَوَاضِعُ الشُّبْهَةِ (ضَرْبُ جَهَالَةٍ) أَيْ لَا يُعْرَفُ أَيَّةُ شُبْهَةٍ تُعْتَبَرُ وَلِهَذَا اخْتَلَفُوا فِيهَا وَلَوْ كَانَ مَعْلُومًا ظَاهِرًا لَمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِكُلِّ عَامٍّ سَوَاءٌ خُصَّ مِنْهُ شَيْءٌ أَوْ لَمْ يَخُصَّ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الشَّيْخُ لِظُهُورِهِ. قَوْلُهُ (وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِنَا إلَى آخِرِهِ) وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَذْهَبَ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتَدَلَّ عَلَى فَسَادِ الْبَيْعِ بِالشَّرْطِ «بِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ» وَهَذَا عَامٌّ دَخَلَهُ خُصُوصٌ فَإِنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ قَدْ خُصَّ مِنْهُ وَاحْتَجَّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ بِالْجَوَارِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ» وَهَذَا عَامٌّ قَدْ دَخَلَهُ خُصُوصٌ فَإِنَّ الْجَارَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرِيكِ لَا يَكُونُ أَحَقَّ بِصَقَبِهِ وَاسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ «بِنَهْيِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ» وَقَدْ خُصَّ مِنْهُ بَيْعُ الْمَهْرِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَيْعُ الْمِيرَاثِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَيْعُ بَدَلِ الصُّلْحِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خَصَّ هَذَا الْعَامَّ بِالْقِيَاسِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ حُجَّةٌ لِلْعَمَلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا قَطْعًا لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَكُونُ مُوجِبًا قَطْعًا فَكَيْفَ يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِمَا يَكُونُ مُوجِبًا قَطْعًا كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَا ذَكَرَ يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الْمَذْهَبِ فِي الْمَخْصُوصِ الْمَعْلُومِ لَا فِي الْمَجْهُولِ، إذْ لَيْسَ فِيمَا ذُكِرَ مَخْصُوصٌ مَجْهُولٌ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ الْإِمَامَ أَبَا زَيْدٍ ذَكَرَ فِي التَّقْوِيمِ وَاَلَّذِي ثَبَتَ عِنْدِي مِنْ مَذْهَبِ السَّلَفِ أَنَّهُ يَبْقَى عَلَى عُمُومِهِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا وَلَكِنْ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْعِلْمِ قَطْعًا فَرُوِيَ الْمَذْهَبُ فِي الْفَصْلَيْنِ فَيَثْبُتُ الْمَذْهَبُ بِهِ. قَوْلُهُ (إجْمَاعُ السَّلَفِ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِالْعُمُومِ) أَيْ بِالْعَامِّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ فَإِنَّ فَاطِمَةَ احْتَجَّتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي مِيرَاثِهَا مِنْ أَبِيهَا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] الْآيَةَ مَعَ أَنَّ الْكَافِرَ وَالْقَاتِلَ وَغَيْرَهُمَا خُصُّوا مِنْهُ وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ احْتِجَاجَهَا بِهِ مَعَ ظُهُورِهِ وَشُهْرَتِهِ بَلْ عَدَلَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حِرْمَانِهَا إلَى الِاحْتِجَاجِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - احْتَجَّ عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] فَقَالَ أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ مَعَ كَوْنِ

وَذَلِكَ دُونَ خَبَرِ الْوَاحِدِ حَتَّى صَحَّتْ مُعَارَضَتُهُ بِالْقِيَاسِ، أَمَّا الْكَرْخِيُّ فَقَدْ احْتَجَّ بِأَنَّ ذَلِكَ الْخُصُوصَ إذَا كَانَ مَجْهُولًا أَوْجَبَ جَهَالَةً فِي الْبَاقِي لِأَنَّ الْخُصُوصَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْجُمْلَةِ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَإِذَا كَانَ مَعْلُومًا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا وَهُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّ دَلِيلَ الْخُصُوصِ نَصٌّ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ فَصَلُحَ تَعْلِيلُهُ وَلَا يُدْرَى أَيُّ الْقَدْرِ مِنْ الْبَاقِي صَارَ مُسْتَثْنًى فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ جَهَالَةِ الْمَخْصُوصِ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ دَلِيلَ الْخُصُوصِ إذَا كَانَ مَجْهُولًا فَعَلَى مَا قُلْنَا وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا بَقِيَ الْعَامُّ مُوجِبًا فِي الْبَاقِي لِأَنَّ دَلِيلَ الْخُصُوصِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى مَا قُلْنَا فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْبَاقِي لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيلَ فَكَذَلِكَ هَذَا ـــــــــــــــــــــــــــــQالْأَخَوَاتِ وَالْبَنَاتِ مَخْصُوصَةً مِنْهُ وَكَانَ ذَلِكَ مَشْهُورًا فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ نَكِيرٌ. وَكَذَا الِاحْتِجَاجُ بِالْعُمُومَاتِ الْمَخْصُوصُ مِنْهَا مَشْهُورٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ بِحَيْثُ يُعَدُّ إنْكَارُهُ مِنْ الْمُكَابَرَةِ فَكَانَ إجْمَاعًا قَوْلُهُ (وَذَلِكَ دُونَ خَبَرِ الْوَاحِدِ) أَيْ الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ مِنْهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ دُونَ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الدَّرَجَةِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِخَبَرِ الْوَاحِدِ عِنْدَنَا حَتَّى رَجَّحْنَا خَبَرَ الْقَهْقَهَةِ عَلَى الْقِيَاسِ وَرَجَّحْنَا خَبَرَ الْأَكْلِ نَاسِيًا فِي الصَّوْمِ عَلَى الْقِيَاسِ وَرَجَّحَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خَبَرَ النَّبِيذِ عَلَى الْقِيَاسِ ثُمَّ إنَّهُ يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِلْعَامِّ الْمَخْصُوصِ مِنْهُ حَتَّى صَحَّ تَخْصِيصُهُ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ وَالتَّخْصِيصِ بِهِ إنَّمَا يَكُونُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ مِنْ حَيْثُ الصِّيغَةُ كَمَا سَتَعْرِفُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ حَتَّى صَحَّتْ مُعَارَضَتُهُ بِالْقِيَاسِ فَكَانَ هَذَا الْعَامُّ دُونَ خَبَرِ الْوَاحِدِ ضَرُورَةً. قَوْلُهُ (أَمَّا الْكَرْخِيُّ) احْتَجَّ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ بِأَنَّ الْمَخْصُوصَ إذَا كَانَ مَجْهُولًا أَوْجَبَ تَخْصِيصُهُ جَهَالَةً فِي الْبَاقِي لِأَنَّ أَيَّ فَرْدٍ عُيِّنَ مِنْ الْبَاقِي لِإِثْبَاتِ مُوجِبِ الْكَلَامِ فِيهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَخْصُوصُ مِنْهُ وَهَذَا لِأَنَّ دَلِيلَ الْخُصُوصِ بِمَنْزِلَةِ دَلِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْحُكْمِ وَإِنْ فَارَقَهُ فِي الصِّيغَةِ لِأَنَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْجُمْلَةِ كَالِاسْتِثْنَاءِ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَلِهَذَا عَدَّ عَامَّةُ الْأُصُولِيِّينَ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ وَلِهَذَا لَا يَكُونُ دَلِيلُ الْخُصُوصِ إلَّا مُقَارِنًا كَالِاسْتِثْنَاءِ حَتَّى لَوْ كَانَ طَارِيًا يَكُونُ دَلِيلَ النَّسْخِ لَا دَلِيلَ الْخُصُوصِ وَإِذَا صَارَ كَالِاسْتِثْنَاءِ أَوْجَبَ جَهَالَتُهُ جَهَالَةَ الْبَاقِي كَاسْتِثْنَاءِ الْمَجْهُولِ بِأَنَّهُ يُوجِبُ جَهَالَةً فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا شَيْئًا يُتَوَقَّفُ فِيهِ إلَى الْبَيَانِ. وَإِذَا صَارَ مَجْهُولًا لَمْ يَصْلُحْ حُجَّةً بِنَفْسِهِ كَالْمُجْمَلِ بَلْ يَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ إلَى تَبَيُّنِ الْمُرَادِ وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَخْصُوصُ مَعْلُومًا فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا لِاسْتِقْلَالِهِ وَإِفَادَتِهِ بِنَفْسِهِ إذْ هُوَ لَا يَفْتَقِرُ فِي إفَادَتِهِ إلَى صَدْرِ الْكَلَامِ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النُّصُوصِ التَّعْلِيلُ وَالدَّلَائِلُ الَّتِي يُوجِبُ كَوْنُهَا مَعْلُولَةً لَا تَفْصِلُ بَيْنَ نَصٍّ وَنَصٍّ وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّعْلِيلِ لَا يُدْرَى أَيُّ قَدْرٍ مِنْ الْبَاقِي يَصِيرُ مَخْصُوصًا وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ مُسْتَثْنًى فَيُوجِبُ جَهَالَةَ الْبَاقِي أَيْضًا، وَصَارَ كَمَا لَوْ خُصِّصَ مِنْهُ بَعْضٌ مَعْلُومٌ وَبَعْضٌ آخَرُ مَجْهُولٌ بِخِلَافِ اسْتِثْنَاءِ الْمَعْلُومِ لِأَنَّ دَلِيلَ الِاسْتِثْنَاءِ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيلَ لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ بِنَفْسِهِ فَلَا يُوجِبُ اسْتِثْنَاءُ الْمَعْلُومِ جَهَالَةَ الْبَاقِي فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ قَطْعًا كَمَا لَوْ رَفَعَ مِنْ عَشَرَةٍ خَمْسَةً يَبْقَى الْبَاقِي خَمْسَةً قَطْعًا وَلِأَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ يَصِيرُ مَجَازًا وَجِهَاتُ الْمَجَازِ مُتَعَدِّدَةٌ لِأَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى جُمُوعٍ كَثِيرٍ، وَيَمْتَنِعُ الْحَمْلُ عَلَى الْكُلِّ لِمَا فِيهِ مِنْ تَكَثُّرِ جِهَاتِ التَّجَوُّزِ وَلَيْسَ حَمْلُهُ عَلَى إحْدَاهَا أَوْلَى مِنْ الْحَمْلِ عَلَى غَيْرِهَا لِعَدَمِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهَا فَكَانَ مُجْمَلًا فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ أَيْضًا قَوْلُهُ. (وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي) احْتَجَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ تَخْصِيصِ الْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُولِ بِأَنَّ تَخْصِيصَ الْمَعْلُومِ بِدَلِيلٍ مُسْتَقِلٍّ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا بَعْدَهُ وَأَنَّ الْقَدْرَ الْمَخْصُوصَ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَهُ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْمَجْهُولِ يُوجِبُ التَّوَقُّفَ إلَى الْبَيَانِ فَكَذَا تَخْصِيصُهُ أَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْمَعْلُومِ فَلَا يُوجِبُ خَلَلًا فِي الْبَاقِي بِوَجْهٍ فَكَذَلِكَ تَخْصِيصُهُ لَا يُوجِبُ خَلَلًا فِيهِ فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ قَطْعِيًّا عِنْدَ بَعْضِهِمْ

وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ دَلِيلَ الْخُصُوصِ لَمَّا كَانَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ حَتَّى لَوْ تَرَاخَى كَانَ نَاسِخًا سَقَطَ بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ مَجْهُولًا لِأَنَّ الْمَجْهُولَ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّهُ وَصْفٌ قَائِمٌ بِالْأَوَّلِ فَأَوْجَبَ جَهَالَةً فِيهِ وَهَذَا قَائِمٌ بِنَفْسِهِ مُعَارِضٌ لِلْأَوَّلِ وَدَلِيلُ مَا قُلْنَا أَنَّ دَلِيلَ الْخُصُوصِ يُشْبِهُ الِاسْتِثْنَاءَ بِحُكْمِهِ لِمَا قُلْنَا إنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْجُمْلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا مُقَارِنًا، وَيُشْبِهُ النَّاسِخَ بِصِيغَتِهِ لِأَنَّهُ نَصٌّ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَجُزْ إلْحَاقُهُ بِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ بَلْ وَجَبَ اعْتِبَارُهُ فِي كُلِّ بَابٍ بِنَظِيرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQوَظَنِّيًّا عِنْدَ آخَرِينَ قَالُوا وَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ إنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِلتَّعْلِيلِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ لَمْ يَحْتَمِلْ التَّعْلِيلَ فَإِنَّ الْمُسْتَثْنَى مَعْدُومٌ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُرَادًا بِالْكَلَامِ أَصْلًا وَالْعَدَمُ لَا يُعَلَّلُ وَلَا لِمَا ادَّعَوْا أَنَّهُ يَصِيرُ مَجَازًا لِأَنَّ الْمَجَازَ مَا يَكُونُ مَعْدُولًا عَنْ مَوْضُوعِهِ وَهَذِهِ الصِّيغَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَتَنَاوَلُ الْبَاقِيَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ كَمَا تَتَنَاوَلُهُ قَبْلَهُ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَصِيرُ مَجَازًا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَصِيرُ مُجْمَلًا لِأَنَّهُ ظَهَرَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ مَا وَرَاءَ الْمَخْصُوصِ كُلِّهِ لَا بَعْضِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ احْتِجَاجِ الصَّحَابَةِ بِالْعُمُومَاتِ الْمُخَصِّصَةِ فِيمَا وَرَاءَ صُورَةِ التَّخْصِيصِ فَيُوجِبُ الْحُكْمَ فِيمَا بَقِيَ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ. وَقَوْلُهُمْ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ بَعْضُ مَا وَرَاءَ الْمَخْصُوصِ قُلْنَا هَذَا الِاحْتِمَالُ لَا يَسْتَنِدُ إلَى دَلِيلٍ فَلَا يُعْتَبَرُ كَاحْتِمَالِ الْمَجَازِ فِي الْخَاصِّ. قَوْلُهُ (وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ) احْتَجَّ الْفَرِيقُ الثَّالِثُ بِأَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَكُونُ إلَّا بِدَلِيلٍ مُسْتَقِلٍّ مُتَّصِلٍ يَتَنَاوَلُ بَعْضَ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَامُّ عَلَى خِلَافِ مُوجِبِهِ بِحَيْثُ لَوْ تَأَخَّرَ كَانَ نَاسِخًا فَإِذَا كَانَ مُقَارِنًا كَانَ بَيَانًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهِ صِيغَةُ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ إذَا كَانَ مَجْهُولًا لِأَنَّ الْمَجْهُولَ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا فَلَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِلدَّلِيلِ كَمَا فِي النَّسْخِ فَإِنَّهُ لَوْ طَرَأَ الْمُجْمَلُ عَلَى ظَاهِرٍ نَاسِخًا لَمْ يَثْبُتْ بِهِ النَّسْخُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْمُرَادُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَامَّ مُوجِبُ الْحُكْمِ فِيمَا تَنَاوَلَهُ قَطْعًا بِمَنْزِلَةِ الْخَاصِّ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ، فَإِذَا لَمْ تَسْتَقِمْ الْمُعَارَضَةُ لِكَوْنِ الْمُعَارِضِ مَجْهُولًا سَقَطَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ وَبَقِيَ حُكْمُ الْعَامِّ عَلَى مَا كَانَ فِي جَمِيعِ مَا تَنَاوَلَهُ. وَهَذَا بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهُ دَاخِلٌ عَلَى صِيغَةِ الْكَلَامِ وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ وَصْفٍ قَائِمٍ بِالْأَوَّلِ لِعَدَمِ انْفِصَالِهِ عَنْهُ وَعَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ بِنَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ بِدُونِ أَصْلِ الْكَلَامِ فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ إلَّا زَيْدًا لَا يُفِيدُ شَيْئًا فَإِذَا كَانَ دَاخِلًا عَلَى صِيغَةِ الْكَلَامِ وَاعْتُبِرَ الِاسْتِثْنَاءُ مَعَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَلَامًا وَاحِدًا أَوْجَبَ الْجَهَالَةُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ جَهَالَةً فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَيَصِيرُ الْأَصْلُ مَجْهُولًا مُجْمَلًا فَلَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ قَبْلَ الْبَيَانِ قَوْلُهُ (وَدَلِيلُ مَا قُلْنَا) أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْقُولُ بَعْدَمَا ذَكَرْنَا مِنْ إجْمَاعِ السَّلَفِ لِأَنَّ دَلِيلَ الْخُصُوصِ يُشْبِهُ الِاسْتِثْنَاءَ بِحُكْمِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ إثْبَاتُ الْحُكْمِ فِيمَا وَرَاءَ الْمَخْصُوصِ لَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ رَفْعَ الْحُكْمِ عَنْ الْمَخْصُوصِ بَعْدَ أَنْ كَانَ ثَابِتًا ثُمَّ اسْتَوْضَحَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ (أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا مُقَارِنًا) يَعْنِي شَرَطَ فِيهِ الْمُقَارَنَةَ حَتَّى لَوْ كَانَ طَارِئًا يُجْعَلُ نَسْخًا لَا خُصُوصًا وَلَيْسَ اشْتِرَاطُ الْمُقَارَنَةِ إلَّا لِتَحَقُّقِ شَبَهِهِ بِالِاسْتِثْنَاءِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بَيَانٌ مُغَيِّرٌ وَيُشْبِهُ النَّاسِخَ بِصِيغَتِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ مُفِيدٌ لِلْحُكْمِ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ صِيغَةَ الْعَامِّ وَحُكْمُ النَّاسِخِ أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ فِي الْأَوَّلِ إذَا كَانَ مَا تَنَاوَلَهُ مَجْهُولًا بَلْ يَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِهِ وَلَوْ كَانَ مَعْلُومًا يُعْمَلُ بِهِ، وَحُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَجْهُولًا لَا يُوجِبُ جَهَالَةَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَإِذَا كَانَ مَعْلُومًا يَبْقَى الْبَاقِي عَلَى مَا كَانَ قَطْعًا (فَلَمْ يَجُزْ إلْحَاقُهُ) أَيْ إلْحَاقُ دَلِيلِ الْخُصُوصِ (بِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ) أَيْ بِالِاسْتِثْنَاءِ عَيْنًا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مَعْنَى النَّسْخِ فِيهِ وَلَا بِالنَّاسِخِ عَيْنًا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ فِيهِ لِأَنَّ فِي الْإِلْحَاقِ بِأَحَدِهِمَا عَيْنًا إبْطَالَ الشَّبَهِ الْآخَرِ. (بَلْ وَجَبَ اعْتِبَارُهُ) أَيْ اعْتِبَارُ دَلِيلِ الْخُصُوصِ (فِي كُلِّ بَابٍ) أَيْ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ الْمَخْصُوصِ الْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُولِ (بِنَظِيرِهِ) فِي ذَلِكَ الْبَابِ وَهُوَ النَّاسِخُ وَالِاسْتِثْنَاءُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا تَرَدَّدَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ وَأَخَذَ حَظًّا مُعْتَبَرًا مِنْ

[كان دليل الخصوص مجهولا]

فَقُلْنَا إذَا كَانَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ مَجْهُولًا أَوْجَبَ جَهَالَةً فِي الْأَوَّلِ بِحُكْمِهِ إذَا اُعْتُبِرَ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَسَقَطَ فِي نَفْسِهِ بِصِيغَتِهِ إذَا اُعْتُبِرَ بِالنَّاسِخِ وَحُكْمُهُ قَائِمٌ بِصِيغَتِهِ فَصَارَ الدَّلِيلُ مُشْتَبِهًا فَلَمْ نُبْطِلْهُ بِالشَّكِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِهِمَا كَالْفَمِ لَمَّا أَخَذَ حَظًّا مِنْ الظَّاهِرِ وَحَظًّا مِنْ الْبَاطِنِ اُعْتُبِرَ بِهِمَا فِي مَسْأَلَةِ الْقَيْءِ عَلَى مَا عُرِفَ وَكَصَدَقَةِ الْفِطْرِ لَمَّا كَانَتْ مُشْتَمِلَةً عَلَى مَعْنَى الْقُرْبَةِ وَالْمُؤْنَةِ اُعْتُبِرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَمْ يُكْتَفَ بِأَحَدِهِمَا، وَكَذَا الْكَفَّارَةُ فَكَذَلِكَ هَهُنَا يُعْتَبَرُ دَلِيلُ الْخُصُوصِ فِي الْمَخْصُوصِ الْمَعْلُومِ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمَعْلُومِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَعْلُومِ وَفِي الْمَخْصُوصِ الْمَجْهُولِ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمَجْهُولِ وَالنَّاسِخِ الْمَجْهُولِ فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَجَبَ اعْتِبَارُهُ فِي كُلِّ بَابٍ بِنَظِيرِهِ وَلَوْ قَالَ بِنَظِيرَيْهِ أَوْ قَالَ فَيُعْتَبَرُ فِي كُلِّ بَابٍ بِهِمَا لَكَانَ أَحْسَنَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي بِنَظِيرِهِ رَاجِعًا إلَى كُلِّ بَابٍ أَيْ وَجَبَ اعْتِبَارُ دَلِيلِ الْخُصُوصِ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ الْمُشَابَهَةِ بِنَظِيرِ ذَلِكَ النَّوْعِ فَيُعْتَبَرُ فِي شَبَهِ الِاسْتِثْنَاءِ بِحَقِيقَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مَعْلُومًا كَانَ أَوْ مَجْهُولًا وَيُعْتَبَرُ فِي شَبَهِ النَّاسِخِ بِحَقِيقَةِ النَّاسِخِ مَعْلُومًا كَانَ أَوْ مَجْهُولًا وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ بِنَظِيرَيْهِ لَا يَصِحُّ. [كَانَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ مَجْهُولًا] قَوْلُهُ (فَقُلْنَا إذَا كَانَ) هَذَا شُرُوعٌ مِنْ الشَّيْخِ فِي بَيَانِ اعْتِبَارِهِ بِالشَّبَهَيْنِ فِي كُلِّ بَابٍ فَقَالَ إذَا كَانَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ مَجْهُولًا أَيْ مُتَنَاوِلًا لِمَجْهُولٍ عِنْدَ السَّامِعِ أَوْجَبَ جَهَالَةً فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ الْمَخْصُوصُ مِنْهُ (بِحُكْمِهِ) أَيْ بِالنَّظَرِ إلَى حُكْمِهِ وَهُوَ بَيَانُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ هَذَا الْمَجْهُولُ تَحْتَ الْعَامِّ (إذَا اُعْتُبِرَ بِالِاسْتِثْنَاءِ) أَيْ رُدَّ إلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُسْتَثْنَى إذَا كَانَ مَجْهُولًا أَوْجَبَ جَهَالَةَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ (وَسَقَطَ) أَيْ هَذَا الدَّلِيلُ فِي نَفْسِهِ (بِصِيغَتِهِ) أَيْ بِاعْتِبَارِ صِيغَتِهِ إذَا اُعْتُبِرَ بِالنَّاسِخِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّاسِخَ إذَا كَانَ مَجْهُولًا أَيْ مُتَنَاوِلًا لِمَجْهُولٍ لَا يُعَارِضُ الْأَوَّلَ بَلْ يَسْقُطُ بِنَفْسِهِ (وَحُكْمُهُ) أَيْ حُكْمُ دَلِيلِ الْخُصُوصِ وَهُوَ بَيَانُ أَنَّ الْمَخْصُوصَ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْجُمْلَةِ (قَائِمٌ) أَيْ ثَابِتٌ بِصِيغَتِهِ بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّ حُكْمَهُ لَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ بِنَفْسِهِ وَإِذَا كَانَ حُكْمُهُ قَائِمًا بِصِيغَتِهِ لَا تَتَعَدَّى جَهَالَتُهُ إلَى الْأَوَّلِ لِانْفِصَالِهِ عَنْهُ فَبَقِيَ الْأَوَّلُ عَلَى مَا كَانَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ وَإِذَا كَانَ حُكْمُهُ قَائِمًا بِصِيغَتِهِ وَصِيغَتُهُ سَقَطَتْ بِاعْتِبَارِ شَبَهِهَا بِالنَّسْخِ فَيَسْقُطُ شَبَهُ الِاسْتِثْنَاءِ أَيْضًا لِأَنَّ ذَلِكَ الشَّبَهَ بِاعْتِبَارِ الْحُكْمِ وَالْحُكْمُ قَائِمٌ بِالصِّيغَةِ فَيَسْقُطُ الْكُلُّ بِسُقُوطِ الصِّيغَةِ فَيَبْقَى الْعَامُّ عَلَى مَا كَانَ فَكَأَنَّهُ رَجَّحَ جِهَةَ سُقُوطِ دَلِيلِ الْخُصُوصِ عَلَى جِهَةِ ثُبُوتِهِ فِي تَأْثِيرِهِ فِي الْعَامِّ (فَصَارَ الدَّلِيلُ) أَيْ الْعَامُّ (مُشْتَبِهًا) لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الْبَقَاءِ وَالزَّوَالِ فَشِبْهُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي دَلِيلِ الْخُصُوصِ أَوْجَبَ زَوَالَهُ وَشِبْهُ النَّسْخِ فِيهِ أَوْجَبَ بَقَاءَهُ عَلَى مَا كَانَ (فَلَمْ نُبْطِلْهُ) أَيْ الْعَامَّ (بِالشَّكِّ) لِأَنَّ مَا كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ لَا يُزَالُ بِالشَّكِّ وَلَكِنْ تَمَكَّنَتْ فِيهِ شُبْهَةُ جَهَالَةٍ فَأَوْرَثَتْ زَوَالَ الْيَقِينِ فَيُوجَبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الدَّلِيلِ دَلِيلَ الْخُصُوصِ وَيَكُونُ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي فَلَمْ يُبْطِلْهُ عَائِدًا إلَيْهِ أَيْضًا أَيْ فَصَارَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ مُشْتَبِهًا فِي نَفْسِهِ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الثُّبُوتِ وَعَدَمِهِ فَلَا يُبْطِلُهُ بِالشَّكِّ وَإِذَا لَمْ نُبْطِلْ دَلِيلَ الْخُصُوصِ بِالشَّكِّ لَا يَبْطُلُ الْعَامُّ بِالشَّكِّ أَيْضًا لِأَنَّ بُطْلَانَهُ مَبْنِيٌّ عَلَى ثُبُوتِ دَلِيلِ الْخُصُوصِ وَبَقَاءَهُ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ ثُبُوتِهِ وَفِيهِمَا تَرَدُّدٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ دَلِيلَ الْخُصُوصِ وَأَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إلَى الْعَامِّ أَيْ فَصَارَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ مُشْتَبِهًا لِمَا ذَكَرْنَا فَلَا يَبْطُلُ الْعَامُّ بِالشَّكِّ بِمِثْلِ هَذَا الدَّلِيلِ الْمُتَرَدِّدِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْوَجْهُ وَالْحَاصِلُ أَنَّا لَا نُبْطِلُ وَاحِدًا مِنْهُمَا بِالشَّكِّ فَلَا يَسْقُطُ دَلِيلُ الْخُصُوصِ لِكَوْنِهِ مَجْهُولًا بِالشَّكِّ وَلَا تَخْرُجُ صِيغَةُ الْعَامِّ مِنْ أَنْ تَكُونَ حُجَّةً بِالشَّكِّ أَيْضًا كَالْمَفْقُودِ لَا يُورَثُ عَنْهُ بِالشَّكِّ وَلَا يَرِثُ

وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَخْصُوصُ مَعْلُومًا لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَعَلَى احْتِمَالِ التَّعْلِيلِ يَصِيرُ مَخْصُوصًا مِنْ الْجُمْلَةِ كَأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ لَا عَلَى سَبِيلِ الْمُعَارَضَةِ لِلنَّصِّ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ فَيَصِيرُ قَدْرُ مَا تَنَاوَلَهُ النَّصُّ مَجْهُولًا هَذَا عَلَى اعْتِبَارِ صِيغَةِ النَّصِّ وَعَلَى اعْتِبَارِ حُكْمِهِ لَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ لِأَنَّهُ شَبِيهٌ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ عَدَمٌ وَالْعَدَمُ لَا يُعَلَّلُ فَدَخَلَتْ الشُّبْهَةُ أَيْضًا وَقَدْ عُرِفَ مُوجِبًا فَلَا يَبْطُلُ بِالِاحْتِمَالِ وَهَذَا بِخِلَافِ النَّاسِخِ إذَا وَرَدَ فِي بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ النَّصُّ مَعْلُومًا فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيمَا بَقِيَ لَا يَتَغَيَّرُ لِاحْتِمَالِ التَّعْلِيلِ لِأَنَّ النَّاسِخَ إنَّمَا يَعْمَلُ عَلَى طَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ لَا عَلَى تَبَيُّنِ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الصِّيغَةِ فَيَصِيرُ الْعِلَّةُ مُعَارِضَةً لِلنَّصِّ، ـــــــــــــــــــــــــــــQأَيْضًا بِالشَّكِّ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَخْصُوصُ مَعْلُومًا) أَيْ وَكَمَا اعْتَبَرَ جِهَةَ الِاسْتِثْنَاءِ وَجِهَةَ النَّسْخِ فِي الْمَخْصُوصِ الْمَجْهُولِ يُعْتَبَرُ كِلَاهُمَا أَيْضًا فِي الْمَخْصُوصِ الْمَعْلُومِ أَوْ مَعْنَاهُ وَكَمَا صَارَ الْعَامُّ مُشْتَبِهًا فِي الْمَخْصُوصِ الْمَجْهُولِ فَكَذَلِكَ يَصِيرُ مُشْتَبِهًا فِي الْمَخْصُوصِ الْمَعْلُومِ أَيْضًا فَلَا نُبْطِلُهُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ. وَسِيَاقُ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ دَلِيلَ الْخُصُوصِ (يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا) وَهُوَ الظَّاهِرُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي النُّصُوصِ التَّعْلِيلُ وَهَذَا نَصٌّ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ مُنْفَصِلٌ عَنْ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ قَابِلًا لِلتَّعْلِيلِ (وَعَلَى احْتِمَالِ التَّعْلِيلِ يَصِيرُ مَخْصُوصًا) أَيْ يَصِيرُ مَا تَنَاوَلَتْهُ الْعِلَّةُ الَّتِي تَضَمَّنَهَا دَلِيلُ الْخُصُوصِ مَخْصُوصًا مِنْ الْجُمْلَةِ الَّتِي دَخَلَتْ تَحْتَ الْعَامِّ وَذَلِكَ مَجْهُولٌ فَأَوْجَبَ جَهَالَةَ الْبَاقِي قَوْلُهُ (كَأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ لَا عَلَى سَبِيلِ الْمُعَارَضَةِ) جَوَابُ سُؤَالٍ يَرِدُ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ الْقِيَاسُ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِلنَّصِّ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ بِهِ التَّخْصِيصُ ابْتِدَاءً وَكَذَا لَا يَجُوزُ تَعْلِيلُ النَّاسِخِ أَيْضًا إذْ فِيهِ مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ النَّصَّ فَكَيْفَ جَازَ اعْتِبَارُ احْتِمَالِ التَّعْلِيلِ هَهُنَا فِي مُقَابَلَةِ الْعَامِّ وَفِيهِ مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ النَّصَّ فَقَالَ إنَّمَا اُعْتُبِرَ التَّعْلِيلُ هَهُنَا لِأَنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا يُثْبِتُ الْحُكْمَ فِي غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عَلَى وَفْقِ مَا أَثْبَتَهُ الْأَصْلُ الَّذِي يُسْتَنْبَطُ مِنْهُ ثُمَّ النَّصُّ وَهُوَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ هَهُنَا عَمَلُهُ عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ عَلَى وَجْهِ الْمُعَارَضَةِ فَكَذَلِكَ يَكُونُ عَمَلُ الْقِيَاسِ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْهُ فَأَمَّا النَّاسِخُ فَإِنَّمَا يَعْمَلُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ لَا عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ فَلَوْ جَازَ تَعْلِيلُهُ يَلْزَمُ مِنْهُ مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ النَّصَّ وَهُوَ فَاسِدٌ وَكَذَا التَّخْصِيصُ ابْتِدَاءً بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي اسْتَنَدَ إلَيْهِ الْقِيَاسُ لَا يَصْلُحُ مُبَيِّنًا لِهَذَا الْعَامِّ لِعَدَمِ تَنَاوُلِهِ شَيْئًا مِنْ أَفْرَادِهِ فَكَذَا الْقِيَاسُ الْمُسْتَخْرَجُ مِنْهُ لَا يَصْلُحُ مُبَيِّنًا وَإِذَا لَمْ يَصْلُحْ مُبَيِّنًا كَانَ مُعَارِضًا لَهُ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ لِمُعَارَضَةِ النَّصِّ قَوْلُهُ (فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ) أَيْ بِهَذَا الِاحْتِمَالِ أَوْ بِالتَّعْلِيلِ لِخُلُوِّهِ عَنْ مُعَارَضَةِ النَّصِّ. (فَيَصِيرُ قَدْرَ مَا تَنَاوَلَهُ النَّصُّ) أَيْ الْعَامُّ مَجْهُولًا أَوْ يَصِيرُ قَدْرَ مَا تَنَاوَلَهُ النَّصُّ الْمُخَصِّصُ مَجْهُولًا لِجَهَالَةِ مَا دَخَلَ تَحْتَ عِلَّتِهِ وَيَلْزَمُ مِنْهُ جَهَالَةُ الْعَامِّ أَيْضًا كَمَا إذَا كَانَ الْمَخْصُوصُ مَجْهُولًا (هَذَا عَلَى اعْتِبَارِ صِيغَةِ النَّصِّ) أَيْ احْتِمَالِ التَّعْلِيلِ وَلُزُومِ الْجَهَالَةِ بِاعْتِبَارِ صِيغَةِ دَلِيلِ الْخُصُوصِ الَّتِي بِهَا يَتَحَقَّقُ شِبْهُ النَّسْخِ (فَأَمَّا عَلَى اعْتِبَارِ حُكْمِهِ) أَيْ بِالنَّظَرِ إلَى الْحُكْمِ فَلَا يُعْتَبَرُ احْتِمَالُ التَّعْلِيلِ لِأَنَّ دَلِيلَ الْخُصُوصِ شَبِيهٌ بِالِاسْتِثْنَاءِ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ وَالِاسْتِثْنَاءُ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيلَ لِأَنَّهُ عَدَمٌ إذْ بِالِاسْتِثْنَاءِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْكَلَامِ وَأَنَّ التَّكَلُّمَ حَصَلَ بِمَا وَرَاءَهُ لَا أَنَّهُ دَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَالْعَدَمُ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيلَ عَلَى مَا عُرِفَ (فَدَخَلَتْ الشُّبْهَةُ) أَيْ فِي الْعَامِّ بِاعْتِبَارِ الْمَخْصُوصِ الْمَعْلُومِ كَمَا دَخَلَتْ بِاعْتِبَارِ الْمَخْصُوصِ الْمَجْهُولِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ أَيْضًا لِأَنَّ بِاعْتِبَارِ صِيغَةِ دَلِيلِ الْخُصُوصِ وَاحْتِمَالِ التَّعْلِيلِ فِيهِ يَخْرُجُ الْعَامُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً وَبِاعْتِبَارِ حُكْمِهِ يَبْقَى مُوجِبًا لِلْحُكْمِ قَطْعًا عَلَى عَكْسِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَخْصُوصِ الْمَجْهُولِ وَقَدْ عَرَفْت مُوجِبًا فَلَا يَبْطُلُ بِالِاحْتِمَالِ وَالشَّكِّ وَلَكِنْ تَمَكَّنَتْ فِيهِ شُبْهَةٌ فَأَوْجَبَ الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ قَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ الْمُخَصِّصُ الْمَعْلُومُ (بِخِلَافِ النَّاسِخِ إذَا وَرَدَ مَعْلُومًا) أَيْ مُتَنَاوِلًا لِمَعْلُومٍ (فِي بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ النَّصُّ) أَيْ الْعَامُّ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْعَامِّ بَعْدَ وُرُودِ نَاسِخٍ مَعْلُومٍ فِي الْبَعْضِ لَا يَتَغَيَّرُ

وَأَمَّا هَهُنَا فَإِنَّ التَّعَلُّلَ يَقَعُ عَلَى مَا وُضِعَ لَهُ دَلِيلُ الْخُصُوصِ وَهُوَ أَنْ لَا يَدْخُلَ تَحْتَ الْجُمْلَةِ فَلَا يَصِيرُ مُعَارِضًا لِلنَّصِّ فَإِذَا ثَبَتَ الِاحْتِمَالُ فَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ الدَّلَالَةِ بِالشَّكِّ صَارَ الدَّلِيلُ مَشْكُوكًا بِأَصْلِهِ فَأَشْبَهَ دَلِيلَ الْقِيَاسِ فَاسْتَقَامَ أَنْ يُعَارِضَهُ الْقِيَاسُ بِخِلَافِ مَا ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ يَقِينٌ بِأَصْلِهِ فَلَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُعَارِضَهُ الْقِيَاسُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQبِسَبَبِ احْتِمَالِ التَّعْلِيلِ كَمَا يَتَغَيَّرُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِسَبَبِ هَذَا الِاحْتِمَالِ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيلَ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ فَكَانَ قَوْلُهُ لِاحْتِمَالِ التَّعْلِيلِ دَاخِلًا تَحْتَ النَّفْيِ. وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ احْتِمَالَ التَّعْلِيلِ ثَابِتٌ وَلَكِنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي التَّغْيِيرِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْكَلَامِ بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ احْتِمَالَ التَّعْلِيلِ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ لِيَتَغَيَّرَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرُ أَيْ لَيْسَ فِي تِلْكَ الْمَفَازَةِ ضَبٌّ لِيَنْجَحِرَ لَا أَنَّ الضَّبَّ مَوْجُودٌ وَلَكِنَّهُ لَا يَنْجَحِرُ وَبِمَا ذَكَرْنَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا يُقَالُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعَلَّلَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ النَّاسِخَ أَوْ الِاسْتِثْنَاءَ وَكِلَاهُمَا لَا يُعَلَّلُ لِأَنَّ النَّاسِخَ إنَّمَا لَا يُعَلَّلُ احْتِرَازًا عَنْ مُعَارَضَةِ الْقِيَاسِ النَّصَّ وَرُفِعَ مَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ بِالْقِيَاسِ وَقَدْ عُدِمَ ذَلِكَ فِي دَلِيلِ الْخُصُوصِ وَالِاسْتِثْنَاءِ إنَّمَا لَا يُعَلَّلُ لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ وَكَوْنِهِ عَدَمًا وَقَدْ تَحَقَّقَ الِاسْتِقْلَالُ فِي دَلِيلِ الْخُصُوصِ فَيَثْبُتُ التَّعْلِيلُ فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ دَلِيلَ الْخُصُوصِ يُشَابِهُ النَّاسِخَ فِي اسْتِقْلَالِ الصِّيغَةِ وَلَا يُشَابِهُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُعَارِضٌ وَيُشَابِهُ الِاسْتِثْنَاءَ فِي كَوْنِهِ مُبَيِّنًا وَلَا يُشَابِهُهُ فِي عَدَمِ الِاسْتِقْلَالِ وَعَدَمِ التَّعْلِيلِ فِيهِمَا بِاعْتِبَارِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ اللَّذَيْنِ يُفَارِقُهُمَا دَلِيلُ الْخُصُوصِ فِيهِمَا فَيُقْبَلُ التَّعْلِيلُ إلَّا أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ عَدَمًا يُشَابِهُ الِاسْتِثْنَاءَ أَيْضًا وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ التَّعْلِيلِ لَكِنَّ كَوْنَهُ مُسْتَبِدًّا يُوجِبُهُ فَيَثْبُتُ الِاحْتِمَالُ وَذَلِكَ كَافٍ كَمَا حَقَّقْنَاهُ وَبَيَّنَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ الْكَلَامَ فِي الْمَخْصُوصِ الْمَجْهُولِ عَلَى مَا بُيِّنَ هَهُنَا وَبَيَّنَ فِي الْمَخْصُوصِ الْمَعْلُومِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ فَقَالَ أَمَّا إذَا كَانَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ مَعْلُومًا فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النُّصُوصِ التَّعْلِيلُ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ خِلَافُهُ إلَّا أَنَّ النَّصَّ يُعَلَّلُ لِتَعَدِّيَةِ حُكْمِهِ وَأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ يُشَابِهُ الِاسْتِثْنَاءَ وَالِاسْتِثْنَاءُ لِلْمَنْعِ فَكَانَ عَدَمًا وَالْعَدَمُ لَا يُعَلَّلُ فَثَبَتَ احْتِمَالُ الْعِلَّةِ، وَتَعَدَّى حُكْمُهُ وَهُوَ مَنْعُ الدُّخُولِ تَحْتَ الْعَامِّ بِإِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ إلَى مَا بَقِيَ فَصَارَ فِي الْحَاصِلِ أَنَّهُ يُثْبِتُ احْتِمَالَ إرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ التَّخْصِيصَ وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ كَمَا اعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْإِرَادَةَ فِي الْعَامِّ قَبْلَ التَّخْصِيصِ. إلَّا أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْإِرَادَةَ تَثْبُتُ بِعِلَّةِ النَّصِّ وَالنَّصُّ ظَاهِرٌ وَالْعِلَّةُ الَّتِي هِيَ وَصْفُهُ كَانَتْ ظَاهِرَةً أَيْضًا فَتَثْبُتُ الْإِرَادَةُ الْبَاطِنَةُ أَيْضًا فِي الْخُصُوصِ عَلَى سَبِيلِ الْجَهَالَةِ بِدَلِيلٍ ظَاهِرٍ فَيُعْتَبَرُ بِخِلَافِ الِابْتِدَاءِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ لِيَسْتَنِدَ إلَيْهِ فَكَانَ اعْتِبَارُهُ اعْتِبَارَ مَا فِي الْبَاطِنِ وَذَلِكَ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فَيُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ فَلَا يُعْتَبَرُ أَيْضًا أَصْلًا وَإِذَا ثَبَتَ احْتِمَالُ الْإِرَادَةِ أَوْجَبَ شُبْهَةً فَسَقَطَ الْعِلْمُ دُونَ الْعَمَلِ إلَّا أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ كَانَ فَوْقَ هَذَا الْعَامِّ لِأَنَّ الْخَبَرَ ثَابِتٌ بِأَصْلِهِ وَإِنَّمَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي طَرِيقِهِ وَالشُّبْهَةُ فِي الطَّرِيقِ لَا يَبْطُلُ أَصْلُهُ وَهَهُنَا أَعْنِي فِي الْعَامِّ إذَا خُصَّ مِنْهُ شَيْءٌ وَقَعَتْ الشُّبْهَةُ فِي أَصْلِهِ أَنَّهُ لَمْ يُتَنَاوَلْ فَصَارَ نَظِيرُ الْقِيَاسِ فَإِنَّ الْقِيَاسَ فِي أَصْلِهِ شُبْهَةً مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ مُوجِبًا وَهَذَا لِأَنَّ النَّصَّ الْخَاصَّ لَمَّا كَانَ مَعْلُولًا يَثْبُتُ احْتِمَالُ التَّعَدِّي إلَى مَا بَقِيَ فَصَارَ مَخْصُوصًا أَيْضًا فَلَا يَبْقَى الْعَامُّ عَامًا، وَالِاحْتِمَالُ لَا يُسْقِطُ الْعَمَلَ بِالْأَوَّلِ وَلَكِنْ يُزِيلُ الْيَقِينَ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي حَدِّ التَّعَارُضِ فَبَقِيَ الْعَامُّ عَلَى عُمُومِهِ كَمَا كَانَ لِعَدَمِ ظُهُورِ الدَّلِيلِ وَمَا كَانَ طَرِيقُ بَقَائِهِ عَدَمَ الدَّلِيلِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا بِيَقِينٍ، وَلِهَذَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعَامِّ بِالْقِيَاسِ وَلَمْ يَجُزْ تَرْكُ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِهِ. بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ حُكْمٌ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا عَمَلُهُ فِي مَنْعِ التَّكَلُّمِ بِقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى فَكَانَ

وَنَظِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ الْفُرُوعِ أَنَّ الْبَيْعَ إذَا أُضِيفَ إلَى حُرٍّ وَعَبْدٍ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ وَإِلَى حَيٍّ وَمَيِّتٍ وَخَمْرٍ وَخَلٍّ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَدَمًا وَالْعَدَمُ لَا يُعَلَّلُ فَإِذَا لَمْ يُعَلَّلْ اُقْتُصِرَ عَلَى قَدْرِهِ وَقَدْرُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ فَيَبْقَى مَا وَرَاءَهُ مَعْلُومًا بِلَا شُبْهَةٍ وَبِخِلَافِ النَّاسِخِ لِأَنَّ الْحُكْمَ تَقَرَّرَ بِالنَّصِّ الْأَوَّلِ فَإِذَا جَاءَ النَّاسِخُ كَانَ إنْهَاءً لِذَلِكَ الْحُكْمِ فَإِذَا وَرَدَ النَّاسِخُ خَاصًّا فَبِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا لَمْ يَجُزْ تَغْيِيرُ ذَلِكَ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ لِأَنَّهُ يُصَيِّرُ الْعِلَّةَ مُعَارِضَةً لِمَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَحُكْمُ الْعِلَّةِ لَا يُعَارِضُ حُكْمَ النَّصِّ بِخِلَافِ دَلِيلِ التَّخْصِيصِ فَإِنَّهُ لَا يَعْمَلُ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَارَضَةِ حُكْمًا بَلْ تَبَيَّنَ لَنَا أَنَّ الْقَدْرَ الْمَخْصُوصَ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فَقُلْنَا النَّصُّ إذَا عَمِلَ عَمَلَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَبَيَّنَ لَنَا أَنَّ قَدْرَ مَا يَتَعَدَّى إلَيْهِ الْعِلَّةُ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا تَحْتَ النَّصِّ لَا أَنَّهُ يَعْمَلُ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَارَضَةِ. قَوْلُهُ (وَنَظِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ) أَيْ نَظِيرُ الِاسْتِثْنَاءِ الْمَحْضِ وَالنَّسْخِ الْمَحْضِ وَمَا أَخَذَ حَظًّا مِنْهُمَا وَهُوَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ مِنْ الْمَسَائِلِ أَمَّا نَظِيرُ الِاسْتِثْنَاءِ فَمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ أَوْ بَيْنَ حَيٍّ وَمَيِّتٍ أَوْ بَيْنَ مَيْتَةٍ وَذَكِيَّةٍ أَوْ بَيْنَ خَمْرٍ وَخَلٍّ وَبَاعَهُمَا بِثَمَنٍ وَاحِدٍ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ أَصْلًا لِأَنَّ أَحَدَهُمَا وَهُوَ الْحُرُّ أَوْ الْمَيِّتُ أَوْ الْمَيْتَةُ أَوْ الْخَمْرُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْعَقْدِ لِأَنَّ دُخُولَ الشَّيْءِ فِي الْعَقْدِ بِصِفَةِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَلَوْ جَازَ الْعَقْدُ فِي الْعَبْدِ أَوْ الْحَيِّ أَوْ الذَّكِيَّةِ أَوْ الْخَلِّ إنَّمَا يَجُوزُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ بِأَنْ قَسَمَ الثَّمَنَ عَلَى قِيمَتِهِ وَقِيمَةِ الْآخَرِ أَنْ لَوْ كَانَ مَالًا مُتَقَوِّمًا وَالْبَيْعُ بِالْحِصَّةِ لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءً لِمَعْنَى الْجَهَالَةِ كَمَا لَوْ قَالَ بِعْت مِنْك هَذَا الْعَبْدَ بِمَا يَخُصُّهُ مِنْ الْأَلْفِ إذَا قُسِّمَ عَلَى قِيمَتِهِ وَقِيمَةِ هَذَا الْعَبْدِ الْآخَرِ أَوْ قَالَ بِعْت مِنْك هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ إلَّا هَذَا بِحِصَّتِهِ مِنْ الْأَلْفِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْجَهَالَةِ كَذَا هُنَا. وَهَذَا إذَا لَمْ يُفَصِّلْ الثَّمَنَ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ فَإِنْ فَصَّلَهُ بِأَنْ قَالَ بِعْتُهُمَا بِأَلْفٍ كُلُّ وَاحِدٍ بِخَمْسِمِائَةٍ فَكَذَا الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا الْعَقْدُ جَائِزٌ فِي الْعَبْدِ وَالذَّكِيَّةِ وَالْخَلِّ بِمَا سُمِّيَ بِمُقَابَلَتِهِ لِأَنَّ الْفَسَادَ يَقْتَصِرُ عَلَى مَا وُجِدَ فِيهِ الْعِلَّةُ الْمُفْسِدَةُ وَعِنْدَ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُدِمَتْ الْعِلَّةُ الْمُفْسِدَةُ فِي مَا هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مِنْهُمَا لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مُنْفَصِلٌ عَنْ الْآخَرِ فِي الْبَيْعِ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً فَوُجُودُ الْمُفْسِدِ فِي أَحَدِهِمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ عَلَى الْآخَرِ لِأَنَّ تَأْثِيرَهُ فِي الْعَقْدِ عَلَى الْآخَرِ إمَّا بِاعْتِبَارِ التَّبَعِيَّةِ وَأَحَدُهُمَا لَيْسَ بِتَبَعٍ لِلْآخَرِ أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمَا كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَصِلٌ عَنْ الْآخَرِ فِي الْعَقْدِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ كَانَا عَبْدَيْنِ وَهَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَقِيَ الْعَقْدُ فِي الْآخَرِ، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ قَبُولُ الْعَقْدِ فِي أَحَدِهِمَا شَرْطًا لِقَبُولِ الْعَقْدِ فِي الْآخَرِ إذَا صَحَّ الْإِيجَابُ فِيهِمَا لِئَلَّا يَكُونَ الْمُشْتَرِي مُلْحِقًا الضَّرَرَ بِالْبَائِعِ فِي قَبُولِ الْعَقْدِ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ إذَا لَمْ يَصِحَّ الْإِيجَابُ فِي أَحَدِهِمَا وَصَارَ هَذَا كَمَا إذَا اشْتَرَى عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ مُدَبَّرًا فَالْعَقْدُ يَفْسُدُ فِي الْمُدَبَّرِ وَيَبْقَى صَحِيحًا فِي الْعَبْدِ كَذَا هَذَا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ لَمَّا جُمِعَ بَيْنَهُمَا فِي الْإِيجَابِ فَقَدْ شَرَطَ فِي قَبُولِ الْعَقْدِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَبُولُ الْعَقْدِ فِي الْآخَرِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُشْتَرِي لَا يَمْلِكُ قَبُولَ الْعَقْدِ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَاشْتِرَاطُ قَبُولِ الْعَقْدِ فِي الْحُرِّ فِي بَيْعِ الْعَبْدِ شَرْطٌ فَاسِدٌ وَالْبَيْعُ يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ وَقَوْلُهُمَا أَنَّ هَذَا عِنْدَ صِحَّةِ الْإِيجَابِ قُلْنَا عِنْدَ صِحَّةِ الْإِيجَابِ فِيهِمَا يَكُونُ هَذَا شَرْطًا صَحِيحًا وَنَحْنُ إنَّمَا نَدَّعِي الشَّرْطَ الْفَاسِدَ وَذَلِكَ عِنْدَ فَسَادِ الْإِيجَابِ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ بِاعْتِبَارِ جَمْعِ الْبَائِعِ بَيْنَهُمَا فِي كَلَامِهِ لَا بِاعْتِبَارِ وُجُودِ الْمَحَلِّيَّةِ فِيهِمَا.

فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْعَقْدِ فَبَقِيَ الْآخَرُ وَحْدَهُ ابْتِدَاءً بِحِصَّتِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ بِعْت مِنْك هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إلَّا هَذَا بِحِصَّتِهِ مِنْ الْأَلْفِ فَصَارَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ نَظِيرَ الِاسْتِثْنَاءِ، ـــــــــــــــــــــــــــــQوَقَوْلُهُ (فَهُوَ بَاطِلٌ) يُوهِمُ أَنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْعَقِدُ فِي الْقِنِّ أَصْلًا حَتَّى لَا يَثْبُتَ الْمِلْكُ فِيهِ بِالْقَبْضِ كَمَا فِي الْحُرِّ وَالْمَذْكُورُ فِي الْأَسْرَارِ وَمَبْسُوطِ الْإِمَامِ السَّرَخْسِيِّ وَمَبْسُوطِ الْإِمَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ يَنْعَقِدُ فَاسِدًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِوَضَيْنِ مَالٌ إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا مَجْهُولٌ وَالْجَهَالَةُ تُوجِبُ الْفَسَادَ دُونَ الْبُطْلَانِ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ الْبَاطِلِ الْفَاسِدِ قَوْلُهُ (فَصَارَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ) أَيْ الْمَسَائِلُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا نَظِيرَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْحُرَّ وَالْمَيِّتَ وَالْمَيِّتَةَ وَالْخَمْرَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ أَصْلًا وَإِنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى الْعَبْدِ وَالذَّكِيَّةِ وَالْخَلِّ ابْتِدَاءً بِالْحِصَّةِ كَمَا أَنَّ الْمُسْتَثْنَى لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَإِنَّ الْكَلَامَ صَارَ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا وَأَمَّا نَظِيرُ النَّسْخِ فَهُوَ مَا إذَا بَاعَ عَبْدَيْنِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ أَوْ اسْتَحَقَّ أَوْ وَجَدَ أَحَدُهُمَا مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ بَاعَ جَارِيَتَيْنِ فَوُجِدَتْ إحْدَاهُمَا أُمَّ وَلَدٍ صَحَّ الْبَيْعُ فِي الْبَاقِي سَوَاءٌ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا أَوْ لَمْ يُسَمِّ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا إذَا وَجَدَ مُكَاتَبًا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ قَالَ لِأَنَّ الْإِيجَابَ فِيهِمْ فَاسِدٌ لِمَا ثَبَتَ لَهُمْ مِنْ حَقِّ الْعِتْقِ وَقَدْ جُعِلَ ذَلِكَ شَرْطًا لِقَبُولِ الْعَقْدِ فِي الْقِنِّ مِنْهُمَا فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ كُلُّهُ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْحُرِّ. وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَخَلَ فِي الْعَقْدِ لِأَنَّ دُخُولَ الْآدَمِيِّ فِي الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ الرِّقِّ وَالتَّقَوُّمِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِيهِمَا ثُمَّ اسْتَحَقَّ أَحَدُهُمَا نَفْسَهُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَحَقَّهُ غَيْرُهُ بِأَنْ بَاعَ عَبْدَيْنِ فَاسْتَحَقَّ أَحَدُهُمَا وَهُنَاكَ الْبَيْعُ جَائِزٌ فِي الْآخَرِ سَوَاءٌ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا أَوْ لَمْ يُسَمِّ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْبَيْعَ فِي الْمُدَبَّرِ لَيْسَ بِفَاسِدٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِدَلِيلِ جَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ مِنْ نَفْسِهِ وَبِدَلِيلِ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَضَى بِجَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ وَكَذَا الْمُكَاتَبُ فَإِنَّ بَيْعَهُ مِنْ نَفْسِهِ جَائِزٌ وَلَوْ بَاعَهُ مِنْ غَيْرِهِ بِرِضَاهُ جَازَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ وَكَذَا بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ نَفْسِهَا جَائِزٌ وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ نَفَذَ قَضَاؤُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَحَلَّ قَابِلٌ لِلْبَيْعِ حَتَّى نَفَذَ قَضَاءُ الْقَاضِي فِيهِ وَقَضَاءُ الْقَاضِي فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ لَا يَنْفُذُ عَرَفْنَا أَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي الْعَقْدِ ثُمَّ خَرَجُوا بَعْدَ تَنَاوُلِ الْإِيجَابِ إيَّاهُمْ ضَرُورَةَ عَدَمِ الْحُكْمِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي صِيَانَةً لِحَقِّ الْعِتْقِ عَلَيْهِمْ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ النَّسْخِ لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا بَعْدَ الدُّخُولِ وَبَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا فِي الْآخَرِ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ بِأَمْرٍ عَارِضٍ إذْ الثَّمَنُ كُلُّهُ كَانَ مَعْلُومًا وَقْتَ الْبَيْعِ وَجَهَالَةُ الثَّمَنِ بِأَمْرٍ عَارِضٍ لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ كَمَا إذَا هَلَكَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ يُبْطِلُ الْبَيْعَ فِي الْهَالِكِ وَيَبْقَى فِي الْحَيِّ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ كَذَا هَهُنَا. (فَإِنْ قِيلَ) مَا الْفَائِدَةُ فِي دُخُولِهِمْ ثُمَّ خُرُوجِهِمْ (قُلْنَا) الْفَائِدَةُ تَصْحِيحُ كَلَامِ الْعَاقِلِ مَعَ رِعَايَةِ حَقِّهِمْ وَانْعِقَادِ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْآخَرِ قَوْلُهُ (وَنَظِيرُ دَلِيلِ الْخُصُوصِ مَسْأَلَةُ خِيَارِ الشَّرْطِ) إضَافَةُ الْخِيَارِ إلَى الشَّرْطِ إضَافَةُ الشَّيْءِ إلَى سَبَبِهِ كَزَكَاةِ الْمَالِ وَحَجِّ الْبَيْتِ أَيْ الْخِيَارِ الَّذِي يَثْبُتُ بِسَبَبِ الشَّرْطِ وَيُقَالُ شَرْطُ الْخِيَارِ أَيْضًا وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ إضَافَةِ الشَّيْءِ إلَى مُسَبِّبِهِ كَمَالِ الزَّكَاةِ وَوَقْتِ الصَّلَاةِ أَيْ الشَّرْطِ الَّذِي يُوجِبُ الْخِيَارَ وَيُثْبِتُهُ وَاعْلَمْ أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ وَلَا يَمْنَعُ السَّبَبَ عَنْ الِانْعِقَادِ بِخِلَافِ سَائِرِ الشُّرُوطِ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ السَّبَبَ وَالْحُكْمَ جَمِيعًا عَلَى مَا يُعْرَفُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ إنَّهُ يُشْبِهُ دَلِيلَ الْخُصُوصِ لِاجْتِمَاعِ شَبَهِ الِاسْتِثْنَاءِ وَشَبَهِ النَّسْخِ فِيهِ

وَإِذَا بَاعَ عَبْدَيْنِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ أَوْ اُسْتُحِقَّ أَوْ وُجِدَ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتَبًا صَحَّ الْبَيْعُ فِي الْبَاقِي لِأَنَّ الْآخَرَ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ وَالْمُكَاتَبُ يَدْخُلَانِ فِي الْبَيْعِ وَإِنَّمَا امْتَنَعَ الْحُكْمُ صِيَانَةً لِحَقِّهِمَا فَصَارَ الْآخَرُ بَاقِيًا فِي الْعَقْدِ بِحِصَّتِهِ فَصَارَ هَذَا مِنْ قِسْمِ دَلِيلِ النَّسْخِ، وَنَظِيرُ دَلِيلِ الْخُصُوصِ مَسْأَلَةُ خِيَارِ الشَّرْطِ قَالَ فِي الزِّيَادَاتِ فِي رَجُلٍ بَاعَ عَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي أَحَدِهِمَا إنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ حَتَّى يُعَيِّنَ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ وَيُسَمِّيَ ثَمَنَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQكَاجْتِمَاعِهِمَا فِي دَلِيلِ الْخُصُوصِ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَمْنَعُ الْحُكْمَ عَنْ الثُّبُوتِ أَصْلًا كَانَ شَبِيهًا بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي الْحُكْمِ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَمْنَعُ السَّبَبَ عَنْ الِانْعِقَادِ بَلْ يَرْفَعُهُ بَعْدَ الثُّبُوتِ بِالْفَسْخِ كَانَ نَظِيرًا لِلنَّاسِخِ فِي حَقِّ السَّبَبِ فَإِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْجِهَتَانِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِمَا فِي الْمَسَائِلِ كَمَا وَجَبَ الْعَمَلُ بِشَبَهَيْ دَلِيلِ الْخُصُوصِ فِي الْعَامِّ. قَوْلُهُ (إذَا بَاعَ عَبْدَيْنِ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنْ لَا يُعَيَّنَ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ وَلَا يُفَصِّلَ الثَّمَنَ بِأَنْ قَالَ بِعْت هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ بِأَلْفٍ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ فِي أَحَدِهِمَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَفِي هَذَا الْوَجْهِ يَفْسُدُ الْبَيْعُ إمَّا لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ لِأَنَّهُ إذَا شَرَطَ الْخِيَارَ فِي أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَزِمَ الْعَقْدُ فِي الْآخَرِ وَهُوَ مَجْهُولٌ وَالْمِلْكُ لَا يَثْبُتُ فِي الْمَجْهُولِ ابْتِدَاءً وَإِمَّا لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ لَوْ ثَبَتَ فِي الَّذِي لَا خِيَارَ فِيهِ يَثْبُتُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ ابْتِدَاءً لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ وَجَهَالَةُ الثَّمَنِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ وَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ بِأَلْفٍ إلَّا أَحَدَهُمَا بِمَا يَخُصُّهُ مِنْ الْأَلْفِ إذَا قُسِّمَ عَلَى قِيمَتِهِمَا وَذَلِكَ بَاطِلٌ كَذَا هَذَا. وَالثَّانِي أَنْ يُفَصِّلَ الثَّمَنَ وَلَا يُعَيَّنَ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ بِأَنْ قَالَ بِعْتهمَا بِأَلْفٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ فِي أَحَدِهِمَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَهُوَ فَاسِدٌ أَيْضًا لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَلْزَمُ فِيمَا لَا خِيَارَ فِيهِ وَهُوَ مَجْهُولٌ لَا يُمْكِنُ إلْزَامُ الْبَيْعِ فِيهِ وَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ بِعْت هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ بِأَلْفٍ إلَّا أَحَدَهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ وَالثَّالِثُ أَنْ يُعَيِّنَ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ وَلَا يُفَصِّلَ الثَّمَنَ بِأَنْ قَالَ بِعْتهمَا بِأَلْفٍ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ فِي هَذَا بِعْته ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَحُكْمُهُ الْفَسَادُ أَيْضًا لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ بِعْتهمَا بِأَلْفٍ إلَّا هَذَا بِمَا يَخُصُّهُ مِنْ الْأَلْفِ فَيَبْقَى ثَمَنُ الثَّانِي مَجْهُولًا كَذَا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ يَصِحُّ الْعَقْدُ فِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ خِيَارٌ وَلَوْ فَسَخَ فِي أَحَدِهِمَا تَبْقَى فِي الْآخَرِ عَلَى الصِّحَّةِ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيهِمَا مُنْعَقِدٌ إذْ الْإِيجَابُ تَنَاوَلَهُمَا جَمِيعًا وَهُمَا مَحَلَّانِ لِلْبَيْعِ وَالتَّسْمِيَةُ صَحَّتْ جُمْلَةً إلَّا أَنَّ الْخِيَارَ عَارَضَ الْعَقْدَ فِي الْحُكْمِ فَمَنَعَ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي أَحَدِهِمَا فَعَمِلَ الْإِيجَابُ فِي الْآخَرِ وَوَجَبَتْ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ بَعْدَ أَنْ صَحَّتْ تَسْمِيَةُ جُمْلَةِ الثَّمَنِ فَكَانَتْ الْجَهَالَةُ عَارِضَةً فَلَا تَمْنَعُ الْجَوَازَ كَمَا فِي الْقِنِّ وَالْمُدَبَّرِ إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ الْإِمَامَ صَاحِبَ الْكِتَابِ أَجَابَ عَنْهُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ فَقَالَ الْبَيْعُ فَاسِدٌ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا لِأَنَّ الْخِيَارَ وَإِنْ دَخَلَ عَلَى الْحُكْمِ لَكِنَّ الْعَقْدَ إنَّمَا يَنْعَقِدُ لِحُكْمِهِ وَحُكْمُ الْعَقْدِ انْعَدَمَ فِي الَّذِي شُرِطَ فِيهِ الْخِيَارُ بِنَصٍّ قَائِمٍ وَهُوَ الْخِيَارُ وَذَلِكَ النَّصُّ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَأَوْجَبَ إعْدَامَ الْحُكْمِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَصَارَ الْإِيجَابُ قَاصِرًا عَنْهُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا لِضَرُورَةٍ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ فَجُعِلَ الْإِيجَابُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فِي حَقِّ الْحُكْمِ كَمَا فِي بَيْعِ الْحُرِّ جُعِلَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ لِعَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ فَيَبْقَى الْإِيجَابُ فِي حَقِّ الْآخَرِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ مَعَ الْقِنِّ لِأَنَّ الْإِيجَابَ تَنَاوَلَهُمَا وَإِنَّمَا امْتَنَعَ الْحُكْمُ ضَرُورَةَ صِيَانَةِ حَقِّهِ لَا بِنَصٍّ قَائِمٍ مَنَعَ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِيهِ. وَمَا ثَبَتَ ضَرُورَةً لَا يَظْهَرُ حُكْمُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ فَبَقِيَ الْإِيجَابُ مُتَنَاوِلًا لَهُ فِيمَا وَرَاءَ هَذِهِ الضَّرُورَةِ وَذَكَرَ فِي نُسْخَةٍ أُخْرَى الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُدَبَّرِ وَالْقِنِّ وَبَيْنَ هَذَا الْفَصْلِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ وَهِيَ أَنَّ الْمُدَبَّرَ دَاخِلٌ

فَأَمَّا إذَا أَجْمَلَ الثَّمَنَ وَلَمْ يُعَيِّنْ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ أَوْ عَيَّنَ أَحَدَهُمَا وَلَمْ يُعَيِّنْ الْآخَرَ لَمْ يَجْرِ الْبَيْعُ لِأَنَّ الْخِيَارَ لَا يَمْنَعُ الدُّخُولَ فِي الْإِيجَابِ وَيَمْنَعُ الدُّخُولَ فِي الْحُكْمِ فَصَارَ فِي السَّبَبِ نَظِيرُ دَلِيلِ النَّسْخِ وَفِي الْحُكْمِ نَظِيرُ الِاسْتِثْنَاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي الْعَقْدِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا لِأَنَّهُ قَابِلٌ لَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي كَمَا ذَكَرْنَا وَلَكِنَّهُ يَخْرُجُ بَعْدَمَا دَخَلَ فَتَصِيرُ الْجَهَالَةُ حَادِثَةً فِي الزَّمَانِ الثَّانِي فَلَا تَمْنَعُ وَفِي مَسْأَلَتِنَا الْجَهَالَةُ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَثْبُتْ فِي الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ فَيَصِيرُ الثَّمَنُ مَجْهُولًا مِنْ الِابْتِدَاءِ فَيَمْنَعُ صِحَّةً وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِي الْعَقْدِ أَصْلًا لِأَنَّ الشَّرْطَ يَمْنَعُ السَّبَبَ إلَّا أَنَّ الْقِيَاسَ تُرِكَ لِمَا عُرِفَ فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَانِعَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مُقْتَرِنٌ بِالْعَقْدِ لَفْظًا وَمَعْنًى فَأَثَّرَ الْمُفْسِدُ، وَفِي بَيْعِ الْقِنِّ مَعَ الْمُدَبَّرِ الْمَانِعُ مُقْتَرِنٌ بِالْعَقْدِ مَعْنًى لَا لَفْظًا فَلَمْ يُؤَثِّرْ الْمُفْسِدُ وَإِلَى الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ فَأَمَّا إذَا أَجْمَلَ الثَّمَنَ وَلَمْ يُعَيِّنْ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارَ أَوْ عَيَّنَ أَحَدَهُمَا يَعْنِي الثَّمَنَ أَوْ الْمَبِيعَ وَلَمْ يُعَيِّنْ الْآخَرَ وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنْ يُعَيِّنَ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ وَيُفَصِّلَ الثَّمَنَ بِأَنْ قَالَ بِعْت مِنْك هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ كُلَّ وَاحِدٍ بِخَمْسِمِائَةٍ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي هَذَا بِعَيْنِهِ وَيَصِحُّ الْعَقْدُ فِي هَذَا الْوَجْهِ وَيَلْزَمُ فِي الَّذِي لَا خِيَارَ فِيهِ بِمَا سُمِّيَ مِنْ الثَّمَنِ لِزَوَالِ الْجَهَالَةِ بِالْكُلِّيَّةِ. ثُمَّ فِي الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ عَمِلْنَا بِشَبَهِ الِاسْتِثْنَاءِ فَلَمْ نُجَوِّزْ الْبَيْعَ عِنْدَ عَدَمِ التَّعْيِينِ وَإِعْلَامِ الْحِصَّةِ كَمَا ذَكَرْنَا وَفِي الْفَصْلِ الرَّابِعِ عَمِلْنَا بِشَبَهِ النَّاسِخِ فَجَوَّزْنَا الْبَيْعَ وَلَمْ نَجْعَلْ قَبُولَ الْعَقْدِ فِي الَّذِي جُعِلَ فِيهِ الْخِيَارُ شَرْطًا فَاسِدًا فِي الَّذِي لَزِمَ الْعَقْدُ فِيهِ كَمَا جَعَلْنَاهُ فِي بَيْعِ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ عِنْدَ تَفْصِيلِ الثَّمَنِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّا إنَّمَا جَعَلْنَاهُ هُنَاكَ شَرْطًا فَاسِدًا لِأَنَّ الْحُرَّ وَمَا شَاكَلَهُ مِنْ الْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ أَصْلًا لِعَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ اشْتِرَاطُ الْقَبُولِ فِيهِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ اشْتِرَاطُ قَبُولِ غَيْرِ الْمَبِيعِ لِلِانْعِقَادِ فِي الْمَبِيعِ فَكَانَ شَرْطًا فَاسِدًا فَأَمَّا الَّذِي شُرِطَ فِيهِ الْخِيَارُ فَدَاخِلٌ تَحْتَ الْعَقْدِ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي السَّبَبِ فَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ الِانْعِقَادِ فِي حَقِّهِ فَكَانَ اشْتِرَاطُ الْقَبُولِ فِيهِ اشْتِرَاطُهُ فِي الْمَبِيعِ لَا فِي غَيْرِ الْمَبِيعِ فَكَانَ شَرْطًا صَحِيحًا لَا فَاسِدًا فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ (فَإِنْ قِيلَ) فَهَلَّا عَمِلْتُمْ بِالشَّبَهَيْنِ جَمِيعًا فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ كَمَا فَعَلْتُمْ فِي دَلِيلِ الْخُصُوصِ وَالْعَمَلِ بِشَبَهِ النَّاسِخِ يُوجِبُ جَوَازَ الْبَيْعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْ فِيهِ الْخِيَارُ مَعْلُومًا وَالثَّمَنُ مُفَصَّلًا (قُلْنَا) لِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِمَا لَا يُمْكِنُ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ بِخِلَافِ دَلِيلِ الْخُصُوصِ أَمَّا فِي الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِمَا يُؤَدِّي إلَى سُقُوطِ شَرْطِ الْخِيَارِ وَلُزُومِ الْعَقْدِ فِي الْعَبْدَيْنِ لِأَنَّ دَلِيلَ النَّسْخِ إذَا كَانَ مَجْهُولًا سَقَطَ بِنَفْسِهِ وَإِذَا سَقَطَ شَرْطُ الْخِيَارِ هَهُنَا لِكَوْنِهِ مَجْهُولًا لَزِمَ الْعَقْدُ فِي الْعَبْدَيْنِ كَمَا لَوْ لَمْ يُوجَدْ الْخِيَارُ أَصْلًا وَهَذَا خِلَافُ مَقْصُودِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَلَا يَجُوزُ وَلِأَنَّا لَوْ عَمِلْنَا بِهِمَا فَالْجَوَابُ لَا يَخْتَلِفُ أَيْضًا لِأَنَّ شَبَهَ الِاسْتِثْنَاءِ يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ وَشَبَهَ النَّسْخِ يُوجِبُ انْعِقَادَهُ فِي الْعَبْدَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ مُنْعَقِدًا فَلَا يَنْعَقِدُ بِالشَّكِّ. وَكَذَا الْجَوَابُ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ أَيْضًا لِأَنَّ الْعَمَلَ بِشَبَهِ النَّسْخِ فِيهِ يُوجِبُ لُزُومَ الْعَقْدِ فِي الَّذِي لَا خِيَارَ فِيهِ وَكَوْنُ الْجَهَالَةِ فِي الثَّمَنِ طَارِئَةً غَيْرَ مَانِعَةٍ كَمَا اخْتَارَهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَشَبَهُ الِاسْتِثْنَاءِ يُوجِبُ الْفَسَادَ فَلَا يَثْبُتُ الْجَوَازُ بِالشَّكِّ أَيْضًا وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ فَشَبَهُ الِاسْتِثْنَاءِ يُوجِبُ الْجَوَازَ أَيْضًا لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مَعْلُومٌ كَمَا أَنَّ شَبَهَ النَّسْخِ يُوجِبُ ذَلِكَ فَكَانَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَوَازِ فِيهِ عَمَلٌ بِالشَّبَهَيْنِ أَيْضًا ثُمَّ حَاصِلُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ شَبَّهَ أَوَّلًا خِيَارَ الشَّرْطِ

فَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ لِجَوَازِ الْبَيْعِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَإِذَا وُجِدَ التَّعْيِينُ وَإِعْلَامُ الْحِصَّةِ صَحَّ الْبَيْعُ وَلَمْ يُعْتَبَرْ الَّذِي شُرِطَ فِيهِ الْخِيَارُ شَرْطًا فَاسِدًا فِي الْآخَرِ بِخِلَافِ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّهُ يُعْتَبَرُ شَرْطًا فَاسِدًا فِي الْآخَرِ لَا مَحَالَةَ فَيَفْسُدُ بِهِ الْبَيْعُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQبِدَلِيلِ الْخُصُوصِ ثُمَّ ذَكَرَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِئْنَافِ مَسْأَلَةَ الزِّيَادَاتِ مَعَ أَوْجُهِهَا الْأَرْبَعَةِ تَوْضِيحًا ثُمَّ أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى مَجْمُوعِ مَا ذَكَرَ فَبَيَّنَ وَجْهَ التَّشْبِيهِ بِذِكْرِ تَحَقُّقِ الشَّبَهَيْنِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ ثُمَّ بَنَى الْأَوْجُهَ الْأَرْبَعَةَ عَلَى الشَّبَهَيْنِ فَقَوْلُهُ فَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ كَذَا بَيَانُ تَفَرُّعِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ عَلَى شَبَهِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَقَوْلُهُ وَإِذَا وَجَدَ التَّعَيُّنَ فِي آخِرِ الْبَابِ بَيَانُ تَفَرُّعِ الْوَجْهِ الرَّابِعِ عَلَى شَبَهِ النَّسْخِ قَوْلُهُ (فَقِيلَ لَا بُدَّ) مِنْ كَذَا بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ تَقْدِيرُهُ لَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ لِلْجَوَازِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ إعْلَامُ الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ أَوْ لَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَشْبَاهِ الِاسْتِثْنَاءِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِعْلَامِ بِالِاتِّفَاقِ فَيَكُونُ إلْحَاقُ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدِ فِي عَدَمِ الْجَوَازِ فَيُنَاسِبُ الدَّلِيلُ الْمَدْلُولَ أَوْ تَقْدِيرُهُ فَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ الْإِعْلَامِ لِلْجَوَازِ كَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِجَوَازِ بَيْعِ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ عِنْدَهُمَا فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ الْإِعْلَامُ لَمْ يَثْبُتْ الْجَوَازُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[باب ألفاظ العموم]

بَابُ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ) أَلْفَاظُ الْعُمُومِ قِسْمَانِ عَامٌّ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ وَعَامٌّ بِمَعْنَاهُ دُونَ صِيغَتِهِ أَمَّا الْعَامُّ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ فَهُوَ صِيغَةُ كُلِّ جَمْعٍ مِثْلُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ـــــــــــــــــــــــــــــQ [بَابُ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ] [أَلْفَاظُ الْعُمُومِ قِسْمَانِ] [الْقَسْم الْأَوَّل عَامٌّ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ وَعَامٌّ بِمَعْنَاهُ دُونَ صِيغَتِهِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَابُ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ قَدْ مَرَّ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَنَّ الْعَامَّ مَا يَنْتَظِمُ جَمْعًا مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى وَلَمَّا كَانَ الِانْتِظَامُ بِطَرِيقَيْنِ كَانَتْ الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى الْعُمُومِ قِسْمَيْنِ ضَرُورَةً قِسْمٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِمَعْنَاهُ دُونَ صِيغَتِهِ وَقِسْمٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ، وَالْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ هَذَا اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِعَدَدٍ مَعْلُومٍ بَلْ يَتَنَاوَلُ الثَّلَاثَةَ فَصَاعِدًا وَلَهُ صِيغَةُ تَثْنِيَةٍ وَفَرْدٍ مِنْ لَفْظِهِ كَرِجَالٍ أَوْ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ كَنِسَاءٍ، وَلِهَذَا جَمَعَهُمَا الشَّيْخُ فِي إيرَادِ النَّظَائِرِ. ثُمَّ الْجَمْعُ عَلَى قِسْمَيْنِ جَمْعُ قِلَّةٍ وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْعَشَرَةِ فَمَا دُونَهَا إلَى الثَّلَاثَةِ وَأَمْثِلَتُهُ أَفْعَالٌ وَأَفْعُلٌ وَأَفْعِلَةٌ وَفِعْلَةٌ كَأَثْوَابٍ وَأَفْلُسٍ وَأَجْرِبَةٍ وَغِلْمَةٍ وَقِيلَ جَمْعُ السَّلَامَةِ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ وَالْأَلِفِ وَالتَّاءِ لِلتَّقْلِيلِ أَيْضًا. وَقَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ هُوَ بَعِيدٌ لَا سِيَّمَا فِيمَا لَيْسَ فِيهِ جَمْعٌ مَبْنِيٌّ لِلتَّكْثِيرِ. وَجَمْعُ كَثْرَةٍ وَهُوَ مَا سِوَاهَا مِنْ الْجُمُوعِ. ثُمَّ عَامَّةُ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّ جَمْعَ الْقِلَّةِ إذَا كَانَ مُنَكَّرًا لَيْسَ بِعَامٍّ لِكَوْنِهِ ظَاهِرًا فِي الْعَشَرَةِ فَمَا دُونَهَا وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي جَمْعِ الْكَثْرَةِ إذَا كَانَ مُنَكَّرًا فَكَأَنَّ الشَّيْخَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِهِ فَهُوَ صِيغَةُ كُلِّ جَمْعٍ رَدَّ قَوْلَ الْعَامَّةِ وَاخْتَارَ أَنَّ الْكُلَّ عَامٌّ سَوَاءٌ كَانَ جَمْعَ قِلَّةٍ أَوْ كَثْرَةٍ إلَّا أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ فِي اللُّغَةِ جَمْعُ الْقِلَّةِ يَكُونُ الْعُمُومُ فِي مَوْضِعِهِ وَهُوَ الثَّلَاثَةُ فَصَاعِدًا إلَى الْعَشَرَةِ وَفِي غَيْرِهِ يَكُونُ الْعُمُومُ مِنْ الثَّلَاثَةِ إلَى أَنْ يَشْمَلَ الْكُلَّ إذْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْعُمُومِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ الِاسْتِغْرَاقُ عَلَى مَا عُرِفَ. قَوْلُهُ (مِثْلُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ) اللَّامُ فِي هَذِهِ النَّظَائِرِ لِتَحْسِينِ الْكَلَامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي وَالْمُرَادُ مِنْهَا الْجُمُوعُ الْمُنَكَّرَةُ إلَّا الْمُعَرَّفَةُ بِاللَّامِ وَالْإِضَافَةِ فَإِنَّ

أَمَّا صِيغَتُهُ فَمَوْضُوعَةٌ لِلْجَمْعِ وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَكَذَلِكَ وَذَلِكَ شَامِلٌ لِكُلِّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ وَأَدْنَى الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ ذَكَرَ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ صَرِيحًا فِي كِتَابِ السِّيَرِ فِي الْأَنْفَالِ وَفِي غَيْرِهَا فَصَارَ هَذَا الِاسْمُ عَامًّا مُتَنَاوِلًا جَمِيعَ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ غَيْرَ أَنَّ الثَّلَاثَةَ أَقَلُّ مَا يَتَنَاوَلُهُ فَصَارَ أَوْلَى، وَلِهَذَا قُلْنَا فِي رَجُلٍ قَالَ إنْ اشْتَرَيْت عَبِيدًا فَهُوَ كَذَا وَإِنْ تَزَوَّجْت نِسَاءً أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ عَلَى الثَّلَاثَةِ فَصَاعِدًا لِمَا قُلْنَا وَالْكَلِمَةُ عَامَّةٌ لِكُلِّ قِسْمٍ يَتَنَاوَلُهُ وَقَدْ يَصِيرُ هَذَا النَّوْعُ مَجَازًا عَنْ الْجِنْسِ إذَا دَخَلَهُ لَامُ الْمَعْرِفَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْكَلَامَ فِي الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ يَأْتِي بَعْدَهُ، وَلِهَذَا ذَكَرْت هَذِهِ النَّظَائِرَ فِي التَّقْوِيمِ وَالْمِيزَانِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ لِأَبِي الْيُسْرِ بِلَفْظِ التَّنْكِيرِ فَقُبِلَ كَقَوْلِنَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ وَمُسْلِمُونَ وَمُسْلِمَاتٌ. قَوْلُهُ (أَمَّا صِيغَتُهُ فَمَوْضُوعَةٌ لِلْجَمْعِ) أَيْ صِيغَةُ هَذَا الْعَامِّ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ فَمَوْضُوعَةٌ لِلْجَمْعِ؛ لِأَنَّ وَاضِعَ اللُّغَةِ وَمَا وَضَعَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ أَعْنِي أَلْفَاظَ الْجُمُوعِ إلَّا لِأَعْدَادٍ مُجْتَمِعَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ لِلْوَاحِدِ رَجُلٌ وَلِلِاثْنَيْنِ رَجُلَانِ وَلِلثَّلَاثَةِ وَالْأَلْفِ رِجَالٌ. وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَلَا إشْكَالَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَعْدَادٍ مُجْتَمَعَةٍ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَهُوَ عَامٌّ بِمَعْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ شَامِلٌ لِكُلِّ مَا تَنَاوَلَهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. قَوْلُهُ (وَذَلِكَ شَامِلٌ) أَيْ الْعَامُّ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ شَامِلٌ لِجَمِيعِ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ هَذَا الِاسْمُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إنْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِ وَإِلَّا فَيَنْطَلِقُ عَلَى الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ هَذَا اللَّفْظُ عَلَيْهِ فَصَارَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ بَعْدَ انْتِفَاءِ الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ وَفِيمَا زَادَ عَلَيْهِ شَكٌّ وَاحْتِمَالٌ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْجَمْعَ الْمُنَكَّرَ عَامٌّ عِنْدَنَا أَيْ مُتَنَاوِلٌ لِلْكُلِّ عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ وَعِنْدَ وُجُودِهِ مَحْمُولٍ عَلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ وَعِنْدَ بَعْضِ مَنْ شَرَطَ الِاسْتِغْرَاقَ فِي الْعُمُومِ لَيْسَ بِعَامٍّ بَلْ يُحْمَلُ عَلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ وَإِنْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالْعُمُومِ؛ لِأَنَّ رِجَالًا فِي الْمَجْمُوعِ كَرَجُلٍ فِي الْوُحْدَانِ فَكَمَا أَنَّ رَجُلًا حَقِيقَةٌ فِي كُلِّ فَرْدٍ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ كَذَلِكَ رِجَالٌ حَقِيقَةٌ لِكُلِّ جَمْعٍ عَلَى الْبَدَلِ، وَلِهَذَا يَصِحُّ نَعْتُهُ بِأَيِّ عَدَدٍ شَاءَ فَيَكُونُ حَقِيقَةً فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْمَجْمُوعِ وَهُوَ مُطْلَقُ الْجَمْعِيَّةِ. وَلَنَا أَنَّ إطْلَاقَهُ يَصِحُّ عَلَى الْكُلِّ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَعَلَى مَا دُونَهُ أَيْضًا بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ وَالْحَمْلُ وَعَلَى مَا دُونَهُ إدْخَالٌ لَهُ فِي حَيِّزِ الْإِجْمَالِ إذْ لَيْسَ مِنْ أَقْسَامِ الْجُمُوعِ مَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ لِاسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الثَّلَاثَةِ لِلتَّيَقُّنِ أَوْ عَلَى الْكُلِّ وَالْكَلِمَةُ مَوْضُوعَةٌ لِلشُّمُولِ وَالْعُمُومِ فَيَكُونُ حَمْلُهَا عَلَى الْكُلِّ أَقْرَبَ إلَى تَحْقِيقِ الْعُمُومِ وَأَعَمَّ فَائِدَةً فَكَانَ أَوْلَى. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ وَلِأَنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَى الْأَقَلِّ وَهُوَ الثَّلَاثَةُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِالْكُلِّ قُلْنَا إذَا قَالَ إنْ اشْتَرَيْت عَبِيدًا فَكَذَا أَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الثَّلَاثَةِ فَصَاعِدًا لِمَا قُلْنَا. وَلَا يُقَالُ إنَّ قَوْلَهُ لِمَا قُلْنَا وَقَعَ مُكَرَّرًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ، وَلِهَذَا قُلْنَا تَعْلِيلٌ لِهَذَا الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ فَلَا يَصِحُّ تَعْلِيلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ.؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا فِي كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَثِيرٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اهْتِمَامَهُمْ كَانَ فِي تَصْحِيحِ الْمَقَاصِدِ وَهِيَ الْمَعَانِي فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَعَمَّقُوا فِي الْأَلْفَاظِ. قَوْلُهُ (وَالْكَلِمَةُ) أَيْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَهِيَ صِيغَةُ الْجَمْعِ. عَامَّةٌ أَيْ شَامِلَةٌ لِكُلِّ قِسْمٍ مَنْ أَقْسَامِ الْجُمُوعِ الَّذِي يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ إيَّاهُ وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا لِيُشِيرَ بِهِ إلَى أَنَّهُ كَمَا يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ وَالثَّلَاثَةَ يَتَنَاوَلُ مَا بَيْنَهُمَا أَيْضًا بِخِلَافِ اسْمِ الْجِنْسِ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْأَعْلَى وَالْأَدْنَى وَلَا يَتَنَاوَلُ مَا بَيْنَهُمَا. وَالْفَرْقُ أَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْفَرْدِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ اسْمُ فَرْدٍ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْأَدْنَى وَالْأَعْلَى تَحْقِيقًا وَتَقْدِيرًا دُونَ مَا بَيْنَهُمَا وَهَذَا اللَّفْظُ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْأَعْلَى وَالْأَدْنَى وَفِيمَا بَيْنَهُمَا مِنْ أَقْسَامِ الْجُمُوعِ. قَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيُسْرِ إذَا حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ نِسَاءً فَتَزَوَّجَ ثِنْتَيْنِ لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ وَلَوْ تَزَوَّجَ ثَلَاثًا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ مُتَيَقَّنٌ فَيَنْصَرِفُ الْيَمِينُ إلَيْهِ وَلَوْ نَوَى أَكْثَرَ مِنْ الثَّلَاثِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَ ثَلَاثًا لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ يَتَنَاوَلُ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ كَمَا يَتَنَاوَلُ الثَّلَاثَ إلَّا

لِأَنَّ لَامَ الْمَعْرِفَةِ لِلْعَهْدِ وَلَا عَهْدَ فِي أَقْسَامِ الْجُمُوعِ فَجُعِلَ لِلْجِنْسِ لِيَسْتَقِيمَ تَعْرِيفُهُ وَفِيهِ مَعْنَى الْجَمْعِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ كُلَّ جِنْسٍ يَتَضَمَّنُ الْجَمْعَ فَكَانَ فِيهِ عَمَلٌ بِالْوَصْفَيْنِ وَلَوْ عَمِلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ بَطَلَ حُكْمُ اللَّامِ أَصْلًا فَصَارَ الْجِنْسُ أَوْلَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] وَقَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ إنْ تَزَوَّجْتُ النِّسَاءُ أَوْ أَشْتَرَيْتُ الْعَبِيدَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ فَصَاعِدًا لِمَا قُلْنَا إنَّهُ صَارَ عِبَارَةً عَنْ الْجِنْسِ فَسَقَطَتْ حَقِيقَةُ الْجَمْعِ وَاسْمُ الْجِنْسِ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ عَلَى أَنَّهُ كُلُّ الْجِنْسِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْلَا غَيْرُهُ لَكَانَ كُلًّا فَإِنَّ آدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه كَانَ كُلَّ الْجِنْسِ لِلرِّجَالِ وَحَوَّاءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَحْدَهَا كَانَتْ كُلَّ الْجِنْسِ لِلنِّسَاءِ فَلَا يُسْقِطُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ بِالْمُزَاحَمَةِ فَصَارَ الْوَاحِدُ لِلْجِنْسِ مِثْلُ الثَّلَاثَةِ لِلْجَمْعِ فَكَمَا كَانَ اسْمُ الْجَمْعِ وَاقِعًا عَلَى الثَّلَاثَةِ فَصَاعِدًا كَانَ اسْمُ الْجِنْسِ وَاقِعًا عَلَى الْوَاحِدِ فَصَاعِدًا وَكَانَ كَمَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ الْمَاءَ أَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ عَلَى احْتِمَالِ الْكُلِّ. وَأَمَّا الْعَامُّ بِمَعْنَاهُ دُونَ صِيغَتِهِ فَأَنْوَاعٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّ مُطْلَقَهُ كَانَ يَنْصَرِفُ إلَى ثَلَاثٍ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ فَإِذَا نَوَى الْأَكْثَرَ فَقَدْ نَوَى مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ. (قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ لَامَ الْمَعْرِفَةِ لِلْعَهْدِ) أَيْ لَامَ التَّعْرِيفِ لِلْمَعْهُودِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ رَأَيْت رَجُلًا ثُمَّ كَلَّمْت الرَّجُلَ أَيْ ذَلِكَ الرَّجُلَ بِعَيْنِهِ. وَلَا عَهْدَ أَيْ لَا مَعْهُودَ فِي أَقْسَامِ الْجُمُوعِ لِيُمْكِنَ تَعْرِيفُهُ بِاللَّامِ حَتَّى لَوْ كَانَ مَعْهُودًا يُمْكِنُ صَرْفُهُ إلَيْهِ يُصْرَفُ إلَيْهِ كَمَنْ قَالَ لِآخَرَ إنَّك تُرِيدُ أَنْ تَتَزَوَّجَ هَذِهِ النِّسْوَةَ الْأَرْبَعَ فَقَالَ وَاَللَّهِ لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ يَنْصَرِفُ كَلَامُهُ إلَيْهِنَّ خَاصَّةً كَذَا ذَكَرَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ. فَجَعَلَ أَيْ هَذَا الِاسْمَ لِلْجِنْسِ لِيُمْكِنَ تَعْرِيفُهُ بِاللَّامِ إذْ الْجِنْسُ مَعْهُودٌ فِي الذِّهْنِ. وَفِيهِ مَعْنَى الْجَمْعِ أَيْ فِي جَعْلِهِ الْجِنْسَ رِعَايَةَ مَعْنَى الْجَمْعِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ يَتَضَمَّنُ الْجَمْعَ إمَّا فِي الْخَارِجِ أَوْ فِي الْوَهْمِ إذَا هُوَ مِنْ الْكُلِّيَّاتِ وَالْكُلِّيُّ مَا لَا يَمْنَعُ مَفْهُومُهُ عَنْ الشَّرِكَةِ وَلِذَلِكَ جَعَلُوا الشَّمْسَ جِنْسًا وَالْقَمَرَ كَذَلِكَ وَجَمَعُوهُمَا عَلَى شُمُوسٍ وَأَقْمَارٍ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ فِي جَعْلِهِ جِنْسًا عَمَلٌ بِالْوَصْفَيْنِ أَيْ بِالْمَعْنَيَيْنِ وَهُمَا الْجَمْعِيَّةُ وَالتَّعْرِيفُ. وَلَوْ حُمِلَ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى حَقِيقَةٍ بَعْدَ دُخُولِ اللَّامِ فِيهِ. لَبَطَلَ حُكْمُ اللَّامِ وَهُوَ التَّعْرِيفُ أَصْلًا أَيْ بِالْكُلِّيَّةِ لِمَا ذُكِرَ. فَصَارَ الْجِنْسُ أَيْ حَمْلُهُ عَلَى الْجِنْسِ وَجَعْلُهُ مَجَازًا فِيهِ أَوْلَى مِنْ إبْقَائِهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ. إنَّ ذَلِكَ أَيْ قَوْلَهُ النِّسَاءُ وَالْعَبِيدُ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ فَصَاعِدًا حَتَّى إذَا اشْتَرَى عَبْدًا وَاحِدًا أَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَاحِدَةً حَنِثَ وَلَا يَتَوَقَّفُ الْحِنْثُ عَلَى شِرَاءِ ثَلَاثَةٍ مِنْ الْعَبِيدِ أَوْ تَزَوُّجِ ثَلَاثٍ مِنْ النِّسَاءِ كَمَا تَوَقَّفَ فِيمَا إذَا كَانَ مُنَكَّرًا. وَمَعْنَى قَوْلِهِ فَصَاعِدًا أَنَّهُ يَحْنَثُ بِشِرَاءِ عَبْدَيْنِ وَثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ وَأَلْفٍ أَيْضًا كَمَا يَحْنَثُ فِي الْمُنَكَّرِ بِشِرَاءِ أَرْبَعَةٍ وَخَمْسَةٍ وَعَشَرَةٍ وَأَلْفٍ أَيْضًا لَكِنَّهُ إذَا نَوَى شِرَاءَ عَبْدَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ حَتَّى لَا يَحْنَثَ بِمَا دُونَ ذَلِكَ لَا يَعْمَلُ نِيَّتُهُ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَإِنَّهُ يَصِحُّ فِيهَا نِيَّةُ مَا فَوْقَ الثَّلَاثَةِ كَمَا بَيَّنَّا. قَوْلُهُ (وَاسْمُ الْجِنْسِ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ) جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَمَّا صَارَ عِبَارَةً عَنْ الْجِنْسِ وَكَانَ اللَّامُ لِتَعْرِيفِهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ بِالْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ وَلَا بِالْعَبْدِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِجِنْسَيْنِ تَامَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ التَّامَّ كُلُّ نِسَاءِ الْعَالَمِ وَكُلُّ عَبِيدٍ الدُّنْيَا. فَأَجَابَ وَقَالَ الْوَاحِدُ يَصْلُحُ جِنْسًا كَامِلًا كَالْكُلِّ؛ لِأَنَّ أَفْرَادَ الْجِنْسِ لَوْ عُدِمَتْ وَلَمْ تَبْقَ إلَّا هَذِهِ الْوَاحِدَةُ كَانَتْ كُلًّا وَكَانَ الِاسْمُ لَهَا حَقِيقَةً أَلَا تَرَى أَنَّ حَوَّاءَ كَانَتْ جِنْسًا كَامِلًا وَآدَمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ جِنْسًا كَامِلًا وَكَانَ اسْمُ الْإِنْسِ لَهُ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا لَمْ يَبْقَ الْكَمَالُ بِانْضِمَامِ أَمْثَالِهَا إلَيْهَا لَا لِنُقْصَانٍ فِي نَفْسِهَا فَثَبَتَ أَنَّ الْبَعْضَ مِنْ الْجِنْسِ صَالِحٌ فِي ذَاتِهِ لِهَذَا الِاسْمِ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا صَارَ بَعْضًا بِمُزَاحَمَةِ أَمْثَالِهِ لَا لِنُقْصَانٍ فِي نَفْسِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ سَاوَى الْبَعْضُ الْكُلَّ فِي الدُّخُولِ تَحْتَ الِاسْمِ فَيَتَأَدَّى بِهِ حُكْمُ الْكُلِّ إلَّا بِدَلِيلٍ يُرَجِّحُ حَقِيقَةَ الْكُلِّ عَلَى الْأَدْنَى كَذَلِكَ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ. قَوْلُهُ (فَصَارَ الْوَاحِدُ لِلْجِنْسِ مِثْلَ الثَّلَاثَةِ لِلْجَمْعِ) لِمَا ذَكَرَ مِنْ الدَّلِيلِ إلَّا أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا وَهُوَ أَنَّ اسْمَ الْجَمْعِ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى الثَّلَاثَةِ إذَا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِالْكُلِّ وَعِنْدَ عَدَمِ التَّعَذُّرِ يَقَعُ عَلَى الْكُلِّ فَأَمَّا اسْمُ الْجِنْسِ فَيَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَذَّرْ الْعَمَلُ بِالْكُلِّ وَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى الْكُلِّ بِدَلِيلٍ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ اسْمُ فَرْدٍ وَالْوَاحِدَ فَرْدٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَالْكُلُّ فَرْدٌ حُكْمًا فَكَانَ الْأَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ وَاسْمُ الْجَمْعِ مَوْضُوعٌ لِمَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ وَالْكُلُّ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَكْمَلُ مِنْ الثَّلَاثَةِ فَكَانَ أَوْلَى وَقَدْ بَيَّنَّا لَامَ التَّعْرِيفِ فِي بَابِ مُوجِبِ

[أنواع العام بمعناه دون صيغته]

مِنْهَا مَا هُوَ فَرْدٌ وُضِعَ لِلْجَمْعِ مِثْلُ الرَّهْطِ وَالْقَوْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِثْلُ الطَّائِفَةِ وَالْجَمَاعَةِ فَصِيغَتُهُ رَهْطٌ وَقَوْمٌ مِثْلُ زَيْدٌ وَعَمْرٌو وَمَعْنَاهُمَا الْجَمْعُ وَلَمَّا كَانَ فَرْدًا بِصِيغَتِهِ جَمْعًا بِمَعْنَاهُ كَانَ اسْمًا لِلثَّلَاثَةِ فَصَاعِدًا إلَّا الطَّائِفَةُ فَإِنَّهَا اسْمٌ لِلْوَاحِدِ فَصَاعِدًا كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] أَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ فَصَاعِدًا؛ لِأَنَّهُ نَعْتُ فَرْدٍ صَارَ جِنْسًا بِعَلَامَةِ الْجَمَاعَةِ. وَمِنْ ذَلِكَ كَلِمَةُ مَنْ وَهِيَ تَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ وَالْعُمُومَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْأَمْرِ فِي مَعْنَى الْعُمُومِ وَالتَّكْرَارِ وَسَنُبَيِّنُهُ بَعْدُ أَيْضًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [أَنْوَاع الْعَامُّ بِمَعْنَاهُ دُونَ صِيغَتِهِ] [مَا هُوَ فَرْدٌ وُضِعَ لِلْجَمْعِ] قَوْلُهُ مَا هُوَ فَرْدٌ وُضِعَ لِلْجَمْعِ أَيْ لَفْظُهُ فَرْدٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُثَنَّى وَيُجْمَعُ فَيُقَالُ رَهْطٌ وَرَهْطَانِ وَأَرْهُطٌ وَأَرْهَاطٌ وَقَوْمٌ وَقَوْمَانِ وَأَقْوَامٌ وَلَكِنَّهُ وُضِعَ لِلْجَمْعِ مِثْلُ الْأَوَّلِ. وَالرَّهْطُ اسْمٌ لِمَا دُونَ الْعَشَرَةِ مِنْ الرِّجَالِ لَا يَكُونُ فِيهِمْ امْرَأَةٌ كَذَا فِي الصِّحَاحِ. وَالْقَوْمُ اسْمٌ لِجَمَاعَةِ الرِّجَالِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُمْ الْقُوَّامُ عَلَى النِّسَاءِ قَالَ زُهَيْرٌ: وَمَا أَدْرِي وَلَسْت أَخَالُ أَدْرِي ... أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ جَمْعٌ قَائِمٌ كَصَائِمٍ وَصُوَّمٍ وَزَائِرٍ وَزُوَّرٍ. أَوْ هُوَ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ كَذَا فِي الْمَطْلَعِ وَغَيْرِهِ فَبِالنَّظَرِ إلَى الْأَصْلِ كَانَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَبِالنَّظَرِ إلَى الِاسْتِعْمَالِ وَجَمْعُهُ عَلَى أَقْوَامٍ كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. وَجَمَعَ الشَّيْخُ بَيْنَ جَمْعِ الْقِلَّةِ وَهُوَ الرَّهْطُ وَبَيْنَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ وَهُوَ الْقَوْمُ كَمَا جَمَعَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. قَوْلُهُ (مِثْلُ الطَّائِفَةِ وَالْجَمَاعَةِ) إنَّمَا أَوْرَدَهُمَا بَعْدَ مَا ذَكَرَ نَظَائِرَ هَذَا الْقِسْمِ دَفْعًا لِوَهْمِ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُمَا عَامَّانِ صِيغَةً وَمَعْنًى إذْ التَّاءُ عَلَامَةُ الْجَمْعِ كَالْوَاوِ فِي مُسْلِمُونَ فَبَيَّنَ أَنَّهُمَا مِنْ هَذَا الْقِسْمِ لَا مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُثَنَّى وَيُجْمَعُ يُقَالُ طَائِفَةٌ وَطَائِفَتَانِ وَطَوَائِفُ وَجَمَاعَةٌ وَجَمَاعَتَانِ وَجَمَاعَاتٌ. كَانَ اسْمًا لِلثَّلَاثَةِ فَصَاعِدًا مِثْلُ الْعَامِّ صِيغَةً وَمَعْنًى. قَوْلُهُ (إلَّا الطَّائِفَةَ) اتَّفَقُوا أَنَّ الطَّائِفَةَ هِيَ النَّفَرُ الْيَسِيرُ. ثُمَّ قَالَ الْحَسَنُ هِيَ اسْمٌ لِلْعَشَرَةِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ لِثَلَاثَةٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ لِلِاثْنَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ هِيَ اسْمٌ لِلْوَاحِدِ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ لِبَعْضِ الشَّيْءِ يُقَالُ طَائِفَةٌ مِنْ اللَّيْلِ وَطَائِفَةٌ مِنْ الْمَالِ وَطَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ وَأَقَلُّ الْأَبْعَاضِ فِي الْأَنَاسِيِّ وَاحِدٌ. وَلِأَنَّهَا نَعْتٌ مِنْ طَافَ يَطُوفُ وَأَقَلُّ مَنْ يَطُوفُ وَاحِدٌ إلَّا أَنَّهَا صَارَتْ لِلْجِنْسِ بِعَلَامَةِ الْجَمَاعَةِ وَهِيَ التَّاءُ فَإِنَّهَا عَلَامَةُ التَّأْنِيثِ وَإِنَّمَا تَدْخُلُ فِي الِاسْمِ لِلتَّأْنِيثِ أَوْ لِشَبَهِ التَّأْنِيثِ، وَالْمُرَادُ بِشَبَهِ التَّأْنِيثِ أَنْ يَكُونَ فَرْعًا لِغَيْرِهِ وَلَمْ تَدْخُلْ التَّاءُ فِي الطَّائِفَةِ لِلتَّأْنِيثِ بِلَا شُبْهَةٍ فَيَكُونُ دَاخِلَةً لِشَبَهِ التَّأْنِيثِ وَهُوَ مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ إذْ الْجَمْعُ فَرْعٌ عَلَى الْوَاحِدِ كَمَا دَخَلَتْ فِي نَحْوِ عُصْبَةٍ وَزُمْرَةٍ وَإِذَا صَارَتْ جِنْسًا بِعَلَامَةِ الْجَمَاعَةِ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الْجِنْسِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ؛ لَامُ التَّعْرِيفِ فَيَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ فَصَاعِدًا. أَوْ يُقَالُ وَلَمَّا كَانَتْ نَعْتَ فَرْدٍ فِي أَصْلِهَا وَانْضَمَّتْ إلَيْهَا عَلَامَةُ الْجَمَاعَةِ يُرَاعَى فِيهَا الْمَعْنَيَانِ كَمَا يُرَاعَى فِي صِيغَةِ الْجَمْعِ إذَا اتَّصَلَ بِهَا دَلِيلُ الْفَرْدِيَّةِ كَمَا قُلْنَا فِي قَوْلِهِ لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ. وَذَكَرَ فِي الْكَشَّافِ الطَّائِفَةَ الْفِرْقَةَ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَلْقَةً وَأَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَهِيَ صِفَةٌ غَالِبَةٌ كَأَنَّهَا الْجَمَاعَةُ الْحَافَّةُ حَوْلَ الشَّيْءِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِهَا أَرْبَعَةً إلَى أَرْبَعِينَ رَجُلًا. وَفِي الصِّحَاحِ الطَّائِفَةُ مِنْ الشَّيْءِ قِطْعَةٌ مِنْهُ وقَوْله تَعَالَى. {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْوَاحِدُ فَمَا فَوْقَهُ. قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِنْ الْعَامِّ بِمَعْنَاهُ دُونَ صِيغَتِهِ كَلِمَةُ مَنْ. وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِأُولِي الْعُقُولِ وَتُسْتَعْمَلُ فِي الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ وَالْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ حَتَّى لَوْ قَالَ وَمَنْ دَخَلَ مِنْ مَمَالِيكِي الدَّارَ فَهُوَ حُرٌّ يَتَنَاوَلُ الْعَبِيدَ وَالْإِمَاءَ. وَلَفْظُهَا مُذَكَّرٌ مُوَحَّدٌ وَيُحْمَلُ عَلَى اللَّفْظِ كَثِيرًا وَقَدْ يُحْمَلُ عَلَى الْمَعْنَى أَيْضًا وَهِيَ تُسْتَعْمَلُ فِي الِاسْتِفْهَامِ وَالشَّرْطِ وَالْخَبَرِ. وَتَعُمُّ فِي الْأَوَّلَيْنِ لَا مَحَالَةَ تَقُولُ فِي الِاسْتِفْهَامِ مَنْ فِي هَذِهِ الدَّارِ أَوْ فِي

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} [يونس: 43] وَأَصْلُهَا الْعُمُومُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ» وَقَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ عَبِيدِي الْعِتْقَ فَهُوَ حُرٌّ فَشَاءُوا جَمِيعًا عَتَقُوا فَأَمَّا إذَا قَالَ مَنْ شِئْت مِنْ عَبِيدِي عِتْقَهُ فَأَعْتِقُهُ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لِلْمَأْمُورِ أَنْ يُعْتِقَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مَنْ عَامَّةٌ وَكَلِمَةُ مِنْ لِتَمْيِيزِ عَبِيدِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج: 30] وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُعْتِقُهُمْ إلَّا وَاحِدًا مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى جَمَعَ بَيْنَ كَلِمَةِ الْعُمُومِ وَالتَّبْعِيضِ فَصَارَ الْأَمْرُ مُتَنَاوِلًا بَعْضًا عَامًّا وَإِذَا قَصَّرَ عَنْ الْكُلِّ بِوَاحِدٍ كَانَ عَمَلًا بِهِمَا وَهَذَا حَقِيقَةُ التَّبْعِيضِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَمَنْ شَاءَ مِنْ عَبِيدِي عِتْقَهُ فَهُوَ حُرٌّ ـــــــــــــــــــــــــــــQهَذِهِ الْقَرْيَةِ فَقَالَ زَيْدٌ وَبَكْرٌ وَخَالِدٌ وَيَعُدُّ مَنْ فِيهَا إلَى أَنْ يَأْتِيَ عَلَى آخِرِهِمْ وَيَقُولُ فِي الشَّرْطِ مَنْ زَارَنِي فَلَهُ دِرْهَمٌ فَكُلُّ مَنْ زَارَهُ اسْتَحَقَّ الْعَطَاءَ. وَأَمَّا فِي الْخَبَرِ فَقَدْ تَكُونُ عَامَّةً وَقَدْ تَكُونُ خَاصَّةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} [الأنبياء: 82] وَتَقُولُ زَارَنِي مَنْ اشْتَقْت إلَيْهِ وَزُرْت مَنْ أَكْرَمَنِي وَتُرِيدُ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَهِيَ تَحْتَمِلُ الْعُمُومَ أَيْ فِي الشَّرْطِ وَالِاسْتِفْهَامِ وَبَعْضُ مَحَالِّ الْخَبَرِ. وَالْخُصُوصُ أَيْ فِي بَعْضِ مَوَاضِعِ الْخَبَرِ لَكِنَّهَا فِي الشَّرْطِ وَالِاسْتِفْهَامِ تَعُمُّ عُمُومَ الِانْفِرَادِ وَفِي الْخَبَرِ تَعُمُّ عُمُومَ الِاشْتِمَالِ حَتَّى لَوْ قَالَ مَنْ زَارَنِي فَأُعْطِهِ دِرْهَمًا يَسْتَحِقُّ كُلُّ مَنْ زَارَهُ الْعَطِيَّةَ وَلَوْ قَالَ أُعْطِ مَنْ فِي هَذِهِ الدَّارِ دِرْهَمًا اسْتَحَقَّ الْكُلُّ دِرْهَمًا وَإِنَّمَا يَتَعَمَّمُ عُمُومُ الِانْفِرَادِ فِي الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الشَّرْطِ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إلَى تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِكُلِّ وَاحِدٍ لَوْ قَالَ إنْ فَعَلَ فُلَانٌ فَلَهُ كَذَا وَإِنْ فَعَلَ فُلَانٌ فَلَهُ كَذَا حَتَّى أَحْصَوْا الْكُلَّ لَطَالَ الْكَلَامُ وَلَوَقَعُوا فِي الْحَرَجِ وَرُبَّمَا لَا يُمْكِنُهُمْ ذَلِكَ فَأُقِيمَ كَلِمَةُ مَنْ مُقَامَ ذَلِكَ فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِانْفِرَادِهِ. وَكَذَلِكَ فِي الِاسْتِفْهَامِ إذَا قِيلَ أَزَيْدٌ فِي الدَّارِ أَمْ عُمَرُ وَأَمْ مُحَمَّدٌ أَمْ أَحْمَدُ يَطُولُ الْأَمْرُ فَأُقِيمَ كَلِمَةُ مَنْ مُقَامَ ذَلِكَ فَتَعُمُّ عُمُومَ الِانْفِرَادِ. قَوْلُهُ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] نَظِيرُ الْعُمُومِ قَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} [يونس: 43] . نَظِيرُ الْخُصُوصِ وَهُوَ بِظَاهِرِهِ يَصْلُحُ نَظِيرًا لِلْخُصُوصِ لِإِفْرَادِ صِلَتِهِ وَهِيَ يَنْظُرُ إلَّا أَنَّ أَهْلَ التَّفْسِيرِ قَالُوا الْمُرَادُ مِنْهُ الْعُمُومُ أَيْضًا كَمَا فِي الْأَوَّلِ لَكِنْ أَفْرَدَ صِلَتَهُ فِي الثَّانِي وَجَمَعَ فِي الْأَوَّلِ نَظَرًا إلَى اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى. {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112] . وَقَالُوا مَعْنَاهُمَا وَمِنْهُمْ نَاسٌ يَسْتَمِعُونَ إلَيْك إذَا قَرَأْت الْقُرْآنَ وَعَلِمْت الشَّرَائِعَ وَلَكِنْ لَا يَعُونَ وَلَا يَقْبَلُونَ وَمِنْهُمْ نَاسٌ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ وَيُعَايِنُونَ أَدِلَّةَ الصِّدْقِ وَأَعْلَامَ النُّبُوَّةِ وَلَكِنَّهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ قَوْلَهُ. (وَأَصْلُهَا الْعُمُومُ) أَيْ تُسْتَعْمَلُ فِي الْعُمُومِ أَكْثَرَ مِمَّا تُسْتَعْمَلُ فِي الْخُصُوصِ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَهَا الْأَصْلِيَّ الْعُمُومُ. قَوْلُهُ (مَنْ شِئْت مِنْ عَبِيدِي) إذَا قَالَ مَنْ شِئْت مِنْ عَبِيدِي عِتْقَهُ فَأَعْتِقْهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ أَنْ يُعْتِقَهُمْ إلَّا وَاحِدًا مِنْهُمْ فَإِنْ أَعْتَقَهُمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ عَتَقُوا إلَّا الْآخِرَ وَإِنْ أَعْتَقَهُمْ جُمْلَةً عَتَقُوا إلَّا وَاحِدًا مِنْهُمْ وَالْخِيَارُ فِيهِ إلَى الْمَوْلَى وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَهُ أَنْ يُعْتِقَهُمْ جَمِيعًا. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ كَلِمَةَ مَنْ عَامَّةٌ لِلَّذِي يَعْقِلُ وَحَرْفُ مِنْ كَمَا يَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ يَكُونُ لِلْجُمْلَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى. {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [نوح: 4] ، {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون: 91] . وَيَكُونُ لِتَمْيِيزِ الْجِنْسِ أَيْ لِلْبَيَانِ يُقَالُ سَيْفٌ مِنْ حَدِيدٍ وَخَاتَمٌ مِنْ فِضَّةٍ وَقَالَ تَعَالَى. {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج: 30] . وَهَهُنَا الْمُرَادُ بِحَرْفِ مِنْ تَمْيِيزُ عَبِيدِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ مَنْ شِئْت وَلَمْ يَقُلْ مِنْ عَبِيدِي كَانَ كَلَامًا مُخْتَلًّا فَقَالَ مِنْ عَبِيدِي لِيُمَيِّزَ مَمَالِيكَهُ عَنْ مَمَالِيكِ غَيْرِهِ فِي إيجَابِ الْعِتْقِ فَيَتَنَاوَلُهُمْ جَمِيعًا كَمَا فِي قَوْلِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ عَبِيدِي عِتْقَهُ فَهُوَ حُرٌّ وَصَارَ كَمَا إذَا خَالَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى مَا فِي يَدِهَا مِنْ الدَّرَاهِمِ كَانَ الْخُلْعُ وَاقِعًا عَلَى جَمِيعِ مَا فِي يَدِهَا مِنْ الدَّرَاهِمِ وَلَمْ يَعْمَلْ مِنْ فِي التَّبْعِيضِ لِمَا عَلِمْت فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ. وَقَدْ يَكُونُ الْمَشِيئَةُ مُضَافَةً إلَى خَاصٍّ، وَالْمُرَادُ التَّعْمِيمُ قَالَ تَعَالَى. {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62] . {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب: 51] . وَالْمُرَادُ الْجَمِيعُ وَالرَّجُلُ تَقُولُ لِغَيْرِهِ خُذْ مِنْ مَالِي

يَتَنَاوَلُ الْبَعْضَ إلَّا أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ فَسَقَطَ بِهَا الْخُصُوصُ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا شِئْت. كُلْ مِنْ طَعَامِي مَا شِئْت وَيُوجِبُ إبَاحَةَ الْكُلِّ فَهَذَا كَذَلِكَ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ جَمَعَ بَيْنَ كَلِمَةِ الْعُمُومِ وَالتَّبْعِيضِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَتِهِمَا إذْ الْكَلَامُ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ مَا أَمْكَنَ لَكِنَّ الْعُمُومَ هُوَ الْأَصْلُ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْفِعْلَ إلَيْهِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِالْعُمُومِ إلَّا بِقَدْرِ مَا يَقَعُ بِهِ الْعَمَلُ بِالتَّبْعِيضِ وَذَلِكَ أَنْ تَنْقُصَ عَنْ الْكُلِّ وَاحِدٌ لِيَصِيرَ عَامًّا بِتَنَاوُلِهِ الْأَكْثَرَ وَيَثْبُتُ الْعَمَلُ بِالتَّبْعِيضِ؛ لِأَنَّ التِّسْعَةَ مِنْ الْعَشَرَةِ بَعْضُهَا وَقَدْ أُدْخِلَتْ كَلِمَةُ التَّبْعِيضِ فِي الْعَبِيدِ دُونَ غَيْرِهِ فَوَجَبَ أَنْ تَعْمَلَ فِي التَّبْعِيضِ فِيهِ لَا فِي غَيْرِهِ. فَصَارَ حَقِيقَةُ ذَلِكَ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ وَهَذَا حَقِيقَةُ التَّبْعِيضِ. وَإِنَّمَا حُمِلَتْ عَلَى التَّمْيِيزِ وَالْبَيَانِ فِي قَوْلِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ عَبِيدِي؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَكَّدَ الْعُمُومَ بِإِضَافَةِ الْمَشِيئَةِ إلَى عَامٍّ صَارَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ التَّبْعِيضَ فَحُمِلَتْ عَلَى التَّمْيِيزِ وَهَهُنَا أُضِيفَتْ إلَى خَاصٍّ وَهُوَ الْمُخَاطَبُ فَلَا يَدُلُّ عَلَى تَأَكُّدِ الْعُمُومِ فَلَا يُتْرَكُ التَّبْعِيضُ. وَكَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى. {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج: 30] . قَدْ قَامَ دَلِيلُ الْعُمُومِ وَهُوَ أَنَّ الرِّجْسَ وَاجِبُ الِاجْتِنَابِ عَقْلًا فَلَا يُمْكِنُ الْحَمْلُ عَلَى التَّبْعِيضِ. وَقَدْ اقْتَرَنَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى. {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62] . وَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ. {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب: 51] . دَلِيلُ الْعُمُومِ أَيْضًا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ} [النور: 62] . وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ. {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} [الأحزاب: 51] . وَكَذَلِكَ تَرْكُ التَّبْعِيضِ فِي قَوْلِهِ خُذْ مِنْ مَالِي مَا شِئْت وَكُلْ مِنْ طَعَامِي مَا شِئْت بِدَلَالَةِ الْحَالِ؛ لِأَنَّ مَنْ جَادَ بِطَعَامِهِ أَوْ مَالِهِ لَمْ يُظَنَّ بِهِ أَنْ يَضِنَّ بِاللُّقْمَةِ أَوْ الدَّرَاهِمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعَتَاقُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْمَحُ بِبَعْضِهِ وَيَضِنُّ بِبَعْضِهِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ الْقَوْلُ بِالْأَمْرَيْنِ كَذَا فِي جَامِعَيْ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَالْمُصَنِّفِ. قَوْلُهُ (يَتَنَاوَلُ الْبَعْضَ) أَيْ كَلِمَةُ مَنْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَتَنَاوَلُ الْبَعْضَ أَيْضًا لِدُخُولِ حَرْفِ التَّبْعِيضِ فِي الْعَبِيدِ كَمَا فِي الْمُتَنَازِعِ إلَّا أَنَّ الْبَعْضَ الدَّاخِلَ تَحْتَ الشَّرْطِ نَكِرَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ مَا دَخَلَتْ تَحْتَ الشَّرْطِ وَقَدْ وُصِفَتْ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ وَهِيَ الْمَشِيئَةُ؛ لِأَنَّ فِي الصِّلَةِ مَعْنَى الصِّفَةِ؛ لِأَنَّهَا مَعَ الْمَوْصُولِ فِي حُكْمِ اسْمٍ مَوْصُوفٍ أَلَا تَرَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ» . الشَّخْصُ الدَّاخِلُ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ آمِنٌ فَتَعُمُّ ضَرُورَةَ عُمُومِ الصِّفَةِ. وَسَقَطَ بِهَا أَيْ بِسَبَبِ هَذِهِ الصِّفَةِ الْخُصُوصُ أَيْ التَّبْعِيضُ فَأَمَّا الْبَعْضُ فِي الْمُتَنَازِعِ فَلَمْ يُوصَفْ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ إذْ الْمَشِيئَةُ فِيهِ أُسْنِدَتْ إلَى الْمُخَاطَبِ فَيَبْقَى مَعْنَى الْخُصُوصِ مُعْتَبَرًا فِيهِ مَعَ صِفَةِ الْعُمُومِ فَيَتَنَاوَلُ بَعْضًا عَامًّا. وَنَظِيرُهُ لَوْ قِيلَ مَنْ سَرَقَ مِنْ النَّاسِ فَأَقْطَعُهُ يُفْهِمُ وُجُوبَ الْقَطْعِ لِلسُّرَّاقِ كُلِّهِمْ وَلَوْ قِيلَ اقْطَعْ مِنْ السُّرَّاقِ مَنْ شِئْت لَمْ يُوجِبْ اللَّفْظُ اسْتِيعَابَ الْجَمِيعِ بِالْقَطْعِ. وَلَا يُقَالُ إنَّ الْمَفْعُولِيَّةَ صِفَةٌ كَالْفَاعِلِيَّةِ، وَلِهَذَا يُوصَفُ بِهَا فَيُقَالُ عَمْرٌو مَضْرُوبٌ كَمَا يُقَالُ زَيْدٌ ضَارِبٌ وَشَيْءٌ مَعْلُومٌ كَمَا يُقَالُ رَجُلٌ عَالِمٌ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ قَدْ صَارَتْ مَوْصُوفَةً بِالْمَفْعُولِيَّةِ أَيْ بِالْمَشِيئِيَّةِ كَمَا أَنَّ الْأُولَى صَارَتْ مَوْصُوفَةً بِالْفَاعِلِيَّةِ فَلِتَتَعَمَّمَ بِعُمُومِ هَذِهِ الصِّفَةِ أَيْضًا. لِأَنَّا نَقُولُ حَقِيقَةُ الصِّفَةِ مَعْنًى يَقُومُ بِالْمَوْصُوفِ وَذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي تُسَمِّيهِ وَصْفًا إنَّمَا تَقُومُ بِالْفَاعِلِ إلَّا بِالْمَفْعُولِ إذْ الضَّرْبُ قَائِمٌ بِالضَّارِبِ وَالْعِلْمُ قَائِمٌ بِالْعَالِمِ لَا بِالْمَضْرُوبِ وَالْمَعْلُومِ وَإِنَّمَا لِلْمَفْعُولِ تَعَلُّقٌ بِذَلِكَ الْمَعْنَى بِاعْتِبَارِ التَّأَثُّرِ فَلَا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي الْعُمُومِ. قَالَ شَمْسُ الْإِسْلَامِ الْأُوزْجَنْدِيّ فِي جَوَابِ هَذَا

[كلمة كل]

وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ تَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ؛ لِأَنَّهَا وُضِعَتْ مُبْهَمَةً فِي ذَوَاتِ مَنْ يَعْقِلُ مِثَالُهُ مَا قَالَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ هَذَا الْحِصْنَ أَوَّلًا فَلَهُ مِنْ النَّفْلِ كَذَا فَدَخَلَ وَاحِدٌ فَلَهُ النَّفَلُ وَإِنْ دَخَلَ اثْنَانِ مَعًا فَصَاعِدًا بَطَلَ النَّفَلُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْمٌ لِلْفَرْدِ السَّابِقِ فَلَمَّا قَرَنَهُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْخُصُوصِ فَتَعَيَّنَ بِهِ احْتِمَالُ الْخُصُوصِ وَسَقَطَ الْعُمُومُ فَلَمْ يَجِبْ النَّفَلُ إلَّا لِوَاحِدٍ مُتَقَدِّمٍ وَلَمْ يُوجَدْ. وَقِسْمٌ آخَرُ وَهِيَ كَلِمَةُ كُلٍّ وَهِيَ لِلْإِحَاطَةِ عَلَى سَبِيلِ الْأَفْرَادِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] وَمَعْنَى الْأَفْرَادِ أَنْ يُعْتَبَرَ كُلُّ مُسَمًّى مُنْفَرِدًا لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ وَهَذَا مَعْنًى ثَبَتَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ لُغَةً فِيمَا أُضِيفَتْ إلَيْهِ كَأَنَّهَا صِلَةٌ حَتَّى لَمْ تُسْتَعْمَلْ مُفْرَدَةً ـــــــــــــــــــــــــــــQالسُّؤَالِ أَنَّ الْوَصْفَ لِلتَّعْرِيفِ وَالتَّعْرِيفُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْمَذْكُورِ وَمَعْنَى الْمَفْعُولِيَّةِ لَيْسَتْ بِمَذْكُورٍ وَلَوْ صَارَ مَذْكُورًا إنَّمَا يَصِيرُ مَذْكُورًا بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ فَلَا يَحْصُلُ بِهِ التَّعْمِيمُ. عَلَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا وُصِفَتْ بِالْمَفْعُولِيَّةِ بَلْ الْمَوْصُوفُ بِهَا الْعِتْقُ فِي قَوْلِهِ عِتْقَهُ فَلَا يَرِدُ هَذَا السُّؤَالُ. قَوْلُهُ (وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ) لَمَّا بَيَّنَ عُمُومَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ احْتِمَالِ خُصُوصِهَا فَقَالَ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ أَيْ كَلِمَةُ مَنْ تَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ؛ لِأَنَّهَا وُضِعَتْ مُبْهَمَةً فِي ذَوَاتِ مَنْ يَعْقِلُ فَيَقَعُ لِإِبْهَامِهَا عَلَى الْفَرْدِ وَالْجَمْعِ كَمَا أَنَّ النَّكِرَةَ تَصْلُحُ لِإِبْهَامِهَا أَنْ تَقَعَ عَلَى كُلِّ شَخْصٍ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ. مَعْنَى الْإِبْهَامِ فِيهَا أَنَّهَا تُذْكَرُ مَرَّةً لِلْعُمُومِ وَأُخْرَى لِلْخُصُوصِ وَلَيْسَتْ لِلْعُمُومِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ كَرِجَالٍ وَنِسَاءٍ وَلَا لِلْخُصُوصِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو فَصَارَتْ مُبْهَمَةً كَذَا ذَكَرَ فِي الشُّرُوحِ وَهُوَ ضَعِيفٌ. بَلْ مَعْنَى الْإِبْهَامِ فِيهَا وَفِي أَمْثَالِهَا أَنَّهَا تَقَعُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ وَشَيْءٍ لَا عَلَى مُعَيَّنٍ وَأَنَّهَا لَا تُفْهَمُ بِذَوَاتِهَا وَإِنَّمَا تُفْهَمُ بِصِلَاتِهَا الدَّاخِلَةِ عَلَيْهَا فَيَصِيرُ مَعَ صِلَتِهَا كَكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ. وَهِيَ وُضِعَتْ لِذَوَاتِ مَنْ يَعْقِلُ لَا غَيْرُ عَلَيْهِ إجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ حَتَّى لَوْ قِيلَ مَنْ فِي الدَّارِ فَجَوَابُهُ زَيْدٌ أَبُو بَكْرٍ أَوْ خَالِدٌ وَلَوْ قِيلَ فَرَسٌ أَوْ شَاةٌ كَانَ مُخْطِئًا فِي الْجَوَابِ. مِثَالُهُ احْتِمَالُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ الْخُصُوصَ. الْأَوَّلُ اسْمٌ لِفَرْدٍ سَابِقٍ لَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ مِنْ جِنْسِهِ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَكَلِمَةُ مَنْ تَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ كَمَا بَيَّنَّا وَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا الْعُمُومَ فَلَمَّا جَمَعَهَا فِي كَلَامِهِ حُمِلَ الْمُحْتَمَلُ عَلَى الصَّرِيحِ فَسَقَطَ الْعُمُومُ عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِهِ فَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ النَّفَلَ إلَّا وَاحِدٌ دَخَلَ سَابِقًا عَلَى الْجَمَاعَةِ فَإِذَا دَخَلَهُ اثْنَانِ سَقَطَ النَّفَلُ لِفَوَاتِ الْوَحْدَةِ وَكَذَا إذَا دَخَلَ بَعْدَهُ وَاحِدٌ لِفَوَاتِ السَّبَقِ. [كَلِمَةُ كُلٍّ] قَوْلُهُ (وَقِسْمٌ آخَرُ) أَيْ مِنْ أَقْسَامِ الْعَامِّ بِمَعْنَاهُ دُونَ صِيغَتِهِ كَلِمَةُ كُلٍّ. وَكَأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْإِكْلِيلِ الَّذِي هُوَ مُحِيطٌ بِجَوَانِب الرَّأْسِ فَلِذَلِكَ يُوجِبُ الْإِحَاطَةَ وَلَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الْإِفْرَادِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ فَإِذَا قَالَ لِرَجُلَيْنِ لَكُمَا عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَلْفُ لَهُمَا وَلَوْ قَالَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ يَلْزَمُ عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ. وَهِيَ مِنْ الْأَسْمَاءِ اللَّازِمَةِ الْإِضَافَةِ، وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُ إلَّا عَلَى الْأَسْمَاءِ إذْ الْإِضَافَةُ مَنْ خَصَائِصِ الِاسْمِ فَإِنْ أُضِيفَتْ إلَى مَعْرِفَةٍ تُوجِبُ إحَاطَةَ الْأَجْزَاءِ وَإِنْ أُضِيفَتْ إلَى نَكِرَةٍ تُوجِبُ إحَاطَةَ الْإِفْرَادِ فَيَصِحُّ قَوْلُ الرَّجُلِ كُلُّ التُّفَّاحِ حَامِضٌ أَيْ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ كَذَلِكَ وَلَا يَصِحُّ كُلُّ تُفَّاحٍ حَامِضٌ لِحَلَاوَةِ بَعْضٍ مِنْهُ. وَإِذَا ضُمِّنَتْ مَعْنَى الشَّرْطِ يُؤْتَى بِفِعْلٍ بَعْدَ الِاسْمِ الْمُضَافِ إلَيْهِ كُلُّ صِفَةٍ لَهُ لِيَصْلُحَ لِلشَّرْطِيَّةِ إذْ الِاسْمُ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلشَّرْطِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَرَدِّدًا وَذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ دُونَ الْأَسْمَاءِ. قَوْلُهُ (وَهَذَا مَعْنًى) أَيْ الْإِحَاطَةُ عَلَى سَبِيلِ الْإِفْرَادِ مَعْنًى ثَبَتَ بِكَلِمَةِ كُلٍّ فِيمَا أُضِيفَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ إلَيْهِ. يَعْنِي أَثَرَ عُمُومِهِ يَظْهَرُ فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ فَإِنْ أُضِيفَتْ إلَى مَعْرِفَةٍ يُوجِبُ الْعُمُومَ فِيهَا بِإِحَاطَةِ أَجْزَائِهَا لَا فِي غَيْرِهَا وَإِنْ أُضِيفَتْ إلَى نَكِرَةٍ تُوجِبُ الْعُمُومَ فِيهَا بِإِحَاطَةِ إفْرَادِهَا لَا فِي غَيْرِهَا فَلَوْ قَالَ كُلُّ عَبْدٍ دَخَلَ الدَّارَ فَهُوَ حُرٌّ يَثْبُتُ الْعُمُومُ فِي الْعَبِيدِ دُونَ الْإِمَاءِ وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَعْطِ كُلَّ رَجُلٍ مِنْ هَؤُلَاءِ دِرْهَمًا يُوجِبُ الْعُمُومَ فِيهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ وَكَذَا لَوْ قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ يُوجِبُ الْعُمُومَ فِي الْمَرْأَةِ لَا فِي التَّزَوُّجِ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مَرَّتَيْنِ لَا تَطْلُقُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ.

وَهِيَ تَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ أَيْضًا وَهِيَ مِثْلُ كَلِمَةِ وَمَنْ إلَّا أَنَّهَا عِنْدَ الْعُمُومِ تُخَالِفُهَا فِي إيجَابِ الْأَفْرَادِ فَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى النَّكِرَةِ أَوْجَبَتْ الْعُمُومَ مِثْلُ قَوْلِ الرَّجُلِ كُلُّ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا فَهِيَ طَالِقٌ وَلَا تَصْحَبُ الْأَفْعَالَ إلَّا بِصِلَةٍ فَإِذَا وُصِلَتْ أَوْجَبَتْ عُمُومَ الْأَفْعَالِ مِثْلُ قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كُلَّمَا {نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56] . وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ أَصْحَابِنَا وَبَيَانُ مَا قُلْنَا مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ كَلِمَةِ كُلِّ وَمَنْ فِيمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ هَذَا الْحِصْنَ أَوَّلًا فَلَهُ مِنْ النَّفْلِ كَذَا فَدَخَلَ جَمَاعَةٌ بَطَلَ النَّفَلُ وَلَوْ قَالَ كُلُّ مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ هَذَا الْحِصْنَ إلَّا فَلَهُ كَذَا فَدَخَلَ عَشَرَةٌ مَعًا وَجَبَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ النَّفَلَ كَامِلًا عَلَى حِيَالِهِ لِمَا قُلْنَا إنَّهُ يُوجِبُ الْإِحَاطَةَ عَلَى سَبِيلِ الْأَفْرَادِ فَاعْتُبِرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى حِيَالِهِ وَهُوَ أَوَّلٌ فِي حَقِّ مَنْ تَخَلَّفَ مِنْ النَّاسِ وَفِي كَلِمَةِ مَنْ وَجَبَ اعْتِبَارُ جَمَاعَتِهِمْ وَذَلِكَ يُنَافِي الْأَوَّلِيَّةَ وَلَوْ دَخَلَ الْعَشَرَةُ فُرَادَى فِي مَسْأَلَةٍ كُلٍّ كَانَ النَّفَلُ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَوَّلُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَهِيَ تَحْتَمِلُ (كَشْفَ) الْخُصُوصِ فَسَقَطَ عَنْهَا الْإِحَاطَةُ وَصَارَتْ (ثَانِي) لِلْخُصُوصِ. وَقِسْمٌ آخَرُ كَلِمَةُ الْجَمِيعِ ـــــــــــــــــــــــــــــQثُمَّ ثَبَتَ الْعُمُومُ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ وَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ الْعُمُومِ فِي ذَاتِهِ كَمَا فِي قَوْلِك رِجَالٌ وَنِسَاءٌ وَقَوْمٌ وَرَهْطٌ كَانَ مُشَابِهًا لِلْحَرْفِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ دَلَّ عَلَى مَعْنَى فِي غَيْرِهِ وَلِذَلِكَ لَمْ تَنْفَكَّ هَذِهِ الْكَلِمَةُ عَنْ الْإِضَافَةِ كَمَا أَنَّ الْحَرْفَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ اسْمٍ أَوْ فِعْلٍ يَصْحَبُهُ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ كَأَنَّهَا صِلَةٌ أَيْ حَرْفٌ حَيْثُ لَمْ تُسْتَعْمَلْ مُفْرَدَةً أَيْ بِدُونِ الْمُضَافِ إلَيْهِ أَوْ بَدَلٌ فَلَا يُقَالُ كُلٌّ جَاءُوا وَإِنَّمَا يُقَالُ كُلُّ الْقَوْمِ جَاءُوا أَوْ كُلٌّ جَاءُوا. قَوْلُهُ (وَهِيَ تَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ) مِثْلُ كَلِمَةِ مَنْ حَتَّى لَوْ قِيلَ كُلُّ مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ هَذَا الْحِصْنَ أَوَّلًا فَلَهُ كَذَا فَدَخَلَهُ جَمَاعَةٌ عَلَى الْوَلَاءِ كَانَ النَّفَلُ لِلْأَوَّلِ لَا لِغَيْرِهِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَلَا تَصْحَبُ الْأَفْعَالَ أَيْ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهَا إلَّا بِصِلَةٍ؛ لِأَنَّهَا لَازِمَةُ الْإِضَافَةِ وَهِيَ مِنْ خَصَائِصِ الْأَسْمَاءِ فَلَا تَدْخُلُ عَلَى الْأَفْعَالِ. فَإِذَا وُصِلَتْ أَيْ دَخَلَتْهَا الصِّلَةُ وَهِيَ كَلِمَةُ مَا. أَوْجَبَتْ عُمُومَ الْأَفْعَالِ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ عُمُومَ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ. وَكَلِمَةُ مَا هَذِهِ لِلْجَزَاءِ ضُمَّتْ إلَى كُلٍّ فَصَارَتْ أَدَاةً لِتَكْرَارِ الْفِعْلِ وَنُصِبَ كُلٌّ عَلَى الظَّرْفِ وَالْعَامِلُ فِيهِ الْجَوَابُ كَذَا فِي عَيْنِ الْمَعَانِي وَغَيْرِهِ. وَرَأَيْت فِي كِتَابِ بَيَانِ حَقَائِقِ حُرُوفِ الْمَعَانِي أَنَّ مَا مَعَ الْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ الَّذِي يَقَعُ بَعْدَ كُلٍّ وَكُلُّ مُضَافٍ إلَى ذَلِكَ الِاسْمِ فِي التَّقْدِيرِ فَإِذَا قُلْت كُلَّمَا تَأْتِنِي أُكْرِمُك مَعْنَاهُ كُلُّ إتْيَانٍ يَحْصُلُ مِنْك لِي أُكْرِمُك وَالْمَصْدَرُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْقِعِ يُرَادُ بِهِ وَقْتُ وُقُوعِ الْفِعْلِ تَقُولُ أَقُومُ هَهُنَا مَا دَامَ زَيْدٌ جَالِسًا أَيْ دَوَامُ زَيْدٍ جَالِسًا وَتُرِيدُ بِالدَّوَامِ وَقْتَ الدَّوَامِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا قُلْنَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ كُلَّمَا دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ مَعْنَاهُ وَقْتَ تَدْخُلِينَ فِيهَا فَكُلُّ مُضَافٍ إلَى وَقْتِ الدُّخُولِ وَالْوَقْتُ ظَرْفٌ فَكَانَ كُلُّ ظَرْفًا أَيْضًا؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ أَبَدًا وَالْعَامِلُ فِيهِ الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ الْجَزَاءُ وَهُوَ أُكْرِمُك فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ وَمَا هُوَ فِي مَعْنَى الْفِعْلِ مِثْلُ فَأَنْتِ طَالِقٌ فِي الْمِثَالِ الْآخَرِ. قَوْلُهُ (وقَوْله تَعَالَى {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56] قَالَ الْعَلَّامَةُ إمَامُ الْأَئِمَّةِ مَوْلَانَا حَافِظُ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ بُحْبُوحَةَ جِنَانِهِ، التَّبْدِيلُ تَغْيِيرُ الصِّفَةِ كَمَا يُقَالُ بَدَّلْت الْقَمِيصَ قَبَاءً وَقَالَ تَعَالَى. {تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ} [إبراهيم: 48] . أَيْ تُسَوَّى غِيطَانُهَا بِآكَامِهَا فَلَا يَلْزَمُ تَعْذِيبُ غَيْرِ الْمُجْرِمِ وَالنَّضِيجُ إذَا أُعِيدَ نِيًّا لَا يَكُونُ غَيْرَهُ فَكَانَتْ الْغَيْرِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ رَاجِعَةً إلَى الصِّفَةِ لَا إلَى الذَّاتِ. وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ أَصْحَابِنَا أَيْ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ كُلٍّ تُوجِبُ الْعُمُومَ فِي النَّكِرَاتِ وَكُلَّمَا تُوجِبُهُ فِي الْأَفْعَالِ بُنِيَتْ مَسَائِلُ أَصْحَابِنَا فَإِذَا قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَهِيَ تَعُمُّ الْأَعْيَانَ دُونَ الْأَفْعَالِ فَإِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً مَرَّتَيْنِ لَا يَحْنَثُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ. وَلَوْ قَالَ كُلَّمَا تَزَوَّجْت امْرَأَةً فَكَذَا فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مَرَّتَيْنِ يَحْنَثُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ. وَكَذَا الْحُكْمُ فِي قَوْلِهِ كُلُّ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ وَكُلَّمَا اشْتَرَيْت عَبْدًا فَعَلَيَّ كَذَا فَاشْتَرِي عَبْدًا وَبَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ يَحْنَثُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ فِي الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ. وَفِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ كَثْرَةٌ. قَوْلُهُ (وَبَيَانُ مَا قُلْنَا مِنْ الْفَرْقِ إلَى آخِرِهِ) ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ لِشَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَلَوْ قَالَ كُلُّ مَنْ يَدْخُلُ مِنْكُمْ هَذَا الْحِصْنَ أَوَّلًا فَلَهُ رَأْسٌ فَدَخَلَ خَمْسَةٌ مَعًا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَأْسٌ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلٍّ تَجْمَعُ الْأَسْمَاءَ عَلَى أَنْ يَتَنَاوَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الِانْفِرَادِ فَعِنْدَ ذِكْرِهِ يُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّاخِلِينَ كَأَنَّ اللَّفْظَ تَنَاوَلَهُ خَاصَّةً وَكَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَأْسٌ. وَلَوْ دَخَلُوا

[كلمة الجميع]

وَهِيَ عَامَّةٌ مِثْلُ كُلٍّ إلَّا أَنَّهَا تُوجِبُ الِاجْتِمَاعَ دُونَ الِانْفِرَادِ فَصَارَتْ بِهَذَا الْمَعْنَى مُخَالِفَةً لِلْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلِ وَلِذَلِكَ صَارَتْ مُؤَكِّدَةً لِكَلِمَةِ كُلٍّ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ جَمِيعُ مَنْ دَخَلَ هَذَا الْحِصْنَ أَوَّلًا فَلَهُ كَذَا فَدَخَلَ عَشَرَةٌ مِنْهُمْ أَنَّ لَهُمْ نَفْلًا وَاحِدًا بَيْنَهُمْ جَمِيعًا بِالشِّرْكَةِ وَيَصِيرُ النَّفَلُ وَاجِبًا لِأَوَّلِ جَمَاعَةٍ يَدْخُلُ فَإِنْ دَخَلُوا فُرَادَى كَانَ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ يَحْتَمِلُ أَنْ يُسْتَعَارَ بِمَعْنَى الْكُلِّ. وَقِسْمٌ آخَرُ ـــــــــــــــــــــــــــــQمُتَوَاتِرَيْنِ كَانَ لِلْأَوَّلِ النَّفَلُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ كُلَّ الدَّاخِلِ أَوَّلًا هُوَ فَإِنَّ مَنْ دَخَلَ بَعْدَهُ لَيْسَ بِأَوَّلٍ حِينَ سَبَقَهُ غَيْرُهُ بِالدُّخُولِ وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لَمْ يَسْبِقْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَيْرَهُ بِالدُّخُولِ وَعَلَى اعْتِبَارِ إفْرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَمَا هُوَ مُوجِبُ كَلِمَةِ كُلٍّ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوَّلَ دَاخِلٍ. وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ مَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ أَوَّلًا فَلَهُ كَذَا فَإِنَّ هُنَاكَ إذَا دَخَلَ الْخَمْسَةُ مَعًا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مَنْ تُوجِبُ عُمُومَ الْجِنْسِ وَلَا تُوجِبُ إفْرَادَ كُلِّ وَاحِدٍ مَنْ الدَّاخِلِينَ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ وَعَلَى اعْتِبَارِ مَعْنَى الْعُمُومِ لَيْسَ فِيهِمْ أَوَّلُ فَأَمَّا كَلِمَةُ كُلٍّ فَتُوجِبُ تَنَاوُلَ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الِانْفِرَادِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ ثُمَّ كَلِمَةُ كُلٍّ قَدْ تُوجِبُ الْعُمُومَ أَيْضًا وَلَكِنْ لَوْ حَمَلْنَاهَا عَلَى مَعْنَى الْعُمُومِ لَمْ تَبْقَ لَهَا فَائِدَةٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ بِقَوْلِهِ مَنْ دَخَلَ وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَهَا زِيَادَةُ فَائِدَةٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا مَا قُلْنَا وَهُوَ أَنَّهَا تُوجِبُ الْإِحَاطَةَ فِي كُلِّ دَاخِلٍ لَمْ يَسْبِقْهُ غَيْرُهُ عَلَى أَنْ يَتَنَاوَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الِانْفِرَادِ. وَالْحِيَالُ الْحِذَاءُ يُقَالُ قَعَدَ حِيَالَهُ وَبِحِيَالِهِ أَيْ بِإِزَائِهِ وَأَصْلُهُ الْوَاوُ فَمَعْنَى قَوْلِهِ وَجَبَ لِكُلِّ رَجُلٍ النَّفَلُ كَامِلًا عَلَى حِيَالِهِ وَجَبَ النَّفَلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِمُقَابَلَتِهِ وَقَوْلُهُ فَاعْتُبِرَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى حِيَالِهِ أَيْ بِانْفِرَادِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ قَعَدَ بِإِزَاءِ آخَرَ مُتَفَرِّدٌ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ تَابِعٍ لَهُ فَاسْتُعِيرَ لِلِانْفِرَادِ. [كَلِمَةُ الْجَمِيعِ] قَوْلُهُ (وَهِيَ عَامَّةٌ مِثْلُ) كَلِمَةِ كُلٍّ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تُوجِبُ الْإِحَاطَةَ كَهِيَ إلَّا أَنَّهَا تُوجِبُ الْإِحَاطَةَ عَلَى وَجْهِ الِاجْتِمَاعِ وَتِلْكَ تُوجِبُهَا عَلَى وَجْهِ الِانْفِرَادِ. فَصَارَتْ بِهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّهَا تُوجِبُ الْإِحَاطَةَ عَلَى سَبِيلِ الِاجْتِمَاعِ مُخَالِفَةً لِلْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يَعْنِي كَلِمَةَ مَنْ وَكَلِمَةَ كُلٍّ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلٍّ تُوجِبُ الْإِحَاطَةَ عَلَى سَبِيلِ الْإِفْرَادِ كَمَا بَيَّنَّا وَكَلِمَةُ مَنْ تُوجِبُ الِاجْتِمَاعَ وَالْعُمُومَ وَلَا تُوجِبُ الْإِحَاطَةَ قَصْدًا وَكَلِمَةُ الْجَمِيعِ تُخَالِفُهُمَا؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْإِحَاطَةَ بِصِفَةِ الِاجْتِمَاعِ قَصْدًا. وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِكَوْنِهَا مُوجِبَةً لِلْإِحَاطَةِ مِثْلُ كَلِمَةِ كُلٍّ صَارَتْ مُؤَكِّدَةً لِكَلِمَةِ كُلٍّ فَيُقَالُ جَاءَنِي الْقَوْمُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَيْ أَنَّهَا تُوجِبُ الِاجْتِمَاعَ مَا إذَا قَالَ الْإِمَامُ جَمِيعُ مَنْ دَخَلَ هَذَا الْحِصْنَ أَوَّلًا فَلَهُ رَأْسٌ فَدَخَلَهُ عَشَرَةٌ مَعًا فَالنَّفَلُ الْوَاحِدُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ؛ لِأَنَّ مَا لَحِقَ بِكَلِمَةِ مَنْ هَهُنَا يَدُلُّ عَلَى الِاجْتِمَاعِ دُونَ الْإِفْرَادِ فَيَصِيرُ بِاعْتِبَارِهِ جَمِيعُ الدَّاخِلِينَ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ فِي أَنَّهُمْ أَوَّلُ فَلَهُمْ رَأْسٌ وَاحِدٌ وَكَلِمَةُ كُلٍّ تَقْتَضِي الْإِحَاطَةَ عَلَى سَبِيلِ الْإِفْرَادِ فَيُجْعَلُ بِاعْتِبَارِهَا كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّاخِلِينَ تَنَاوَلَهُ الْإِيجَابُ خَاصَّةً كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ. قَوْلُهُ (لِأَنَّ الْجَمِيعَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُسْتَعَارَ بِمَعْنَى الْكُلِّ) مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُوجِبُ الْإِحَاطَةَ وَالْعُمُومَ فَيُعْمَلُ بِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوَاحِدَ يَسْتَحِقُّ النَّفَلَ كَالْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّنْفِيلَ لِلتَّشْجِيعِ وَإِظْهَارِ الْجَلَادَةِ فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ وَبِدَلِيلِ قَوْلِهِ أَوَّلًا فَلَمَّا اسْتَحَقَّهُ الْجَمَاعَةُ بِالدُّخُولِ أَوَّلًا فَالْوَاحِدُ الدَّاخِلُ أَوَّلًا أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْجُرْأَةَ وَالْجَلَادَةَ فِيهِ أَقْوَى. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ لَسْتُ أَطْمَعُ فِي أَنْ تَدْخُلَ أَوَّلًا لَكِنْ إنْ دَخَلْت ثَانِيًا فَلَكَ كَذَا فَدَخَلَ أَوَّلًا يَسْتَحِقُّ النَّفَلَ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّهُ صَنَعَ مَا طَلَبَ الْإِمَامُ مِنْهُ زِيَادَةً فِي إظْهَارِ الْقُوَّةِ وَالْجَلَادَةِ فَإِنَّ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الْإِمَامِ لَسْت أَطْمَعُ فِي أَنْ تَدْخُلَ أَوَّلًا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُرَادَهُ أَنْ شَرَطَ عَلَيْهِ الدُّخُولَ ثَانِيًا وَإِنَّمَا مُرَادُهُ التَّحْرِيضُ عَلَى إظْهَارِ الْجِدِّ فِي الْقِتَالِ وَقَدْ أَتَى بِهِ عَلَى أَقْوَى الْوُجُوهِ فَكَذَلِكَ

[كلمة ما]

كَلِمَةُ مَا وَهِيَ عَامَّةٌ فِي ذَوَاتِ مَا لَا يَعْقِلُ وَصِفَاتُ مَنْ يَعْقِلُ تَقُولُ مَا فِي الدَّارِ جَوَابُهُ شَاةٌ أَوْ فَرَسٌ وَتَقُولُ مَا زَيْدٌ وَجَوَابُهُ عَاقِلٌ أَوْ عَالِمٌ وَقَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ لِأَمَتِهِ إنْ كَانَ مَا فِي بَطْنِكِ غُلَامًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً لَمْ تَعْتِقْ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَا فِي الْبَطْنِ غُلَامًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة: 284] . وَكَذَلِكَ كَلِمَةُ الَّذِي فِي مَسَائِلِ أَصْحَابِنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQهَهُنَا (فَإِنْ قِيلَ) فَهَلَّا جَعَلْت كَلِمَةَ مَنْ بِمَعْنَى كَلِمَةِ كُلٍّ بِطَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ فِيمَا إذَا دَخَلَهُ جَمَاعَةٌ فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَفْلٌ كَمَا فِي كَلِمَةِ كُلٍّ. أَوْ بِمَعْنَى كَلِمَةِ الْجَمِيعِ فَيَكُونُ لِلْكُلِّ نَفْلٌ وَاحِدٌ كَمَا فِي كَلِمَةِ الْجَمِيعِ (قُلْنَا) ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مَنْ لَا تَدُلُّ عَلَى الْإِحَاطَةِ وَلَا عَلَى الِاجْتِمَاعِ وَالِانْفِرَادِ قَصْدًا وَإِنَّمَا ثَبَتَ الْعُمُومُ فِيهَا ضَرُورَةَ إبْهَامِهَا كَعُمُومِ النَّكِرَةِ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُ اشْتِرَاكٌ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْمَعْنَى الْخَاصِّ الْمَوْضُوعِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ الْإِحَاطَةُ بِصِفَةِ الِانْفِرَادِ وَالْإِحَاطَةُ بِصِفَةِ الِاجْتِمَاعِ فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِعَارَةُ (فَإِنْ قِيلَ) فِي هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ إذْ لَوْ دَخَلَ فِيهِ جَمْعٌ اسْتَحَقُّوا نَفْلًا وَاحِدًا عَمَلًا بِحَقِيقَتِهِ وَلَوْ دَخَلَ وَاحِدٌ يَسْتَحِقُّهُ أَيْضًا عَمَلًا بِمَجَازِهِ (قُلْنَا) لَيْسَ الْمُرَادُ كِلَيْهِمَا بَلْ الْمُرَادُ أَحَدُهُمَا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ وَهُوَ الدُّخُولُ أَوَّلًا لَا يُوجَدُ إلَّا فِي وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ فَإِنْ وُجِدَ فِي أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ يُعْمَلُ بِحَقِيقَتِهِ وَإِنْ وُجِدَ فِي وَاحِدٍ يُعْمَلُ بِمَجَازِهِ وَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ الْأَصْلِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا إنْ لَوْ تَصَوَّرَ اجْتِمَاعُهُمَا بِأَنْ دَخَلَ جَمَاعَةٌ أَوَّلًا وَاسْتَحَقُّوا النَّفَلَ وَدَخَلَ وَاحِدٌ أَوَّلًا أَيْضًا وَاسْتَحَقَّ النَّفَلَ وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلَا يَكُونُ فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَهُمَا كَذَا قِيلَ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ عَدَمُ جَوَازِ الْجَمْعِ بِالنَّظَرِ إلَى الْإِرَادَةِ لَا بِالنَّظَرِ إلَى الْوُقُوعِ وَفِي الْإِرَادَةِ الْجَمْعُ مُتَصَوَّرٌ بَلْ مُتَحَقِّقٌ فَلَا يَجُوزُ فَإِنَّ كَلِمَةَ مَنْ يَتَنَاوَلُ كَلِمَةً مَا عَامَّةً وَهِيَ تُسْتَعْمَلُ فِي ذَوَاتِ مَا لَا يَعْقِلُ وَفِي صِفَاتِ مَنْ يَعْقِلُ فَإِذَا قِيلَ مَا فِي الدَّارِ يَسْتَقِيمُ فِي الْجَوَابِ فَرَسٌ أَوْ شَاةٌ أَوْ ثَوْبٌ وَلَا يَسْتَقِيمُ فِي الْجَوَابِ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ كَذَا ذَكَرَ عَامَّةُ الْأُصُولِيِّينَ. [كَلِمَةُ مَا] وَرَأَيْت فِي نُسْخَةٍ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ مَنْ مُخْتَصَّةٌ بِالْعُقَلَاءِ لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي كَلِمَةِ مَا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى مَعْنَى مَنْ يَصْلُحُ لِمَا يَعْقِلُ وَلِمَا لَا يَعْقِلُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّهَا تَخْتَصُّ بِمَا لَا يَعْقِلُ كَاخْتِصَاصِ مَنْ بِمَنْ يَعْقِلُ. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمِفْتَاحِ فِيهِ أَنَّ مَا لِلسُّؤَالِ عَنْ الْجِنْسِ تَقُولُ مَا عِنْدَك بِمَعْنَى أَيُّ أَجْنَاسِ الْأَشْيَاءِ عِنْدَك وَجَوَابُهُ إنْسَانٌ أَوْ فَرَسٌ أَوْ كِتَابٌ أَوْ طَعَامٌ. أَوْ عَنْ الْوَصْفِ تَقُولُ مَا زَيْدٌ وَمَا عَمْرٌو وَجَوَابُهُ الْكَرِيمُ أَوْ الْفَاضِلُ. قَالَ وَلِكَوْنِ مَا لِلسُّؤَالِ عَنْ الْجِنْسِ وَلِلسُّؤَالِ عَنْ الْوَصْفِ وَقَعَ بَيْنَ فِرْعَوْنَ وَبَيْنَ مُوسَى مَا وَقَعَ؛ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا كَانَ جَاهِلًا بِاَللَّهِ مُعْتَقِدًا أَنْ لَا مَوْجُودَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ سِوَى الْأَجْسَامِ اعْتِقَادُ كُلِّ جَاهِلٍ لَا نَظِيرَ لَهُ ثُمَّ سَمِعَ مُوسَى قَالَ {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16] سَأَلَ بِمَا عَنْ الْجِنْسِ سُؤَالَ مِثْلِهِ فَقَالَ {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] كَأَنَّهُ قَالَ أَيُّ أَجْنَاسِ الْأَجْسَامِ وَهُوَ وَلَمَّا كَانَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَالِمًا بِاَللَّهِ أَجَابَ عَنْ الْوَصْفِ تَنْبِيهًا عَلَى النَّظَرِ الْمُؤَدِّي إلَى الْعِلْمِ بِحَقِيقَتِهِ الْمُمْتَازَةِ عَنْ حَقَائِقِ الْمُمْكِنَاتِ فَلَمَّا لَمْ يَتَطَابَقْ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ عِنْدَ فِرْعَوْنَ الْجَاهِلِ عَجِبَ مَنْ حَوْلَهُ مِنْ جَمَاعَةِ الْجَهَلَةِ فَقَالَ لَهُمْ {أَلا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 25] ثُمَّ اسْتَهْزَأَ بِمُوسَى وَجُنْدِهِ فَقَالَ {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27] وَحِينَ لَمْ يَرَهُمْ مُوسَى يَفْطِنُونَ لِمَا نَبَّهَهُمْ عَلَيْهِ فِي الْكَرَّتَيْنِ مِنْ فَسَادِ مَسْأَلَتِهِمْ الْحَمْقَاءِ وَاسْتِمَاعِ جَوَابِهِ الْحَكِيمِ عَلَيْهِمْ غَلَّظَ فِي الثَّالِثَةِ فَقَالَ {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 28] . [كَلِمَةُ الَّذِي] قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ كَلِمَةُ الَّذِي) أَيْ وَمِثْلُ كَلِمَةِ مَا كَلِمَةُ الَّذِي فِي الْعُمُومِ. فِي مَسَائِلِ أَصْحَابِنَا. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْدَ ذِكْرِ مَنْ وَمَا وَنَظِيرُهَا بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ كَلِمَةُ الَّذِي فَإِنَّهَا مُبْهَمَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فِيمَا يَعْقِلُ وَفِيمَا لَا يَعْقِلُ وَفِيهَا مَعْنَى

[القسم الثاني من العام معنى لا صيغة]

وَهَذِهِ فِي احْتِمَالِ الْخُصُوصِ مِثْلُ مَنْ كَلِمَةٌ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ قَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ طَلِّقِي نَفْسَك مِنْ الثَّلَاثِ مَا شِئْت أَنَّ عَلَى قَوْلِهِمَا تُطَلِّقُ نَفْسَهَا ثَلَاثًا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَاحِدَةً أَوْ اثْنَيْنِ لِمَا قُلْنَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَعَارَ كَلِمَةُ مَا بِمَعْنَى مَنْ وَهَذِهِ كَلِمَاتٌ مَوْضُوعَةٌ غَيْرُ مَعْلُولَةٍ. وَقِسْمٌ آخَرُ النَّكِرَةُ إذَا اتَّصَلَ بِهَا دَلِيلُ الْعُمُومِ؛ لِأَنَّ النَّكِرَةَ تَحْتَمِلُ ذَلِكَ إذَا اتَّصَلَ بِهَا دَلِيلُهُ مِثْلُ مَا قُلْنَا فِي كَلِمَةِ كُلٍّ وَدَلَائِلُ عُمُومِهَا ضُرُوبٌ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ النَّكِرَةَ فِي النَّفْيِ تَعُمُّ وَفِي الْإِثْبَاتِ تَخُصُّ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ دَلِيلُ الْعُمُومِ وَذَلِكَ ضَرُورِيٌّ لَا لِمَعْنًى فِي صِيغَةِ الِاسْمِ وَذَلِكَ أَنَّك إذَا قُلْت مَا جَاءَنِي رَجُلٌ فَقَدْ نَفَيْت مَجِيءَ رَجُلٍ وَاحِدٍ نَكِرَةٍ وَمِنْ ضَرُورَةِ نَفْيِهِ نَفْيُ الْجُمْلَةِ لِيَصِحَّ عَدَمُهُ بِخِلَافِ الْإِثْبَاتِ؛ لِأَنَّ مَجِيءَ رَجُلٍ وَاحِدٍ لَا يُوجِبُ مَجِيءَ غَيْرِهِ ضَرُورَةً فَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ دَلَائِلِ الْعُمُومِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعُمُومِ عَلَى نَحْوِ مَا فِي الْكَلِمَتَيْنِ حَتَّى إذَا قَالَ إنْ كَانَ الَّذِي فِي بَطْنِك غُلَامًا كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إنْ كَانَ مَا فِي بَطْنِك غُلَامًا وَكَذَا حُكْمُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ بِمَعْنَى الَّذِي حَتَّى لَوْ قَالَ لِعَبِيدِهِ الضَّارِبُ مِنْكُمْ زَيْدًا حُرٌّ أَوْ قَالَ لِنِسْوَتِهِ الضَّارِبَةُ مِنْكُنَّ زَيْدًا طَالِقٌ فَاَلَّذِي ضَرَبَ مِنْهُمْ يَعْتِقُ وَكَذَا الَّتِي ضَرَبَتْ تَطْلُقُ؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ بِمَعْنَى الَّذِي وَاَلَّتِي مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَذَا فِي كِتَابِ بَيَانِ حَقَائِقِ وَحُرُوفِ الْمَعَانِي. قَوْلُهُ (وَهَذِهِ) أَيْ كَلِمَةُ مَا فِي احْتِمَالِ الْخُصُوصِ مِثْلُ كَلِمَةِ مَنْ؛ لِأَنَّهَا وُضِعَتْ مُبْهَمَةً كَهِيَ فَلِإِبْهَامِهَا تَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ. وَعَلَى هَذَا أَيْ وَعَلَى احْتِمَالِ الْخُصُوصِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَلَى احْتِمَالِ الْعُمُومِ عِنْدَهُمَا تَخْرُجُ الْمَسْأَلَةُ الْمَذْكُورَةُ. فَعَلَى قَوْلِهِمَا تَجْرِي هَذِهِ الْكَلِمَةُ عَلَى عُمُومِهَا وَتُجْعَلُ كَلِمَةُ مَنْ لِتَمْيِيزِ هَذَا الْعَدَدِ مِنْ الْأَعْدَادِ أَيْ أَوْقِعِي مِنْ هَذَا الْعَدَدِ مَا شِئْت لَا مِنْ الْأَعْدَادِ الَّتِي فَوْقَهُ وَيَصِحُّ هَذَا التَّمْيِيزُ وَإِنْ كَانَ مَا فَوْقَهُ مِنْ الْأَعْدَادِ فِي الطَّلَاقِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي اللَّفْظِ فَلَا تَعْتَمِدُ عَلَى وُجُودِهِ شَرْعًا كَمَا فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَلْفًا إلَّا تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ يَقَعُ وَاحِدَةً وَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ نَظَرًا إلَى اللَّفْظِ كَذَا هُنَا. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُجْعَلُ حَرْفُ مَنْ لِلتَّبْعِيضِ كَمَا فِي قَوْلِهِ أُعْتِقُ مِنْ عَبِيدِي مَنْ شِئْت وَكَلِمَةُ مَا يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ وَقَدْ عَارَضَهَا حَرْفُ التَّبْعِيضِ فَتُحْمَلُ عَلَى الْخُصُوصِ وَهُوَ التَّبْعِيضُ ثُمَّ يُعْمَلُ بِالْعُمُومِ فِيهِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ لِيَحْصُلَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ الْكَلِمَتَيْنِ كَمَا فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ. قَوْلُهُ (وَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَعَارَ كَلِمَةُ مَا بِمَعْنَى مَنْ) يَعْنِي مَا بَيَّنَّا مِنْ مَعْنَى الْكَلِمَتَيْنِ بَيَانُ الْحَقِيقَةِ فَأَمَّا كَلِمَةُ مَا فَقَدْ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى كَلِمَةِ مَنْ مَجَازًا كَقَوْلِهِمْ سُبْحَانَ مَا سَبَّحَ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَسُبْحَانَ مَا سَخَّرَكُنَّ لَنَا. وقَوْله تَعَالَى {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5] . أَيْ وَمَنْ بَنَاهَا فِي قَوْلِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ. وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ أُوثِرَتْ كَلِمَةُ مَا عَلَى مَنْ لِإِرَادَةِ مَعْنَى الْوَصْفِيَّةِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ وَالْقَادِرُ الْعَظِيمُ الَّذِي بَنَاهَا. وَقَدْ اُسْتُعْمِلَتْ كَلِمَةُ مَنْ بِمَعْنَى مَا أَيْضًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى. {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور: 45] . وَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ. {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [النحل: 17] . إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ خَصَّ؛ لِأَنَّهُ فِي بَيَانِ كَلِمَةِ مَا وَلِأَنَّ الْأَوَّلَ أَكْثَرُ. وَقَدْ قِيلَ اُخْتِيرَ لَفْظُ مَنْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ. {خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ} [النور: 45] . دَخَلَ فِيهِ الْعُقَلَاءُ وَغَيْرُهُمْ فَحَسُنَ تَغْلِيبُ الْعُقَلَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ وَكَذَا الْخَلْقُ فِعْلُ مَنْ يَعْقِلُ فَنَاسَبَ كَلِمَةَ مَنْ أَوْ مَعْنَاهُ وَمَنْ يَخْلُقُ لَيْسَ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ مِنْ أُولِي الْعِلْمِ فَكَيْفَ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُ. أَوْ الْكَلَامُ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْكُفَّارِ فَلِذَلِكَ قِيلَ مَنْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ دُونَ مَا. قَوْلُهُ (وَهَذِهِ كَلِمَاتٌ مَوْضُوعَةٌ غَيْرُ مَعْلُولَةٍ) الْعَامُّ مَعْنًى لَا صِيغَةً قِسْمَانِ قِسْمٌ ثَبَتَ عُمُومُهُ بِالْوَضْعِ وَقِسْمٌ ثَبَتَ عُمُومُهُ بِعَارِضٍ يَلْحَقُ بِهِ فَقَوْلُهُ وَهَذِهِ كَلِمَاتٌ مَوْضُوعَةٌ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْمَذْكُورَةَ كَقَوْمٍ وَرَهْطٍ وَمَنْ وَمَا وَكُلٍّ وَجَمِيعٍ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي. [الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ الْعَامِّ مَعْنًى لَا صِيغَةً] [النَّكِرَةُ إذَا اتَّصَلَ بِهَا دَلِيلُ الْعُمُومِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْقِسْمِ الثَّانِي فَقَالَ وَقِسْمٌ آخَرُ أَيْ مِنْ الْعَامِّ مَعْنًى لَا صِيغَةً النَّكِرَةُ إذَا اتَّصَلَ بِهَا دَلِيلُ الْعُمُومِ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ الْعُمُومَ كَمَا قُلْنَا فِي كَلِمَةِ كُلٍّ فَإِنَّهَا إذَا دَخَلَتْ عَلَى النَّكِرَةِ أَوْجَبَتْ عُمُومَهَا وَإِنْ كَانَتْ النَّكِرَةُ فِي ذَاتِهَا خَاصَّةً إذْ هِيَ اسْمٌ وُضِعَ لِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْجُمْلَةِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَيْ بَيَانُ عُمُومِهَا عِنْدَ اتِّصَالِ دَلِيلِ الْعُمُومِ بِهَا أَنَّهَا فِي النَّفْيِ تَعُمُّ سَوَاءٌ دَخَلَ حَرْفُ النَّفْيِ عَلَى نَفْسِهَا كَقَوْلِك

[لام التعريف فيما لا يحتمل التعريف بعينه لمعنى العهد]

وَضَرْبٌ آخَرُ إذَا دَخَلَ لَامُ التَّعْرِيفِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْرِيفَ بِعَيْنِهِ لِمَعْنَى الْعَهْدِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا رَجُلَ فِي الدَّارِ أَوْ عَلَى الْفِعْلِ الْوَاقِعِ عَلَيْهَا كَقَوْلِك مَا رَأَيْت رَجُلًا وَفِي الْوَجْهَيْنِ يَثْبُتُ الْعُمُومُ فِيهَا ضَرُورَةً وَاقْتِضَاءً لَا لِمَعْنًى فِي نَفْسِ الصِّيغَةِ إذْ هِيَ لَا يَتَنَاوَلُ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ إلَّا وَاحِدًا. وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَفَى رُؤْيَةَ رَجُلٍ مُنَكَّرٍ فَقَدْ نَفَى رُؤْيَةَ جَمِيعِ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّهُ نَفَى رُؤْيَةَ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي جَمِيعِ الْأَفْرَادِ فَكَانَ مِنْ ضَرُورَتِهِ انْتِفَاءُ رُؤْيَةِ جَمِيعِ الْأَفْرَادِ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ إذْ لَوْ كَانَ رَأَى رَجُلًا وَاحِدًا لَا يَنْتَفِي رُؤْيَةُ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ. وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ لَا تَضْرِبْ الْيَوْمَ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ عُدَّ مُخَالِفًا عِنْدَ الْعُقَلَاءِ أَجْمَعَ بِضَرْبِ وَاحِدٍ وَكَذَا لَوْ قَالَ مَا أَكَلْت الْيَوْمَ شَيْئًا فَمَنْ أَرَادَ تَكْذِيبَهُ قَالَ بَلْ أَكَلْت شَيْئًا وَلَوْ لَمْ يُفِدْ الْأَوَّلُ الْعُمُومَ لَمَا صَحَّ هَذَا التَّكْذِيبَ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ الْجُزْئِيَّ لَا يُنَاقِضُ السَّلْبَ الْجُزْئِيَّ. وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا قَالَتْ {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91] رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَهُمْ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ. {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: 91] . وَلَمْ يُفِدْ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ الْعُمُومَ لَمَّا كَانَ هَذَا رَدًّا لَهُ. وَلِأَنَّ النُّصُوصَ وَالْإِجْمَاعَ تَدُلُّ عَلَى كَلِمَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ كَلِمَةِ تَوْحِيدٍ وَإِنَّمَا صَحَّ ذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَ نَفْيُ النَّكِرَةِ مُوجِبًا لِلْعُمُومِ (فَإِنْ قِيلَ) قَدْ يَصِحُّ الْإِضْرَابُ عَنْهُ بِإِثْبَاتِ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ مَا رَأَيْت رَجُلًا بَلْ رَأَيْت رَجُلَيْنِ أَوْ رِجَالًا كَذَا نُقِلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ وَلَوْ كَانَ مُوجِبًا لِلْعُمُومِ لَمَا صَحَّ كَمَا لَوْ قِيلَ مَا رَأَيْت رَجُلًا بَلْ رَأَيْت رِجَالًا (قُلْنَا) نَحْنُ لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ ذَلِكَ. وَلَئِنْ سَلَّمْنَا فَنَقُولُ بِقَرِينَةِ الْإِضْرَابِ يُفْهِمُ الْمُرَادُ نَفْيَ صِفَةِ الْوَحْدَةِ لَا نَفْيَ نَفْسِ الْحَقِيقَةِ كَمَا لَوْ قَالَ مَا رَأَيْت رَجُلًا كُوفِيًّا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ رُؤْيَةِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الْمَوْصُوفَةِ لَا مُطْلَقِ الْحَقِيقَةِ كَذَا هَذَا. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ النَّكِرَةَ تَعُمُّ فِي مَوْضِعِ الشَّرْطِ كَمَا تَعُمُّ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ يُقَالُ مَنْ يَأْتِنِي بِمَالٍ أُجَازِهِ لَا يَخْتَصُّ هَذَا بِمَالٍ دُونَ مَالٍ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا عَمَّتْ فِي النَّفْيِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُخْتَصَّةً بِمُعَيَّنٍ فِي قَوْلِك رَأَيْت رَجُلًا وَالنَّفْيُ لَا اخْتِصَاصَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ نَقِيضُ الْإِثْبَاتِ فَإِذَا انْضَمَّ النَّفْيُ إلَى التَّنْكِيرِ اقْتَضَى اجْتِمَاعُهُمَا الْعُمُومَ فَكَذَا الشَّرْطُ لَا اخْتِصَاصَ لَهُ بَلْ مُقْتَضَاهُ الْعُمُومُ فَالنَّكِرَةُ الْوَاقِعَةُ فِي مَوْضِعِهِ تَعُمُّ أَيْضًا وَلَمَّا كَانَتْ الْمَعْرِفَةُ خِلَافَ النَّكِرَةِ كَانَ الْفَرْقُ فِي عُمُومِهَا لِلْأَجْزَاءِ وَعَدَمُهُ فِي حَالَتَيْ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ عَلَى عَكْسِ مَا ذَكَرْنَا فِي النَّكِرَةِ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَشْتَرِي هَذَا الْعَبْدَ الْيَوْمَ فَاشْتَرَاهُ إلَّا جُزْءًا مِنْهُ لَا يَحْنَثُ وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأَشْتَرِيَن هَذَا الْعَبْدَ الْيَوْمَ فَاشْتَرَاهُ إلَّا جُزْءًا مِنْهُ يَحْنَثُ. ثُمَّ قِيلَ النَّكِرَةُ فِي الْإِثْبَاتِ أَنَّمَا تَخُصُّ إذَا كَانَتْ اسْمًا غَيْرَ مَصْدَرٍ فَإِنْ كَانَتْ مَصْدَرًا فَهِيَ تَحْتَمِلُ الْعُمُومَ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ. {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان: 14] . وَصَفَ الثُّبُورَ بِالْكَثْرَةِ وَكَذَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا وَنَوَى الثَّلَاثَ يَصِحُّ فَعُلِمَ أَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُنَكَّرَ يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ فِي الْإِثْبَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ رَأَيْت رَجُلًا كَثِيرًا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ. [لَامُ التَّعْرِيفِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْرِيفَ بِعَيْنِهِ لِمَعْنَى الْعَهْدِ] قَوْلُهُ (وَضَرْبٌ آخَرُ) أَيْ مِنْ دَلَائِلِ الْعُمُومِ لَامُ التَّعْرِيفِ. اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْأُصُولِ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي اسْمِ الْجِنْسِ إذَا دَخَلَتْهُ لَامُ التَّعْرِيفِ لَا لِلْعَهْدِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّ ذَلِكَ يُنْبِئُ عَنْ أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ مُرَادٌ وَلَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ بَلْ هُوَ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَسَوِيِّ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ. قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ اللَّامُ إذَا دَخَلَتْ عَلَى الْفَرْدِ أَوْ الْجَمْعِ يَصِيرُ لِلْجِنْسِ إلَّا أَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَالْأَدْنَى بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ أَيْضًا

وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَالْعَصْرِ} [العصر: 1] {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] أَيْ هَذَا الْجِنْسُ وَكَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] ـــــــــــــــــــــــــــــQلَكِنْ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى الْأَدْنَى وَهُوَ الْوَاحِدُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُصَنِّفِ أَيْضًا قَالُوا هَذَا اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُ بِحَقِيقَةِ الْأَدْنَى كَمَا يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ وَكُلُّ فَرْدٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ كُلًّا كَمَا بَيَّنَّا فَلَمَّا سَاوَى الْبَعْضُ الْكُلَّ فِي الدُّخُولِ تَرَجَّحَ الْبَعْضُ بِالتَّيَقُّنِ وَانْصَرَفَ مُطْلَقُ اللَّفْظِ إلَيْهِ وَاحْتَمَلَ الْكُلَّ بِدَلِيلِهِ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُ الْمَاءَ وَلَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَلَا أَشْتَرِي الْعَبِيدَ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَيْمَانَ تَقَعُ عَلَى الْأَدْنَى وَلَا تَنْصَرِفُ إلَى الْكُلِّ إلَّا بِالنِّيَّةِ. قَالُوا وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ تَعَذُّرِ صَرْفِهَا إلَى الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ إذْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ الطَّلَاق تَطْلُقُ وَاحِدَةً وَقَدْ أَمْكَنَ صَرْفُهُ إلَى الْكُلِّ وَلَمْ يَنْصَرِفْ إلَيْهِ بِدُونِ النِّيَّةِ أَيْضًا فَعُلِمَ أَنَّ مُوجِبَهُ تَنَاوَلَ الْأَدْنَى عَلَى احْتِمَالِ الْأَعْلَى. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا وَعَامَّةُ أَهْلِ اللُّغَةِ إلَى أَنَّ مُوجِبَهُ الْعُمُومُ وَالِاسْتِغْرَاقُ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى إجْرَاءِ قَوْله تَعَالَى. {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] . وَقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ. {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] . عَلَى الْعُمُومِ وَاسْتَدَلُّوا بِاسْتِغْرَاقِهِمَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ. وَكَذَلِكَ اسْتَدَلُّوا بِالْجُمُوعِ الْمُعَرَّفَةِ بِاللَّامِ وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَهَا فِيمَا تَقَدَّمَ اسْتِدْلَالًا شَائِعًا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ. وَكَذَا أُرِيدَ مِنْ قَوْله تَعَالَى. {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} [ق: 10] . {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ} [النحل: 8] . {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [يونس: 67] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21] . {وَالْعَصْرِ} [العصر: 1] {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] . كُلُّ الْجِنْسِ لَا فَرْدٌ مَخْصُوصٌ. وَنَصَّ الزَّجَّاجُ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي قَوْله تَعَالَى. {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] . بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ النَّاسُ. وَكَذَا يُقَالُ الْفَرَسُ أَعْدَى مِنْ الْحِمَارِ وَالْأَسَدُ أَقْوَى مِنْ الذِّئْبِ وَيُرَادُ بِهِ كُلُّ الْجِنْسِ إلَّا الْفَرْدَ. وَقَدْ انْعَقَدَ عَلَيْهِ إجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَيْضًا فَإِنَّ بَعْضَهُمْ سَمَّاهَا لَامَ التَّجْنِيسِ وَبَعْضَهُمْ سَمَّاهَا لَامَ الِاسْتِغْرَاقِ حَتَّى قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ بِأَجْمَعِهِمْ إنَّ اللَّامَ فِي قَوْله تَعَالَى. {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2] . لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ فَقَالُوا مَعْنَاهُ جَمِيعُ الْمَحَامِدِ لِلَّهِ تَعَالَى فَكَانَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْأَدْنَى وَلَا يَنْصَرِفُ الْأَعْلَى إلَّا بِدَلِيلٍ مُخَالِفٍ لِلْإِجْمَاعِ. وَلِأَنَّ هَذِهِ اللَّامَ لِلتَّعْرِيفِ لُغَةً وَالتَّعْرِيفُ يُحَصِّلُ تَمْيِيزَ الْمُسَمَّى عَنْ أَغْيَارِهِ وَهُوَ تَارَةً يَكُونُ تَمْيِيزَ الشَّخْصِ عَنْ سَائِرِ الْأَشْخَاصِ الْمُشَارِكَةِ لَهُ فِي الدُّخُولِ تَحْتَ النَّوْعِ وَلَمْ يَحْصُلْ هَذَا التَّعْرِيفُ إلَّا بَعْدَ سَبْقِ عَهْدٍ بِهَذَا الشَّخْصِ ذِكْرًا أَوْ مُشَاهَدَةً. وَتَارَةً يَكُونُ تَمْيِيزَ النَّوْعِ عَنْ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ الْمُسَاوِيَةِ لَهُ فِي دُخُولِهِ تَحْتَ الْجِنْسِ كَمَا يُقَالُ مَا كَانَ مِنْ السِّبَاعِ غَيْرُ مَخُوفٍ فَهَذَا الْأَسَدُ مَخُوفًا فَإِنَّ اسْمَ الْأَسَدِ وَاقِعٌ عَلَى كَمَالِ نَوْعِهِ لَا عَلَى شَخْصٍ مِنْ أَشْخَاصِهِ لِانْعِدَامِ سَبْقِ الْعَهْدِ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّعْرِيفِ أَبْلَغُ مِنْ التَّعْرِيفِ لِلشَّخْصِ لِبَقَاءِ الِاشْتِرَاكِ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ النَّوْعِ فِي التَّسْمِيَةِ فِي تَعْرِيفِ الشَّخْصِ وَانْقِطَاعِ ذَلِكَ فِي النَّوْعِ وَاخْتِصَاصِهِ بِالِاسْمِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ. وَلِهَذَا قَالَ أَهْلُ الْأُصُولِ بِأَجْمَعِهِمْ أَوْ الْمُبْرِزُونَ مِنْهُمْ إنَّ صَرْفَ اللَّفْظِ الْمُمْكِنِ صَرْفُهُ إلَى الْجِنْسِ وَالْمَعْهُودِ إلَى الْجِنْسِ أَوْلَى وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ السَّرَّاجِ مِنْ أَئِمَّةِ النَّحْوِ؛ لِأَنَّ جَعْلَ حَرْفِ التَّعْرِيفِ عَلَامَةً لِمَا كَمُلَ تَعْرِيفُهُ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ عَلَامَةً لِمَا ضَعُفَ فِي بَابِهِ وَوَهِيَ فِي نَفْسِهِ. نُوَضِّحُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ صَرْفُ اللَّامِ إلَى الْجِنْسِ لِيَحْصُلَ التَّعْرِيفُ وَلَنْ يَحْصُلَ التَّعْرِيفُ إلَّا بِالِاسْتِغْرَاقِ وَجَبَ الصَّرْفُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهُ لَا يَتَعَرَّفُ بِهِ فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ جَاءَنِي حَصَلَ الْعِلْمُ لِلسَّامِعِ بِكَوْنِهِ آدَمِيًّا ذَكَرًا جَاوَزَ حَدَّ الصِّغَرِ وَكَذَا إذَا قِيلَ جَاءَنِي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQرِجَالٌ عُرِفَ جِنْسُهُمْ وَنَوْعُهُمْ وَاجْتِمَاعُهُمْ فِي الْمَجِيءِ وَبَقِيَتْ الذَّوَاتُ مَجْهُولَةً فَإِذَا دَخَلَتْ فِيهِ اللَّامُ لَا يَحْصُلُ تَعْرِيفُ الذَّاتِ إلَّا وَأَنْ يُصْرَفَ إلَى كُلِّ الْجِنْسِ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْجِنْسِ مُرَادٌ بِهَذَا اللَّفْظِ فَأَمَّا مَتَى صُرِفَ إلَى مُطْلَقِ الْجِنْسِ فَلَمْ تَصِرْ الذَّوَاتُ مَعْلُومَةً وَمَا وَرَاءَهَا مَعْلُومٌ بِدُونِ اللَّامِ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ إلْغَاءً لِفَائِدَةِ اللَّامِ وَصَارَ وُجُودُهَا كَعَدَمِهَا وَذَلِكَ إبْطَالُ وَضْعِ اللُّغَةِ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَهْدَ إذَا انْعَدَمَ لَا بُدَّ مِنْ الصَّرْفِ إلَى الْجَمِيعِ لِيَحْصُلَ التَّعْرِيفُ. وَقَوْلُهُمْ الْوَاحِدُ كُلُّ الْجِنْسِ مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ عِنْدَ عَدَمِ مَنْ يُزَاحِمُهُ فَعِنْدَ وُجُودِهِ هُوَ الْبَعْضُ حَقِيقَةً فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ كُلًّا لِلْجِنْسِ الَّذِي هُوَ بَعْضٌ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَعْضًا جَازَ أَنْ يَكُونَ كُلًّا. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ فَنَقُولُ إنَّمَا عَدَلْنَا عَنْ الْكُلِّ بِدَلَالَةِ الْحَالِ؛ لِأَنَّ إنْسَانًا إنَّمَا يَمْنَعُ نَفْسَهُ بِالْيَمِينِ عَمَّا يَدْعُوهُ إلَيْهِ نَفْسُهُ وَيُمْكِنُهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ وَتَزَوَّجَ نِسَاءَ الْعَالَمِ وَشِرَاءُ عَبِيدِ الدُّنْيَا وَشُرْبُ مِيَاهِهَا جَمِيعًا غَيْرُ مُمْكِنٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْبَعْضَ هُوَ الْمُرَادُ فَصَرْفَنَا الْيَمِينَ إلَى الْوَاحِدِ لِلتَّيَقُّنِ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَا أَشْرَبُ قَطْرَةً مِنْ الْمَاءِ وَلَا أَتَزَوَّجُ وَاحِدَةً مِنْ النِّسَاءِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْجَامِعِ لَوْ قَالَ إنْ كَلَّمْت بَنِي آدَمَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَكَلَّمَ رَجُلًا وَاحِدًا حَنِثَ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ أَنَّمَا يَقَعُ عَلَى هَذَا ثُمَّ قَالَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُكَلِّمَ بَنِي آدَمَ كُلَّهُمْ فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا فَإِنَّمَا يَقَعُ يَمِينُهُ عَلَى مَنْ كَلَّمَ مِنْهُمْ فَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ أَنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ لِتَعَذُّرِ الْحَمْلِ عَلَى الْكُلِّ. وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ إيقَاعَ جَمِيعِ جِنْسِ الطَّلَاقِ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ أَحَدٍ فَلَا يُمْكِنُهُ إيقَاعُ جَمِيعِ هَذَا الْجِنْسِ فَصَارَ قَائِلًا أَنْتِ طَالِقٌ بَعْضًا مِنْ الطَّلَاقِ أَيْ بَعْضًا مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مِنْ الْفِعْلِ الْمُمْتَازِ عَنْ الْأَفْعَالِ الْأُخَرِ وَذَلِكَ الْبَعْضُ مَجْهُولُ الْقَدْرِ وَالْوَاحِدُ مُتَيَقَّنٌ فَانْصَرَفَ إلَيْهِ كَذَا فِي طَرِيقَةِ الشَّيْخِ أَبِي الْمُعِينِ وَالْمِيزَانِ وَغَيْرِهِمَا (فَإِنْ قِيلَ) لَوْ كَانَ الِاسْمُ الدَّاخِلُ عَلَيْهِ اللَّامُ لِلِاسْتِغْرَاقِ لَصَحَّ نَعْتُهُ بِاسْمِ الْجَمْعِ فَيُقَالُ جَاءَنِي الرَّجُلُ الطِّوَالُ كَمَا يُقَالُ جَاءَنِي الرِّجَالُ الطِّوَالُ (قُلْنَا) يَجُوزُ ذَلِكَ أَيْضًا فَإِنَّهُ يُقَالُ أَهْلَكَ النَّاسُ الدِّينَارَ الصُّفْرَ وَالدِّرْهَمَ الْبِيضَ كَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ إلَّا أَنَّ الْأَحْسَنَ أَنْ يُنْعَتَ بِاللَّفْظِ الْفَرْدِ مُرَاعَاةً لِلصُّورَةِ وَمُحَافَظَةً عَلَى التَّشَاكُلِ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ. وَاعْلَمْ أَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ إنْ كَانَ عَامًّا عِنْدَ الشَّيْخِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَتْنًا وَلَا لِلْكُلِّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مُحْتَمِلًا لِمَا دُونَهُ إلَى الْأَدْنَى كَمَا هُوَ مُوجِبُ سَائِرِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ فَإِنَّهَا يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ وَيَحْمِلُ عَلَى الْأَدْنَى التَّعَذُّرُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَامًّا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْبَعْضِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ عَدُّ لَامِ التَّعْرِيفِ مِنْ دَلَائِلِ الْعُمُومِ. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا وَلَكِنْ مُوجِبُ الْعَامِّ عِنْدَهُ تَنَاوُلُهُ لِلْأَدْنَى عَلَى احْتِمَالِ الْأَعْلَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ أَرْبَابِ الْخُصُوصِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ دَلَالَةُ الْعَامِّ عِنْدَهُ عَلَى مُطْلَقِ الْجَمْعِ لَا عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ وَدَلَالَةُ اسْمِ الْجِنْسِ عَلَى مُطْلَقِ الْجِنْسِ أَيْضًا لَا عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ إلَّا أَنَّ الْعَامَّ عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ لِعَدَمِ الْمُزَاحِمِ مَعَ كَوْنِهِ أَشَدَّ مُنَاسَبَةً لِلْعُمُومِ وَالْجِنْسُ يَقَعُ عَلَى الْأَدْنَى لِوُجُودِ حَقِيقَةِ مَعْنَى الْجِنْسِ فِيهِ مَعَ رِعَايَةِ الْفَرْدِيَّةِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا كَمَا قَرَعَ سَمْعَك غَيْرَ مَرَّةٍ. وَفِي الْجُمْلَةِ

وَمِثَالُهُ قَوْلُ عُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَزَوَّجُ طَالِقٌ وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ لَامَ الْمَعْرِفَةِ لِلْعَهْدِ وَهُوَ أَنْ تَذْكُرَ شَيْئًا ثُمَّ تُعَاوِدَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَعْهُودًا قَالَ اللَّهُ {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا} [المزمل: 15] {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16] أَيْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فَيَكُونُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ وَمِثَالُهُ قَوْلُ عُلَمَائِنَا فِيمَنْ أَقَرَّ بِأَلْفٍ مُقَيَّدًا بِصِلَةٍ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ كَذَلِكَ أَنَّ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ وَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَكِرَةً كَانَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَّا أَنْ يَتَّحِدَ الْمَجْلِسُ فَيَصِيرُ دَلَالَةً عَلَى مَعْنَى الْعَهْدِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يُحْمَلُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ وَإِنْ اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ لِدَلَالَةِ الْعَادَةِ عَلَى مَعْنَى الْعَهْدِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَمْ يَتَّضِحْ لِي حَقِيقَةُ مَعْنَى كَلَامِ الشَّيْخِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا غَرْوَ إذْ هُوَ كَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَعْلَى طَبَقَاتِ أَهْلِ التَّحْقِيقِ. مُتَغَلْغِلًا فِي مَضَايِقِ مَسَالِكِ التَّدْقِيقِ. فَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ الْعُثُورِ عَلَى مَقْصُودِهِ وَمَرَامِهِ وَالْوُقُوفِ عَلَى حَقَائِقِ نُكَتِهِ وَأَسْرَارِ كَلَامِهِ. فَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا قَوْلَ الْجُمْهُورِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ (قَوْلُ عُلَمَائِنَا) أَيْ مِثَالُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّكِرَةَ تَصِيرُ لِلْجِنْسِ بِدُخُولِ اللَّامِ قَوْلُ عُلَمَائِنَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَزَوَّجُ طَالِقٌ وَقَدْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بَعْدَهُ أَنَّهَا تَطْلُقُ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ وَاخْتِصَارٌ كَمَا تَرَى. وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ عُلَمَائِنَا عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّ عِنْدَهُ لَا تَطْلُقُ عَلَى مَا عُرِفَ. وَبَيَانُهُ أَنَّ اللَّامَ فِي قخوله الْمَرْأَةُ لِلْجِنْسِ لَا لِلْعَهْدِ فَيَقَعُ عَلَى الْأَدْنَى وَهِيَ الْوَاحِدَةُ ثُمَّ هِيَ مَجْهُولَةٌ مُنَكَّرَةٌ إذْ اللَّامُ لَيْسَتْ لِتَعْرِيفِهَا وَلَا يَصِحُّ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَى مَجْهُولَةٍ إلَّا أَنَّهَا قَدْ تَتَعَيَّنُ وَيَتَعَرَّفُ بِالْوَصْفِ وَقَدْ وَصَفَ بِالتَّزَوُّجِ فَيَتَعَيَّنُ بِهَذَا الْوَصْفِ فَكَانَ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّعَيُّنُ الَّذِي لَا بُدَّ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ مِنْهُ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ لِتَوَقُّفِ صَيْرُورَتِهَا مَعْلُومَةً عَلَيْهِ وَهُوَ يَصْلُحُ شَرْطًا لِمَا عُرِفَ فِي مَسْأَلَةِ إضَافَةِ الطَّلَاقِ إلَى التَّزَوُّجِ وَهُوَ وَصْفٌ عَامٌّ فَيَتَعَمَّمُ الْحُكْمُ بِهِ وَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ. بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَزَوَّجُ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَهَا حَيْثُ لَا تَطْلُقُ؛ لِأَنَّهُ عَرَّفَهَا بِأَبْلَغِ جِهَاتِ التَّعْرِيفِ فَلَا يَحْصُلُ بِالْوَصْفِ تَعْرِيفٌ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ بَلْ يَكُونُ مُجَرَّدُ وَصْفٍ فَبَقِيَ إيقَاعُهَا لِلْحَالِ فَبَطَلَ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ الْعَبْدُ الَّذِي أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ يَعْتِقُ وَلَوْ قَالَ هَذَا الْعَبْدُ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَا يَعْتِقُ. وَكَذَا لَوْ قَالَ لِنِسَائِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَدْخُلُ مِنْكُنَّ الدَّارَ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ تَطْلُقُ وَلَا تَطْلُقُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَوْ قَالَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ طَالِقٌ طَلُقَتْ لِلْحَالِ دَخَلَتْ أَوْ لَمْ تَدْخُلْ. وَأَصْلُ ذَلِكَ أَيْ أَصْلُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّكِرَةَ بِدُخُولِ اللَّامِ تَصِيرُ لِلْجِنْسِ. وَمِثَالُهُ أَيْ مِثَالُ أَنْ تَذْكُرَ شَيْئًا ثُمَّ تُعَاوِدَهُ. إذَا أَقَرَّ بِأَلْفٍ مُقَيَّدٍ بِصَكٍّ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ كَذَلِكَ أَيْ مُقَيَّدًا بِذَلِكَ الصَّكِّ بِأَنْ أَدَارَ صَكًّا عَلَى الشُّهُودِ وَأَقَرَّ بِمَا فِيهِ عِنْدَ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ كَانَ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا الْأَلْفُ بِالِاتِّفَاقِ. وَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَيْ مِنْ الْإِقْرَارَيْنِ نَكِرَةً أَيْ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِصَكٍّ بِأَنْ أَقَرَّ بِأَلْفٍ مُطْلَقًا بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ ثُمَّ أَقَرَّ بِأَلْفٍ مُطْلَقًا بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ آخَرَيْنِ وَالْمَجْلِسُ وَاحِدٌ كَانَ الثَّانِي عَيْنَ الْأَوَّلِ أَيْضًا بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كَانَ الْمَجْلِسُ مُخْتَلِفًا فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ حَتَّى يَلْزَمَهُ أَلْفَانِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ فِي تَكْرَارِ الْإِقْرَارِ لِتَأْكِيدِ الْحَقِّ بِالزِّيَادَةِ فِي الشُّهُودِ فَيَكُونُ الثَّانِي تَكْرَارًا لِلْأَوَّلِ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ فَلَا يَلْزَمُ الْمَالُ بِالشَّكِّ وَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّ ثَانِيًا بِأَلْفٍ عِنْدَ الْقَاضِي أَوْ أَقَرَّ بِأَلْفٍ وَأَشْهَدَ وَاحِدًا ثُمَّ بِأَلْفٍ وَأَشْهَدَ آخَرَ وَكَرَّرَهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ؛ لِأَنَّهُ إيقَاعٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ تَكْرَارٌ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَلْفٍ مُنَكَّرٌ مَرَّتَيْنِ وَالنَّكِرَةُ إذَا كُرِّرَتْ كَانَتْ الثَّانِيَةُ غَيْرَ الْأُولَى فَصَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَتَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ صَكًّا عَلَى حِدَةٍ وَأَشْهَدَ عَلَى كُلِّ صَكٍّ شَاهِدَيْنِ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَشْهَدَ عَلَى كُلِّ إقْرَارٍ شَاهِدًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ لَا يَصِيرُ الْمَالُ مُسْتَحْكَمًا فَفَائِدَةُ إعَادَتِهِ اسْتِحْكَامُ الْمَالِ بِإِتْمَامِ الْحُجَّةِ. وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ ثَانِيًا بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْإِعَادَةِ إسْقَاطُ مُؤْنَةِ الْإِثْبَاتِ

وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5] لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ وَاحِدٌ يُسْرَيْنَ؛ لِأَنَّ الْعُسْرَ أُعِيدَ مَعْرِفَةً وَالْيُسْرُ أُعِيدَ نَكِرَةً إنْ صَحَّتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ عَنْهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي مَعَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ ادَّعَى ذَلِكَ الْأَلْفَ فَإِعَادَتُهُ تَحْصُلُ مُعَرَّفًا. وَبِخِلَافِ مَا إذَا أَرَادَ الصَّكَّ عَلَى الشُّهُودِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ هُنَاكَ صَارَ مُعَرَّفًا بِالْمَالِ الثَّابِتِ فِي الصَّكِّ وَالْمُنَكَّرِ أَوْ الْمُعَرَّفِ إذَا أُعِيدَ مُعَرَّفًا كَانَ الثَّانِي عَيْنَ الْأَوَّلِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ الْإِقْرَارَانِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فِي الْقِيَاسِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَلْزَمُهُ مَالَانِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ لِلْمَجْلِسِ تَأْثِيرٌ فِي جَمْعِ الْكَلِمَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ وَجَعْلِهَا فِي حُكْمِ كَلَامٍ وَاحِدٍ فَبِاعْتِبَارِهِ يَكُونُ الثَّانِي مُعَرَّفًا مِنْ وَجْهٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَقَارِيرَ بِالزِّنَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ جُعِلَ فِي حُكْمِ إقْرَارٍ وَاحِدٍ بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ فَكَذَلِكَ هَهُنَا. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ أَقَرَّ بِأَلْفٍ فِي مَجْلِسٍ وَأَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ ثُمَّ بِأَلْفَيْنِ وَأَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ أَوْ بِأَلْفَيْنِ ثُمَّ بِأَلْفٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَلْزَمُهُ الْمَالَانِ وَعِنْدَهُمَا يَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ فَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمَالَيْنِ فَقَطْ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. قَوْلُهُ (وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) أَنَّ الْمُنَكَّرَ إذَا كُرِّرَ مُنَكَّرًا كَانَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ. هُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى. {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5] {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 6] لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ. وَكَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ خَرَجَ إلَى أَصْحَابِهِ ذَاتَ يَوْمٍ فَرِحًا مُسْتَبْشِرًا وَهُوَ يَضْحَكُ وَيَقُولُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» . وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ الْعُسْرُ فِي جُحْرٍ لَطَلَبَهُ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْهِ وَلَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» . وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعُسْرَ أُعِيدَ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ فَكَانَ الثَّانِي عَيْنَ الْأَوَّلِ وَالْيُسْرَ أُعِيدَ مُنَكَّرًا فَكَانَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ. وَأَصْلُهُ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ إذَا أُعِيدَتْ مُعَرَّفَةً أَوْ نَكِرَةً أَوْ النَّكِرَةَ إذَا أُعِيدَتْ مُعَرَّفَةً كَانَتْ الثَّانِيَةُ عَيْنَ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ مُسْتَغْرِقَةٌ لِلْجِنْسِ وَالنَّكِرَةَ مُتَنَاوِلَةٌ لِبَعْضِ الْجِنْسِ فَيَكُونُ دَاخِلًا فِي الْكُلِّ لَا مَحَالَةَ مُقَدَّمًا كَانَ أَوْ مُؤَخَّرًا وَالنَّكِرَةُ إذَا أُعِيدَتْ نَكِرَةً كَانَتْ الثَّانِيَةُ غَيْرَ الْأُولَى؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُتَنَاوِلَةٌ لِلْبَعْضِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الثَّانِيَةُ عَيْنَ الْأُولَى وَلِأَنَّ الثَّانِيَةَ لَوْ انْصَرَفَتْ إلَى الْأُولَى لَتَعَيَّنَتْ ضَرْبَ تَعَيُّنٍ بِأَنْ لَا يُشَارِكَهَا غَيْرُهَا فِيهِ فَلَا يَبْقَى نَكِرَةً وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ. مِثَالُ الْأَوَّلِ الْعُسْرُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ. وَمِثَالُ الثَّانِي قَوْلُ الشَّاعِرِ: صَفَحْنَا عَنْ بَنِي ذُهَلٍ وَقُلْنَا الْقَوْمُ أَخَوَانِ ... عَسَى الْأَيَّامُ أَنْ يُرْجِعْنَ يَوْمًا كَاَلَّذِي كَانُوا وَمِثَالُ الثَّالِثِ قَوْله تَعَالَى {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا} [المزمل: 15] {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16] . وَمِثَالُ الرُّجُوعِ الْيُسْرُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَخْرُجُ قَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ وَثُلُثَ تَطْلِيقَةٍ وَسُدُسَ تَطْلِيقَةٍ فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ كُلَّ جُزْءٍ إلَى تَطْلِيقَةٍ نَكِرَةٍ فَكَانَتْ غَيْرَ الْأُولَى فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ وَثُلُثَ تَطْلِيقَةٍ أُخْرَى وَسُدُسَ تَطْلِيقَةٍ أُخْرَى. وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ وَثُلُثَهَا وَسُدُسَهَا يَقَعُ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا أُعِيدَتْ مُعَرَّفَةً فَكَانَتْ عَيْنَ الْأُولَى فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ وَثُلُثَ تِلْكَ التَّطْلِيقَةِ وَسُدُسَ تِلْكَ التَّطْلِيقَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ جَاءَنِي الْيَوْمَ نِسَاءٌ حِسَانٌ أَوْ رَأَيْت الْيَوْمَ نِسَاءً حِسَانًا أَوْ عَبِيدًا حِسَانًا ثُمَّ قَالَ إنْ تَزَوَّجْت نِسَاءً فَكَذَا أَوْ قَالَ إنْ اشْتَرَيْت عَبِيدًا فَكَذَا فَتَزَوَّجَ ثُلُثًا مِنْ غَيْرِهِنَّ أَوْ اشْتَرَى ثُلُثَهُ مِنْ غَيْرِهِمْ يَحْنَثُ. وَلَوْ قَالَ إنْ تَزَوَّجْت النِّسَاءَ أَوْ اشْتَرَيْت

وَفِيهِ نَظَرٌ عِنْدَنَا بَلْ هَذَا تَكْرِيرٌ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى - ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة: 34 - 35] ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعَبِيدَ فَتَزَوَّجَ غَيْرَهُنَّ أَوْ اشْتَرَطَ غَيْرَهُمْ لَا يَحْنَثُ كَذَا فِي كِتَابِ بَيَانِ تَحْقِيقِ حُرُوفِ الْمَعَانِي ثُمَّ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5] إنَّمَا أُدْخِلَتْ الْفَاءُ فِي الْأَوَّلِ جَوَابًا لِتَعْيِيرِ الْمُشْرِكِينَ إيَّاهُ بِالْفَقْرِ دُونَ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ وَعْدٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْمُومِنِينَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِئْنَافِ. قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأُولَى عِدَةً بِأَنَّ الْعُسْرَ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ مَرْدُودٌ بِيُسْرٍ لَا مَحَالَةَ وَالثَّانِيَةُ عِدَةٌ بِأَنَّ الْعُسْرَ مَتْبُوعٌ بِيُسْرٍ فَهُمَا يُسْرَانِ عَلَى تَقْدِيرِ الِاسْتِئْنَافِ وَإِنَّمَا كَانَ الْعُسْرُ وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفُهُ لِلْعَهْدِ وَهُوَ الْعُسْرُ الَّذِي كَانُوا فِيهِ فَهُوَ هُوَ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ زَيْدٍ فِي قَوْلِك إنَّ مَعَ زَيْدٍ مَالًا إنَّ مَعَ زَيْدٍ مَالًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْجِنْسِ الَّذِي يَعْلَمُهُ كُلُّ وَاحِدٍ فَهُوَ هُوَ أَيْضًا وَإِمَّا الْيُسْرُ فَمُنَكَّرٌ مُتَنَاوِلٌ لِبَعْضِ الْجِنْسِ فَإِذَا كَانَ الْكَلَامُ الثَّانِي مُسْتَأْنَفًا غَيْرَ مُكَرَّرٍ فَقَدْ تَنَاوَلَ بَعْضًا غَيْرَ الْبَعْضِ الْأَوَّلِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْيُسْرَيْنِ مَا تَيَسَّرَ لَهُمْ مِنْ الْفُتُوحِ فِي أَيَّامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا تَيَسَّرَ لَهُمْ فِي أَيَّامِ الْخُلَفَاءِ. وَأَنْ يُرَادَ يُسْرُ الدُّنْيَا وَيُسْرُ الْآخِرَةِ. وَالتَّنْكِيرُ فِي " يُسْرًا " لِلتَّفْخِيمِ كَأَنَّهُ قِيلَ إنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا عَظِيمًا وَأَيُّ يُسْرٍ. وَعَنْ الْعُتْبِيِّ أَوْ الْقُتَبِيِّ قَالَ كُنْت يَوْمًا مَغْمُومًا بِالْبَادِيَةِ فَأُلْقِيَ فِي رَوْعِي قَوْلُ مَنْ قَالَ: أَرَى الْمَوْتَ لِمَنْ أَصْبَحَ مَغْمُومًا لَهُ رُوحٌ فَسَمِعْت بِاللَّيْلِ هَاتِفًا مِنْ السَّمَاءِ يَقُولُ: أَلَا يَا أَيُّهَا الْمَرْءُ الَّذِي الْهَمُّ بِهِ بَرَّحْ ... وَقَدْ أَنْشَدْت بَيْتًا لَمْ تَزَلْ فِي فِكْرِهِ تَسْبَحْ إذَا اشْتَدَّتْ بِك الْعُسْرَى فَفَكِّرْ فِي أَلَمْ نَشْرَحْ ... فَعُسْرٌ بَيْنَ يُسْرَيْنِ إذَا فُكِّرْتَهَا فَافْرَحْ قَالَ فَحَفِظْت الْأَبْيَاتَ وَفَرَّجَ اللَّهُ غَمِّي وَقَالَ آخَرُ: تَوَقَّعْ إذَا مَا عَرَتْكَ الْهُمُومُ ... سُرُورًا يُشَرِّدُهَا عَنْكَ قَسْرَا تَرَى اللَّهَ يُخْلِفُ مِيعَادَهُ ... وَقَدْ قَالَ إنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرَا قَوْلُهُ (وَفِيهِ نَظَرٌ) ذَكَرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ مَعْنَاهُ أَنَّ فِي الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ إذَا أُعِيدَتْ مُعَرَّفَةً كَانَتْ الثَّانِيَةُ عَيْنَ الْأُولَى وَالنَّكِرَةَ إذَا أُعِيدَتْ نَكِرَةً كَانَتْ الثَّانِيَةُ غَيْرَ الْأُولَى نَظَرًا فَإِنَّهُ قَدْ يَنْعَكِسُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى. {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة: 48] . الْكِتَابُ الثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ وَإِنْ ذُكِرَا مُعَرَّفَيْنِ. وَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ. {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم: 54] . الضَّعْفُ الثَّانِي عَيْنُ الْأَوَّلِ وَإِنْ ذُكِرَا مُنَكَّرَيْنِ وَكَذَا الْقُوَّةُ الثَّانِيَةُ عَيْنُ الْأُولَى وَإِنْ ذُكِرَتَا مُنَكَّرَتَيْنِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِرَاجِعٍ إلَى هَذَا الْأَصْلِ فَإِنَّهُ مَذْهَبُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ كَذَا ذُكِرَ فِي التَّيْسِيرِ بَلْ هُوَ رَاجِعٌ إلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ يَعْنِي وَثَبَتَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ وَيَكُونُ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ " ح " مَذْكُورَةً عَلَى وَجْهِ الِاسْتِئْنَافِ وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ الشَّيْخِ أَنَّهَا مَذْكُورَةٌ عَلَى وَجْهِ التَّكْرِيرِ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى لِتَقْرِيرِ مَعْنَاهَا فِي النُّفُوسِ وَيُمْكِنُهَا فِي الْقُلُوبِ كَمَا كَرَّرَ قَوْله تَعَالَى. {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 15] . {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى - ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة: 34 - 35] . وَكَمَا يُكَرَّرُ الْمُفْرَدُ فِي قَوْلِك جَاءَنِي زَيْدٌ زَيْدٌ وَعَلِيٌّ هَذَا التَّقْدِيرُ لَا يَسْتَقِيمُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ فَهَذَا هُوَ مَعْنَى النَّظَرِ. ثُمَّ الْأَصْلُ الْمَذْكُورُ قَدْ يُتْرَكُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِهِ كَمَا يُتْرَكُ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ عِنْدَ التَّعَذُّرِ وَقَدْ تَحَقَّقَ التَّعَذُّرُ هَهُنَا فِيمَا ذُكِرَ فَإِنَّ الْكِتَابَ الْأَوَّلَ لَمَّا وُصِفَ بِقَوْلِهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَجَعَلَ الْكِتَابَ الثَّانِي بَيَانًا. لِمَا لَا يُمْكِنُ صَرْفُهُ إلَى الْأَوَّلِ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ بَعْدَ قُوَّةِ الشَّبَابِ قُوَّةٌ أُخْرَى

[النكرة إذا اتصل بها وصف عام]

وَإِذَا تَعَذَّرَ مَعْنَى الْعَهْدِ حُمِلَ عَلَى الْجِنْسِ لِيَكُونَ تَعْرِيفًا لَهُ مِثْلُ قَوْلِك فُلَانٌ يُحِبُّ الدِّينَارَ أَيْ هَذَا الْجِنْسَ إذْ لَيْسَ فِيهِ عَيْنٌ مَعْهُودَةٌ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ. وَضَرْبٌ آخَرُ مِنْ دَلَائِلِ الْعُمُومِ إذَا اتَّصَلَ بِهَا وَصْفٌ عَامٌّ مِثْلُ قَوْلِ الرَّجُلِ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ أَحَدًا إلَّا رَجُلًا كُوفِيًّا وَلَا أَتَزَوَّجُ امْرَأَةً إلَّا امْرَأَةً كُوفِيَّةً ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا يُمْكِنُ صَرْفُ الْقُوَّةِ الثَّانِيَةِ إلَى غَيْرِ الْأُولَى فَتَرْكُ هَذَا الْأَصْلِ لِلتَّعَذُّرِ. فَأَمَّا الضَّعْفُ الثَّانِي فَهُوَ غَيْرُ الْأَوَّلِ لِإِمْكَانِ صَرْفِ كُلِّ وَاحِدٍ إلَى ضَعْفٍ؛ لِأَنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا الضَّعْفُ الْأَوَّلُ النُّطْفَةُ وَالضَّعْفُ الثَّانِي ضَعْفُ الطُّفُولَةِ وَمَعْنَاهُ خَلَقَكُمْ مِنْ مَاءٍ ذِي ضَعْفٍ وَعَنَى بِضَعْفِهِ قِلَّتَهُ أَوْ حَقَارَتَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى. {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [المرسلات: 20] . ثُمَّ جَعَلَ وَمِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ أَيْ ضَعْفِ الطُّفُولَةِ قُوَّةً أَيْ قُوَّةَ الشَّبَابِ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِهِ قُوَّةَ الشَّبَابِ ضَعْفًا وَشَيْبَةً أَيْ عِنْدَ الْكِبَرِ. قَوْلُهُ (وَإِذَا تَعَذَّرَ) مُتَّصِلٌ بِأَوَّلِ كَلَامٍ يَعْنِي لَامَ الْمَعْرِفَةِ لِلْعَهْدِ وَإِذَا تَعَذَّرَ مَعْنَى الْعَهْدِ حُمِلَ عَلَى الْجِنْسِ مَجَازًا وَفِي الْجِنْسِ مَعْنَى الْعُمُومِ عَلَى مَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ اللَّامُ فِيهِ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ إذْ لَيْسَ يُمْكِنُ صَرْفُهُ إلَى مَعْهُودِ فَيَثْبُتُ فِيهِ مَعْنَى الْعُمُومِ حَتَّى إذَا نَوَى الثَّلَاثَ يَقَعُ وَلَكِنَّهُ بِدُونِ النِّيَّةِ يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ؛ لِأَنَّهَا أَدْنَى الْجِنْسِ وَهِيَ الْمُتَيَقَّنُ بِهَا. [النَّكِرَةِ إذَا اتَّصَلَ بِهَا وَصْفٌ عَامٌّ] قَوْلُهُ وَضَرْبٌ آخَرُ مِنْ دَلَائِلِ الْعُمُومِ وَصْفٌ عَامٌّ. وَالْمُرَادُ بِعُمُومَةِ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ بِهِ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ نَوْعِ الْمَوْصُوفِ وَلَا يَخْتَصُّ بِوَاحِدٍ كَقَوْلِهِ رَجُلٌ كُوفِيٌّ يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ بِهَذِهِ النِّسْبَةِ كُلُّ رِجَالِ الْكُوفَةِ فَإِذَا وُصِفَتْ النَّكِرَةُ بِمِثْلِ هَذَا الْوَصْفِ تَتَعَمَّمُ ضَرُورَةَ عُمُومِ الْوَصْفِ وَإِنْ كَانَتْ فِي نَفْسِهَا خَاصَّةً كَمَا تَتَعَمَّمُ بِوُقُوعِهَا فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ وَبِكَلِمَةِ كُلٍّ. فَإِذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ أَحَدًا إلَّا رَجُلًا أَوْ لَا أَتَزَوَّجُ أَحَدًا إلَّا امْرَأَةً كَانَ الْمُسْتَثْنَى رَجُلًا وَاحِدًا وَامْرَأَةً وَاحِدَةً حَتَّى لَوْ كَلَّمَ رَجُلَيْنِ أَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَالنَّكِرَةُ فِي الْإِثْبَاتِ تَخُصُّ. وَلَوْ قَالَ لَا أُكَلِّمُ إلَّا رَجُلًا عَالِمًا أَوْ رَجُلًا كُوفِيًّا كَانَ لَهُ أَنْ يُكَلِّمَ كُلَّ عَالِمٍ أَوْ كُلَّ كُوفِيٍّ وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً فِي الْإِثْبَاتِ لِعُمُومِ الْوَصْفِ وَالنَّكِرَةُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَصِيرَ عَامَّةً بِدَلِيلٍ يَقْتَرِنُ بِهَا كَمَا بَيَّنَّا فَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَمَّمَ بِاتِّصَافِهَا بِالْوَصْفِ الْعَامِّ إذْ الْوَصْفُ الْمَوْصُوفُ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى. {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] . حَيْثُ صَارَ كُلُّ دَمٍ مَسْفُوحٍ مُسْتَثْنًى وَهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ النَّكِرَةَ إذَا لَمْ تَكُنْ مَوْصُوفَةً الِاسْتِثْنَاءُ بِاسْمِ الشَّخْصِ فَيَتَنَاوَلُ شَخْصًا وَاحِدًا وَإِذَا كَانَتْ مَوْصُوفَةً فَالِاسْتِثْنَاءُ بِصِفَةِ النَّوْعِ فَتَخُصُّ ذَلِكَ النَّوْعَ لِصَيْرُورَتِهِ مُسْتَثْنًى كَذَا فِي جَامِعِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. . وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَصْفَ مِنْ أَسْبَابِ التَّخْصِيصِ وَالتَّقْيِيدِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ جَمِيعًا فَإِنَّ قَوْلَك رَأَيْت رَجُلًا عَالِمًا أَخَصُّ بِالنِّسْبَةِ إلَى قَوْلِك رَأَيْت رَجُلًا؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ تَنَاوَلَ وَاحِدًا مِنْ الْجُمْلَةِ إلَّا أَنَّهُ شَائِعٌ فِي كُلِّ الْجِنْسِ يَصْلُحُ لِتَنَاوُلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ إفْرَادِهِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ وَقَوْلُك رَأَيْت رَجُلًا عَالِمًا شَائِعٌ فِي بَعْضِ الْجِنْسِ وَهُمْ الْعَالِمُونَ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ لَا فِي كُلِّهِ. وَكَذَا قَوْلُك مَا رَأَيْت رَجُلًا عَمَّ النَّفْيُ جَمِيعَ الْجِنْسِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ وَقَوْلُك مَا رَأَيْت رَجُلًا عَامًّا عَمَّ النَّفْيُ بَعْضَ الْجِنْسِ وَهُمْ الْعَالِمُونَ لَا كُلُّهُ حَتَّى لَوْ رَأَى رَجُلًا غَيْرَ عَالِمٍ لَا يَكُونُ كَاذِبًا. وَكَذَا لَوْ قَالَ لِأُكَلِّمَنَّ الْيَوْمَ رَجُلًا عَالِمًا أَوْ رَجُلًا كُوفِيًّا أَوْ قَالَ لَأَتَزَوَّجَنَّ امْرَأَةً كُوفِيَّةً يَتَعَلَّقُ الْبِرُّ بِكَلَامِ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَبِتَزَوُّجِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ لَا غَيْرُ وَكُلَّمَا ازْدَادَ وَصْفٌ فِي الْكَلَامِ ازْدَادَ تَخْصِيصٌ هَذَا هُوَ مُوجِبُ اللُّغَةِ وَمَذْهَبُ عَامَّةِ أَهْلِ الْأُصُولِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا عَرَفْنَا أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ لَا يَطَّرِدُ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ. وَقَدْ كُنْت فِي مَجْلِسِ شَيْخِنَا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعَلَّامَةِ وَأُسْتَاذِ الْأَئِمَّةِ مَوْلَانَا حَافِظِ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ بُحْبُوحَةَ جَنَّاتِهِ وَكَانَ الْمَجْلِسُ غَاصًّا بِالْعُلَمَاءِ النَّحَارِيرِ وَالْفُضَلَاءِ الْحُذَّاقِ الْمُهْرَةِ إذْ جَرَى الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ بَعْضُ الْكِبَارِ تَعْمِيمُ النَّكِرَةِ الْمَوْصُوفَةِ مُخْتَصٌّ بِالِاسْتِثْنَاءِ مِنْ النَّفْيِ وَبِكَلِمَةٍ أَيْ دُونَ مَا عَدَاهُمَا وَتَمَسَّكَ بِنَحْوِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسَائِلِ وَالنَّظَائِرِ فَلَمْ يُقَابِلْ بِرَدِّ مَسْمُوعٍ وَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ جَوَابًا شَافِيًا وَرَأَيْت مَكْتُوبًا عَلَى حَاشِيَةِ تَقْوِيمِ مَقْرُوءٍ عَلَى شَيْخِنَا هَذَا قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ الْمَحَالِّ فَالنَّكِرَةُ الْمَوْصُوفَةُ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ وَفِي مَوْضِعِ التَّحْرِيضِ يَتَعَمَّمُ فَأَمَّا فِي مَوْضِعِ الْجَزَاءِ وَالْخَبَرِ فَلَا يَتَعَمَّمُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى. {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] . وَكَقَوْلِك جَاءَنِي رَجُلٌ عَالِمٌ. ثُمَّ النَّكِرَةُ الْمَوْصُوفَةُ أَنَّمَا يَتَعَمَّمُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ النَّفْيِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَوْضِعَ إثْبَاتٍ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ دَاخِلَةً فِي صَدْرِ الْكَلَامِ وَأَنَّهُ أَخْرَجَهَا بِالِاسْتِثْنَاءِ مِنْهُ تَقْدِيرًا وَالِاسْتِثْنَاءُ لَيْسَ بِمُسْتَقْبَلٍ بِنَفْسِهِ فَيُؤْخَذُ حُكْمُهُ مِنْ صَدْرِ الْكَلَامِ وَهُوَ مَوْضِعُ نَفْيٍ فَيَتَعَمَّمُ مَا دَخَلَ مِنْ النَّكِرَاتِ تَحْتَهُ ضَرُورَةَ وُقُوعِهَا فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ وَصَارَ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ قَالَ لَا أُكَلِّمُ رَجُلًا كُوفِيًّا وَلَا رَجُلًا بَصْرِيًّا وَلَا مَكِّيًّا وَلَا مَدَنِيًّا حَتَّى عَدَّ جَمِيعَ الْأَنْوَاعِ ثُمَّ قَالَ إلَّا رَجُلًا كُوفِيًّا فَلَمَّا كَانَ الْمُسْتَثْنَى وَهُوَ رَجُلٌ كُوفِيٌّ عَامًّا فِي صَدْرِ الْكَلَامِ لِكَوْنِهِ نَكِرَةً وَاقِعَةً فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ بَقِيَ كَذَلِكَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَا دَخَلَ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ لَيْسَ بِمُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ فَيُؤْخَذُ حُكْمُهُ مِنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ أَيْضًا فَيَتَعَمَّمُ. وَهَذَا مُؤَيَّدٌ بِمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْجَامِعِ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ كُلَّمَا حَلَفْت بِطَلَاقِ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا فَهِيَ طَالِقٌ قَالَهُ مَرَّتَيْنِ طَلُقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا وَاحِدَةً وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُطَلِّقَ إحْدَيْهِمَا غَيْرَ عَيْنٍ وَكَانَ الْخِيَارُ إلَى الزَّوْجِ كَمَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو حَازِمٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَهِيَ كِنَايَةٌ عَنْ الْوَاحِدَةِ الْمَذْكُورَةِ سَابِقَةً فَصَارَ كَأَنَّهُ صَرَّحَ بِالْوَاحِدَةِ وَعِنْدَ التَّصْرِيحِ بِالْوَاحِدَةِ تَقَعُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ عَلَى إحْدَيْهِمَا غَيْرُ عَيْنٍ فَكَذَلِكَ هَذَا إلَّا أَنَّ الْوَاحِدَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الشَّرْطِ نَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ لَا أَحْلِفُ بِطَلَاقِ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا وَإِنْ حَلَفْت بِذَلِكَ فَكَذَا وَالنَّكِرَةُ فِي النَّفْيِ تَعُمُّ وَالْكِنَايَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ فَهِيَ لَا تَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهَا وَلَا تُفِيدُ إذَا انْقَطَعَتْ عَنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُؤْخَذَ حُكْمُهَا مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ لِتَصِيرَ مُفِيدَةً وَلَمَّا عَمَّ الْمُكَنَّى بِوُقُوعِهِ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُؤْخَذَ حُكْمُ الْكِنَايَةِ مِنْ الْمُكَنَّى لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِهَا صَارَتْ الْكِنَايَةُ عَامَّةً أَيْضًا فَلَمَّا كَرَّرَ فَقَدْ صَارَ حَالِفًا بِطَلَاقِهِمَا فَحَنِثَ فِي الْأُولَى وَمِنْ حُكْمِ الْيَمِينِ الْأُولَى طَلَاقُ كُلِّ امْرَأَةٍ صَارَتْ مَحْلُوفًا بِطَلَاقِهَا وَقَدْ صَارَتَا كَذَلِكَ فَلِذَلِكَ طَلَقَتَا بِخِلَافِ التَّصْرِيحِ بِقَوْلِهِ فَوَاحِدَةٌ مِنْكُمَا طَالِقٌ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا وَقَدْ وَقَعَتْ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْجَزَاءِ مَوْضِعُ إثْبَاتٍ فَتُخَصُّ فَصَارَ حَالِفًا بِطَلَاقِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لَا غَيْرُ فَلَا تَطْلُقُ إلَّا وَاحِدَةٌ غَيْرُ عَيْنٍ. يُوَضِّحُ جَمِيعَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ زَيْنَبُ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَعَمْرَةُ تَطْلُقُ عَمْرَةُ ثَلَاثًا وَلَوْ قَالَ زَيْنَبُ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَعَمْرَةُ طَالِقٌ لَمْ تَطْلُقْ عَمْرَةُ إلَّا وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَعَمْرَةُ طَالِقٌ مَفْهُومُ الْمَعْنَى مُسْتَنِدٌ بِنَفْسِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَعَرُّفِ حُكْمِهِ مِمَّا سَبَقَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ وَعَمْرَةُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُؤْخَذَ حُكْمُهُ مِمَّا سَبَقَ وَأَمَّا عُمُومُ كَلِمَةِ أَيْ بِاعْتِبَارِ الصِّفَةِ فَسَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ

[كلمة أي]

وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُمَا إلَّا يَوْمًا أَقْرَبُكُمَا فِيهِ إنَّ الْمُسْتَثْنَى فِي هَذَا كُلِّهِ يَكُونُ عَامًّا لِعُمُومِ وَصْفِهِ وَالنَّكِرَةُ تَحْتَمِلُ ذَلِكَ. وَمِنْ هَذَا الضَّرْبِ كَلِمَةُ أَيُّ وَهِيَ نَكِرَةٌ يُرَادُ بِهَا جُزْءٌ مِمَّا تُضَافُ إلَيْهِ عَلَى هَذَا إجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل: 38] وَلَمْ يَقُلْ يَأْتُونَنِي وَيُقَالُ أَيُّ الرَّجُلِ أَتَاك ـــــــــــــــــــــــــــــQمُسَلَّمٌ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ دُونَ الْبَعْضِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعَانِي. قَوْلُهُ (وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُمَا) إذَا قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُمَا إلَّا يَوْمًا أَقْرَبُكُمَا فِيهِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا بِهَذَا الْكَلَامِ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ وَصَفَ يَوْمَ الِاسْتِثْنَاءِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ فَأَوْجَبَ الْعُمُومَ فَيُمْكِنُهُ أَبَدًا أَنْ يَقْرَبَهُمَا فِي كُلِّ يَوْمٍ يَأْتِي فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فَعُدِمَتْ عَلَامَةُ الْإِيلَاءِ فَإِنْ قَرَبَهُمَا فِي يَوْمَيْنِ مُتَفَرِّقَيْنِ حَنِثَ. فَإِنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُمَا إلَّا يَوْمًا لَمْ يَصِرْ مُولِيًا لِجَوَازِ أَنْ يَقْرَبَهُمَا جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ يَلْزَمُهُ فَإِذَا قَرِبَهُمَا فِي يَوْمٍ صَارَ مُولِيًا مِنْهُمَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ لِذَهَابِ الِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى يَوْمٌ وَاحِدٌ. [كَلِمَةُ أَيُّ] قَوْلُهُ (وَمِنْ هَذَا الضَّرْبِ) أَيْ مِنْ الْقِسْمِ الْآخَرِ وَهُوَ النَّكِرَةُ الَّتِي عَمَّتْ بِالْوَصْفِ الْعَامِّ كَلِمَةُ أَيٍّ. أَوْ مِنْ جِنْسِ النَّكِرَةِ الَّتِي تَعُمُّ بِدَلِيلِ الْعُمُومِ كَلِمَةُ أَيٍّ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ هَذَا إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ وَقِسْمٌ آخَرُ النَّكِرَةُ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَيًّا مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولُهُ بَعْضًا مِنْ الْكُلِّ غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَلِذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا أَبَدًا وَأَنْ لَا يَجُوزَ إضَافَتُهُ إلَى الْوَاحِدِ الْمُعَرَّفِ فَلَا يُقَالُ أَيُّ الرِّجَالِ إلَّا إذَا كَانَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ أَيُّ التَّمْرِ أَكَلْت أَفْضَلُ وَإِنَّمَا يَجُوزُ إضَافَتُهُ إلَى الْوَاحِدِ الْمُنَكَّرِ عَلَى تَأْوِيلِ الْجَمْعِ أَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَك أَيُّ رَجُلٍ مَعْنَاهُ أَيُّ الرَّجُلِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا التَّأْوِيلُ لَمْ يَجُزْ إضَافَةُ أَيٍّ إلَيْهِ أَيْضًا كَذَا فِي حَاشِيَةِ الْمُفَضَّلِ الْمُصَنَّفَةِ وَذَكَرَ فِي الصِّحَاحِ أَيُّ اسْمٌ مُعْرَبٌ يُسْتَفْهَمُ بِهِ وَيُجَازَى فِيمَنْ يَعْقِلُ وَفِيمَنْ لَا يَعْقِلُ وَهُوَ مَعْرِفَةٌ لِلْإِضَافَةِ. وَإِذَا كَانَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى جُزْءٍ مِنْ الْكُلِّ كَانَ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ لِلْخُصُوصِ وَلِذَلِكَ إذَا قِيلَ أَيُّ الرِّجَالِ عِنْدَك وَأَيُّ رَجُلٍ عِنْدَك لَمْ يَسْتَقِمْ الْجَوَابُ إلَّا بِذِكْرِ وَاحِدٍ بِأَنْ يَقُولَ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو كَذَا رَأَيْت فِي بَعْضِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لِلْخُصُوصِ قَوْله تَعَالَى إخْبَارًا عَنْ سُلَيْمَانَ. {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل: 38] . فَإِنَّ الْمُرَادَ الْفَرْدُ مِنْ الْمُخَاطَبِينَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ يَأْتِينِي وَلَمْ يَقُلْ يَأْتُونَنِي وَكَذَا يُقَالُ أَيُّ الرِّجَالِ أَتَاك بِصِيغَةِ الْفَرْدِ وَلَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِي الِاسْتِفْهَامِ وَالشَّرْطِ جَمِيعًا. وَهَذَا إذَا كَانَ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ أَيُّ مَعْرِفَةٍ فَإِنْ أُضِيفَ إلَى نَكِرَةٍ فَالْفِعْلُ الْمُسْنَدُ إلَيْهِ وَالْجَزَاءُ عَلَى وَفْقِ الْمُضَافِ إلَيْهِ تَقُلْ أَيُّ رَجُلٍ قَامَ وَأَيُّ رَجُلَيْنِ قَامَا وَأَيُّ رِجَالٍ قَامُوا وَتَقُولُ أَيُّ عَبْدٍ مِنْ عَبِيدِي دَخَلَ الدَّارَ فَهُوَ حُرٌّ وَأَيُّ عَبْدَيْنِ مِنْ عَبِيدِي دَخَلَا الدَّارَ فَهُمَا حُرَّانِ وَأَيُّ عَبِيدٍ مِنْ عَبِيدِي دَخَلُوا الدَّارَ فَهُمْ أَحْرَارٌ وَلَا يَجُوزُ أَيٌّ مِنْ عَبْدَيْنِ مِنْ عَبِيدِي وَأَيُّ عَبِيدٍ مِنْ عَبِيدِي دَخَلَ الدَّارَ فَهُوَ حُرٌّ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ أَيٍّ وُضِعَتْ لِلِاسْتِفْهَامِ فِي الْأَصْلِ فَإِذَا كَانَ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ مَعْرِفَةً كَانَ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَا يَتَعَدَّى عَنْ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إلَيْهِ، وَالْمَانِعُ مِنْ انْصِرَافِهِ إلَى الْمُضَافِ إلَيْهِ مَوْجُودٌ؛ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ أَقَرَّ بِكَوْنِ الْمُضَافِ إلَيْهِ مَعْلُومًا لَهُ فَيَنْصَرِفُ الِاسْتِفْهَامُ إلَى الْمُضَافِ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ أَيْ وَدَلَالَتُهُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْجُمْلَةِ الَّتِي أُضِيفَ إلَيْهَا فَيَكُونُ الْفِعْلُ الْمُسْنَدُ إلَى ضَمِيرِهِ عَلَى صِيغَةِ الْفَرْدِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي مُنِعَ مِنْ إضَافَتِهِ إلَى الْمُفْرَدِ فِي الْمَعْرِفَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِحُّ الِاسْتِفْهَامُ إذَا كَانَ هُنَاكَ جُمْلَةٌ لَهَا وَاحِدٌ وَهِيَ الْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعُ. وَإِذَا كَانَ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ أَيُّ نَكِرَةً فَالِاسْتِفْهَامُ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُضَافِ إلَيْهِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ هَهُنَا مِنْ الِانْصِرَافِ إلَى الْكُلِّ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ جَوَابَ الِاسْتِفْهَامِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ أَيًّا هَهُنَا يَقَعُ فِي الْحَقِيقَةِ صِفَةً لِلْمُضَافِ إلَيْهِ فَيَنْصَرِفُ الِاسْتِفْهَامُ إلَى كُلِّهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُضَافُ إلَيْهِ مَعْرِفَةً فَإِنَّ أَيًّا لَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الصِّفَةِ ضَرُورَةً

وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبَك فَهُوَ حُرٌّ فَضَرَبُوهُ فَإِنَّهُمْ يَعْتِقُونَ وَلَمْ يَقُلْ ضَرَبُوك فَثَبَتَ أَنَّهَا كَلِمَةُ فَرْدٍ لَكِنَّهَا مَتَى وُصِفَتْ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ عَمَّتْ بِعُمُومِهَا كَسَائِرِ النَّكِرَاتِ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ وَإِذَا قَالَ أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبَك فَقَدْ وَصَفَهَا بِالضَّرْبِ وَصَارَتْ عَامَّةً وَإِذَا قَالَ أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبْته فَقَدْ انْقَطَعَ الْوَصْفُ عَنْهَا فَلَمْ يَعْتِقْ إلَّا وَاحِدٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQإنَّ أَيًّا نَكِرَةٌ وَالْمُضَافَ إلَيْهِ مَعْرِفَةٌ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ الْمُسْنَدُ إلَيْهِ الْفِعْلُ مُوَافِقًا لِلْمُضَافِ إلَيْهِ فَلِهَذَا يُقَالُ أَيُّ رَجُلٍ قَامَ وَأَيُّ رَجُلَيْنِ قَامَا وَأَيُّ رِجَالٍ قَامُوا. وَمَا ذَكَرْنَا هُوَ الَّذِي جَوَّزَ إضَافَتَهُ إلَى النَّكِرَةِ الْمُفْرَدَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَفْهَمَ عَنْهُ كَمَا يَكُونُ غَيْرَ مُفْرَدٍ يَكُونُ أَيْضًا مُفْرَدًا إلَيْهِ أُشِيرَ فِي التَّخْمِيرِ وَغَيْرِهِ. ثُمَّ كَلِمَةُ أَيٍّ إنْ بَقِيَتْ نَكِرَةً بَعْدَ الْإِضَافَةِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ هَذَا التَّقْرِيرُ كَانَ قَوْلُ الشَّيْخِ هِيَ نَكِرَةٌ مُجْرًى عَلَى إطْلَاقِهِ وَحَقِيقَتَهُ وَإِنْ صَارَتْ مُعَرَّفَةً بِالْإِضَافَةِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ أَهْلِ النَّحْوِ وَكَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الصِّحَاحِ، وَلِهَذَا يَصْلُحُ مُبْتَدَأً وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْرِفَةً، كَانَ قَوْلُهُ وَهِيَ نَكِرَةٌ مَحْمُولًا عَلَى الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ تَعَرَّفَتْ صُورَةً بَقِيَتْ الْجَهَالَةُ فِيهَا مَعْنًى؛ لِأَنَّهَا تَصْلُحُ لِتَنَاوُلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ عَلَى الْبَدَلِ، وَلِهَذَا صَحَّ الِاسْتِفْهَامُ بِهَا بَعْدَ الْإِضَافَةِ إلَى الْمَعْرِفَةِ فَكَانَتْ نَكِرَةً مَعْنًى. يُوَضِّحُهُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ وَأَمَّا كَلِمَةُ أَيٍّ فَبِمَنْزِلَةِ النَّكِرَةِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهَا تَصْحَبُ النَّكِرَةَ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى لِاسْتِحْضَارِهَا تَقُولُ أَيُّ رَجُلٍ فَعَلَ كَذَا وَأَيُّ دَارٍ تُرِيدُهَا وَالنَّكِرَةُ مَعْنًى قَوْله تَعَالَى. {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل: 38] . وَهِيَ نَكِرَةٌ مَعْنًى يَعْنِي أَيُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ. وَكَذَا قَوْلُهُ يُرَادُ بِهَا جَزْءُ مَا تُضَافُ إلَيْهِ مُجْرًى عَلَى ظَاهِرِهِ إنْ كَانَ الْمُضَافُ إلَيْهِ مَعْرِفَةً فَأَمَّا الْمُضَافُ إلَيْهِ إذَا كَانَ نَكِرَةً فَلَا بُدَّ لَهُ مَنْ تَأْوِيلٍ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا " ح " كُلُّ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ عَنْ الْكُلِّ لَا عَنْ الْجُزْءِ. وَتَأْوِيلُهُ أَنَّ الْمُضَافَ إلَيْهِ إذَا كَانَ نَكِرَةً لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا مِنْ جُمْلَةٍ فَكَانَ أَيْ مَعَ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ جُزْءًا مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ. وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ فِي قَوْلِهِ أَيُّ رِجَالٍ قَامُوا قَدَّرَ فِي نَفْسِهِ أَعْدَادًا مِمَّا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ رِجَالٍ وَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ وَاحِدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَعْدَادِ مَوْصُوفٌ بِالْقِيَامِ فَاسْتَفْهَمَ عَنْ ذَلِكَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا التَّقْدِيرُ لَمَا صَحَّ الِاسْتِفْهَامُ فَكَانَ تَقْدِيرُهُ أَيُّ رَجُلٍ مِنْ الرِّجَالِ قَامُوا فَصَارَ فِي التَّحْقِيقِ مُضَافًا إلَى الرِّجَالِ بِوَاسِطَةِ رِجَالٍ فَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ جُزْءًا مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ الْجُزْءَ جَمْعٌ لَا فَرْدٌ. قَوْلُهُ (أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبَك) إلَى آخِرِهِ. كَلِمَةُ أَيٍّ إذَا وَقَعَتْ فِي مَوْضِعِ الشَّرْطِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَعَقَّبَ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ فِعْلٌ كَمَا فِي كُلٍّ؛ لِأَنَّهَا لِلُزُومِ إضَافَتِهَا لَا تَدْخُلُ إلَّا عَلَى الِاسْمِ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ شَرْطًا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَلِيَهُ فِعْلٌ يَكُونُ هُوَ شَرْطًا فِي الْحَقِيقَةِ ثُمَّ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ مُسْنَدًا إلَى خَاصٍّ لَا يَصْلُحُ وَصْفًا لِأَيٍّ عُرِفَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْخُصُوصُ فَلَا يَتَنَاوَلُ إلَّا وَاحِدًا. وَإِنْ كَانَ مُسْنَدًا إلَى ضَمِيرٍ رَاجِعٍ إلَى أَيٍّ حَتَّى صَلَحَ وَصْفًا لَهُ يَعُمُّ بِعُمُومِ تِلْكَ الصِّفَةِ فَفِي قَوْلِهِ أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبَك فَهُوَ حُرٌّ الْفِعْلُ مُسْنَدٌ إلَى الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إلَى أَيٍّ فَيَصِيرُ وَصْفًا لَهُ فَيَعُمُّ بِعُمُومِهِ كَمَا يَعُمُّ فِي قَوْلِهِ إلَّا رَجُلًا كُوفِيًّا وَقَوْلُهُ مَنْ شَاءَ مِنْ عَبِيدِي فَإِنْ ضَرَبُوهُ جَمِيعًا مَعًا أَوْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ عَتَقُوا. وَإِذَا قَالَ أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبْته فَهُوَ حُرٌّ فَقَدْ أَسْنَدَ الضَّرْبَ إلَى خَاصٍّ وَهُوَ الْمُخَاطَبُ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِأَيٍّ فَبَقِيَ عَلَى الْخُصُوصِ كَمَا كَانَ لِعَدَمِ مَا يُوجِبُ تَعْمِيمَهُ فَإِذَا ضَرَبَهُمْ عَلَى التَّرْتِيبِ عَتَقَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ لَا مُزَاحِمَ لَهُ وَإِنْ ضَرَبَهُمْ جُمْلَةً عَتَقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَالْخِيَارُ إلَى الْمَوْلَى لَا إلَى الضَّارِبِ؛ لِأَنَّ نُزُولَ الْعِتْقِ مِنْ جِهَتِهِ فَكَانَ التَّعْيِينُ إلَيْهِ. وَلَا يُقَالُ قَدْ صَارَ أَيُّ مَوْصُوفًا بالمضروبية؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ الْمَنْصُوبَ يَرْجِعُ إلَيْهِ فَيَصِيرُ عَامًّا بِهَذَا الْوَصْفِ كَمَا عَمَّ الْمُسْتَثْنَى فِي قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُمَا إلَّا يَوْمًا فِيهِ وَإِنْ كَانَ

وَعَلَى ذَلِكَ مَسَائِلُ أَصْحَابِنَا وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ أَيُّكُمْ حَمَلَ هَذِهِ الْخَشَبَةَ فَهُوَ حُرٌّ وَهِيَ لَا يَحْمِلُهَا وَاحِدٌ فَحَمَلُوا عَتَقُوا وَإِنْ كَانَ يَحْمِلُهَا وَاحِدٌ فَحَمَلُوا كُلُّهُمْ فُرَادَى عَتَقُوا وَإِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَعْتِقُوا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِيمَا يَخِفُّ حَمْلُهُ انْفِرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي الْعَادَةِ لِإِظْهَارِ الْجَلَادَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQمَفْعُولًا فِيهِ بِعُمُومِ وَصْفِهِ وَهُوَ الْقُرْبَانُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْقُرْبَانُ وَصْفٌ مُتَّصِلٌ بِالْيَوْمِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُحْدَثَ يَتَعَلَّقُ بِالزَّمَانِ فَيَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ الْيَوْمُ عَامًّا بِهِ فَأَمَّا الضَّرْبُ فَقَدْ اتَّصَلَ بِالضَّارِبِ وَقَامَ بِهِ فَيَسْتَحِيلُ اتِّصَالُهُ بِالْمَضْرُوبِ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ الْوَاحِدَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَقُومَ بِشَخْصَيْنِ وَالْمُتَّصِلُ بِالْمَضْرُوبِ أَثَرُ الضَّرْبِ لَا الضَّرْبُ فَلِهَذَا لَمْ يَعُمَّ بِهِ. وَلِأَنَّ الْمَفْعُولِيَّةَ فَضْلَةٌ فِي الْكَلَامِ يَثْبُتُ ضَرُورَةَ تَعَدِّي الْفِعْلِ فَلَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي التَّعْمِيمِ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا بِخِلَافِ الْيَوْمِ الْمُسْتَثْنَى فِي قَوْلِهِ إلَّا يَوْمًا أَقْرَبُكُمَا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِذَكَرِهِ وَجَعَلَهُ مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ عَامَّةٍ قَصْدًا وَلَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفِعْلَ الْمُحْدَثَ مَعَ الزَّمَانِ مُتَلَازِمَانِ كَذَا فِي فَوَائِدِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ مَوْلَانَا حَمِيدِ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قَوْلُهُ (وَعَلَى ذَلِكَ) أَيْ عَلَى أَنَّ النَّكِرَةَ تَعُمُّ بِالْوَصْفِ الْعَامِّ وَإِنْ كَانَتْ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ لِلْخُصُوصِ. أَوْ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ أَيٍّ تَعُمُّ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ وَإِنْ كَانَتْ مَوْضُوعَةً لِفَرْدٍ يُثْبِتُ مَسَائِلَ أَصْحَابِنَا. فَإِذَا قَالَ أَيُّ نَسَائِي كَلَّمْتهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَكَلَّمَهُنَّ طَلُقَتْ وَاحِدَةٌ وَلَوْ قَالَ أَيُّ نِسَائِي كَلَّمَتْك فَهِيَ طَالِقٌ فَكَلَّمَتْهُ جَمِيعًا طَلُقْنَ جَمِيعًا لِمَا قُلْنَا. وَكَذَا لَوْ قَالَ أَعْتِقْ أَيَّ عَبِيدِي شِئْت فَأَعْتَقَهُمْ جَمِيعًا لَا يَعْتِقُ إلَّا وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَالْأَمْرُ فِي بَيَانِهِ إلَى الْمَوْلَى وَلَوْ قَالَ أَيُّكُمْ شَاءَ الْعِتْقَ فَهُوَ حُرٌّ فَشَاءُوا جَمِيعًا عَتَقُوا. وَكَذَا قَوْلُهُ أَيُّ نِسَائِي شِئْت طَلَاقَهَا فَهِيَ طَالِقٌ وَأَيُّ نِسَائِي شَاءَتْ طَلَاقَهَا عَلَى هَذَا أَيْضًا. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ كَمَا قَالُوا بِعُمُومِ أَيٍّ فِي قَوْلِهِ أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبَك قَالُوا أَيْضًا بِعُمُومٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. إذَا قَالَ لِعَبِيدِهِ أَيُّكُمْ حَمَلَ هَذِهِ الْخَشَبَةَ فَهُوَ حُرٌّ فَإِنْ حَمَلَهَا وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ عَتَقُوا جَمِيعًا بِكُلِّ حَالٍ. فَإِنْ حَمَلُوهَا جُمْلَةً فَإِنْ كَانَ يُطِيقُ حَمْلَهَا وَاحِدٌ لَمْ يَعْتِقُوا وَإِنْ كَانَ لَا يُطِيقُ حَمْلَهَا وَاحِدٌ عَتَقُوا وَإِنْ كَانُوا عَشَرَةً بَعْدَ أَنْ تَكُونَ الْخَشَبَةُ بِحَيْثُ لَا يَسْتَقِلُّ بِحَمْلِهَا الِاثْنَانِ فَصَاعِدًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كَلِمَةَ أَيٍّ نَكِرَةٌ تَدُلُّ عَلَى جُزْءٍ مِمَّا تُضَافُ إلَيْهِ وَقَدْ وُصِفَتْ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ وَهُوَ الْحَمْلُ فَتَعُمُّ إلَّا أَنَّ الْعُمُومَ هَهُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ: الِاشْتِرَاكُ وَالِانْفِرَادُ فَيَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا بِدَلَالَةِ الْحَالِ. فَإِنْ كَانَتْ الْخَشَبَةُ يُطِيقُ حَمْلَهَا وَاحِدٌ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْعُمُومَ عَلَى وَجْهِ الِانْفِرَادِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حِينَئِذٍ مَعْرِفَةُ جَلَادَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِحَمْلِ كُلِّ وَاحِدٍ لَا بِحَمْلِ الْجَمِيعِ جُمْلَةً. وَإِنْ كَانَ لَا يُطِيقُ حَمْلَهَا وَاحِدٌ كَانَ الْغَرَضُ صَيْرُورَةَ الْخَشَبَةِ مَحْمُولَةً إلَى مَوْضِعٍ يُرِيدُهُ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْحَمْلِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَانَةِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْحَمْلِ عَلَى سَبِيلِ الِانْفِرَادِ فَيَتَعَلَّقُ الْعِتْقُ بِمُطْلَقِ الْحَمْلِ. ثُمَّ الْكَلَامُ الْعَامُّ إمَّا أَنْ يَتَنَاوَلَ الْأَدْنَى أَوْ الْكُلَّ فَأَمَّا مَا بَيْنَ ذَلِكَ فَلَا، فَإِذَا لَمْ يُطِقْ حَمْلَهَا وَاحِدٌ وَجَبَ التَّجَاوُزُ عَنْ الْوَاحِدِ فَإِذَا تَجَاوَزْنَا لَمْ يَجُزْ التَّعْلِيقُ بِشَيْءٍ دُونَ الْكُلِّ فَلِذَلِكَ قُلْنَا إذَا حَمَلُوهَا جُمْلَةً عَتَقُوا وَإِنْ كَانَ يُطِيقُ حَمْلَهَا اثْنَانِ. . وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ اطِّرَادَ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ قَالَ لَيْسَ عُمُومُ أَيٍّ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِمُجَرَّدِ الْوَصْفِ فَإِنَّ الرَّقَبَةَ فِي قَوْله تَعَالَى. {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] . وُصِفَتْ بِوَصْفٍ عَامٍّ وَلَمْ تَعُمَّ. وَكَذَا لَوْ كَانَ لَهُ عَبِيدٌ سُودٌ وَبِيضٌ فَقَالَ أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبَك فَهُوَ حُرٌّ يَتَنَاوَلُهُمْ جَمِيعًا وَلَوْ قَالَ أَيُّ عَبْدٍ أَسْوَدُ مِنْ عَبِيدِي ضَرَبَك فَهُوَ حُرٌّ يَتَنَاوَلُ السُّودَ مِنْهُمْ دُونَ الْبِيضِ. وَلَوْ قَالَ أَيُّ عَبْدٍ أَسْوَدَ طَوِيلٍ ضَرَبَك يَتَنَاوَلُ الطِّوَالَ مِنْ السُّودِ دُونَ غَيْرِهِمْ وَكَذَا لَوْ قَالَ أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبَك

[النكرة المفردة في موضع إثبات]

فَأَمَّا النَّكِرَةُ الْمُفْرَدَةُ فِي مَوْضِعِ إثْبَاتٍ فَإِنَّهَا تَخُصُّ عِنْدَنَا وَلَا تَعُمُّ إلَّا أَنَّهَا مُطْلَقَةٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هِيَ تُوجِبُ الْعُمُومَ أَيْضًا حَتَّى قَالَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] أَنَّهَا عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ الصَّغِيرَةَ وَالْكَبِيرَةَ وَالْبَيْضَاءَ وَالسَّوْدَاءَ وَالْكَافِرَةَ وَالْمُؤْمِنَةَ وَالصَّحِيحَةَ وَالزَّمِنَةَ وَقَدْ خَصَّ مِنْهَا الزَّمِنَةَ بِالْإِجْمَاعِ فَصَحَّ تَخْصِيصُ الْكَافِرَةِ مِنْهَا بِالْقِيَاسِ بِكَفَّارَةِ الْقَتْلِ قُلْنَا نَحْنُ هَذِهِ مُطْلَقَةٌ لَا عَامَّةٌ؛ لِأَنَّهَا فَرْدٌ فَيَتَنَاوَلُ وَاحِدًا عَلَى احْتِمَالِ وَصْفٍ دُونَ وَصْفٍ وَالْمُطْلَقُ يَحْتَمِلُ التَّقْيِيدَ وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ الْعَمَلِ بِالْمُطْلَقِ فَصَارَ نَسْخًا ـــــــــــــــــــــــــــــQوَشَتَمَك لَمْ يَعْتِقْ إلَّا مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ. وَكَذَا لَوْ قَالَ مُسْتَفْهِمًا أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبَك لَا يَسْتَقِيمُ الْجَوَابُ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ قَبْلُ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعُمُومَ فِيهِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ نَفْسِ الصِّفَةِ وَلَكِنَّهُ إنَّمَا عَمَّ لِوُقُوعِهِ فِي مَوْضِعِ الشَّرْطِ وَذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ التَّعْمِيمِ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُبْهَمَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ لِإِبْهَامِهَا تَحْتَاجُ إلَى صِلَةٍ فَإِذَا وَقَعَتْ فِي مَوْضِعِ الشَّرْطِ صَارَ الْفِعْلُ الَّذِي جُعِلَ صِلَةً لَهَا هُوَ الشَّرْطُ حَقِيقَةً فَيَعُمُّ هَذَا الْفِعْلُ لِصَيْرُورَتِهِ شَرْطًا وَلَمَّا عَمَّ هَذَا الْفِعْلُ وَهُوَ مُسْنَدٌ إلَى مُبْهَمٍ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِهِ عَمَّ مَا أُسْنِدَ إلَيْهِ ضَرُورَةً حَتَّى لَوْ كَانَتْ الصِّلَةُ مُسْنَدَةً إلَى غَيْرِهِ قَائِمًا بِهِ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ عُمُومَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبْته فَصَارَ حَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ النَّكِرَةَ تَعُمُّ بِالْوَصْفِ الْعَامِّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ النَّفْيِ وَفِيمَا إذَا وَقَعَ الْوَصْفُ الْعَامُّ شَرْطًا وَأَمَّا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ تَعُمُّ النَّكِرَةَ بِالْوَصْفِ لِمَا ذُكِرَ مِنْ الشَّوَاهِدِ وَالنَّظَائِرِ لَكِنْ فِي عَامَّةِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ لِأَصْحَابِنَا وَعَامَّةِ شُرُوحِ الْجَامِعِ ذَكَرَ هَذَا الْأَصْلُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ فَوَجَبَ الْأَخْذُ بِهِ احْتِرَازًا عَنْ مُخَالَفَةِ الْعَامَّةِ. [النَّكِرَةُ الْمُفْرَدَةُ فِي مَوْضِعِ إثْبَاتٍ] قَوْلُهُ (فَأَمَّا النَّكِرَةُ الْمُفْرَدَةُ) لَمَّا فَرَغْت مِنْ بَيَانِ مَا هُوَ عَامٌّ بِنَفْسِهِ وَمَا هُوَ عَامٌّ بِغَيْرِهِ وَهُوَ النَّكِرَةُ الَّتِي لَحِقَهَا بَعْضُ دَلَائِلِ الْعُمُومِ شَرَعَ فِي بَيَانِ النَّكِرَةِ الْمُفْرَدَةِ فَإِنَّهَا مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ عِنْدَ الْبَعْضِ فَقَالَ. فَأَمَّا النَّكِرَةُ الْمُفْرَدُ أَيْ الْمُفْرَدَةُ صِيغَةً وَمَعْنًى فَيَكُونُ احْتِرَازًا عَنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ وَقَوْمٍ وَرَهْطٍ مُنَكَّرَاتٍ. أَوْ الْمُطْلَقَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ دَلَائِلِ الْعُمُومِ فَإِنَّهَا تَخُصُّ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ وَلَا تَعُمُّ إنَّمَا تَعَرَّضَ لِلْجَانِبَيْنِ تَأْكِيدًا؛ لِأَنَّهُ فِي بَيَانِ الْخِلَافِ. إلَّا أَنَّهَا مُطْلَقَةٌ. نَفَى الْعُمُومَ عَنْهَا وَأَثْبَتَ الْإِطْلَاقَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْعَامِّ أَنَّ الْمُطْلَقَ دَلَالَتُهُ عَلَى حَقِيقَةِ الشَّيْءِ وَمَاهِيَّتِه مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِقَيْدٍ زَائِدٍ وَالْعَامُّ هُوَ الدَّالُّ عَلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ مَعَ التَّعَرُّضِ لِلْكَثْرَةِ الْغَيْرِ الْمُتَعَيِّنَةِ كَالنَّاسِ فَالنَّكِرَةُ مُطْلَقَةٌ لَا عَامَّةٌ؛ لِأَنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى نَفْسِ الْحَقِيقَةِ دُونَ التَّكَثُّرِ. وَبَعْضُهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالنَّكِرَةِ فَقَالُوا الْمَاهِيَّةُ فِي ذَاتِهَا لَا وَاحِدَةً وَلَا لَا وَاحِدَةً وَلَا كَثِيرَةً وَلَا لَا كَثِيرَةً فَاللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِقَيْدٍ مَا هُوَ الْمُطْلَقُ. وَمَعَ التَّعَرُّضِ لِكَثْرَةٍ مُتَعَيِّنَةٍ أَلْفَاظُ الْأَعْدَادِ. وَلِكَثْرَةٍ غَيْرِ مُتَعَيِّنَةٍ هُوَ الْعَامُّ وَلِوَحْدَةٍ مُعَيَّنَةٍ الْمَعْرِفَةُ وَلِوَحْدَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ النَّكِرَةُ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْأُصُولِ كَمَا أَشَارَ الشَّيْخُ إلَيْهِ إذْ تَمْثِيلُ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ الْمُطْلَقَ بِالنَّكِرَةِ فِي كُتُبِهِمْ يُشْعِرُ بِعَدَمِ الْفَرْقِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هِيَ أَيْ النَّكِرَةُ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ تُوجِبُ الْعُمُومَ وَرَأَيْت فِي بَعْضِ كُتُبِهِمْ أَنَّ النَّكِرَةَ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ إذَا كَانَ خَبَرًا لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ كَقَوْلِك جَاءَنِي رَجُلٌ وَإِذَا كَانَ امْرَأً فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهَا لِلْعُمُومِ كَقَوْلِهِ أَعْتِقْ رَقَبَةً. وَذَكَرَ فِي الْقَوَاطِعِ وَغَيْرِهِ أَنَّهَا تَعُمُّ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ رَجُلٌ يَتَنَاوَلُ كُلَّ رَجُلٍ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ مِنْ صَاحِبِهِ وَلَيْسَ بِعَامٍّ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ وَعِبَارَةُ بَعْضِهِمْ يَعُمُّ مِنْ حَيْثُ الصَّلَاحِيَةُ لِكُلِّ فَرْدٍ فَمَنْ قَالَ بِالْعُمُومِ وَتَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ} [النحل: 40] الْآيَةَ فَإِنَّ قَوْلَهُ لِشَيْءٍ عَلَى الْعُمُومِ وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُرِدْ شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ قُدْرَتَهُ شَامِلَةٌ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ مُحِيطَةٌ بِهَا كُلِّهَا وَبِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] عَامٌّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ رَقَبَةٍ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِإِعْتَاقِ أَيُّهَا كَانَ وَلَوْلَا أَنَّهَا لِلْعُمُومِ

وَقَدْ جَعَلَ وُجُوبَ التَّحْرِيرِ جَزَاءَ الْأَمْرِ فَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لَهُ فَيَتَكَرَّرُ مُطْلَقًا بِتَكَرُّرِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَمَا كَانَ كَذَلِكَ كَذَا فِي الْمَحْصُولِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَبْلَ التَّخْصِيصِ حَتَّى خُصَّتْ الْعَمْيَاءُ وَالْمَجْنُونَةُ وَالْمُدَبَّرَةُ مِنْ الْجُمْلَةِ بِالْإِجْمَاعِ وَالتَّخْصِيصُ لَا يَرِدُ إلَّا عَلَى الْعَامِّ وَأَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحْسُنُ الِاسْتِثْنَاءُ بِإِلَّا بِأَنْ يَقُولَ أَعْتِقْ رَقَبَةً إلَّا أَنْ يَكُونَ كَافِرَةً أَوْ مَعِيبَةً وَيَقُولُ أَعْطِ هَذَا الدِّرْهَمَ فَقِيرًا إلَّا أَنْ يَكُونَ كَافِرًا وَالِاسْتِثْنَاءُ إخْرَاجُ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ وَلَوْلَا أَنَّهُ عَامٌّ لَمْ يُتَصَوَّرُ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكَافِرَةِ مِنْهَا بِالْقِيَاسِ عَلَى كَفَّارَةِ الْقَتْلِ إذْ الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ مِنْهُ يُخَصُّ بِالْقِيَاسِ بِالِاتِّفَاقِ وَقُلْنَا نَحْنُ هَذِهِ مُطْلَقَةٌ أَيْ الرَّقَبَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي النَّصِّ مُطْلَقَةٌ أَوْ النَّكِرَةُ الْمُفْرَدَةُ عَنْ دَلَائِلِ الْعُمُومِ مُطْلَقَةٌ لَا عَامَّةٌ؛ لِأَنَّهَا فُرَادَى مَوْضُوعَةٌ لِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْجُمْلَةِ صِيغَةً وَمَعْنًى أَمَّا صِيغَةً فَلِأَنَّهَا تُثَنَّى وَتُجْمَعُ. وَأَمَّا مَعْنًى فَلِأَنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى فَرْدٍ لَا عَلَى جَمْعٍ فَيُقَالُ رَقَبَةٌ مِنْ رِقَابٍ وَعَبْدٌ مِنْ عَبِيدٍ وَيُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا} [المزمل: 15] ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ الْوَاحِدُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ اللَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ رَقَبَةً لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا إعْتَاقُ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَذَلِكَ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] بِإِعْتَاقِ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَوْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ عَامًّا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ عُهْدَةِ النَّذْرِ وَالْأَمْرِ إلَّا بِإِعْتَاقِ ثَلَاثِ رِقَابٍ فَصَاعِدًا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّكِرَةَ إذَا أُعِيدَتْ نَكِرَةً كَانَتْ الثَّانِيَةُ غَيْرَ الْأُولَى لُغَةً وَلَوْ كَانَ إطْلَاقُ اسْمِ النَّكِرَةِ يُوجِبُ الْعُمُومَ وَلَمْ يَكُنْ الثَّانِيَةُ غَيْرَ الْأُولَى فَإِنَّ الْعَامَّ إذَا أُعِيدَ بِصِيغَتِهِ فَالثَّانِي لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا مَا تَنَاوَلَهُ الْأَوَّلُ بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الْجِنْسِ كَذَا فِي التَّقْوِيمِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ لِشَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا اسْمٌ لِفَرْدٍ تَتَنَاوَلُ وَاحِدًا وَلَكِنْ عَلَى احْتِمَالِ وَصْفٍ دُونَ وَصْفٍ إذْ الْمُطْلَقُ لَا يَتَعَرَّضُ لِلصِّفَاتِ أَصْلًا يَعْنِي يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا أَوْ كَافِرًا أَوْ مُؤْمِنًا أَوْ أَسْوَدَ أَوْ أَبْيَضَ أَوْ سِنْدِيًّا أَوْ هِنْدِيًّا إلَى غَيْرِهَا مِنْ الصِّفَاتِ لِعَدَمِ كَوْنِهِ مُتَعَيِّنًا وَبِمِثْلِهِ لَا يَثْبُتُ الْعُمُومُ إذْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ انْتِظَامِ جَمْعٍ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى وَلَمْ يُوجَدْ فَيَكُونُ مُطْلَقَةً لَا عَامَّةً وَالْمُطْلَقُ لَا يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ الْعَامِّ. وَقَوْلُهُ وَالْمُطْلَقُ يَحْتَمِلُ التَّقْيِيدَ تَنْبِيهٌ لِلْخَصْمِ عَلَى الْغَلَطِ وَمُزَلِّ الْقَدَمِ وَإِشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عِنْدَ عُدُولِهِ عَنْ الْعُمُومِ إلَى الْإِطْلَاقِ وَتَمَسُّكِهِ بِهِ يَعْنِي مَا ذَكَرْت مِنْ احْتِمَالِ التَّخْصِيصِ فِي النَّكِرَةِ الْمُطْلَقَةِ لَيْسَ بِثَابِتٍ وَلَكِنَّهَا تَحْتَمِلُ التَّقْيِيدَ فَإِنْ تَمَسَّكْت بِإِطْلَاقِهَا وَقُلْت لَمَّا كَانَتْ مُحْتَمِلَةً لِلتَّقْيِيدِ فَتَقَيُّدُهَا بِالْقِيَاسِ عَلَى كَفَّارَةِ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَاتِ جِنْسٌ وَاحِدٌ فَذَلِكَ فَاسِدٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ مَانِعٌ عَنْ الْعَمَلِ بِالْإِطْلَاقِ فَإِنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ رَقَبَةً كَافِرَةً فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ لَا يَجُوزُ عَنْ الْكَفَّارَةِ فَكَانَ نَسْخًا وَالنَّسْخُ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ فَلَا يَجُوزُ التَّقْيِيدُ بِهِ أَيْضًا. قَوْلُهُ (وَقَدْ جَعَلَ وُجُوبَ التَّحْرِيرِ) جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ الْأَمْرُ لَا يُوجِبُ التَّكْرَارَ وَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِشَرْطٍ أَوْ مُتَقَيِّدًا بِوَصْفٍ عَلَى مَا مَرَّ وَقَدْ تَكَرَّرَ وُجُوبُ التَّحْرِيرِ بِتَكَرُّرِ الْحِنْثِ وَالظِّهَارِ وَنَحْوِهِمَا فَعَرَفْنَا أَنَّ لَفْظَ رَقَبَةٍ عَامٌّ وَإِلَّا لَمْ يَسْتَقِمْ إيجَابُ التَّحْرِيمِ ثَانِيًا فَقَالَ: قَدْ جُعِلَ وُجُوبُ التَّحْرِيرِ جَزَاءً لِأَمْرٍ أَيْ لِشَأْنٍ وَهُوَ الْحِنْثُ وَالظِّهَارُ وَنَحْوُهُمَا بِدَلِيلِ دُخُولِ حَرْفِ الْفَاءِ فِيهِ فَصَارَ ذَلِكَ الْأَمْرُ سَبَبًا لِوُجُوبِ التَّحْرِيرِ فَيُكَرَّرُ وُجُوبُ التَّحْرِيرِ مُطْلَقًا أَيْ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ بِتَكَرُّرِ ذَلِكَ الْأَمْرِ الَّذِي صَارَ سَبَبًا لَهُ كَتَكَرُّرِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ بِتَكَرُّرِ الْوَقْتِ وَلَيْسَ تَكَرُّرِ الْحُكْمِ

فَإِنَّ ذَلِكَ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ إلَى الثَّلَاثَةِ وَالطَّائِفَةُ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ إلَى الْوَاحِدِ بِخِلَافِ الرَّهْطِ وَالْقَوْمِ وَصَارَ مُقَيَّدًا بِالْمِلْكِ لِاقْتِضَاءِ التَّحْرِيرِ وَالْمِلْكَ لَا عَلَى جِهَةِ الْخُصُوصِ وَلَمْ يَتَنَاوَلُ الزَّمِنَةَ؛ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ اسْمٌ لِلْبِنْيَةِ مُطْلَقًا فَوَقَعَتْ عَلَى الْكَامِلِ مِنْهُ الَّذِي هُوَ مَوْجُودٌ مُطْلَقٌ فَلِمَنْ يَتَنَاوَلُ مَا هُوَ هَالِكٌ مِنْ وَجْهٍ وَكَذَلِكَ التَّحْرِيرُ الْمُطْلَقُ لَا يَخْلُصُ فِيمَا هُوَ هَالِكٌ مِنْ وَجْهٍ فَلَمْ يَدْخُلْ الزَّمِنُ. فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا فَلَا ـــــــــــــــــــــــــــــQبِتَكَرُّرِ السَّبَبِ مِنْ بَابِ الْعُمُومِ فِي شَيْءٍ. قَوْلُهُ (وَصَارَ) أَيْ الْمَذْكُورُ وَهُوَ الرَّقَبَةُ مُقَيَّدًا بِالْمِلْكِ جَوَابُ سُؤَالٍ آخَرَ وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ إنَّ تَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ نَسْخٌ عِنْدَكُمْ وَقَدْ قُيِّدَتْ الرَّقَبَةَ بِالْمِلْكِ بِالرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ يُوجِبُهُ حَتَّى لَمْ يَجُزْ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ وَصَارَ كَأَنَّهُ قِيلَ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مَمْلُوكَةٍ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ النَّسْخُ فَنُقَيِّدُهَا بِوَصْفِ الْإِيمَانِ أَيْضًا بِالْقِيَاسِ وَالْخَبَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» فَقَالَ اشْتِرَاطُ الْمِلْكَ فِي الرَّقَبَةِ ثَبَتَ لِضَرُورَةِ التَّحْرِيرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَاقْتِضَائِهِ فَإِنَّ التَّحْرِيرَ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ وَمَا ثَبَتَ بِاقْتِضَاءِ النَّصِّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ بِعَيْنِ النَّصِّ وَالثَّانِي أَنْ يُقَالَ قَدْ خَصَّ غَيْرَ الْمَمْلُوكَةِ مِنْ هَذَا النَّصِّ كَمَا خُصَّتْ الزَّمِنَةُ حَتَّى لَمْ يَجُزْ إعْتَاقُ غَيْرِ الْمَمْلُوكَةِ كَمَا لَمْ يَجُزْ إعْتَاقُ الزَّمِنَةِ وَالتَّخْصِيصُ يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ فَقَالَ اشْتِرَاطُ الْمِلْكِ ثَبَتَ بِاقْتِضَاءِ النَّصِّ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيرَ الْوَاجِبَ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِالْمِلْكِ كَمَا لَا يَتَأَدَّى الصَّلَاةُ إلَّا بِالطَّهَارَةِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. «لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ» لَا بِطَرِيقِ التَّخْصِيصِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْعُمُومُ. قَوْلُهُ (وَلَمْ يَتَنَاوَلْ الزَّمِنَةَ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ خُصَّتْ الزَّمِنَةُ بِالْإِجْمَاعِ فَتَخُصُّ الْكَافِرَةَ أَيْضًا فَقَالَ التَّخْصِيصُ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا تَنَاوَلَ اللَّفْظُ إيَّاهُ ظَاهِرًا لَوْلَا الْمُخَصِّصُ وَهَذَا النَّصُّ لَا يَتَنَاوَلُ الزَّمِنَةَ فَلَا يَكُونُ عَدَمُ جَوَازِ إعْتَاقِهَا مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ بَلْ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِرَقَبَةٍ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ اسْمٌ لِلْبَيِّنَةِ مُطْلَقًا وَالْإِطْلَاقُ يَقْتَضِي الْكَمَالَ وَالزَّمِنَةُ قَائِمَةٌ مَنْ وَجْهٍ مُسْتَهْلَكَةٌ مِنْ وَجْهٍ فَلَا تَكُونُ قَائِمَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا مُطْلَقُ اسْمِ الرَّقَبَةِ وَكَذَلِكَ التَّحْرِيرُ الْمُطْلَقُ أَيْ الْكَامِلُ لَا يَخْلُصُ أَيْ لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا هُوَ هَالِكٌ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَتَنَاوَلُ الزَّمِنَ، وَلِهَذَا شَرَطَ كَمَالَ الرِّقِّ حَتَّى لَمْ يَجُزْ إعْتَاقُ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيرَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ مُطْلَقًا وَذَلِكَ إعْتَاقٌ كَامِلٌ ابْتِدَاءً وَإِعْتَاقُ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ تَعْجِيلٌ لِمَا صَارَ مُسْتَحَقًّا لَهُمَا مُؤَجَّلًا فَلَا يَكُونُ إعْتَاقًا مُبْتَدَأً مُطْلَقًا كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِالْآيَةِ فَهُوَ أَنَّ الْعُمُومَ ثَبَتَ فِي قَوْلِهِ لِشَيْءٍ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى لَا مِنْ طَرِيقِ اللَّفْظِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ مُتَسَاوِيَةٌ فِي قُدْرَتِهِ جَلَّ جَلَالُهُ فَإِذَا أَخْبَرَ عَنْ نُفُوذِ قُدْرَتِهِ فِي بَعَضِهَا فَقَدْ دَلَّ بِالْمَعْنَى عَلَى نُفُوذِ قُدْرَتِهِ فِي سَائِرِهَا وَمَا ذَكَرُوا مِنْ الْعُمُومِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ أَنَّ عِنْوَانَهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مَنْ الْجُمْلَةِ يَكُونُ فِي الصَّلَاحِيَةِ بَدَلًا عَنْ صَاحِبِهِ وَالدَّاخِلُ تَحْتَ اللَّفْظِ وَاحِدٌ مِنْهَا فَهُوَ مَذْهَبُنَا وَأَنَّ عُنْوَانَهُ أَنَّ اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُ عَلَى سَبِيلِ الِاجْتِمَاعِ وَالشُّمُولِ فَهُوَ فَاسِدٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الصِّيغَةَ وُضِعَتْ لِفَرْدٍ فَلَا يَتَنَاوَلُ الْعَدَدَ إلَّا بِقَرِينَةٍ كَذَا فِي الْمِيزَانِ وَأَمَّا تَمَسُّكُهُمْ بِالِاسْتِثْنَاءِ فَضَعِيفٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ إنْ صَحَّ اسْتِثْنَاءٌ حَقِيقِيٌّ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْحَقِيقِيِّ مَنْ أَنْ يَكُونَ صَدْرُ الْكَلَامِ مُتَنَاوِلًا لِلْمُسْتَثْنَى وَغَيْرِهِ حَقِيقَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَهُنَا؛ لِأَنَّ صَدْرَ الْكَلَامِ لَمْ يَتَنَاوَلْ إلَّا الْوَاحِدَ فَلَا يُمْكِنُ إخْرَاجُهُ عَنْهُ فَيَكُونُ بِمَعْنَى لَكِنْ وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ أَوْ يَكُونُ هَذَا اسْتِثْنَاءً مِنْ الْأَحْوَالِ أَيْ أَعْتِقْ رَقَبَةً وَاحِدَةً عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَتْ إلَّا فِي حَالَةِ الْكُفْرِ وَحِينَئِذٍ نُثْبِتُ الْأَحْوَالَ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ بِدَلَالَةِ الِاسْتِثْنَاءِ بِضَرُورَةِ صِحَّتِهِ فَأَمَّا إذَا عُدِمَ الِاسْتِثْنَاءُ بِلَا ضَرُورَةٍ فِي إثْبَاتِهَا مَعَ أَنَّهَا غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فَلَا يَثْبُتُ الْعُمُومُ قَوْلُهُ (وَصَارَ مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ الْخُصُوصُ) أَيْ التَّخْصِيصُ نَوْعَيْنِ بِالْيَاءِ لَا بِالْأَلِفِ كَمَا وَقَعَ

نَوْعَانِ الْوَاحِدُ فِيمَا هُوَ فَرْدٌ بِصِيغَتِهِ أَوْ مُلْحَقٌ بِالْفَرْدِ وَأَمَّا الْفَرْدُ فَمِثْلُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالْإِنْسَانِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ إنَّ الْخُصُوصَ يَصِحُّ إلَى أَنْ يُبْقِيَ الْوَاحِدَ وَأَمَّا الْفَرْدُ بِمَعْنَاهُ فَمِثْلُ قَوْلِهِ لَا يَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَلَا يَشْتَرِي الْعَبِيدَ أَنَّهُ يَصِحُّ الْخُصُوصُ حَتَّى يَبْقَى الْوَاحِدُ وَأَمَّا مَا كَانَ جَمْعًا صِيغَةً وَمَعْنًى مِثْلُ قَوْلِهِ إنْ اشْتَرَيْت عَبِيدًا أَوْ إنْ تَزَوَّجْت نِسَاءً أَوْ إنْ اشْتَرَيْت ثِيَابًا ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَهَهُنَا مَسْأَلَتَانِ: إحْدَاهُمَا بَيَانُ مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ جَوَازُ التَّخْصِيصِ وَالثَّانِيَةُ بَيَانُ أَقَلِّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اللَّفْظُ الْعَامُّ. أَمَّا الْأُولَى فَنَقُولُ قَدْ اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي الْغَايَةِ الَّتِي يَقَعُ انْتِهَاءُ التَّخْصِيصِ فِي أَلْفَاظِ الْعُمُومِ إلَيْهَا فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ إلَى التَّخْصِيصِ يَجُوزُ فِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ إلَى الْوَاحِدِ وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إلَى الثَّلَاثَةِ فِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ وَلَا يَجُوزُ إلَى مَا دُونَهَا إلَّا بِمَا يَجُوزُ بِهِ النَّسْخُ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ فَأَجَازَ فِي لَفْظَةِ مَنْ وَمَا وَنَحْوِهِمَا وَأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ الْمَعْرِفَةَ إلَى الْوَاحِدِ وَلَمْ يُجِزْ فِي الْمَجْمُوعِ الْمَعْرَفَةَ إلَّا إلَى الثَّلَاثَةِ وَمُخْتَارُ الشَّيْخِ أَنَّهُ يَجُوزُ إلَى الْوَاحِدِ فِي الْجَمْعِ إلَّا فِي الْجَمْعِ الْمُنَكَّرِ صِيغَةً وَمَعْنًى كَرِجَالٍ وَنِسَاءٍ أَوْ مَعْنًى بِلَا صِيغَةٍ كَرَهْطٍ وَقَوْمٍ لَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ فِيهِمَا إلَّا إلَى الثَّلَاثَةِ وَتَمَسَّكَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ التَّخْصِيصَ لَوْ امْتَنَعَ إلَى الْوَاحِدِ لَامْتَنَعَ التَّخْصِيصُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ لَكَانَ لِصَيْرُورَتِهِ مَجَازًا إذْ لَا مَانِعَ غَيْرَهُ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي جَمِيعِ صُوَرِ التَّخْصِيصِ وَمَا ذَكَرُوا مَبْنِيٌّ عَلَى اشْتِرَاطِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي الْعُمُومِ وَأَنَّهُ شَرْطٌ فِيهِ عِنْدَهُمْ فَالتَّخْصِيصُ يَجْعَلُهُ مَجَازًا فِيمَا دُونَهُ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ مِنْ أَقْسَامِ الْمَجَازِ وَتَعَلَّقَ الْفَرِيقُ الثَّانِي بِأَنَّ لَفْظَ الْعُمُومِ دَلَالَتُهُ عَلَى الْجَمْعِ وَأَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ عَلَى مَا بُيِّنَ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ إلَى مَا دُونَهَا؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِهِ عَنْ كَوْنِهِ دَالًّا عَلَى الْجَمْعِ فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ النَّسْخِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِمَا يَجُوزُ بِهِ النَّسْخُ أَلَا تَرَى أَنَّ لَفْظَ الْمُشْرِكِينَ لَا يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ بِحَالٍ فَلَا يَجُوزُ رَدُّهُ إلَى مَا لَا يَصْلُحُ لَهُ وَإِخْرَاجُهُ عَنْ مَوْضُوعِهِ وَاعْتَمَدَ مَنْ فَصَّلَ عَلَى أَنَّ التَّخْصِيصَ إلَى الْوَاحِدِ فِي لَفْظَةِ مَنْ لَا يُخْرِجُ اللَّفْظَ عَنْ مَوْضُوعِهِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا تَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ فَإِنَّهَا يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ وَالْجَمَاعَةَ فِي قَوْلِك مَنْ دَخَلَ دَارِي أَكْرَمْته فَيَجُوزُ التَّخْصِيصُ فِيهَا وَأَمْثَالُهَا إلَى الْوَاحِدِ بِخِلَافِ أَلْفَاظِ الْجُمُوعِ؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهَا فِي الْآحَادِ إخْرَاجٌ لَهَا عَنْ مَوْضُوعَاتِهَا فَلَا يَجُوزُ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ يُسَمَّى عَامًّا مَخْصُوصًا وَإِذَا خُصِّصَ إلَى اثْنَيْنِ أَوْ وَاحِدٍ لَمْ يَجُزْ تَسْمِيَتُهُ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ. وَلَنَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ لَفْظَ الْعُمُومِ دَلَالَتُهُ عَلَى الْجَمْعِ وَالتَّخْصِيصِ لَا يُخْرِجُ الْعَامَّ عَنْ حَقِيقَتِهِ لِبَقَاءِ مَعْنَى الْجَمْعِ فِيهِ بَعْدُ، بَلْ هُوَ تَبْيِينُ أَنَّ اللَّفْظَ مَصْرُوفٌ إلَى بَعْضِ وُجُوهِ الْحَقِيقَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّمَسُّكَ بِهِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ جَازَ لِبَقَاءِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ بِالْوَضْعِ عَلَى أَفْرَادٍ مُجْتَمِعَةٍ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ إلَّا أَنَّ دَلَالَتَهُ قَبْلَ التَّخْصِيصِ كَانَتْ عَلَى أَكْثَرَ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ بَعْدَهُ فَإِذَا آلَ أَمْرُ التَّخْصِيصِ إلَى إخْرَاجِ الْكَلَامِ عَنْ مَوْضُوعِهِ وَحَقِيقَتِهِ لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ نَسْخًا وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّسْخَ لَا يَجُوزُ إلَّا مُتَرَاخِيًا بِالِاتِّفَاقِ وَالتَّخْصِيصُ يَجُوزُ مُتَّصِلًا وَمُتَرَاخِيًا عِنْدَ الْعَامَّةِ وَلَا يَجُوزُ إلَّا مُتَّصِلًا عِنْدَنَا وَإِذَا كَانَ نَسْخًا لَا يَجُوزُ إلَّا بِمَا يَجُوزُ بِهِ النَّسْخُ كَمَا لَا يَجُوزُ إلَى مَا دُونَ الْوَاحِدِ فِي جَمِيعِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ إلَّا بِمَا يَجُوزُ بِهِ النَّسْخُ بِالِاتِّفَاقِ وَهَذَا بِخِلَافِ اسْمِ الْجِنْسِ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ حَيْثُ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ إلَى الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ دَلَالَتَهُ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ عَلَى الْفَرْدِ وَالْعُمُومُ فِيهِ ضِمْنِيٌّ فَبِالتَّخْصِيصِ إلَى الْوَاحِدِ لَا يَخْرُجُ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَكَذَا الْجُمُوعُ الْمُعَرَّفَةُ صَارَتْ فِي حُكْمِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ فَيَجُوزُ تَخْصِيصُهَا إلَى الْوَاحِدِ أَيْضًا. قَوْلُهُ (وَصَارَ مَا يَنْتَهِي) يَعْنِي لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ أَلْفَاظَ الْعُمُومِ عَلَى قِسْمَيْنِ بَعْضُهَا يَنْطَلِقُ عَلَى الثَّلَاثَةِ فَصَاعِدًا إلَّا عَلَى مَا دُونَهَا بِطَرِيقِ

وَهَذَا؛ لِأَنَّ أَدْنَى الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ نَصُّ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَعَلَى هَذَا عَامَّةُ مَسَائِلِ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إنَّ أَدْنَى الْجَمْعِ اثْنَانِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» وَلِأَنَّ اسْمَ الْأُخُوَّةِ يَنْطَلِقُ عَلَى الِاثْنَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] وَصَارَ مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ الْخُصُوصَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْحَقِيقَةِ وَبَعْضُهَا يَنْطَلِقُ عَلَى الْوَاحِدِ فَصَاعِدًا صَارَ غَايَةُ التَّخْصِيصِ نَوْعَيْنِ ضَرُورَةُ الْوَاحِدِ وَالثَّلَاثَةِ. قَوْلُهُ (فَإِنَّ ذَلِكَ) أَيْ قَوْلُهُ عَبِيدًا وَأَمْثَالُهُ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ إلَى الثَّلَاثَةِ وَطَرِيقُهُ أَنَّ دَلِيلَ الْعَقْلِ يُبَيِّنُ أَنَّ الْكُلَّ لَيْسَ بِمُرَادٍ وَأَنَّ مَا دُونَ الْكُلِّ إلَى الثَّلَاثَةِ لَا يُمْكِنُ تَرْجِيحُ بَعْضِهِ عَلَى الْبَعْضِ لِاسْتِحَالَةِ التَّرْجِيحِ بِلَا مُرَجِّحٍ فَتَعَيَّنَتْ الثَّلَاثَةُ مُرَادًا لِلتَّيَقُّنِ بِهَا فَكَانَ هَذَا الدَّلِيلُ مُخَصِّصًا لِمَا وَرَاءَ الثَّلَاثَةِ إلَى الْكُلِّ. قَوْلُهُ (وَهَذَا؛ لِأَنَّ أَدْنَى الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ) وَلَمَّا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مَبْنِيَّةً عَلَى الثَّانِيَةِ وَهِيَ مَعْرِفَةُ أَقَلِّ الْجَمْعِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ جَوَازِ التَّخْصِيصِ إلَى مَا وَرَاءَ الثَّلَاثَةِ فِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ عِنْدَ الْبَعْضِ وَفِي الْجَمْعِ الْمُنَكَّرِ عِنْدَنَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ شَرَعَ فِي بَيَانِهَا فَقَالَ وَهَذَا أَيْ انْتِهَاءُ التَّخْصِيصِ إلَى الثَّلَاثَةِ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ النَّظَائِرِ مِنْ قَوْلِهِ عَبِيدًا وَنِسَاءً وَثِيَابًا وَأَمْثَالَهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ وَهُوَ مَذْهَبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعُثْمَانَ وَأَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَأَهْلِ اللُّغَةِ وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَعَامَّةُ الْأَشْعَرِيَّةِ إلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَذَا ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ نِفْطَوَيْهِ مِنْ النَّحْوِيِّينَ ثُمَّ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ صِيَغِ الْجُمُوعِ فِي الِاثْنَيْنِ مَجَازًا فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ عَنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِي جَوَازِ التَّخْصِيصِ إلَى اثْنَيْنِ وَعَدَمِهِ وَفِيمَا إذَا قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِدَرَاهِمَ أَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ أَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ عَلَى فُقَرَاءَ أَوْ مَسَاكِينَ يَقَعُ عَلَى الْأَقَلِّ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ الثَّلَاثَةُ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالِاثْنَانِ عِنْدَ غَيْرِهِمْ تَمَسَّكَ مَنْ قَالَ بِأَنَّ صِيَغَ الْجُمُوعِ حَقِيقَةٌ فِي الِاثْنَيْنِ كَمَا فِي الثَّلَاثَةِ بِالسَّمْعِ وَالْعَقْلِ وَاسْتِعْمَالُ أَرْبَابِ اللِّسَانِ وَالْحُكْمِ أَمَّا السَّمْعُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 78] إلَى قَوْلِهِ {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] أُرِيدَ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ دَاوُد وَسُلَيْمَانُ وقَوْله تَعَالَى {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص: 21] {إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 22] فَاسْتَعْمَلَ فِي الِاثْنَيْنِ ضَمِيرَ الْجَمْعِ وَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] ، وَالْمُرَادُ قَلْبَاكُمَا وَقَوْلُهُ جَلَّ جَلَالُهُ {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 15] وَالْمُرَادُ مُوسَى وَهَارُونُ وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ إخْبَارًا عَنْ يَعْقُوبَ {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف: 83] وَالْمُرَادُ يُوسُفُ وَبِنْيَامِينُ. وَقَوْلُهُ {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] وَالْأَخَوَانِ يَحْجُبَانِهَا إلَى السُّدُسِ كَالثَّلَاثَةِ وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» وَهُوَ أَفْصَحُ الْعَرَبِ وَلَوْ نُقِلَ هَذَا عَنْ وَاحِدٍ مِنْ الْأَعْرَابِ لَكَانَ حُجَّةً فَمِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ أَوْلَى وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ اسْمَ الْجَمَاعَةِ حَقِيقَةً فِيمَا فِيهِ مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الِاثْنَيْنِ كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الثَّلَاثَةِ فَيَصِحُّ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ اسْمُ الْجَمْعِ حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَ مَعْنَى الْجَمْعِ فِي الثَّلَاثَةِ أَكْثَرَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّلَاثَةَ جَمْعٌ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ فِيمَا وَرَاءَ الثَّلَاثَةِ أَكْثَرَ وَنَظِيرُهُ الْجِسْمُ لَمَّا كَانَ عِبَارَةً عَنْ اجْتِمَاعِ أَجْزَاءٍ وَتَرَكُّبِهَا كَانَ أَقَلُّ الْجِسْمِ جَوْهَرَيْنِ لِوُجُودِ مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ وَالتَّرَكُّبِ فِيهِمَا وَإِنْ كَانَ الِاجْتِمَاعُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ أَكْثَرُ وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ أَرْبَابِ اللِّسَانِ فَإِنَّهُمْ يُسْتَعْلَمُونَ صِيغَةَ الْجَمْعِ فِي الِاثْنَيْنِ كَاسْتِعْمَالِهِمْ إيَّاهَا فِي الثَّلَاثَةِ فَإِنَّ الِاثْنَيْنِ يَقُولَانِ نَحْنُ فَعَلْنَا كَذَا وَنَحْنُ نَفْعَلُ كَذَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَأَمَّا الْحُكْمُ فَهُوَ أَنَّ لِلْمُثَنَّى حُكْمَ

وَفِي الْمَوَارِيثِ وَالْوَصَايَا يُصْرَفُ الْجَمْعُ إلَى الْمُثَنَّى وَيُسْتَعْمَلُ الْمُثَنَّى اسْتِعْمَالَ الْجَمْعِ فِي اللُّغَةِ يُقَالُ نَحْنُ فَعَلْنَا فِي الِاثْنَيْنِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْإِمَامَ يَتَقَدَّمُ إذَا كَانَ خَلْفَهُ اثْنَانِ وَفِي الْمُثَنَّى اجْتِمَاعٌ كَمَا فِي الثَّلَاثَةِ وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْوَاحِدُ شَيْطَانٌ وَالِاثْنَانِ شَيْطَانَانِ وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ» وَلَنَا أَيْضًا دَلِيلٌ مِنْ قِبَلِ الْإِجْمَاعِ وَدَلِيلٌ مِنْ قِبَلِ الْمَعْقُولِ فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ آحَادٌ وَمُثَنَّى وَجَمْعٌ وَعَلَى ذَلِكَ بُنِيَتْ أَحْكَامُ اللُّغَةِ فَلِلْمُثَنَّى صِيغَةٌ خَاصَّةٌ لَا يَخْتَلِفُ وَلِلْوُحْدَانِ بِنْيَةٌ مُخْتَلِفَةٌ وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ أَيْضًا يَخْتَلِفُ أَبْنِيَتُهُ وَلَيْسَ لِلْمُثَنَّى إلَّا مِثَالٌ وَاحِدٌ وَلَهُ عَلَامَاتٌ عَلَى الْخُصُوصِ وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى الْوَاحِدِ فَثَبَتَ أَنَّهُ قِسْمٌ مُنْفَرِدٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْجَمَاعَةِ فِي الْمَوَارِيثِ وَالْوَصَايَا حَتَّى كَانَ لِلِاثْنَتَيْنِ مِنْ الْمِيرَاثِ مَا لِلثَّلَاثِ فَصَاعِدًا وَلَوْ أَوْصَى لِأَقْرِبَاءِ فُلَانٍ يَتَنَاوَلُ الْمُثَنَّى فَصَاعِدًا وَكَذَا الْإِمَامُ يَتَقَدَّمُ عَلَى اثْنَيْنِ كَمَا يَتَقَدَّمُ عَلَى الثَّلَاثَةِ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُثَنَّى مُلْحَقٌ بِالثَّلَاثَةِ فِي صِحَّةِ إطْلَاقِ صِيغَةِ الْجَمْعِ عَلَيْهِ. وَمَنْ مَنَعَ اسْتِعْمَالَ أَبْنِيَةِ الْجَمْعِ فِي الِاثْنَيْنِ مَجَازًا قَالَ لَوْ صَحَّ إطْلَاقُ اسْمِ الرِّجَالِ عَلَى الرَّجُلَيْنِ لَصَحَّ نَعْتُ أَحَدِهِمَا بِمَا نُعِتَ بِهِ الْآخَرُ فَيُقَالُ جَاءَنِي رَجُلَانِ عَاقِلُونَ وَرِجَالٌ عَاقِلَانِ؛ لِأَنَّهُمَا كَشَيْءٍ وَاحِدٍ وَتَمَسَّكَ الْجُمْهُورُ بِمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ وَبِمَا سَنَذْكُرُهُ وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ وَيُسْتَعْمَلُ الْمُثَنَّى اسْتِعْمَالَ الْجَمْعِ بِضَمِّ الْيَاءِ مِنْ مَقْلُوبِ الْكَلَامِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ عَرَضْت النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ أَيْ يُسْتَعْمَلُ الْجَمْعُ اسْتِعْمَالَ الْمُثَنَّى أَيْ فِي مَحَلٍّ يَجِبُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِيهِ التَّثْنِيَةَ أَوْ هُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ يَسْتَعْمِلُ الِاثْنَانِ مَا يَسْتَعْمِلُهُ الْجَمْعُ فَيَقُولَانِ نَحْنُ فَعَلْنَا كَمَا يَقُولُهُ الْجَمْعُ أَوْ مَعْنَاهُ يُسْتَعْمَلُ التَّثْنِيَةُ عَلَى هَيْئَةِ الْجَمْعِ فَيُقَالُ نَحْنُ فَعَلْنَا فِي اثْنَيْنِ كَمَا يُقَالُ كَذَلِكَ فِي الْجَمْعِ. قَوْلُهُ (وَفِي الْمَوَارِيثِ) أَيْ حَجْبًا وَاسْتِحْقَاقًا بِصَرْفِ الْجَمْعِ إلَى الْمُثَنَّى، إمَّا حَجْبًا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11] كَمَا ذَكَرْنَا، وَإِمَّا اسْتِحْقَاقًا فَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء: 11] صُرِفَ لَفْظُ النِّسَاءِ إلَى اثْنَتَيْنِ مَعَ تَأَكُّدِهِ بِقَوْلِهِ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ. قَوْلُهُ (- عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ) أَيْ جَمَاعَةٌ فَصَلَ بَيْنَ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ وَأَلْحَقَهَا بِالْوَاحِدِ دُونَ الْجَمْعِ فَعُلِمَ أَنَّ التَّثْنِيَةَ لَيْسَتْ بِجَمْعٍ حَقِيقَةً وَلَا يُقَالُ الِاتِّحَادُ فِي الْحُكْمِ لَا يُوجِبُ الِاتِّحَادَ فِي الْحَقِيقَةِ حَتَّى كَانَ الْمُثَنَّى غَيْرَ الْوَاحِدِ حَقِيقَةً وَإِنْ اتَّحَدَا حُكْمًا فَكَذَا التَّفْرِقَةُ فِي الْحُكْمِ لَا يَدُلُّ عَلَى الِافْتِرَاقِ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الِافْتِرَاقُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ يُوجِبُ الْمُغَايَرَةَ بَيْنَهُمَا فِيمَا ثَبَتَ فِيهِ الِافْتِرَاقُ لَا مَحَالَةَ وَهُنَا ثَبَتَ الِافْتِرَاقُ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِ الْجَمْعِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الرَّكْبِ الْجَمَاعَةُ لُغَةً فَثَبَتَتْ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْمَعْنَى ضَرُورَةً فَصَارَ الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قِيلَ الْوَاحِدُ لَيْسَ بِرَكْبٍ وَالِاثْنَانِ لَيْسَتَا بِرَكْبٍ أَيْ بِجَمْعٍ وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ أَيْ جَمْعٌ وَعَلَى ذَلِكَ أَيْ عَلَى الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ بُنِيَتْ أَحْكَامُ اللُّغَةِ اسْمًا وَصِفَةً وَمُظْهَرًا وَمُضْمَرًا فَقَالُوا رَجُلٌ رَجُلَانِ رِجَالٌ وَقَالُوا عَالِمٌ عَالِمَانِ عُلَمَاءُ. وَقَالُوا هُوَ فَعَلَ كَذَا هُمَا فَعَلَا كَذَا هُمْ فَعَلُوا كَذَا وَلَمَّا قَسَّمُوهُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ وَسَمَّوْا كُلَّ قِسْمٍ بِاسْمٍ عَلَى حِدَةٍ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَغَايُرِهَا؛ لِأَنَّ تَبَدُّلَ الِاسْمِ يَدُلُّ عَلَى تَبَدُّلِ الْمُسَمَّى عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَضَعُوا لِمَا وَرَاءَ الثَّلَاثَةِ اسْمًا عَلَى حِدَةٍ كَانَ الْكُلُّ فِي الدُّخُولِ تَحْتَ صِيغَةِ الْجَمْعِ عَلَى السَّوَاءِ. قَوْلُهُ (وَلَهُ عَلَامَاتٌ عَلَى الْخُصُوصِ) مِثْلُ الْأَلِفِ وَالنُّونِ الْمَكْسُورَةِ فِي حَالَةِ الرَّفْعِ وَالْيَاءِ السَّاكِنَةِ الْمَفْتُوحِ مَا قَبْلَهَا وَالنُّونِ الْمَكْسُورَةِ فِي حَالَتَيْ الْجَرِّ وَالنَّصْبِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثُمَّ لِلْوَاحِدِ أَبْنِيَةٌ مُخْتَلِفَةٌ وَكَذَلِكَ لِلْجَمْعِ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلتَّثْنِيَةِ إنَّمَا لَهَا عَلَامَةٌ مَخْصُوصَةٌ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُثَنَّى غَيْرُ الْجَمَاعَةِ. قَالَ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ لَا يَتَنَاوَلُ الِاثْنَيْنِ أَنَّهُ لَا يُنْعَتُ بِالِاثْنَيْنِ وَيُنْعَتُ بِالثَّلَاثَةِ فَإِنَّهُ يُقَالُ رَأَيْت رِجَالًا ثَلَاثَةً وَلَا يُقَالُ رِجَالًا اثْنَيْنِ وَيُقَالُ أَيْضًا جَمَاعَةُ رِجَالٍ وَلَا يُقَالُ جَمَاعَةُ رَجُلَيْنِ فَإِذَا كَانَ لَا يُنْعَتُ بِالِاثْنَيْنِ بِحَالٍ عَرَفْنَا أَنَّ اسْمَ الْجَمْعِ لَا يَتَنَاوَلُهُمَا بِحَالٍ وَكَذَا لَا يُضَافُ الْعَدَدُ إلَى التَّثْنِيَةِ فَلَا يُقَالُ اثْنَا رَجُلَيْنِ وَيُضَافُ إلَى الْجَمْعِ فَيُقَالُ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ وَأَرْبَعَةُ رِجَالٍ فَلَوْ كَانَ حُكْمُ الِاثْنَيْنِ حُكْمَ الْجَمْعِ لَجَازَتْ إضَافَةُ الْعَدَدِ إلَى التَّثْنِيَةِ كَمَا جَازَتْ إلَى الْجَمْعِ كَذَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ بَيَانِ حَقَائِقِ حُرُوفِ الْمَعَانِي

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَإِنَّ الْوَاحِدَ إذَا أُضِيفَ إلَيْهِ الْوَاحِدُ تَعَارَضَ الْفَرْدَانِ فَلَمْ يَثْبُتْ الِاتِّحَادُ وَلَا الْجَمْعُ وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ فَإِنَّمَا يُعَارِضُ كُلَّ فَرْدٍ اثْنَانِ فَسَقَطَ مَعْنَى الِاتِّحَادِ أَصْلًا وَقَدْ جَعَلَ الثَّلَاثَةَ فِي الشَّرْعِ حَدًّا فِي إيلَاءِ الْأَعْذَارِ فَأَمَّا الْحَدِيثُ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْمَوَارِيثِ وَالْوَصَايَا أَوْ عَلَى سُنَّةِ تَقَدُّمِ الْإِمَامِ فِي الْجَمَاعَةِ أَنَّهُ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْمُثَنَّى كَمَا يَتَقَدَّمُ عَلَى الثَّلَاثَةِ وَفِي الْمَوَارِيثِ ثَبَتَ الِاخْتِصَاصُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176] ـــــــــــــــــــــــــــــQوَلِأَنَّ الثَّلَاثَةَ فَصَاعِدًا يَتَبَادَرُ إلَى الْفَهْمِ عِنْدَ سَمَاعِ صِيغَةِ الْجَمْعِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ دُونَ الِاثْنَيْنِ وَالسَّبَقُ إلَى الْفَهْمِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ دَلِيلُ الْحَقِيقَةِ. وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ نَفْيُ اسْمِ الْجَمْعِ عَنْ الِاثْنَيْنِ دُونَ الثَّلَاثَةِ فَصَاعِدًا فَيُقَالُ مَا فِي الدَّارِ رِجَالٌ بَلْ رَجُلَانِ وَمَا رَأَيْتُ جَمْعًا بَلْ رَأَيْت اثْنَيْنِ وَلَا يُقَالُ مَا فِي الدَّارِ رِجَالٌ بَلْ ثَلَاثَةٌ وَصِحَّةُ النَّفْيِ وَعَدَمُ صِحَّتِهِ مِنْ أَمَارَاتِ الْمَجَازِ وَالْحَقِيقَةِ وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْإِمَامُ مِنْ الْجَمَاعَةِ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ بِالِاتِّفَاقِ وَالتَّقَدُّمُ مِنْ سُنَّةِ الْجَمَاعَةِ بِالِاتِّفَاقِ فَإِجْمَاعُهُمْ عَلَى تَرْكِ التَّقَدُّمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِجَمْعٍ وَأَنَّهُ قِسْمٌ مُنْفَرِدٌ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَإِنَّ الْوَاحِدَ إذَا أُضِيفَ) أَيْ ضُمَّ إلَيْهِ الْوَاحِدُ تَعَارَضَ الْفَرْدَانِ أَيْ امْتَنَعَ كُلُّ وَاحِدٍ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ صَيْرُورَتِهِ تَبَعًا لِلْآخَرِ فَلَمْ يَثْبُتْ الِاتِّحَادُ لِوُجُودِ الِانْضِمَامِ وَلَمْ يَثْبُتْ الْجَمْعُ أَيْضًا لِبَقَاءِ مَعْنَى الْفَرْدِيَّةِ مَنْ وَجْهٍ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ اسْتِتْبَاعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ فَإِنَّمَا يُعَارِضُ أَيْ يُقَابِلُ كُلَّ فَرْدٍ اثْنَانِ فَيَسْتَتْبِعَانِهِ وَيَصِيرُ الْكُلُّ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فَلَمْ يَبْقَ مَعْنَى الِاتِّحَادِ بِوَجْهٍ وَكَمَلَ مَعْنَى الْجَمْعِ فَتُطْلَقُ عَلَيْهِ الصِّيغَةُ الْمَوْضُوعَةُ لِلْجَمْعِ حَقِيقَةً وَبِهَذَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا قَالُوا فِي الْمُثَنَّى مَعْنَى الْجَمْعِ كَمَا فِي الثَّلَاثَةِ فَيَصِحُّ إطْلَاقُ صِيغَةِ الْجَمْعِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الصِّيغَةِ عَلَى الثَّلَاثَةِ لَيْسَ لِنَفْسِ الِاجْتِمَاعِ بَلْ لِاجْتِمَاعٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ فِيهِ مَعْنَى تَعَارُضِ الْأَفْرَادِ عَلَى التَّسَاوِي وَذَلِكَ فِي الثَّلَاثَةِ دُونَ الِاثْنَيْنِ وَاللُّغَةُ عَلَى مَا وَرَدَ لَا عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقِيَاسُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاحِدَ يُوجَدُ فِيهِ مَعْنَى الْجَمْعِ وَهُوَ ضَمُّ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ إلَى بَعْضٍ؛ لِأَنَّهُ مُتَرَكِّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ. قَوْلُهُ (فِي إبْلَاءِ الْأَعْذَارِ) أَيْ إظْهَارِهَا كَإِمْهَالِ الْقَاضِي لِلْخَصْمِ لِدَفْعِ الْحُجَّةِ مُقَدَّرٌ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَكَذَا إمْهَالُ الْمُرْتَدِّ لِلتَّأَمُّلِ وَكَمُدَّةِ الْمَسْحِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ وَمُدَّةِ أَقَلِّ الْحَيْضِ مُقَدَّرَةٌ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَكَمُدَّةِ التَّحْجِيرِ مُقَدَّرَةٌ بِثَلَاثِ سِنِينَ وَكَمَا فِي قِصَّةِ مُوسَى مَعَ صَاحِبِهِ وَقِصَّةِ صَالِحٍ وَلَوْ كَانَ الِاثْنَانِ جَمْعًا لَمْ يَكُنْ لِلتَّجَاوُزِ عَنْهُ مَعْنًى بِدُونِ دَلِيلٍ يُخَصِّصُ الثَّلَاثَةَ؛ لِأَنَّ مَا وَرَاءَ أَقَلِّ الْجَمْعِ يُسَاوِي بَعْضُهُ بَعْضًا وَلَمَّا فَرَغَ عَنْ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى مُدَّعَاهُ شَرَعَ فِي الْجَوَابِ عَنْ كَلِمَاتِ الْخُصُوصِ فَقَالَ فَأَمَّا الْحَدِيثُ يَعْنِي قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» فَمَحْمُولٌ عَلَى الْمَوَارِيثِ يَعْنِي لِلِاثْنَيْنِ حُكْمُ الْجَمْعِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ حَتَّى كَانَ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ كَالثَّلَاثِ أَوْ عَلَى سُنَّةِ تَقَدُّمِ الْإِمَامِ يَعْنِي يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّ الْإِمَامَ يَتَقَدَّمُ عَلَى الِاثْنَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ عَلَى الثَّلَاثَةِ بِخِلَافِ الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ يُقِيمُهُ عَنْ يَمِينِهِ وَبِخِلَافِ مَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى الِاثْنَيْنِ بَلْ يُقِيمُ وَاحِدًا عَنْ يَمِينِهِ وَوَاحِدًا عَنْ يَسَارِهِ وَإِنَّمَا يَتَقَدَّمُ عَلَى الثَّلَاثَةِ فَصَاعِدًا أَوْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ لِلِاثْنَيْنِ حُكْمَ الْجَمَاعَةِ فِي إحْرَازِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ وَانْعِقَادِهَا إذْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَبْعُوثٌ لِتَعْلِيمِ الْأَحْكَامِ لَا لِبَيَانِ اللُّغَاتِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَا يَصِحُّ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ كَذَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ وَغَيْرُهُ وَقَوْلُهُ. وَفِي الْمَوَارِيثِ ثَبَتَ الِاخْتِصَاصُ جَوَابُ سُؤَالٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لِمَ اخْتَصَّ الْمَوَارِيثَ مِنْ سَائِرِ الْأَحْكَامِ بِأَنْ يَكُونَ لِلِاثْنَيْنِ فِيهَا حُكْمُ الْجَمْعِ فَقَالَ إنَّمَا ثَبَتَ الِاخْتِصَاصُ فِيهَا بِكَذَا أَوْ هُوَ جَوَابٌ عَنْ كَلَامِهِمْ أَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ صُرِفَتْ إلَى الْمُثَنَّى فِي الْمَوَارِيثِ وَالْوَصَايَا

وَالْحَجْبُ يَبْتَنِي عَلَى الْإِرْثِ أَيْضًا وَالْوَصِيَّةُ تَبْتَنِي عَلَيْهِ أَيْضًا وَالثَّانِي قُلْنَا أَنَّ الْخَبَرَ مَحْمُولٌ عَلَى ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ حَيْثُ نَهَى الْوَاحِدَ عَنْ الْمُسَافَرَةِ وَأَطْلَقَ الْجَمَاعَةَ عَلَى مَا رَوَيْنَا فَإِذَا ظَهَرَ قُوَّةُ الْمُسْلِمِينَ قَالَ الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْحَجْبِ فَقَالَ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْمَوَارِيثِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176] أَيْ إنْ كَانَتْ الْأُخْتَانِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ اثْنَتَيْنِ فَأَثْبَتَ لِلْأُخْتَيْنِ ثُلُثَيْ الْمَالِ تَصْرِيحُ هَذَا النَّصِّ وَقَدْ ثَبَتَ بَدَلًا لَهُ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] أَنْ لَيْسَ لِمَا فَوْقَ الْأُخْتَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ الثُّلُثَيْنِ فَعَرَفْنَا أَنَّ لِلِاثْنَتَيْنِ حُكْمَ الْجَمْعِ فِي الْأَخَوَاتِ وَلَمَّا كَانَ لِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَانِ مَعَ أَنَّ قَرَابَتَهُمَا مُتَوَسِّطَةٌ إذْ هِيَ قُرْبَةُ مُجَاوَرَةٍ فَلَأَنْ يَكُونَ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ مَعَ أَنَّ قَرَابَتَهُمَا قَرِيبَةٌ إذْ هِيَ قَرَابَةُ حُرُوبَةٍ كَانَ أَوْلَى فَثَبَتَ أَنَّ لِلْبِنْتَيْنِ حُكْمَ الثَّلَاثِ بِهَذَا النَّصِّ أَيْضًا وَلَيْسَ فِي الْمَوَارِيثِ صُورَةٌ أُخْرَى أَلْحَقَ فِيهِ الْإِتْيَانَ بِالْجَمْعِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ سِوَى الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ فَكَانَ هَذَا النَّصُّ مُوجِبًا لِإِلْحَاقِ الِاثْنَتَيْنِ بِالثَّلَاثِ فَلِهَذَا حُمِلَ الْحَدِيثُ عَلَيْهِ أَوْ كَانَ هَذَا النَّصُّ هُوَ الْمُوجِبُ لِاسْتِحْقَاقِ الِاثْنَتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ لَا النَّصُّ الْوَارِدُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء: 11] وَالْحَاصِلُ أَنَّ النِّزَاعَ لَمْ يَقَعْ فِيمَا يُفِيدُ فَائِدَةَ الْجَمْعِ بَلْ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الرِّجَالِ وَالْمُسْلِمِينَ فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ. قَوْلُهُ (وَالْحَجْبُ يُبْتَنَى عَلَى الْإِرْثِ أَيْضًا) يَعْنِي لَمَّا كَانَ لِلْمُثَنَّى حُكْمُ الْجَمْعِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ كَانَ لَهُ حُكْمُ الْجَمْعِ أَيْضًا فِي الْحَجْبِ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِرْثِ فَإِنَّ الْحَاجِبَ يَكُونُ وَارِثًا بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْقُوَّةِ حَتَّى لَا يُحْجَبَ الْمَحْرُومُ عِنْدَ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ مَذْهَبُنَا أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَجْبَ لَا يَتَحَقَّقُ حِينَ لَا إرْثَ فَكَانَ الْحَجْبُ مَبْنِيًّا عَلَى الْإِرْثِ فَيَثْبُتُ لِلِاثْنَيْنِ فِيهِ حُكْمُ الْجَمْعِ أَيْضًا فَأَيْضًا يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ فِي الْوَجْهَيْنِ كَمَا تَرَى عَلَى أَنَّا نَقُولُ ثَبَتَ الْحَجْبُ بِالْأَخَوَيْنِ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ لَا بِالنَّصِّ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لِعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حِينَ رَدَّ الْأُمَّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ بِالْأَخَوَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] وَالْأَخَوَانِ لَيْسَا بِإِخْوَةٍ فِي لِسَانِ قَوْمِك قَالَ نَعَمْ وَلَكِنْ لَا أَسْتَجِيزُ أَنْ أُخَالِفَهُمْ فِيمَا رَأَوْا وَفِي رِوَايَةٍ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْقُضَ أَمْرًا كَانَ قَبْلِي وَتَوَارَثَهُ النَّاسُ فَلَوْلَا أَنَّ مُقْتَضَى اللِّسَانِ أَنَّ الْأَخَوَيْنِ لَيْسَا بِإِخْوَةٍ حَقِيقَةً لَمَا احْتَجَّ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى عُثْمَانَ وَلَأَنْكَرَ عَلَيْهِ عُثْمَانُ وَلَمَا عَدَلَ إلَى التَّأْوِيلِ فَلَمَّا لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ وَعَدَلَ إلَى التَّأْوِيلِ وَقَدْ كَانَا مِنْ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَخَوَيْنِ لَيْسَا إخْوَةً حَقِيقَةً وَأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ وَهُوَ الْحَجْبُ بِالِاثْنَيْنِ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ لَا بِالنَّصِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَجْبَ يَثْبُت بِالْأَخَوَاتِ الْمُفْرَدَاتِ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَإِنَّ اسْمَ الْإِخْوَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْأَخَوَاتِ الْمُفْرَدَاتِ بِحَالٍ. قَوْلُهُ (وَالثَّانِي) أَيْ التَّأْوِيلُ الثَّانِي لِذَلِكَ الْخَبَرِ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى إبَاحَةِ السَّفَرِ لِلِاثْنَيْنِ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ لِلْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ كَانَ مَنْهِيًّا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ مُطْلَقًا لِلْجَمَاعَةِ عَلَى مَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْوَاحِدُ شَيْطَانٌ وَالِاثْنَانِ شَيْطَانَانِ وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ» إذْ فِيهِ نَهْيٌ بِطَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ عَنْ اخْتِيَارِ حَالَةٍ تَسْتَحِقُّ اسْمَ الشَّيْطَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْكُفَّارِ فَإِذَا كَانُوا جَمَاعَةً سَلَّمُوا غَالِبًا لِقُوَّتِهِمْ فَإِذَا ظَهَرَ قُوَّةُ الْمُسْلِمِينَ قَالَ الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ يَعْنِي فِي جَوَازِ السَّفَرِ وَفِي لَفْظِ الشَّيْخِ نَوْعُ اشْتِبَاهٍ فَإِنَّهُ قَالَ وَالثَّانِي وَلَوْ قَالَ وَالثَّالِثُ مَكَانَ قَوْلِهِ وَالثَّانِي لَكَانَ أَحْسَنَ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ الْحَدِيثِ أَوَّلًا بِتَأْوِيلَيْنِ وَهَذَا ثَالِثُهُمَا إلَّا أَنَّهُ جَعَلَ التَّأْوِيلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِمَنْزِلَةِ تَأْوِيلٍ وَاحِدٍ ثُمَّ بَنَى الْكَلَامَ عَلَيْهِ فَقَالَ وَالثَّانِي وَقَوْلُهُ قُلْنَا وَقَعَ زَائِدًا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَتِمُّ بِدُونِهِ وَقَوْلُهُ مَحْمُولٌ عَلَى ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ لَا يَصِحُّ بِدُونِ إضْمَارٍ أَيْضًا وَمَعْنَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى نَسْخِ

وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ فَإِنَّهَا تَكْمُلُ بِالْإِمَامِ حَتَّى شَرَطْنَا فِي الْجُمُعَةِ ثَلَاثَةً سِوَى الْإِمَامِ وَأَمَّا قَوْلُهُ {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] فَلِأَنَّ عَامَّةَ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ زَوْجٌ فَالْحَقُّ الْفَرْدُ بِالزَّوْجِ لِعِظَمِ مَنْفَعَتِهِ كَأَنَّهُ زَوْجٌ وَقَدْ جَاءَ فِي اللُّغَةِ خِلَافُ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ نَحْنُ فِعْلُنَا لَا يَصْلُحُ إلَّا مِنْ وَاحِدٍ يَحْكِي عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ غَيْرِهِ كَأَنَّهُ تَابِعٌ فَلَمْ يَسْتَقِمْ أَنْ يُفْرِدَ الصِّيغَةَ فَاخْتِيرَ لَهُمَا الْجَمْعُ مَجَازًا كَمَا جَازَ لِلْوَاحِدِ أَنْ يَقُولَ فَعَلْنَا كَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا ثَبَتَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ حُرْمَةُ السَّفَرِ لِلِاثْنَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْكَلَامُ أَعْنِي قَوْلَهُ وَالثَّانِي إلَى آخِرِهِ مَذْكُورًا فِي النُّسَخِ الْعَتِيقَةِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ إنَّ الْإِمَامَ يَتَقَدَّمُ عَلَى اثْنَيْنِ فَقَالَ إنَّمَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ مَحْسُوبٌ مِنْ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ أَدَاءِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ سِوَى الْجُمُعَةِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْإِمَامُ مِنْ جُمْلَةِ الْجَمَاعَةِ وَإِذَا كَانَ مَعَهُ اثْنَانِ كَمُلَتْ الْجَمَاعَةُ فَيَثْبُتُ حُكْمًا وَهُوَ تَقَدُّمُ الْإِمَامِ وَاصْطِفَافُ مَنْ خَلْفَهُ بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ شَرْطُ أَدَائِهَا كَالْجَمَاعَةِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ جُمْلَةِ الْجَمَاعَةِ فَلِهَذَا يُشْتَرَطُ ثَلَاثَةٌ سِوَى الْإِمَامِ. 1 - قَوْلُهُ (وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] فَإِنَّمَا أَطْلَقَ اسْمَ الْجَمْعِ عَلَى أَرْبَعَةِ قُلُوبٍ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ فِي الصُّورَةِ قَلْبَانِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَعْضَاءِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا فِي الْإِنْسَانِ زَوْجٌ فَأُلْحِقَ مَا كَانَ فَرْدًا مِنْهُ لِعِظَمِ مَنْفَعَتِهِ بِالزَّوْجِ كَمَا أُلْحِقَ الزَّوْجُ بِالْفَرْدِ فِي قَوْلِهِمْ مَشَى بِرِجْلِهِ وَسَمِعَ بِأُذُنِهِ وَأَبْصَرَ بِعَيْنِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَطَعَ لِسَانَ إنْسَانٍ أَوْ فَرْجَهُ يَلْزَمُهُ كَمَالُ الدِّيَةِ لِشَرَفِهِ وَعِظَمِ مَنْفَعَتِهِ كَمَا لَوْ قَطَعَ الْيَدَيْنِ فَصَارَ كُلُّ قَلْبٍ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى قَلْبَيْنِ وَإِنْ كَانَ فِي الصُّورَةِ وَاحِدًا فَلِهَذَا جَازَ إطْلَاقُ اسْمِ الْجَمْعِ عَلَيْهِمَا وَلِأَنَّ الْقَلْبَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْمَيْلِ الْمَوْجُودِ فِيهِ فَيُقَالُ لِلْمُنَافِقِ ذُو قَلْبَيْنِ وَيُقَالُ لِلَّذِي لَا يَمِيلُ إلَّا إلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ لَهُ قَلْبٌ وَاحِدٌ وَلَمَّا خَالَفَتْ حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ أَمْرَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَأْنِ مَارِيَةَ وَقَعَ فِي قَلْبِهِمَا دَوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَفْكَارٌ مُتَبَايِنَةٌ فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مَنْ الْقُلُوبِ هِيَ الدَّوَاعِي وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ وَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ لَا يُوصَفُ بِالصَّفْوِ إنَّمَا يُوصَفُ الْمَيْلُ بِهِ كَذَا فِي الْمَحْصُولِ وَقَدْ جَاءَ فِي اللُّغَةِ خِلَافُ ذَلِكَ أَيْ خِلَافُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ إطْلَاقِ الْجَمْعِ عَلَى التَّثْنِيَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ قَالَ الشَّاعِرُ: ظَهْرَاهُمَا مِثْلُ ظُهُورِ التُّرْسَيْنِ وَذَكَرَ فِي التَّيْسِيرِ وَقُلُوبُكُمَا عَلَى الْجَمْعِ مَعَ إضَافَتِهَا إلَى اثْنَيْنِ هُوَ الِاسْتِعْمَالُ الْغَالِبُ فِي اللُّغَةِ فِيمَا كَانَ فِي الْإِنْسَانِ مِنْ الْأَعْضَاءِ فَرْدًا غَيْرَ مُثَنًّى. وَفِيهِ وَجْهَانِ آخَرَانِ الْإِفْرَادُ وَالتَّثْنِيَةُ قَالَ الشَّاعِرُ: كَأَنَّهُ وَجْهٌ تَرَكَّبَيْنَ قَدْ غَضِبَا ... مُسْتَهْدَفٌ لِطِعَانِ غَيْرِ تَرْتِيبٍ وَقَالَ آخَرُ فِي التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ ظَهْرَاهُمَا مِثْلُ ظُهُورِ التُّرْسَيْنِ قَوْلُهُ (وَقَوْلُهُمْ نَحْنُ فَعَلْنَا لَا يَصِحُّ إلَّا مَنْ يَحْكِي عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ غَيْرِهِ) يَعْنِي لَا يَصِحُّ التَّكَلُّمُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ إلَّا عَنْ وَاحِدٍ يُخْبِرُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ غَيْرِهِ وَلَا يُمْكِنُ صُدُورُهَا مِنْ اثْنَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُبْتَدِئَ بِالْكَلَامِ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ اثْنَيْنِ بِخِلَافِ الْخِطَابِ فَإِنَّ بِالْكَلَامِ الْوَاحِدِ يَجُوزُ أَنْ يُخَاطَبَ اثْنَانِ فَصَاعِدًا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ تَبَعًا لَهُ فِي الدُّخُولِ تَحْتَ هَذِهِ الصِّيغَةِ فَلَمْ يُفْرِدْ لَهُمَا صِيغَةً لِئَلَّا يَكُونَ التَّبَعُ مُزَاحِمًا لِلْأَصْلِ فَاخْتِيرَ لَهُمَا صِيغَةُ الْجَمْعِ مَجَازًا وَلِأَنَّهُمْ وَضَعُوا هَذِهِ الْعَلَامَاتِ الْمُمَيِّزَةَ لِدَفْعِ الِاشْتِبَاهِ عَنْ السَّامِعِ وَذَلِكَ فِي الْخِطَابِ وَالْغَيْبَةِ لَا فِي الْحِكَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ وَذَلِكَ الْغَيْرُ الَّذِي يُخْبِرُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ فِعْلُنَا مُشَاهَدٌ لِلسَّامِعِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى عَلَامَةِ التَّمَيُّزِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ فِيهَا عَلَامَةٌ مُمَيِّزَةٌ بَيْنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ اعْتِمَادًا عَلَى الْمُشَاهَدَةِ بِخِلَافِ الْخِطَابِ وَالْغَيْبَةِ. وَذَكَرَ فِي شَرْحِ أُصُولِ الْفِقْهِ لِابْنِ الْحَاجِبِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي لَفْظِ (ج م ع) أَعْنِي الْجَمْعَ لُغَةً وَهُوَ ضَمُّ شَيْءٍ إلَى شَيْءٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ فِي الِاثْنَيْنِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ

وَأَمَّا الْمُشْتَرَكُ فَحُكْمُهُ الْوَقْفُ بِشَرْطِ التَّأَمُّلِ لِيَتَرَجَّحَ بَعْضُ وُجُوهِهِ لِلْعَمَلِ بِهِ وَأَمَّا الْمُؤَوَّلُ فَحُكْمُهُ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى احْتِمَالِ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQوَلَا فِي الضَّمِيرِ الَّذِي يَعْنِي بِهِ الْمُتَكَلِّمُ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ مُتَّصِلًا وَمُنْفَصِلًا، نَحْوُ نَحْنُ فَعَلْنَا لِاتِّفَاقِ اللِّسَانِ عَلَى كَوْنِهِ مَوْضُوعًا لِتَعْبِيرِ الْمَرْءِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ غَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ وَاحِدًا أَوْ جَمْعًا وَلَا فِي نَحْوِ قَوْله تَعَالَى {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] فَإِنَّ مَا يَتَعَدَّدُ مِنْ شَخْصَيْنِ فَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ فِي اللُّغَةِ الْفَصِيحَةِ عِنْدَ إضَافَتِهِ إلَيْهِمَا أَوْ إلَى ضَمِيرِهِمَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ حِذَارًا مِنْ اسْتِنْقَالِ الْجَمْعِ بَيْنَ تَثْنِيَتَيْنِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي نَحْوِ رِجَالٍ وَمُسْلِمِينَ وَضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ وَالْخِطَابِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ فِي وَضْعِ اللِّسَانِ مَسْبُوقِيَّتُهَا بِصِيَغِ التَّثْنِيَةِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا قُلُوبُكُمَا فَإِنَّهُ مَسْبُوقٌ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ مَسْبُوقِيَّتَهُ بِهَا إذْ لَا يُقَالُ قَلْبَاكُمَا فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ مَنْ اسْتَدَلَّ عَلَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي الِاثْنَيْنِ بِالصُّوَرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا فَقَدْ حَادَ مَسْلَكَهُ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَثْبُتُ بِعِلَلٍ مَخْصُوصَةٍ وَلِكُلٍّ بَابٌ وَقِيَاسٌ وَاللُّغَةُ لَا تَثْبُتُ قِيَاسًا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] فَنَقُولُ قَدْ قِيلَ الْمُرَادُ الْحَاكِمَانِ وَهُمَا دَاوُد وَسُلَيْمَانُ وَالْمُتَحَاكِمَانِ إذْ الْمَصْدَرُ يُضَافُ إلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَالْمَفْعُولِ وَإِذَا اُعْتُبِرَ الْجَمِيعُ كَانُوا أَرْبَعَةً وَقِيلَ أُضِيفَ الْحُكْمُ إلَى الْمَحْكُومِ لَهُمْ وَكَانُوا جَمَاعَةً وَعَنْ قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص: 21] إلَى آخِرِهِ أَنَّ الْخَصْمَ الَّذِي أُسْنِدَ الْفِعْلُ إلَى ضَمِيرِهِ اسْمٌ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ كَالضَّيْفِ يُقَالُ هَذَا خَصْمِي وَهَؤُلَاءِ خَصْمِي كَمَا يُقَالُ هَذَا ضَيْفِي وَهَؤُلَاءِ ضَيْفِي وَقَدْ كَانَ الْمُتَخَاصِمُونَ جَمَاعَةً وَمَعْنَى قَوْلِهِ خَصْمَانِ فَرِيقَانِ خَصْمَانِ أَوْ فِينَا خَصْمَانِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بَغَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَا يُقَالُ قَوْلُهُ " إنَّ هَذَا أَخِي " يَأْبَى مَا ذَكَرْت فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى اثْنَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَوْلُ الْبَعْضِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ وَالتَّحَاكُمُ كَانَ بَيْنَ مَلِيكَيْنِ لَكِنْ صَحِبَهُمَا آخَرُونَ فِي صُورَةِ الْخَصْمِ فَسُمُّوا بِهِ وَعَنْ قَوْله تَعَالَى {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 15] إنَّ الْمُرَادَ مُوسَى وَهَارُونُ وَفِرْعَوْنُ وَعَنْ قَوْله تَعَالَى {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف: 83] أَنَّ الْمُرَادَ يُوسُفُ وبنيامين وَالْأَخُ الْكَبِيرُ الَّذِي قَالَ {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف: 80] عَلَى أَنَّا لَا نُنْكِرُ إطْلَاقَ اسْمِ الْجَمْعِ عَلَى الِاثْنَيْنِ مَجَازًا فَتُحْمَلُ هَذِهِ الْإِطْلَاقَاتُ عَلَى الْمَجَازِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ وَأَمَّا الْجَوَابُ مِنْ كَلَامِ الْفَرِيقِ الثَّالِثِ فَهُوَ أَنَّهُمْ يُرَاعُونَ صُورَةَ اللَّفْظِ حَتَّى لَمْ يَنْعَتُوا الْمُثَنَّى بِالْجَمْعِ وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَاهُ وَلَا الْجَمْعَ بِالْمُثَنَّى مُحَافَظَةً عَلَى التَّشَاكُلِ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ مَعَ كَوْنِهِمَا كَشَيْءٍ وَاحِدٍ وَقَدْ الْتَزَمَ بَعْضُهُمْ النَّعْتَ مَعَ الِاخْتِلَافِ مَجَازًا. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْمُشْتَرَكُ فَحُكْمُهُ الْوَقْفُ) أَيْ وَقْفُ النَّفْسِ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّ الثَّابِتَ بِهِ حَقٌّ أَوْ الْمُرَادَ مِنْ الْوَقْفِ التَّوَقُّفُ أَيْ حُكْمُهُ التَّوَقُّفُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِ حُكْمٍ مَعْلُومٍ سِوَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ حَقٌّ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ التَّرْجِيحِ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تُنْبِئُ عَنْ الْمُسَاوَاةِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ هُوَ شَرِيكِي فِي هَذَا الْمَالِ كَانَ إقْرَارًا لَهُ بِالنِّصْفِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنْ لَا عُمُومَ لِلْمُشْتَرَكِ فَكَانَ الثَّابِتُ بِهِ أَحَدُ مَفْهُومَاتِهِ عَيْنًا عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ غَيْرَ عَيْنٍ عِنْدَ السَّامِعِ فَلَا يَتَعَيَّنُ الْمُرَادُ لَهُ إلَّا بِدَلِيلٍ زَائِدٍ لِاسْتِحَالَةِ التَّرْجِيحِ بِلَا مُرَجِّحٍ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ وَلَكِنْ لَا يَقْعُدُ عَنْ الطَّلَبِ كَمَا لَا يَقْعُدُ فِي الْمُتَشَابِهِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّأَمُّلُ؛ لِأَنَّ إدْرَاكَ الْمُرَادِ وَتَرَجُّحَ الْبَعْضِ فِيهِ مُحْتَمَلٌ فَيَجِبُ طَلَبُهُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ بِشَرْطِ التَّأَمُّلِ بِخِلَافِ الْمُجْمَلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُدْرَكُ بِالتَّأَمُّلِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّوَقُّفُ إلَى أَنْ يَأْتِيَهُ الْبَيَانُ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَتْرُكَ الطَّلَبَ وَلَهُ طَرِيقَانِ التَّأَمُّلُ فِي الصِّيغَةِ لِيَتَبَيَّنَ بِهِ

[باب معرفة أحكام الظاهر والنص والمفسر والمحكم]

(بَابُ مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ) (الْقِسْمِ الَّذِي يَلِيهِ) وَهُوَ الظَّاهِرُ وَالنَّصُّ وَالْمُفَسَّرُ وَالْمُحْكَمُ وَحُكْمُ الظَّاهِرِ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِاَلَّذِي ظَهَرَ مِنْهُ وَكَذَلِكَ حُكْمُ النَّصِّ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِمَا وَضَحَ وَاسْتَبَانَ بِهِ عَلَى احْتِمَالِ تَأْوِيلٍ هُوَ فِي حَيِّزِ الْمَجَازِ وَحُكْمُ الْمُفَسَّرِ وُجُوبُ الْعَمَلِ عَلَى احْتِمَالِ النَّسْخِ وَحُكْمُ الْمُحْكَمِ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِهِ مِنْ غَيْرِ احْتِمَالٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَفَاوُتِ مَعَانِي هَذِهِ الْأَلْقَابِ لُغَةً وَإِنَّمَا يَظْهَرُ تَفَاوُتُ هَذِهِ الْمَعَانِي عِنْدَ التَّعَارُضِ لِيَصِيرَ الْأَدْنَى مَتْرُوكًا بِالْأَعْلَى وَهَذَا يَكْثُرُ أَمْثِلَتُهُ فِي تَعَارُضِ السُّنَنِ وَالْأَحَادِيثِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُرَادُ أَوْ طَلَبُ دَلِيلٍ آخَرَ يُعْرَفُ بِهِ الْمُرَادُ؛ لِأَنَّ بِالْوُقُوفِ عَلَى الْمُرَادِ يَزُولُ مَعْنَى الِاحْتِمَالِ عَلَى التَّسَاوِي فَيَجِبُ الِاشْتِغَالُ بِهِ لِيَزُولَ الْخَفَاءُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الظَّاهِرُ وَالنَّصُّ وَالْمُفَسَّرُ وَالْمُحْكَمُ] (بَابُ مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْقِسْمِ الَّذِي يَلِيهِ) . قَوْلُهُ (وَحُكْمُ الظَّاهِرِ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِاَلَّذِي ظَهَرَ مِنْهُ) لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْعَمَلِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ يُوجِبُ الْحُكْمَ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ أَوْ الظَّنِّ فَعِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْقَاضِي أَبِي زَيْدٍ وَمُتَابِعِيهِ حُكْمُهُ الْتِزَامُ مُوجِبِهِ قَطْعًا عَامًّا كَانَ أَوْ خَاصًّا وَعِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ مَشَايِخِ مَا وَرَاءِ النَّهْرِ وَعَامَّةِ الْأُصُولِيِّينَ حُكْمُهُ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِمَا وُضِعَ لَهُ اللَّفْظُ ظَاهِرًا لَا قَطْعًا وَوُجُوبُ اعْتِقَادِ أَنَّ مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ حَقٌّ وَكَذَا حُكْمُ النَّصِّ وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ. وَقَوْلُهُ عَلَى احْتِمَالِ تَأْوِيلٍ هُوَ فِي حَيِّزٍ الْمَجَازِ مُتَّصِلٌ بِالْقِسْمَيْنِ أَيْ يُجْعَلُ ذَلِكَ التَّأْوِيلُ الظَّاهِرُ أَوْ النَّصُّ مَجَازًا فَإِنَّك إذَا أَوَّلْت قَوْلَهُ جَاءَنِي زَيْدٌ مَثَلًا بَانَ الْمُرَادُ خَبَرُهُ أَوْ كِتَابُهُ صَارَ مَجَازًا بِخِلَافِ الْمُشْتَرَكِ فَإِنَّك إذَا أَوَّلْته وَصَرَفْته إلَى بَعْضِ مَعَانِيهِ كَانَ حَقِيقَةً. قَوْلُهُ (لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَفَاوُتِ مَعَانِي هَذِهِ الْأَلْقَابِ لُغَةً) يَعْنِي إنَّمَا سُمِّيَ كُلُّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ بِاسْمٍ رُوعِيَ فِيهِ مَعْنَى اللُّغَةِ فَسُمِّيَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ظَاهِرٌ لِظُهُورِ مَعْنَاهُ الْقِسْمُ الثَّانِي نَصًّا لِازْدِيَادِ وُضُوحِهِ عَلَى الْأَوَّلِ كَمَا يُنْبِئُ عَنْهُ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ وَكَذَا الْمُفَسَّرُ وَالْمُحْكَمُ لِيَصِيرَ الْأَدْنَى مَتْرُوكًا بِالْأَعْلَى اللَّامُ لِلْعَاقِبَةِ أَيْ فَائِدَةُ التَّفَاوُتِ وَعَاقِبَتُهُ تَرْكُ الْأَدْنَى بِالْأَعْلَى وَتَرَجَّحَ الْأَقْوَى عَلَى الْأَضْعَفِ وَهَذَا أَيْ صَيْرُورَةُ الْأَدْنَى مَتْرُوكًا بِالْأَعْلَى السُّنَنُ وَالْأَحَادِيثُ مُتَرَادِفَانِ هَهُنَا وَإِنْ كَانَتْ السُّنَّةُ أَعَمَّ مِنْ الْحَدِيثِ وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَ نَظَائِرِ التَّعَارُضِ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْ نَظَائِرِهِ تَعَارُضُ الظَّاهِرِ وَالْمُحْكَمُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53] وَقَوْلُهُ عَزَّ ذِكْرُهُ {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] فَإِنَّ الْأَوَّلَ مُحْكَمٌ فِي حُرْمَةِ نِكَاحِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَرَضِيَ عَنْهُنَّ لِلتَّأْبِيدِ، وَالثَّانِي ظَاهِرٌ فِي إبَاحَةِ جَمِيعِ النِّسَاءِ فَيَتَنَاوَلُ بِعُمُومِهِ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَيُرَجَّحُ الْمُحْكَمُ عَلَى الظَّاهِرِ وَمِنْهَا تَعَارُضُهُمَا أَيْضًا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَلَا إنَّ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ حَرَامٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» كَذَا فِي النَّافِعِ «وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِغَالِبِ بْنِ أَبْجَرَ كُلْ مِنْ سَمِينِ مَالِك» فَإِنَّ الْأَوَّلَ مُحْكَمٌ فِي التَّحْرِيمِ وَالثَّانِي ظَاهِرٌ فِي التَّحْلِيلِ فَيُرَجَّحُ الْمُحْكَمُ أَيْضًا وَقِيلَ نَظِيرُ تَعَارُضِ الْمُفَسَّرِ وَالْمُحْكَمِ قَوْله تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وقَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] فَإِنَّ الْأَوَّلَ مُفَسَّرٌ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ الْعُدُولِ؛ لِأَنَّ الْإِشْهَادَ إنَّمَا يَكُونُ لِلْقَبُولِ عِنْدَ الْأَدَاءِ وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ مَعْنًى آخَرَ وَالثَّانِي مُحْكَمٌ؛ لِأَنَّ التَّأْبِيدَ الْتَحَقَ بِهِ وَالْأَوَّلُ بِعُمُومِهِ يُوجِبُ قَبُولَ شَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ إذَا تَابَ وَالثَّانِي يُوجِبُ رَدَّهُ فَيُرَجَّحُ عَلَى الْمُفَسَّرِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمُ كَوْنَ الْأَوَّلِ مُفَسَّرًا؛ لِأَنَّ مَا لَا يَحْتَمِلُ شَيْئًا سِوَى مَدْلُولِهِ إلَّا النَّسْخَ وقَوْله تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ} [الطلاق: 2] يَحْتَمِلُ الْإِيجَابَ وَالنَّدْبَ وَيَتَنَاوَلُ بِإِطْلَاقِهِ الْأَعْمَى وَالْعَبْدَ وَلَيْسَ بِمُرَادَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ فَكَيْفَ يُسَمَّى مُفَسَّرًا مَعَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ. وَكَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ الْإِشْهَادِ وَالْقَبُولِ فَإِنَّ

وَمِثَالُهُ مِنْ مَسَائِلِ أَصْحَابِنَا بَابٌ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ فِي الْجَامِعِ مَعَ رَجُلٍ قَالَ لِآخَرَ لِي عَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ الْآخَرُ الْحَقُّ الْيَقِينُ الصِّدْقُ وَكَانَ كُلُّ ذَلِكَ تَصْدِيقًا وَلَوْ قَالَ الْبِرُّ الصَّلَاحُ لَمْ يَكُنْ تَصْدِيقًا وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ الْبِرِّ وَالْحَقِّ أَوْ الْبِرِّ وَالْيَقِينِ أَوْ الْبِرِّ وَالصِّدْقِ حُمِلَ الْبِرُّ عَلَى الصِّدْقِ وَالْحَقِّ وَالْيَقِينِ فَجُعِلَ تَصْدِيقًا وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَقِّ أَوْ الْيَقِينِ أَوْ الصِّدْقِ وَالصَّلَاحِ جُعِلَ رَدًّا وَلَمْ يَكُنْ تَصْدِيقًا وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ الصِّدْقَ وَالْحَقَّ وَالْيَقِينَ مِنْ أَوْصَافِ الْخَبَرِ وَهِيَ نُصُوصٌ ظَاهِرَةٌ لِمَا وُضِعَتْ لَهُ مِنْ دَلَالَةِ الْوُجُودِ لِلْمَخْبَرِ عَنْهُ فَيَكُونُ جَوَابًا عَلَى التَّصْدِيقِ وَقَدْ يَحْتَمِلُ الِابْتِدَاءَ مَجَازًا أَيْ الصِّدْقَ أَوْلَى بِك مِمَّا تَقُولُ وَأَمَّا الْبِرُّ فَاسْمٌ مَوْضُوعٌ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ الْإِحْسَانِ لَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِالْجَوَابِ فَصَارَ بِمَعْنَى الْمُجْمَلِ فَلَمْ يَصْلُحْ جَوَابًا بِنَفْسِهِ وَإِذَا قَارَنَهُ نَصٌّ أَوْ ظَاهِرٌ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا حُمِلَ عَلَيْهِ وَأَمَّا الصَّلَاحُ فَلَفْظٌ لَا يَصْلُحُ صِفَةً لِلْخَبَرِ بِحَالٍ وَهُوَ مُحْكَمٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَإِذَا ضُمَّ إلَيْهِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ أَوْ نَصٌّ وَجَبَ حَمْلُ النَّصِّ الَّذِي هُوَ مُحْتَمَلٌ عَلَى الْحُكْمِ الَّذِي لَا يُحْتَمَلُ فَلَمْ يَكُنْ تَصْدِيقًا وَصَارَ مُبْتَدَأً فَتَرَجَّحَ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ عِنْدَ التَّعَارُضِ ـــــــــــــــــــــــــــــQإشْهَادَ الْعُمْيَانِ وَالْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ فِي النِّكَاحِ صَحِيحٌ حَتَّى انْعَقَدَ النِّكَاحُ بِشَهَادَتِهِمْ وَإِنْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ إيرَادَ الْمِثَالِ لَيْسَ مِنْ اللَّوَازِمِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ يَتَمَهَّدُ بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ لَا بِالْمِثَالِ وَإِنَّمَا إيرَادُ الْمِثَالِ لِلتَّوْضِيحِ وَالتَّقْرِيبِ فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَى الْمُدَّعِي أَوَّلًا ثُمَّ إيرَادُ الْمِثَالِ بَعْدُ إنْ شَاءَ لِلْإِيضَاحِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّعِ فَإِذَا تَمَهَّدَ الْأَصْلُ فَلَا عَلَيْك أَنْ لَا يَتْعَبَ فِي طَلَبِ الْمِثَالِ. قَوْلُهُ (وَمِثَالُهُ) أَيْ مِثَالُ تَرْكِ الْأَدْنَى بِالْأَعْلَى مِنْ مَسَائِلِ أَصْحَابِنَا بَابٌ ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي إقْرَارِ الْجَامِعِ وَأَصْلُهُ أَنَّ كَلَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا صَلَحَ تَصْدِيقًا لِكَلَامِ الْمُدَّعِي وَلَا يَصْلُحُ رَدًّا يُجْعَلُ تَصْدِيقًا وَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ رَدًّا وَلَا يَصْلُحُ تَصْدِيقًا يُجْعَلُ رَدًّا وَإِنْ احْتَمَلَهُمَا يُعْتَبَرُ الْغَالِبُ وَيُحْمَلُ عَلَيْهِ وَالْأَلْفَاظُ الْمَذْكُورَةُ خَمْسَةٌ الْحَقُّ الْيَقِينُ الصِّدْقُ الْبِرُّ الصَّلَاحُ فَالثَّلَاثَةُ الْأُولَى تَصْلُحُ صِفَةً لِلْخَبَرِ ظَاهِرًا يُقَالُ خَبَرٌ حَقٌّ خَبَرٌ يَقِينٌ خَبَرٌ صِدْقٌ فَأَمَّا الْبِرُّ فَاسْمٌ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ وَلَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَصِيرَ صِفَةً لِلْخَبَرِ بِقَرِينَةٍ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ أَخْبَرَ بِخَبَرِ صِدْقٍ صَدَقْت وَبَرَرْت كَمَا تَقُولُ لِمَنْ أَخْبَرَ بِخَبَرِ كَذِبٍ كَذَبْت وَفَجَرْت وَأَمَّا الصَّلَاحُ فَلَا يَصْلُحُ صِفَةً لِلْخَبَرِ بِحَالٍ لَا يُقَالُ خَبَرُ صَلَاحٍ وَلَا صَدَقْت وَصَلَحْت فَإِذَا قَالَ لِآخَرَ لِي عَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ الْآخَرُ الْحَقُّ أَوْ الْيَقِينُ أَوْ الصِّدْقُ كَانَ تَصْدِيقًا وَإِقْرَارًا؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي مَحَلِّ الْجَوَابِ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا فَيُجْعَلُ مَحْمُولًا عَلَى الْجَوَابِ بِظَاهِرِهِ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخِطَابِ يَصِيرُ كَالْمُعَادِ فِي الْجَوَابِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ الْحَقُّ مَا قُلْت الصِّدْقُ مَا قُلْت الْيَقِينُ مَا قُلْت وَبَيَانُ أَنَّهُ صَالِحٌ لِلْجَوَابِ أَنَّ الدَّعْوَى خَبَرٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْخَبَرَ يُوصَفُ بِالْحَقِّ وَالصِّدْقِ وَالْيَقِينِ وَبِضِدِّهَا هَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ الِابْتِدَاءَ أَيْ الصِّدْقَ أَوْلَى بِك أَوْ عَلَيْك بِالصِّدْقِ أَوْ الْحَقُّ وَالْيَقِينُ أَوْلَى بِالِاشْتِغَالِ مِنْ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ مَجَازٌ وَالْمَجَازُ لَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ لِشَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ هَذَا إذَا لَمْ يُعْرَبْ أَوْ ذُكِرَ مَرْفُوعًا أَمَّا إذَا نُصِبَ فَلَا يَكُونُ إقْرَارًا؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَلْزَمَ الْحَقَّ أَوْ الصِّدْقَ فَيَكُونُ أَمْرًا لَهُ بِالصِّدْقِ وَنَهْيًا لَهُ عَنْ الْكَذِبِ. وَقَالَ عَامَّتُهُمْ لَوْ قَالَ بِالنَّصْبِ يَكُونُ تَصْدِيقًا أَيْضًا وَمَعْنَاهُ أَنَّك ادَّعَيْت الْحَقَّ أَوْ قُلْت وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ؛ وَالْأَصْلُ فِيهِ هُوَ الْعُرْفُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ مُحَمَّدٌ فَقَالَ إنَّمَا يُنْظَرُ فِي هَذَا إلَى مَعَانِي كَلَامِ النَّاسِ وَلَوْ قَالَ الْبِرُّ أَوْ الصَّلَاحُ لَمْ يَكُنْ تَصْدِيقًا؛ لِأَنَّ الْبِرَّ اسْمٌ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} [البقرة: 189] فَفِي مَحَلِّ الْجَوَابِ هَذَا اللَّفْظُ فِي مَعْنَى الْمُجْمَلِ؛ لِأَنَّ صَلَاحِيَتَهُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ وَاحْتِمَالُ الْجَوَابِ وَغَيْرِهِ فِيهِ عَلَى السَّوَاءِ وَبِاللَّفْظِ الْمُجْمَلِ لَا يَصِيرُ مُقِرًّا وَالْجَوَابُ لَا يَتِمُّ بِكَلَامٍ مُجْمَلٍ وَأَمَّا الصَّلَاحُ فَلَا يَصْلُحُ صِفَةً لِلْخَبَرِ بِوَجْهٍ فَصَارَ مَعْنَى كَلَامِهِ الْبِرَّ وَالصَّلَاحَ أَوْلَى بِك أَوْ الْزَمْ الصَّلَاحَ وَاتْرُكْ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةَ وَلَوْ ضَمَّ أَحَدَ الثَّلَاثَةِ إلَى الْبِرِّ فَقَالَ الصِّدْقُ الْبِرُّ أَوْ الْحَقُّ الْبِرُّ أَوْ الْيَقِينُ الْبِرُّ أَوْ قَدَّمَ الْبِرَّ فَقَالَ الْبِرُّ الصِّدْقُ أَوْ الْبِرُّ الْحَقُّ أَوْ الْبِرُّ الْيَقِينُ كَانَ إقْرَارًا؛ لِأَنَّ الْبِرَّ لَمَّا صَارَ مُجْمَلًا صَارَ مَا ضُمَّ إلَيْهِ بَيَانًا لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبِرَّ مَقْرُونًا بِالصِّدْقِ يُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعِ الْجَوَابِ يُقَالُ صَدَقْت وَبَرَرْت فَإِنْ ضُمَّ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ

وَمِثَالُهُ أَيْضًا قَوْلُنَا فِيمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً إلَى شَهْرٍ أَنَّهُ مُتْعَةٌ؛ لِأَنَّ التَّزَوُّجَ نَصٌّ لِمَا وُضِعَ لَهُ فَكَانَ مُحْتَمِلًا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُتْعَةُ مَجَازًا فَأَمَّا قَوْلُهُ إلَى شَهْرٍ فَحُكْمٌ فِي الْمُتْعَةِ لَا يَحْتَمِلُ النِّكَاحَ مَجَازًا فَحُمِلَ الْمُحْتَمَلُ عَلَى الْحُكْمِ. وَضِدُّ الظَّاهِرِ الْخَفِيُّ وَحُكْمُهُ النَّظَرُ فِيهِ لِيُعْلِمَ اخْتِفَاءَهُ لِمَزِيَّةٍ أَوْ نُقْصَانٍ فَيَظْهَرُ الْمُرَادُ وَمِثَالُهُ أَنَّ النَّصَّ أَوْجَبَ الْقَطْعَ عَلَى السَّارِقِ ثُمَّ اُحْتِيجَ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ النَّبَّاشِ وَالطِّرَارِ وَقَدْ اخْتَصَّا بِاسْمٍ خَفِيَ بِهِ الْمُرَادُ وَطَرِيقُ النَّظَرِ فِيهِ أَنَّ النَّبَّاشَ اخْتَصَّ بِهِ لِقُصُورٍ فِي فِعْلِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ سَرِقَةٌ؛ لِأَنَّ السَّرِقَةَ أَخْذُ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ الْمُسَارَقَةِ عَنْ عَيْنِ الْحَافِظِ الَّذِي قَصَدَ حِفْظَهُ لَكِنَّهُ انْقَطَعَ حِفْظُهُ بِعَارِضٍ وَالنَّبَّاشُ هُوَ الْآخِذُ الَّذِي يُعَارِضُ عَيْنَ مَنْ لَعَلَّهُ يَهْجُمُ عَلَيْهِ وَهُوَ لِذَلِكَ غَيْرُ حَافِظٍ وَلَا قَاصِدٍ وَهَذَا مِنْ الْأَوَّلِ بِمَنْزِلَةِ التَّابِعِ مِنْ الْمَتْبُوعِ وَكَذَلِكَ مَعْنَى هَذَا الِاسْمِ دَلِيلٌ عَلَى خَطَرِ الْمَأْخُوذِ وَهَذَا الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ اسْمُ النَّبَّاشِ فِي غَايِهِ الْقُصُورِ وَالْهَوَانِ ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَى الصَّلَاحِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ صِفَةً لِلْخَبَرِ وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي التَّصْدِيقِ أَصْلًا لَا يُقَالُ صَدَقْت وَصَلَحْت بَلْ هُوَ مُحْكَمٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَإِذَا ضُمَّ إلَيْهِ مَا هُوَ مُحْتَمَلٌ مِنْ نَصٍّ أَوْ ظَاهِرٍ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْمُحْكَمِ فَلَا يَكُونُ تَصْدِيقًا بَلْ يَكُونُ رَدًّا لِكَلَامِهِ بِابْتِدَاءِ أَمْرٍ لَهُ بِاتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالصَّلَاحِ وَتَرْكِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ. قَوْلُهُ (وَمِثَالُهُ أَيْضًا) أَيْ نَظِيرُ تَرْجِيحِ الْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى وَتَرْكُ الْأَدْنَى بِهِ أَيْضًا قَوْلُ عُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِيمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً إلَى شَهْرٍ بِأَنْ قَالَ تَزَوَّجْتُك شَهْرًا أَوْ إلَى شَهْرٍ فَقَالَتْ زَوَّجْت نَفْسِي مِنْك أَنَّهُ مُتْعَةٌ وَلَيْسَ بِنِكَاحٍ وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ نِكَاحٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ التَّوْقِيتَ شَرْطٌ فَاسِدٌ فَإِنَّ النِّكَاحَ لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ، وَالشَّرْطُ الْفَاسِدُ لَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ بَلْ يَصِحُّ النِّكَاحُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ كَاشْتِرَاطِ الْخَمْرِ وَاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَكَالطَّلَاقِ إلَى شَهْرٍ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ شَهْرٍ صَحَّ النِّكَاحُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ فَكَذَا إذَا تَزَوَّجَهَا شَهْرًا وَلَنَا حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لَا أُوتَى بِرَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً إلَى أَجَلٍ إلَّا رَجَمْته وَلَوْ أَدْرَكْته مَيِّتًا لَرَجَمْت عَلَى قَبْرِهِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ النِّكَاحَ إلَى شَهْرٍ كِنَايَةٌ عَنْ الْمُتْعَةِ؛ لِأَنَّ تَوْقِيتَ الْمِلْكِ بِالْمُدَّةِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْمَنَافِعِ الَّتِي تَحْدُثُ فِي الْمُدَّةِ وَعَقْدُ الْمُتْعَةِ حِينَ كَانَ مَشْرُوعًا كَانَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ مُوقَنًا كَالْإِجَارَةِ فَلَمَّا قَالَ إلَى شَهْرٍ وَهَذَا لَا يَلِيقُ إلَّا فِي عَقْدِ الْمُتْعَةِ لَا يَحْتَمِلُهُ مِلْكُ النِّكَاحِ عَلَى مَا هُوَ مَشْرُوعٌ الْيَوْمَ وَلَفْظُ التَّزَوُّجِ وَالنِّكَاحِ يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْمُتْعَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ لِمِلْكِ التَّمَتُّعِ بِهَا صَارَ الْمُحْتَمَلُ مِنْ صَدْرِ كَلَامِهِ مَحْمُولًا عَلَى الْمُحْكَمِ مِنْ سِيَاقِهِ. وَهَذَا كَالْمُضَارِّ بِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ كُلّه لِلْعَامِلِ كِنَايَةً عَلَى الْإِقْرَاضِ وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ كِنَايَةً عَنْ الْإِبْضَاعِ وَإِذَا تَعَيَّنَ كِنَايَةً عَنْ الْمُتْعَةِ فَسَدَ لِعَدَمِ رُكْنِهِ وَهُوَ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِهَذَا الْعَقْدِ لَا لِشَرْطٍ فَاسِدٍ دَخَلَ عَلَيْهِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا شَرَطَ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ شَهْرٍ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَاطِعٌ لِلنِّكَاحِ فَاشْتِرَاطُ الْقَاطِعِ بَعْدَ شَهْرٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمَا عَقَدَا الْعَقْدَ مُؤَبَّدًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ الشَّرْطُ هُنَاكَ لَا يَبْطُلُ بِهِ النِّكَاحُ بَعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ وَهُنَا لَوْ صَحَّ التَّوْقِيتُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا عَقْدٌ بَعْدَ مُضِيِّ الْوَقْتِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ. قَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ إنْ ذَكَرَا مِنْ الْوَقْتِ مَا يُعْلِمُ أَنَّهُمَا لَا يَعِيشَانِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَمِائَةِ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ يَكُونُ النِّكَاحُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ فِي هَذَا تَأْكِيدَ مَعْنَى التَّأْبِيدِ فَإِنَّ النِّكَاحَ بِعَقْدٍ لِلْعُمْرِ بِخِلَافِ مَا إذَا ذَكَرَا مُدَّةً قَدْ يَعِيشَانِ أَكْثَرَ مِنْهَا وَعِنْدَنَا الْكُلُّ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ التَّأْبِيدَ مِنْ شَرْطِ النِّكَاحِ فَالتَّوْقِيتُ يُبْطِلُهُ طَالَتْ الْمُدَّةُ أَوْ قَصُرَتْ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَالْمَبْسُوطِ؛ لِأَنَّ التَّزَوُّجَ لِمَا وُضِعَ لَهُ وَهُوَ إثْبَاتُ مِلْكِ الْبُضْعِ عَلَى الْمَرْأَةِ وَلَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْمُتْعَةَ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ فِي الْحَقِيقَةِ لِمِلْكِ التَّمَتُّعِ بِهَا وَالِازْدِوَاجِ مَعَهَا كَمَا ذَكَرْنَا فَحُكْمٌ فِي الْمُتْعَةِ أَيْ فِي إفَادَةِ مَعْنَى الْمُتْعَةِ لَا يَحْتَمِلُهُ النِّكَاحُ أَيْ لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ الَّذِي هُوَ مَفْهُومٌ مِنْ إلَى شَهْرٍ. قَوْلُهُ (مِثَالُهُ) أَيْ مِثَالُ الْخَفِيِّ قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي إيجَابِ الْقَطْعِ عَلَى كُلِّ سَارِقٍ لَمْ يَخْتَصَّ بِاسْمٍ آخَرَ سِوَى السَّرِقَةِ خَفِيَ فِي حَقِّ مَنْ اخْتَصَّ بِاسْمٍ آخَرَ كَالطَّرَّارِ وَالنَّبَّاشِ فَإِنَّهُ قَدْ اشْتَبَهَ الْأَمْرُ أَنَّ اخْتِصَاصَهُمَا بِهَذَا الِاسْمِ لِنُقْصَانٍ فِي مَعْنَى السَّرِقَةِ أَوْ زِيَادَةٍ فِيهِ وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي النَّبَّاشِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُقْطَعُ بِحَالٍ سَوَاءٌ كَانَ الْقَبْرُ فِي بَيْتٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي ظَاهِرِ الرَّاوِيَةِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَقَعُ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّهُ إنَّمَا يُقْطَعُ إذَا سَرَقَ الْكَفَنَ مِنْ قَبْرٍ فِي بَيْتٍ مُحَرَّزٍ أَوْ فِي مَقْبَرَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِالْعُمْرَانِ وَلَا يُقْطَعُ إذَا كَانَ الْقَبْرُ فِي بَرِّيَّةٍ بَعِيدَةٍ مِنْ الْعُمْرَانِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يُقْطَعُ وَإِنْ كَانَ الْقَبْرُ فِي مَفَازَةٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَفَّالِ وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِيمَا إذَا كَانَ الْقَبْرُ فِي بَيْتٍ مُقْفَلٍ وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنْ لَا يَجِبَ الْقَطْعُ سَوَاءٌ نَبَشَ الْكَفَنَ أَوْ سَرَقَ مَالًا آخَرَ مِنْ ذَلِكَ الْبَيْتِ لِأَنَّ بِوَضْعِ الْقَبْرِ فِيهِ اخْتَلَّ صِفَةُ الْحِرْزِيَّةِ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ فَإِنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ تَأْوِيلًا فِي الدُّخُولِ فِيهِ لِزِيَارَةِ الْقَبْرِ فَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْكَمَالِ فِي شَرَائِطِ الْقَطْعِ مُعْتَبَرَةٌ ثُمَّ مِنْ أَوَجَبَ الْقَطْعِ تَمَسَّكَ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] وَالْآيَةَ وَقَالَ النَّبَّاشُ سَارِقٌ؛ لِأَنَّ السَّارِقَ اسْمٌ لِمَنْ يَأْخُذُ الْمَالَ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ وَهُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَاخْتِصَاصُهُ بِاسْمٍ آخَرَ لَا يَمْنَعُ دُخُولَهُ تَحْتَ اسْمِ السَّارِقِ؛ لِأَنَّهُ اخْتَصَّ بِهَذَا الِاسْمِ لِاخْتِصَاصِهِ بِنَوْعٍ مِنْ السَّرِقَةِ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ عَنْ الدُّخُولِ تَحْتَ اسْمِ الْجِنْسِ كَاخْتِصَاصِ مَنْ يُقْطَعُ عَنْ الْيَقْظَانِ بِاسْمِ الطَّرَّارِ وَكَاخْتِصَاصِ الْآدَمِيِّ بِاسْمِ الْإِنْسَانِ لَا يَمْنَعُهُ عَنْ الدُّخُولِ تَحْتَ اسْمِ الْحَيَوَانِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَطَعَ نَبَّاشًا» وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ سَارِقُ أَمْوَاتِنَا كَسَارِقِ أَحْيَائِنَا وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي النَّبَّاشِ فَكَتَبَ إلَيْهِ أَنْ اقْطَعْهُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ سَرَقَ نِصَابًا كَامِلًا مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ فَيُقْطَعُ كَمَا لَوْ سَرَقَ لِبَاسَ الْحَيِّ وَكَمَا لَوْ سَرَقَ الشَّاةَ مِنْ الْحَظِيرَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْكَفَنَ مَالٌ كَامِلٌ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْمَالِيَّةِ لَا يَتَغَيَّرُ بِأَنْ أُلْبِسَ مَيِّتًا؛ لِأَنَّهُ بَعْدُ صَالِحٌ لِإِقَامَةِ الْمَصَالِحِ وَالْقَبْرُ حِرْزٌ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحَرَّزُ بِأَحْصَنَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَالنَّاسُ تَعَارَفُوا إحْرَازَ الْأَكْفَانِ بِالْقُبُورِ فَكَانَ حِرْزًا مُتَعَيِّنًا لَهُ بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ النَّاسِ كَالْحَظِيرِ لِلْغَنَمِ وَالصُّنْدُوقِ لِلدَّرَاهِمِ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ سَرَقَ مِنْ الْقَبْرِ شَيْئًا آخَرَ وُضِعَ مَعَهُ أَوْ كَفَنَ الْمَيِّتِ زِيَادَةً عَلَى الْعَدَدِ الْمَسْنُونِ فَسَرَقَ الزَّائِدَ حَيْثُ لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ الْقَبْرَ لَيْسَ بِحِرْزٍ لِمَالٍ آخَرَ غَيْرَ الْكَفَنِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ مَا اعْتَادُوا حِفْظَ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ بِالْقُبُورِ كَحَظِيرَةِ الْغَنَمِ حِرْزٌ لِلْغَنَمِ وَلَيْسَتْ بِحِرْزٍ لِلثِّيَابِ وَالْأَمْتِعَةِ وَكَذَا الزَّائِدُ عَلَى الْعَدَدِ الْمَسْنُون بِمَنْزِلَةِ مَالٍ آخَرَ مَوْضُوعٌ فِي الْقَبْرِ وَأَلَا تَرَى أَنَّ الْأَبَ وَالْوَصِيَّ لَوْ كَفَّنَا الصَّبِيَّ أَوْ عَبْدَ الصَّبِيِّ مَنْ مَالِ الصَّبِيِّ بِالْعَدَدِ الْمَسْنُونِ لَا يُعَدُّ تَضْيِيعًا وَلَا يَضْمَنَانِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إحْرَازٌ مِنْهُمَا لِمَالِهِ وَلَوْ كَفَّنَاهُ زِيَادَةً عَلَى الْعَدَدِ الْمَسْنُونِ يَضْمَنَانِ الزِّيَادَةَ؛ لِأَنَّهُ تَضْيِيعٌ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ نَاقِصٌ فِي كَوْنِهِ سَرِقَةً وَالْمِلْكُ نَاقِصٌ وَالْمَالِيَّةُ نَاقِصَةٌ وَالْحِرْزُ نَاقِصٌ أَوْ مَعْدُومٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَمْنَعُ الْقَطْعَ لِمَا عُرِفَ أَنَّ شَرْطَ السَّرِقَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مَالًا مَمْلُوكًا مُحْرَزًا وَأَنَّ الْكَمَالَ فِيهَا شَرْطٌ كَيْ لَا تَبْقَى شُبْهَةُ الْعَدَمِ فَمَجْمُوعُهَا أَوْلَى. أَمَّا بَيَانُ قُصُورِ الْفِعْلِ وَنُقْصَانِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ وَأَحَدُهُمَا أَنَّ النَّبَّاشَ لَيْسَ بِسَارِقٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلِأَنَّ السَّرِقَةَ اسْمٌ لِأَخْذِ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ الْمُسَارَقَةِ أَيْ الْإِخْفَاءِ عَنْ عَيْنِ الْحَافِظِ الَّذِي قَصَدَ حِفْظَهُ لَكِنَّهُ انْقَطَعَ حِفْظُهُ بِاعْتِرَاضِ نَوْمٍ أَوْ غَيْبَةٍ بِحَيْثُ يَخَافُ هُجُومَهُ

وَالتَّعَدِّيَةُ بِمِثْلِهِ فِي الْحُدُودِ خَاصَّةً بَاطِلٌ وَأَمَّا الطِّرَارُ فَقَدْ اخْتَصَّ بِهِ لِفَضْلٍ فِي جِنَايَتِهِ وَحِذْقٍ فِي فِعْلِهِ؛ لِأَنَّ الطَّرَّ اسْمٌ لِقَطْعِ الشَّيْءِ عَنْ الْيَقْظَانِ بِضَرْبِ فَتْرَةٍ وَغَفْلَةٍ يَعْتَرِيهِ وَهَذِهِ الْمُسَارَقَةُ فِي غَايَةِ الْكَمَالِ وَتَعَدِّيَةُ الْحُدُودِ فِي مِثْلِهِ فِي نِهَايَةِ الصِّحَّةِ وَالِاسْتِقَامَةِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ أَحْكَامِ سَائِرِ الْأَقْسَامِ فِي هَذَا الْفَصْلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَيْهِ وَمِنْهُ اسْتِرَاقُ السَّمْعِ لِاسْتِمَاعِ كَلَامِ الْغَيْرِ حَالَ غَفْلَتِهِ وَيُقَالُ فُلَانٌ يُسَارِقُ النَّظَرَ إلَيْهِ إذَا اغْتَنَمَ غَفْلَتَهُ وَاحْتَالَ لِيَنْظُرَ إلَيْهِ وَالنَّبَّاشُ يُسَارِقُ عَيْنَ مَنْ عَسَى يَهْجُمُ عَلَيْهِ مِمَّنْ لَيْسَ بِحَافِظٍ لِلْكَفَنِ وَلَا قَاصِدٍ إلَى حِفْظِهِ مِنْ الْمَارَّةِ لِئَلَّا يَطَّلِعُوا عَلَى جِنَايَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يُرْتَكَبُ مُنْكَرًا كَالزَّانِي وَشَارِبِ الْخَمْرِ يَخْتَفِي مِنْ النَّاسِ كَيْ لَا يَعْثُرُوا عَلَى قُبْحِ فِعْلِهِ وَالسَّرِقَةُ أَخْذٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُسَارَقَةِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ أَخْذِ مَا أُحْرِزَ عَنْ الْأَيْدِي لَا لِيَتَمَكَّنَ مِنْ فَاحِشَةٍ تَرِدُ شَرْعًا فَكَانَ النَّبَّاشُ سَارِقًا صُورَةً لَا مَعْنًى فَالْمَيِّتُ إنْسَانٌ صُورَةً لَا مَعْنًى، وَلِهَذَا يَصِحُّ نَفْيُهُ عَنْهُ فَيُقَالُ نَبَشَ وَمَا سَرَقَ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ التَّبَعِ مِنْ الْمَتْبُوعِ لِكَوْنِ الْأَوَّلِ أَقْوَى فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ مُطْلَقِ اسْمِ السَّارِقِ وَالثَّانِي أَنَّ هَذَا الِاسْمَ وَهُوَ السَّرِقَةُ تَدُلُّ عَلَى خَطَرٍ لِمَأْخُوذٍ أَيْ عَلَى أَنَّهُ ذُو قَدْرٍ وَمَنْزِلَةٍ فَإِنَّ السَّرِقَةَ قِطْعَةٌ مِنْ الْحَرِيرِ «قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِبَعْضِ نِسَائِهِ أُرِيت صُورَتَك فِي سَرِقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ» أَيْ فِي قِطْعَةٍ مِنْ حَرِيرٍ جَيِّدَةٍ بَيْضَاءَ. كَذَا فَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَلِذَلِكَ اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى اشْتِرَاطِ النِّصَابِ فِيهِ لِيَخْرُجَ عَنْ كَوْنِهِ تَافِهًا حَقِيرًا وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ وَهَذَا الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ اسْمُ النَّبَّاشِ وَهُوَ النَّبْشُ فِي غَايَةِ الْقُصُورِ وَالْهَوَانِ؛ لِأَنَّ نَبْشَ التُّرَابِ وَأَخْذَ الْكَفَنِ مِنْ الْأَمْوَاتِ مِنْ أَرْذَلِ الْأَفْعَالِ وَأَرْدَأِ الْخِصَالِ بِشَهَادَةِ الْعُرْفِ وَالطَّبْعِ السَّلِيمِ وَالتَّعْدِيَةُ بِمِثْلِهِ أَيْ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ فِي مِثْلِ مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ مَا إذَا كَانَ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ فِي الْفَرْعِ دُونَهُ فِي الْأَصْلِ بَاطِلًا لَا سِيَّمَا فِي الْحُدُودِ فَإِنَّهَا تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ فَكَيْفَ يُحْتَالُ فِي إثْبَاتِهَا بِمَا لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ بِمِثْلِهِ وَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اخْتِصَاصَ النَّبَّاشِ بِهَذَا الِاسْمِ لِنُقْصَانٍ فِي فِعْلِهِ وَهُوَ أَنَّ بِخِلَافِ الطَّرَّارِ فَإِنَّ اخْتِصَاصَهُ بِاسْمٍ آخَرَ غَيْرِ السَّارِقِ لِفَضْلٍ فِي جِنَايَتِهِ وَحَذَاقَةٍ فِي فِعْلِهِ أَيْ مَهَارَةٍ؛ لِأَنَّهُ يُسَارِقُ الْأَعْيُنَ الَّتِي تَرَصَّدَتْ لِلْحِفْظِ مَعَ الِانْتِبَاهِ وَالْحُضُورِ فَكَانَ فَوْقَ مُسَارَقَةِ الْأَعْيُنِ حَالَ نَوْمِ الْمَالِكِ وَغَيْبَتِهِ فَكَانَ أَتَمَّ سَرِقَةً وَأَكْمَلَ حِيلَةً فَيَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ اسْمِ السَّارِقِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى إلَّا أَنَّهُ خَفِيَ مُرَادًا بِالْآيَةِ تَعَارُضٌ وَهُوَ زِيَادَةُ حِيلَةٍ مِنْ قِبَلِ الطَّرَّارِ لَا لِمَعْنًى فِي الْكَلَامِ، كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ وَقَوْلُهُ (وَتَعْدِيَةُ الْحُدُودِ فِي مِثْلِهِ) أَيْ فِي مِثْلِ مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ مَا إذَا كَانَ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ فِي الْفَرْعِ أَكْمَلَ وَأَتَمَّ نَوْعُ تَسَامُحٍ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ دَلَالَةِ النَّصِّ وَالتَّعْدِيَةُ تُسْتَعْمَلُ فِي الْقِيَاسِ إلَّا أَنَّهُ سَمَّاهَا تَعْدِيَةً لِشَبَهِ دَلَالَةِ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ وَإِخْرَاجًا لِلْكَلَامِ عَلَى مُقَابَلَةِ كَلَامِ الْخَصْمِ. وَأَمَّا بَيَانُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ نُقْصَانِ الْمِلْكِ فَهُوَ أَنَّ الْكَفَنَ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لِلْوَارِثِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَمَلَّكَ مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَةِ الْمَيِّتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَدْرَ الْمَشْغُولَ بِالدَّيْنِ لَا يَصِيرُ مَمْلُوكًا لَهُ لِحَاجَةِ الْمَيِّتِ فَالْكَفَنُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى الدَّيْنِ وَلَا لِلْمَيِّتِ حَقِيقَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ يُنَافِي الْمِلْكِيَّةَ؛ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ وَأَدْنَى دَرَجَاتِهَا الْحَيَاةُ وَقَدْ زَالَتْ وَأَمَّا نُقْصَانُ الْمَالِيَّةِ فَلِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ التَّمَوُّلِ وَالِادِّخَارِ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ وَهَذَا الْمَقْصُودُ يَفُوتُ فِي الْكَفَنِ فَإِنَّهُ مَعَ الْمَيِّتِ يُوضَعُ فِي الْقَبْرِ لِلْبِلَى، وَلِهَذَا يُوضَعُ فِي أَقْرَبِ الْأَمَاكِنِ مِنْ الْبِلَى وَإِلَيْهِ أَشَارَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِقَوْلِهِ اغْسِلُوا ثَوْبَيْ هَذَيْنِ وَكَفِّنُونِي فِيهِمَا فَإِنَّهُمَا لِلْمُهْلِ وَالصَّدِيدِ وَالْحَيُّ أَحْوَجُ إلَى الْجَدِيدِ فَكَانَتْ مَالِيَّةُ الْكَفَنِ وَقَدْ سُلِّمَ لِلتَّلَفِ دُونَ مَالِيَّةِ مَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ وَأَمَّا النُّقْصَانُ فِي الْحِرْزِ فَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُوا إمَّا أَنْ يُجْعَلَ الْقَبْرُ حِرْزًا بِنَفْسِهِ أَوْ بِالْمَيِّتِ

[باب أحكام الحقيقة والمجاز والصريح والكناية]

(بَابُ أَحْكَامِ الْحَقِيقَةِ) (وَالْمَجَازِ وَالصَّرِيحِ) (وَالْكِنَايَةِ) قَالَ حُكْمُ الْحَقِيقَةِ وُجُودُ مَا وُضِعَ لَهُ أَمْرًا كَانَ أَوْ نَهْيًا خَاصًّا أَوْ عَامًّا وَحُكْمُ الْمَجَازِ وُجُودُ مَا اُسْتُعِيرَ لَهُ خَاصًّا كَانَ أَوْ عَامًّا وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ الْحَقِيقَةِ التَّوْقِيفُ وَالسَّمَاعُ بِمَنْزِلَةِ النُّصُوصِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْقَبْرُ لَيْسَ بِحِرْزٍ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ دُفِنَ فِيهِ ثَوْبٌ آخَرُ مِنْ جِنْسِ الْكَفَنِ فَسُرِقَ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ وَمَا كَانَ حِرْزًا لِشَيْءٍ كَانَ حِرْزًا لِجِنْسِهِ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الصِّيَانَةِ لَا يَخْتَلِفُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَحَظِيرَةِ الْغَنَمِ وَلَا يَصِيرُ حِرْزًا بِالْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ جَمَادٌ لَا يُحَرِّزُ نَفْسَهُ فَكَيْفَ يُحَرِّزُ غَيْرَهُ وَإِنَّمَا يُحْفَرُ الْقَبْرُ حِرْزًا لِلْمَيِّتِ عَنْ السِّبَاعِ وَإِخْفَاءً لَهُ عَنْ الْأَعْيُنِ لَا إحْرَازًا لِلْكَفَنِ وَلَا يُقَالُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ إحْرَازًا كَانَ التَّكْفِينُ تَضْيِيعًا وَلِأَنَّا نَقُولُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ مَصْرُوفٌ إلَى حَاجَةِ الْمَيِّتِ وَصَرْفُ الشَّيْءِ إلَى الْحَاجَةِ لَا يَكُونُ تَضْيِيعًا وَلَا إحْرَازًا كَتَنَاوُلِ الطَّعَامِ وَإِلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ (فَإِنْ قِيلَ) يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ حِرْزًا عِنْدَ الِانْفِرَادِ وَيَصِيرُ حِرْزًا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ كَالْحِيطَانِ لَيْسَتْ بِحِرْزٍ بِدُونِ الْبَابِ وَكَذَا الْبَابُ بِدُونِهَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ يَصِيرُ حِرْزًا. (قُلْنَا) نَعَمْ إذَا حَدَثَ بِالِاجْتِمَاعِ مَعْنًى يَصْلُحُ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ كَمَا فِي الْحِيطَانِ مَعَ الْبَابِ يَصْلُحُ بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ لِحِفْظِ الْأَمْتِعَةِ لِصَيْرُورَتِهَا بَيْتًا صَالِحًا لِلْحِفْظِ فَأَمَّا الِاجْتِمَاعُ هَهُنَا فَلَا يَصِيرُ هَذَا الْمَكَانُ مَوْضِعًا لِحِفْظِ الثِّيَابِ وَالْأَمْتِعَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُحْفَظُ فِيهِ مَا سِوَى الْكَفَنِ مِنْ الثِّيَابِ وَلَوْ صَارَ حِرْزًا لِلْكَفَنِ بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ لَصَارَ حِرْزًا لِجِنْسِهِ مِنْ الثِّيَابِ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَطَعَ نَبَّاشًا» فَمُعَارَضٌ بِمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «لَا قَطْعَ فِي الْمُخْتَفِي» وَهُوَ النَّبَّاشُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَذَا فَسَّرَ أَبُو عُبَيْدٍ وَفِي الصِّحَاحِ اخْتَفَيْت الشَّيْءَ أَسْتَخْرَجْته وَالْمُخْتَفِي وَالنَّبَّاشُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَخْرِجُ الْأَكْفَانَ فَيُحْمَلُ عَلَى السِّيَاسِيَّةِ وَكَذَا حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّ لِلْإِمَامِ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَطَعَ أَيْدِي نِسْوَةٍ أَظْهَرْنَ الشَّمَاتَةَ بِوَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضَرَبْنَ الدُّفُوفَ وَكَانَ ذَلِكَ سِيَاسَةً لَا حَدًّا وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَمَحْمُولٌ عَلَى التَّشْبِيهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الِاسْمِ؛ لِأَنَّ كَافَ التَّشْبِيهِ لَا يُوجِبُ التَّعْمِيمَ وَرَوَى مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَنَّ نَبَّاشًا أُخِذَ فِي زَمَنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ فَشَاوَرَ مَنْ بَقِيَ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَأَجْمَعُوا أَنْ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الْقَطْعَ عَلَى النَّبَّاشِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ أَحْكَامِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ] [تعارض الْحَقِيقَة وَالْمَجَاز] (بَابُ أَحْكَامِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حُكْمُ الْحَقِيقَةِ وُجُودُ مَا وُضِعَ لَهُ أَيْ ثُبُوتُ مَا وُضِعَ اللَّفْظُ أَمْرًا كَانَ أَوْ نَهْيًا خَاصًّا كَانَ أَوْ عَامًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] . وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151] فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ النَّصَّيْنِ خَاصٌّ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَامٌّ فِي الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ وَحُكْمُ الْمَجَازِ وُجُودُ مَا اُسْتُعِيرَ لَهُ أَيْ ثُبُوتُ مَا اُسْتُعِيرَ اللَّفْظُ لَهُ خَاصًّا كَانَ أَوْ عَامًّا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تُتْبِعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَلَا الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ» وَفِيهِ خِلَافُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَسَنُبَيِّنُهُ وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ الْحَقِيقَةِ التَّوْقِيفُ أَيْ التَّنْصِيصُ مِنْ الْوَاضِعِ وَالسَّمَاعُ مِنْ السَّامِعِ يَعْنِي لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا إلَّا بِالنَّقْلِ عَنْ وَاضِعِ اللُّغَةِ بِمَنْزِلَةِ النُّصُوصِ فِي الشَّرْعِ فَإِنَّهَا لَا تَثْبُتُ حُجَجًا إلَّا بَعْدَ السَّمَاعِ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ

وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ الْمَجَازِ التَّأَمُّلُ فِي مَوَاضِعِ الْحَقَائِقِ وَأَمَّا فِي الْحُكْمِ فَهُمَا سَوَاءٌ إلَّا عِنْدَ التَّعَارُضِ فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ أَوْلَى مِنْهُ وَمِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَنْ قَالَ لَا عُمُومَ لِلْمَجَازِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ» فَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِعُمُومِهِ وَأَبَى أَنْ يُعَارِضَهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَالصَّاعِ بِالصَّاعَيْنِ؛ لِأَنَّ الصَّاعَ مَجَازٌ عَمَّا يَحْوِيهِ وَلَا عُمُومَ لَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالنَّقْلِ عَنْهُ وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ الْمَجَازِ التَّأَمُّلُ فِي مَوَاضِعِ الْحَقَائِقِ لِيَمْتَازَ الْوَصْفُ الْخَاصُّ الْمَشْهُورُ مِنْ غَيْرِ امْتِيَازِ الْوَصْفِ الْمُؤَثِّرِ فِي بَابِ الْقِيَاسِ عَنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ لَا يَصِحُّ بِكُلِّ وَصْفٍ وَحَاصِلُهُ أَنَّ جَوَازَ اسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى السَّمَاعِ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ طَرِيقِهِ الَّذِي سَلَكَهُ أَهْلُ اللِّسَانِ فِي اسْتِعْمَالِهِ وَهُوَ رِعَايَةُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ بِوَجْهٍ وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ أَمَّا فِي الْحُكْمِ أَيْ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ وَإِيجَابِ الْعَمَلِ فَالْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ سَوَاءٌ إلَّا عِنْدَ التَّعَارُضِ يَعْنِي إذَا تَعَارَضَ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ جِهَةَ كَوْنِهِ مُسْتَعْمَلًا فِي مَوْضُوعِهِ وَجِهَةَ كَوْنِهِ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ كَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ أَصْلٌ وَالْمَجَازَ عَارِضٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ إذَا تَعَارَضَ كَلَامٌ هُوَ حَقِيقَةٌ وَكَلَامٌ آخَرُ هُوَ مَجَازٌ كَانَتْ الْحَقِيقَةُ أَوْلَى مِنْ الْمَجَازِ وَرَاجِحَةً عَلَيْهِ وَرَأَيْت فِي بَعْضِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْحَقِيقَةَ تُرَجَّحُ عَلَى الْمَجَازِ لِعَدَمِ افْتِقَارِهَا إلَى الْقَرِينَةِ الْمُخِلَّةِ بِالتَّفَاهُمِ لِخَفَائِهَا وَعَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا وَلَكِنِّي مَا ظَفِرْت بِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ أَصْحَابِنَا صَرِيحًا فَكَانَ حَمْلُ كَلَامِ الشَّيْخِ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ أَوْلَى لِتَأَيُّدِهِ بِمَا ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ أَنَّ الْمَجَازَ أَحَدُ نَوْعِ الْكَلَامِ وَلَهُ مِنْ الْأَنْوَاعِ الْعُمُومُ وَالْأَحْكَامُ مَا لِلْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ بِمَنْزِلَتِهَا إلَّا أَنَّ الْمُطْلَقَ مِنْ الْكَلَامِ لِحَقِيقَتِهِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى مَجَازِهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ أَصْلٌ وَالثَّانِي طَارِئٌ عَلَيْهِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلِهِ. قَوْلُهُ (فَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِعُمُومِهِ وَأَبَى أَنْ يُعَارِضَهُ) إلَى آخِرِهِ بَيَانُهُ أَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ» يَدُلُّ بِعِبَارَتِهِ وَعُمُومِهِ عَلَى حُرْمَةِ بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِالْمَطْعُومِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا مُسَاوِيًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُسَاوٍ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ مُعَرَّفٌ بِاللَّامِ فَيَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ إلَّا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عَارَضَهُ فِي الْكَثِيرِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ الْمُسَاوَاةُ فِي الْكَيْلِ بِالْإِجْمَاعِ فَبَقِيَ مَا وَرَاءَهُ دَاخِلًا تَحْتَ الْعُمُومِ فَيَحْرُمُ بَيْعُ حَفْنَةٍ بِحَفْنَةٍ وَبِحَفْنَتَيْنِ وَتُفَّاحَةٍ بِتُفَّاحَةٍ وَبِتُفَّاحَتَيْنِ وَبِإِشَارَتِهِ يَقْتَضِي كَوْنَ الطُّعْمِ عِلَّةً؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مَتَى تَرَتَّبَ عَلَى اسْمٍ مُشْتَقٍّ كَانَ مَأْخَذُهُ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ كَالسَّرِقَةِ وَالزِّنَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] عَلَى مَا عُرِفَ وَالطَّعَامُ اسْمٌ لِمَا يُؤْكَلُ مُشْتَقٌّ مِنْ الطُّعْمِ وَهُوَ الْأَكْلُ فَكَانَ الطُّعْمُ هُوَ الْعِلَّةُ. وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ عِلَّةً وَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ لَيْسَتْ إلَّا أَحَدَ أَوْصَافِ النَّصِّ لَمْ يَبْقَ الْكَيْلُ عِلَّةً ضَرُورَةً فَلَا يَحْرُمُ بَيْعُ الْغَيْرِ الْمَطْعُومِ كَالْجِصِّ وَالنُّورَةِ مُتَفَاضِلًا لِعَدَمِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْحُرْمَةِ وَهِيَ الطُّعْمُ وَحَدِيثُ الصَّاعِ وَهُوَ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَلَا الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ الرَّمَاءَ» وَفِي بَعْضِ الرَّاوِيَاتِ الرَّمَاءُ يَعْنِي الرِّبَا إذْ الرَّمَاءُ الزِّيَادَةُ وَالرِّبَا وَأُرْمَى الشَّيْءَ إرْمَاءً أَيْ زَادَ وَأَرْمَى فُلَانٌ أَيْ أَرْبَى يَدُلُّ بِعِبَارَتِهِ وَعُمُومِهِ أَنَّ الرِّبَا يَجْرِي فِي غَيْرِ الْمَطْعُومِ كَالْجِصِّ وَالنُّورَةِ؛ لِأَنَّ الصَّاعَ مُحَلًّى فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ فَاسْتَغْرَقَ جَمِيعَ مَا يُحِلُّهُ مِنْ الْمَطْعُومِ وَغَيْرِهِ فَيَحْرُمُ بَيْعُ الْجِصِّ وَالنُّورَةِ مُتَفَاضِلًا وَبِإِشَارَتِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَيْلَ هَذَا لِعِلَّةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ الصَّاعِ مَا يُكَالُ بِهِ صَارَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ وَلَا مَا يُكَالُ بِصَاعٍ بِمَا يُكَالُ بِصَاعَيْنِ أَوْ وَلَا مَكِيلٍ بِمَكِيلَيْنِ فَيَقْتَضِي جَوَازَ بَيْعِ حَفْنَةٍ بِحَفْنَتَيْنِ وَتُفَّاحَةٍ بِتُفَّاحَتَيْنِ لِعَدَمِ مَعْنَى الْكَيْلِ عَلَى خِلَافِ مَا اقْتَضَاهُ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَهَذَا هُوَ

فَإِذَا ثَبَتَ الْمَطْعُومُ بِهِ مُرَادًا سَقَطَ غَيْرُهُ قَالَ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ أَصْلُ الْكَلَامِ وَالْمَجَازَ ضَرُورِيٌّ يُصَارُ إلَيْهِ تَوْسِعَةً وَلَا عُمُومَ لِمَا ثَبَتَ ضَرُورَةَ تَكَلُّمِ الْبَشَرِ وَالصَّحِيحُ مَا قُلْنَا؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْكَلَامِ فَكَانَ مِثْلَ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ عُمُومَ الْحَقِيقَةِ لَمْ يَكُنْ لِكَوْنِهِ حَقِيقَةً بَلْ لِدَلَالَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى ذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا اسْمٌ خَاصٌّ فَإِذَا زِدْت عَلَيْهِ لَامَ الْعَرِيفِ مِنْ غَيْرِ مَعْهُودٍ ذَكَرْته انْصَرَفَ إلَى تَعْرِيفِ الْجِنْسِ فَصَارَ عَامًّا بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَعْنَى الْمُعَارَضَةِ إلَّا أَنَّ الْخَصْمَ قَالَ هَذَا النَّصُّ مَجَازٌ عِبَارَةً عَمَّا يُحِلُّهُ وَيُجَاوِرُهُ بِطَرِيقِ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] أَيْ صَلَاةٍ فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِعُمُومِهِ؛ لِأَنَّ الْعُمُومَ لَا يَجْرِي إلَّا فِي الْحَقَائِقِ وَقَدْ أُرِيدَ الْمَطْعُومُ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُهُ مُرَادًا وَصَارَ كَأَنَّهُ قِيلَ وَلَا الْمَطْعُومِ الْمُقَدَّرِ بِالصَّاعِ بِالْمَطْعُومِ الْمُقَدَّرِ بِالصَّاعَيْنِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَمْ يَبْقَ لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى حُرْمَةِ بَيْعِ مَا وَرَاءَ الْمَطْعُومِ مُتَفَاضِلًا وَلَا عَلَى كَوْنِ الْمَكِيلِ عِلَّةً وَصَارَ مُوَافِقًا لِلْأَوَّلِ وَشُبْهَةُ الْخَصْمِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَلَامِ هُوَ الْحَقِيقَةُ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ وُضِعَتْ دَلَالَاتٍ عَلَى الْمَعَانِي لِلْإِفَادَةِ. وَلِهَذَا لَا يُعَارِضُ الْمَجَازُ الْحَقِيقَةَ بِالِاتِّفَاقِ حَتَّى لَا يَصِيرَ اللَّفْظُ الْمُتَرَدِّدُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي حُكْمِ الْمُشْتَرَكِ فَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ لَا يَجُوزَ اسْتِعْمَالُهَا فِي غَيْرِ مَوْضُوعَاتِهَا لِتَأْدِيَةِ ذَلِكَ إلَى الْإِخْلَالِ بِالْفَهْمِ إلَّا أَنَّهُمْ جَوَّزُوا ذَلِكَ ضَرُورَةَ التَّوْسِعَةِ فِي الْكَلَامِ بِمَنْزِلَةِ الرُّخَصِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الْأَحْكَامِ فَإِنَّهَا بُنِيَتْ ضَرُورَةَ التَّوْسِعَةِ عَلَى النَّاسِ وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ يَرْتَفِعُ بِدُونِ إثْبَاتِ حُكْمِ الْعُمُومِ لِلْمَجَازِ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَكَانَ الْمَجَازُ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا ثَبَتَ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ فَكَمَا لَا يَثْبُتُ هُنَاكَ وَصْفُ الْعُمُومِ عِنْدَكُمْ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَرْتَفِعُ بِدُونِهِ فَكَذَا هُنَا عِنْدِي وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمَجَازُ أَحَدُ نَوْعَيْ الْكَلَامِ فَكَانَ مِثْلَ صَاحِبِهِ فِي احْتِمَالِ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ وَفِي قَوْلِهِ أَحَدُ نَوْعَيْ الْكَلَامِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمَجَازَ لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ بَلْ هُوَ أَحَدُ قِسْمَيْ الْكَلَامِ حَتَّى كَادَ الْمَجَازُ يَغْلِبُ الْحَقِيقَةَ فَكَيْفَ يُسَمَّى هَذَا ضَرُورِيًّا. قَوْلُهُ (لِأَنَّ عُمُومَ الْحَقِيقَةِ لَمْ يَكُنْ لِكَوْنِهِ حَقِيقَةً) إذًا لَوْ كَانَ كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُوجَدَ حَقِيقَةً إلَّا وَأَنْ تَكُونَ عَامَّةً وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ بَلْ لِدَلِيلٍ زَائِدٍ لِيُحَقَّقَ بِهِ مِثْلُ الْوَاوِ وَالنُّونِ أَوْ الْأَلِفِ وَالتَّاءِ فِي قَوْلِهِ مُسْلِمُونَ وَمُسْلِمَاتٌ أَوْ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِيمَا لَا مَعْهُودَ فِيهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي بَابِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ فِي الْمَجَازِ وَجَبَ الْقَوْلُ بِعُمُومِهِ إذَا كَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا لَهُ كَمَا فِي الْحَقِيقَةِ (فَإِنْ قِيلَ) سَلَّمْنَا أَنَّ الْعُمُومَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ حَقِيقَةً وَلَكِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ وَلِلدَّلِيلِ الَّذِي التَّحَقُّقُ بِهِ فَيَثْبُتُ الْعُمُومُ بِالْمَجْمُوعِ وَلَمْ يُوجَدْ بِالْمَجْمُوعِ فِي الْمَجَازِ فَلَا يَصِحُّ الْقَوْلُ بِعُمُومِهِ. (قُلْنَا) لَا بُدَّ فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ نَوْعُ تَأْثِيرٍ فِي إثْبَاتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ لِيَصِحَّ إضَافَتُهُ إلَيْهِمَا وَقَدْ وَجَدْنَا التَّأْثِيرَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِلدَّلِيلِ اللَّاحِقِ لَا لِكَوْنِهِ حَقِيقَةً فَلَا يَصِحُّ إضَافَتُهُ إلَيْهِمَا بَلْ يَجِبُ إضَافَتُهُ إلَى ذَلِكَ الدَّلِيلِ الْمُؤَثِّرِ وَذَلِكَ أَنَّا قَدْ وَجَدْنَا الْوَاوَ وَالنُّونَ وَلَامَ التَّعْرِيفِ فِي اسْمِ الْجِنْسِ، وَسَائِرُ دَلَائِلِ الْعُمُومِ تَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ دَلَالَةً مُطَّرِدَةً وَلَمْ نَجِدْ الْحَقِيقَةَ كَذَلِكَ إذْ هِيَ مَوْجُودَةٌ فِي مُسْلِمٍ وَضَارِبٍ وَرَجُلٍ وَلَا تَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ بِوَجْهٍ فَعَرَفْنَا أَنْ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فَأَضَفْنَا ثُبُوتَ الْعُمُومِ إلَى الدَّلِيلِ الْمُؤَثِّرِ إلَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً وَلَكِنْ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا إنَّمَا اطَّرَدَ دَلَالَةُ الْوَاوِ وَالنُّونِ وَغَيْرِهِمَا عَلَى الْعُمُومِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ عَنْ صِيغَةٍ تَلْحَقُ بِهَا فَتَدُلُّ حَقِيقَةُ تِلْكَ الصِّيغَةِ مَعَ الدَّلِيلِ اللَّاحِقِ بِهِ عَلَى الْعُمُومِ لِاجْتِمَاعِ الْوَصْفَيْنِ فَأَمَّا الْحَقِيقَةُ فَقَدْ انْفَصَلَتْ عَنْ دَلِيلِ الْعُمُومِ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ النَّظَائِرِ فَلَا يَثْبُتُ الْعُمُومُ بِهَا وَحْدَهَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُتَعَلِّقَ بِالْوَصْفَيْنِ لَا يَثْبُتُ بِوَصْفٍ وَاحِدٍ فَإِذًا لَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى انْتِفَاءِ كَوْنِ

فَالصَّاعُ نَكِرَةٌ زِيدَ عَلَيْهَا لَامُ التَّعْرِيفِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَعْهُودٌ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ فَانْصَرَفَ إلَى جِنْسِ مَا أُرِيدَ بِهِ وَلَوْ أُرِيدَ بِهِ عَيْنُهُ لَصَارَ عَامًّا فَإِذَا أُرِيدَ بِهِ مَا يُحِلُّهُ وَيُجَاوِرُهُ مَجَازًا كَانَ كَذَلِكَ لِوُجُودِ دَلَالَتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ اُسْتُعِيرَ لَهُ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ لِيَعْمَلَ فِي ذَلِكَ عَمَلَهُ فِي مَوْضِعِهِ كَالثَّوْبِ يَلْبَسُهُ الْمُسْتَعِيرُ كَانَ أَثَرُهُ فِي دَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ مِثْلَ عَمَلِهِ إذَا لَبِسَ بِحَقِّ الْمِلْكِ إلَّا أَنَّهُمَا يَتَفَاوَتَانِ لُزُومًا وَبَقَاءً. وَالْمَجَازُ طَرِيقٌ مُطْلَقٌ لَا ضَرُورِيٌّ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْحَقِيقَةِ مُؤَثِّرًا فِي الْعُمُومِ. قَوْلُهُ (وَالصَّاعُ نَكِرَةٌ) أَيْ لَفْظُ الصَّاعِ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وَلَا الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ» قَبْلَ دُخُولِ اللَّامِ عَلَيْهِ كَانَ نَكِرَةً يَعْنِي لَوْ تَصَوَّرْنَاهُ بِدُونِ اللَّامِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَانَ نَكِرَةً فَزِيدَ عَلَيْهَا لَامُ التَّعْرِيفِ وَلَيْسَ ثَمَّ مَعْهُودٌ فَانْصَرَفَ إلَى الْجِنْسِ فَأَوْجَبَ التَّعْمِيمَ وَفِي ضَمِّ قَوْلِهِ وَيُجَاوِرُهُ إلَى مَا يُحِلُّهُ إشَارَةً إلَى الْمَعْنَى الْمُجَوِّزِ لِلْمَجَازِ أَيْ جَوَازِ إرَادَةِ مَا يُحِلُّهُ بِاعْتِبَارِ الْمُجَاوَرَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ اُسْتُعِيرَ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ الضَّمِيرِ فِي أَنَّهُ لِشَأْنٍ أَيْ أَنَّ الشَّأْنَ اسْتِعَارَةُ ذَلِكَ اللَّفْظِ الَّذِي صَارَ عَامًّا بِدَلِيلٍ وَهُوَ الصَّاعُ مَثَلًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِيَعْمَلَ فِي ذَلِكَ أَيْ فِيمَا اُسْتُعِيرَ لَهُ وَهُوَ مَا يُحِلُّهُ وَيُجَاوِرُهُ عَمَلُهُ أَيْ كَعَمَلِهِ فِي مَحَلِّهِ وَهُوَ مَوْضُوعُهُ الْأَصْلِيُّ وَلَمَّا كَانَ عَمَلُهُ فِي مَحَلِّهِ إثْبَاتُ الْعُمُومِ كَانَ كَذَلِكَ فِيمَا اُسْتُعِيرَ لَهُ أَيْضًا لِوُجُودِ دَلَالَتِهِ وَهِيَ لَامُ التَّعْرِيفِ. قَوْلُهُ (إلَّا أَنَّهُمَا يَتَفَاوَتَانِ) جَوَابٌ عَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَقِيقَةَ تَتَرَجَّحُ عِنْدَ التَّعَارُضِ أَيْ هُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَلَكِنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ فِي اللُّزُومِ وَالْبَقَاءِ فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ لَازِمَةٌ بَاقِيَةٌ حَتَّى لَمْ يَصِحَّ نَفْيُهَا عَنْ مَوْضُوعِهَا وَالْمَجَازُ لَيْسَ بِلَازِمٍ بَاقٍ حَتَّى صَحَّ نَفْيُهُ كَالثَّوْبِ الْمَلْبُوسِ لَا يُسْتَرَدُّ إذَا كَانَ مَمْلُوكًا وَيُسْتَرَدُّ إذَا كَانَ عَارِيَّةً، وَلِهَذَا تَتَرَجَّحُ الْحَقِيقَةُ عِنْدَ التَّعَارُضِ؛ لِأَنَّهَا أَلْزَمُ وَأَدْوَمُ وَالْمَطْلُوبُ بِكُلِّ كَلِمَةٍ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مَا هِيَ مَوْضُوعَةٌ لَهُ فِي الْأَصْلِ فَيَتَرَجَّحُ ذَلِكَ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْمَجَازِ بِمَنْزِلَةِ الْمَلْبُوسِ يَتَرَجَّحُ جِهَةُ الْمِلْكِ لِلَّابِسِ فِيهِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْعَارِيَّةِ كَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا التَّرَجُّحُ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْمَجَازِ ضَرُورِيًّا كَتَرْجِيحِ الْمُحْكَمِ عَلَى الظَّاهِرِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ ضَرُورِيًّا وَعَلَى انْتِفَاءِ الْعُمُومِ عَنْهُ. قَوْلُهُ (وَالْمَجَازُ طَرِيقٌ مُطْلَقٌ) أَيْ طَرِيقٌ جَازَ سُلُوكُهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَإِنَّا نَجِدُ الْفَصِيحَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ الْقَادِرَ عَلَى التَّعْبِيرِ عَنْ مَقْصُودِهِ بِالْحَقِيقَةِ يَعْدِلُ إلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِالْمَجَازِ لَا لِحَاجَةٍ وَلَا لِضَرُورَةٍ وَقَدْ ظَهَرَ اسْتِحْسَانُ النَّاسِ لِلْمَجَازَاتِ فَوْقَ مَا ظَهَرَ مِنْ اسْتِحْسَانِهِمْ لِلْحَقَائِقِ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَهُمْ هُوَ ضَرُورِيٌّ فَاسِدٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْقُرْآنَ فِي أَعْلَى رُتَبِ الْفَصَاحَةِ وَأَرْفَعِ دَرَجِ الْبَلَاغَةِ، وَالْمَجَازُ مَوْجُودٌ فِيهِ عُدَّ مِنْ غَرِيبِ بَدَائِعِهِ وَعَجِيبِ بَلَاغَتِهِ قَوْله تَعَالَى {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24] وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلذُّلِّ جَنَاحٌ وَقَوْلُهُ {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] أَيْ أَظْهِرْهُ غَايَةَ الْإِظْهَارِ فَكَانَ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالصَّدْعِ أَبْلَغَ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ لِصَدْعِ الزُّجَاجِ وَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} [هود: 44] وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [آل عمران: 15] وَالْجَرْيُ لِلْمَاءِ لَا لِلْأَنْهَارِ وَقَوْلُهُ عَلَتْ كَلِمَتُهُ {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى وَاَللَّهُ تَعَالَى عَلِيٌّ أَيْ مُنَزَّهٌ عَنْ الْعَجْزِ وَالضَّرُورَاتِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ وَلَا يُقَالُ الْمُقْتَضَى ضَرُورِيٌّ عِنْدَكُمْ حَتَّى أَنْكَرْتُمْ جَوَازَ عُمُومِهِ أَصْلًا مَعَ أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ فَلْيَكُنْ الْمَجَازُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الضَّرُورَةُ فِي الْمُقْتَضَى رَاجِعَةٌ إلَى الْكَلَامِ وَالسَّامِعِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ ضَرُورَةً تَصْحِيحُ الْكَلَامِ شَرْعًا لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى الْإِخْلَالِ بِفَهْمِ السَّامِعِ، وَالضَّرُورَةُ فِي الْمَجَازِ لَوْ ثَبَتَتْ كَانَتْ رَاجِعَةً إلَى الْمُتَكَلِّمِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ لِتَوْسِعَةِ طَرِيقِ التَّكَلُّمِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ. وَلِهَذَا ذُكِرَ الْمَجَازُ فِي أَقْسَامِ اسْتِعْمَالِ النَّظْمِ الَّذِي هُوَ رَاجِعٌ إلَى الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُقْتَضَى فِي أَقْسَامِ الْوُقُوفِ عَلَى الْمُرَادِ الَّذِي هُوَ حَظُّ السَّامِعِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يُوجَدَ الْمُقْتَضَى

حَتَّى كَثُرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ أَفْصَحُ اللُّغَاتِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَا عَنْ الْعَجْزِ وَالضَّرُورَاتِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي الْقُرْآنِ بِخِلَافِ الْمَجَازِ لَوْ كَانَ ضَرُورِيًّا وَبِهَذَا ظَهَرَ أَنَّ اسْتِدْلَالَهُمْ بِالْمُقْتَضَى لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْعُمُومَ الْعَوَارِضُ الْأَلْفَاظُ عَلَى مَا مَرَّ وَالْمَجَازُ مَلْفُوظٌ فَإِذَا وُجِدَ دَلِيلُ الْعُمُومِ فِيهِ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِعُمُومِهِ فَأَمَّا الْمُقْتَضَى فَغَيْرُ مَلْفُوظٍ لَا تَحْقِيقًا وَلَا تَقْدِيرًا بَلْ هُوَ ثَابِتٌ شَرْعًا فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْعُمُومُ بِخِلَافِ الْمَحْذُوفِ فَإِنَّهُ مَلْفُوظٌ تَقْدِيرًا فَأَمْكَنَ الْقَوْلُ بِعُمُومِهِ عِنْدَ وُجُودِ دَلِيلِهِ. قَالَ أَبُو الْيُسْرِ الْمُقْتَضَى إذَا كَانَ ثَابِتًا لُغَةً يُوجِبُ الْعُمُومَ فَأَمَّا إذَا كَانَ ثَابِتًا شَرْعًا فَلَا؛ لِأَنَّهُ صُيِّرَ إلَيْهِ لِلضَّرُورَةِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا وَفِي قَوْلِهِ حَتَّى كَثُرَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إشَارَةً إلَى رَدِّ قَوْلِ مَنْ أَنْكَرَ وُقُوعَ الْمَجَازِ فِي الْقُرْآنِ مِنْ الرَّافِضَةِ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ مِنْهُمْ دَاوُد الْأَصْفَهَانِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْأَصْبَهَانِيُّ وَاتِّبَاعُهُمَا مُتَمَسِّكِينَ بِأَنَّ الْمَجَازَ كَذِبٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُصَدَّقُ نَافِيهِ وَإِذَا كَانَ صِدْقًا كَانَ إثْبَاتُهُ كَذِبًا ضَرُورَةً وَإِذَا كَانَ كَذِبًا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَجَازَ هُوَ اسْتِعَارَةُ الْكَلِمَةِ لِغَيْرِ مَا وُضِعَتْ وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ ذِي الْحَاجَةِ وَأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ الْحَاجَةِ وَبِأَنَّ الْمَجَازَ لَوْ كَانَ وَاقِعًا فِي الْقُرْآنِ لَصَحَّ وَصْفُهُ تَعَالَى بِكَوْنِهِ مُتَجَوِّزًا لِصُدُورِ التَّكَلُّمِ بِالْمَجَازِ وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ مَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ بِحَيْثُ لَا وَجْهَ إلَى إنْكَارِهِ وَنَظَائِرُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى وَقَوْلُهُمْ الْمَجَازُ كَذِبٌ فَيَمْتَنِعُ وُقُوعُهُ فِي كَلَامِهِ تَعَالَى وَهْمٌ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ كَذِبَهُ إنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ لِلْحَقِيقَةِ كَقَوْلِنَا هُوَ أَسَدٌ بِالْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِأَسَدٍ بِالْحَقِيقَةِ لِتَنَاقُضِهِمَا ح. وَأَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا بِالْحَقِيقَةِ وَالْآخَرُ بِالْمَجَازِ كَقَوْلِنَا لَيْسَ بِأَسَدٍ بِالْحَقِيقَةِ هُوَ أَسَدٌ بِالْمَجَازِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِدْقِ النَّفْيِ كَذِبُ الْإِثْبَاتِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَتَنَافَيَانِ وَإِنَّمَا لَمْ يَصِحَّ وَصْفُهُ تَعَالَى بِكَوْنِهِ مُتَجَوِّزًا؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِطْلَاقِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِذْنِ؛ لِأَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ وَذَكَرَ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ فِي أُصُولِهِ بَعْدَ ذِكْرِ قَوْلِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ وَذَكَرَ شُبْهَتَهُمْ ثُمَّ افْتِرَاقَ هَؤُلَاءِ فِي كَلِمَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ طَرِيقُهَا الْمَجَازُ فَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَ بَعْضَهُمَا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَتَقَوَّلَ فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] وَقَوْلُهُ {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف: 77] إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إنْطَاقِ الْأَرْضِ لِأَنْبِيَائِهِ وَعَلَى خَلْقِ الْإِرَادَةِ فِي الْجِدَارِ وَمِنْهُمْ مَنْ شَكَّ فِي كَوْنِ الْمَجَازَاتِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ أَنَّهَا مِنْهُ وَقَالَ لَعَلَّهَا مِنْ الْجِنْسِ الَّذِي غُيِّرَ مِنْهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْإِمَامِيَّةُ مِنْ الرَّافِضَةِ فِي دَعْوَاهَا أَنَّ الصَّحَابَةَ غَيَّرَتْ نَظْمَ الْقُرْآنِ وَزَادَتْ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَنَقَضَتْ مِنْهُ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ إمَامَةِ عَلِيٍّ وَأَوْلَادِهِ وَزَعْمِهِمْ أَيْضًا أَنَّ مَا فِيهِ مِنْ مَجَازَاتٍ فَهُوَ مَنْ زِيَادَاتِ الْمُبَدِّلِينَ ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَمَّا الَّذِينَ أَنْكَرُوا وُجُودَ الْمَجَازِ فِي الْقُرْآنِ وَزَعَمُوا أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِ مَجَازٌ لَكَانَ كَذِبًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] كَذِبًا؛ لِأَنَّ إنَّا وَنَحْنُ لِلْجَمَاعَةِ دُونَ الْوَاحِدِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ. وَإِنْ قَالُوا صَحَّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ فَهُوَ الْمَجَازُ الَّذِي أَنْكَرُوهُ وَأَيْضًا فَإِنَّ مُنْكِرَ الْمَجَازِ فِي الْقُرْآنِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَقُولَ الْمَعْدُومُ شَيْءٌ كَمَا قَالَتْ الْقَدَرِيَّةُ أَوْ يَقُولَ لَيْسَ بِشَيْءٍ كَمَا قَالَ غَيْرُهُمْ وَعَلَى الْأَوَّلِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9] مَجَازًا وَعَلَى الثَّانِي يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1] مَجَازًا وَأَمَّا الرَّافِضَةُ الْمُدَّعِيَةُ أَنَّ الْمَجَازَاتِ كُلَّهَا مِمَّا غَيَّرَتْهَا الصَّحَابَةُ فَلَا كَلَامَ مَعَهُمْ فِي هَذِهِ

وَمِنْ حُكْمِ الْحَقِيقَةِ أَنَّهُ لَا تَسْقُطُ عَنْ الْمُسَمَّى بِحَالٍ وَإِذَا اُسْتُعِيرَ لِغَيْرِهِ احْتَمَلَ السُّقُوطَ يُقَالُ لِلْوَالِدِ أَبٌ وَلَا يُنْفَى عَنْهُ بِحَالٍ وَيُقَالُ لِلْجَدِّ أَبٌ مَجَازًا وَيَصِحُّ أَنْ يُنْفَى عَنْهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْحَقِيقَةَ وَضْعٌ وَهَذَا مُسْتَعَارٌ فَكَانَا كَالْمِلْكِ وَالْعَارِيَّةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَهْجُورًا فَيَصِيرُ ذَلِكَ دَلَالَةَ الِاسْتِثْنَاءِ كَمَا قُلْنَا فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ الدَّارَ فَانْتَقَلَ مِنْ سَاعَتِهِ وَكَمَنْ حَلَفَ لَا يَقْتُلُ وَقَدْ كَانَ جَرَحَ وَلَا يُطْلَقُ وَقَدْ كَانَ حَلَفَ كَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ الدَّقِيقِ لَا يَحْنَثُ بِالْأَكْلِ مِنْ عَيْنِهِ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا وَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الشَّجَرِ فَأَكَلَ مِنْ عَيْنِ الشَّجَرِ لَمْ يَحْنَثْ أَيْضًا. وَمِنْ أَحْكَامِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّهُمْ فِي حِيرَةٍ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَفِي تِيهٍ إلَى أَنْ يَظْهَرَ إمَامُهُمْ الَّذِي يَنْتَظِرُونَهُ وَمَنْ لَا يَثِقُ بِشَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَلَا يُنَاظَرُ فِي صِفَاتِ كَلِمَاتِ الْقُرْآنِ وَلَا فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ (وَمِنْ حُكْمِ الْحَقِيقَةِ أَنَّهُ) أَيْ أَنَّ لَفْظَ الْحَقِيقَةِ وَلَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُسَمَّى بِحَالٍ أَيْ يَصِحُّ إطْلَاقُهُ عَلَى مَوْضُوعِهِ أَبَدًا وَلَا يَصِحُّ نَفْيُهُ عَنْهُ بِحَالٍ فَإِذَا أُطْلِقَ كَانَ مُسَمَّاهُ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَإِلَّا إذَا كَانَ مَهْجُورًا الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ لَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُسَمَّى بِحَالٍ يَعْنِي إذَا كَانَ الْمُسَمَّى مَهْجُورًا أَيْ تَرَكَ النَّاسُ الْعَمَلَ بِهِ وَإِرَادَتَهُ عَنْ هَذَا اللَّفْظِ " فح " بِجَوَازِ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ لَفْظُهُ الْمَوْضُوعُ لَهُ لَا يَتَنَاوَلُهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ سَوَاءٌ كَانَ الْهِجْرَانُ بِالْعَادَةِ أَوْ بِالتَّعَذُّرِ بَلْ يَتَعَيَّنُ الْمَجَازُ وَيَصِيرُ ذَلِكَ أَيْ كَوْنُهُ مَجْهُورًا دَلِيلَ الِاسْتِثْنَاءِ أَيْ نَازِلًا مَنْزِلَتَهُ فَيَصِيرُ الْمُسَمَّى الْمَهْجُورُ مُسْتَثْنًى تَقْدِيرًا مِنْ جُمْلَةِ مُحْتَمَلَاتِ اللَّفْظِ مَعَ صَلَاحِيَتِهِ لِلدُّخُولِ تَحْتَ اللَّفْظِ كَمَنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ وَهُوَ فِيهَا مُوجِبُ هَذَا الْكَلَامِ وُجُوبَ الِامْتِنَاعِ عَنْ السُّكْنَى مِنْ زَمَانِ الْحَلِفِ إلَى آخِرِ الْعُمُرِ؛ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ " لَا يَسْكُنُ " نَكِرَةٌ وَقَعَتْ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ فَيَعُمُّ جَمِيعَ مَا يُتَصَوَّرُ مِنْ السُّكْنَى فِي الْعُمُرِ فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ وَإِنْ أَخَذَ فِي النَّقْلَةِ مِنْ سَاعَتِهِ كَمَا قَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِوُجُودِ حَقِيقَةِ السُّكْنَى بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْيَمِينِ وَإِنْ قَلَّ لِفَوَاتِ شَرْطِ الْبِرِّ بِهِ وَهُوَ اسْتِغْرَاقُ الْعَدَمِ جَمِيعَ الْعُمُرِ كَمَا لَوْ دَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ عَلَى الْفَوْرِ بَعْدَ الِانْتِقَالِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ السُّكْنَى صَارَ مُسْتَثْنًى عَنْ الْيَمِينِ لِكَوْنِهِ مَهْجُورًا فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ بِدَلَالَةِ أَنَّ مَقْصُودَ الْحَالِفِ مَنْعُ نَفْسِهِ عَمَّا فِي وُسْعِهِ مِنْ السُّكْنَى إذْ الْيَمِينُ تُعْقَدُ لِلْبِرِّ لَا لِلْحِنْثِ وَلَا يُتَصَوَّرُ الْمَنْعُ وَمُحَافَظَةُ الْبِرِّ إلَّا بِإِخْرَاجِ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْيَمِينِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ تَحْقِيقًا لِلْمَقْصُودِ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَا أَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ إلَّا زَمَانَ الِانْتِقَالِ. قَوْلُهُ (وَكَمَنْ حَلَفَ لَا يَقْتُلُ فُلَانًا وَقَدْ كَانَ جَرَحَهُ قَبْلَ ذَلِكَ) فَمَاتَ الْمَجْرُوحُ بَعْدَ يَمِينِهِ مِنْ ذَلِكَ الْجُرْحِ لَا يَحْنَثُ وَإِنْ وُجِدَ الِانْزِهَاقُ الَّذِي بِهِ وَيَصِيرُ الْجُرْحُ السَّابِقُ قَتْلًا بَعْدَ الْيَمِينِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَقْصُودَ الْحَالِفِ مَنْعُ النَّفْسِ عَمَّا فِي وُسْعِهِ مِنْ الْقَتْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَصَارَ هَذَا الْمَوْتُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ مَقْصُودِهِ مُسْتَثْنًى عَنْ الْيَمِينِ لِكَوْنِهِ مَهْجُورًا وَقِسْ عَلَيْهِ مَسْأَلَةَ الطَّلَاقِ وَكَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الدَّقِيقِ فَأَكَلَ مِنْ عَيْنِهِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ عَيْنَهُ مَأْكُولٌ فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْيَمِينِ كَأَكْلِ الْخُبْزِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ أَكْلَ عَيْنِ الدَّقِيقِ مَهْجُورٌ عَادَةً فَصَارَ ذَلِكَ دَلِيلَ الِاسْتِثْنَاءِ وَيَنْصَرِفُ يَمِينُهُ إلَى مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ مِنْ الْخُبْزِ وَنَحْوِهِ، كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَالْمَبْسُوطِ وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الدَّقِيقَ يَتَأَتَّى أَكْلُ عَيْنِهِ وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْأَكْلِ يَحْصُلُ بِأَكْلِ عَيْنِهِ وَقَدْ تُقْلَى فَيُؤْكَلُ أَيْضًا فَإِذَا كَانَ حَقِيقَةُ لَفْظِهِ مُتَعَارَفًا أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ (قُلْنَا) يَحْنَثُ بِهِ. وَفِي الْمَبْسُوطِ وَلَوْ نَوَى أَكْلَ الدَّقِيقِ بِعَيْنِهِ لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ الْخُبْزِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَفِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْقَاضِي الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنْ عَنَى أَكْلَ الدَّقِيقِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ فِيمَا فِيهِ تَغْلِيظٌ حَتَّى يَحْنَثَ بِأَكْلِ الدَّقِيقِ وَلَا يَصْدُقُ فِي صَرْفِ الْيَمِينِ عَنْ الْخُبْزِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَكَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الشَّجَرِ فَأَكَلَ مِنْ عَيْنِهِ لَمْ يَحْنَثْ يَعْنِي فِي شَجَرٍ لَا يُؤْكَلُ عَيْنُهُ عَادَةً؛ لِأَنَّ أَكْلَ عَيْنِ الشَّجَرِ لَمَّا كَانَ

اسْتِحَالَةُ اجْتِمَاعِهِمَا مُرَادَيْنِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَهْجُورًا لِلتَّعَذُّرِ انْصَرَفَتْ يَمِينُهُ إلَى الْمَجَازِ وَهُوَ أَكْلُ ثَمَرِهِ إنْ كَانَ لَهُ ثَمَرٌ وَثَمَنِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ (اسْتِحَالَةَ اجْتِمَاعِهِمَا مُرَادَيْنِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ) اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي جَوَازِ إطْلَاقِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ عَلَى مَدْلُولِهِ الْحَقِيقِيِّ وَمَدْلُولِهِ الْمَجَازِيِّ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَذَهَبَ أَصْحَابُنَا وَعَامَّةُ أَهْلِ الْأَدَبِ وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَعَامَّةُ الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى امْتِنَاعِهِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَعَامَّةُ أَصْحَابِهِ وَعَامَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَعَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ أَحْمَدَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى جَوَازِهِ مُسْتَرْوِحِينَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ إرَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا قَدْ يَجِدُ نَفْسَهُ مُرِيدَةً بِالْعِبَارَةِ الْوَاحِدَةِ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَمَا يَجِدُهَا مُرِيدَةً لِلْمَعْنَيَيْنِ الْمُتَّفِقَيْنِ جَمِيعًا وَنَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ أَنْفُسِنَا قَطْعًا فَمَنْ ادَّعَى اسْتِحَالَتَهُ فَقَدْ جَحَدَ الضَّرُورَةَ وَعَانَدَ الْمَعْقُولَ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا قَدْ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ لَا تَنْكِحْ مَا نَكَحَ أَبُوك أَوْ قَالَ تَوَضَّأَ مِنْ لَمْسِ الْمَرْأَةِ إرَادَةَ الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ وَإِرَادَةَ الْمَسِّ بِالْيَدِ وَالْوَطْءِ حَتَّى لَوْ صَرَّحَ بِهِ وَقَالَ تَنْكِحُ مَا نَكَحَ أَبُوك وَطْئًا وَلَا عَقْدًا وَتَوَضَّأَ مِنْ اللَّمْسِ مُسَاوٍ وَطْئًا صَحَّ مِنْ غَيْرِ اسْتِحَالَةٍ فَكَذَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] عَلَى الْوَطْءِ وَالْعَقْدِ وَقَوْلُهُ جَلَّ جَلَالُهُ. {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] . عَلَى الْوَطْءِ وَالْمَسِّ بِالْيَدِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحَالَةٍ. وَيُؤَيِّدُهُ صِحَّةُ اسْتِثْنَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ النَّصِّ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَسُّ بِالْيَدِ وَإِلَّا أَنْ يَكُونَ بِالْوَطْءِ وَإِذَا صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ صَحَّتْ إرَادَةُ الْجَمِيعِ أَيْضًا عِنْدَ عَدَمِهِ. قَالُوا وَقَدْ حُكِيَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ قَالَ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ الدُّعَاءُ عَلَى الْغَيْرِ وَالْخَبَرُ عَنْ حَالِهِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِغَيْرِهِ لَهُ الْوَيْلُ فَهَذَا دُعَاءٌ عَلَيْهِ بِالْوَيْلِ وَخَبَرٌ عَنْ ثُبُوتِ الْوَيْلِ لَهُ وَهَذَانِ مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ. قَالُوا وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أُرِيدَ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ مَعْنَيَانِ مُتَضَادَّانِ كَمَا إذَا أُرِيدَ بِالْأَمْرِ الْوُجُوبُ وَالنَّدْبُ أَوْ الْإِبَاحَةُ أَوْ التَّهْدِيدُ أَوْ أُرِيدَ بِالْمُشْرِكِينَ الْكُلُّ وَالْبَعْضُ حَيْثُ لَا يَجُوزُ مَعَ صَلَاحِيَتِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِمَا مُسْتَحِيلٌ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْفِعْلِ وَاجِبًا يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ يُضَادُّ كَوْنَهُ نَدْبًا أَوْ مُبَاحًا لَا نَأْثَمُ بِتَرْكِهِ فَيَسْتَحِيلُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. وَكَذَا إرَادَةُ الْكُلِّ يُضَادُّ إرَادَةَ الْبَعْضِ فَأَمَّا إرَادَةُ وُجُوبِ الطُّهْرِ مِنْ الْمَسِّ بِالْيَدِ فَلَا يُضَادُّ إرَادَةَ وُجُوبِ الطُّهْرِ مِنْ الْجِمَاعِ فَلَا يَسْتَحِيلُ الْجَمْعُ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِجَوَازِ إرَادَتِهِمَا. وَلِمَنْ ذَهَبَ إلَى امْتِنَاعِهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا أَنَّ الْقَوْلَ بِجَوَازِ إرَادَتِهِمَا يُؤَدِّي إلَى الْمُحَالِ فَيَكُونُ فَاسِدًا. وَبَيَانُ الِاسْتِحَالَةِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا مَا أَشَارَ الشَّيْخُ إلَيْهِ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْحَقِيقَةَ مَا يَكُونُ مُسْتَقِرًّا فِي مَوْضُوعِهِ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ وَالْمَجَازُ مَا يَكُونُ مُتَجَاوِزًا عَنْ مَوْضُوعِهِ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِهِ وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِرًّا فِي مَوْضِعِهِ وَمُتَجَاوِزًا عَنْهُ ضَرُورَةَ أَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لَا يُحِلُّ مَكَانَيْنِ. وَثَانِيهَا أَنَّهُ لَوْ صَحَّ الْإِطْلَاقُ عَلَيْهِمَا يَكُونُ الْمُسْتَعْمِلُ مُرِيدًا لِمَا وُضِعَتْ لَهُ الْكَلِمَةُ أَوَّلًا لِاسْتِعْمَالِهَا فِيهِ غَيْرَ مُرِيدٍ لَهُ أَيْضًا لِلْعُدُولِ بِهَا عَمَّا وُضِعَتْ لَهُ فَيَكُونُ مَوْضُوعُهَا مُرَادًا أَوْ غَيْرَ مُرَادٍ وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ. وَالِاسْتِحَالَةُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى. وَثَالِثُهَا أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْكَلِمَةِ فِيمَا هِيَ مَجَازٌ فِيهِ يُوجِبُ إضْمَارَ كَافِ التَّشْبِيهِ لِمَا عُرِفَ وَاسْتِعْمَالُهَا فِيمَا هِيَ حَقِيقَةٌ فِيهِ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْإِضْمَارِ وَعَدَمِهِ تَنَافٍ. وَرَابِعُهَا أَنَّ الْمَجَازَ لَا يُعْقَلُ مِنْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQالْخِطَابِ إلَّا بِقَرِينَةٍ وَتَقْيِيدٍ، وَالْحَقِيقَةُ تُفْهَمُ بِالْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ وَتَقْيِيدٍ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ الْوَاحِدُ جَامِعًا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَيَكُونُ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ. وَلَكِنَّ الْفَرِيقَ الْأَوَّلَ اعْتَرَضُوا عَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ فَقَالُوا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحَقِيقَةَ مُسْتَقِرَّةٌ فِي مَوْضِعِهِ حَقِيقَةً وَالْمَجَازُ مُتَجَاوِزٌ عَنْ مَوْضِعِهِ كَذَلِكَ بَلْ اللَّفْظُ صَوْتٌ وَحَرْفٌ يَتَلَاشَى كَمَا وُجِدَ فَيَسْتَحِيلُ وَصْفُهُ بِالِاسْتِقْرَارِ وَالتَّجَاوُزِ وَلَكِنَّهُ اسْتَعْمَلَ أَيْ تَلَفَّظَ بِهِ وَأُرِيدَ بِهِ مَوْضُوعُهُ وَغَيْرُ مَوْضُوعِهِ وَلَا اسْتِحَالَةَ فِي ذَلِكَ كَمَا بَيَّنَّا. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي أَنَّا لَا نُسَلِّمُ لُزُومَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُرِيدٍ لِمَا وُضِعَتْ الْكَلِمَةُ لَهُ أَوْ لَا بَلْ اللَّازِمُ كَوْنُهُ مُرِيدًا لِمَا وُضِعَتْ لَهُ أَوَّلًا وَثَانِيًا وَهُوَ الْمَجْمُوعُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إرَادَتِهِمَا مَعًا أَنْ لَا يَكُونَ الْأَوَّلُ مُرَادًا. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا قَالَ رَأَيْت الْأَسْوَدَ وَأَرَادَ بِهِ أَسَدًا وَرِجَالًا شُجْعَانًا لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُضْمِرَ كَافَ التَّشْبِيهِ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الرَّابِعِ أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ لَا يَلْزَمُنَا؛ لِأَنَّا إنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ اللَّفْظُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ إذَا تَسَاوَيَا فِي الِاسْتِعْمَالِ لَكِنْ إذَا عَرِيَ عَنْ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمَجَازِ إلَّا أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ ثُمَّ قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَجَازِ لَا يَنْفِي عَنْ اللَّفْظِ إرَادَةَ الْحَقِيقَةِ لِصِحَّةِ تَعَلُّقِ الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ بِهِمَا جَمِيعًا وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الِاعْتِرَاضَاتِ وَهَاءٌ وَفِي الْجَوَابِ عَنْهَا كَلَامٌ طَوِيلٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ إرَادَةَ الْمَعْنَيَيْنِ تَجُوزُ عَقْلًا وَلَكِنْ لَا تَجُوزُ لُغَةً؛ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ وَضَعُوا قَوْلَهُمْ حِمَارٌ لِلْبَهِيمَةِ الْمَخْصُوصَةِ وَحْدَهَا وَتَجَوَّزُوا بِهِ فِي الْبَلِيدِ وَحْدَهُ وَلَمْ يَسْتَعْمِلُوهُ فِيهِمَا مَعًا أَصْلًا أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا قَالَ رَأَيْت حِمَارًا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْبَهِيمَةُ وَالْبَلِيدُ جَمِيعًا وَإِذَا قَالَ رَأَيْت حِمَارَيْنِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ رَأَى أَرْبَعَةَ أَشْخَاصٍ بَهِيمَتَيْنِ وَبَلِيدَيْنِ بِوَجْهٍ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِمَا خَارِجًا عَنْ لُغَتِهِمْ فَلَا تَجُوزُ (فَإِنْ قِيلَ) صِحَّةُ إطْلَاقِ اللَّفْظِ عَلَى مَفْهُومَيْهِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ إنَّمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى اسْتِعْمَالِهِمْ إذَا جَوَّزْنَا ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ فَأَمَّا إذَا جَوَّزْنَاهُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ فَلَا يُعَدُّ مَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى طَرِيقَةٍ مَنْقُولَةٍ عَنْهُمْ وَهُوَ إطْلَاقُ اسْمِ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ (قُلْنَا) نَعَمْ وَلَكِنْ إذَا صَحَّ بِنَاؤُهُ عَلَى تِلْكَ الطَّرِيقَةِ وَنَحْنُ لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ الَّذِي يَجُوزُ إطْلَاقُ اسْمِ جُزْئِهِ عَلَيْهِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ لَفْظٍ مَوْضُوعٍ لَهُ لِيُثْبِتَ كُلِّيَّتَهُ بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ ثُمَّ يُطْلِقُ عَلَيْهِ اسْمَ جُزْئِهِ كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْوَجْهِ أَوْ الرَّقَبَةِ عَلَى الذَّاتِ فَإِنَّ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ لَمَّا كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ اسْمِ الذَّاتِ أَوْ الْإِنْسَانِ أَوْ الْبَدَنِ أَوْ النَّفْسِ أَوْ مَا أَشْبَهَهَا جَازَ إطْلَاقُ اسْمِ الْجُزْءِ وَهُوَ الْوَجْهُ أَوْ الرَّقَبَةُ عَلَيْهِ وَأَنْتَ لَا تَجِدُ لَفْظًا يَدُلُّ عَلَى الْهَيْكَلِ الْمَخْصُوصِ وَالْإِنْسَانُ الشُّجَاعُ بِالْوَضْعِ لِيُثْبِتَ الْكُلِّيَّةَ فِيهِمَا بِوَجْهٍ فَكَيْفَ يَجُوزُ إطْلَاقُ لَفْظِ الْأَسَدِ عَلَيْهِمَا بِطَرِيقِ إطْلَاقِ اسْمِ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ وَلَا جُزْئِيَّةَ وَلَا كُلِّيَّةَ. وَلَا يُقَالُ الْكُلِّيَّةُ ثَابِتَةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ لَا يَعْدُو عَنْ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ فَكَانَا كُلًّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ مِنْ طُرُقِ الْمَجَازِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْتَبِرُوهُ فِي شَيْءٍ مِنْ اسْتِعْمَالَاتِهِمْ فَكَانَا بِمَنْزِلَةِ وَصْفِ الْبَخَرِ وَالْحُمَّى فِي الْأَسَدِ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ يَصْلُحُ لِلْمَجَازِ. وَبِمَا ذَكَرْنَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ كَلِمَاتِهِمْ. وَلَا تَمَسُّكَ لَهُمْ فِيمَا حَكَوْهُ

لِمَا قُلْنَا أَحَدُهُمَا مَوْضُوعٌ وَالْآخَرُ مُسْتَعَارٌ مِنْهُ فَاسْتَحَالَ اجْتِمَاعُهُمَا كَمَا اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ عَلَى رَجُلٍ لَبِسَهُ مِلْكًا لَهُ وَعَارِيَّةً مَعًا، وَلِهَذَا قُلْنَا فِيمَنْ أَوْصَى لِمَوَالِيهِ وَلَهُ مَوَالٍ أَعْتَقَهُمْ وَلِمَوَالِيهِ مَوَالٍ أَعْتَقُوهُمْ أَنَّ الثُّلُثَ لِلَّذِينَ أَعْتَقَهُمْ وَلَيْسَ لِمَوَالِي مُعْتِقِيهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ مُعْتِقِيهِ مَوَالِيه حَقِيقَةً بِأَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَنْ سِيبَوَيْهِ إذْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِيهِمَا مَعًا بَلْ مَعْنَى مَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الدُّعَاءُ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْخَبَرُ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ. وَقَوْلُهُ اسْتِحَالَةُ اجْتِمَاعِهِمَا أَيْ اجْتِمَاعِ مَفْهُومَيْهِمَا. مُرَادَيْنِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ قَيَّدَ بِقَوْلِهِ مُرَادَيْنِ احْتِرَازٌ عَنْ جَوَازِ اجْتِمَاعِهِمَا مِنْ حَيْثُ التَّنَاوُلُ الظَّاهِرِيُّ كَمَا إذَا اسْتَأْمَنَ عَلَى الْأَبْنَاءِ وَالْمَوَالِي. أَوْ احْتِرَازًا عَنْ جَوَازِ اجْتِمَاعِهِمَا فِي احْتِمَالِ اللَّفْظِ إيَّاهُمَا. لِمَا قُلْنَا إنَّ أَحَدَهُمَا أَيْ أَحَدُ الْمَفْهُومَيْنِ مَوْضُوعٌ أَيْ مَوْضُوعٌ لَهُ. وَالْآخَرُ أَيْ الْمَفْهُومُ الْآخَرُ مُسْتَعَارٌ مِنْهُ أَيْ لَهُ. فَاسْتَحَالَ اجْتِمَاعُهُمَا أَيْ اجْتِمَاعُ هَذَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لِتَأَدِّيهِ إلَى كَوْنِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ. أَوْ يُقَالُ لَمَّا قُلْنَا إنَّ أَحَدَهُمَا أَيْ أَحَدُ الْمَذْكُورَيْنِ وَهُوَ الْحَقِيقَةُ مَوْضُوعٌ. وَالْآخَرُ وَهُوَ الْمَجَازُ مُسْتَعَارٌ مِنْهُ أَيْ مِمَّا وُضِعَ لَهُ؛ فَاسْتَحَالَ اجْتِمَاعُهُمَا أَيْ اجْتِمَاعُ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ كَمَا اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ الْوَاحِدُ عَلَى رَجُلٍ لَبِسَهُ أَيْ فِي حَالَةِ اسْتِعْمَالِهِ مِلْكًا لَهُ وَعَارِيَّةً فِي حَقِّهِ أَيْضًا. يَعْنِي الْأَلْفَاظَ لِلْمَعَانِي بِمَنْزِلَةِ الْكُسْوَةِ لِلْأَشْخَاصِ فَكَمَا أَنَّ فِي الْكُسْوَةِ الْوَاحِدَةِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَجْتَمِعَ صِفَةُ الْمِلْكِ وَالْعَارِيَّةِ فِي اسْتِعْمَالِ وَاحِدٍ فَكَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي اللَّفْظِ الْوَاحِدِ كَوْنُهُ حَقِيقَةً وَمَجَازًا فِي اسْتِعْمَالٍ وَاحِدٍ. وَلَا يُقَالُ إنْ أَرَدْتُمْ بِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الْمِلْكِ وَالْعَارِيَّةِ اسْتِحَالَتَهُ بِنِسْبَةِ شَخْصَيْنِ فَذَلِكَ مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ الْمُسْتَعَارَ فِي حَالَةِ اسْتِعْمَالِ الْمُسْتَعِيرِ مَمْلُوكٌ وَمُسْتَعَارٌ فَقَدْ اجْتَمَعَ الْمِلْكُ وَالْعَرِيَّةُ فِيهِ وَلَكِنْ بِنِسْبَةِ شَخْصَيْنِ. وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِحَالَتَهُ بِنِسْبَةِ شَخْصٍ وَاحِدٍ فَمُسَلَّمٌ وَلَكِنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ لَا يُطَابِقُهُ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ اجْتِمَاعُ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ بِاعْتِبَارِ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِالِاعْتِبَارِ مَعْنَى وَاحِدٍ فَلَا يَسْتَقِيمُ التَّشْبِيهُ. لِأَنَّا نَقُولُ الْمُرَادُ هُوَ التَّشْبِيهُ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِعْمَالُ لَا غَيْرُ يَعْنِي كَمَا أَنَّ اسْتِعْمَالَ الثَّوْبِ الْوَاحِدِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ بِطَرِيقِ الْمِلْكِ وَالْعَارِيَّةِ جَمِيعًا مُسْتَحِيلٌ سَوَاءٌ كَانَ بِنِسْبَةِ شَخْصٍ أَوْ بِنِسْبَةِ شَخْصَيْنِ فَكَذَلِكَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مَعًا مُسْتَحِيلٌ سَوَاءٌ كَانَ بِنِسْبَةِ مَعْنًى وَاحِدٍ أَوْ بِنِسْبَةِ مَعْنَيَيْنِ. وَكَانَ الْأَحْسَنُ فِي التَّشْبِيهِ أَنْ يُقَالَ كَمَا اسْتَحَالَ أَنْ يَلْبَسَ الثَّوْبَ الْوَاحِدَ لَابِسَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَبِسَهُ بِكَمَالِهِ أَحَدُهُمَا بِطَرِيقِ الْمِلْكِ وَالْآخَرُ بِطَرِيقِ الْعَارِيَّةِ. إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ اخْتَارَ هَذَا الْوَجْهَ مِنْ التَّشْبِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرُ فِي الِاسْتِحَالَةِ وَبَيَّنَ اسْتِحَالَةَ اجْتِمَاعِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَعْنَيَيْنِ لِتَعَرُّفِ الِاسْتِحَالَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَعْنَى وَاحِدٍ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ وَلِيَكُونَ إشَارَةً إلَى رَدِّ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ مِنْ مَشَايِخِنَا الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَلَكِنْ أَنْ يَجْتَمِعَا فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ بِاعْتِبَارِ مَحَلَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ حَتَّى قَالُوا تَثْبُتُ حُرْمَةُ الْجَدَّاتِ وَبَنَاتِ الْأَوْلَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] . مَعَ أَنَّ اسْمَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ لِلْجَدَّةِ وَبِنْتِ الْوَلَدِ مَجَازٌ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرُوا عَيْنَ مَذْهَبِ الْخُصُومِ. وَأَمَّا حُرْمَةُ الْجَدَّاتِ وَبَنَاتِ الْأَوْلَادِ وَنَحْوِهَا فَثَابِتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ أَوْ بِعَيْنِ النَّصِّ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأُمَّ فِي اللُّغَةِ الْأَصْلُ وَالْبِنْتُ الْفَرْعُ فَصَارَ كَأَنَّهُ قِيلَ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُصُولُكُمْ وَفُرُوعُكُمْ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْجَمِيعُ. أَوْ بِدَلَالَةِ النَّصِّ وَهِيَ أَنَّ الْعَمَّةَ وَالْخَالَةَ لَمَّا حُرِّمَتَا مَعَ بُعْدِ قَرَابَتِهِمَا وَهِيَ قَرَابَةُ الْمُجَاوَرَةِ فَالْجَدَّاتُ

وَصَارَ ذَلِكَ كَأَوْلَادِهِ لِإِحْيَائِهِمْ بِالْإِعْتَاقِ فَأَمَّا مَوَالِي الْمَوَالِي فَمَوَالِيه مَجَازًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَعْتَقَ الْأَوَّلِينَ فَقَدْ أَثْبَتَ لَهُمْ مَالِكِيَّةَ الْإِعْتَاقِ فَصَارَ ذَلِكَ مُسَبِّبًا لِإِعْتَاقِهِمْ فَنُسِبُوا إلَيْهِ بِحُكْمِ السَّبَبِيَّةِ مَجَازًا وَالْحَقِيقَةُ ثَابِتَةٌ فَلَمْ يَثْبُتْ الْمَجَازُ أَلَا تَرَى أَنَّ الِاسْمَ الْمُشْتَرَكَ لَا عُمُومَ لَهُ مِثْلُ الْمَوَالِي لَا يَعُمُّ الْأَعْلَيْنَ وَالْأَسْفَلِينَ حَتَّى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْمَوَالِي وَلِلْمُوصِي مَوَالٍ أَعْتَقَهُمْ وَمَوَالٍ أَعْتَقُوهُ بَاطِلَةٌ وَهَذِهِ مَعَانٍ يَحْتَمِلُهَا الِاسْمُ احْتِمَالًا عَلَى السَّوَاءِ إلَّا أَنَّهَا لَمَّا اخْتَلَفَ سَقَطَ الْعُمُومُ فَالْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ وَدَلَالَةُ الِاسْمِ عَلَيْهِمَا مُتَفَاوِتَةٌ أَوْلَى أَنْ لَا يَجْتَمِعَا ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْبَنَاتُ لَأَنْ يَحْرُمْنَ مِنْ قُرْبِ قَرَابَتِهِنَّ وَهِيَ قَرَابَةُ الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ كَانَ أَوْلَى. وَلَا يُقَالُ الثَّوْبُ الْمَرْهُونُ إذَا اسْتَعَارَهُ الرَّاهِنُ وَلَبِسَهُ يَكُونُ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْمِلْكِ وَالْعَارِيَّةِ جَمِيعًا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ. لِأَنَّا نُسَلِّمُ أَنَّ انْتِفَاعَهُ بِهِ بِطَرِيقِ الْعَارِيَّةِ بَلْ بِأَصْلِ الْمِلْكِ الَّذِي هُوَ ثَابِتٌ لَهُ إذْ هُوَ الْمُطْلَقُ لِلِانْتِفَاعِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ مَمْنُوعًا عَنْهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَقَدْ أَبْطَلَ حَقَّهُ بِالْإِعَارَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ هَلَكَ غَيْرَ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ. وَإِطْلَاقُ الْعَارِيَّةِ عَلَيْهِ مَجَازٌ؛ لِأَنَّ تَمْلِيكَ الْمَنَافِعِ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُهَا حَقِيقَةً لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَسْتَرِدَّ لِبَقَاءِ عَقْدِ الرَّهْنِ تُصُوِّرَ بِصُورَةِ الْإِعَارَةِ فَلِذَلِكَ سُمِّيَ إعَارَةً. قَوْلُهُ (فَصَارَ ذَلِكَ) أَيْ الْإِنْعَامُ عَلَيْهِمْ بِالْإِعْتَاقِ. كَوِلَادِهِمْ لِإِحْيَائِهِمْ بِالْإِعْتَاقِ. يَعْنِي أَنَّ الْمَوْلَى بِالْإِعْتَاقِ صَارَ سَبَبًا لِحَيَاتِهِمْ كَالْأَبِ صَارَ سَبَبًا لِوُجُودِ الْوَلَدِ. وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ فِي حُكْمِ الْمَوْتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] . أَيْ كَافِرًا فَهَدَيْنَاهُ وَقَالَ {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] . وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْكَافِرَ لَمَّا لَمْ يَنْتَفِعْ لِحَيَاتِهِ صَارَ فِي حُكْمِ الْأَمْوَاتِ كَمَا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْتَفِعْ بِسَمْعِهِ وَنُطِقْهُ وَبَصَرِهِ وَعَقْلِهِ صَارَ فِي حُكْمِ عَدِيمِ الْحَوَاسِّ وَالْعَقْلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171] . وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا قُلْنَا إنَّ الرِّقَّ أَثَرُ الْكُفْرِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ ضَرْبُ الرِّقِّ عَلَى الْمُسْلِمِ ابْتِدَاءً فَالْمَوْلَى بِالْإِعْتَاقِ يَصِيرُ مُسَبِّبًا لِحَيَاتِهِ بِإِزَالَةِ مَا هُوَ أَثَرُ الْمَوْتِ فَكَانَ إعْتَاقُهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِحْيَاءِ كَالْوِلَادَةِ فَيَكُونُ مُتَعَلِّقٌ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ وَمُعْتَقُ الْمُعْتِقِ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِ الْوَالِدِ فَيَكُونُ إطْلَاقُ اسْمِ الْمَوْلَى عَلَى الْأَوَّلِ حَقِيقَةً وَعَلَى الثَّانِي مَجَازًا كَمَا فِي الْوَلَدِ وَوَلَدِ الْوَلَدِ فَلَا يَدْخُلُ الثَّانِي تَحْتَ الْوَصِيَّةِ. قَوْلُهُ (أَلَا تَرَى مُتَّصِلٌ) بِقَوْلِهِ مِلْكًا وَعَارِيَّةً وَتَوْضِيحٌ لِمَا ذَكَرَ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ إرَادَةِ مَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ مِنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ فَقَالَ الِاسْمُ الْمُشْتَرَكُ لَا عُمُومَ لَهُ لِمَا مَرَّ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ مِثْلُ الْمَوَالِي لَا يَعُمُّ الْمُعْتَقِينَ وَالْمُعْتِقِينَ فِي مَسْأَلَةِ الْوَصِيَّةِ وَيُبْطِلُ الْوَصِيَّةَ. وَفِي رِوَايَةٍ يَصِحُّ الْوَصِيَّةُ وَيَكُونُ بَيْنَهُمْ عَلَى السَّوِيَّةِ النِّصْفُ لِلْمُعْتَقِينَ وَالنِّصْفُ لِلْمُعْتِقِينَ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ تُرَجِّحُ الْأَعْلَى عَلَى الْأَسْفَلِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَلَى الْعَكْسِ. وَهَذِهِ مَعَانٍ أَيْ الْمَعَانِي الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الِاسْمُ الْمُشْتَرَكُ. يَحْتَمِلُهَا الِاسْمُ احْتِمَالًا عَلَى السَّوَاءِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتٌ بِالْوَضْعِ. إلَّا أَنَّهَا أَيْ لَكِنَّهَا لَمَّا اخْتَلَفَ سَقَطَ الْعُمُومُ لِمَا عُرِفَ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْعَامِّ تَسَاوِي الْأَفْرَادِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَهُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ. فَالْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ أَيْ مَفْهُومَاهُمَا. وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ الشُّجَاعَ مُخَالِفُ الْأَسَدِ. وَدَلَالَةُ الِاسْمِ عَلَيْهِمَا أَيْ عَلَى مَفْهُومَيْ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مُتَفَاوِتَةٌ لِلِاحْتِيَاجِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَحَدِهِمَا إلَى الْقَرِينَةِ دُونَ الْآخَرِ. أَوْلَى أَنْ لَا يَجْتَمِعَا لِوُجُودِ ذَلِكَ الْمَانِعِ الْمَوْجُودِ فِي الْمُشْتَرَكِ وَهُوَ الِاخْتِلَافُ وَزِيَادَةٌ وَهِيَ عَدَمُ التَّسَاوِي فِي الدَّلَالَةِ. . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْمُخْتَلَفِ عَلَى الْمُخْتَلِفِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَوَّزَ الْجَمْعَ غَيْرَ أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ قَالَ بِالْعُمُومِ فِي الْمُشْتَرَكِ بَلْ اسْتَدَلَّ بِجَوَازِ عُمُومِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى جَوَازِ التَّعْمِيمِ هَهُنَا وَقَالَ التَّعْمِيمُ هَهُنَا أَوْلَى مِنْ التَّعْمِيمِ فِي الْمُشْتَرَكِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَعَلُّقٍ بَيْنَ مَحَلَّيْ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَلَمَّا جَازَ تَعْمِيمُ الْمُشْتَرَكِ بِدُونِ عَلَاقَةٍ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ كَانَ التَّعْمِيمُ هُنَا مَعَ وُجُودِ التَّعَلُّقِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ لِلْإِلْزَامِ عَلَى الْخَصْمِ لَكِنْ لَمَّا تَمَهَّدَ وَتَقَرَّرَ عِنْدَ

وَلِهَذَا قُلْنَا فِي غَيْرِ الْخَمْرِ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِالْخَمْرِ فِي الْحَدِّ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ أُرِيدَتْ بِذَلِكَ النَّصِّ فَبَطَلَ الْمَجَازُ، وَلِهَذَا قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] أَنَّ الْمَسَّ بِالْيَدِ غَيْرُ مُرَادٍ؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ مُرَادٌ بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ الْوَطْءُ حَتَّى حَلَّ لِلْجُنُبِ التَّيَمُّمُ فَبَطَلَ الْحَقِيقَةُ، وَلِهَذَا قِيلَ فِيمَنْ أَوْصَى لِأَوْلَادِ فُلَانٍ أَوْ لِأَبْنَائِهِ وَلَهُ بَنُونَ وَبَنُو بَنِينَ جَمِيعًا أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِأَبْنَائِهِ دُونَ بَنِي بَنِيهِ لِمَا قُلْنَا. . ـــــــــــــــــــــــــــــQالشَّيْخِ انْتِفَاءُ جَوَازِ التَّعْمِيمِ فِي الْمُشْتَرَكِ بِدَلَائِلَ قَوِيَّةٍ ذَكَرْنَاهَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْكِتَابِ لَمْ يُبَالِ بِالِاسْتِدْلَالِ بِهِ كَمَا فَعَلَ مُحَمَّدٌ هَكَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كُتُبِهِ. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ وَلِامْتِنَاعِ الْجَمْعِ بَيْنَ مَفْهُومَيْ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ الْحَدُّ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ مِنْ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ وَكَثِيرِهِ كَمَا فِي الْخَمْرِ وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ أَصْحَابِهِ عَلَى ذَلِكَ بِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ» . وَقَالَ سَائِرُ الْأَشْرِبَةِ يُسَمَّى خَمْرًا بِاعْتِبَارِ مُخَامَرَةِ الْعَقْلِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِ هَذَا النَّصِّ كَالْخَمْرِ. فَقَالَ الشَّيْخُ لَا يَصِحُّ إلْحَاقُ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ بِالْخَمْرِ بِهَذَا الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ لِلنِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا غَلَى وَاشْتَدَّ حَقِيقَةٌ وَلِسَائِرِ الْأَشْرِبَةِ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ الْمُخَامَرَةِ وَقَدْ يَثْبُتُ الْحَقِيقَةُ مُرَادَةً بِهَذَا النَّصِّ فَيَخْرُجُ الْمَجَازُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا. وَلَا يُقَالُ قَدْ أَلْحَقَ سَائِرَ الْأَشْرِبَةِ بِالْخَمْرِ عِنْدَ حُصُولِ السُّكْرِ فِي إيجَابِ الْحَدِّ فَيَجُوزُ أَنْ يُلْحَقَ بِهَا الْقَلِيلُ أَيْضًا. لِأَنَّا نَقُولُ قَدْ ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي الْكَثِيرِ بِالْإِجْمَاعِ وَبِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. «وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ» . لَا بِطَرِيقِ الْإِلْحَاقِ. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِلِامْتِنَاعِ الْمَذْكُورِ قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى. {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] . إنَّ الْمَسَّ بِالْيَدِ غَيْرُ مُرَادٍ حَتَّى لَا يَكُونَ مَسُّ الْمَرْأَةِ حَدَثًا خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ وَعَامَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فَإِنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ أَحْمِلُ آيَةَ اللَّمْسِ عَلَى الْمَسِّ وَالْوَطْءِ جَمِيعًا كَذَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ وَهَكَذَا رَأَيْت فِي بَعْضِ كُتُبِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ وَهُوَ الْوَطْءُ أُرِيدَ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى حَلَّ لِلْجُنُبِ التَّيَمُّمُ بِهَذَا النَّصِّ وَلَا ذِكْرَ لَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا هَهُنَا فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْحَقِيقَةُ مُرَادَةً. وَلِهَذَا مَنْ حَمَلَ الْآيَةَ عَلَى اللَّمْسِ بِالْيَدِ لَمْ يُجَوِّزْ التَّيَمُّمَ لِلْجُنُبِ مِثْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَنْ حَمَلَهَا عَلَى الْوَطْءِ جَوَّزَهُ لَهُ مِثْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ (فَإِنْ قِيلَ) قَدْ قُرِئَتْ الْآيَةُ بِقِرَاءَتَيْنِ لَامَسْتُمْ وَلَمَسْتُمْ مِنْ الْمُلَامَسَةِ وَاللَّمْسِ فَيُحْمَلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْوَطْءِ وَالْأُخْرَى عَلَى الْمَسِّ بِالْيَدِ كَمَا حَمَلْتُمْ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى. {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] . بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ وَقَوْلُهُ {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] بِالنَّصْبِ وَالْجَرِّ عَلَى الْحَالَيْنِ (قُلْنَا) لَا نِزَاعَ فِيهِ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي حَمْلِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ كَمَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ الْخُصُومِ. وَإِنَّمَا يَجُوزُ مَا ذَكَرْتُمْ إذَا لَمْ يَمْنَعْ عَنْهُ مَانِعٌ وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا فَإِنَّهُ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُقَبِّلُ بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الصَّلَاةِ» . وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ وَالسَّلَفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ فَبَعْضُهُمْ قَالُوا الْمُرَادُ مِنْهَا الْمَسُّ بِالْيَدِ وَلَمْ يُجَوِّزُوا التَّيَمُّمَ لِلْجُنُبِ وَبَعْضُهُمْ الْمُرَادُ هُوَ الْجِمَاعُ وَجَوَّزُوا التَّيَمُّمَ لِلْجُنُبِ وَلَمْ يَجْعَلُوا الْمَسَّ حَدَثًا فَالْقَوْلُ بِجَوَازِ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ وَكَوْنِ الْمَسِّ حَدَثًا أَيْضًا عَمَلًا بِالْقِرَاءَتَيْنِ كَانَ خَارِجًا عَنْ أَقْوَالِهِمْ وَإِجْمَاعِهِمْ فَيَكُونُ مَرْدُودًا كَذَا ذُكِرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِامْتِنَاعِ الْجَمْعِ قُلْنَا فِيمَنْ أَوْصَى لِأَوْلَادِ فُلَانٍ. ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِبَنِي فُلَانٍ وَلِفُلَانٍ ذَلِكَ أَوْلَادٌ فَالثُّلُثُ لِلذُّكُورِ مِنْ وَلَدِهِ دُونَ الْإِنَاثِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا إذَا اخْتَلَطَ الذُّكُورُ بِالْإِنَاثِ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمْ وَإِنْ انْفَرَدَ الْإِنَاثُ فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ بِالِاتِّفَاقِ. وَإِنْ كَانَ لَهُ أَوْلَادٌ وَأَوْلَادُ ابْنٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْوَصِيَّةُ لِبَنِيهِ لِصُلْبِهِ

فَإِنْ قِيلَ قَدْ قَالُوا فِيمَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَضَعَ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلَانٍ أَنَّهُ يَحْنَثُ إذَا دَخَلَهَا حَافِيًا أَوْ مُتَنَعِّلًا وَفِيمَنْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ أَنَّهُ إنْ قَدِمَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا عَتَقَ عَبْدُهُ وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ قَالَ فِي حَرْبِيٍّ اسْتَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَبْنَائِهِ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْبَنُونَ وَبَنُو الْبَنِينَ وَفِيمَنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ دَارَ فُلَانٍ أَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْمِلْكِ وَالْإِجَارَةِ وَالْعَارِيَّةِ جَمِيعًا قِيلَ لَهُ وَضْعُ الْقَدَمِ مَجَازٌ عَنْ الدُّخُولِ ـــــــــــــــــــــــــــــQدُونَ بَنِي ابْنِهِ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ لِأَوْلَادِ الصُّلْبِ حَقِيقَةٌ وَلِبَنِي الِابْنِ مَجَازٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَسْتَقِيمُ نَفْيُهُ عَنْهُمْ وَالْمَجَازُ لَا يُزَاحِمُ الْحَقِيقَةَ. وَفِي قَوْلِهِمَا الْكُلُّ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ عُمُومَ الْمَجَازِ يَتَنَاوَلُهُمْ فَيُطْلَقُ الْبَنِينَ فِي الْعُرْفِ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ وَهُوَ نَظِيرُ مَذْهَبِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ الْحِنْطَةِ وَالشُّرْبِ مِنْ الْفُرَاتِ. وَلَوْ أَوْصَى لِوَلَدِ فُلَانٍ دَخَلَ فِيهِ أَوْلَادُهُ لِصُلْبِهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ فِي حَالَتَيْ الِاخْتِلَاطِ وَالِانْفِرَادِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْوَلَدِ لِلْجِنْسِ. وَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ لِصُلْبِهِ وَأَوْلَادُ ابْنٍ فَالْوَصِيَّةُ لِوَلَدِهِ لِصُلْبِهِ دُونَ أَوْلَادِ ابْنِهِ. ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَوْلَى وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الثَّانِيَةِ. فَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْخِلَافِ كَمَا يُشِيرُ لَفْظُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ حَيْثُ قَالَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَنْ أَوْصَى لِبَنِي فُلَانٍ أَوْ لِأَوْلَادِ فُلَانٍ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْفَرْقِ. وَلَوْ كَانَتْ عَلَى الْوِفَاقِ فَالْفَرْقُ لَهُمَا أَنَّ لَفْظَ بَنِي فُلَانٍ قَدْ اُسْتُعْمِلَ فِي أَوْلَادِ الصُّلْبِ وَأَوْلَادِ الْبَنِينَ اسْتِعْمَالًا شَائِعًا فَأَمَّا لَفْظُ الْوَلَدِ فَلَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي أَوْلَادِ الْبَنِينَ اسْتِعْمَالَ الْأَوَّلِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ دُونَ مَذْهَبِهِمَا. قَوْلُهُ (فَإِنْ قِيلَ) إلَى آخِرِهِ لَمَّا فَرَغَ مِنْ تَمْهِيدِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِمَا شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَرِدُ نَقْضًا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مِنْ الْمَسَائِلِ وَالْجَوَابُ عَنْهَا وَهِيَ عِدَّةُ مَسَائِلَ. إحْدَاهَا مَسْأَلَةُ وَضْعِ الْقَدَمِ فَإِنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلَانٍ فَدَخَلَهَا حَافِيًا أَوْ مُتَنَعِّلًا أَوْ رَاكِبًا حَنِثَ وَفِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ حَافِيًا حَقِيقَةُ هَذَا اللَّفْظِ وَغَيْرُهُ مَجَازٌ. وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَإِنْ نَوَى حِينَ حَلَفَ أَنْ لَا يَضَعَ قَدَمَهُ فِيهَا مَاشِيًا فَدَخَلَهَا رَاكِبًا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ غَيْرُ مَهْجُورَةٍ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. وَذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ إذَا عَنَى بِهِ حَقِيقَةَ وَضْعِ الْقَدَمِ لَا يَحْنَثُ بِالدُّخُولِ رَاكِبًا؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ فَيُصَدَّقُ دِيَانَةً وَقَضَاءً. وَالثَّانِيَةُ قَوْلُهُ عَبْدِي حُرٌّ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ فَقَدِمَ فُلَانٌ لَيْلًا وَنَهَارًا يَحْنَثُ وَفِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ لِلنَّهَارِ حَقِيقَةٌ وَلِلَيْلِ مَجَازٌ. فَإِنْ نَوَى بَيَاضَ النَّهَارِ يُصَدَّقُ دِيَانَةً وَقَضَاءً وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ مَتَى ذُكِرَ مَقْرُونًا بِمَا لَا يَمْتَدُّ صَارَ عِبَارَةً عَنْ الْوَقْتِ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ فَكَانَ لِبَيَاضِ النَّهَارِ بِمَنْزِلَةِ الْمَجَازِ فَيَكُونُ خِلَافَ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ اسْمٌ لِبَيَاضِ النَّهَارِ حَقِيقَةً وَبِمُجَرَّدِ الِاسْتِعْمَالِ لَا يَصِيرُ الْحَقِيقَةُ كَالْمَجَازِ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي كَذَا يَنْصَرِفُ إلَى الدُّخُولِ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ وَيُصَدَّقُ إذَا نَوَى حَقِيقَةَ وَضْعِ الْقَدَمِ فِي الْقَضَاءِ، كَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ خُوَاهَرْ زَادَهْ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَالثَّالِثَةُ مَسْأَلَةُ السِّيَرِ وَهِيَ ظَاهِرَةٌ. وَالرَّابِعَةُ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ وَلَمْ يُسَمِّ دَارًا بِعَيْنِهَا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يَقَعُ عَلَى الدَّارِ الْمَمْلُوكَةِ وَالْمُسْتَأْجَرَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْإِضَافَةِ إلَى فُلَانٍ بِالْمَلِكِ حَقِيقَةٌ وَبِغَيْرِهِ مَجَازٌ بِدَلِيلِ صِحَّةِ النَّفْيِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَعَدَمِ صِحَّتِهِ فِي الْمِلْكِ فَيَكُونُ فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَهُمَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إذَا قَالَ لَا أَدْخُلُ مَسْكَنَ فُلَانٍ فَكَذَا الْجَوَابُ. وَإِنْ قَالَ بَيْتَ فُلَانٍ أَوْ دَارَ فُلَانٍ لَا يَحْنَثُ إلَّا فِي الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ سُكْنَى فُلَانٍ حَقِيقَةٌ مَوْجُودَةٌ فِي الْمَسْكَنِ الْمُسْتَأْجَرِ وَالْمُسْتَعَارِ بِخِلَافِ الْبَيْتِ وَالدَّارِ. قَوْلُهُ. (قِيلَ لَهُ وَضْعُ الْقَدَمِ مَجَازٌ عَنْ الدُّخُولِ) أَيْ عِبَارَةٌ عَنْهُ. ضَمَّنَ لَفْظَ الْمَجَازِ مَعْنَى الْعِبَارَةِ فَلِذَلِكَ ذُكِرَ بِصِلَةِ عَنْ أَوْ كَلِمَةِ عَنْ بِمَعْنَى فِي؛ لِأَنَّ حُرُوفَ الصِّلَاتِ تَنُوبُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ يَعْنِي هُوَ مَجَازٌ

لِأَنَّهُ مُوجِبُهُ وَالدُّخُولُ مُطْلَقٌ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِإِطْلَاقِ الْمَجَازِ وَعُمُومِهِ. وَكَذَلِكَ الْيَوْمُ اسْمٌ لِلْوَقْتِ وَلِبَيَاضِ النَّهَارِ وَدَلَالَةُ تَعَيُّنِ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَا دَخَلَ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ فِعْلًا يَمْتَدُّ كَانَ النَّهَارُ أَوْلَى بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ مِعْيَارًا لَهُ وَإِذَا كَانَ لَا يَمْتَدُّ كَانَ الظَّرْفُ أَوْلَى وَهُوَ الْوَقْتُ ثُمَّ الْعَمَلُ بِعُمُومِ الْوَقْتِ وَاجِبٌ فَلِذَلِكَ دَخَلَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ لَيْلَةَ يَقْدَمُ فُلَانٌ فَإِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ النَّهَارَ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلسَّوَادِ الْخَالِصِ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ مِثْلُ النَّهَارِ اسْمٌ لِلْبَيَاضِ الْخَالِصِ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ الدُّخُولُ. لِأَنَّهُ مُوجِبُهُ أَيْ الدُّخُولَ مُوجِبُ وَضْعِ الْقَدَمَيْنِ وَهُوَ سَبَبُهُ فَاسْتُعِيرَ لِحُكْمِهِ. وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الدُّخُولِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْحَالِفِ مَنْعُ نَفْسِهِ عَنْ الدُّخُولِ لَا عَنْ مُجَرَّدِ وَضْعِ الْقَدَمِ فَيَصِيرُ بِاعْتِبَارِ مَقْصُودِهِ كَأَنَّهُ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ وَالدُّخُولُ مُطْلَقٌ لِعَدَمِ تَقَيُّدِهِ بِالرُّكُوبِ وَالتَّنَعُّلِ وَالْحَفَاءِ فَيَحْنَثُ فِي الْكُلِّ بِاعْتِبَارِ الدُّخُولِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ لَا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ رَاكِبًا أَوْ حَافِيًا كَمَا فِي إعْتَاقِ الرَّقَبَةِ يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِمُطْلَقِ الرَّقَبَةِ لَا بِكَوْنِهَا كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً أَوْ كَافِرَةً أَوْ مُؤْمِنَةً. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَضَعَ قَدَمَيْهِ وَلَمْ يَدْخُلْ لَا يَحْنَثْ فِي يَمِينِهِ كَذَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ مَجَازًا عَنْ الدُّخُولِ لَا يُعْتَبَرُ حَقِيقَتُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ (بِإِطْلَاقِ الْمَجَازِ وَعُمُومِهِ بِمَنْزِلَةِ التَّرَادُفِ) وَإِنَّمَا جَمَعَ الشَّيْخُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ الْإِمَامَ ذَكَرَ لَفْظَةَ الْإِطْلَاقِ فَقَالَ يَحْنَثُ بِمُطْلَقِ الدُّخُولِ الَّذِي هُوَ مَجَازُهُ وَذَكَرَ غَيْرُهُ لَفْظَةَ الْعُمُومِ فَقَالَ يَحْنَثُ بِعُمُومِ الْمَجَازِ فَجَمَعَ الشَّيْخُ بَيْنَهُمَا. وَالْمُطْلَقُ يُشَابِهُ الْعَامَّ مِنْ حَيْثُ الشُّيُوعُ حَتَّى ظَنَّ أَنَّهُ عَامٌّ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ الْيَوْمُ) إلَى آخِرِهِ. اعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْيَوْمِ يُطْلَقُ عَلَى بَيَاضِ النَّهَارِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ اتِّفَاقًا وَعَلَى مُطْلَقِ الْوَقْتِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْبَعْضِ فَيَصِيرُ مُشْتَرَكًا وَبِطَرِيقِ الْمَجَازِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ حَمْلَ الْكَلَامِ عَلَى الْمَجَازِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ فِي الْكَلَامِ أَكْثَرُ فَيُحْمَلُ عَلَى الْأَغْلَبِ. وَلِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى إبْهَامِ الْمُرَادِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ إنْ خَلَا عَنْ قَرِينَةٍ فَالْحَقِيقَةُ مُتَعَيِّنَةٌ وَإِنْ لَمْ يَخْلُ عَنْهَا فَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ وَهُوَ الْمَجَازُ مُتَعَيِّنٌ بِخِلَافِ الِاشْتِرَاكِ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الِاخْتِلَالِ فِي الْكَلَامِ بِعَدَمِ إفْهَامِ الْمُرَادِ. ثُمَّ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ ظَرْفٌ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ فَيُرَجَّحُ أَحَدُ مُحْتَمَلَيْهِ بِمَظْرُوفِهِ فَإِنْ كَانَ مَظْرُوفُهُ مِمَّا يَمْتَدُّ وَهُوَ مَا يَصِحُّ فِيهِ ضَرْبُ الْمُدَّةِ أَيْ يَصِحُّ تَقْدِيرُهُ بِمُدَّةٍ كَاللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ وَالْمُسَاكَنَةِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَدَّرَ بِزَمَانٍ يُقَالُ لَبِسْت هَذَا الثَّوْبَ يَوْمًا وَرَكِبْت هَذِهِ الدَّابَّةَ يَوْمًا وَسَاكَنْته فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ شَهْرًا يُحْمَلُ عَلَى بَيَاضِ النَّهَارِ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ مِقْدَارًا لَهُ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ مَظْرُوفُهُ مِمَّا لَا يَمْتَدُّ كَالْخُرُوجِ وَالدُّخُولِ وَالْقُدُومِ إذْ لَا يَصِحُّ تَقْدِيرُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ بِزَمَانٍ يُحْمَلُ عَلَى مُطْلَقِ الْوَقْتِ اعْتِبَارًا لِلتَّنَاسُبِ. ثُمَّ فِي قَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ أَوْ عَبْدِي حُرٌّ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ الْيَوْمُ ظَرْفٌ لِلتَّحْرِيرِ أَوْ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ انْتَصَبَ بِهِ إذْ التَّقْدِيرُ حَرَّرْتُك أَوْ طَلَّقْتُك يَوْمَ كَذَا وَإِنَّهُمَا مِمَّا لَا يَمْتَدُّ فَيُحْمَلُ الْيَوْمُ عَلَى مُطْلَقِ الْوَقْتِ فَيَحْنَثُ إذَا قَدِمَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا بِإِطْلَاقِ الْمَجَازِ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. وَفِي قَوْلِهِ أَمْرُك بِيَدِك يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ أَوْ اخْتَارِي نَفْسَك يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ التَّفْوِيضُ وَالتَّخْيِيرُ مِمَّا يَمْتَدُّ فَيُحْمَلُ الْيَوْمُ عَلَى بَيَاضِ النَّهَارِ حَتَّى لَوْ قَدِمَ فُلَانٌ لَيْلًا لَا يَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا وَلَا يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ. . وَاعْلَمْ أَيْضًا أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ لِمَا أُضِيفَ إلَيْهِ الْيَوْمُ وَهُوَ الْقُدُومُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَثَلًا فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ مُحْتَمَلَيْهِ بِهِ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الْيَوْمِ إلَيْهِ لِتَعْرِيفِهِ وَتَمْيِيزِهِ مِنْ الْأَيَّامِ وَالْأَوْقَاتِ الْمَجْهُولَةِ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ يَوْمَ الْخَمِيسِ لَا لِلظَّرْفِيَّةِ، وَلِهَذَا لَمْ يُؤَثِّرْ يَقْدَمُ فِي انْتِصَابِ يَوْمٍ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ إذْ الْمُضَافُ إلَيْهِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمُضَافِ بِحَالٍ بَلْ هُوَ مَنْصُوبٌ بِمَظْرُوفِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ تَقْدِيرَهُ حَرَّرْتُك فِي يَوْمِ قُدُومِ فُلَانٍ أَوْ فَوَّضْت أَمْرَك إلَيْك فِي يَوْمِ قُدُومِهِ فَكَانَ اعْتِبَارُهُ بِمَظْرُوفِهِ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِيهِ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِهِ بِمَا لَا أَثَرَ لَهُ فِيهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ لِلْمُضَافِ إلَيْهِ فِي تَرْجِيحِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQأَحَدِ مُحْتَمَلَيْهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ كِتَابِ الطَّلَاقِ وَلَوْ قَالَ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ يَوْمَ أَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ فَدَخَلَهَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا طَلُقَتْ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ إذَا قُرِنَ بِمَا لَا يَكُونُ مُمْتَدًّا كَانَ بِمَعْنَى الْوَقْتِ كَالطَّلَاقِ وَإِذَا قُرِنَ بِمَا يَكُونُ مُمْتَدًّا كَانَ بِمَعْنَى بَيَاضِ النَّهَارِ كَقَوْلِهِ أَمْرُك بِيَدِك يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ. وَذَكَرَ فِي بَابِ الْخِيَارِ مِنْهُ وَإِنْ قَالَ اخْتَارِي يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ فَقَدِمَ لَيْلًا فَلَا خِيَارَ لَهَا وَلَوْ قَدِمَ بِالنَّهَارِ فَلَهَا الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ مِمَّا يَتَوَقَّفُ فَذِكْرُ الْيَوْمَ فِيهِ لِلتَّوْقِيتِ فَيَتَنَاوَلُ بَيَاضَ النَّهَارِ خَاصَّةً بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ فَذَكَرَ الْيَوْمَ فِيهِ عِبَارَةٌ عَنْ الْوَقْتِ وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ أَيْضًا. وَذَكَرَ فِي الْهِدَايَةِ فِي فَصْلِ إضَافَةِ الطَّلَاقِ إلَى الزَّمَانِ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَةٍ يَوْمَ أَتَزَوَّجُك فَأَنْتِ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَهَا لَيْلًا طَلُقَتْ أَنَّ الْيَوْمَ إذَا قُرِنَ بِفِعْلٍ لَا يَمْتَدُّ يُحْمَلُ عَلَى مُطْلَقِ الْوَقْتِ وَالطَّلَاقُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. فَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ اُعْتُبِرَ الطَّلَاقُ وَالْأَمْرُ بِالْيَدِ وَالْخِيَارُ الَّذِي هُوَ مَظْرُوفٌ دُونَ الْقُدُومِ الَّذِي هُوَ مُضَافٌ إلَيْهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَا ذَكَرْنَا (فَإِنْ قِيلَ) قَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ التَّزَوُّجَ مِمَّا لَا يَمْتَدُّ فَحُمِلَ فِيهِ عَلَى الْوَقْتِ الْمَظْرُوفِ فَاعْتُبِرَ التَّزَوُّجُ الَّذِي هُوَ مُضَافٌ إلَيْهِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ الطَّلَاقُ الَّذِي هُوَ مَظْرُوفٌ. وَكَذَا اعْتَبَرَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ الْمُضَافَ إلَيْهِ دُونَ الْمَظْرُوفِ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ فِي قَوْلِهِ يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ أَنَّهُ يَقَعُ عَلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ حَيْثُ قَالَ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ مِمَّا لَا يَمْتَدُّ وَلَمْ يَقُلْ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مِمَّا لَا يَمْتَدُّ وَهَذَا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَكَذَا عَامَّةُ الْمَشَايِخِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - اعْتَبَرُوا الْمُضَافَ إلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ دُونَ الْمَظْرُوفِ. وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ الْمُضَافِ إلَيْهِ اعْتِبَارَ الْمَظْرُوفِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الظَّرْفَ إذَا أُضِيفَ إلَى فِعْلٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفِعْلُ مَظْرُوفًا لِلْمُضَافِ وَيَكُونُ الْمُضَافُ ظَرْفًا لَهُ لَا مَحَالَةَ لِوُقُوعِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِيهِ فَيَكُونُ هَذَا أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِمَّا ذَكَرْت وَفِيهِ مُوَافَقَةُ الْعَامَّةِ وَاحْتِرَازٌ عَنْ نِسْبَتِهِمْ إلَى الْخَطَأِ (قُلْنَا) بَعْدَ مَا ظَفِرَ بِحَقِيقَةِ الْمَعْنَى مُؤَكَّدَةً بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ وَالشَّوَاهِدِ يَعَضُّ عَلَيْهَا بِالنَّاجِذِ وَلَا يُصَارُ إلَى التَّقْلِيدِ الصِّرْفِ ثُمَّ يُحْمَلُ مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ وَذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ الْمَظْرُوفَ وَالْمُضَافَ إلَيْهِ إنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُمْتَدًّا كَقَوْلِك أَمْرُك بِيَدِك يَوْمَ يَرْكَبُ فُلَانٌ أَوْ يُسَافِرُ فُلَانٌ. أَوْ غَيْرَ مُمْتَدٍّ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ أَنْتَ حُرٌّ يَوْمَ أَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ لَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ إنْ اُعْتُبِرَ الْمَظْرُوفُ وَالْمُضَافُ إلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ الْمَظْرُوفُ مُمْتَدًّا وَالْمُضَافُ إلَيْهِ غَيْرُ مُمْتَدٍّ كَقَوْلِهِ أَمْرُك بِيَدِك يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ كَقَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ يَوْمَ يَرْكَبُ فُلَانٌ أَوْ يُسَافِرُ فُلَانٌ فَحِينَئِذٍ يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ بِاعْتِبَارِ الْمَظْرُوفِ وَالْمُضَافِ إلَيْهِ فَاعْتِبَارُ الْمَظْرُوفِ يَقْتَضِي حَمْلَ الْيَوْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى عَلَى بَيَاضِ النَّهَارِ وَفِي الثَّانِيَةِ عَلَى مُطْلَقِ الْوَقْتِ فَلَا يَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا فِي الْأَوْلَى إنْ قَدِمَ فُلَانٌ لَيْلًا وَيَعْتِقُ الْعَبْدُ فِي الثَّانِيَةِ إنْ سَافَرَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا وَاعْتِبَارُ الْمُضَافِ إلَيْهِ يَقْتَضِي حَمْلُهُ فِي الْأُولَى عَلَى مُطْلَقِ الْوَقْتِ وَالثَّانِيَةِ عَلَى بَيَاضِ النَّهَارِ فَيَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا إنْ قَدِمَ فُلَانٌ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا وَلَا يَعْتِقُ الْعَبْدُ إنْ سَافَرَ أَوْ رَكِبَ لَيْلًا. فَبَعْضُ الْمَشَايِخِ تَسَامَحُوا فِي الْعِبَارَةِ فِيمَا لَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ وَاعْتَبَرُوا الْمُضَافَ إلَيْهِ نَظَرًا إلَى حُصُولِ

وَأَمَّا إضَافَةُ الدَّارِ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ نِسْبَةُ السُّكْنَى إلَيْهِ فَيُسْتَعَارُ الدَّارُ لِلسُّكْنَى فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِعُمُومِ نِسْبَةِ السُّكْنَى وَفِي نِسْبَةِ الْمِلْكِ نِسْبَةُ السُّكْنَى مَوْجُودَةٌ لَا مَحَالَةَ فَيَتَنَاوَلُهُ عُمُومُ الْمَجَازِ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ السِّيَرِ فَفِيهَا رِوَايَةٌ أُخْرَى بَعْدَ ذَلِكَ الْبَابِ أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُهُمْ وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأَوْلَى أَنَّ الْأَمَانَ لِحَقْنِ الدَّمِ فَبُنِيَ عَلَى الشُّبُهَاتِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَقْصُودِ وَهُوَ اسْتِقَامَةُ الْجَوَابِ وَبَعْضَهُمْ سَلَكُوا طَرِيقَةَ التَّحْقِيقِ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلَى الْمُضَافِ إلَيْهِ أَصْلًا كَمَا ذَكَرْنَا. فَأَمَّا فِيمَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ فِيهِ بِالِاعْتِبَارَيْنِ فَالْكُلُّ سَلَكُوا طَرِيقَ التَّحْقِيقِ وَاعْتَبَرُوا الْمَظْرُوفَ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلَى الْمُضَافِ إلَيْهِ أَصْلًا. فَفِي مَسْأَلَةِ الْأَمْرِ بِالْيَدِ الَّتِي هِيَ مَسْأَلَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ اعْتَبَرَ الْكُلُّ الْأَمْرَ بِالْيَدِ الَّذِي هُوَ مَظْرُوفٌ دُونَ الْقُدُومِ الَّذِي هُوَ الْمُضَافُ إلَيْهِ وَكَذَا فِي مَسْأَلَةِ الْخِيَارِ الَّتِي هِيَ مَسْأَلَةُ الْمَبْسُوطِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ مِمَّا يَمْتَدُّ وَهُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ ضَرْبُ الْمُدَّةِ فِيهِ كَاللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ فَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا وَيَكُونُ مِنْ الْقِسْمِ الَّذِي يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ فِيهِ بِالِاعْتِبَارَيْنِ فَيُعْتَبَرُ الْمَظْرُوفُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مُمْتَدٍّ دُونَ الْمُضَافِ إلَيْهِ الَّذِي هُوَ مُمْتَدٌّ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمْتَدٍّ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ وَتَابَعَهُمْ فِيهِ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مَعَ أَنَّ دَلِيلَ عَدَمِ امْتِدَادِهِ غَيْرُ مُتَّضِحٍ فَهُوَ مِنْ الْقِسْمِ الَّذِي لَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ فِيهِ بِالِاعْتِبَارَيْنِ فَيَنْدَرِجُ فِي الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي اعْتِبَارِ الْمُضَافِ إلَيْهِ اعْتِبَارُ الْمَظْرُوفِ أَيْضًا فَفَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَظْرُوفِيَّةَ الَّتِي لَزِمَتْ مِنْ الْإِضَافَةِ لَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ فِي الْكَلَامِ فَلِذَا لَا تُؤَثِّرُ فِي اللَّفْظِ أَصْلًا وَلَوْ اُعْتُبِرَتْ لَا تَكُونُ مُطَّرِدَةً فَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُهَا فَأَمَّا الْمَظْرُوفِيَّةُ الَّتِي هِيَ مَقْصُودَةٌ فِي الْكَلَامِ فَهِيَ الَّتِي أَثَّرَتْ فِي اللَّفْظِ وَلَوْ اُعْتُبِرَتْ يَكُونُ مُطَّرِدَةً فِي جَمِيعِ الْمَسَائِلِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا إذْ تَرْكُ مَا هُوَ مَقْصُودٌ وَاعْتِبَارُ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ قَلْبُ الْمَعْقُولِ وَخِلَافُ الْأُصُولِ قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ جَامِعُ هَذِهِ الْمُتَفَرِّقَاتِ هَذَا مَا يُخَيَّلُ لِي مِنْ الْوَجْهِ الصَّوَابِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَرَاءَى لِي أَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ وَلَعَلَّ نَظَرَ غَيْرِي أَدَقُّ وَمَا قَالَهُ أَصْوَبُ وَأَحَقُّ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْحَقِيقَةِ وَالصَّوَابِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا إضَافَةُ الدَّارِ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ) أَيْ بِالْمَذْكُورِ أَوْ بِقَوْلِهِ دَارَ فُلَانٍ نِسْبَةُ السُّكْنَى؛ لِأَنَّ الدَّارَ لَا تُعَادَى وَلَا تُهْجَرُ لِذَاتِهَا عَادَةً وَإِنَّمَا تُهْجَرُ لِبُغْضِ صَاحِبِهَا فَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْإِضَافَةِ نِسْبَةَ السُّكْنَى لَا إضَافَةَ الْمِلْكِ. فَيُسْتَعَارُ الدَّارُ لِلسُّكْنَى أَيْ لِمَوْضِعِ السُّكْنَى وَصَارَ كَأَنَّهُ قِيلَ لَا أَدْخُلُ مَوْضِعَ سُكْنَى فُلَانٍ أَوْ دَارًا مَسْكُونَةً لِفُلَانٍ فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ الْمِلْكُ وَالْإِجَارَةُ وَالْعَارِيَّةُ فَيَحْنَثُ فِي الدَّارِ الْمَمْلُوكَةِ بِعُمُومِ الْمَجَازِ لَا بِالْمِلْكِ حَتَّى لَوْ كَانَ السَّاكِنُ فِيهَا غَيْرَ فُلَانٍ لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِفُلَانٍ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَذَكَرَ فِي فَتَاوَى الْقَاضِي الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ وَالْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَدَخَلَ دَارًا يَسْكُنُهَا فُلَانٌ بِإِجَارَةِ أَوْ بِإِعَارَةٍ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ وَإِنْ دَخَلَ دَارًا مَمْلُوكَةً لِفُلَانٍ وَفُلَانٌ لَا يَسْكُنُهَا يَحْنَثُ أَيْضًا. فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يَنْدَفِعُ السُّؤَالُ لِبَقَاءِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ إلَّا أَنْ يَجْعَلَ قَوْلَهُ دَارَ فُلَانٍ عِبَارَةً عَمَّا يُضَافُ إلَيْهِ مُطْلَقًا فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ الدَّارُ الْمُضَافَةُ إلَيْهِ بِالسُّكْنَى وَبِالْمِلْكِ جَمِيعًا كَمَا أُشِيرَ إلَيْهِ فِي الْمَبْسُوطِ فَقِيلَ إذَا حَلَفَ لَا يَسْكُنُ دَارَ فُلَانٍ وَلَمْ يُسَمِّ دَارًا بِعَيْنِهَا وَلَمْ يَنْوِهَا فَسَكَنَ دَارًا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِفُلَانٍ مِنْ وَقْتِ الْيَمِينِ إلَى وَقْتِ السُّكْنَى حَنِثَ وَإِنْ سَكَنَ دَارًا لَهُ قَدْ بَاعَهَا بَعْدَ يَمِينِهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ الْحِنْثِ وُجُودَ السُّكْنَى فِي دَارٍ مُضَافَةٍ إلَى فُلَانٍ وَلَمْ يُوجَدْ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا مَسْأَلَةُ السِّيَرِ) الْكَبِيرِ إذَا قَالَ الْكُفَّارُ أَمِّنُونَا عَلَى أَبْنَائِنَا وَلَهُمْ أَبْنَاءٌ وَأَبْنَاءُ أَبْنَاءٍ فَالْأَمَانُ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا اسْتِحْسَانًا وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الْأَمَانُ لِلْأَبْنَاءِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الِاسْمَ حَقِيقَةٌ لِلْأَبْنَاءِ مَجَازٌ فِي حَقِّ أَبْنَاءِ الْأَبْنَاءِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQفَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَلِهَذَا جَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْوَصِيَّةَ لِلْأَبْنَاءِ خَاصَّةً بِهَذَا اللَّفْظِ. وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا وَقُلْنَا الْمَقْصُودُ مِنْ الْأَمَانِ حَقْنُ الدَّمِ أَيْ صِيَانَتُهُ وَحِفْظُهُ يُقَالُ حَقَنْت دَمَهُ أَيْ مَنَعْته أَنْ يُسْفَكَ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الدِّمَاءِ أَنْ يَكُونَ مَحْقُونَةً لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. «الْآدَمِيُّ بُنْيَانُ الرَّبِّ» . وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ الْقَتْلُ قَبْلَ الدَّعْوَةِ وَبَعْدَ قَبُولِ الْجِزْيَةِ فَيَثْبُتُ بِأَدْنَى شُبْهَةٍ وَاسْمُ الْأَبْنَاءِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ يَتَنَاوَلُ الْفُرُوعَ فَإِنَّهُمْ يُنْسَبُونَ إلَيْهِ بِالْبُنُوَّةِ يُقَالُ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو تَمِيمٍ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى. يَا بَنِي آدَمَ. إلَّا أَنَّ الْحَقِيقَةَ تَقَدَّمَتْ عَلَى الْمَجَازِ فِي الْإِرَادَةِ فَبَقِيَ مُجَرَّدُ صُورَةِ الِاسْمِ شُبْهَةً فَيَثْبُتُ الْأَمَانُ بِهِ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ كَافِيَةٌ لَحِقْنَ الدَّمِ كَمَا يَثْبُتُ الْأَمَانُ بِمُجَرَّدِ الْإِشَارَةِ إذَا دَعَا بِهَا الْكَافِرُ إلَى نَفْسِهِ بِأَنْ أَشَارَ أَنْ انْزِلْ إنْ كُنْت رَجُلًا أَوْ إنْ كُنْت تُرِيدُ الْقِتَالَ أَوْ تَعَالَ حَتَّى تُبْصِرَ مَا أَفْعَلُ بِك فَظَنَّهُ الْكَافِرُ أَمَانًا لِصُورَةِ الْمُسَالَمَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حَقِيقَةً. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. أَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَشَارَ إلَى رَجُلٍ مِنْ الْعَدُوِّ أَنْ تَعَالَ فَإِنَّك إنْ جِئْت قَتَلْتُك فَأَتَاهُ فَهُوَ آمِنٌ يَعْنِي إذَا لَمْ يَفْهَمْ قَوْلَهُ إنْ جِئْت قَتَلْتُك أَوْ لَمْ يَسْمَعْ. وَمَا رُوِيَ أَنَّ الْهُرْمُزَانَ لِمَا أَتَى بِهِ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لَهُ تَكَلَّمَ فَقَالَ أَتَكَلَّمُ كَلَامَ حَيٍّ أَمْ مَيِّتٍ فَقَالَ عُمَرُ كَلَامَ حَيٍّ فَقَالَ كُنَّا نَحْنُ وَأَنْتُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَكُنْ لَنَا وَلَا لَكُمْ دِينٌ لَكِنَّا نَعُدُّكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ بِمَنْزِلَةِ الْكِلَابِ فَإِذَا عَزَّكُمْ اللَّهُ بِالدِّينِ وَبَعَثَ رَسُولَهُ فِيكُمْ لَمْ نُطْقِكُمْ فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَتَقُولُ هَذَا وَأَنْتَ أَسِيرٌ فِي أَيْدِينَا اُقْتُلُوهُ فَقَالَ أَفِيمَا عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ أَنْ تُؤَمِّنُوا أَسِيرًا ثُمَّ تَقْتُلُوهُ فَقَالَ مَتَى أَمَّنْتُك فَقَالَ قُلْت لِي تَكَلَّمْ كَلَامَ حَيٍّ وَالْخَائِفُ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَكُونُ حَيًّا فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَاتَلَهُ اللَّهُ أَخَذَ الْأَمَانَ وَلَمْ أَفْطِنْ بِهِ فَثَبَتَ أَنَّ مَبْنَى الْأَمَانِ عَلَى التَّوَسُّعِ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا لَا يُسْتَحَقُّ بِالصُّورَةِ وَالشُّبْهَةِ. وَلِأَنَّ فِي إثْبَاتِ الْمُزَاحَمَةِ فِي الْوَصِيَّةِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ إدْخَالَ النَّقْصِ فِي نَصِيبِ الْأَبْنَاءِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْأَمَانِ. وَلِأَنَّ طَلَبَ الْأَمَانِ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ لِإِظْهَارِ الشَّفَقَةِ عَلَى مَنْ يُنْسَبُ إلَيْهِ بِالْبُنُوَّةِ وَرُبَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ أَظْهَرَ مِنْهُ فِي حَقِّ الْأَبْنَاءِ عَلَى مَا قِيلَ: النَّافِلَةُ أَحَبُّ إلَى الْمَرْءِ مِنْ الْوَلَدِ (فَإِنْ قِيلَ) فَهَلَّا اعْتَبَرْتُمْ هَذِهِ الشُّبْهَةَ فِي إثْبَاتِ الْأَمَانِ لِلْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ فِي الِاسْتِيمَانِ عَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ فَإِنَّهُمْ إذَا قَالُوا أَمِّنُونَا عَلَى آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْأَجْدَادُ أَوْ الْجَدَّاتُ بِحَالٍ مَعَ أَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُمْ صُورَةً (قُلْنَا) ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ إذَا صَارَتْ مُرَادَةً فَاعْتِبَارُ الصُّورَةِ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ يَكُونُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لَا مَحَالَةَ وَبَنُو الْبَنِينَ يَلِيقُ صِفَةَ التَّبَعِيَّةِ بِحَالِهِمْ فَأَمَّا الْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ فَلَا يَكُونُ اتِّبَاعًا لِلْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَهُمْ الْأُصُولُ فَلِهَذَا تُرِكَ اعْتِبَارُ الصُّورَةِ هُنَاكَ فِي إثْبَاتِ الْأَمَان لَهُمْ كَذَا أَجَابَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَلَا يُقَالُ الْجَدُّ أَصْلُ الْأَبِ خِلْقَةً وَلَكِنْ تَبَعٌ لَهُ فِي إطْلَاقِ اسْمِ الْأَبِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ هَذَا الِاسْمِ بِطَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ عَنْ الْأَبِ كَإِطْلَاقِ اسْمِ الِابْنِ عَلَى ابْنِ الِابْنِ فَيَلِيقُ إثْبَاتُ الْأَمَانِ فِي حَقِّهِمْ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ أَيْضًا أَلَا تَرَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ لِلْجَدِّ وَانْتِقَالَ نَصِيبِ الْأَبِ إلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَلَا يَمْنَعُ عَنْهُ كَوْنُهُ أَصْلًا لِلْأَبِ خِلْقَةً فَلَأَنْ يَثْبُتُ لَهُ الْأَمَانُ الَّذِي يَثْبُتُ بِأَدْنَى شُبْهَةٍ وَلَا يَمْنَعُ عَنْهُ كَوْنُهُ أَصْلًا خِلْقَةً كَانَ أَوْلَى. لِأَنَّا نَقُولُ إثْبَاتُ الْأَمَانِ بِظَاهِرِ

وَهَذَا الِاسْمُ بِظَاهِرِهِ يَتَنَاوَلُهُمْ لَكِنْ بَطَلَ الْعَمَلُ بِهِ لِتَقَدُّمِ الْحَقِيقَةِ عَلَيْهِ فَبَقِيَ ظَاهِرُ الِاسْمِ شُبْهَةٌ. فَإِنْ قِيلَ قَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ أَنَّهُ يَحْنَثُ إنْ أَكَلَ مِنْ عَيْنِهَا أَوْ مَا يُتَّخَذُ مِنْهَا وَفِيهِ جَمْعٌ بَيْنَهُمَا ـــــــــــــــــــــــــــــQالِاسْمِ بَعْدَ إرَادَةِ الْحَقِيقَةِ مِنْهُ إثْبَاتٌ لَهُ بِدَلِيلٍ ضَعِيفٍ فَيُعْمَلُ بِهِ إذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مُعَارِضٌ كَمَا فِي جَانِبِ الْأَبْنَاءِ فَإِنَّ ابْنَ الِابْنِ تَبَعٌ لِلِابْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَأَمَّا إذَا وُجِدَ مُعَارِضٌ فَلَا كَمَا فِي جَانِبِ الْآبَاءِ فَإِنَّ جِهَةَ كَوْنِ الْجَدِّ تَبَعًا فِي الِاسْمِ إنْ كَانَتْ تُوجِبُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي حَقِّهِ فَجِهَةُ كَوْنِهِ أَصْلًا مِنْ حَيْثُ الْخِلْفَةُ مَانِعَةٌ عَنْهُ فَيَسْقُطُ الْعَمَلُ بِهِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُعَارِضِ؛ لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ فِي نَفْسِهِ فَأَمَّا بَابُ الْمِيرَاثِ فَمَبْنِيٌّ عَلَى الْقُرْبِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَبَ أَقْرَبُ إلَى الْمَيِّتِ مِنْ جَدِّهِ فَلَا جَرَمَ يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ بَعْدَ الْأَبِ. وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي شَرْحِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْأَجْدَادَ وَالْجَدَّاتِ أُصُولٌ لِلْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَأَنَّهُمْ مُخْتَصُّونَ بِاسْمٍ فَلَا يَتَنَاوَلُهُمْ اسْمُ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ عَلَى وَجْهِ الِاتِّبَاعِ لِفُرُوعِهِمْ كَمَا لَا يَتَنَاوَلُ الْعَمَّ مَعَ أَنَّهُ سُمِّيَ أَبًا فِي قَوْله تَعَالَى. {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133] . وَإِسْمَاعِيلُ كَانَ عَمًّا لِيَعْقُوبَ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وَكَمَا يَتَنَاوَلُ الْخَالَةَ مَعَ أَنَّهَا سُمِّيَتْ أُمًّا فِي قَوْله تَعَالَى. {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} [يوسف: 100] . أَيْ أَبَاهُ وَخَالَتَهُ وَفِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. «الْخَالَةُ أُمٌّ» . حَتَّى لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهُمَا يَدْخُلَانِ فِي الْأَمَانِ لِلْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ الْأَتْبَاعِ وَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَخْتَصُّ بِاسْمٍ آخَرَ بِهِ يُنْسَبُ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ الْجَدُّ وَالْجَدَّةُ. وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آبَاءٌ وَأُمَّهَاتٌ وَلَهُمْ أَجْدَادٌ وَجَدَّاتٌ لَا يَدْخُلُونَ أَيْضًا بِخِلَافِ بَنِي الْأَبْنَاءِ فَإِنَّهُمْ تَفَرَّعُوا مِنْ الْأَبْنَاءِ فَكَانُوا تَبَعًا لَهُمْ وَإِنَّهُمْ يُنْسَبُونَ إلَيْهِ بِاسْمِ الْبُنُوَّةِ وَلَكِنْ بِوَاسِطَةِ الِابْنِ فَكَانَ الْأَمَانُ بِهَذَا الِاسْمِ مُتَنَاوِلًا لَهُمْ. وَهَذَا بَيَانُ لِسَانِ الْعَرَبِ فَإِنْ كَانَ قَوْمٌ فِي لِسَانِهِمْ الَّذِي يَتَكَلَّمُونَ بِهِ أَنَّ الْجَدَّ أَبٌ كَمَا أَنَّ ابْنَ الِابْنِ ابْنٌ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْأَمَانِ وَهَكَذَا فِي لِسَانِ الْفَارِسِيَّةِ فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلْجَدِّ بَدْرُ بَدْرٍ كَمَا يُقَالُ لِابْنِ الِابْنِ بُسْرُ بُسْرٍ. هَذَا حَاصِلُ مَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي شَرْحِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَقَالَ هَذَا الْفَصْلُ مُشْكِلٌ (فَإِنْ قِيلَ) إذَا اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ أَبَاهُ يَصِيرُ مُكَاتَبًا عَلَيْهِ تَبَعًا فَلْيَثْبُتْ الْأَمَانُ هَهُنَا أَيْضًا لِشُبْهَةِ الِاسْمِ تَبَعًا وَفِيهِ حَقْنُ الدَّمِ. (قُلْنَا) لَوْ لَمْ يَحْكُمْ هُنَاكَ بِكِتَابَتِهِ تَبَعًا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْأَبُ مَمْلُوكًا لِابْنِهِ وَهُوَ شَنِيعٌ جِدًّا أَوْ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى الِاسْتِخْلَاصِ عَنْ ذَلِكَ فَأَمَّا هَهُنَا فَقَدْ أَمْكَنَهُ إحْرَازُ نَفْسِهِ وَمَالِهِ بِالِاسْتِيمَانِ أَوْ بِالْإِسْلَامِ فَلَا حَاجَةَ إلَى ارْتِكَابِ جَعْلِ الْمَتْبُوعِ تَبَعًا. وَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ مِنْ شُعَبِ الْحُرِّ لِثُبُوتِ حُرِّيَّةِ الْيَدِ فِيهَا وَإِفْضَائِهَا إلَى حُرِّيَّةِ الرَّقَبَةِ فَكَمَا تَثْبُتُ لَهُ الْحُرِّيَّةُ إذَا اشْتَرَاهُ ابْنُهُ الْحُرُّ فَكَذَلِكَ نُثْبِتُ لَهُ صِفَةَ الْكِتَابَةِ إذَا اشْتَرَاهُ ابْنُهُ الْمُكَاتَبُ إثْبَاتًا لِلْحُكْمِ بِقَدْرِ دَلِيلِهِ. وَالْأَوْجَهُ أَنْ يُقَالَ لَيْسَ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ قَبِيلِ مَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ كَلَامَنَا فِي أَنَّ لَفْظَ الْأَبِ هَلْ يَتَنَاوَلُ الْجَدَّ ظَاهِرًا لِيَثْبُتَ لَهُ الْأَمَانُ ابْتِدَاءً بِصُورَةِ هَذَا الِاسْمِ لَا أَنْ يَثْبُتَ لَهُ الْأَمَانُ مِنْ جِهَةِ الِابْنِ بِطَرِيقِ السِّرَايَةِ. وَالْكِتَابَةُ وَالْحُرِّيَّةُ يَثْبُتَانِ لَهُ مِنْ جِهَةِ الِابْنِ بِأَمْرٍ حُكْمِيٍّ لَا بِاعْتِبَارِ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِمَا فَلَمْ يَكُنْ مِنْ قَبِيلِ مَا نَحْنُ فِيهِ. وَهَذَا الِاسْمُ أَيْ اسْمُ الْأَبْنَاءِ يَتَنَاوَلُهُمْ يَعْنِي بَنِي الْأَبْنَاءِ. لَكِنْ بَطَلَ الْعَمَلُ بِهِ أَيْ بِذَلِكَ التَّنَاوُلِ يَعْنِي امْتَنَعَ التَّنَاوُلُ لِتَقَدُّمِ الْحَقِيقَةِ. قَوْلُهُ (فَإِنْ قِيلَ) هَذِهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ أُخَرُ تَرِدُ نَقْصًا عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا وَإِنَّمَا أَفْرَدَهَا عَنْ الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِكَوْنِهَا مُخْتَلِفَةً بَيْنَ أَصْحَابِنَا بِخِلَافِ الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ. ثُمَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ جَائِزٌ عِنْدَهُمَا وَاسْتَدَلُّوا بِهَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ أَوَّلًا

وَكَذَلِكَ قَالَ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ الْفُرَاتِ أَنَّهُ يَحْنَثُ إنْ كَرَعَ وَاغْتَرَفَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِيمَنْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ رَجَبَ أَنَّهُ إنْ نَوَى الْيَمِينَ كَانَ نَذْرًا وَيَمِينًا وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَهُمَا ـــــــــــــــــــــــــــــQوَأَبَى الْقَاضِي الْإِمَامُ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَالشَّيْخُ الْمُصَنِّفُ وَأَخُوهُ صَدْرُ الْإِسْلَامِ ذَلِكَ. قَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ إنَّهُمَا أَجَلُّ قَدْرًا مِنْ أَنْ يُشْتَبَهَ عَلَيْهِمَا هَذَا. أَمَّا بَيَانُ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَنَقُولُ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ لَا يَأْكُلَهَا حَبًّا كَمَا هِيَ فَيَمِينُهُ عَلَى مَا نَوَى حَتَّى لَوْ أَكَلَ مِنْ خُبْزِهَا أَوْ سَوِيقِهَا لَا يَحْنَثُ بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ وَكَذَا عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ إذَا نَوَى الْعَيْنَ فَقَدْ نَوَى الْحَقِيقَةَ فَيَصِحُّ نِيَّتُهُ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الدَّقِيقِ وَنَوَى أَكْلَ عَيْنِهِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ عِنْدَهُمْ وَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ مُنْصَرِفَةً إلَى الْخُبْزِ. وَإِنْ نَوَى أَنْ لَا يَأْكُلَ مَا يُتَّخَذُ مِنْهَا صَحَّتْ نِيَّتُهُ أَيْضًا حَتَّى لَا يَحْنَثَ بِأَكْلِ عَيْنِهَا؛ لِأَنَّهُ نَوَى مُحْتَمَلَ كَلَامِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَعَلَى قَوْلِهِ تَقَعُ عَلَى الْعَيْنِ لَا غَيْرُ حَتَّى لَا يَحْنَثَ بِالْخُبْزِ وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَحْنَثُ بِالْخُبْزِ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَهَلْ يَحْنَثُ بِأَكْلِ عَيْنِ الْحِنْطَةِ. أَشَارَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَيْمَانِ إلَى أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ فَإِنَّهُ قَالَ يَمِينُهُ عَلَى مَا يَصْنَعُ مِنْهَا وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَوْ أَكَلَ عَيْنَهَا لَا يَحْنَثُ. وَذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَحْنَثُ إنْ أَكَلَهَا خُبْزًا أَيْضًا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَحْنَثُ بِتَنَاوُلِ عَيْنِ الْحِنْطَةِ عِنْدَهُمَا وَإِنَّمَا يُرَدُّ السُّؤَالُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؛ لِأَنَّ أَكْلَ الْعَيْنِ حَقِيقَةُ هَذَا الْكَلَامُ وَأَكْلُ الْخُبْزِ مَجَازُهُ فَيَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. وَهَذَا الْوَجْهُ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّيْخِ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَالْقَاضِي الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ وَعَامَّةِ الْمَشَايِخِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْمَعْرُوفُ بِخُوَاهَرْ زَادَهْ أَنَّ الصَّحِيحَ رِوَايَةُ كِتَابِ الْأَيْمَانِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْحِنْطَةِ لِلْعَيْنِ حَقِيقَةٌ وَلِلْخُبْزِ مَجَازٌ أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَوَى أَكْلَ الْعَيْنِ لَا يَحْنَثُ بِالْخُبْزِ وَالسَّوِيقِ لِمَا قُلْنَا فَكَذَا إذَا لَمْ يَنْوِ وَانْصَرَفَتْ يَمِينُهُ إلَى الْخُبْزِ لَا يَبْقَى الْحَقِيقَةُ مُرَادَةً. وَمَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ مُؤَوَّلٌ فَمَعْنَى قَوْلِهِ وَإِنْ قَضَمَهَا حَنِثَ أَيْ إذَا نَوَى الْعَيْنَ وَإِنْ أَكْلَ مِنْ خُبْزِهَا يَحْنَثُ أَيْضًا عَلَى قَوْلِهِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ. وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَهِيَ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ الْفُرَاتِ فَالْيَمِينُ يَقَعُ عَلَى الْكَرْعِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ كَلَامِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَذَلِكَ بِأَنْ يَضَعَ فَاهُ عَلَيْهِ وَيَشْرَبَ مِنْهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَلَوْ نَوَى الِاغْتِرَافَ لَا يُصَدَّقُ قَضَاءً عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى الْمَجَازَ وَفِيهِ تَخْفِيفٌ مِنْ وَجْهٍ كَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ الْمَعْرُوفُ بِخَانِ. وَعِنْدَهُمَا لَوْ اغْتَرَفَ مِنْهُ بِيَدِهِ أَوْ إنَاءٍ فَشَرِبَ يَحْنَثُ. وَلَوْ شَرِبَ كَرْعًا قِيلَ لَا يَحْنَثُ عَلَى قَوْلِهِمَا إذَا لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ كَيْ لَا يَصِيرَ جَامِعًا بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَقِيلَ يَحْنَثُ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَيَلْزَمُ مِنْهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فَمَسْأَلَةُ النَّذْرِ وَهِيَ قَوْلُهُ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ رَجَبَ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى سِتَّةِ أَوْجُهٍ. إنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا. أَوْ نَوَى النَّذْرَ وَلَمْ يَخْطِرْ بِبَالِهِ الْيَمِينُ. أَوْ نَوَى النَّذْرَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ يَمِينًا يَكُونُ نَذْرًا بِالِاتِّفَاقِ. وَلَوْ نَوَى الْيَمِينَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ نَذْرًا يَكُونُ يَمِينًا بِالِاتِّفَاقِ. وَلَوْ نَوَاهُمَا أَوْ نَوَى الْيَمِينَ وَلَمْ يَخْطِرْ بِبَالِهِ النَّذْرُ كَانَ نَذْرًا فِي الْأَوَّلِ وَيَمِينًا فِي الثَّانِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَكَانَ نَذْرًا وَيَمِينًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - حَتَّى يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ جَمِيعًا بِالْفَوَاتِ فِي الْوَجْهَيْنِ وَفِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ مَعَ الْيَمِينِ مُخْتَلِفَانِ بِلَا شُبْهَةٍ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ النَّذْرِ الْوَفَاءُ بِالْمُلْتَزَمِ وَالْقَضَاءُ عِنْدَ الْفَوْتِ لَا الْكَفَّارَةُ وَمُوجِبُ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالْكَفَّارَةِ عِنْدَ الْفَوْتِ لَا الْقَضَاءُ وَاخْتِلَافُ أَحْكَامِهِمَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ ذَاتَيْهِمَا. ثُمَّ هَذَا الْكَلَامُ لِلنَّذْرِ

قِيلَ لَهُ أَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَقَدْ عَمِلَا بِإِطْلَاقِ الْمَجَازِ وَعُمُومِهِ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ فِي الْعَادَةِ اسْمٌ لِمَا فِي بَاطِنِهَا وَمَنْ أَكَلَهَا أَوْ مَا يُتَّخَذُ مِنْهَا فَقَدْ أَكَلَ مَا فِيهَا وَالشُّرْبُ مِنْ الْفُرَاتِ مَجَازٌ لِلشُّرْبِ مِنْ الْمَاءِ الَّذِي يُجَاوِرُ الْفُرَاتَ وَيُنْسَبُ إلَيْهِ وَهَذِهِ النِّسْبَةُ لَا تَنْقَطِعُ بِالْأَوَانِي لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْجَامِعِ فَصَارَ ذَلِكَ عَمَلًا بِعُمُومِهِ لَا جَمْعًا بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ـــــــــــــــــــــــــــــQحَقِيقَةً لِعَدَمِ تَوَقُّفِ ثُبُوتِهِ بِهِ عَلَى قَرِينَةٍ كَمَا إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا وَلِلْيَمِينِ مَجَازٌ لِتَوَقُّفِ ثُبُوتِهَا بِهِ عَلَى قَرِينَةٍ وَهِيَ النِّيَّةُ وَالتَّوَقُّفُ عَلَى الْقَرِينَةِ مِنْ أَمَارَاتِ الْمَجَازِ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِمَا مَرَّ مِنْ الدَّلَائِلِ فَيَتَرَجَّحُ الْحَقِيقَةُ عَلَى الْمَجَازِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَتَسْقُطُ الْحَقِيقَةُ بِتَعَيُّنِ الْمَجَازِ مُرَادًا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي. وَرَجَبٌ مُنْصَرِفٌ إذْ لَيْسَ فِيهِ إلَّا الْعَلَمِيَّةُ وَفِي الْحَدِيثِ. «إنَّ رَجَبًا شَهْرٌ عَظِيمٌ» . إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ جَعَلَهُ هَهُنَا غَيْرَ مُنْصَرِفٍ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ هُوَ الرَّجَبُ الَّذِي يَتَعَقَّبُ الْيَمِينَ لَا رَجَبٌ مِنْهُمْ فَكَانَ مَعْدُولًا عَنْ الرَّجَبِ الْمَعْرُوفِ بِالْأُمِّ فَلَا يَنْصَرِفُ لِاجْتِمَاعِ الْعَدْلِ وَالْعَلَمِيَّةِ كَمَا فِي سَحَرَ إذَا أَرَدْت سَحَرَ يَوْمِك عَلَى مَا عُرِفَ. قَوْلُهُ (أَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فَقَدْ عَمِلَا بِإِطْلَاقِ الْمَجَازِ وَعُمُومِهِ) إذَا كَانَ لِلَّفْظِ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ وَمَجَازٌ مُتَعَارَفٌ فَالْعَمَلُ بِالْمَجَازِ أَوْلَى عِنْدَهُمَا وَسَتَعْرِفُ السِّرَّ فِيهِ. ثُمَّ لِلْمَجَازِ هَهُنَا وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا أَنْ يُجْعَلَ أَكْلُ الْحِنْطَةِ عِبَارَةً عَنْ أَكْلِ مَا يُتَّخَذُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ إذَا ذُكِرَتْ مَقْرُونَةً بِالْأَكْلِ يُرَادُ بِهَا فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ مَا يُتَّخَذُ مِنْهَا مِنْ الْخُبْزِ وَنَحْوِهِ يُقَالُ أَكَلْنَا أَجْوَدَ حِنْطَةٍ فِي أَرْضِ كَذَا أَيْ أَجْوَدَ خُبْزٍ وَيُقَالُ فُلَانٌ يَأْكُلُ الْحِنْطَةَ أَيْ خُبْزَ الْحِنْطَةِ وَمَا يُتَّخَذُ مِنْهَا وَمُطْلَقُ الِاسْمِ مُنْصَرِفٌ إلَى الْمُتَعَارَفِ وَإِنْ كَانَتْ الْحَقِيقَةُ مُمْكِنٌ الْعَمَلُ بِهَا كَمَا فِي وَضْعِ الْقَدَمِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَا آكُلُ مَا يُتَّخَذُ مِنْهَا فَيَحْنَثُ بِأَكْلِ الْخُبْزِ وَنَحْوِهِ وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْعَيْنِ. وَالثَّانِي وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ أَنْ يُجْعَلَ أَكْلُ الْحِنْطَةِ عِبَارَةً عَنْ أَكْلِ مَا فِيهَا بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ يُقَالُ أَهْلُ بَلَدِ كَذَا يَأْكُلُونَ الْحِنْطَةَ وَيُرَادُ مَا فِيهَا مِنْ الْأَجْزَاءِ أَيْ طَعَامُهُمْ مِنْ أَجْزَاءِ الْحِنْطَةِ لَا مِنْ أَجْزَاءِ الشَّعِيرِ وَإِذَا صَارَ عِبَارَةً عَنْ أَكْلِ مَا فِيهَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْعَيْنِ كَمَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْخُبْزِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ عُمُومِ الْمَجَازِ لَا بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ وَضْعِ الْقَدَمِ. وَلَا يُقَالُ فَعَلَى مَا ذَكَرْتُمْ يَلْزَمُ أَنْ يَحْنَثَ بِأَكْلِ السَّوِيقِ عِنْدَهُمَا لِوُجُودِ أَكْلِ مَا فِي بَاطِنِهَا. لِأَنَّا نَقُولُ السَّوِيقُ جِنْسٌ آخَرُ غَيْرُ جِنْسِ الدَّقِيقِ عِنْدَ هُمَا، وَلِهَذَا جَوَّزَا بَيْعَ الدَّقِيقِ بِالسَّوِيقِ مُتَفَاضِلًا فَلَا يَكُونُ مَا أَكَلَ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي الْحِنْطَةِ فَلَا يَحْنَثُ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ خُوَاهَرْ زَادَهْ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ. قَوْلُهُ (وَالشُّرْبُ مِنْ الْفُرَاتِ) تَكَلَّمُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْمَجَازِ هُنَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا بِجَعْلِ قَوْلِهِ مِنْ الْفُرَاتِ مَجَازًا لِشُرْبِ مَاءِ الْفُرَاتِ؛ لِأَنَّ الشُّرْبَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي نَفْسِ الْفُرَاتِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُضْمِرَ فِيهِ مَاءَ الْفُرَاتِ. وَلَكِنْ هَذَا لَيْسَ بِصَوَابٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ شَرِبَ مِنْ نَهْرٍ آخَرَ يَأْخُذُ مِنْ الْفُرَاتِ لَا يَحْنَثُ وَلَوْ صَارَ مَجَازًا لِشُرْبِ مَاءِ الْفُرَاتِ يَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ كَمَا لَوْ نَصَّ عَلَيْهِ بِأَنْ قَالَ لَا أَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الْفُرَاتِ. بَلْ الصَّحِيحُ أَنْ يُجْعَلَ مَجَازًا لِشُرْبِ مَاءٍ مَنْسُوبٍ إلَى الْفُرَاتِ مُجَاوِرٍ لَهُ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ فَإِنَّهُ يُقَالُ بَنُو فُلَانٍ يَشْرَبُونَ مِنْ الْوَادِي وَمِنْ الْفُرَاتِ وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ مَا قُلْنَا وَالْأَخْذُ بِالْأَوَانِي لَا يَقْطَعُ هَذِهِ النِّسْبَةَ فَيَحْنَثُ بِالْكَرْعِ وَالِاغْتِرَافِ جَمِيعًا لِعُمُومِ الْمَجَازِ لَا بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ. فَإِنْ نَوَى فِي قَوْلِهِ لَا أَشْرَبُ مِنْ الْفُرَاتِ مَاءَ الْفُرَاتِ يَصِحُّ نِيَّتُهُ عِنْدَ الْبَعْضِ حَتَّى لَوْ شَرِبَ مِنْ نَهْرٍ يَأْخُذُ مِنْ الْفُرَاتِ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ؛ لِأَنَّ الشُّرْبَ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْمَاءِ. وَعِنْدَ الْعَامَّةِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ غَيْرُ مَذْكُورٍ نَصًّا وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَذْكُورًا مُقْتَضَى الشُّرْبِ وَالْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ لَهُ فَلَا يَصِحُّ

وَأَمَّا مَسْأَلَةُ النَّذْرِ فَلَيْسَ بِجَمْعٍ بَلْ هُوَ نَذْرٌ بِصِيغَتِهِ وَيَمِينٌ بِمُوجِبِهِ وَهُوَ الْإِيجَابُ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْمُبَاحِ يَصْلُحُ يَمِينًا بِمَنْزِلَةِ تَحْرِيمِ الْمُبَاحِ وَصَارَ ذَلِكَ كَشَرْيِ الْقَرِيبِ تَمَلُّكٌ بِصِيغَتِهِ وَتَحْرِيرٌ بِمُوجِبِهِ فَهَذِهِ مِثْلُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQنِيَّةُ التَّعْمِيمِ فِيهِ كَمَا لَا يَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ كَذَا فِي الْجَامِعِ الْبُرْهَانِيِّ. قَوْلُهُ (فَأَمَّا مَسْأَلَةُ النَّذْرِ فَلَيْسَ بِجَمْعٍ) يَعْنِي لَيْسَ مَا ذُكِرَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمِ النَّذْرِ وَالْيَمِينِ بِجَمْعِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ بِاعْتِبَارِ الصِّيغَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ صِيغَتُهُ دَالَّةً عَلَى النَّذْرِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَتَكُونَ دَالَّةً عَلَى الْيَمِينِ أَيْضًا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ بَلْ هُوَ نَذْرٌ بِصِيغَتِهِ لَا غَيْرُ وَلَكِنَّهُ يَمِينٌ بِاعْتِبَارِ مُوجِبِهِ أَيْ حُكْمِهِ وَهُوَ أَنَّ مُوجِبَ النَّذْرِ لُزُومُ الْمَنْذُورِ لَا مَحَالَةَ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَنْذُورُ قَبْلَ النَّذْرِ مُبَاحَ التَّرْكِ لِيَصِحَّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ بِمَا هُوَ وَاجِبٌ فِي نَفْسِهِ لَا يَصِحُّ عَلَى مَا عُرِفَ فَإِذَا لَزِمَ الْمَنْذُورُ بِالنَّذْرِ صَارَ تَرْكُهُ الَّذِي كَانَ مُبَاحًا حَرَامًا بِهِ وَصَارَ النَّذْرُ تَحْرِيمَ الْمُبَاحِ بِوَاسِطَةِ حُكْمِهِ وَهُوَ لُزُومُ الْمَنْذُورِ، وَتَحْرِيمُ الْمُبَاحِ يَمِينٌ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَ مَارِيَةَ أَوْ الْعَسَلَ عَلَى نَفْسِهِ فَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ التَّحْرِيمَ يَمِينًا وَأَوْجَبَ فِيهِ الْكَفَّارَةَ حَيْثُ قَالَ. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] . إلَى أَنْ قَالَ. {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] . أَيْ شَرَعَ لَكُمْ تَحْلِيلَهَا بِالْكَفَّارَةِ حَتَّى رُوِيَ عَنْ مُقَاتِلٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْتَقَ رَقَبَةً فِي تَحْرِيمِ مَارِيَةَ» وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدٍ وَطَاوُسٍ وَالْحَسَنِ وَالثَّوْرِيِّ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ فَكَانَ النَّذْرُ بِوَاسِطَةِ مُوجِبِهِ يَمِينًا لَا بِصِيغَتِهِ بَلْ هُوَ بِصِيغَتِهِ نَذْرٌ لَا غَيْرُ، وَمِثْلُ هَذَا لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ كَشِرَاءِ الْقَرِيبِ سُمِّيَ إعْتَاقًا فِي الشَّرْعِ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ إزَالَتَهُ لَكِنَّهُ بِصِيغَتِهِ إثْبَاتُ الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ فِي الْقَرِيبِ يُوجِبُ الْعِتْقَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ عَلَيْهِ» . فَكَانَ الشِّرَاءُ إعْتَاقًا بِوَاسِطَةِ حُكْمِهِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لَا بِصِيغَتِهِ. وَكَالْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ هِبَةٌ بِاعْتِبَارِ الصِّيغَةِ بَيْعٌ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى فَكَذَا هَذَا. (فَإِنْ قِيلَ) لَوْ كَانَ النَّذْرُ يَمِينًا بِاعْتِبَارِ مُوجِبِهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْتَاجَ فِي ثُبُوتِهَا إلَى نِيَّةٍ كَالْعِتْقِ فِي شِرَاءِ الْقَرِيبِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ حَيْثُ قَالَ لَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا فَمَرِضَ فِي الْغَدِ فَأَفْطَرَ أَوْ كَانَ الْحَالِفُ امْرَأَةً فَحَاضَتْ كَانَ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ (قُلْنَا) بِاسْتِعْمَالِ هَذِهِ الصِّيغَةِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ خَرَجَتْ الْيَمِينُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِهَا فَصَارَتْ كَالْحَقِيقَةِ الْمَهْجُورَةِ فَلَا يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ كَذَا قِيلَ. وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ أَنَّ التَّحْرِيمَ يَثْبُتُ بِمُوجِبِ النَّذْرِ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ تَرْكِ الْمَنْذُورِ بِهِ ثَابِتٌ نَوَاهُ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ إلَّا أَنَّ كَوْنَهُ يَمِينًا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَصْدِ فَإِنَّ النَّصَّ جَعَلَهُ يَمِينًا عِنْدَ الْقَصْدِ وَلَمْ يُرِدْ الشَّرْعُ بِكَوْنِهِ يَمِينًا عِنْدَ عَدَمِ الْقَصْدِ وَثُبُوتِهِ ضَمًّا فَإِذَا نَوَى الْيَمِينَ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ التَّحْرِيمُ الثَّابِتُ بِهِ يَمِينًا لِوُجُودِ شَرْطِهِ لَكِنْ بِمُوجِبِ النَّذْرِ لَا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ. وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي شَرْحِ كِتَابِ الصَّوْمِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي كَلَامِهِ كَلِمَتَانِ. أَحَدُهُمَا يَمِينٌ وَهُوَ قَوْلُهُ لِلَّهِ فَإِنَّهُ عِنْدَ إرَادَةِ الْيَمِينِ كَقَوْلِهِ بِاَللَّهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ دَخَلَ آدَم الْجَنَّةَ فَلِلَّهِ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ حَتَّى خَرَجَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبَاءَ وَاللَّامَ يَتَعَاقَبَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى خَبَرًا عَنْ فِرْعَوْنَ {آمَنْتُمْ لَهُ} [الشعراء: 49] وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ {آمَنْتُمْ بِهِ} [الأعراف: 123] . الْأُخْرَى نَذْرٌ وَهِيَ قَوْلُهُ عَلَيَّ إلَّا أَنَّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ غَلَبَ مَعْنَى النَّذْرِ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ فَإِذَا نَوَاهُمَا فَقَدْ نَوَى بِكُلِّ لَفْظٍ مَا هُوَ مِنْ مُحْتَمَلَاتِهِ فَتَعْمَلُ نِيَّتُهُ وَلَا يَكُونُ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ بَلْ فِي كَلِمَتَيْنِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ إيجَابًا

[طريق الاستعارة عند العرب]

وَطَرِيقُ الِاسْتِعَارَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ الِاتِّصَالُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ وَذَلِكَ بِطَرِيقَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا الِاتِّصَالُ بَيْنَهُمَا صُورَةً أَوْ مَعْنًى ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي نَفْسِهِ وَجَوَابُ الْقَسَمِ أَيْضًا إنْ جَازَ ذَلِكَ كَلَأُكْرِمَنَّكَ فِي قَوْلِك وَاَللَّهِ إنْ أَكْرَمْتَنِي لَأُكْرِمَنَّكَ جَوَابُ الْقَسَمِ وَالشَّرْطِ جَمِيعًا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَ إيجَابَ الصَّوْمِ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ وَاَللَّهِ لَأَصُومَنَّ كَذَا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَصْلُحَ جَوَابًا لِلْقَسَمِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَذُكِرَ فِي بَعْضِ شُرُوحِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ نَذْرٌ بِصِيغَتِهِ يَمِينٌ بِمُوجِبِهِ أَنَّ الصَّوْمَ قَبْلَ صُدُورِ هَذِهِ الصِّيغَةِ كَانَ غَيْرَ وَاجِبٍ فَبِالنَّذْرِ يَصِيرُ وَاجِبًا وَبِالْيَمِينِ أَيْضًا يَصِيرُ وَاجِبًا فَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُثْبِتَ الْوُجُوبَ لِغَيْرِهِ كَمَا يَثْبُتُ لِعَيْنِهِ وَإِرَادَةُ الْيَمِينِ صَحِيحَةٌ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ صِيغَةِ النَّذْرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا نَوَى الْيَمِينَ يَكُونُ يَمِينًا فَعُلِمَ أَنَّ إرَادَةَ الْوُجُوبِ مِنْ هَذِهِ الصِّيغَةِ صَحِيحَةٌ فَإِذَا نَوَى الْيَمِينَ حَصَلَ هَهُنَا دَلِيلَانِ أَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ لِعَيْنِهِ وَهُوَ الصِّيغَةُ وَالْآخَرُ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ لِغَيْرِهِ فَيُعْمَلُ بِهِمَا إذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لِعَيْنِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا لِغَيْرِهِ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَيُصَلِّيَنَّ ظُهْرَ هَذَا الْيَوْمِ يَصِيرُ وَاجِبًا لِغَيْرِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ وَاجِبًا لِعَيْنِهِ حَتَّى لَوْ فَاتَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ فَكَذَا هَذَا. وَلَا يُقَالُ مُوجِبُ هَذَا الْكَلَامِ الْوُجُوبُ لَا الْإِيجَابُ وَقَدْ سَمَّاهُ فِي الْكِتَابِ إيجَابًا.؛ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّمَا سَمَّاهُ إيجَابًا مَجَازًا؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْإِيجَابِ مِنْ الشَّرْعِ فَيَثْبُتُ الْإِيجَابُ بِهِ اقْتِضَاءً فَسُمِّيَ الْوُجُوبُ إيجَابًا بِوَاسِطَةِ أَنَّهُ مُقْتَضَاهُ. وَالْأَوْجَهُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنْ الْمُوجِبِ الْمَعْنَى أَيْ هُوَ يَمِينٌ بِمَعْنَاهُ وَهُوَ الْإِيجَابُ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْجَوَامِعِ: فَإِذَا نَوَى الْيَمِينَ فَقَدْ نَوَى مَا هُوَ مَعْنَى النَّذْرِ. [طَرِيقُ الِاسْتِعَارَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ] قَوْلُهُ (وَطَرِيقُ الِاسْتِعَارَةِ) كَذَا اعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ فِي اصْطِلَاحِ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ عِبَارَةٌ عَنْ نَوْعٍ مِنْ الْمَجَازِ وَهِيَ أَنْ تَذْكُرَ أَحَدَ طَرَفَيْ التَّشْبِيهِ وَتُرِيدُ الطَّرَفَ الْآخَرَ مُدَّعِيًا دُخُولَ الْمُشَبَّهِ فِي جِنْسِ الْمُشَبَّهِ بِهِ دَالًا عَلَى ذَلِكَ بِإِثْبَاتِك لِلْمُشَبَّهِ مَا يَخُصُّ الْمُشَبَّهَ بِهِ كَمَا تَقُولُ فِي الْحَمَّامِ أَسَدٌ وَأَنْتَ تُرِيدُ الشُّجَاعَ مُدَّعِيًا أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأُسُودِ فَيَثْبُتُ لِلشُّجَاعِ مَا يَخُصُّ الْمُشَبَّهَ بِهِ وَهُوَ اسْمُ جِنْسِهِ مَعَ سَدِّ طَرِيقِ التَّشْبِيهِ بِأَفْرَادِهِ فِي الذِّكْرِ. وَإِنَّمَا سَمُّوا هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْمَجَازِ اسْتِعَارَةً لِلتَّنَاسُبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعْنَى الِاسْتِعَارَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَتَى ادَّعَى فِي الْمُشَبَّهِ كَوْنَهُ دَاخِلًا فِي حَقِيقَةِ الْمُشَبَّهِ بِهِ فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِهَا بَرَزَ فِيمَا صَادَفَ مِنْ جَانِبِ الْمُشَبَّهِ بِهِ فِي مَعْرِضِ نَفْسِ الْمُشَبَّهِ بِهِ نَظَرًا إلَى ظَاهِرِ الْحَالِ مِنْ الدَّعْوَى بُرُوزَ الْمُسْتَعِيرِ مَعَ الثَّوْبِ الْمُسْتَعَارِ فِي مَعْرِضِ الْمُسْتَعَارِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا إذَا فَتَّشَ مَالِكٌ وَالْآخَرُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَالشُّجَاعُ حَالَ دَعْوَى كَوْنِهِ فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِ حَقِيقَةِ الْأَسَدِ يَكْتَسِي اسْمَ الْأَسَدِ اكْتِسَاءَ الْهَيْكَلِ الْمَخْصُوصِ إيَّاهُ نَظَرًا إلَى الدَّعْوَى. وَذَكَرَ فِي نِهَايَةِ الْإِيجَازِ أَنَّ الْمَجَازَ أَعَمُّ مِنْ الِاسْتِعَارَةِ؛ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ نَقْلِ الِاسْمِ عَنْ أَصْلِهِ إلَى غَيْرِهِ لِلتَّشْبِيهِ بَيْنَهُمَا عَلَى حَدِّ الْمُبَالَغَةِ وَلَيْسَ كُلُّ مَجَازٍ لِلتَّشْبِيهِ. وَأَيْضًا لَيْسَ كُلُّ مَجَازٍ مِنْ بَابِ الْبَدِيعِ وَكُلُّ اسْتِعَارَةٍ فَهِيَ مِنْ الْبَدِيعِ فَلَا يَكُونُ كُلُّ مَجَازٍ اسْتِعَارَةً. . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَارِيَّةَ أَنْ يُعْطِيَ الْمُعِيرُ لِلْمُسْتَعِيرِ مَا عِنْدَهُ فَإِذَا قُلْت رَأَيْت أَسَدًا فَقَدْ أَثْبَتَّ الْأَسَدِيَّةَ لِلرَّجُلِ فَقَدْ حَصَلَ لِلْمُسْتَعِيرِ مَا كَانَ حَاصِلًا لِلْمُعِيرِ فَظَهَرَ وُجُوبُ تَخْصِيصِ اسْمِ الِاسْتِعَارَةِ بِمَا كَانَ النَّقْلُ لِأَجْلِ التَّشْبِيهِ عَلَى حَدِّ الْمُبَالَغَةِ وَلَكِنَّهَا فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ عِبَارَةٌ عَنْ مُطْلَقِ الْمَجَازِ يَعْنِي الْمُرَادِفَ لَهُ كَأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ إيَّاهُ أَنَّ اللَّفْظَ اُسْتُعِيرَ عَنْ مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ لِلْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQلِعَلَاقَةٍ بَيْنَهُمَا اسْتِعَارَةَ الثَّوْبِ. وَعَنْ هَذَا قِيلَ لَا بُدَّ فِي الِاسْتِعَارَةِ مِنْ الْمُسْتَعَارِ عَنْهُ وَهُوَ الْهَيْكَلُ الْمَخْصُوصُ مَثَلًا. وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ وَهُوَ الشُّجَاعُ. وَالْمُسْتَعِيرُ وَهُوَ الْمُتَكَلِّمُ. وَالْمُسْتَعَارُ وَهُوَ اللَّفْظُ. وَالِاسْتِعَارَةُ وَهِيَ التَّلَفُّظُ. وَمَا تَقَعُ بِهِ الِاسْتِعَارَةُ وَهُوَ الِاتِّصَالُ بَيْنَ الْمَحَلَّيْنِ كَمَا لَا بُدَّ فِي اسْتِعَارَةِ الثَّوْبِ مِنْ الْمُسْتَعَارِ عَنْهُ وَهُوَ الْمَالِكُ. وَالْمُسْتَعَارِ لَهُ وَهُوَ الشَّخْصُ الَّذِي يُرِيدُ لُبْسَ الثَّوْبِ. وَالْمُسْتَعِيرِ وَهُوَ الَّذِي يَلْتَمِسُ الثَّوْبَ. وَالْمُسْتَعَارِ وَهُوَ الثَّوْبُ. وَالِاسْتِعَارَةِ وَهِيَ الِالْتِمَاسُ. وَمَا يَقَعُ بِهِ الِاسْتِعَارَةُ وَهُوَ الصَّدَاقَةُ بَيْنَ الشَّخْصَيْنِ. وَإِذَا عَرَفْت أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ تَعَلُّقٌ خَاصٌّ يَكُونُ ذَلِكَ بَاعِثًا عَلَى اسْتِعْمَالٍ لِلَّفْظِ فِي مَحَلِّ الْمَجَازِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا تَعَلُّقٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَوْ كَانَ وَلَكِنْ لَمْ يَعْتَبِرْهُ الْمُسْتَعْمِلُ كَانَ ذَلِكَ الِاسْتِعْمَالُ مِنْهُ ابْتِدَاءَ وَضْعٍ آخَرَ وَكَانَ ذَلِكَ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا لَا مَجَازًا. فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ وَإِنْ حَصَرُوهُ بِنَاءً عَلَى الِاسْتِقْرَاءِ فِي خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ نَوْعًا. إطْلَاقُ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. «بُلُّوا أَرْحَامَكُمْ وَلَوْ بِالسَّلَامِ» . أَيْ صِلُوهَا فَإِنَّ الْعَرَبَ لَمَّا رَأَتْ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ يَتَّصِلُ بِالنَّدَاوَةِ اسْتَعَارَتْ عَنْهُ الْبَلَّ لِمَعْنَى الْوَصْلِ. وَعَكْسُهُ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: شَرِبْت الْإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي ... كَذَاكَ الْإِثْمُ يَذْهَبُ بِالْعُقُولِ سُمِّيَ الْخَمْرُ إثْمًا لِكَوْنِهَا مُسَبِّبًا لَهَا. وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى. {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [البقرة: 19] . أَيْ أَنَامِلَهُمْ وَعَكْسُهُ كَقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ. {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} [القصص: 88] . أَيْ ذَاتَه. وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى. {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم: 35] . سُمِّيَتْ الدَّلَالَةُ كَلَامًا؛ لِأَنَّهَا مِنْ لَوَازِمِهِ. وَمِنْهُ قِيلَ كُلُّ صَامِتٍ نَاطِقٌ أَيْ أَثَرُ الْحُدُوثِ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى مُحْدِثِهِ فَكَأَنَّهُ يَنْطِقُ. وَعَكْسُهُ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: قَوْمٌ إذَا حَارَبُوا شَدُّوا مَآزِرَهُمْ ... دُونَ النِّسَاءِ وَلَوْ بَانَتْ بِإِظْهَارِ أُرِيدَ بِشَدِّ الْمِئْزَرِ الِاعْتِزَالُ عَنْ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ شَدَّ الْإِزَارِ مِنْ لَوَازِمِ الِاعْتِزَالِ. وَإِطْلَاقُ أَحَدُ الْمُتَشَابِهَيْنِ عَلَى الْآخَرِ كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْإِنْسَانِ عَلَى الصُّورَةِ الْمَنْقُوشَةِ لِتَشَابُهِهِمَا شَكْلًا وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْأَسَدِ عَلَى الشُّجَاعِ لِتَشَابُهِهِمَا فِي الشَّجَاعَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ الصِّفَاتِ الظَّاهِرَةِ لِلْأَسَدِ. وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: فَيَا لَيْتَنَا نَحْيَا جَمِيعًا وَلَيْتَنَا ... إذَا نَحْنُ مِتْنَا ضَمَّنَا كَفَنَانِ وَيَا لَيْتَ كُلَّ اثْنَيْنِ بَيْنَهُمَا هَوًى ... مِنْ النَّاسِ قَبْلَ الْيَوْمِ يَلْتَقِيَانِ أَوْ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَعَكْسُهُ قَالَ شُرَيْحٌ أَصْبَحْت وَنِصْفُ الْخَلْقِ عَلَيَّ غَضْبَانُ يُرِيدُ أَنَّ النَّاسَ بَيْنَ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ وَمَحْكُومٍ لَهُ لَا نِصْفَ النَّاسِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْدِيلِ وَالتَّسْوِيَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: إذَا مِتَّ كَانَ النَّاسُ صِنْفَانِ شَامِتٌ ... وَآخَرُ مُثْنٍ بِاَلَّذِي كُنْت أَفْعَلُ وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] . أَيْ رُفَقَاءَ. وَعَكْسُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143] لَمْ يُرِدْ الْكُلَّ؛ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا قَبْلَهُ مُؤْمِنِينَ. وَحَذْفُ الْمُضَافِ سَوَاءٌ أُقِيمَ الْمُضَافُ إلَيْهِ مُقَامَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إخْبَارًا {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] . أَوْ لَا كَقَوْلِ أَبِي دَاوُد: أَكُلُّ امْرِئٍ تَحْسِبِينَ امْرَأً ... وَنَارٍ تُوقَدُ بِاللَّيْلِ نَارًا وَيُسَمَّى هَذَا مَجَازًا بِالنُّقْصَانِ. وَعَكْسُهُ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: أَنَا ابْنُ جَلَا وَطَلَّاعُ الثَّنَايَا ... مَتَى أَضَعْ الْعِمَامَةَ تَعْرِفُونِي أَيْ أَنَا ابْنُ رَجُلٍ جَلَا أَيْ أُوضِحَ أَمْرُهُ.

لِأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مِنْ الصُّوَرِ لَهُ صُورَةٌ وَمَعْنًى لَا ثَالِثَ لَهُمَا فَلَا يُتَصَوَّرُ الِاتِّصَالُ بِوَجْهٍ ثَالِثٍ أَمَّا الْمَعْنَى فَمِثْلُ قَوْلِهِمْ لِلْبَلِيدِ حِمَارٌ وَلِلشُّجَاعِ أَسَدٌ لِاتِّصَالٍ وَمُشَابَهَةٍ فِي الْمَعْنَى بَيْنَهُمَا وَأَمَّا الصُّورَةُ فَمِثْلُ تَسْمِيَةِ الْمَطَرِ سَمَاءٌ قَالُوا مَازِلْنَا نَطَأُ السَّمَاءَ حَتَّى أَتَيْنَاكُمْ أَيْ الْمَطَرَ لِاتِّصَالٍ بَيْنَهُمَا صُورَةً؛ لِأَنَّ كُلَّ عَالٍ عِنْدَ الْعَرَبِ سَمَاءٌ وَالْمَطَرُ مِنْ السَّحَابِ يَنْزِلُ وَهُوَ سَمَاءٌ عِنْدَهُمْ فَسُمِّيَ بِاسْمِهِ وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] وَهُوَ الْمُطْمَئِنُّ مِنْ الْأَرْضِ يُسَمَّى الْحَدَثُ بِالْغَائِطِ لِمُجَاوِرَتِهِ صُورَةً فِي الْعَادَةِ وَقَالَ تَعَالَى {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] أَيْ عِنَبًا لِاتِّصَالٍ بَيْنَهُمَا ذَاتًا؛ لِأَنَّ الْعِنَبَ مَرْكَبٌ بِثُفْلِهِ وَمَائِهِ وَقِشْرِهِ. فَسَلَكْنَا فِي الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعِلَلِ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ فِي الِاسْتِعَارَةِ وَهُوَ الِاسْتِعَارَةُ بِالِاتِّصَالِ فِي الصُّورَةِ وَهُوَ السَّبَبِيَّةُ وَالتَّعْلِيلُ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ لَيْسَ بِصُورَةٍ تُحَسُّ فَصَارَ الِاتِّصَالُ فِي السَّبَبِ نَظِيرَ الصُّوَرِ فِيمَا نُحِسُّ وَالِاتِّصَالُ فِي مَعْنَى الْمَشْرُوعِ كَيْفَ شُرِعَ اتِّصَالٌ هُوَ نَظِيرُ الْقِسْمِ الْآخَرِ مِنْ الْمَحْسُوسِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQوَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا لَهُ بِهِ تَعَلُّقُ الْمُجَاوِرَةِ كَتَسْمِيَتِهِمْ قَضَاءَ الْحَاجَةِ بِالْغَائِطِ الَّذِي هُوَ الْمَكَانُ الْمُطْمَئِنُّ مِنْ الْأَرْضِ. وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ كَتَسْمِيَةِ الْعِنَبِ بِالْخَمْرِ. وَتَسْمِيَتُهُ بِاسْمِ مَا كَانَ كَتَسْمِيَةِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الضَّرْبِ ضَارِبًا. وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا يَفْضُضُ اللَّهُ فَاك» أَيْ أَسْنَانَك. وَعَكْسُهُ كَقَوْلِهِ جَلَّ جَلَالُهُ. {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 107] . أَيْ فِي الْجَنَّةِ؛ لِأَنَّهَا مَحَلُّ نُزُولِ الرَّحْمَةِ. وَإِطْلَاقُ اسْمِ آلَةِ الشَّيْءِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ عَزَّ قَائِلًا حِكَايَةً عَنْ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء: 84] . أَيْ ذِكْرًا حَسَنًا، أَطْلَقَ اسْمَ اللِّسَانِ وَأَرَادَ بِهِ الذِّكْرَ إذْ اللِّسَانُ آلَتُهُ. وَإِطْلَاقُ اسْمِ الشَّيْءِ عَلَى بَدَلِهِ كَقَوْلِهِمْ فُلَانٌ أَكَلَ الدَّمَ إذَا أَكَلَ الدِّيَةَ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: يَأْكُلْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ إكَافًا أَيْ ثَمَنَ إكَافٍ. وَإِطْلَاقُ النَّكِرَةِ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ لِلْعُمُومِ قَالَ تَعَالَى. {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير: 14] . أَيْ كُلُّ نَفْسٍ. وَمِنْهُ دَعْ امْرَأً وَمَا اخْتَارَهُ أَيْ اُتْرُكْ كُلَّ امْرِئٍ وَاخْتِيَارِهِ. وَإِطْلَاقُ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ وَإِرَادَةُ وَاحِدٍ مُنَكَّرٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى. {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [البقرة: 58] . أَيْ بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا كَذَا نُقِلَ عَنْ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ. وَإِطْلَاقُ اسْمِ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى. {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] . فَإِنَّهَا مِنْ الْمُبْتَدِئِ سَيِّئَةٌ وَمِنْ اللَّهِ حَسَنَةٌ. وَمِنْهُ مَا يُقَالُ قَاتَلَهُ اللَّهُ مَا أَحْسَنَ مَا قَالَ يُرِيدُونَ بِهِ الدُّعَاءَ لَهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ الدُّعَاءَ عَلَيْهِ. وَالْحَذْفُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى. {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] . أَيْ لِئَلَّا تَضِلُّوا. وَالزِّيَادَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] . وَلَكِنَّ مَا حَصَرَهُ الشَّيْخُ فِي قَوْلِهِ وَذَلِكَ أَيْ الِاتِّصَالُ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الِاسْتِعَارَةُ بِطَرِيقَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا أَضْبَطُ مِمَّا ذَكَرُوهُ إذْ لَا يَكَادُ يَشِذُّ عَنْهُ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرُوهُ وَلَا يَخْفَى عَلَيْك تَدَاخُلُ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ. قَوْلُهُ (كُلُّ مَوْجُودٍ مِنْ الصُّوَرِ) أَيْ مِنْ الْمَحْسُوسَاتِ الَّتِي يَجْرِي فِي أَسْمَائِهَا الْمَجَازُ. وَلَفْظُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ فَإِنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مُصَوَّرٌ يَكُونُ لَهُ صُورَةٌ وَمَعْنًى مَا زِلْنَا نَطَأُ السَّمَاءَ حَتَّى أَتَيْنَاكُمْ أَيْ كُنَّا فِي طِينٍ وَرَدْغَةٍ بِسَبَبِ الْمَطَرِ إلَى أَنْ وَصْلَنَا إلَيْكُمْ وَقَالَ الشَّاعِرُ: إذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابًا أَيْ إذَا نَزَلَ الْمَطَرُ بِأَرْضِ قَوْمٍ وَنَبَتَ الْكَلَأُ رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْقَوْمُ كَارِهِينَ غِضَابًا وَلَمْ نَلْتَفِتْ إلَى غَضَبِهِمْ؛ لِاتِّصَالٍ بَيْنَهُمَا أَيْ بَيْنَ السَّحَابِ وَالْمَطَرِ صُورَةً؛ لِأَنَّ السَّمَاءَ اسْمٌ لِكُلِّ مَا عَلَاك فَأَظَلَّك. وَمِنْهُ قِيلَ لِسَقْفِ الْبَيْتِ سَمَاءٌ وَقَالَ تَعَالَى. {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج: 15] وَالْمَطَرُ يَنْزِلُ مِنْ السَّحَابِ وَهُوَ سَمَاءٌ عِنْدَهُمْ فَكَانَ بَيْنَ الْمَطَرِ وَالسَّحَابِ الَّذِي هُوَ السَّمَاءُ اتِّصَالٌ فَسُمِّيَ الْمَطَرُ بِاسْمِهِ وَهُوَ السَّمَاءُ. سُمِّيَ بِهِ الْغَائِطُ أَيْ سُمِّيَ الْحَدَثُ بِاسْمِ الْمَكَانِ الْمُطَمْئِنِ وَهُوَ الْغَائِطُ. لِمُجَاوِرَتِهِ أَيْ لِمُجَاوِرَةِ الْحَدَثِ الْمَكَانَ الْمُطَمْئِنَ صُورَةً فِي الْعَادَةِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي الْمُطَمْئِنِ مِنْ الْأَرْضِ عَادَةً وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى. {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] . لِاتِّصَالٍ بَيْنَهُمَا أَيْ بَيْنَ الْعَصِيرِ الَّذِي يَصِيرُ خَمْرًا وَبَيْنَ الْعِنَبِ.؛ لِأَنَّ الْعِنَبَ مُرَكَّبٌ بِثُفْلِهِ هُوَ مَا سَفَلَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَيُقَالُ تَرَكْت بَنِي فُلَانٍ مُثَافَلِينَ أَيْ يَأْكُلُونَ الثُّفْلَ يَعْنُونَ الْحَبَّ وَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ لَبَنٌ وَكَانَ طَعَامُهُمْ الْحَبَّ. قَوْلُهُ (فَسَلَكْنَا فِي الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعِلَلِ) وَالْأَحْكَامِ أَيْضًا أَيْ فِي الْمَشْرُوعَاتِ جَمْعَ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ وَهُمَا الِاتِّصَالُ صُورَةً وَالِاتِّصَالُ مَعْنًى وَجَوَّزَنَا

[الاتصال بين اللفظين من قبل حكم الشرع يصلح طريقا للاستعارة]

وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الِاتِّصَالَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ مِنْ قِبَلِ حُكْمِ الشَّرْعِ يَصْلُحُ طَرِيقًا لِلِاسْتِعَارَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ يَخْتَصُّ بِاللُّغَةِ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ الِاسْتِعَارَةِ الْقُرْبُ وَالِاتِّصَالُ وَذَلِكَ ثَابِتٌ بَيْنَ كُلِّ مَوْجُودَيْنِ مِنْ حَيْثُ وُجِدَا وَالْمَشْرُوعُ قَائِمٌ بِمَعْنَاهُ الَّذِي شُرِعَ لَهُ وَسَبَبِهِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ فَصَحَّتْ بِهِ الِاسْتِعَارَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQبِهِمَا الِاسْتِعَارَةَ فِيهَا فَالِاسْتِعَارَةُ الْجَارِيَةُ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ وَالْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ بِالْمُجَاوِرَةِ الَّتِي بَيْنَهَا نَظِيرُ الِاسْتِعَارَةِ فِي الْمَحْسُوسَاتِ فَالِاتِّصَالُ الصُّورِيُّ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فَصَارَ الِاتِّصَالُ فِي السَّبَبِ نَظِيرَ الصُّوَرِ فِيمَا يُحَسُّ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ مَعْنًى إذْ مَعْنَى السَّبَبِ الْإِفْضَاءُ إلَى الشَّيْءِ وَمَعْنَى الْمُسَبَّبِ لَيْسَ كَذَلِكَ وَكَذَا مَعْنَى الْعِلَّةِ الْإِيجَابُ وَالْإِثْبَاتُ وَمَعْنَى الْمَعْلُولِ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا مَعْنًى بِوَجْهٍ فَكَانَ هَذَا الِاتِّصَالُ مِنْ قَبِيلِ اتِّصَالِ الْمَطَرِ بِالسَّحَابِ. وَالِاسْتِعَارَةُ الْجَارِيَةُ فِي الْمَشْرُوعَاتِ بِالْمَعْنَى الَّذِي شُرِعَتْ لَهُ نَظِيرُ الِاسْتِعَارَةِ فِي الْمَحْسُوسَاتِ بِالِاتِّصَالِ الْمَعْنَوِيِّ. فَنَظِيرُ الْأُولَى اسْتِعَارَةُ الشِّرَاءِ لِلْمِلْكِ وَلَفْظُ الْعِتْقِ لِإِزَالَةِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ لِلِاتِّصَالِ الصُّورِيِّ كَمَا فِي الْمَطَرِ وَالسَّحَابِ لَا بِالْمَعْنَوِيِّ إذْ لَيْسَ بَيْنَ مَعْنَى الشِّرَاءِ وَمَعْنَى الْمِلْكِ مُنَاسَبَةٌ. وَكَذَا بَيْنَ مَعْنَى الْعِتْقِ وَمَعْنَى زَوَالِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ. وَنَظِيرُ الثَّانِيَةِ اسْتِعَارَةُ الْحَوَالَةِ لِلْوَكَالَةِ فَإِنَّ مَعْنَى الْحَوَالَةِ نَقْلُ الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ وَمَعْنَى الْوَكَالَةِ نَقْلُ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ فَلِذَلِكَ اسْتَعَارَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَفْظَ الْحَوَالَةِ لِلْوَكَالَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَقَالَ فِي الْمُضَارِبِ وَرَبُّ الْمَالِ إذَا افْتَرَقَا وَلَيْسَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ وَبَعْضُ رَأْسِ الْمَالِ دَيْنٌ لَا يُجْبَرُ الْمُضَارِبُ عَلَى نَقْلِ الدُّيُونِ وَيُقَالُ لَهُ أَحِلْ رَبَّ الْمَالِ عَلَيْهِمْ أَيْ وَكِّلْهُ بِقَبْضِ الدُّيُونِ. وَكَذَا الْكَفَالَةُ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ حَوَالَةٌ، وَالْحَوَالَةُ بِشَرْطِ مُطَالَبَةِ الْأَصِيلِ كَفَالَةٌ لِتَشَابُهِهِمَا فِي الْمَعْنَى، وَمِثْلُ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ بَيْنَهُمَا اتِّصَالٌ مَعْنَوِيٌّ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُثْبِتُ الْمِلْكَ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ عَنْ حَاجَةِ الْمَيِّتِ فَيَجُوزُ اسْتِعَارَةُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى. {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] . أَيْ يُورِثُكُمْ. [الِاتِّصَالَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ مِنْ قِبَلِ حُكْمِ الشَّرْعِ يَصْلُحُ طَرِيقًا لِلِاسْتِعَارَةِ] قَوْلُهُ (وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ) رَدٌّ لِقَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَجَازَ لَا يُجْزِئُ فِي الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ مُتَمَسِّكًا بِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ إنْشَاءَاتٌ فِي الشَّرْعِ وَأَنَّهَا أَفْعَالُ جَارِحَةِ الْكَلَامِ وَهِيَ اللِّسَانُ وَمَخَارِجُ الْحُرُوفِ بِمَنْزِلَةِ أَفْعَالِ سَائِرِ الْجَوَارِحِ وَمَنْ فَعَلَ فِعْلًا حَقِيقَةً وَأَرَادَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا فِعْلًا آخَرَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَكَذَلِكَ أَفْعَالُ هَذِهِ الْجَارِحَةِ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ الِاسْتِعَارَةُ وَالْمَجَازُ فِي الْأَلْفَاظِ الَّتِي مِنْ بَابِ الْأَخْبَارِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَنَحْوِهَا. وَعِنْدَ الْعَامَّةِ يَجْرِي الِاسْتِعَارَةُ فِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمَّا وَضَعَتْ طَرِيقَ الِاسْتِعَارَةِ أَوْ اسْتَعْمَلَتْ الْمَجَازَ فِي كَلَامِهِمْ وَعُرِفَ بِالتَّأَمُّلِ طَرِيقَةً يَكُونُ إذْنًا مِنْهُمْ بِالِاسْتِعَارَةِ لِكُلِّ مُتَكَلِّمٍ مِنْ جُمْلَتِهِمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ كَصَاحِبِ الشَّرْعِ مَتَى وَضَعَ طَرِيقَ التَّعْلِيلِ كَانَ إذْنًا بِالْقِيَاسِ لِكُلِّ مَنْ فَهِمَ ذَلِكَ الطَّرِيقَ. وَقَوْلُهُمْ إنَّهَا إنْشَاءُ أَفْعَالٍ وَالْمَجَازُ يَجْرِي فِي الْأَخْبَارِ قُلْنَا الْمَجَازُ لَا يَخْتَصُّ بِالْأَخْبَارِ بَلْ هُوَ جَارٍ فِي سَائِرِ أَقْسَامِ الْكَلَامِ وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ وَإِنْ جُعِلَتْ إنْشَاءَاتٍ شَرْعًا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا وَالِاسْتِعَارَةُ جَائِزَةٌ فِي الْكَلَامِ إذَا وُجِدَ طَرِيقُهَا كَمَا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْي فَإِذَا أَتَى بِكَلَامٍ هُوَ إنْشَاءٌ لِفِعْلٍ وَذَلِكَ الْكَلَامُ شَبِيهُ كَلَامٍ آخَرَ هُوَ إنْشَاءٌ لِفِعْلٍ آخَرَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ طَرِيقُ الِاسْتِعَارَةِ فَهُوَ نَظِيرُ الْأَلْفَاظِ اللُّغَوِيَّةِ كَذَا فِي الْمِيزَانِ. أَنَّ الِاتِّصَالَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ أَيْ أَنَّ مَدْلُولَيْهِمَا مِنْ قَبْلِ حُكْمِ الشَّرْعِ. وَإِنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ يَخْتَصُّ بِاللُّغَةِ أَيْ طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ أَوْ الِاسْتِعَارَةِ عَلَى

وَلِأَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ مُتَعَلِّقٌ بِلَفْظٍ شُرِعَ سَبَبًا أَوْ عِلَّةً لَا يَثْبُتُ مِنْ حَيْثُ يُعْقَلُ إلَّا وَاللَّفْظُ دَالٌ عَلَيْهِ لُغَةً وَالْكَلَامُ فِيمَا يُعْقَلُ وَلَا اسْتِعَارَةَ فِيمَا لَا يُعْقَلُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ شَرْعًا وَلِذَلِكَ وُضِعَ لُغَةً فَكَذَلِكَ مَا شَاكَلَهُ. وَهَذَا فِي مَسَائِلِ أَصْحَابِنَا لَا يُحْصَى وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِلَفْظِ التَّحْرِيرِ مَجَازًا وَالْعَتَاقُ يَقَعُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ مَجَازًا وَلَمْ يَمْتَنِعْ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ فَقَدْ انْعَقَدَ نِكَاحُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَفْظِ الْهِبَةِ. مَجَازًا مُسْتَعَارًا لَا أَنَّهُ انْعَقَدَ هِبَةً؛ لِأَنَّ تَمْلِيكَ الْمَالِ فِي غَيْرِ الْمَالِ لَا يُتَصَوَّرُ وَقَدْ كَانَ فِي نِكَاحِهِ وُجُوبُ الْعَدْلِ فِي الْقَسْمِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ وَلَمْ يَتَوَقَّفْ الْمِلْكُ عَلَى الْقَبْضِ فَثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مُسْتَعَارًا وَلَا اخْتِصَاصَ لِلرِّسَالَةِ بِالِاسْتِعَارَةِ وُجُوهُ الْكَلَامِ بَلْ النَّاسُ فِي وُجُوهِ التَّكَلُّمِ سَوَاءٌ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا فَصْلٌ لَا خِلَافَ فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQتَأْوِيلِ الْمَجَازِ. وَذَلِكَ ثَابِتٌ أَيْ الْقُرْبُ وَالِاتِّصَالُ يَثْبُتُ وَيَتَحَقَّقُ. وَبَيْنَ كُلِّ مَوْجُودَيْنِ أَيْ بَيْنَ مَوْجُودَيْنِ مِنْ حَيْثُ وُجِدَا فَإِنْ كَانَ وُجُودُهُمَا حِسًّا يَتَحَقَّقُ الِاتِّصَالُ بَيْنَهُمَا وَيُعْتَبَرُ بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ الْحِسِّيِّ وَإِنْ كَانَ وُجُودُهُمَا شَرْعًا يَتَحَقَّقُ الِاتِّصَالُ بَيْنَهُمَا بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْوُجُودِ. وَالْمَشْرُوعَاتُ تُوجَدُ شَرْعًا وَهِيَ قَائِمَةٌ بِمَعْنَاهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِأَسْبَابِهَا نَحْوُ الْمِلْكِ فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ قَائِمٌ بِمَعْنَاهُ وَهُوَ كَوْنُهُ مُطْلَقًا وَحَاجِزًا وَلَهُ سَبَبُ تَعَلُّقٍ بِهِ وَهُوَ الشِّرَاءُ فَيَتَحَقَّقُ الِاتِّصَالُ بَيْنَهَا مَعْنًى وَصُورَةً كَمَا فِي الْمَحْسُوسَاتِ. فَصَحَّتْ بِهِ أَيْ بِذَلِكَ الِاتِّصَالِ الِاسْتِعَارَةُ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الِاتِّصَالَ الَّذِي هُوَ طَرِيقُ الِاسْتِعَارَةِ يَتَحَقَّقُ فِي الْمَحْسُوسِ وَالْمَشْرُوعِ جَمِيعًا صُورَةً وَمَعْنًى فَيَجُوزُ بِهِ الِاسْتِعَارَةُ فِي الْكُلِّ لِمَا مَرَّ أَنَّ جَوَازَ الِاسْتِعَارَةِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الطَّرِيقِ وَتَحَقُّقِهِ لَا عَلَى التَّوْقِيفِ. وَالْمَشْرُوعُ قَائِمٌ بِمَعْنَاهُ الَّذِي شُرِعَ لَهُ وَبِسَبَبِهِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ كَالنِّكَاحِ يَتَعَلَّقُ وُجُودُهُ بِكَلَامِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الَّذِي هُوَ سَبَبُهُ وَبِمَعْنَاهُ الَّذِي شُرِعَ لِأَجْلِهِ وَهُوَ الِانْضِمَامُ وَالِازْدِوَاجُ وَكَذَا الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَجَمِيعُ الْمَشْرُوعَاتِ. قَوْلُهُ (وَلِأَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ مُتَعَلِّقًا بِلَفْظِ) بَيَانُهُ أَنَّ تَعَلُّقَ حُكْمِ الشَّرْعِ بِمَا جُعِلَ سَبَبًا لَهُ عَلَى نَوْعَيْنِ. تَعَلُّقٌ يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ وَنَعْنِي بِهِ أَنَّهُ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الشَّرْعِ وَقَدْ كَانَتْ اللُّغَةُ دَالَّةً عَلَيْهِ كَتَعَلُّقِ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَتَعَلُّقِ الْحِلِّ بِالنِّكَاحِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَا يُنْكِرُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ وَالْحِلِّ بِالنِّكَاحِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ. وَتَعَلُّقٌ لَا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ بَلْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا قَبْلَ الشَّرْعِ وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ اللُّغَةُ كَتَعَلُّقِ وُجُوبِ الْحَدِّ بِالْقَذْفِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَلِهَذَا تَرَى أَهْلَ الْمِلَلِ يُنْكِرُونَهُ سِوَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَالِاسْتِعَارَةُ إنَّمَا تَجْرِي بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إذَا عُقِلَ بَيْنَهُمَا اتِّصَالٌ وَتَعَلُّقٌ لَا فِيمَا لَا يُعْقَلُ فَكَانَتْ جَارِيَةً فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لَا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ اسْتِعَارَةً فِي اللَّفْظِ اللُّغَوِيِّ فِي التَّحْقِيقِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُغَيِّرْهُ عَنْ مَوْضُوعِهِ بَلْ قَرَّرَهُ عَلَى مَا كَانَ فَيَصِحُّ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَلْفَاظِ اللُّغَوِيَّةِ وَكَمَا قَبْلَ تَقْرِيرِ الشَّرْعِ إيَّاهُ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا تَأَمَّلَتْ فِي أَسْبَابِ الْمَشْرُوعَاتِ وَجَدْتَهَا عِلَّةً عَلَى الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ بِهَا بِاعْتِبَارِ أَصْلِ اللُّغَةِ فِيمَا يَكُونُ مَعْقُولَ الْمَعْنَى وَالْكَلَامِ فِيهِ وَلَا اسْتِعَارَةَ فِيمَا لَا يُعْقَلُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ مَشْرُوعٌ لِإِيجَابِ الْمِلْكِ وَمَوْضُوعٌ لَهُ أَيْضًا فِي اللُّغَةِ. وَقَوْلُهُ مُتَعَلِّقًا حَالٌ عَنْ الْمَفْعُولِ مَعْنًى وَهُوَ الْحُكْمُ إذْ هُوَ مُضَافٌ إلَى الْفَاعِلِ. وَسَبَبًا مَفْعُولٌ ثَانٍ لِشُرِعَ. وَلَا يَثْبُتُ خَبَرُ إنَّ. وَمَا شَاكَلَهُ نَحْوُ الْهِبَةِ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ لُغَةً وَالْإِجَارَةِ تَدُلُّ عَلَى مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ لُغَةً وَكَذَا الْإِعَارَةُ وَالْوَكَالَةُ وَأَشْبَاهُهَا. قَوْلُهُ (وَهَذَا) لَمَّا أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى مَا ذُكِرَ شَرَعَ فِي بَيَانِ كَوْنِهِ مُتَّفِقًا بَيْنَ الْجُمْهُورِ فَقَالَ وَهَذَا أَيْ اسْتِعْمَالُ الْمَجَازِ فِي الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ كَثِيرٌ فِي مَسَائِلِ أَصْحَابِنَا. وَكَذَا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُجِيزُ اسْتِعَارَةَ لَفْظِ التَّحْرِيرِ لِلطَّلَاقِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا وَعَلَى الْعَكْسِ عَلَى مَذْهَبِهِ وَكَذَا لَمْ يَمْتَنِعْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ فِي الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي هَذَا الْفَصْلِ بَيْنَ الْجُمْهُورِ. قَوْلُهُ (مَجَازًا مُسْتَعَارًا) تَرَادُفٌ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ وَإِنَّمَا أَكَّدَ؛ لِأَنَّهُ فِي بَيَانِ الْخِلَافِ. لَا أَنَّهُ انْعَقَدَ هِبَةً نَفْيٌ لِقَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إنَّ النِّكَاحَ فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَنْزِلَةِ التَّسَرِّي فِي حَقِّ الْأَمَةِ حَتَّى يَصِحَّ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شَاهِدٍ وَبِلَفْظِ الْهِبَةِ وَفِي حَالِ الْإِحْرَامِ وَأَنْ

غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَبَى أَنْ يَنْعَقِدَ النِّكَاحُ إلَّا بِلَفْظِ النِّكَاحِ أَوْ التَّزْوِيجِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ شُرِعَ لِأُمُورٍ لَا يُحْصَى مِنْ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَلِهَذَا شُرِعَ بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ وَلَيْسَ فِيهِمَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ بَلْ فِيهِمَا إشَارَةٌ إلَى مَا قُلْنَا فَلَمْ يَصِحَّ الِانْتِقَالُ عَنْهُ لِقُصُورِ اللَّفْظِ عَنْ اللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لَهُ فِي الْبَابِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ عَقْدٌ خَاصٌّ شُرِعَ بِلَفْظٍ خَاصٍّ وَهَذَا كَلَفْظِ الشَّهَادَةِ لَمَّا كَانَ مُوجِبًا بِنَفْسِهِ بِقَوْلِهِ أَشْهَدُ لَمْ يَقُمْ الْيَمِينُ مَقَامُهُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ احْلِفْ بِاَللَّهِ؛ لِأَنَّهُ مُوجِبٌ لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَصْلُحْ الِاسْتِعَارَةُ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَزِيدَ عَلَى التِّسْعِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْقَسَمُ وَلَا يَنْحَصِرُ عَدَدُ الطَّلَاقِ مِنْهُ وَلَا يَجِبُ الْمَهْرُ لَا بِالْعَقْدِ وَلَا بِالدُّخُولِ فَقَالَ الشَّيْخُ نِكَاحُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِلَفْظِ الْهِبَةِ يَنْعَقِدُ نِكَاحًا لَا هِبَةً؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكُ الْمَالِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ حَقِيقَةً فِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ لِعَدَمِ الْمَحَلِّ وَلِذَا لَمْ يَكُنْ أَحْكَامُ الْهِبَةِ ثَابِتَةً مِنْ تَوَقُّفِ الْمِلْكِ عَلَى الْقَبْضِ وَحَقُّ الرُّجُوعِ لِلْوَاهِبَةِ بَعْدَ الْقَبْضِ حَتَّى لَمْ يَكُنْ لِمَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ تَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ قَبْلَ تَسْلِيمِ النَّفْسِ وَلَا أَنْ تَرْجِعَ عَنْ الْهِبَةِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَقَدْ كَانَ فِي نِكَاحِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَإِنْ كَانَ مَعْقُودًا بِلَفْظِ الْهِبَةِ وُجُوبُ الْقَسْمِ حَتَّى كَانَ يَقُولُ. «اللَّهُمَّ هَذِهِ قِسْمَتِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تُؤَاخِذْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ» يُرِيدُ زِيَادَةَ مَحَبَّتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِبَعْضِ نِسَائِهِ. وَقَدْ قِيلَ كَانَتْ الْمَوْهُوبَاتُ أَرْبَعًا. مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ. وَزَيْنَبَ بِنْتَ خُزَيْمَةَ أُمَّ الْمَسَاكِينِ الْأَنْصَارِيَّةَ. وَأُمَّ شَرِيكٍ بِنْتَ جَابِرٍ. وَخَوْلَةَ بِنْتَ حَكِيمٍ كَذَا فِي الْكَشَّافِ. وَكَذَا الطَّلَاقُ كَانَ مَشْرُوعًا فِي حَقِّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَتَّى طَلَّقَ حَفْصَةَ وَسَوْدَةَ ثُمَّ رَاجَعَهُمَا. وَكَذَا الْعِدَّةُ كَانَتْ وَاجِبَةً فِي طَلَاقِهِ حَتَّى لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لِمُطَلَّقَتِهِ الْخُرُوجُ عَنْ الْمَنْزِلِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ كُلُّهَا تُنَافِي التَّسَرِّيَ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ انْعَقَدَ نِكَاحًا لَا هِبَةً كَمَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَأَصَحُّ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ. فَثَبَتَ أَنَّهُ أَيْ لَفْظَ الْهِبَةِ كَانَ مُسْتَعَارًا لِلنِّكَاحِ وَلَمَّا ثَبَتَ جَوَازُ الِاسْتِعَارَةِ فِي حَقِّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ثَبَتَتْ فِي حَقِّ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلرِّسَالَةِ أَثَرٌ فِي مَعْنَى الْخُصُوصِ بِالِاسْتِعَارَةِ وَوُجُوهِ الْكَلَامِ فَإِنَّ مَعْنَى الْخُصُوصِيَّةِ هُوَ التَّخْفِيفُ وَالتَّوْسِعَةُ وَمَا كَانَ يَلْحَقُهُ حَرَجٌ فِي اسْتِعْمَالِ لَفْظِ النِّكَاحِ فَقَدْ كَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَفْصَحَ النَّاسِ. قَوْلُهُ (غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى لَكِنْ مِنْ قَوْلِهِ هَذَا فَصْلٌ لَا خِلَافَ فِيهِ يَعْنِي أَنَّ الشَّافِعِيَّ يُوَافِقُنَا فِي جَوَازِ جَرَيَانِ الِاسْتِعَارَةِ فِي الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعَارَةُ أَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ لِلنِّكَاحِ وَيَأْبَى أَنْ يَنْعَقِدَ النِّكَاحُ إلَّا بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ لِمَا نَذْكُرُ لَا أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ لَا تُجْرَى فِي الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ. أَمَّا بَيَانُ الْمَسْأَلَةِ فَقَوْلُ النِّكَاحِ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالتَّمْلِيكِ عِنْدَنَا وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِعَارَةِ وَالْإِبَاحَةِ وَالْإِحْلَالِ. وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي انْعِقَادِهِ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَالْقَرْضِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِهَا. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي انْعِقَادِهِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَقِيلَ لَا يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّ انْعِقَادَهُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ ثَبَتَ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ إلَّا مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالْبَيْعُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْهِبَةِ وَقِيلَ يَنْعَقِدُ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَذَا فِي طَرِيقَةِ الْحَجَّاجِيَّةِ. وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ إذَا طَلَبَ الزَّوْجُ مِنْهَا النِّكَاحَ حَتَّى لَوْ طَلَبَ مِنْهَا التَّمْكِينَ مِنْ الْوَطْءِ فَقَالَتْ وَهَبْت نَفْسِي مِنْك وَقَبِلَ الزَّوْجُ لَا يَكُونُ نِكَاحًا كَذَا فِي الْمَطْلَعِ وَإِلَيْهِ أُشِيرَ فِي فَتَاوَى الْقَاضِي الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ. وَكَانَ شَيْخِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ نَاقِلًا عَنْ بَعْضِ الْفَتَاوَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ النِّيَّةُ فِي الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ أَبَا الْبِنْتِ لَوْ قَالَ وَهَبْتهَا مِنْك لِتَخْدُمَك فَقَالَ قَبِلْت لَا يَكُونُ نِكَاحًا فَلَمَّا احْتَمَلَتْ الْهِبَةُ الْخِدْمَةَ وَالنِّكَاحَ لَا يَتَعَيَّنُ النِّكَاحُ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَمَا ظَفِرْت بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ النِّكَاحِ أَوْ التَّزْوِيجِ عَرَبِيًّا كَانَ اللَّفْظُ أَوْ غَيْرَهُ فِي الْأَصَحِّ. وَفِي قَوْلٍ لَا يَنْعَقِدُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيِّ فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ الْعَاقِدُ الْعَرَبِيَّةَ يُفَوِّضُ إلَى مَنْ يُحْسِنُهَا. وَفِي قَوْلٍ إنْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ لَا يَنْعَقِدُ وَإِلَّا فَيَنْعَقِدُ. وَالْمَعْنَى فِيهِ

وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْمُفَاوَضَةِ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ عِنْدَكُمْ كَذَلِكَ حُكِيَ عَنْ الْكَرْخِيِّ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ لَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّ النِّكَاحَ شُرِعَ لِمَقَاصِدَ جَمَّةٍ لَا تُحْصَى مِمَّا يَرْجِعُ إلَى مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِنْ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالْمَهْرِ وَجَرَيَانِ التَّوَارُثِ وَتَحْصِينِ الدِّينِ وَثُبُوتِ صِفَةِ الْإِحْصَانِ وَغَيْرِهَا وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ تَبَعًا ضَرُورَةَ تَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ الْمَطْلُوبَةِ شَرْعًا بَعْدَ النِّكَاحِ لَا مَقْصُودًا فِي الْبَابِ فَشُرِعَ بِلَفْظٍ يُنْبِئُ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي لُغَةً وَهُوَ النِّكَاحُ وَالتَّزْوِيجُ فَإِنَّ النِّكَاحَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الضَّمِّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الِاتِّحَادِ بَيْنَهُمَا فِي الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْمَعِيشَةِ. وَكَذَا لَفْظُ التَّزْوِيجِ يُنْبِئُ عَنْ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ؛ لِأَنَّهُ يُنْبِئُ لُغَةً عَنْ الِازْدِوَاجِ وَالتَّلْفِيقِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ عَلَى وَجْهِ الِاتِّحَادِ بَيْنَهُمَا كَزَوْجَيْ الْخُفِّ وَمِصْرَاعَيْ الْبَابِ وَلَيْسَ فِي هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّمْلِيكِ، وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ بِهِمَا مِلْكُ الْعَيْنِ أَصْلًا وَالْهِبَةُ وَسَائِرُ الْأَلْفَاظِ الْمَوْضُوعَةِ لِلتَّمْلِيكِ لَا يُنْبِئُ عَنْ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ فَلَا يَجُوزُ الِانْتِقَالُ عَنْهُ أَعْنِي عَنْ اللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لَهُ وَهُوَ النِّكَاحُ أَوْ التَّزْوِيجُ إلَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لِقُصُورِهَا عَنْ اللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لَهُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي إفَادَةِ الْمَقَاصِدِ الْمَطْلُوبَةِ بِالنِّكَاحِ كَمَا لَا يَصِحُّ الِانْتِقَالُ إلَى لَفْظِ الْإِجَارَةِ وَالْإِحْلَالِ مَعَ أَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ أَقْرَبُ إلَى مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ مِنْهُ إلَى مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَلَفْظُ الْإِحْلَالِ أَقْرَبُ إلَى مَعْنَى النِّكَاحِ مِنْ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي النِّكَاحِ إلَّا اسْتِحْلَالُ الْفَرْجِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ الِانْتِقَالُ إلَى الْإِجَارَةِ وَالْإِحْلَالِ فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ إلَى أَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ كَانَ أَوْلَى. إلَّا أَنَّ فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ مَعَ قُصُورٍ فِيهِ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ وَتَوْسِعَةً لِلُّغَاتِ فِي حَقِّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {خَالِصَةً لَكَ} [الأحزاب: 50] . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ عَقْدٌ خَاصٌّ أَيْ مُخْتَصٌّ بِلَفْظٍ لَا يَثْبُتُ بِدُونِهِ. شُرِعَ بِلَفْظٍ خَاصٍّ أَيْ بِلَفْظٍ مُخْتَصٍّ بِهَذَا الْعَقْدِ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ. وَذُكِرَ فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِ الشَّيْخِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إنَّ النِّكَاحَ لَفْظٌ خَاصٌّ وَلَهُ حُكْمٌ خَاصٌّ فَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ لَفْظٍ آخَرَ مُقَامَهُ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ لَمَّا كَانَ لَهَا لَفْظٌ خَاصٌّ وَلَهُ حُكْمٌ وَهُوَ وُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَى الْقَاضِي لَا يَجُوزُ إقَامَةُ لَفْظٍ آخَرَ مُقَامَهُ وَهُوَ الْيَمِينُ حَتَّى لَوْ حَلَفَ وَقَالَ وَاَللَّهِ إنَّ لِهَذَا الرَّجُلِ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ كَذَا وَكَذَا مِنْ الْمَالِ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ بِهِ. وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ هُوَ أَنَّ الْيَمِينَ مَا وُضِعَتْ لِلْإِثْبَاتِ بَلْ لِلدَّفْعِ وَالْإِثْبَاتُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ بِوَاسِطَةِ الدَّفْعِ، وَالْبَيِّنَةُ وُضِعَتْ لِلْإِثْبَاتِ فِي الْأَصْلِ فَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ لَفْظٍ وَضْعِ لِلْإِثْبَاتِ بِوَاسِطَةٍ مُقَامَ لَفْظِ وُضِعَ لِلْإِثْبَاتِ بِلَا وَاسِطَةٍ فَهَكَذَا بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ تَثْبُتُ هَذِهِ الْمَقَاصِدُ بِلَا وَاسِطَةٍ وَبِلَفْظِ الْهِبَةِ وَغَيْرِهِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِوَاسِطَةِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ إقَامَتُهَا مُقَامَ مَا يُوجِبُ الْمَقَاصِدَ بِلَا وَاسِطَةٍ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ وَلَفْظُ الْيَمِينِ مُوجِبٌ لِغَيْرِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ لَفْظَ الشَّهَادَةِ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ إذْ هُوَ لَفْظٌ وُضِعَ لِلْإِثْبَاتِ وَاسْتُعْمِلَ فِيهِ حَتَّى ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعِ إثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لِذَاتِهِ لَفْظَ الشَّهَادَةِ فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ. {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} [آل عمران: 18] . وَالْيَمِينُ مُوجِبَةٌ لِغَيْرِهَا وَهُوَ صِيَانَةُ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ الْهَتْكِ فَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ الْيَمِينِ مُقَامَهُ لِقُصُورِ لَفْظِ الْيَمِينِ عَنْ لَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَلِهَذَا لَا يَقُومُ قَوْلُهُ أَعْلَمُ أَوْ أَتَيَقَّنُ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الشَّهَادَةِ إنْشَاءٌ وَذَلِكَ إخْبَارٌ فَكَانَ قَاصِرًا عَنْ الْإِنْشَاءِ فَلَا يَنُوبُ مَنَابَهُ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْمُفَاوَضَةِ) أَيْ وَكَالشَّهَادَةِ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ فَإِنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظَةِ الْمُفَاوَضَةِ عِنْدَكُمْ. وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِهِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْمُفَاوَضَةَ لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ أَصْلًا حَتَّى قَالَ إنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا عَقْدٌ فَاسِدٌ فَهُوَ

وَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزُوا رِوَايَةَ الْأَحَادِيثِ بِالْمَعَانِي وَالْجَوَابُ أَنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وُضِعَ لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُتْعَةِ يَثْبُتُ بِهِ تَبَعًا فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ قَامَ هَذَا الِاتِّصَالُ مَقَامَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمُجَاوِرَةِ الَّتِي هِيَ طَرِيقُ الِاسْتِعَارَةِ فَصَحَّتْ الِاسْتِعَارَةُ بِهَذَا الِاتِّصَالِ بَيْنَ السَّبْيَيْنِ وَالْحُكْمَيْنِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُفَاوَضَةُ وَرُبَّمَا قَالَ إنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْقِمَارِ. كَذَلِكَ حُكِيَ عَنْ الْكَرْخِيِّ يَعْنِي حُكِيَ هَذَا الْمَذْهَبُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ.؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ أَيْ غَيْرَ لَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُؤَدِّي مَعْنَى الشَّرِكَةِ. لَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ أَيْ مَعْنَى عَقْدِ الْمُفَاوَضَةِ أَوْ مَعْنَى لَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اشْتِقَاقَ هَذَا اللَّفْظِ إمَّا مِنْ التَّفْوِيضِ سُمِّيَ بِهِ هَذَا الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُفَوِّضَ التَّصَرُّفَ إلَى صَاحِبِهِ فِي جَمِيعِ مَالِ التِّجَارَةِ. أَوْ مِنْ قَوْلِهِمْ النَّاسُ فَوْضَى فِي هَذَا الْأَمْرِ أَيْ سَوَاءٌ لَا تَبَايُنَ بَيْنَهُمْ وَسُمِّيَ بِهِ هَذَا الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُسَاوَاةِ فِي الْمَالِ وَالرِّبْحِ وَالْأَلْفَاظُ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرِكَةِ وَيَنُوبُ بَعْضُهَا عَنْ الْبَعْضِ لَا يُؤَدِّي هَذَا الْمَعْنَى أَصْلًا فَلَا يَجُوزُ اسْتِعَارَتُهَا لِلْمُفَاوَضَةِ. وَفِي الْمَبْسُوطِ وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظَةِ الْمُفَاوَضَةِ حَتَّى إذَا لَمْ يَذْكُرْ لَفْظَ الْمُفَاوَضَةِ كَانَ عِنَانًا عَامًّا وَالْعِنَانُ قَدْ يَكُونُ خَاصًّا وَقَدْ يَكُونُ عَامًّا قَالَ وَتَأْوِيلُ هَذَا إنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْرِفُونَ جَمِيعَ أَحْكَامِ الْمُفَاوَضَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِمَا الرِّضَاءُ بِحُكْمِ الْمُفَاوَضَةِ قَبْلَ عِلْمِهِمَا بِهِ وَيُجْعَلُ تَصْرِيحُهَا بِالْمُفَاوَضَةِ قَائِمًا مُقَامَ ذَلِكَ كُلِّهِ. فَإِنْ كَانَ الْمُتَعَاقِدَانِ يَعْرِفَانِ أَحْكَامَ الْمُفَاوَضَةِ صَحَّ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا إذَا ذَكَرَا مَعْنَى الْمُفَاوَضَةِ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحَا بِلَفْظِهَا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزُوا) . أَيْ وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا قَصُرَ مِنْ الْأَلْفَاظِ عَنْ تَأْدِيَةِ مَعْنَى اللَّفْظِ الْآخَرِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ لَمْ يُجَوِّزْ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ نَقْلَ الْأَحَادِيثِ بِالْمَعَانِي؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَفْصَحَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَكَانَ مُخْتَصًّا بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ فَلَا يُؤَدِّي لَفْظٌ آخَرُ مَعْنَى لَفْظِهِ فَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ لِقُصُورِهِ عَنْهُ. وَلَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ غَيْرُ مَأْخُوذٍ عِنْدَهُمْ فَإِنَّ صَاحِبَ الْقَوَاطِعِ ذَكَرَ فِيهِ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا كُلُّ مَا أَوْجَبَ الْعِلْمَ مِنْ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ فَالْمُعَوَّلُ فِيهِ عَلَى الْمَعْنَى لَا مُرَاعَاةِ اللَّفْظِ فِيهِ، وَأَمَّا الَّذِي يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ مِنْهَا فَفِيهِ لَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِلَفْظِهِ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» . وَكَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. «خَمْسٌ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ» . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. قَالَ وَالْأَصَحُّ هُوَ الْجَوَازُ بِكُلِّ حَالٍ. وَأَمَّا عُلَمَاؤُنَا فَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ} [الأحزاب: 50] . أَيْ أَحْلَلْنَا لَك مَنْ وَقَعَ لَهَا أَنْ تَهَبَ لَك نَفْسَهَا وَلَا تَطْلُبُ مَهْرًا مِنْ النِّسَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ إنْ اتَّفَقَ ذَلِكَ وَمَتَى جَازَ نِكَاحُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ قُدْوَةُ الْأُمَّةِ جَازَ لِلْأَمَةِ إلَّا حَيْثُ تَثْبُتُ الْخُصُوصِيَّةُ. وقَوْله تَعَالَى {خَالِصَةً} [الأحزاب: 50] . مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ كَوَعْدِ اللَّهِ وَكِتَابِ اللَّه أَيْ خَلَصَ لَك إحْلَالُ مَا أَحْلَلْنَا لَك خُلُوصًا. وَالْفَاعِلُ وَالْفَاعِلَةُ فِي الْمَصْدَرِ غَيْرُ عَزِيزٍ كَالْخَارِجِ وَالْقَاعِدِ وَالْعَافِيَةِ وَالْكَاذِبَةِ كَذَا فِي الْكَشَّافِ. أَوْ هِيَ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَهَبْت أَيْ هِبَةً خَالِصَةً لَك بِغَيْرِ بَدَلٍ وَكَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَخْصُوصًا بِذَلِكَ بِخِلَافِ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ الْهِبَةَ لَا تَخْلُصُ لَهُمْ بَلْ يَجِبُ الْبَدَلُ حُكْمًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا صَدْرُ الْآيَةِ وَسِيَاقُهَا فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ {أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب: 50] وَفِي سِيَاقِهَا {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50] . فَعَرَفْنَا أَنَّ الْخُلُوصَ لَهُ الْإِبَاحَةُ بِغَيْرِ مَهْرٍ وَأَنْ لَا إبَاحَةَ لِغَيْرِهِ إلَّا بِفَرْضٍ وَمَهْرٍ. وَلِأَنَّ الْخُصُوصِيَّةَ لِإِبَانَةِ الشَّرَفِ وَلَا يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ فِي التَّخْصِيصِ بِاللَّفْظِ إذْ لَيْسَ فِي إطْلَاقِ الْعِبَارَةِ بِلَفْظٍ

وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالَ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ مِنْ حَيْثُ هِيَ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ جُعِلَتْ فُرُوعًا وَثَمَرَاتٍ لِلنِّكَاحِ وَبُنِيَ النِّكَاحُ عَلَى حُكْمِ الْمِلْكِ لَهُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مَعْقُولٌ مَعْلُومٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَهْرَ يَلْزَمُ بِالْعَقْدِ لَهَا وَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرْت أَصْلًا وَهُوَ مُشْتَرَكٌ لَمَا صَحَّ إيجَابُ الْعِوَضِ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَلِهَذَا كَانَ الطَّلَاقُ بِيَدِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ قُلْنَا لَمَّا شُرِعَ هَذَا الْحُكْمُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ وَلَا يَخْتَصَّانِ بِالْمِلْكِ وَضْعًا وَلُغَةً فَلَأَنْ يَثْبُتَ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ وَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَهِيَ لِلتَّمْلِيكِ وَضْعًا أَوْلَى ـــــــــــــــــــــــــــــQدُونَ لَفْظٍ فَائِدَةٌ وَلَا عُسْرَ فِي الْعِبَارَةِ وَلَا حَرَجَ خُصُوصًا لِمَنْ كَانَ أَفْصَحَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ إنَّمَا الْفَائِدَةُ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْأَلْفَاظِ. وَإِمَامُنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا وَهَبَ ابْنَتَهُ لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُرِّ فَأَجَازَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَلِكَ. وَلَمَّا ثَبَتَ الِانْعِقَادُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ ثَبَتَ بِلَفْظِ الْبَيْعِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ فِي الْإِيجَابِ وَيَزِيدُ عَلَيْهِ بِالْعِوَضِ وَالنِّكَاحِ لَا يَكُون إلَّا بِعِوَضٍ فَكَانَ الْبَيْعُ أَقْرَبَ إلَى النِّكَاحِ مِنْ الْهِبَةِ. وَأَمَّا الْكَلَامُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ فِي الْكِتَاب بِقَوْلِهِ وَالْجَوَابُ أَيْ عَمَّا قَالَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إقَامَةُ أَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ مُقَامَ لَفْظَيْ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ لِانْعِدَامِ الْمُجَوِّزِ هُوَ أَنَّ لَفْظَ الْهِبَةِ وَالْبَيْعِ وَسَائِرَ أَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ. وُضِعَ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ. وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ أَيْ مُوجِبٌ لَهُ إذَا كَانَ الْمَحِلُّ قَابِلًا لَهُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُتْعَةِ يَثْبُتُ بِهِ تَبَعًا لَهُ فَكَانَ أَلْفَاظُ التَّمْلِيكِ سَبَبًا لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ مَذْهَبِ الْعَرَبِ اسْتِعَارَةُ اللَّفْظِ لِغَيْرِهِ إذَا كَانَ سَبَبًا لَهُ كَمَا اسْتَعَارَتْ لَفْظَ السَّمَاءِ لِلْكَلَإِ فِي قَوْلِهِمْ: إذَا سَقَطَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ أَيْ الْكِلَأَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابًا ؛ لِأَنَّ السَّمَاء سَبَبُ الْمَطَرِ وَالْمَطَرُ سَبَبُ الْكِلَأَ وَكَمَا اسْتَعَارُوا لَفْظَ الْمَسِيسِ لِلْجِمَاعِ؛ لِأَنَّ الْمَسَّ سَبَبُ انْبِعَاثِ الشَّهْوَةِ وَذَلِكَ مُؤَدِّي إلَى الْجِمَاعِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ وَإِذَا كَانَ الشَّأْنُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُودِ الِاتِّصَالِ بَيْنَ مِلْكِ الْمُتْعَةِ وَأَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ بِوَاسِطَةِ الرَّقَبَةِ قَامَ هَذَا الِاتِّصَالُ مَقَامَ الِاتِّصَالِ الذَّاتِيِّ بَيْنَ الْمَحْسُوسِينَ. فَصَحَّتْ الِاسْتِعَارَةُ لِهَذَا الِاتِّصَالِ أَيْ لِأَجْلِ هَذَا الِاتِّصَالِ الْمَوْجُودِ بَيْن السَّبَبَيْنِ وَالْحُكْمَيْنِ. الْمُرَادُ بِالسَّبْيَيْنِ أَلْفَاظُ التَّمْلِيكِ وَأَلْفَاظُ النِّكَاحِ وَمِنْ الْحُكْمَيْنِ مِلْكُ الرَّقَبَةِ وَمِلْكُ الْمُتْعَةِ فَالِاتِّصَالُ بَيْنَ السَّبَبَيْنِ ثَابِتٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُوجِبُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ أَحَدُهُمَا بِوَاسِطَةٍ وَالْآخَرُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَكَذَا بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُتْعَةِ يَثْبُتُ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَقُومَ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ مَقَامَ أَلْفَاظِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ وَهُوَ مِلْكُ الْمُتْعَةِ يَثْبُتُ بِأَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ بِوَاسِطَةِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا حَاجَةَ إلَى النِّيَّةِ يَعْنِي فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِأَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ الَّذِي أُضِيفَ إلَيْهِ مُتَعَيِّنٌ لِهَذَا الْمَجَازِ وَهُوَ النِّكَاحُ لِنُبُوَّتِهِ عَنْ قَبُولِ الْحَقِيقَةِ بِخِلَافِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ بِأَلْفَاظِ الْعِتْقِ لِصَلَاحِيَةِ الْمَحَلِّ لِلْوَصْفِ بِالْحَقِيقَةِ (فَإِنْ قِيلَ) مِلْكُ الْمُتْعَةِ فِي النِّكَاحِ غَيْرُ مَا يَثْبُتُ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ لِتَغَايُرِهِمَا فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِمَا مِنْ ثُبُوتِ مِلْكِ الطَّلَاقِ وَالْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ وَنَحْوِهَا فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَأَلْفَاظُ التَّمْلِيكِ لَا يُعْرَفُ سَبَبًا لِلنَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنْ مِلْكِ الْمُتْعَةِ بَلْ عُرِفَ سَبَبًا لِلنَّوْعِ الْآخَرِ فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِهَا. (قُلْنَا) مِلْكُ الْمُتْعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ مِلْكِ الِانْتِفَاعِ وَالْوَطْءِ وَهُوَ لَا يَخْتَلِفُ فِي النِّكَاحِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ لَكِنَّ تَغَايُرَ الْأَحْكَامِ لِتَغَايُرِهِمَا حَالًا لَا ذَاتًا فَإِنَّهُ فِي بَابِ النِّكَاحِ يَثْبُتُ مَقْصُودًا بِهِ وَفِي مِلْكِ الْيَمِينِ يَثْبُتُ تَبَعًا لَهُ وَقَدْ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِتَغَايُرِ الْحَالَةِ مَعَ اتِّحَادِ الذَّاتِ كَالثَّمَرَةِ الْمُتَّصِلَةِ بِالشَّجَرِ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الشَّفِيعِ وَلَا يَتَعَلَّقُ إذَا كَانَتْ مُنْفَصِلَةً فَاخْتَلَفَ الْحُكْمُ بِتَغَايُرِ الْحَالِ دُونَ الذَّاتِ وَنَحْنُ إنَّمَا اعْتَبَرْنَا اللَّفْظَ لِإِثْبَاتِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ فِي الْمَحَلِّ فَيَثْبُتُ عَلَى حَسَبِ مَا يَحْتَمِلُهُ الْمَحَلُّ فَإِذَا جَعَلْنَا لَفْظَ الْهِبَةِ مَجَازًا أَثْبَتْنَا بِهِ مِلْكَ الْمُتْعَةِ قَصْدًا لَا تَبَعًا فَيَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُ النِّكَاحِ وَلَا يَثْبُتُ أَحْكَامُ مِلْكِ الْيَمِينِ قَوْلُهُ (وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالَ) أَيْ عَمَّا قَالَ الشَّافِعِيُّ إنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ شُرِعَ لِأُمُورٍ لَا تُحْصَى مِنْ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا

وَإِنَّمَا صَلُحَ الْإِيجَابُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ وَإِنْ لَمْ يُوضَعَا لِلْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُمَا اسْمَانِ جُعِلَا عَلَمًا لِهَذَا الْحُكْمِ وَالْعَلَمُ يَعْمَلُ وَضْعًا لَا بِمَعْنَاهُ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ فِي دَلَائِلِ الشَّرْعِ وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْمَعَانِي لِصِحَّةِ الِاسْتِعَارَةِ عَلَى نَحْوِ مَا يُسْتَعْمَلُ لِلْقِيَاسِ فَلَمَّا ثَبَتَ الْمِلْكُ بِهِمَا وَضْعًا صَحَّتْ التَّعْدِيَةُ بِهِ إلَى مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي التَّمْلِيكِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَلَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ هُوَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ بَلْ هُوَ مَشْرُوعٌ لِأَمْرٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مِلْكُ الْمُتْعَةِ وَمَا وَرَاءَهُ مِنْ فُرُوعِ النِّكَاحِ وَثَمَرَاتِهِ لَا مِنْ الْأُمُورِ الْأَصْلِيَّةِ فِيهِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَحْصُورَةٍ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا فَلَا يَصْلُحُ وَضْعُ النِّكَاحِ لِأُمُورٍ غَيْرِ مَعْلُومَةٍ وَلِأَنَّهَا رُبَّمَا تَحْصُلُ وَرُبَّمَا لَا تَحْصُلُ وَقَدْ تَحْصُلُ بَعْضُهَا دُونَ الْبَعْضِ فَلَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ فِيهِ وَأَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ مُبَيِّنًا لَهَا إذْ لَا بُدَّ لِلْأَمْرِ الْأَصْلِيِّ أَنْ يَثْبُتَ عَقِيبَ عِلَّتِهِ لَا مَحَالَةَ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ عَقِيبَ أَسْبَابِهَا فَيُجْعَلُ مُبَيِّنًا عَلَى حُكْمِ الْمِلْكِ لِلرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ بِهِ أَمْرٌ مَعْقُولٌ بِدَلِيلِ أَنَّ الرَّجُلَ قَوَّامٌ عَلَى الْمَرْأَةِ كَالْمَوْلَى عَلَى الْأَمَةِ وَبِدَلِيلِ أَنَّ الْبَدَلَ وَهُوَ الْمَهْرُ يَلْزَمُ بِالْعَقْدِ لَهَا عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مِنْ الْمَصَالِحِ أَصْلًا فِي النِّكَاحِ لَمَا كَانَ إيجَابُ الْبَدَلِ عَلَى أَحَدِهِمَا خَاصَّةً؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمَصَالِحِ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا. وَكَذَا هُوَ مَعْلُومٌ أَيْضًا بِلَا شُبْهَةٍ وَيَثْبُتُ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ قَطْعًا فَكَانَ جَعْلُهُ أَصْلًا فِي النِّكَاحِ أَوْلَى. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ فِي النِّكَاحِ مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ الْمِلْكُ قُلْنَا إلَى آخِرِهِ وَالتَّقْرِيبُ ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ وَضْعًا وَلُغَةً تَرَادُفٌ. أَوْ وَضْعًا أَيْ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ. وَلُغَةً أَيْ فِي اسْتِعْمَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ. قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا صَلُحَ الْإِيجَابُ) . جَوَابُ سُؤَالٍ يَرِدُ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ فِيهِ إثْبَاتَ الْمِلْكِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْعَقِدَ النِّكَاحُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُنْبِئَانِ عَنْ إثْبَاتِ الْمِلْكِ بِوَجْهٍ لُغَةً. أَوْ كَانَ اسْتِعْمَالُ أَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ فِيهِ أَوْلَى مِنْ اسْتِعْمَالِ لَفْظَيْ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ. فَقَالَ إنَّمَا صَلُحَ الْإِيجَابُ أَيْ إثْبَاتُ هَذَا الْحُكْمِ بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْعَلَمَيْنِ لِهَذَا الْحُكْمِ فِي إثْبَاتِ هَذَا الْمِلْكِ بِهِمَا، وَالْعَلَمُ يُثْبِتُ الْحُكْمَ بِعَيْنِهِ لَا بِمَعْنَاهُ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ فِي دَلَائِلِ الشَّرْعِ. وَبَيَانُهُ أَنَّ الِاسْمَ الْمَوْضُوعَ لِلشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى مَا وُضِعَ لَهُ سَوَاءٌ عُقِلَ مَعْنَاهُ أَوْ لَمْ يُعْقَلْ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ تَثْبُتُ بِالسَّمَاعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْقَلَ مَعْنَاهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَعْلَامَ تَدُلُّ عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجَدَ فِيهَا مَعْنَاهَا فَإِنَّ الْقَصِيرَ يُسَمَّى طَوِيلًا وَالْأَسْوَدَ يُسَمَّى كَافُورًا وَيَدُلَّانِ عَلَى الْمُسَمَّى مِنْ غَيْرِ وُجُودِ مَعْنَى الطُّولِ وَالْبَيَاضِ أَصْلًا كَمَا أَنَّ النُّصُوصَ يُوجِبُ الْأَحْكَامَ بِعَيْنِهَا سَوَاءٌ عُقِلَ مَعْنَاهَا أَوْ لَمْ يُعْقَلْ. وَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ إذَا اُحْتِيجَ إلَى الْقِيَاسِ يُعْتَبَرُ الْمَعَانِي فَكَذَلِكَ هُنَا إذَا اُحْتِيجَ إلَى الِاسْتِعَارَةِ تُعْتَبَرُ الْمَعَانِي لِيَصِحَّ اسْتِعَارَةُ هَذَا اللَّفْظِ لِمَعْنًى آخَرَ. فَلَمَّا ثَبَتَ الْمِلْكُ الَّذِي هُوَ مَقْصُودٌ فِي الْبَابِ. بِهِمَا أَيْ بِلَفْظَيْ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ. وُضِعَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا دَلَالَةٌ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الِاشْتِقَاقِ عَلَى الْمِلْكِ. صَحَّتْ التَّعْدِيَةُ بِهِ أَيْ صَحَّتْ تَعْدِيَةُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ وَكَانَتْ الْبَاءُ زَائِدَةً. أَوْ صَحَّتْ تَعْدِيَةُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ. بِهِ أَيْ بِكَوْنِ الْمِلْكِ ثَابِتًا بِهِمَا وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ. إلَى مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي التَّمْلِيكِ وَهُوَ الْأَلْفَاظُ الْمُتَنَازَعُ فِيهَا. وَهَذَا بِخِلَافِ لَفْظِ الْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالْإِحْلَالِ وَأَخَوَاتِهَا فَإِنَّ الْإِجَارَةَ وَالْإِعَارَةَ لِتَمْلِيكِ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ وَغَيْرِ عِوَضٍ وَمِلْكُ الْمَنْفَعَةِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ بِحَالٍ. وَالْإِقْرَاضُ بِمَعْنَى الْإِعَارَةِ أَيْضًا عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ مَعَ أَنَّ الْإِقْرَاضَ فِي مَحَلِّ الْمُتْعَةِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهَا الْآدَمِيُّ وَالِاسْتِقْرَاضُ فِي الْحَيَوَانِ لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا لَفْظُ الْإِحْلَالِ فَلَا يُوجِبُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ أَصْلًا وَكَذَا الْإِبَاحَةُ وَالتَّمَتُّعُ فَإِنَّ مَنْ أَحَلَّ لِغَيْرِهِ طَعَامًا أَوْ أَبَاحَهُ لَهُ أَوْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِهِ لَا يَمْلِكُهُ وَإِنَّمَا يُتْلِفُهُ عَلَى مِلْكِ الْمُبِيحِ فَكَذَا إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي النِّكَاحِ

فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا صَحَّتْ اسْتِعَارَةُ النِّكَاحِ لِلْبَيْعِ وَالْمُنَاسَبَةُ الَّتِي ذَكَرْتُمْ قَائِمَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَقُومُ بِالطَّرَفَيْنِ جَمِيعًا لَا مَحَالَةَ لَا يُنَاسِبُ الشَّيْءُ غَيْرَهُ إلَّا وَذَلِكَ يُنَاسِبُهُ كَالْأَخَوَيْنِ قِيلَ لَهُ الِاتِّصَالُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَلَى نَوْعَيْنِ أَحَدُهُمَا اتِّصَالُ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ وَالثَّانِي اتِّصَالُ الْفَرْعِ بِمَا هُوَ سَبَبٌ مَحْضٌ لَيْسَ بِعِلَّةٍ وُضِعَتْ لَهُ فَالْأَوَّلُ يُوجِبُ الِاسْتِعَارَةَ مِنْ الطَّرَفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَمْ تُشْرَعْ إلَّا لِحُكْمِهَا وَالْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِعِلَّتِهِ فَاسْتَوَى الِاتِّصَالُ فَعُمِّمَتْ الِاسْتِعَارَةُ. وَلِهَذَا قُلْنَا فِيمَنْ قَالَ إنْ مَلَكْت عَبْدًا فَهُوَ حُرٌّ فَمَلَكَ نِصْفَ عَبْدٍ ثُمَّ بَاعَهُ ثُمَّ مَلَكَ النِّصْفَ الْبَاقِي لَمْ يَعْتِقْ حَتَّى يَجْتَمِعَ الْكُلُّ فِي مِلْكِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا يَثْبُتُ بِهَا الْمِلْكُ. وَكَذَا لَفْظُ الْوَصِيَّةِ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ أَصْلًا بَلْ مُوجِبُهُ الْخِلَافَةُ مُضَافَةٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَوْ صَرَّحَ بِلَفْظِ النِّكَاحِ مُضَافًا لَا يَصِحُّ أَيْضًا (فَإِنْ قِيلَ) الْهِبَةُ أَيْضًا لَا تُوجِبُ الْمِلْكَ مَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهَا الْقَبْضُ (قُلْنَا) الْهِبَةُ لَا تُوجِبُ إضَافَةَ الْمِلْكِ وَلَكِنْ لِضَعْفٍ فِي السَّبَبِ لِتَعَرِّيهِ عَنْ الْعِوَضِ بِتَأَخُّرِ الْمِلْكِ إلَى أَنْ يَتَقَوَّى بِالْقَبْضِ، وَيَنْعَدِمُ ذَلِكَ الضَّعْفُ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ يَجِبُ بِهِ بِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا جَازَ اسْتِعْمَالُهُ فِي حَقِّ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ فَلِهَذَا كَانَ مُوجِبًا مِلْكَ النِّكَاحِ بِنَفْسِهِ مَعَ أَنَّ الْمَمْلُوكَ بِالنِّكَاحِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ يَصِيرُ كَالْمَقْبُوضِ، وَلِهَذَا لَوْ مَاتَتْ عَقِيبَ الْعَقْدِ تَقَرَّرَ الْبَدَلُ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ هِبَةِ عَيْنٍ فَسَدَ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَيُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. وَقَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ تَرَاخِيَ الْمِلْكِ عَنْ الْهِبَةِ لَيْسَ مِنْ مُوجِبِ الْهِبَةِ فَإِنَّ الْقَبْضَ لَوْ سَبَقَ الْهِبَةَ مُلِّكَ بِنَفْسِهَا وَلَكِنْ نَفَيَا عَنْ الْمُتَبَرِّعِ عُهْدَةَ مَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ عِبَارَةً عَنْ نِكَاحٍ مُطْلَقٍ ثُمَّ النِّكَاحُ لَا يَقَعُ تَبَرُّعًا لِيَتَأَخَّرَ الْمِلْكُ نَفْيًا لِلْعُهْدَةِ عَنْهَا عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَمْلِكَ صَحِيحٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ. قَوْلُهُ (فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا صَحَّتْ) هَذَا السُّؤَالُ يَرِدُ عَلَى قَوْلِهِ فَصَحَّتْ الِاسْتِعَارَةُ لِهَذَا الِاتِّصَالِ بَيْنَ السَّبَبَيْنِ وَالْحُكْمَيْنِ. وَتَوْجِيهُهُ أَنْ يُقَالَ لَوْ صَحَّتْ اسْتِعَارَةُ الْبَيْعِ لِلنِّكَاحِ لِلِاتِّصَالِ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ السَّبَبِيَّةُ يَلْزَمُ أَنْ تَصِحَّ اسْتِعَارَةُ النِّكَاحِ لِلْبَيْعِ وَالْهِبَةِ أَيْضًا لِقِيَامِ الِاتِّصَالِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ؛ لِأَنَّ الِاتِّصَالَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ طَرَفَيْنِ لِيَقُومَ بِهِمَا وَلَا يَتَّصِلُ الشَّيْءُ بِغَيْرِهِ إلَّا وَأَنْ يَكُون ذَلِكَ الْغَيْرُ مُتَّصِلًا بِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْإِضَافِيَّاتِ كَالْأُخُوَّةِ لَمَّا افْتَقَرَتْ إلَى طَرَفَيْنِ تَثْبُتُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَقَدْ وَافَقْتُمُونَا عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ فَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْأُولَى. فَأَجَابَ وَقَالَ الِاتِّصَالُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَلَى نَوْعَيْنِ كَامِلٌ وَنَاقِصٌ. فَالْأَوَّلُ هُوَ أَنْ يَكُونَ الِاتِّصَالُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُفْتَقِرًا إلَى الْآخَرِ كَاتِّصَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ بِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِعِلَّتِهِ فَيَكُونُ مِنْ حَيْثُ الْوُجُودُ مُفْتَقِرًا إلَيْهَا وَكَذَا الْعِلَّةُ تُشْرَعُ وَلَمْ تُقْصَدْ لِذَاتِهَا وَإِنَّمَا شُرِعَتْ لِلْحُكْمِ حَتَّى لَا يَكُونَ مَشْرُوعَةً فِي مَحَلٍّ لَا يُتَصَوَّرُ شَرْعِيَّةُ الْحُكْمِ فِيهِ، نَحْوُ بَيْعِ الْحُرِّ وَنِكَاحِ الْمَحَارِمِ فَكَانَتْ مُفْتَقِرَةً إلَى الْحُكْمِ مِنْ حَيْثُ الْغَرَضُ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الِاتِّصَالِ يُوجِبُ أَيْ يُجَوِّزُ الِاسْتِعَارَةَ مِنْ الطَّرَفَيْنِ لِتَحَقُّقِ الِاتِّصَالِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِعَدَمِ اسْتِغْنَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ وَلِأَنَّ جَوَازَ الِاسْتِعَارَةِ يَعُمُّ الْجَانِبَيْنِ قُلْنَا فِيمَنْ قَالَ إلَى آخِرِهِ. وَالْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا الْحَلِفُ عَلَى مِلْكِ عَبْدٍ مُنَكَّرٍ بِأَنْ قَالَ إنْ مَلَكْت عَبْدًا فَهُوَ حُرٌّ فَمَلَكَ نِصْفَ عَبْدٍ وَبَاعَهُ ثُمَّ مَلَكَ النِّصْفَ الْبَاقِيَ عَتَقَ هَذَا النِّصْفُ فِي الْقِيَاسِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَعْتِقُ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الشَّرْطَ مِلْكُ الْعَبْدِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الِاجْتِمَاعِ وَقَدْ حَصَلَ فَيَعْتِقُ هَذَا النِّصْفُ كَمَا فِي فَصْلِ الشِّرَاءِ وَكَمَا فِي الْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ مِلْكَ الْمُطْلَقِ يَقَعُ عَلَى كَمَالِهِ وَذَلِكَ بِصِفَةِ الِاجْتِمَاعِ فَاخْتَصَّ بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ إنْ مَلَكْت مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَعَبْدِي حُرٌّ أَنَّهُ يَقَعُ عَلَى اجْتِمَاعِ الْمِلْكِ وَهَذَا أَيْضًا اسْتِحْسَانٌ. وَأَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ وَاَللَّهِ مَا مَلَكْت مِائَتَيْ دِرْهَمٍ قَطُّ وَلَعَلَّهُ قَدْ مَلَكَهَا وَزِيَادَةً مُتَفَرِّقَةً

وَلَوْ قَالَ إنْ اشْتَرَيْت عَبْدًا عَتَقَ النِّصْفُ الْبَاقِي وَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعْ وَفِي الْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ يَسْتَوِيَانِ وَإِنْ قَالَ عَنَيْتُ بِالْمِلْكِ الشِّرَاءَ كَانَ مُصَدَّقًا فِي الْحُكْمِ وَالدِّيَانَةِ وَإِنْ قَالَ عَنَيْت بِالشِّرَاءِ الْمِلْكَ كَانَ مُصَدَّقًا فِي الدِّيَانَةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعَارَ الْحُكْمَ لِسَبَبِهِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَاسْتَعَارَ السَّبَبَ لِحُكْمِهِ فِي الثَّانِي. وَأَمَّا الِاتِّصَالُ الثَّانِي فَيَصْلُحُ طَرِيقًا لِلِاسْتِعَارَةِ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَجْتَمِعْ فِي مِلْكِهِ يُعَدُّ صَادِقًا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَتَقَيَّدُ بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ كَمُطْلَقِ اسْمِ الدَّرَاهِمِ يَتَقَيَّدُ بِنَقْدِ الْبَلَدِ فَهَهُنَا مُطْلَقُ الْمِلْكِ يَتَقَيَّدُ بِالِاجْتِمَاعِ بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ أَيْضًا. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ إذَا أَرَادَ تَفْهِيمَ أَصْحَابِهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ دَعَا بِحَمَّالٍ كَانَ عَلَى بَابِ مَسْجِدِهِ فَيَقُولُ يَا فُلَانٌ هَلْ مَلَكْت مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَيَقُولُ وَاَللَّهِ مَا مَلَكْتهَا قَطُّ ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى أَصْحَابِهِ كَمْ تَرَوْنَ أَنَّهُ مَلَكَ مِنْ الدَّرَاهِمِ مُتَفَرِّقًا وَأَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِمِثْلِ هَذَا: الْمُجْتَمِعُ دُونَ الْمُتَفَرِّقِ. وَالثَّانِي الْحَلِفُ عَلَى شِرَاءِ عَبْدٍ مُنَكَّرٍ بِأَنْ قَالَ إنْ اشْتَرَيْت عَبْدًا فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى نِصْفَ عَبْدٍ وَبَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَى النِّصْفَ الْبَاقِيَ لِنَفْسِهِ عَتَقَ هَذَا النِّصْفُ بِخِلَافِ الْمِلْكِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الِاجْتِمَاعَ فِي الْمِلْكِ بِصِفَةِ الْعَبْدِيَّةِ بَعْدَ الزَّوَالِ لَا يَتَحَقَّقُ فَأَمَّا الِاجْتِمَاعُ فِي كَوْنِهِ مُشْتَرٍ لَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ فَمُتَحَقِّقٌ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مُشْتَرًى لَهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مِلْكِهِ أَلَا تَرَى لَوْ قَالَ إنْ اشْتَرَيْت عَبْدًا فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَاشْتَرَاهُ لِغَيْرِهِ أَنَّهُ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ فَإِذَا اشْتَرَى الْبَاقِيَ بَعْدَ بَيْعِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ فَقَدْ اجْتَمَعَ الْكُلُّ فِي عَقْدِهِ فَوَجَبَ الْحِنْثُ. إلَّا أَنْ يَعْنِي أَنْ يَشْتَرِيَ عَبْدًا كَامِلًا فَيُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يُدَيَّنُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى تَخْصِيصَ الْعَامِّ. وَالثَّالِثُ. وَالرَّابِعُ أَنْ يَنْعَقِدَ الْيَمِينُ عَلَى مِلْكِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ أَوْ شِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا يَعْتِقُ النِّصْفُ الْبَاقِي فِي الْفَصْلَيْنِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الِاجْتِمَاعَ صِفَةٌ مَرْغُوبَةٌ فَيُعْتَبَرُ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ وَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْمُعَيَّنِ؛ لِأَنَّهُ يُعْرَفُ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ كَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا صِفَةُ الْعُمْرَانِ وَيُعْتَبَرُ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ. وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْعَادَةِ إنَّمَا يُسْتَخْبَرُ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَقُولَ مَا مَلَكْت أَلْفَ دِرْهَمٍ مُرِيدًا بِصِفَةِ الِاجْتِمَاعِ لَا بِصِفَةِ الِافْتِرَاقِ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ وَلَا يُسْتَخْبَرُ ذَلِكَ فِي الْمُعَيَّنِ لَا يَقُولُ مَا مَلَكْت هَذَا الْأَلْفَ إذَا مَلَكَهُ مُتَفَرِّقًا. وَذَلِكَ لِأَنَّ بِدُونِ الْإِشَارَةِ إلَى الْمُعَيَّنِ قَصْدُهُ نَفْيُ الْغَنَاءِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْغَنَاءُ إذَا كَانَ مَلَكَهُ مُتَفَرِّقًا وَفِي الْمُعَيَّنِ قَصْدُهُ نَفْيُ مِلْكِهِ عَنْ الْمَحَلِّ وَقَدْ كَانَ مِلْكُهُ عَلَى الْمُشَارِ إلَيْهِ ثَابِتًا وَإِنْ كَانَ فِي أَزْمِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ كَذَا فِي جَامِعِ الْمُصَنِّفِ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ عَتَقَ النِّصْفُ فِي فَصْلِ الشِّرَاءِ هُوَ أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ صَحِيحًا فَإِنْ كَانَ فَاسِدًا لَمْ يَعْتِقْ وَإِنْ اشْتَرَاهُ جُمْلَةً؛ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ ثُمَّ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ وَلَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ لَمْ يَنْفُذْ. فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ حِين اشْتَرَاهُ عَتَقَ إذَا كَانَ مَضْمُونًا بِنَفْسِهِ فِي يَدِهِ حَتَّى يَنُوبَ قَبْضُهُ عَنْ قَبْضِ الشِّرَاءِ فَيَصِيرُ مُتَمَلِّكًا بِنَفْسِ الشِّرَاءِ فَيَعْتِقُ لِوُجُودِ الشِّرَاءِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ يَعْتِقُ النِّصْفُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْتِقَ كُلُّهُ ثُمَّ يَجِبُ السِّعَايَةُ فِي النِّصْفِ أَوْ الضَّمَانُ لِلِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي تَجَزِّي الْإِعْتَاقِ. قَوْلُهُ (وَإِنْ قَالَ عَنَيْت بِالْمِلْكِ الشِّرَاءَ) . هَذَا هُوَ التَّقْرِيبُ يَعْنِي إنْ عَنَى بِالْمِلْكِ الشِّرَاءَ حَتَّى لَا يَشْتَرِطَ الِاجْتِمَاعَ فِيهِ فَيَعْتِقَ النِّصْفُ يُصَدَّقُ دِيَانَةً وَقَضَاءً؛ لِأَنَّهُ اسْتَعَارَ الْحُكْمَ وَهُوَ الْمِلْكُ. لِسَبَبِهِ أَيْ لِعِلَّتِهِ فَيَجُوزُ وَفِيهِ تَغْلِيظٌ عَلَيْهِ فَيُصَدِّقُهُ الْقَاضِي أَيْضًا. وَالسَّبَبُ لَفْظٌ عَامٌّ يُطْلَقُ عَلَى الْعِلَّةِ وَعَلَى السَّبَبِ الْمُصْطَلَحِ يُقَالُ النِّكَاحُ سَبَبُ الْحِلِّ وَالْبَيْعُ سَبَبُ الْمِلْكِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْعِلَّةُ. وَإِنْ نَوَى بِالشِّرَاءِ الْمِلْكَ حَتَّى يُشْتَرَطَ الِاجْتِمَاعُ فِيهِ فَلَا يَعْتِقُ النِّصْفُ الْبَاقِي يُصَدَّقُ دِيَانَةً؛ لِأَنَّهُ اسْتَعَارَ السَّبَبَ أَيْ الْعِلَّةَ لِحُكْمِهِ

[يستعار الأصل للفرع والسبب للحكم]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQفَيَجُوزُ وَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا فِيهِ تَخْفِيفٌ عَلَيْهِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لِلتُّهْمَةِ لَا لِعَدَمِ صِحَّةِ الِاسْتِعَارَةِ. ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ يُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يُدَيَّنُ فِي الْقَضَاءِ أَنَّهُ إذَا اسْتَفْتَى يُجِيبُهُ الْمُفْتِي عَلَى وَفْقِ مَا نَوَى وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِمُوجِبِ كَلَامِهِ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مَا نَوَى إذَا كَانَ فِيهِ تَخْفِيفٌ. وَكَانَ هَذَا نَظِيرَ مَا لَوْ اسْتَفْتَى رَجُلٌ عَنْ فَقِيهٍ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَدْ قَضَيْته هَلْ بَرِئْت مِنْ دِينِهِ فَالْفَقِيهُ يُفْتِيه بِأَنَّك بَرِئْت مِنْهُ وَإِذَا سَمِعَ الْقَاضِي ذَلِكَ مِنْهُ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً عَلَى الْإِيفَاءِ كَذَا فِي بَعْضِ شُرُوحِ الْجَامِعِ. [يُسْتَعَارَ الْأَصْلُ لِلْفَرْعِ وَالسَّبَبُ لِلْحُكْمِ] وَالثَّانِي وَهُوَ الِاتِّصَالُ النَّاقِصُ أَنْ يَكُونَ الِافْتِقَارُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ كَاتِّصَالِ الْفَرْعِ أَيْ الْحُكْمِ بِمَا هُوَ سَبَبٌ مَحْضٌ لَيْسَ بِعِلَّةٍ وُضِعَتْ لَهُ. لَفْظُ السَّبَبِ يُطْلَقُ عَلَى الْعِلَّةِ وَغَيْرِهَا يُقَالُ الْبَيْعُ سَبَبُ الْمِلْكِ وَالنِّكَاحُ سَبَبُ الْحِلِّ وَالزِّنَا سَبَبُ الْحَدِّ وَيُرَادُ بِهِ الْعِلَّةُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِفْضَاءِ فِي الْعِلَّةِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي غَيْرِهَا فَبِقَوْلِهِ مَحْضٌ احْتَرَزَ عَنْ الْعِلَّةِ إذْ السَّبَبُ الْمَحْضُ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْمُسَبِّبِ بِذَاتِهِ بِحَالٍ، ثُمَّ مِنْ شَرْطِ الْمَحْضِ أَنْ لَا يَكُونَ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَيْهِ وَلَا الْعِلَّةُ الَّتِي تَخَلَّلَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ، وَالْمُرَادُ هَهُنَا انْتِفَاءُ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ دُونَ عِلَّتِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْعِلَّةَ وَهِيَ زَوَالُ مِلْكِ الرَّقَبَةِ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ النَّظِيرِ أُضِيفَتْ إلَى السَّبَبِ وَهُوَ أَنْتِ حُرَّةٌ وَإِنْ لَمْ يُضَفْ الْحُكْمُ وَهُوَ زَوَالُ مِلْكِ الْمُتْعَةِ إلَيْهِ فَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ لَيْسَ بِعِلَّةٍ وُضِعَتْ لَهُ يَعْنِي الْمُرَادُ مِنْ السَّبَبِ الْمَحْضِ أَنْ لَا يَكُونَ عِلَّةً مَوْضُوعَةً لِلْفَرْعِ لَا أَنْ لَا يَكُونَ الْعِلَّةُ الْمُتَخَلِّلَةُ مُضَافَةً إلَيْهِ أَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ هَهُنَا. وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الِاتِّصَالِ يَصْلُحُ طَرِيقًا لِلِاسْتِعَارَةِ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَهُوَ أَنْ يُسْتَعَارَ الْأَصْلُ لِلْفَرْعِ وَالسَّبَبُ لِلْحُكْمِ دُونَ الْعَكْسِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ فِي صِحَّةِ الِاسْتِعَارَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَعَارُ لَهُ مُتَّصِلًا بِالْمُسْتَعَارِ مِنْهُ لِيَصِيرَ بِمَنْزِلَةِ لَازِمٍ مِنْ لَوَازِمِهِ فَيَصِحَّ ذِكْرُ الْمَلْزُومِ وَإِرَادَةُ اللَّازِمِ وَالْمُسَبَّبُ مُفْتَقِرٌ إلَى السَّبَبِ افْتِقَارَ الْمَعْلُولِ إلَى الْعِلَّةِ لِقِيَامِهِ بِهِ فَيَصْلُحُ ذِكْرُ السَّبَبِ وَإِرَادَةُ مَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ تَقْدِيرًا وَهُوَ الْمُسَبَّبُ فَأَمَّا السَّبَبُ فَمُسْتَغْنٍ فِي ذَاتِهِ عَنْ الْمُسَبَّبِ لِقِيَامِهِ بِنَفْسِهِ وَحُصُولِ حُكْمِهِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي وُضِعَ لَهُ بِهِ وَثُبُوتُ الْمُسَبَّبِ بِهِ مِنْ الْأُمُورِ الِاتِّفَاقِيَّةِ فَإِنَّ شِرَاءَ الْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَالْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَالْعَبْدِ وَالْبَهِيمَةِ جَائِزٌ لِحُصُولِ مُوجِبِهِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ الْمِلْكُ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مِلْكُ الْمُتْعَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَصِيرُ السَّبَبُ مُتَّصِلًا بِالْمُسَبِّبِ وَلَازِمًا لَهُ لِعَدَمِ افْتِقَارِهِ إلَيْهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الِاسْتِعَارَةُ إذْ هِيَ ذِكْرُ الْمَلْزُومِ وَإِرَادَةُ اللَّازِمِ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ اسْتِعَارَةُ الْمُسَبَّبِ لِلسَّبَبِ. إلَّا إذَا كَانَ الْمُسَبَّبُ مُخْتَصًّا بِالسَّبَبِ فَحِينَئِذٍ تَجُوزُ اسْتِعَارَةُ الْمُسَبَّبِ لَهُ أَيْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى إخْبَارًا. {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] . أَيْ عِنَبًا اُسْتُعِيرَ اسْمُ الْمُسَبَّبِ لِلسَّبَبِ لِاخْتِصَاصِ الْخَمْرِ بِالْعِنَبِ. وَكَقَوْلِهِمْ أَمْطَرَتْ السَّمَاءُ نَبَاتًا أَيْ مَاءً سَمَّوْهُ بِاسْمِ مُسَبَّبِهِ وَهُوَ النَّبَاتُ لِاخْتِصَاصِهِ بِهِ. وَكَقَوْلِ الرَّاجِزِ: أَقْبَلَ فِي الْمُسْتَنِّ مِنْ رَبَابِهِ ... أَسْنِمَةُ الْآبَالِ فِي سَحَابِهِ سُمِّيَ الْمَاءُ بِاسْمِ مُسَبَّبِهِ وَهُوَ أَسْنِمَةُ الْآبَالِ؛ لِأَنَّ الْأَسْنِمَةَ لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِالنَّبَاتِ وَلَا يُوجَدُ النَّبَاتُ إلَّا بِالْمَاءِ. وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْمُسَبَّبُ مُخْتَصًّا بِالسَّبَبِ صَارَا فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ فَيَصِيرُ السَّبَبُ إذْ ذَاكَ مُتَعَلِّقًا بِالْمُسَبَّبِ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُسَبَّبَ لَمَّا لَمْ يَحْصُلْ إلَّا بِهِ وَالْمُسَبَّبُ مَطْلُوبٌ صَارَ كَأَنَّ السَّبَبَ

وَهُوَ أَنْ يُسْتَعَارَ الْأَصْلُ لِلْفَرْعِ وَالسَّبَبُ لِلْحُكْمِ؛ لِأَنَّ هَذَا الِاتِّصَالَ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْفَرْعِ لِافْتِقَارِهِ. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُسْتَعَارَ الْفَرْعُ لِلْأَصْلِ؛ لِأَنَّ هَذَا الِاتِّصَالَ فِي حَقِّ الْأَصْلِ مَعْدُومٌ لِاسْتِغْنَائِهِ وَهَذَا كَالْجُمْلَةِ النَّاقِصَةِ إذَا عُطِفَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ الْكَامِلَةِ تَوَقَّفَ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى آخِرِهِ لِصِحَّةِ آخِرِهِ وَافْتِقَارِهِ فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَتَامٌّ فِي نَفْسِهِ لِاسْتِغْنَائِهِ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قُلْنَا إنَّ أَلْفَاظَ الْعِتْقِ تَصْلُحُ أَنْ تُسْتَعَارَ لِلطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهَا وُضِعَتْ لِإِزَالَةٍ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَذَلِكَ يُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِ الْمُتْعَةِ تَبَعًا لَا قَصْدًا عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا فَصَحَّتْ الِاسْتِعَارَةُ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَوْضُوعٌ لَهُ وَمُفْتَقِرٌ إلَيْهِ نَظَرًا إلَى الْغَرَضِ كَافْتِقَارِ الْعِلَّةِ إلَى الْمَعْلُولِ فَيَحْصُلُ الِاتِّصَالُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْخَمْرَ لَمَّا اخْتَصَّتْ بِالْعِنَبِ صَارَ الْعِنَبُ مُتَّصِلًا بِهَا وَمُفْتَقِرًا إلَيْهَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْخَمْرَ مَاءُ الْعِنَبِ وَلَا قِيَامَ لِلْعِنَبِ بِدُونِ مَائِهِ. وَكَذَلِكَ النَّبَاتُ أَوْ ارْتِفَاعُ السَّنَامِ لَمَّا لَمْ يَحْصُلْ إلَّا بِالْمَطَرِ صَارَ لِلْمَطَرِ تَعَلُّقٌ بِهِ مِنْ حَيْثُ الْغَرَضُ وَالْحِكْمَةُ فَيَجُوزُ الِاسْتِعَارَةُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَأَمَّا ثُبُوتُ مِلْكِ الْمُتْعَةِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ فَقَدْ حَصَلَ تَبَعًا وَاتِّفَاقًا فَكَانَ اتِّصَالُهُ بِالْأَصْلِ عَدَمًا فِي حَقِّ الْأَصْلِ فَلَا يَصِحُّ اسْتِعَارَتُهُ لَهُ. قَوْلُهُ (أَنْ يُسْتَعَارَ الْأَصْلُ لِلْفَرْعِ) وَالسَّبَبُ لِلْحُكْمِ. قِيلَ قَوْلُهُ وَالسَّبَبُ لِلْحُكْمِ عَطْفُ تَفْسِيرٍ وَفَائِدَتُهُ دَفْعُ وَهْمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْأَصْلِ الْعِلَّةُ وَمِنْ الْفَرْعِ الْمَعْلُولُ. وَقِيلَ الْأَصْلُ وَالْفَرْعُ أَعَمُّ مِنْ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ فَيَتَنَاوَلُ غَيْرَ الْمَشْرُوعَاتِ وَالسَّبَبُ وَالْمُسَبَّبُ مُخْتَصَّانِ بِالْمَشْرُوعَاتِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ لَا يَصِحُّ اسْتِعَارَةُ الْحُكْمِ لِلسَّبَبِ كَمَا لَا يَصِحُّ اسْتِعَارَةُ الْفَرْعِ لِلْأَصْلِ. قَوْلُهُ (وَهَذَا كَالْجُمْلَةِ النَّاقِصَةِ) . أَيْ الِاتِّصَالُ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ الَّذِي هُوَ ثَابِتٌ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مِثْلُ اتِّصَالِ الْجُمْلَةِ النَّاقِصَةِ بِالْكَامِلَةِ فِي قَوْلِهِ زَيْنَبُ طَالِقٌ وَعَمْرَةُ مَثَلًا فَقَوْلُهُ زَيْنَبُ طَالِقٌ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ لِوُجُودِ طَرَفَيْهَا وَقَوْلُهُ وَعَمْرَةُ جُمْلَةٌ نَاقِصَةٌ لِافْتِقَارِهَا إلَى الْخَبَرِ، وَلِهَذَا لَوْ انْفَرَدَتْ لَا يُفِيدُ شَيْئًا لَكِنَّهَا بِوَاسِطَةِ وَاوِ الْعَطْفِ تَعَلَّقَتْ بِالْأُولَى فَتَوَقَّفَ حُكْمُ الْأُولَى لِيَصِحَّ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْخَبَرِ وَتَصِيرُ الثَّانِيَةُ مُفِيدَةً مِثْلَ الْأُولَى فَيَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهِمَا وَلَكِنَّ هَذَا التَّوَقُّفَ ثَابِتٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجُمْلَةِ النَّاقِصَةِ لِافْتِقَارِهَا إلَى الْخَبَرِ وَلَكِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأُولَى فِي حُكْمِ الْعَدَمِ لِكَمَالِهَا فِي نَفْسِهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّوَقُّفِ فِي حَقِّ الثَّانِيَةِ وُقُوعُ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ فِي قَوْلِهِ لِلْمَدْخُولِ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ. وَعَلَى عَدَمِ التَّوَقُّفِ فِي حَقِّ نَفْسِهَا عَدَمُ وُقُوعِ الطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ فِي قَوْلِهِ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ؛ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى لَمَّا لَمْ تَتَوَقَّفْ فِي نَفْسِهَا ثَبَتَ مُوجِبُهَا قَبْلَ التَّكَلُّمِ بِالْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ وَقَدْ بَانَتْ لَا إلَى عِدَّةٍ فَيَلْغُو مَا بَعْدَهَا. وَنَظِيرُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأُصُولِ إضَافَةُ الْحُكْمِ فِي الْمَحَلِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إلَى الْمَعْنَى بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَرْعِ لِيَصِحَّ التَّعْدِيَةُ إلَيْهِ وَعَدَمُ إضَافَتِهِ إلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الِافْتِقَارِ إلَيْهِ بِوُجُودِ النَّصِّ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْهُ. وَمِنْ الْفُرُوعِ صِحَّةُ اقْتِدَاءِ الْمُتَنَفِّلِ بِمَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةً مَضْمُونَةً مَعَ أَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَى الْإِمَامِ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُقْتَدِي لَكِنَّ عَدَمَ الضَّمَانِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ بِعَارِضِ ظَنٍّ يَخُصُّهُ فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي فَتَكُونُ صَلَاتُهُ هَذِهِ مَضْمُونَةً فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي غَيْرَ مَضْمُونَةٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ. قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ) . أَيْ عَلَى أَنَّ اسْتِعَارَةَ السَّبَبِ لِلْمُسَبَّبِ جَائِزَةٌ قُلْنَا إنَّ أَلْفَاظَ الْعِتْقِ يَصْلُحُ أَنْ يُسْتَعَارَ لِلطَّلَاقِ بِأَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ حَرَّرْتُك أَوْ أَعْتَقْتُك أَوْ أَنْتِ حُرَّةٌ نَاوِيًا لِلطَّلَاقِ وَقَعَ لِلطَّلَاقِ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ. وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ الْمُضَافَ إلَيْهِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِهَذَا الْمَجَازِ بَلْ هُوَ مَحَلٌّ لِحَقِيقَةِ الْوَصْفِ بِالْحُرِّيَّةِ فَيَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ لِيَتَعَيَّنَ الْمَجَازُ بِخِلَافِ اسْتِعَارَةِ أَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ لِلنِّكَاحِ حَيْثُ يَصِحُّ بِدُونِ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ إضَافَتَهَا إلَى الْحُرَّةِ لَا تَدُلُّ إلَّا عَلَى النِّكَاحِ فَإِنَّ الْأَبَ إذَا قَالَ لِآخَرَ بِعْت ابْنَتِي مِنْك أَوْ وَهَبْتهَا لَك لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ لِحَقِيقَةِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ لِعَدَمِ قَبُولِ الْمَحَلِّ حُكْمَهُمَا فَتَعَيَّنَتْ جِهَةُ

[الاستعارة للمناسبة في المعاني]

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَصِحُّ أَنْ يُسْتَعَارَ الطَّلَاقُ لِلْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُمَا فِي الْمَعَانِي يَتَشَابَهَانِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إسْقَاطٌ بُنِيَ عَلَى السِّرَايَةِ وَاللُّزُومِ وَالْمُنَاسَبَةُ فِي الْمَعَانِي مِنْ أَسْبَابِ الِاسْتِعَارَةِ مِثْلُ الْمُنَاسَبَةِ فِي الْأَسْبَابِ وَقُلْنَا لَا يَصِحُّ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ لِمَا قُلْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنَّ اتِّصَالَ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ فِي حَقِّ الْأَصْلِ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ. وَلَا تَصِحُّ الِاسْتِعَارَةُ لِلْمُنَاسَبَةِ فِي الْمَعَانِي مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا؛ لِأَنَّ طَرِيقَ الِاسْتِعَارَةِ مِنْ قِبَلِ الْمَعَانِي الْمُشَاكِلَةِ فِي الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ مِنْ قَبِيلِ الِاخْتِصَاصِ الَّذِي بِهِ يَقُومُ الْمَوْجُودُ فَأَمَّا بِكُلِّ مَعْنًى فَلَا وَهَذَا الطَّرِيقُ مِنْ الْخَصْمِ نَظِيرُ طَرِيقِهِ فِي أَوْصَافِ النَّصِّ أَنَّ التَّعْلِيلَ بِكُلِّ وَصْفٍ صَحِيحٌ مِنْ غَيْرِ أَثَرٍ خَاصٍّ وَقُلْنَا نَحْنُ هُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ يَسْقُطُ فَكَذَلِكَ الِاسْتِعَارَةُ يَقَعُ بِمَعْنًى لَهُ أَثَرُ الِاخْتِصَاصِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الشُّجَاعَ أَسَدًا لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْمَعْنَى الْخَاصِّ وَهُوَ الشُّجَاعَةُ فَأَمَّا بِكُلِّ وَصْفٍ فَلَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ (كَشْفَ) الِامْتِحَانِ وَيُصَيِّرُ (10) الْمَوْجُودَاتِ (ثَانِي) فِي الْأَحْكَامِ كُلِّهَا مُتَنَاسِبَةٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQالِاسْتِعَارَةِ فَلِذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ. قَوْلُهُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ) لَا يَجُوزُ اسْتِعَارَةُ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ لِلْعَتَاقِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ وَالْخِلَافُ فِي الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَة سَوَاءٌ حَتَّى لَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ طَلَّقْتُك أَوْ أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ أَنْتِ حَرَامٌ وَنَوَى بِهِ الْحُرِّيَّةَ لَا يَعْتِقُ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ. قَالَ التَّشَابُهُ وَالتَّشَاكُلُ فِي الْمَعَانِي مِنْ طُرُقِ الِاسْتِعَارَةِ كَالشُّجَاعِ تَسَمَّى أَسَدًا وَالْبَلِيدِ حِمَارًا وَقَدْ ثَبَتَتْ الْمُشَاكَلَةُ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي الْمَعْنَى لُغَةً وَشَرْعًا. أَمَّا لُغَةً فَلِأَنَّ الطَّلَاقَ مَعْنَاهُ التَّخْلِيَةُ وَالْإِرْسَالُ يُقَالُ أَطْلَقْت الْبَعِيرَ أَيْ أَرْسَلْته وَخَلَّيْته وَكَذَا الْعَتَاقُ مَوْضُوعٌ لِهَذَا فَإِنَّهُ يُقَالُ أَعْتَقْت الْعُصْفُورَ وَحَرَّرْته أَيْ أَرْسَلْته. وَأَمَّا شَرْعًا فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إزَالَةُ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ الْإِبْطَالِ مَبْنِيٌّ عَلَى السِّرَايَةِ فَإِنَّهُ لَوْ طَلَّقَ نِصْفَهَا يَسْرِي إلَى الْكُلِّ وَكَذَا لَوْ أَعْتَقَ نِصْفَهُ يَسْرِي إلَى الْكُلِّ أَيْضًا إذَا كَانَ مُوسِرًا وَكَذَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَازِمٌ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَلَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَيَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَالْإِيجَابِ فِي الْمَجْهُولِ وَإِذَا ثَبَتَ الِاتِّصَالُ بَيْنَهُمَا مَعْنًى جَازَ اسْتِعَارَةُ الطَّلَاقِ لِلْعَتَاقِ كَمَا جَازَ عَكْسُهُ. (وَقُلْنَا) لَا يَصِحُّ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ صِحَّتِهَا مُنْحَصِرٌ عَلَى الِاتِّصَالِ ذَاتًا أَوْ مَعْنًى كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَقَدْ عُدِمَ الِاتِّصَالُ بَيْنَهُمَا ذَاتًا؛ لِأَنَّهُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ مِنْ حَيْثُ السَّبَبِيَّةُ وَانْقِطَاعُ مِلْكِ النِّكَاحِ قَطُّ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِانْقِطَاعِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ كَمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ اتِّصَالَ الْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ لَا يَصْلُحُ طَرِيقًا لِلِاسْتِعَارَةِ وَقَدْ سَلَّمَ الْخَصْمُ أَيْضًا أَنَّهُ لَا اتِّصَالَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ السَّبَبِيَّةُ فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِعَارَةُ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَكَذَا عَدَمُ الِاتِّصَالِ بَيْنَهُمَا مَعْنًى لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فَامْتَنَعَتْ الِاسْتِعَارَةُ بِالْكُلِّيَّةِ وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ اسْقِنِي نَاوِيًا لِلْعِتْقِ. [الِاسْتِعَارَةُ لِلْمُنَاسَبَةِ فِي الْمَعَانِي] قَوْلُهُ (مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا) أَيْ ذَكَرْنَاهُ فِي جَانِبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إسْقَاطٌ بُنِيَ عَلَى السِّرَايَةِ وَاللُّزُومِ. هِيَ مِنْ قَبِيلِ الِاخْتِصَاصِ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْمَوْجُودُ أَيْ مِنْ قَبِيلِ الْمَعَانِي الْمُخْتَصَّةِ الَّتِي قِيَامُ الْمَوْجُودِ بِهَا بِحَيْثُ لَوْ زَالَتْ عَنْهُ لَا يَبْقَى الْمَوْجُودُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَلَا يُرِيدُ بِهِ الْمَعْنَى الدَّاخِلَ فِي الْمَاهِيَّةِ وَإِنَّمَا يُرِيدُ مَعْنًى هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ وَمُلَازِمٌ لَهُ وَاشْتُهِرَ بِهِ مِثْلُ الشَّجَاعَةِ لِلْأَسَدِ وَالْبَلَادَةِ لِلْحِمَارِ فَإِنَّ قِوَامَهُمَا بِهِمَا يَعْنِي لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُمَا بِدُونِهِمَا. فَأَمَّا بِكُلِّ مَعْنًى فَلَا أَيْ فَأَمَّا الِاسْتِعَارَةُ بِكُلِّ مَعْنًى فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا لَوْ جَازَتْ بِكُلِّ مَعْنًى جَازَتْ اسْتِعَارَةُ الْأَرْضِ لِلسَّمَاءِ وَالْجِدَارِ لِلْإِنْسَانِ بِاعْتِبَارِ الْجِسْمِيَّةِ وَالْوُجُودِ وَالْحُدُوثِ وَلَا يَتَفَوَّهُ بِهِ عَاقِلٌ. وَلِأَنَّ الِاسْتِعَارَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْعَرَبِ وَإِنَّهُمْ اسْتَعَارُوا بِالْمَعْنَى الْمَخْصُوصِ الْمَشْهُورِ وَامْتَنَعُوا عَنْ الِاسْتِعَارَةِ بِالْأَوْصَافِ الْعَامَّةِ فَعُلِمَ أَنَّهَا لَا يَصِحُّ بِكُلِّ مَعْنًى. أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَخَرَ وَالْحُمَّى مِنْ لَوَازِمِ الْأَسَدِ كَالشَّجَاعَةِ وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَشْتَهِرْ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعَارَ الْأَسَدُ لِلْأَبْخَرِ وَالْمَحْمُومِ. وَهَذَا الطَّرِيقُ أَيْ الِاسْتِعَارَةُ بِكُلِّ وَصْفٍ مَشْهُورًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ نَظِيرُ طَرِيقِهِ فِي اعْتِبَارِ أَوْصَافِ النَّصِّ حَيْثُ جَوَّزَ التَّعْلِيلَ بِالْوَصْفِ الْمُؤَثِّرِ وَبِغَيْرِهِ مِنْ الْوَصْفِ الْمُخَيِّلِ وَالْوَصْفِ الْمُتَعَدِّي وَغَيْرِ الْمُتَعَدِّي وَجَوَّزَ التَّعْلِيلَ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ. هُوَ بَاطِلٌ أَيْ التَّعْلِيلُ بِكُلِّ وَصْفٍ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ يَسْقُطُ؛ لِأَنَّ النَّاس مُبْتَلَوْنَ بِالِاعْتِبَارِ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا} [الحشر: 2] . فَلَوْ جَازَ التَّعْلِيلُ بِكُلِّ وَصْفٍ لَمْ يَبْقَ لِلِابْتِلَاءِ فَائِدَةٌ وَلَمْ يَبْقَ لِلْعَالِمِ عَلَى الْجَاهِلِ فَضْلٌ وَلَقَاسَ كُلُّ مَنْ لَهُ أَدْنَى تَمْيِيزٍ بِأَيِّ وَصْفٍ شَاءَ

وَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الطَّلَاقِ مَا وُضِعَ لَهُ اسْمُهُ وَمَا احْتَمَلَهُ مَحِلُّهُ وَهُوَ رَفْعُ الْقَيْدِ؛ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ عِبَارَةٌ عَنْهُ وَالنِّكَاحُ لَا يُوجِبُ حَقِيقَةَ الرِّقِّ وَلَا يَسْلُبُ الْمَالِكِيَّةَ وَإِنَّمَا يُوجِبُ قَيْدًا فَلَا يَحْتَمِلُ إلَّا إطْلَاقَ الْقَيْدِ وَأَمَّا الْإِعْتَاقُ فَإِثْبَاتُ الْقُوَّةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْنَاهُ لُغَةً يُقَالُ عَتَقَ الطَّيْرُ إذَا قَوِيَ وَطَارَ عَنْ وَكْرِهِ وَمِنْهُ عَتَاقُ الطَّيْرِ. وَيُقَالُ عَتَقَتْ الْبِكْرُ إذَا أَدْرَكَتْ وَهَذَا شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَكَذَلِكَ الرِّقُّ ثَابِتٌ عَلَى الْكَمَالِ وَسُلْطَانُ الْمَالِكِيَّةِ سَاقِطٌ فَصَحَّ الْإِعْتَاقُ إثْبَاتًا وَلَيْسَ بَيْنَ إزَالَةِ الْقَيْدِ لِتَعْمَلَ الْقُوَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَمَلَهَا وَبَيْنَ إثْبَاتِهَا بَعْدَ الْعَدَمِ مُشَابَهَةٌ كَمَا لَيْسَ بَيْنَ إحْيَاءِ الْمَيِّتِ وَبَيْنَ إطْلَاقِ الْحَيِّ مُشَابَهَةٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَبُطْلَانُهُ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ. وَذَلِكَ يُبْطِلُ الِامْتِحَانَ أَيْ الِاسْتِعَارَةَ بِكُلِّ وَصْفٍ يُبْطِلُ الِامْتِحَانَ فَإِنَّ الْمَجَازَ طَرِيقٌ وُضِعَ يَزْدَادُ الْكَلَامُ بِهِ حُسْنًا وَطَرَاوَةً وَبَهْجَةً وَفَصَاحَةً وَيَتَمَيَّزُ الذَّكِيُّ مِنْ الْغَبِيِّ فِي إبْدَاعِ الِاسْتِعَارَاتِ وَالتَّعْرِيضَاتِ وَاسْتِخْرَاجِ غَرَائِبِ التَّشْبِيهَاتِ فَلَوْ جَازَتْ الِاسْتِعَارَةُ بِكُلِّ وَصْفٍ لَزَالَ حُسْنُ الْكَلَامِ وَذَهَبَتْ طَرَاوَتُهُ وَصَارَ الْمَجَازُ مِنْ عُيُوبِ الْكَلَامِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنْ مَحَاسِنِهِ وَلَاسْتَوَى الْبَلِيغُ الْمَاهِرُ فِي فُنُونِ الْكَلَامِ الْعَالِمُ بِجِهَاتِ الْفَصَاحَةِ وَمَنْ لَمْ يَشُمَّ رَائِحَةً مِنْهَا وَغَفَلَ عَنْ لَطَائِفِهَا وَهُوَ خِلَافُ الْعَقْلِ وَالْإِجْمَاعِ. قَوْلُهُ (وَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُمَا) أَيْ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْ الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ طَرِيقُ الِاسْتِعَارَةِ وَهُوَ الْمُشَاكَلَةُ فِي الْمَعْنَى الْخَاصِّ الْمَشْهُورِ الَّذِي وُضِعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الطَّلَاقِ رَفْعُ الْقَيْدِ لُغَةً وَشَرْعًا وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ مَا وُضِعَ لَهُ اسْمُهُ وَمَا احْتَمَلَهُ مَحَلُّهُ. أَمَّا لُغَةً فَلِأَنَّ مَعْنَاهُ التَّخْلِيَةُ وَالْإِرْسَالُ يُقَالُ أَطْلَقَ الْمُقَيَّدَ وَالْمَسْجُونَ إذَا خَلَّى سَبِيلَهُ وَأَرْسَلَهُ وَأَطْلَقَ الْبَعِيرَ إذَا رَفَعَ عِقَالَهُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ. وَمِنْهُ أَطْلَقْت الْأَسِيرَ إذَا حَلَلْت إسَارَهُ وَخَلَّيْت عَنْهُ وَالتَّرْكِيبُ يَدُلُّ عَلَى الْحِلِّ وَالِانْحِلَالِ. أَمَّا شَرْعًا فَلِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يُوجِبُ الرِّقَّ حَقِيقَةً وَلَا يَسْلُبُ الْمَالِكِيَّةَ فَإِنَّهَا ثَابِتَةٌ لَهَا بَعْدَ النِّكَاحِ كَمَا كَانَتْ قَبْلَهُ بِدَلِيلِ أَنَّهَا بَقِيَتْ أَهْلًا لِلشَّهَادَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ، وَلَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ كَانَ الْعُقْرُ لَهَا لَا لِلزَّوْجِ لَكِنَّهَا صَارَتْ مَحْبُوسَةً بِحَقِّ الزَّوْجِ مُقَيَّدَةً شَرْعًا حَتَّى لَمْ يَحِلَّ لَهَا الْخُرُوجُ وَالْبُرُوزُ بِدُونِ إذْنِهِ وَلَمْ يَحِلَّ لَهَا تَزْوِيجُ نَفْسِهَا مِنْ أَحَدٍ فَالطَّلَاقُ يُزِيلُ الْحَبْسَ وَيَرْفَعُ الْقَيْدَ الَّذِي أَثْبَتَهُ النِّكَاحُ عَنْهَا فَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الَّذِي احْتَمَلَهُ الْمَحَلُّ لَا غَيْرُ. وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. قَالَ «النِّكَاحُ رِقٌّ» . مَحْمُولٌ عَلَى ضَرْبِ مِلْكٍ ثَبَتَ بِالنِّكَاحِ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِيمَا ذَكَرْنَا لَا عَلَى حَقِيقَتِهِ. فَأَمَّا الْإِعْتَاقُ فَإِثْبَاتُ الْقُوَّةِ لُغَةً وَشَرْعًا أَمَّا لُغَةً فَلِأَنَّهُ يُقَالُ عَتَقَ الْفَرْخُ إذَا قَوِيَ حَتَّى طَارَ عَنْ وَكْرِهِ وَمِنْهُ عَتَاقُ الطَّيْرِ لِكَوَاسِبِهَا مِثْلُ الصَّقْرِ وَالْبَازِي لِزِيَادَةِ قُوَّةٍ وَغَلَبَةٍ فِيهَا وَهُوَ جَمْعُ عَتِيقٍ وَيُقَالُ عَتَقَتْ الْبِكْرُ إذَا أَدْرَكَتْ وَقَوِيَتْ. وَهَذَا شَائِعٌ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ مُنْتَشِرٌ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَأَمَّا شَرْعًا فَلِأَنَّ الرِّقَّ الَّذِي هُوَ فِي حُكْمِ الْمَوْتِ ثَابِتٌ عَلَى الْكَمَالِ، وَسُلْطَانُ الْمَالِكِيَّةِ أَيْ تَسَلُّطُهَا سَاقِطٌ أَيْ مَعْدُومٌ حَتَّى الْتَحَقَ الْمَرْقُوقُ بِالْبَهَائِمِ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ شَهَادَةٌ وَلَا وِلَايَةٌ فَكَانَ الْإِعْتَاقُ إحْيَاءً لَهُ وَإِثْبَاتًا لِلْقُوَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِيهِ وَلَيْسَ بَيْنَ إزَالَةِ الْقَيْدِ لِيَعْمَلَ الْقُوَّةَ الثَّابِتَةَ عَمَلَهَا وَبَيْنَ إثْبَاتِ الْقُوَّةِ بَعْدَمَا عُدِمَتْ مُشَابَهَةٌ كَمَا لَيْسَ بَيْنَ إحْيَاءِ الْمَيِّتِ وَبَيْنَ إطْلَاقِ الْحَيِّ مُشَابَهَةٌ، وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ احْتِجَاجُ نُمْرُودَ اللَّعِينِ بِقَوْلِهِ {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] فِي مُحَاجَّتِهِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَيْثُ جَعَلَ رَفْعَ الْقَيْدِ عَنْ الْمَحْبُوسِ مُعَارِضًا لِلْإِحْيَاءِ الْحَقِيقِيِّ وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ امْتَنَعَتْ الِاسْتِعَارَةُ لِانْسِدَادِ طَرِيقِهَا بِالْكُلِّيَّةِ (فَإِنْ قِيلَ) لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِعْتَاقَ إثْبَاتُ الْقُوَّةِ بِإِثْبَاتِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْوِلَايَةِ بَلْ هُوَ إزَالَةُ الْمَانِعِ كَالطَّلَاقِ فَإِنَّ الْمَالِكِيَّةَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِكَوْنِهِ آدَمِيًّا فَإِنَّهُ خُلِقَ حُرًّا مَالِكًا فِي الْأَصْلِ وَحُلُولُ الرِّقِّ فِيهِ يَمْنَعُ الْقُوَّةَ كَالنِّكَاحِ فَكَانَ الْإِعْتَاقُ إزَالَةَ الْمَانِعِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشُّرُوطِ وَالْإِثْبَاتَاتِ لَا تَعَلُّقٌ بِالشُّرُوطِ. (قُلْنَا) بَلْ الْإِعْتَاقُ إثْبَاتُ الْقُوَّةِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ بِسَبَبِ الْمَالِكِيَّةِ وَأَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ وَالْوِلَايَةِ أَصْلًا

فَمَا هَذَا إلَّا كَمَنْ اسْتَعَارَ الْحِمَارَ لِلذَّكِيِّ وَالْأَسَدَ لِلْجَبَانِ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُسْتَعَارَ الْبَيْعُ لِلْإِجَارَةِ كَمَا لَا يُسْتَعَارُ الْإِجَارَةُ لِلْبَيْعِ وَمِلْكُ الْمَنْفَعَةِ تَابِعٌ لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ قِيلَ لَهُ قَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ وَالْإِجَارَةُ تَنْعَقِدُ بِهِ وَذَلِكَ يُتَصَوَّرُ فِي الْحُرِّ تَقُولُ بِعْت نَفْسِي مِنْك شَهْرًا بِدِرْهَمٍ لِعَمَلِ كَذَا وَهَذَا جَائِزٌ فَأَمَّا إذَا قَالَ بِعْت مِنْك مَنَافِعَ هَذِهِ الدَّارِ شَهْرًا بِكَذَا لَمْ يَجُزْ كَذَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصُّلْحِ وَهَذَا لَيْسَ لِفَسَادِ الِاسْتِعَارَةِ لَكِنْ لِفَسَادٍ فِي الْمَحَلِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَتَثْبُتُ بِالْعِتْقِ ابْتِدَاءً، وَلِهَذَا صَارَ مَنْسُوبًا إلَى الْعِتْقِ بِالْوَلَاءِ؛ لِأَنَّهُ أَحْيَاهُ مَعْنًى. وَقَوْلُهُ عِلَّةُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْوِلَايَاتِ كَوْنُهُ آدَمِيًّا غَيْرُ مُسَلَّمٍ بَلْ الْعِلَّةُ كَوْنُهُ حُرًّا وَقَدْ زَالَتْ الْحُرِّيَّةُ بِالْكُلِّيَّةِ بِحُلُولِ الرِّقِّ فَبِالْإِعْتَاقِ تَثْبُتُ مَالِكِيَّةٌ أُخْرَى جَدِيدَةٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ فَلَا يَكُونُ إثْبَاتًا فَنَقُولُ إنَّمَا لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْإِثْبَاتِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ بِالشَّرْطِ أَمَّا الْإِثْبَاتُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ فَهُوَ قَابِلٌ لِلتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ كَقَوْلِهِ إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ كَذَا (فَإِنْ قِيلَ) مَا ذَكَرْتُمْ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِهِمَا فَإِنَّ عِنْدَهُمَا الْإِعْتَاقَ إثْبَاتُ الْقُوَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْعِتْقِ وَلَكِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ عِنْدَهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَسْأَلَةِ تَحَرِّي الْإِعْتَاقِ وَإِذَا كَانَ الْإِعْتَاقُ إسْقَاطًا عِنْدَهُ كَانَ مُشَابِهًا لِلطَّلَاقِ مَعْنًى فَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَعَارَ الطَّلَاقُ لَهُ. (قُلْنَا) الْإِعْتَاقُ عِنْدَهُ إثْبَاتُ الْقُوَّةِ أَيْضًا لَكِنْ بِوَاسِطَةِ إزَالَةِ الْمِلْكِ فَكَانَ فِيهِ مَعْنَى الْإِثْبَاتِ وَالْإِسْقَاطِ جَمِيعًا أَمَّا الطَّلَاقُ فَإِسْقَاطٌ مَحْضٌ فَلَا يَثْبُتُ التَّشَابُهُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى الْخَاصِّ فَيَمْتَنِعُ الِاسْتِعَارَةُ قَوْلُهُ (فَمَا هَذَا إلَّا كَمَنْ اسْتَعَارَ الْحِمَارَ لِلذَّكِيِّ وَالْأَسَدَ لِلْجَبَانِ) يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْحِمَارَ إنَّمَا يُسْتَعَارُ لِلْبَلِيدِ وَالْأَسَدَ لِلشُّجَاعِ لِلْمُنَاسِبَةِ بَيْنَ الْمَحَلَّيْنِ فِي الْبَلَادَةِ وَالشَّجَاعَةِ فَاسْتِعَارَةُ الْحِمَارِ لِلذَّكِيِّ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْبَلِيدِ وَالْأَسَدِ لِلْجَبَانِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الشُّجَاعِ تَكُونُ الِاسْتِعَارَةُ فِيمَا لَا مُنَاسَبَةَ فِيهِ أَصْلًا وَهُوَ قَلْبُ الْمَعْقُولِ وَخِلَافُ الْمَوْضُوعِ. الثَّانِي أَنَّ لِلْحِمَارِ نَوْعُ ذَكَاءٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا مَشَى فِي طَرِيقٍ أَوْ اعْتَلَفَ شَعِيرًا فِي مَكَان يَعْرِفُ ذَلِكَ الطَّرِيقَ وَالْمَوْضِعَ بَعْدَ مُدَّةٍ حَتَّى لَوْ ضَلَّ صَاحِبَهُ الطَّرِيقَ وَأَرْخَى حَبْلَهُ يُخْرِجُهُ إلَى الطَّرِيقِ وَلَوْ أَخْفَى شَيْئًا فِي الْمَفَازَةِ وَقَدْ عَلَفَ حِمَارَهُ شَعِيرًا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ثُمَّ نَسِيَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ يَهْدِيه حِمَارُهُ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إذَا أَرْخَى رَسَنَهُ وَلِلْجَبَانِ نَوْعُ شَجَاعَةٍ وَهُوَ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ فَارًّا مِنْ الْقِتَالِ وَلَكِنَّهُ إذَا أَقْبَلَ عَلَى الْقِتَالِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ يُقَاتِلُ قِتَالًا شَدِيدًا لَا يُقَاتِلُ غَيْرُهُ مِثْلَهُ فَاسْتِعَارَةُ الْحِمَارِ وَالْأَسَدِ لِلذَّكِيِّ وَالْجَبَانِ بِاعْتِبَارِ هَذَيْنِ الْمُعْتَبَرَيْنِ فَاسِدَةٌ لِكَوْنِهِمَا غَيْرَ مَشْهُورَيْنِ فَكَذَا اسْتِعَارَةُ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ لِلْعَتَاقِ بِالْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرَهَا الْخَصْمُ لِكَوْنِهَا غَيْرَ مَشْهُورَةٍ. قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَسْرَارِ فَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَسْأَلَةِ الْعَتَاقِ تَشَاكُلَ الْمَعَانِي بَيْنَ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ وَتَبَايُنُ الْمَعَانِي بَيْنَ أَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ وَالتَّزْوِيجِ فَإِنَّ التَّزْوِيجَ لِلْوَصْلِ عَلَى سَبِيلِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَالتَّمْلِيكُ لِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ كُلِّهِ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بِلَا حَظٍّ لِلْمَمْلُوكِ فِي الْمَالِكِيَّةِ بِوَجْهٍ وَإِنَّهُ وَجْهٌ ظَاهِرٌ صَحِيحٌ عَلَى مَا اعْتَبَرَهُ إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَا الِاسْتِعَارَةَ فِي بَابِ النِّكَاحِ لِاتِّصَالٍ بَيْنَهُمَا سَبَبًا مَتَى كَانَ حُكْمُ النِّكَاحِ وُقُوعَ مِلْكٍ عَلَى الْمَرْأَةِ قَبْلَ فِعْلِ التَّمَتُّعِ وَإِنْ افْتَرَقَتْ الْمَعَانِي وَهُوَ طَرِيقٌ كَتَشَاكُلِ الْمَعَانِي وَلَمْ نُجَوِّزْ فِي بَابِ الْعَتَاقِ لِانْعِدَامِ السَّبَبِيَّةِ وَافْتِرَاقِ الْمَعَانِي فَمَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ أَحَقُّ وَأَدَقُّ وَذَلِكَ أَظْهَرُ وَأَوْضَحُ. قَوْلُهُ (فَإِنْ قِيلَ) هَذَا السُّؤَالُ وَارِدٌ عَلَى جَوَابِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ وَتَوْجِيهُهُ أَنْ يُقَالَ قَدْ ذَكَرْتُمْ أَنَّ اسْتِعَارَةَ السَّبَبِ لِلْمُسَبَّبِ تَجُوزُ وَكَمَا أَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ فَهُوَ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ وَلَا يَصِحُّ عِنْدَكُمْ اسْتِعَارَةُ الْبَيْعِ لِلْإِجَارَةِ حَتَّى لَوْ قَالَ بِعْت عَبْدِي شَهْرًا بِدِرْهَمٍ أَوْ بِعْتُك

لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَا يَصْلُحُ مَحَلًّا لِلْإِضَافَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْدُومٌ لَيْسَ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ حَتَّى لَوْ أَضَافَ إلَيْهَا الْإِجَارَةَ لَمْ يَجُزْ فَكَذَلِكَ فِيمَا يُسْتَعَارُ لَهَا وَلَكِنَّ الْعَيْنَ أُقِيمَتْ مُقَامَهَا فِي حَقِّ الْإِضَافَةِ فِي الْأَصْلِ فَكَذَلِكَ مَا يُسْتَعَارُ لَهَا وَصَارَ هَذَا كَالْبَيْعِ يُسْتَعَارُ لِلنِّكَاحِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ وَهِيَ الْمُحَرَّمُ مِنْ النِّسَاءِ فَيَثْبُتُ أَنَّ فَسَادَهُ إضَافَةً إلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ. مِنْ أَحْكَامِ هَذَا الْقِسْمِ أَيْضًا أَنَّ الْمَجَازَ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ فِي حَقِّ التَّكَلُّمِ لَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هُوَ خَلَفٌ عَنْ الْحُكْمِ بَيَانُهُ فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ وَهُوَ أَكْبَرُ سِنًّا مِنْهُ هَذَا ابْنِي لَمْ يَعْتِقْ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَمْ يَنْعَقِدْ لِمَا وُضِعَ لَهُ أَصْلًا فَصَارَ لَغْوًا لَا حُكْمَ لَهُ فَلَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِمَجَازِهِ؛ لِأَنَّهُ خَلَفٌ عَنْهُ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ وَمِنْ شَرْطِ الْخَلَفِ أَنْ يَنْعَقِدَ السَّبَبُ لِلْأَصْلِ عَلَى الِاحْتِمَالِ وَامْتَنَعَ وُجُودُهُ بِعَارِضٍ كَمَنْ حَلَفَ لَيَمَسَّنَّ السَّمَاءَ أَنَّ الْيَمِينَ انْعَقَدَتْ لِلْبِرِّ لِاحْتِمَالِ وُجُودِهِ فَانْعَقَدَتْ لِلْكَفَّارَةِ خَلَفًا عَنْهُ فَأَمَّا الْغَمُوسُ فَلَمْ يَنْعَقِدُ لِلْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ فَلَا يَنْعَقِدُ لِخَلَفِهِ وَهَذَا نَظِيرُ مَسْأَلَةِ الْغَمُوسِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ (الِاسْتِعَارَةُ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - ـــــــــــــــــــــــــــــQنَفْسِي مُرِيدًا لِلْإِجَارَةِ لَا يَصِحُّ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا تَصْلُحَ اسْتِعَارَةُ الْبَيْعِ لِلنِّكَاحِ أَيْضًا فَمَنَعَ الشَّيْخُ مَا ذَكَرَهُ هَذَا السَّائِلَ أَوَّلًا وَقَالَ لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ الِانْعِقَادِ بِهِ بَلْ الْإِجَارَةُ تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ. ثُمَّ سَلَّمَ جَوَابَ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ كَانَ جَوَابُهُمْ مُطْلَقًا شَامِلًا لِجَمِيعِ الصُّوَرِ فَقَالَ. وَذَلِكَ أَيْ انْعِقَادُ الْإِجَارَةِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي الْحُرِّ إذَا قَالَ بِعْت نَفْسِي مِنْك شَهْرًا بِدِرْهَمٍ لِعَمَلِ كَذَا يَعْنِي إذَا أَضَافَ الْبَيْعَ إلَى نَفْسِهِ دُونَ مَنَافِعِهِ وَبَيَّنَ الْمُدَّةَ وَالْعَمَلَ وَالْأُجْرَةَ فَإِنْ تَرَكَ وَاحِدًا مِنْهَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ كَمَا فِي صَرِيحِ الْإِجَارَةِ. وَأَجَابَ عَنْ غَيْرِهِ هَذِهِ الصُّورَةَ فَقَالَ لَا تَنْعَقِدُ الْإِجَارَةُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ فِي غَيْرِ الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ لَا لِخَلَلٍ فِي الِاسْتِعَارَةِ وَلَكِنْ لِمَعْنًى آخَرَ يَمْنَعُ مِنْ الِانْعِقَادِ. وَبَيَانُهُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ أُضِيفَ الْبَيْعُ إلَى الْمَنْفَعَةِ أَوْ إلَى الْعَيْنِ فَإِنْ أُضِيفَ إلَى الْمَنْفَعَةِ بِأَنْ قَالَ بِعْت مَنَافِعَ هَذِهِ الدَّارِ أَوْ مَنَافِعَ هَذَا الْعَبْدِ مِنْك بِعَشَرَةٍ شَهْرًا فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ. وَلَوْ ادَّعَى شِقْصًا فِي دَارِ فِي يَدِ رَجُلٍ فَصَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى سُكْنَى بَيْتٍ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ مَعْلُومٍ عَشْرَ سِنِينَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ مَنْفَعَةٌ مَعْلُومَةٌ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ. وَلَوْ آجَرَهُ مِنْ الَّذِي صَالَحَهُ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَلَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَلَوْ آجَرَهُ مِنْ غَيْرِهِ جَازَ. وَلَوْ بَاعَ هَذَا السُّكْنَى بَيْعًا مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ السُّكْنَى وَإِنْ ذَكَرَ فِي التَّقْوِيمِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ إجَارَةً وَلَكِنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ لِلْإِضَافَةِ إلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ عَلَى مَا بَيَّنَ فِي الْكِتَابِ لَا لِخَلَلٍ فِي الِاسْتِعَارَةِ. وَإِنْ أُضِيفَ إلَى الْعَيْنِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَذْكُرَ الْمُدَّةَ أَوْ لَا. فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ بِأَنْ قَالَ بِعْت عَبْدِي مِنْك بِعَشَرَةٍ فَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بَيْعًا لِإِضَافَتِهِ إلَى مَحَلٍّ قَابِلٍ لِلْبَيْعِ وَإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ وَعَدَمِ إمْكَانِ حَمْلِهِ عَلَى الْمَجَازِ وَهُوَ الْإِجَارَةُ لِفَقْدِ الشَّرْطِ وَهُوَ بَيَانُ الْمُدَّةِ. وَإِنْ ذَكَرَ الْمُدَّةَ بِأَنْ قَالَ بِعْت مِنْك عَبْدِي شَهْرًا بِعَشَرَةٍ فَلَا رِوَايَةَ فِيهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَنْعَقِدَ إجَارَةً إذَا سَمَّى جِنْسَ الْعَمَلِ مَعَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ بِعْت مِنْك عَبْدِي شَهْرًا بِعَشَرَةٍ لِعَمَلِ كَذَا؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ يُسَمُّونَ الْإِجَارَةَ بَيْعًا فَعَلَى ذَلِكَ التَّعَارُفِ يَجُوزُ وَإِذَا جَازَ فِي تَعَارُفِ أَهْلِ اللِّسَانِ بِبَلَدٍ جَازَ فِي غَيْرِهِ إذَا اتَّفَقَ الْمُتَعَاقِدَانِ عَلَيْهِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ. وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ إجَارَةً كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ فِي قَوْلِهِ وَيُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الْحُرِّ. وَيَنْعَقِدُ بَيْعًا صَحِيحًا لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ بِصَرْفِ ذِكْرِ الْمُدَّةِ إلَى تَأْجِيلِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمُدَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ إنَّمَا يَكُونُ لِتَأْجِيلِ الثَّمَنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ بِعْتُك إلَى شَهْرٍ لَا لِتَوْقِيتِ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّوْقِيتَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَنْعَقِدَ بَيْعًا فَاسِدًا؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَإِنْ كَانَتْ قَاصِرَةً أَوْلَى مِنْ الْحَمْلِ عَلَى الْمَجَازِ وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ بَيْعٌ حَقِيقَةً وَيَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ عِنْدَ الْقَبْضِ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ الْحَمْلِ عَلَى الْمَجَازِ وَهُوَ الْإِجَارَةُ. قَوْلُهُ (؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَا يَصْلُحُ مَحَلًّا لِلْإِضَافَةِ) أَيْ لِإِضَافَةِ الْعَقْدِ إلَيْهَا. لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْ الْمَذْكُورَ وَهِيَ الْمَنْفَعَةُ مَعْدُومَةٌ لَيْسَ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ أَيْ لَيْسَ فِي قُدْرَتِهِ إيجَادُهَا أَوْ لَيْسَتْ هِيَ دَاخِلَةً فِيمَا هُوَ مَقْدُورُ الْبَشَرِ. حَتَّى لَوْ أَضَافَ إلَيْهَا الْإِجَارَةَ بِأَنْ قَالَ آجَرْتُك مَنَافِعَ هَذِهِ الدَّارِ لَمْ يَجُزْ فَكَذَلِكَ مَا يُسْتَعَارُ لَهَا أَيْ لِلْإِجَارَةِ وَهُوَ الْبَيْعُ إذَا أُضِيفَ إلَيْهَا لَا يَجُوزُ. فِي الْأَصْلِ أَيْ فِي حَقِيقَةِ الْإِجَارَةِ. فَكَذَلِكَ مَا يُسْتَعَارُ لَهَا أَيْ فَكَالْأَصْلِ الْمُسْتَعَارِ فِي احْتِيَاجِهِ إلَى الْمَحَلِّ فَيُقَامُ الْعَيْنُ فِيهِ مُقَامَ الْمَنْفَعَةِ لِيَصِحَّ

[المجاز خلف عن الحقيقة في حق التكلم لا في حق الحكم]

إنَّ الْمَجَازَ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ فِي التَّكَلُّمِ لَا فِي الْحُكْمِ بَلْ هُوَ فِي الْحُكْمِ أَصْلٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالِاسْتِعَارَةُ كَمَا فِي الْحُرِّ. وَصَارَ هَذَا أَيْ عَدَمُ الْجَوَازِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ الْمَحِلِّ نَظِيرَ الْبَيْعِ الْمُسْتَعَارِ لِلنِّكَاحِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ أَيْ فِي مَحَلِّ النِّكَاحِ وَهِيَ الْمَحْرَمُ مِنْ النِّسَاءِ فَإِنَّهَا لَمَّا لَمْ تَكُنْ مَحَلَّ حَقِيقَةِ النِّكَاحِ لَمْ تَكُنْ مَحَلًّا لِمَا يُسْتَعَارُ لِلنِّكَاحِ أَيْضًا وَهُوَ الْبَيْعُ فَكَذَلِكَ الْمَنَافِعُ لَمَّا لَمْ يَصْلُحْ لِإِضَافَةِ الْإِجَارَةِ إلَيْهَا لَمْ يَصْلُحْ لِإِضَافَةِ مَا يُسْتَعَارُ لِلْإِجَارَةِ أَيْضًا وَهُوَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ أَقْوَى مِنْ الْمُسْتَعَارِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْفَسَادَ لِعَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ لَا لِفَسَادِ الِاسْتِعَارَةِ. [الْمَجَازَ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ فِي حَقِّ التَّكَلُّمِ لَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ] قَوْلُهُ (الْمَجَازُ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ فِي التَّكَلُّمِ) إلَى آخِرِهِ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمَجَازَ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا عِنْدَ فَوَاتِ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ وَتَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهِ، وَلِهَذَا يَحْتَاجُ الْمَجَازُ إلَى الْقَرِينَةِ وَالْحَقِيقَةُ لَا تَحْتَاجُ إلَيْهَا. وَإِنَّهُ لَا بُدَّ لِثُبُوتِ الْخَلَفِ مِنْ تَصَوُّرِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْخَلَفَ مِنْ الْإِضَافِيَّاتِ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْأَصْلِ كَالِابْنِ مَعَ الْأَبِ. وَإِنَّ الْمَصِيرَ إلَى الْمَجَازِ لَا يَجُوزُ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ كَمَا أَنَّ الْمَصِيرَ إلَى الْخَلَفِ لَا يَجُوزُ إلَّا عِنْدَ فَوَاتِ الْأَصْلِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. وَالْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ مِنْ أَوْصَافِ اللَّفْظِ لَا مِنْ أَوْصَافِ الْمَعَانِي، وَلِهَذَا قَالُوا الْحَقِيقَةُ لَفْظٌ اُسْتُعْمِلَ وَكَذَا وَالْمَجَازُ لَفْظٌ اُسْتُعْمِلَ فِي كَذَا. وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْخَلَفِيَّةَ فِي التَّكَلُّمِ بِأَنْ صَارَ التَّكَلُّمُ بِلَفْظِ الْمَجَازِ خَلَفًا عَنْ التَّكَلُّمِ بِلَفْظِ الْحَقِيقَةِ ثُمَّ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِنَاءً عَلَى صِحَّتِهِ بِطَرِيقِ الِاسْتِبْدَادِ لَا خَلَفًا عَنْ حُكْمِ الْحَقِيقَةِ. أَوْ فِي الْحُكْمِ بِأَنْ تَعَذَّرَ حُكْمُ الْحَقِيقَةِ بِعَارِضٍ فَصَيَّرَ إلَى الْمَجَازِ لِإِثْبَاتِ لَازِمِ الْحَقِيقَةِ خَلَفًا عَنْ الْحَقِيقَةِ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهَا احْتِرَازًا عَنْ إلْغَاءِ الْكَلَامِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمَجَازُ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ فِي التَّكَلُّمِ وَقَالَا هُوَ خَلَفٌ عَنْهَا فِي الْحُكْمِ. وَيَتَّضِحُ لَك مَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ لِلشُّجَاعِ هَذَا أَسَدٌ فَعِنْدَهُمَا هُوَ خَلَفٌ فِي إثْبَاتِ الشَّجَاعَةِ عَنْ قَوْلِهِ هَذَا أَسَدٌ فِي مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ لِإِثْبَاتِ الْهَيْكَلِ الْمَخْصُوصِ. وَمَا قَرَعَ سَمْعَك أَنَّ حُكْمَ الْمَجَازِ خَلَفٌ عَنْ حُكْمِ الْحَقِيقَةِ عِنْدَهُمَا فَالْمُرَادُ مِنْهُ مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الْخَلَفِيَّةَ بَيْنَ الْمَجَازِ وَالْحَقِيقَةِ اللَّذَيْنِ هُمَا مِنْ أَوْصَافِ اللَّفْظِ بِالِاتِّفَاقِ لَا بَيْنَ شَجَاعَةِ الشُّجَاعِ وَالْهَيْكَلِ الْمَعْلُومِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - التَّكَلُّمُ بِقَوْلِهِ هَذَا أَسَدٌ لِلشُّجَاعِ خَلَفٌ عَنْ التَّكَلُّمِ بِقَوْلِهِ هَذَا أَسَدٌ لِلْهَيْكَلِ الْمَعْلُومِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي ثُبُوتِ الْخَلَفِيَّةِ إلَى الْحُكْمِ ثُمَّ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِهِ وَهُوَ الشَّجَاعَةُ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ التَّكَلُّمِ لَا خَلَفًا عَنْ شَيْءٍ كَمَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْحَقِيقَةِ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ التَّكَلُّمِ. وَقَوْلُهُ لِعَبْدِهِ الَّذِي يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ وَهُوَ مَعْرُوفُ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ هَذَا ابْنِي فَعِنْدَهُمَا هُوَ خَلَفٌ فِي إثْبَاتِ الْعِتْقِ عَنْ قَوْلِهِ هَذَا ابْنِي لِابْنِهِ الْحَقِيقِيِّ فِي إثْبَاتِ الْبُنُوَّةِ وَالْعِتْقِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَفْسُ التَّكَلُّمِ بِقَوْلِهِ هَذَا ابْنِي خَلَفٌ عَنْ التَّكَلُّمِ بِقَوْلِهِ هَذَا ابْنِي فِي مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ ثُمَّ يَثْبُتُ الْعِتْقُ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ التَّكَلُّمِ كَمَا يَثْبُتُ الْبُنُوَّةُ وَالْعِتْقُ فِي مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الْكَلَامِ. لَهُمَا أَمْ الْحُكْمُ هُوَ الْمَقْصُودُ لَا نَفْسُ الْعِبَارَةِ فَاعْتِبَارُ الْخَلَفِيَّةِ وَالْأَصَالَةِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِهِمَا فِيمَا هُوَ وَسِيلَةٌ وَهِيَ الْعِبَارَةُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ مِنْ أَوْصَافِ اللَّفْظِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ فَجَعْلُ الْمَجَازِ خَلَفًا عَنْ الْحَقِيقَةِ فِي التَّكَلُّمِ الَّذِي هُوَ اسْتِخْرَاجُ اللَّفْظِ أَوْلَى مِمَّا ذَكَرَا؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ لَا يَجْرِيَانِ فِي الْمَعَانِي. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ نَقْلٌ وَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى هُوَ تَمَامُ مَاهِيَّةِ الْمُسْتَعَارِ عَنْهُ وَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQالنَّقْلَ إلَى الْمُسْتَعَارِ لَهُ بِحَيْثُ يَصِيرُ عَيْنُهُ عَيْنَهُ. وَكَذَا صِفَتُهُ لَا تَقْبَلُ الِانْتِقَالَ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الشَّيْءِ هِيَ الْقَائِمَةُ بِهِ فَكَيْفَ تَقْبَلُ النَّقْلَ عَنْهُ وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ الِانْتِقَالُ فِي اللَّفْظِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّجَاعَةَ الَّتِي فِي الْأَسَدِ لَا تَنْتَقِلُ إلَى الْإِنْسَانِ بِاسْتِعَارَةِ لَفْظِ الْأَسَدِ لَهُ وَلَكِنَّ اللَّفْظَ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْخَلَفِيَّةَ فِي التَّكَلُّمِ لَا غَيْرُ وَيَظْهَرُ أَثَرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي قَوْلِهِ لِعَبْدِهِ الَّذِي لَا يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ هَذَا ابْنِي فَعَلَى قَوْلِهِمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلُ يَلْغُو هَذَا الْكَلَامُ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا. وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ يَعْتِقُ هَذَا الْعَبْدُ وَيَصِيرُ هَذَا الْكَلَامُ عِبَارَةً عَنْ قَوْلِهِ عَتَقَ عَلَيَّ مِنْ حِينِ مَلَكْته بِطَرِيقِ ذِكْرِ الْمَلْزُومِ وَإِرَادَةِ اللَّازِمِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَمْ يَنْعَقِدْ لِإِيجَابِ حُكْمِ الْحَقِيقَةِ أَصْلًا وَهُوَ الْبُنُوَّةُ فَيَلْغُو كَمَا لَوْ قَالَ أَعْتَقْتُك قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ أَوْ قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ أَوْ قَالَ هَذَا أَخِي أَوْ قَالَ لِغُلَامٍ صَغِيرٍ لَهُ هَذَا جَدِّي أَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ هَذِهِ بِنْتِي أَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ هَذَا غُلَامِي. وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ أَصْلًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ هَذَا ابْنِي أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِي، وَابْنُ خَمْسِينَ سَنَةً يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا مِنْ مَاءِ ابْنِ عِشْرِينَ سَنَةً وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ عِبَارَةً عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْحُرِّيَّةِ مِنْ حِينِ مِلْكِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَجَازَ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ وَلَا بُدَّ لِثُبُوتِ الْخَلَفِ مِنْ تَصَوُّرِ الْأَصْلِ فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ فِي مَخْرَجِهِ صَحِيحًا مُوجِبًا لِلْحُكْمِ عَلَى الِاحْتِمَالِ وَلَكِنْ يَتَعَذَّرُ الْعَمَلُ بِهِ بِعَارِضٍ فَيَخْلُفُهُ الْمَجَازُ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ لِإِيجَابِ حُكْمٍ أَصْلًا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْمَجَازُ خَلَفًا عَنْهُ فَيَلْغُو كَمَا فِي النَّظَائِرِ الْمَذْكُورَةِ وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ لِمَعْرُوفِ النَّسَبِ هَذَا ابْنِي حَيْثُ يَعْتِقُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ فِي مَخْرَجِهِ صَحِيحٌ مُوجِبٌ لِحُكْمِهِ وَهُوَ الْبُنُوَّةُ لَوْلَا الْعَارِضُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا مِنْ مَائِهِ بِالزِّنَا أَوْ بِالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ لَكِنَّهُ لَمَّا اُشْتُهِرَ نَسَبُهُ مِنْ الْغَيْرِ لِوُجُودِ ظَاهِرِ الدَّلِيلِ تَعَذَّرَ إثْبَاتُهُ مِنْهُ رِعَايَةً لِحَقِّ الْغَيْرِ فَيَصِحُّ أَنْ يَخْلُفَهُ الْمَجَازُ. وَنَظِيرُ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْحَلِفُ عَلَى مَسِّ السَّمَاءِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ فَإِنَّ الْأَوَّلَ مُوجِبٌ لِلْكَفَّارَةِ لِانْعِقَادِ السَّبَبِ مُوجِبًا لِلْأَصْلِ وَهُوَ الْبُرْهَانُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ السَّمَاءَ عَيْنٌ مَمْسُوسَةٌ فَيَصْلُحُ لِإِيجَابِ الْخَلَفِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْعَارِضِ وَهُوَ الْعَجْزُ الْحَالِيُّ فَأَمَّا الْغَمُوسُ فَلَمْ تَنْعَقِدْ لِإِيجَابِ الْأَصْلِ وَهُوَ الْبِرُّ فَلَا تَصْلُحُ مُوجِبَةً لِلْخَلَفِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ وَمَا نَحْنُ فِيهِ نَظِيرُ الْغَمُوسِ عَلَى أَنَّا نَقُولُ فِي مَعْرُوفِ النَّسَبِ لَا يَعْتِقُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ بَلْ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ كَمَا ذَكَرْنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا مِنْ مَائِهِ وَأَنَّ الْفِرَاشَ لَهُ فِي الْبَاطِنِ فَيُصَدَّقُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حَقِّ نَفْسِهِ وَيُجْعَلُ كَأَنَّ النَّسَبَ ثَابِتٌ فَيَثْبُتُ أَحْكَامُهُ بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ لَا بِاعْتِبَارِ الْمَجَازِ وَلِهَذَا صَارَتْ أُمُّ الْغُلَامِ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لَوْ كَانَتْ فِي مِلْكِهِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ لِمَجْهُولِ النَّسَبِ وَثَبَتَتْ حَقِيقَةُ الْبُنُوَّةِ وَهَهُنَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِلِاسْتِحَالَةِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ أَصْغَرُ سِنًّا مِنْهُ هَذِهِ بِنْتِي وَهِيَ مَعْرُوفَةُ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ وَلَوْ اُعْتُبِرَ النَّسَبُ ثَابِتًا فِي حَقِّهِ لَحَرُمَتْ عَلَيْهِ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّ الْمُقِرَّ إنَّمَا يُصَدَّقُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِهِ لَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى غَيْرِهِ وَكَلَامُهُ هَذَا إقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ النَّسَبِ فِي النِّكَاحِ لَيْسَ إزَالَةَ الْمِلْكِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَإِنَّمَا مُوجِبُهُ انْتِفَاءُ حِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ مِنْ الْأَصْلِ وَذَلِكَ حَقُّهَا لَا حَقُّهُ فَلَا يُصَدَّقُ

أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِبَارَةَ تَتَغَيَّرُ بِهِ دُونَ الْحُكْمِ فَكَانَ تَصَرُّفًا فِي التَّكَلُّمِ فَتُشْتَرَطُ صِحَّةُ الْأَصْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ مَوْضُوعٌ لِلْإِيجَابِ بِصِيغَتِهِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فَإِذَا وُجِدَ وَتَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَتِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ فَأَمَّا قَوْلُهُ هَذَا ابْنِي فَإِقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ حُكْمِ الْبُنُوَّةِ بُطْلَانَ الْمِلْكِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ ابْنَهُ بِالشِّرَاءِ ثُمَّ يَبْطُلُ ذَلِكَ بِالْعِتْقِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ إقْرَارًا عَلَى نَفْسِهِ فَيُصَدَّقُ. وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّهُ إنْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ كَلَامِهِ فَقَدْ أَمْكَنَ بِمَجَازِهِ فَيُعْمَلُ بِهِ كَمَا فِي مَعْرُوفِ النَّسَبِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ الْمَجَازِ وَهُوَ الِاتِّصَالُ مِنْ حَيْثُ السَّبَبِيَّةُ مَوْجُودٌ؛ لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ مِنْ أَسْبَابِ الْعِتْقِ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ لِمَنْ هُوَ يُولَدُ لِمِثْلِهِ وَهُوَ مَجْهُولُ النَّسَبِ هَذَا ابْنِي تَثْبُتُ الْبُنُوَّةُ وَتَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ مِنْ وَقْتِ الدُّخُولِ فِي مِلْكِهِ بِوَاسِطَةِ الْبُنُوَّةِ فَكَانَ هَذَا اللَّفْظُ سَبَبًا لِلْبُنُوَّةِ وَالْبُنُوَّةُ سَبَبًا لِلْحُرِّيَّةِ مِنْ وَقْتِ الدُّخُولِ فِي الْمِلْكِ وَاسْتِعَارَةُ السَّبَبِ لِلْمُسَبَّبِ طَرِيقٌ مَعْهُودٌ فَيُجْعَلُ اللَّفْظُ مَجَازًا لِمُسَبِّبِهِ احْتِرَازًا عَنْ الْإِلْغَاءِ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ عَتَقَ عَلَيَّ مِنْ حِينِ مَلَكْته وَلَا يُقَالُ الْعِتْقُ لَيْسَ مِنْ أَحْكَامِ الْبُنُوَّةِ بَلْ هُوَ حُكْمُ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي عِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ يُضَافُ إلَى آخِرِهِمَا وُجُودًا وَهُوَ الْمِلْكُ هَهُنَا دُونَ الْقَرَابَةِ؛ لِأَنَّهُ حَادِثٌ وَالْقَرَابَةُ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ فَثَبَتَ أَنَّ الْبُنُوَّةَ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِلْعِتْقِ فَلَا تَصِحُّ اسْتِعَارَتُهَا لَهُ لِأَنَّا نَقُولُ الْمِلْكُ إذَا كَانَ ثَابِتًا وَلَا نَسَبٌ ثُمَّ ادَّعَاهُ كَانَ النَّسَبُ آخِرَهُمَا وُجُودًا فَتَصِحُّ اسْتِعَارَتُهُ لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَ بَيْنَ وَارِثَيْنِ وَهُوَ مَجْهُولُ النَّسَبِ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا عَتَقَ وَيَضْمَنُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَلَا يَضْمَنُ إنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَوْلَا أَنَّهُ صَارَ مُعْتَقًا بِهَذِهِ الدَّعْوَى لَمَا تَعَلَّقَ بِهِ ضَمَانٌ يَخْتَلِفُ بِالْإِيسَارِ وَالْإِعْسَارِ؛ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِي التَّمْلِيكِ كَذَا فِي الطَّرِيقَةِ الْبُرْغَرِيَّةِ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَا بُدَّ لِلْخَلَفِ مِنْ تَصَوُّرِ الْأَصْلِ فَمُسَلَّمٌ وَلَكِنَّ الْخَلَفِيَّةَ فِي التَّكَلُّمِ دُونَ الْحُكْمِ فَيُشْتَرَطُ صِحَّةُ التَّكَلُّمِ وَهِيَ بِأَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ صَالِحًا لِإِفَادَةِ الْمَعْنَى فِي نَفْسِهِ بِكَوْنِهِ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا مَوْضُوعًا لِلْإِيجَابِ أَيْ إثْبَاتِ مَعْنًى بِصِيغَتِهِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ هَذَا ابْنِي مَوْضُوعٌ لِإِثْبَاتِ الْبُنُوَّةِ وَقَدْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَتِهِ وَلَهُ مَجَازٌ مُتَعَيِّنٌ فَيُعْمَلُ بِمَجَازِهِ. وَلَا مَعْنَى لِمَا قَالُوا مِنْ اشْتِرَاطِ احْتِمَالِ الْبُنُوَّةِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ؛ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَاطِبَةً اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ لِلشُّجَاعِ هَذَا أَسَدٌ اسْتِعَارَةٌ صَحِيحَةٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشُّجَاعَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْهَيْكَلَ الْمَعْلُومَ بِوَجْهٍ وَلَكِنَّ قَوْلَهُ هَذَا أَسَدٌ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ مَوْضُوعٌ لِإِفَادَةِ مَعْنَى وَهُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ الْهَيْكَلِ الْمَعْلُومِ ثُمَّ اُسْتُعِيرَ لِإِثْبَاتِ لَازِمِهِ وَهُوَ الشَّجَاعَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي الشُّجَاعِ الَّذِي لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْأَسَدِيَّةُ أَصْلًا فَكَذَا قَوْلُهُ هَذَا ابْنِي مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ مَوْضُوعٌ لِلْإِخْبَارِ عَنْ الْبُنُوَّةِ فِي مَحَلٍّ وَهُوَ الِابْنُ الْحَقِيقِيُّ وَاسْتُعِيرَ لِإِثْبَاتِ لَازِمِهِ وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ فِي الْأَكْبَرِ سِنًّا مِنْهُ فَيَصِحُّ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ أَيْضًا إذْ لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ. قَوْلُهُ (أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِبَارَةَ تَتَغَيَّرُ بِهِ دُونَ الْحُكْمِ) يَعْنِي أَنَّ التَّغَيُّرَ الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْمَجَازِ لِلْعِبَارَةِ دُونَ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمَوْضُوعَ لِمَعْنًى إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي مَوْضُوعِهِ فَهُوَ حَقِيقَةٌ وَإِذَا نُقِلَ عَنْهُ وَاسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ اللَّفْظُ وَيَصِيرُ مَجَازًا فَأَمَّا الْحُكْمُ فَلَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ وَالتَّغَيُّرَ كَمَا ذَكَرْنَا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْخَلَفِيَّةَ فِي التَّكَلُّمِ لَا فِي الْحُكْمِ وَزَعَمَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ مَحَلَّ الْمَجَازِ لَهُ لَفْظٌ مَوْضُوعٌ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ يَكُونُ حَقِيقَةً كَلَفْظِ الشُّجَاعِ فِي مَوْضُوعِهِ فَإِذَا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ لَفْظٌ الْمَجَازِ وَهُوَ الْأَسَدُ تَغَيَّرَتْ تِلْكَ الْعِبَارَةُ فَأَمَّا الْحُكْمُ وَهُوَ إثْبَاتُ

وَلَهُ مَجَازٌ مُتَعَيِّنٌ صَارَ مُسْتَعَارًا لِحُكْمِهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ كَالنِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَقَالَا لَفْظُ الْهِبَةِ يَنْعَقِدُ لِحُكْمِهِ الْأَصْلِيِّ فِي الْحُرَّةِ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ بَيْعِ الْحُرَّةِ وَهِبَتِهَا مِثْلُ احْتِمَالِ مَسِّ السَّمَاءِ وَأَمَّا هَذَا فَمُسْتَحِيلٌ بِمَرَّةٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا تَصَرُّفٌ فِي التَّكَلُّمِ فَلَا يُتَوَقَّفُ عَلَى احْتِمَالِ الْحُكْمِ كَالِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَلْفًا إلَّا تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ أَنَّهُ تَقَعُ وَاحِدَةً ذَكَرَهُ فِي الْمُنْتَقَى وَإِيجَابُ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ بَاطِلٌ لَكِنْ مِنْ طَرِيقِ التَّكَلُّمِ صَحِيحٌ وَالِاسْتِثْنَاءُ تَصَرُّفٌ فِي التَّكَلُّمِ بِالْمَنْعِ فَصَحَّ فَكَذَلِكَ هَذَا لِمَا كَانَ تَصَرُّفًا فِي التَّكَلُّمِ صَحَّتْ الِاسْتِعَارَةُ بِهِ لِحُكْمِ حَقِيقَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْعَقِدْ لِإِيجَابِ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ وَمِنْ حُكْمِ الْحَقِيقَةِ عِتْقُهُ مِنْ حِينِ مِلْكِهِ فَجُعِلَ إقْرَارًا بِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالشُّجَاعَةِ لَهُ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِالشُّجَاعِ وَالْأَسَدِ وَعَنْ هَذَا تَوَهَّمُوا أَنَّ قَوْلَ الرَّجُلِ هَذَا أَسَدٌ لِلشُّجَاعِ خَلَفٌ عَنْ قَوْلِهِ هَذَا شُجَاعٌ وَأَنَّ قَوْلَهُ هَذَا ابْنِي فِي مَسْأَلَتِنَا خَلَفٌ عَنْ قَوْلِهِ هَذَا حُرٌّ مِنْ حِينِ مَلَكْته وَإِنَّ عِنْدَهُمَا ثُبُوتَ الشُّجَاعِ بِقَوْلِهِ هَذَا أَسَدٌ خَلَفٌ عَنْ ثُبُوتِ الْهَيْكَلِ الْمَعْلُومِ بِهِ وَثُبُوتَ الْحُرِّيَّةِ بِقَوْلِهِ هَذَا ابْنِي لِمَعْرُوفِ النَّسَبِ الَّذِي هُوَ أَصْغَرُ سِنًّا مِنْهُ خَلَفٌ عَنْ الْبُنُوَّةِ وَكُلُّ ذَلِكَ وَهْمٌ؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ لَا يَكُونُ خَلَفًا إلَّا عَنْ حَقِيقَتِهِ الَّتِي نُقِلَتْ عَنْ مَحَلِّهَا إلَى مَحَلِّ الْمَجَازِ فَأَمَّا عَنْ الْحَقِيقَةِ الثَّابِتَةِ لِمَحَلِّ الْمَجَازِ فَلَا. وَلَوْ كَانَ لَفْظُ الْأَسَدِ خَلَفًا عَنْ الشُّجَاعِ وَلَفْظُ هَذَا ابْنِي خَلَفًا عَنْ هَذَا حُرٌّ كَمَا زَعَمُوا لَا يَتَأَتَّى الْخِلَافُ فِي قَوْلِهِ هَذَا ابْنِي الْأَكْبَرِ سِنًّا مِنْهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ الَّتِي ثَبَتَتْ بِقَوْلِهِ هَذَا حُرٌّ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ فِي هَذَا الْمَحَلِّ بَلْ هُوَ مُتَصَوَّرٌ كَمَا فِي الْأَصْغَرِ سِنًّا مِنْهُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَثْبُتَ الْعِتْقُ عِنْدَهُمَا أَيْضًا لِوُجُودِ شَرْطِ الْمَجَازِ وَهُوَ تَصَوُّرُ حُكْمِ الْأَصْلِ وَالْأَمْرِ بِخِلَافِهِ وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الشُّجَاعُ خَلَفًا عَنْ الْهَيْكَلِ الْمَعْلُومِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْخَلَفِيَّةَ إذْ ذَاكَ تَكُونُ بَيْنَ الْمَعَانِي لَا بَيْنَ الْأَلْفَاظِ وَالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازُ مِنْ أَوْصَافِ اللَّفْظِ بَلْ الْمُرَادُ مِنْ الْخَلَفِيَّةِ فِي الْحُكْمِ أَوْ فِي التَّكَلُّمِ مَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا يُقَالُ كَيْفَ يَكُونُ " هَذَا أَسَدٌ " خَلَفًا عَنْ " هَذَا أَسَدٌ " وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا تَغَايُرٌ وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْخَلَفُ مُغَايِرًا لِلْأَصْلِ إذْ الشَّيْءُ لَا يَكُونُ خَلَفًا عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا الْكَلَامُ فِي مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ غَيْرُهُ فِي مَحَلِّ الْمَجَازِ بِسَبَبِ اخْتِلَافٍ فِي الْمَحَلَّيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّ آثَارَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ فَإِنَّ قَوْلَك هَذَا أَسَدٌ فِي مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ يَدُلُّ عَلَى مَا لَمْ يَدُلَّ هُوَ فِي مَحَلِّ الْمَجَازِ وَكَذَا قَوْلُهُ هَذَا ابْنِي فِي مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ يَدُلُّ عَلَى الْبُنُوَّةِ الَّتِي لَمْ تُوجَدْ فِي مَحَلِّ الْمَجَازِ فَصَحَّتْ الْخَلَفِيَّةُ. قَوْلُهُ (وَلَهُ مَجَازٌ مُتَعَيِّنٌ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِهِ هَذَا أَخِي عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ صَارَ مُسْتَعَارًا لِحُكْمِهِ أَيْ لِلَازِمِ حُكْمِهِ وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ إذْ هِيَ لَازِمَةُ الْبُنُوَّةِ عِنْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ. قَوْلُهُ (كَالنِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ) يَعْنِي إذَا قَالَ وَهَبْت ابْنَتِي مِنْك أَوْ قَالَتْ وَهَبْت نَفْسِي مِنْك عَلَى وَجْهِ النِّكَاحِ يَصِيرُ هَذَا اللَّفْظُ مُسْتَعَارًا لِلنِّكَاحِ وَإِنْ لَمْ يَنْعَقِدْ لِإِيجَابِ حُكْمِ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ؛ لِأَنَّ الْحُرَّةَ لَا تَقْبَلُ ذَلِكَ أَصْلًا فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَقَالَا لَفْظُ الْهِبَةِ كَذَا يَعْنِي أَنَّهُمَا لَا يُسَلِّمَانِ عَدَمَ انْعِقَادِهِ لِحُكْمِهِ الْأَصْلِيِّ فِي هَذَا الْمَحَلِّ وَيَقُولَانِ إنَّ احْتِمَالَ بَيْعِ الْحُرَّةِ وَهِبَتِهَا ثَابِتٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا كَاحْتِمَالِ مَسِّ السَّمَاءِ. أَلَا تَرَى أَنَّ تَمَلُّكَ الْحُرِّ كَانَ مَشْرُوعًا فِي شَرِيعَةِ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَتَّى قَالَ بَنُوهُ {جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 75] فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَحِيلٍ وَلَكِنَّهُ امْتَنَعَ لِعَارِضٍ وَهُوَ عَدَمُ جَوَازِ النَّسْخِ فَأَمَّا هَذَا أَيْ الْبُنُوَّةُ فِي الْأَكْبَرِ سِنًّا مِنْهُ فَمُسْتَحِيلٌ بِمَرَّةٍ أَيْ بِالْكُلِّيَّةِ عَقْلًا وَشَرْعًا عَلَى إنَّا لَمْ نُثْبِتْ النِّكَاحَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَإِنَّمَا نُثْبِتُهُ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ بِحَقِيقَتِهَا تُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْعَيْنِ، وَمِلْكُ النِّكَاحِ عِنْدَنَا فِي حُكْمِ مِلْكِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الْمَرْأَةِ تَصِيرُ مَمْلُوكَةً لِلزَّوْجِ فِي حَقِّ الْوَطْءِ إلَّا أَنَّهُ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَمِلْكُ الْيَمِينِ ثَابِتٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكَانَ ذَلِكَ أَحَقَّ فَإِنَّهُ أَمْكَنَ إثْبَاتُهُ وَإِلَّا أَثْبَتْنَا مِلْكَ النِّكَاحِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ لَا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَلِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ عَلَى مَا عُرِفَ وَمِلْكُ النِّكَاحِ عِبَارَةٌ عَنْ مِلْكِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ وَالْجَوَابُ أَنَّ بَعْدَمَا تَحَقَّقَتْ الِاسْتِحَالَةُ

فَعَتَقَ فِي الْقَضَاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي شَرِيعَتِنَا لَا تَصَوُّرَ لِانْعِقَادِهِ سَبَبًا لِلْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ كَمَا لَوْ ثَبَتَتْ عَقْلًا أَلَا تَرَى أَنَّ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ لَمَّا انْتَسَخَ وَلَمْ يَبْقَ مَشْرُوعًا لَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبًا لِلْحِلِّ أَصْلًا لَمْ يَصِرْ حَتَّى شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عِنْدَهُمَا مَعَ بَقَاءِ الْمَحَلِّيَّةِ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ فَهُنَا أَوْلَى لِارْتِفَاعِ الْمَحَلِّيَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْحَلِفِ عَلَى مَسِّ السَّمَاءِ؛ لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ مَسُّهُ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ فَيَنْعَقِدُ سَبَبًا. وَمَا قَالَا: الْهِبَةُ تَعْمَلُ بِحَقِيقَتِهَا لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِهِ أَحْكَامُ النِّكَاحِ مِنْ مِلْكِ الطَّلَاقِ وَصِحَّةِ الْإِيلَاءِ وَعَدَمِ صِحَّةِ النَّقْلِ إلَى الْغَيْرِ وَسَائِرِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى النِّكَاحِ وَلَوْ كَانَتْ عَامِلَةً بِحَقِيقَتِهَا لَمَلَكَ النَّقْلَ إلَى الْغَيْرِ بِأَسْبَابِ الْمِلْكِ وَلَكَانَ الْعُقْرُ لَهُ فِيمَا إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ وَلَمَلَكَ تَزْوِيجَهَا مِنْ غَيْرِهِ كَالْأَمَةِ فَثَبَتَ أَنَّهَا عَامِلَةٌ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَإِنَّ تَصَوُّرَ ثُبُوتِ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْمَجَازِ وَلَمَّا رَجَعَ الشَّيْخُ إلَى كَلَامِ أَبِي حَنِيفَةَ أَعَادَ ذِكْرَهُ فَقَالَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَعْنِي مُجِيبًا لِكَلَامِهِمَا هَذَا تَصَرُّفٌ فِي التَّكَلُّمِ أَيْ اسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ تَصَرُّفٌ فِي اللَّفْظِ فَكَانَ الْخَلَفِيَّةُ فِي التَّكَلُّمِ فَلَا يُتَوَقَّفُ عَلَى تَصَوُّرِ الْحُكْمِ كَالِاسْتِثْنَاءِ لَمَّا كَانَ تَصَرُّفًا فِي التَّكَلُّمِ لَمْ يَتَوَقَّفْ صِحَّتُهُ عَلَى تَصَوُّرِ الْحُكْمِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَلْفًا إلَّا تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ صَحَّ الْإِيجَابُ وَالِاسْتِثْنَاءُ حَتَّى لَا يَقَعَ إلَّا وَاحِدَةً نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُنْتَقَى وَهُوَ اسْمُ كِتَابٍ لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ أَبِي الْفَضْلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ إيجَابَ مَا وَرَاءِ الثَّلَاثِ وَاسْتِثْنَاءَهُ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ بَاطِلٌ إذْ لَا مُزِيدَ لِلطَّلَاقِ عَلَى الثَّلَاثِ فَكَانَ هَذَا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ اسْتِثْنَاءَ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ وَيَقَعَ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا صَحَّ مِنْ حَيْثُ التَّكَلُّمُ وَالِاسْتِثْنَاءُ تَصَرُّفٌ فِي التَّكَلُّمِ بِالْمَنْعِ مِنْ ثُبُوتِ الْمُسْتَثْنَى صَحَّ الْإِيجَابُ وَالِاسْتِثْنَاءُ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا زَيْنَبُ وَفَاطِمَةُ وَهِنْدُ أَوْ خَدِيجَةُ أَوْ قَالَ عَبْدِي أَحْرَارٌ إلَّا سَالِمًا وَيَزِيعًا وَفَرْقَدَ أَوْ لَيْسَ لَهُ مِنْ الْعَبِيدِ غَيْرُهُمْ صَحَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ وَإِنْ كَانَ فِي الْحُكْمِ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ لِمَا ذَكَرْنَا فَكَذَا هَذَا أَيْ الْمَجَازُ لَمَّا كَانَ تَصَرُّفًا فِي التَّكَلُّمِ صَحَّتْ الِاسْتِعَارَةُ بِهِ أَيْ بِقَوْلِهِ هَذَا ابْنِي أَوْ بِهَذَا الطَّرِيقِ لِحُكْمِ حَقِيقَتِهِ أَيْ لِلَازِمِ مَوْضُوعِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْعَقِدْ لِإِيجَابِ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ أَيْ لِإِثْبَاتِ مَوْضُوعِهِ الْأَصْلِيِّ فِي هَذَا الْمَحَلِّ وَمِنْ حُكْمِ الْحَقِيقَةِ أَيْ وَمِنْ لَوَازِمِ مَوْضُوعِهِ الْأَصْلِيِّ الْعِتْقُ مِنْ حِينِ مِلْكِهِ فَجَعَلَ هَذَا الْكَلَامَ إقْرَارًا بِهِ أَيْ بِالْعِتْقِ مِنْ حِينِ مِلْكِهِ فَعَتَقَ الْعَبْدُ فِي الْقَضَاءِ. قَوْلُهُ (فَعَتَقَ فِي الْقَضَاءِ) يَعْنِي لَمَّا صَارَ قَوْلُهُ هَذَا ابْنِي إقْرَارًا بِالْحُرِّيَّةِ مِنْ حِينِ مِلْكِهِ لَا إنْشَاءً لِعِتْقٍ فِي الْحَالِ يَحْكُمُ الْقَاضِي بِعِتْقِهِ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فِي إقْرَارِهِ؛ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ صَرِيحًا كَاذِبًا وَكَلَامُ الشَّيْخِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي الْإِقْرَارِ كَاذِبًا وَقَدْ صَرَّحَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْبُرْغَرِيُّ فِي طَرِيقَتِهِ بِمَا أَشَارَ الشَّيْخُ إلَيْهِ فَقَالَ. فَإِنْ قِيلَ لَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِ هَذَا الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُجْعَلَ مَجَازًا لِإِنْشَاءِ الْحُرِّيَّةِ أَوْ لِلْإِقْرَارِ بِالْحُرِّيَّةِ لَا وَجْهَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الْحَقِيقَةِ إخْبَارُ الْإِنْشَاءِ وَقَدْ ذَكَرْتُمْ أَنَّ مَعْنَاهُ عَتَقَ عَلَيَّ مِنْ حِينِ مَلَكْته وَهَذَا إقْرَارٌ وَلَيْسَ بِإِنْشَاءٍ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَبْطُلُ بِالْإِكْرَاهِ وَالْهَزْلِ وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ وَحُكْمُ الْإِنْشَاءِ عَلَى خِلَافِهِ وَلَا وَجْهَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ كَذِبٌ مَحْضٌ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ بِالْبُنُوَّةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ وَلَمْ يُوجَدْ إعْتَاقٌ مِنْ جِهَةِ

بِخِلَافِ النِّدَاءِ؛ لِأَنَّهُ لِاسْتِحْضَارِ الْمُنَادَى بِصُورَةِ الِاسْمِ لَا بِمَعْنَاهُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَعْنَى مَطْلُوبًا لَمْ يَجِبْ الِاسْتِعَارَةُ لِتَصْحِيحِ مَعْنَاهُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ بِأَجْرٍ فَإِنَّهُ يَسْتَوِي نِدَاؤُهُ وَخَبَرُهُ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلتَّحْرِيرِ فَصَارَ عَيْنُهُ قَائِمًا مَقَامَ مَعْنَاهُ فَصَارَ الْمَعْنَى مَطْلُوبًا بِكُلِّ حَالٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالسَّيِّدِ وَالْإِقْرَارُ إذَا اتَّصَلَ بِهِ دَلِيلُ الْكَذِبِ يَبْطُلُ كَالْإِكْرَاهِ وَالْهَزْلِ فَإِذَا كَانَ كَذِبًا بِيَقِينٍ أَوْلَى أَنْ يُبْطِلَ قُلْنَا هَذَا مَجَازٌ لِلْإِقْرَارِ بِالْحُرِّيَّةِ مِنْ حِينِ الدُّخُولِ فِي مِلْكِهِ، وَلِهَذَا يَبْطُلُ بِالْكُرْهِ وَالْهَزْلِ وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ. وَقَوْلُهُ إنَّهُ كَذِبٌ بِيَقِينٍ وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ قُلْنَا الِاسْتِحَالَةُ فِي الْبُنُوَّةِ لَا فِي الْحُرِّيَّةِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ عَتَقَ عَلَيَّ مِنْ حِينِ مَلَكْته وَلَوْ نَصَّ عَلَى هَذَا لَمْ يَكُنْ مُحَالًا وَقَوْلُهُ لَمْ يُوجَدْ الْإِعْتَاقُ فَلَمْ يَصِحَّ هَذَا الْإِقْرَارُ قُلْنَا لَوْ صَرَّحَ بِهَذَا الْكَلَامِ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ عَبْدُهُ فِي الْقَضَاءِ ثُمَّ إنْ كَانَ صَادِقًا بِأَنْ سَبَقَ مِنْهُ إعْتَاقٌ يَعْتِقُ الْعَبْدُ فِي الْقَضَاءِ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ إعْتَاقٌ لَا يَعْتِقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى كَذَا هُنَا. قَوْلُهُ (بِخِلَافِ النِّدَاءِ) جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ يَا ابْنِي لَا يَعْتِقُ إلَّا فِي رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعَلَى مَا ذَكَرْت يَلْزَمُ أَنْ يُجْعَلَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ يَا حُرُّ بِطَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ كَمَا جَعَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ كَذَلِكَ فَقَالَ لَا يَلْزَمُ هَذَا؛ لِأَنَّ النِّدَاءَ فِي اللُّغَةِ مَوْضُوعٌ لِاسْتِحْضَارِ الْمُنَادَى بِصُورَةِ الِاسْمِ لَا لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الِاسْمِ فِي الْمُنَادَى أَلَا تَرَى أَنَّك تُنَادِي رَجُلًا فَتَقُولُ يَا حَسَنُ وَيَكُونُ قَبِيحًا وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَوْضُوعًا لِتَحْقِيقِ الْمَعْنَى فِي الْمُنَادَى لَمْ نَشْتَغِلْ بِتَصْحِيحِهِ بِإِثْبَاتِ مُوجِبِهِ اللُّغَوِيِّ الْحَقِيقِيِّ أَوْ الْمَجَازِيِّ فَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَدْ وُضِعَ لِتَحْقِيقِ الْمُخْبَرِ بِهِ فَيَجِبُ تَصْحِيحُهُ بِإِثْبَاتِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ أَوْ الْمَجَازِيِّ إنْ أَمْكَنَ. قَوْلُهُ (بِخِلَافِ قَوْلِهِ يَا حُرُّ) جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ آخَرَ يَرُدُّ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ يَا حُرُّ أَوْ يَا عَتِيقُ يَعْتِقُ كَمَا لَوْ قَالَ هُوَ حُرٌّ فَاسْتَوَى النِّدَاءُ وَالْخَبَرُ وَعَلَى مَا ذَكَرْت يَنْبَغِي أَنْ لَا يَعْتِقَ فِي النِّدَاءِ فَقَالَ إنَّمَا اسْتَوَى النِّدَاءُ وَالْخَبَرُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلتَّحْرِيرِ وَعَلَمٌ لِإِسْقَاطِ الرِّقِّ بِهِ فَكَأَنَّ عَيْنَهُ قَائِمَةٌ مَقَامَ مَعْنَاهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُسَبِّحَ فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ عَبْدِي حُرٌّ يَعْتِقُ فَكَانَ الْمَعْنَى مَطْلُوبًا مِنْهُ بِكُلِّ حَالٍ فَلِهَذَا يَعْتِقُ فِي الْحَالَيْنِ. وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ لَوْ جُعِلَ اسْمُ عَبْدِهِ حُرٌّ أَوْ كَانَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا عِنْدَ النَّاسِ ثُمَّ نَادَاهُ بِهِ فَقَالَ يَا حُرُّ لَمْ يَعْتِقْ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا الِاسْمُ مَعْرُوفًا لَهُ يَعْتِقُ بِهِ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَادَاهُ بِوَصْفٍ يَمْلِكُ إيجَابَهُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ يَا ابْنِي فَإِنَّهُ نِدَاءٌ بِوَصْفٍ لَا يَمْلِكُ إيجَابَهُ فَيُنْظَرُ إلَى مَقْصُودِهِ فِيهِ وَهُوَ الْإِكْرَامُ دُونَ التَّحْقِيقِ فَصَارَ الضَّابِطُ أَنَّ النِّدَاءَ لِاسْتِحْضَارِ الْمُنَادَى بِوَصْفِهِ الْقَائِمِ بِهِ إنْ كَانَ ثَابِتًا كَقَوْلِهِ يَا طَوِيلُ يَا أَسْوَدُ وَهُوَ طَوِيلٌ أَوْ أَسْوَدُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَائِمًا بِهِ فَإِنْ كَانَ وَصْفًا يَصِحُّ ثُبُوتُهُ مِنْ جِهَةِ الْمُنَادَى يَثْبُتُ اقْتِضَاءً كَقَوْلِهِ يَا حُرُّ يَا عَتِيقُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَانَ اسْتِحْضَارًا لِلْمُنَادَى بِصُورَةِ الِاسْمِ كَقَوْلِهِ يَا طَوِيلُ وَهُوَ قَصِيرٌ وَقَوْلِهِ يَا ابْنِي الْأَكْبَرَ سِنًّا مِنْهُ أَوْ الْأَصْغَرَ مِنْهُ وَهُوَ مَعْرُوفُ النَّسَبِ وَبِمَا ذَكَرْنَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ أَعْتَقْتُك قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ أَوْ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ أَصْلًا فَلَمْ يَصِحَّ التَّكَلُّمُ بِهِ فَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِجَعْلِهِ عِبَارَةً عَنْ لَازِمِ حَقِيقَتِهِ إذْ لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ فَيَلْغُو ضَرُورَةً. وَأَمَّا قَوْلُهُ هَذَا أَخِي فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ لِلْأُخُوَّةِ فِي مِلْكِهِ مُوجِبًا وَهُوَ الْعِتْقُ فَيُجْعَلُ كِنَايَةً عَنْ مُوجِبِهِ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ الْأُخُوَّةَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ قَدْ يُرَادُ بِهَا الْأُخُوَّةُ فِي الدِّينِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] .

[العمل بالحقيقة متى أمكن سقط المجاز]

وَمِنْ حُكْمِ هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْحَقِيقَةِ مَتَى أَمْكَنَ سَقَطَ الْمَجَازُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَعَارَ لَا يُزَاحِمُ الْأَصْلَ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَقَدْ يُرَادُ بِهَا الِاتِّحَادُ فِي الْقَبِيلَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف: 65] وَقَدْ يُرَادُ بِهَا الْأُخُوَّةُ فِي النَّسَبِ وَالْمُشْتَرَكِ لَا يَكُونُ حُجَّةً بِدُونِ الْبَيَانِ حَتَّى لَوْ قَالَ هَذَا أَخِي لِأَبِي أَوْ لِأُمِّي يَعْتِقُ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ وَلِأَنَّ الْأُخُوَّةَ لَا يَكُونُ إلَّا بِوَاسِطَةِ الْأَبِ أَوْ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ مُجَاوِرَةٍ فِي صُلْبٍ أَوْ رَحِمٍ وَهَذِهِ الْوَاسِطَةُ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ نَصًّا وَلَا تَثْبُتُ بِمَا ذُكِرَ أَيْضًا فَلَمْ يَصِرْ الْعِتْقُ بِدُونِ الْوَاسِطَةِ حُكْمَ نَصِّهِ فَلَا يَسْتَقِيمُ كِنَايَةً عَنْهُ كَشِرَاءِ الْأَبِ لَا يَكُونُ إعْتَاقًا إلَّا بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ فَمَتَى لَمْ يُوجِبْ الشِّرَاءُ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي لَمْ يَكُنْ إعْتَاقًا. وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ هَذَا جَدِّي؛ لِأَنَّ الْجَدَّ إنَّمَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِوَاسِطَةِ الْأَبِ فَمَا لَمْ يُثْبِتْ الْوَاسِطَةَ نَصًّا أَوْ مُقْتَضَى ثُبُوتِ النَّسَبِ لَمْ يُوجِبْ عِتْقًا فِي مِلْكِهِ فَلَا يَصِيرُ حُكْمًا لَهُ فَلَا يَصِيرُ كِنَايَةً عَنْهُ فَأَمَّا الْوِلَادُ فَنَفْسُهُ عِلَّةُ الْعِتْقِ مَعَ الْمِلْكِ وَقَدْ نَطَقَ بِالْوِلَادِ وَالْمِلْكُ ثَابِتٌ فَيَصْلُحُ كِنَايَةً عَنْهُ وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ الْبُرْغَرِيُّ أَنْ لَا رِوَايَةَ فِي قَوْلِهِ هَذَا جَدِّي فَنَقُولُ بِأَنَّهُ يَعْتِقُ وَأَمَّا قَوْلُهُ لِعَبْدِهِ هَذِهِ بِنْتِي فَلَا يُوجِبُ الْعِتْقَ وَإِنْ أَقَرَّ بِمَا هُوَ سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ هَذِهِ بِنْتِي حُكْمُهُ ثُبُوتُ الْحُرِّيَّةِ بِجِهَةِ الْبِنْتِيَّةِ وَهَذَا الذَّاتُ لَيْسَ بِمَحِلٍّ لِتِلْكَ الْحُرِّيَّةِ أَصْلًا فَإِضَافَتُهَا إلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ إضَافَةِ الْعِتْقِ إلَى الْحِمَارِ فَتَلْغُو. وَلِأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ وَإِذَا كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ الْمُسَمَّى تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْمُسَمَّى فَإِنَّهُ إذَا اشْتَرَى فَصًّا عَلَى أَنَّهُ يَاقُوتٌ أَحْمَرُ فَإِذَا هُوَ يَاقُوتٌ أَصْفَرُ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ لِوُجُودِ الْمُشَارِ إلَيْهِ وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ زُجَاجٌ لَا يَنْعَقِدُ لِعَدَمِ الْمُسَمَّى وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِي بَنِي آدَمَ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ عَلَى مَا عُرِفَ وَقَدْ أَشَارَ إلَى الْعَبْدِ وَسُمِّيَ أُنْثَى فَكَانَتْ الْعِبْرَةُ لِلْمُسَمَّى وَهُوَ مَعْدُومٌ وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْكَلَامِ إيجَابًا وَلَا إقْرَارًا فِي الْمَعْدُومِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ الْبِنْتَ مَجَازًا لِلِابْنِ بِوَجْهٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ وَإِنْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ وَلَدَهُ بِأَنْ كَانَ أَصْغَرَ سِنًّا وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ إذَا قَالَ فَقَأْت عَيْنَك وَعَيْنَاهُ صَحِيحَتَانِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَلَا يُجْعَلُ كِنَايَةً عَنْ الْأَرْشِ الَّذِي هُوَ حُكْمُ الْفُقَهَاء؛ لِأَنَّ الفقاء لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ أَرْشًا فِي حَالَ قِيَامِ الْعَيْنِ فَإِنَّهُ ضَرْبٌ حَتَّى ذَهَبَ نُورَ الْعَيْنِ وَوَجَبَ الْأَرْشُ ثُمَّ بَرَأَتْ وَعَادَ نُورُهَا أَوْ كَانَ قَلَعَ سِنًّا فَيَثْبُتُ لَمْ يَلْزَمْ الْجَانِيَ شَيْءٌ فَثَبَتَ أَنَّ الْجِنَايَةَ وَإِنْ تَحَقَّقَتْ لَمْ يُوجِبْ أَرْشًا حَالَ عَدَمِ أَثَرِهَا فِي الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَسْتَقِمْ كِنَايَةً عَنْهُ فَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَدْفَعُ النُّقُوضَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْعَمَلَ بِالْحَقِيقَةِ مَتَى أَمْكَنَ سَقَطَ الْمَجَازُ] قَوْلُهُ (وَمِنْ حُكْمِ هَذَا الْبَابِ) أَيْ بَابِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ أَوْ مِنْ حُكْمِ هَذَا النَّوْعِ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْحَقِيقَةِ مَتَى أَمْكَنَ سَقَطَ الْمَجَازُ يَعْنِي إذَا دَارَ اللَّفْظُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فَاللَّفْظُ لِحَقِيقَتِهِ إلَى أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهِ مَجَازًا كَقَوْلِهِ رَأَيْت الْيَوْمَ حِمَارًا أَوْ اسْتَقْبَلَنِي أَسَدٌ فِي الطَّرِيقِ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْبَلِيدِ وَالشُّجَاعِ إلَّا بِقَرِينَةٍ زَائِدَةٍ فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فَاللَّفْظُ لِلْبَهِيمَةِ وَالسَّبُعِ وَلَا يَكُونُ مُجْمَلًا. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَصِيرُ مُجْمَلًا يَجِبُ الْوَقْفُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِيهِمَا وَأَمْكَنَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَجَازُ كَمَا أَمْكَنَ إرَادَةُ الْحَقِيقَةِ لَمْ يَكُنْ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْآخَرِ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الِاسْتِعْمَالِ وَلَا مَزِيَّةَ لِلْحَقِيقَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَجَازَ الَّذِي قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْعُرْفُ وَالِاسْتِعْمَالُ أَوْلَى بِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ مِنْ الْحَقِيقَةِ فَعُلِمَ أَنَّ كَوْنَهُ حَقِيقَةً لَا يُؤَثِّرُ فِي كَوْنِهِ أَوْلَى لِحَمْلِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ وَإِذَا حُمِلَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى الْغَالِبِ حَقِيقَةً كَانَ أَوْ مَجَازًا وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ

وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِنَا فِي الْأَقْرَاءِ أَنَّهَا الْحَيْضُ؛ لِأَنَّ الْقُرْءَ لِلْحَيْضِ حَقِيقَةٌ وَلِلطُّهْرِ مَجَازٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْجَمْعِ وَهُوَ مَعْنَى حَقِيقَةِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ لُغَةً وَذَلِكَ صِفَةُ الدَّمِ الْمُجْتَمِعِ فَأَمَّا الطُّهْرُ فَإِنَّمَا وُصِفَ بِهِ بِالْمُجَاوِرَةِ مَجَازًا وَلِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْءِ الِانْتِقَالُ يُقَالُ قَرَأَ النَّجْمُ إذَا انْتَقَلَ وَالِانْتِقَالُ بِالْحَيْضِ لَا بِالطُّهْرِ فَصَارَتْ الْحَقِيقَةُ أَوْلَى ـــــــــــــــــــــــــــــQحَالَ التَّسَاوِي لِأَحَدِهِمَا مَزِيَّةٌ عَلَى الْآخَرِ. وَالصَّحِيحُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْعَامَّةُ؛ لِأَنَّ الْوَاضِعَ إنَّمَا وَضَعَ اللَّفْظَ لِلْمَعْنَى لِيَكْتَفِيَ بِهِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ إذَا سَمِعْتُمْ أَنِّي تَكَلَّمْت بِهَذَا اللَّفْظِ فَاعْلَمُوا أَنِّي عَنَيْت بِهِ هَذَا الْمَعْنَى فَمَنْ تَكَلَّمَ بِلُغَتِهِ وَجَبَ أَنْ يُرِيدَ بِهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَوَجَبَ حَمْلُهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَيْهِ وَلِأَنَّا نَجِدُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مُبَادَرَةَ الذِّهْنِ إلَى فَهْمِ الْحَقِيقَةِ أَقْوَى مِنْ مُبَادَرَتِهِ إلَى فَهْمِ الْمَجَازِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا. وَقَوْلُهُمْ هُمَا فِي الِاسْتِعْمَالِ سَوَاءٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الِاسْتِعْمَالِ لِلْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ لَا يُفْهَمُ إلَّا بِقَرِينَةٍ تَنْضَمُّ إلَيْهِ فَأَنَّى يَتَسَاوَيَانِ وَإِذَا لَمْ يَتَسَاوَيَا كَانَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ أَوْلَى بِاللَّفْظِ مِنْ الْمَعْنَى الْعَارِضِ عِنْدَ عَدَمِ دَلِيلٍ يَصْرِفُهُ إلَيْهِ. قَوْلُهُ (وَذَلِكَ) أَيْ نَظِيرُ هَذَا الْأَصْلِ قَوْلُنَا فِي الْأَقْرَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي النَّصِّ إنَّهَا الْحَيْضُ لَا الْأَطْهَارُ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ لَفْظَ الْأَقْرَاءِ دُونَ الْقُرُوءِ الْمَذْكُورِ فِي النَّصِّ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْقُرُوءِ الَّذِي هُوَ جَمْعُ كَثْرَةٍ جَمْعُ الْقِلَّةِ. قَوْلُهُ (؛ لِأَنَّ الْقُرْءَ لِلْحَيْضَةِ حَقِيقَةٌ وَلِلطُّهْرِ مَجَازٌ) اعْلَمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْقُرْءَ اُسْتُعْمِلَ فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ لُغَةً وَشَرْعًا وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِفَاطِمَةَ بِنْتِ حُبَيْشٍ «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِك» يَعْنِي أَيَّامَ حَيْضِك وَقَالَ «إنَّ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ اسْتِقْبَالًا فَتُطَلِّقَهَا فِي كُلِّ قُرْءٍ تَطْلِيقَةً» يَعْنِي الطُّهْرَ وَقَالَ الشَّاعِرُ: يَا رُبَّ مَوْلًى حَاسِدٍ مُبَاغَضٍ ... عَلَى ذِي ضِغْنٍ وَضَبٍّ فَارِضٍ لَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الْحَائِضِ وَقَال َ الْأَعْشَى: أَفِي كُلِّ عَامٍ أَنْتَ جَاشِمُ غَزْوَةٍ ... تَشُدُّ لِأَقْصَاهَا غَرِيمَ غِرَائِكَا مُورِثَةً مَالًا وَفِي الْحَيِّ رِفْعَةٌ ... لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا وَأَرَادَ بِهِ الطُّهْرَ؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ هُوَ الَّذِي يَضِيعُ فِي زَمَانِ غَيْبَةِ الزَّوْجِ وَأَمَّا الْحَيْضُ فَضَائِعٌ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَلَكِنَّ الِاشْتِبَاهَ وَالْخِلَافَ فِي أَنَّ الِاسْتِعْمَالَيْنِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ أَوْ أَحَدُهُمَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَالْآخَرُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ فَبِالنَّظَرِ إلَى نَفْسِ الِاسْتِعْمَالِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كِلَاهُمَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي مُطْلَقِ الِاسْتِعْمَالِ هُوَ الْحَقِيقَةُ وَالِاسْتِعْمَالُ فِي الْمَجَازِ لَا يَكُونُ بِدُونِ قَرِينَةٍ فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ مُشْتَرَكًا وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ حَيْثُ ذَكَرَهُ فِي نَظَائِرِ الْمُشْتَرَكِ وَبِالنَّظَرِ إلَى أَصْلِ الِاشْتِقَاقِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَيْضِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَفِي الطُّهْرِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا وَأَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ هَهُنَا بِقَوْلِهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَذَا يَعْنِي هَذَا الْوَجْهَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ حَقِيقَةً فِي الْحَيْضِ مَجَازًا فِي الطُّهْرِ وَإِنْ كَانَ الِاشْتِرَاكُ هُوَ الْمُخْتَارُ فِيهِ عِنْدِي فَبِهَذَا عُرِفَ أَنَّ الْمَذْكُورَ هُنَا لَا يُنَاقِضُ الْمَذْكُورَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ. ثُمَّ ذَكَرَ لِلِاشْتِقَاقِ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ أَصْلَ هَذَا التَّرْكِيبِ يَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ يُقَالُ قَرَأْت الشَّيْءَ قُرْآنًا أَيْ جَمَعْته وَضَمَمْت بَعْضَهُ إلَى بَعْضٍ وَيُقَالُ مَا قَرَأَتْ هَذِهِ النَّاقَةُ سَلًا قَطُّ وَمَا قَرَأَتْ جَنِينًا أَيْ لَمْ تَضُمَّ رَحِمَهَا عَلَى وَلَدٍ كَذَا فِي الصِّحَاحِ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: هِجَانُ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينًا وَحَقِيقَةُ الِاجْتِمَاعِ فِي الدَّمِ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ اسْمٌ لِدَمٍ مُجْتَمِعٍ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّ نَفْسَ الدَّمِ لَا يَكُونُ حَيْضًا حَتَّى تَدُومَ فَأَمَّا الطُّهْرُ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ مُجْتَمِعٍ وَلَكِنَّهُ حَالَ اجْتِمَاعِ دَمِ الْحَيْضِ فِي الرَّحِمِ فَإِنَّهُ يَجْتَمِعُ فِي زَمَانِ الطُّهْرِ ثُمَّ يَدِرُّ فَكَانَ الِاسْمُ لِلدَّمِ الْمُجْتَمِعِ فِي نَفْسِهِ حَقِيقَةً وَلِزَمَانِ اجْتِمَاعِ الدَّمِ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ الْمُجَاوِرَةِ فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ كَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْحَيْضِ أَوْلَى وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ رَاجِعٌ إلَى الْقُرْءِ وَهَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقُرْءَ

وَكَذَلِكَ الْعَقْدُ لِمَا يَنْعَقِدُ حَقِيقَةٌ وَلِلْغُرْمِ مَجَازٌ وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ لِلْجَمْعِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ عَلَى مَا عُرِفَ وَالِاجْتِمَاعُ فِي الْوَطْءِ وَيُسَمَّى الْعَقْدُ بِهِ مَجَازًا؛ لِأَنَّهُ سَبَبُهُ حَتَّى يُسَمَّى الْوَطْءُ جِمَاعًا فَكَانَتْ الْحَقِيقَةُ أَوْلَى وَأَمْثِلَةُ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى ـــــــــــــــــــــــــــــQبِمَعْنَى الْمَفْعُولِ فَأَمَّا إذَا كَانَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ فَالْأَمْرُ عَلَى الْعَكْسِ؛ لِأَنَّ زَمَانَ الطُّهْرِ هُوَ الْجَامِعُ لِلدَّمِ فَكَانَ الطُّهْرُ أَحَقَّ بِهَذَا الِاسْمِ وَكَانَ إطْلَاقُهُ عَلَى الْحَيْضِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ لِلْمُجَاوَرَةِ وَالثَّانِي أَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ يَدُلُّ عَلَى الِانْتِقَالِ أَيْضًا يُقَالُ قَرَأَ النَّجْمُ إذَا انْتَقَلَ وَهَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فِي الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَنْتَقِلُ عَنْ الطُّهْرِ إلَى الْحَيْضِ وَعَنْ الْحَيْضِ إلَى الطُّهْرِ غَيْرَ أَنَّ الطُّهْرَ أَصْلٌ وَالْحَيْضَ عَارِضٌ فَحَقِيقَةُ الِانْتِقَالِ تَكُونُ بِالْحَيْضِ لَا بِالطُّهْرِ إذْ لَوْلَا الْحَيْضُ لَمَا وُجِدَ الِانْتِقَالُ فَيَكُونُ الِاسْمُ لِلْحَيْضِ حَقِيقَةً وَلِلطُّهْرِ مَجَازًا لِلْمُجَاوِرَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ مُجَاوِرٌ لِلْحَيْضِ فَكَانَتْ الْحَقِيقَةُ أَوْلَى وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْبُرْغَرِيُّ أَنَّ الطُّهْرَ لَا يَأْخُذُ اسْمَ الْقُرْءِ إلَّا بِمُجَاوِرَةِ الدَّمِ فَإِنَّ كُلَّ طُهْرٍ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْقُرْءِ وَإِنَّمَا يَنْطَلِقُ عَلَى الطُّهْرِ الْمُتَخَلِّلِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ فَالطُّهْرُ أَحَدُ اسْمِ الْقُرْءِ لِأَجَلِ الدَّمِ، وَالدَّمُ يَسْتَحِقُّهُ لِنَفْسِهِ فَكَانَ جَعْلُهُ اسْمًا لِلدَّمِ أَوْلَى. قَالَ وَلِأَنَّ الْحَيْضَ أَوَّلُ الْمُنْتَقِلِ إلَيْهِ وَأَوَّلُ الْمُنْتَقِلِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ الْأَصْلِيَّ لَا يُسَمَّى قُرْءًا وَإِنَّمَا الْقُرْءُ هُوَ الْحَيْضُ وَالطُّهْرُ الَّذِي بَعْدَهُ فَيَثْبُتُ الِانْتِقَالُ أَوَّلًا إلَى الْحَيْضِ ثُمَّ مِنْهُ إلَى الطُّهْرِ فَاسْتَحَقَّ الِاسْمَ قَبْلَ الطُّهْرِ فَكَانَ أَوْلَى بِالْأَصَالَةِ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ الْعَقْدُ) إلَى آخِرِهِ لَا كَفَّارَةٌ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجِبُ فِيهَا الْكَفَّارَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] وَالْغَمُوسُ مَعْقُودَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْعَقْدِ الْمَذْكُورِ عَقْدُ الْقَلْبِ وَهُوَ قَصْدُهُ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ الْعَزِيمَةُ عَقِيدَةً، أَلَا تَرَى أَنَّ مَا يُقَابِلُهُ وَهُوَ اللَّغْوُ مَا جَرَى عَلَى اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَعِنْدَنَا الْعَقْدُ هُوَ رَبْطُ اللَّفْظِ بِاللَّفْظِ لِإِيجَابِ حُكْمٍ، نَحْوُ رَبْطِ لَفْظِ الْيَمِينِ بِالْخَبَرِ الْمُضَافِ إلَيْهِ لِإِيجَابِ الصِّدْقِ مِنْهُ وَتَحْقِيقِهِ وَرَبْطُ الْبَيْعِ بِالشِّرَاءِ لِإِيجَابِ الْمِلْكِ وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ عَقْدُ الْحَبْلِ وَهُوَ شَدُّ بَعْضِهِ بِبَعْضِ وَضِدُّهُ الْحَلُّ ثُمَّ اُسْتُعِيرَ لِلْأَلْفَاظِ الَّتِي عُقِدَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ لِإِيجَابِ حُكْمٍ ثُمَّ اُسْتُعِيرَ لِمَا يَكُونُ سَبَبًا لِهَذَا الرَّبْطِ وَهُوَ عَزِيمَةُ الْقَلْبِ فَصَارَ عَقْدُ اللَّفْظِ أَقْرَبَ إلَى الْحَقِيقَةِ بِدَرَجَةٍ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ أَحَقَّ كَذَا فِي التَّقْوِيمِ وَغَيْرِهِ فَكَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ لِمَا يَنْعَقِدُ حَقِيقَةً أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِيقَةِ أَوْ الْمُرَادُ مِنْهُ الْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ) لَفْظُ النِّكَاحِ قَدْ اُسْتُعْمِلَ فِي الْوَطْءِ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نَاكِحُ الْيَدِ مَلْعُونٌ» وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ: إذَا سَقَى اللَّهُ أَرْضًا صَوْبَ غَادِيَةٍ ... فَلَا سَقَى اللَّهُ أَرْضَ الْكُوفَةِ الْمَطَرَا التَّارِكِينَ عَلَى طُهْرٍ نِسَاءَهُمْ ... وَالنَّاكِحِينَ بِشَطْأَيْ دِجْلَةَ الْبَقَرَا وَقَوْلِ الْآخَرِ: يُحِبُّ الْمَدِيحَ أَبُو خَالِدٍ ... وَيَهْرُبُ مِنْ صِلَةِ الْمَادِحِ كَبِكْرٍ تُحِبُّ لَذِيذَ النِّكَاحِ ... وَتَهْرُبُ مِنْ صَوْلَةِ النَّاكِحِ وَقَدْ اُسْتُعْمِلَ فِي الْعَقْدِ أَيْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] . وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «تَنَاكَحُوا تَوَالَدُوا تَكْثُرُوا» وَيُقَالُ كُنَّا فِي نِكَاحِ فُلَانٍ إلَّا أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي الْوَطْءِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ مَعْنَوِيٌّ مَأْخُوذٌ مِنْ الضَّمِّ وَالْجَمْعِ يُقَالُ انْكِحْ الصَّبْرَ أَيْ الْتَزِمْهُ وَضُمَّهُ إلَيْك وَيُقَالُ فِي الْمَثَلِ أَنْكَحْنَا الْفَرِيَّ فَسَنَرَى أَيْ جَمَعْنَا بَيْنَ الْعِيرِ وَالْحِمَارِ فَسَنَرَى مَا يَحْدُثُ كَذَا قِيلَ وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: أَنْكَحْت ضَمَّ صَفَاهَا حَفَّ يَعْمَلُهُ ... تَغَشْمَرَتْ بِي إلَيْك السَّهْلَ وَالْجَبَلَا أَيْ أَلْزَمْت وَضَمَمْت وَمَعْنَى الضَّمِّ وَالْجَمْعِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ حَقِيقَةً فِي

وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الدَّعْوَى فِي رَجُلٍ لَهُ أَمَةٌ وَلَدَتْ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ فِي بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ فَقَالَ الْمَوْلَى أَحَدُ هَؤُلَاءِ وَلَدِي ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ أَنَّهُ يَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْوَطْءِ بِمَا يَحْصُلُ مِنْ الِاتِّحَادِ بَيْنَ الذَّاتَيْنِ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ جِمَاعًا وَفِي الْعَقْدِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى ذَلِكَ الضَّمِّ، أَوْ لِأَنَّ فِيهِ ضَمًّا حُكْمِيًّا فَكَانَتْ الْحَقِيقَةُ أَوْلَى عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ حَمْلَ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] عَلَى الْوَطْءِ كَمَا حَمَلَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا لِيَثْبُتَ بِإِطْلَاقِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِالزِّنَا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْعَقْدِ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا قِيلَ وَلَكِنَّ عَامَّةَ مَشَايِخِنَا وَجُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ هُوَ الْعَقْدُ قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ لَمْ يَرِدْ لَفْظُ النِّكَاحِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا فِي مَعْنَى الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْوَطْءِ مِنْ بَابِ التَّصْرِيحِ بِهِ وَمِنْ آدَابِ الْقُرْآنِ الْكِنَايَةُ عَنْهُ بِلَفْظِ الْمُمَاسَّةِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالْقُرْبَانِ وَالتَّغَشِّي وَالْإِتْيَانِ. وَقَوْلُهُ حَتَّى سُمِّيَ الْوَطْءُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَالِاجْتِمَاعُ فِي الْوَطْءِ (فَإِنْ قِيلَ) فِيمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْمِثَالَيْنِ اسْتِعَارَةُ اسْمِ الْمُسَبَّبِ لِلسَّبَبِ، وَقَدْ أَثْبَتُّمْ ذَلِكَ (قُلْنَا) الْمُسَبَّبُ مَخْصُوصٌ بِالسَّبَبِ فِي هَذَيْنِ الْمِثَالَيْنِ فَكَانَا فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ فَيَجُوزُ اسْتِعَارَتُهُ لِلسَّبَبِ كَاسْتِعَارَةِ اسْمِ الْمَعْلُولِ لِلْعِلَّةِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُسَبَّبَ فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ وَهُوَ انْعِقَادُ اللَّفْظَيْنِ لَا يَصِيرُ عَقْدًا حَقِيقَةً إلَّا بِعَزِيمَةِ الْقَلْبِ وَقَصْدِهِ إذْ اللِّسَانُ مُعَبِّرٌ عَمَّا فِي الضَّمِيرِ، وَلِهَذَا لَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ مَنْ لَيْسَ لَهُ قَصْدٌ صَحِيحٌ كَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَالْمَجْنُونِ وَكَذَا الْوَطْءُ الْمَقْصُودُ مَخْصُوصٌ بِالْعَقْدِ لَيْسَ لَهُ طَرِيقٌ سِوَاهُ عَلَى مَا يَقْتَضِيه الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ، وَوَطْءُ الْإِمَاءِ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ وَهُوَ بَابُ الِاسْتِخْدَامِ عَلَى مَا عُرِفَ كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ وَلَا يَخْلُو عَنْ تَمَحُّلٍ وَتَكَلُّفٍ. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ الْمَجَازَ لَا يُزَاحِمُ الْحَقِيقَةَ وَلَا يُعَارِضُهَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى آخِرِهِ أَمَةٌ وَلَدَتْ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ فِي بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ بِأَنْ كَانَ بَيْنَ كُلِّ وَلَدَيْنِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا وَلَيْسَ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ فَقَالَ الْمَوْلَى فِي صِحَّتِهِ: أَحَدُ هَؤُلَاءِ وَلَدِي ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ نَسَبَهُ مَجْهُولٍ، وَنَسَبُ الْمَجْهُولِ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مِنْ أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْمَجْهُولِ مَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لِيَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِخَطَرِ الْبَيَانِ وَالنَّسَبُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ. وَتَعْتِقُ الْجَارِيَةُ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهَا بِأُمِّيَّةِ الْوَلَدِ وَيَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ دَعْوَةَ النَّسَبِ إذَا لَمْ تَعْمَلْ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ كَانَ إقْرَارًا بِالْحُرِّيَّةِ عَلَى أَصْلِهِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْأَكْبَرِ سِنًّا مِنْهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ أَحَدُهُمْ حُرٌّ فَيَعْتِقُ ثُلُثُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَعْتِقُ مِنْ الْأَكْبَرِ ثُلُثُهُ وَمِنْ الْأَوْسَطِ نِصْفُهُ وَالْأَصْغَرُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مَتَى لَمْ يُمْكِنْ اعْتِبَارُهَا عَلَى حُكْمِ الْوِلَادِ يَلْغُو أَصْلًا وَمَتَى أَمْكَنَ مِنْ وَجْهٍ نَزَلَ الْعِتْقُ عَلَى حُكْمِ الْوِلَادِ كَأَنَّهُ ثَابِتٌ عَلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ بَعْدَ هَذَا فِي مَعْرُوفِ النَّسَبِ إذَا ادَّعَاهُ الْمَوْلَى أَنَّهُ ابْنُهُ يَعْتِقُ وَلَا يُقْضَى بِالنَّسَبِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَ هَهُنَا مُمْكِنٌ فِي الْجُمْلَةِ فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا يُقْضَى بِالنَّسَبِ لِلْجَهَالَةِ وَلَكِنَّ الْوِلَادَ مُمْكِنٌ عَلَى مَا ادَّعَى فَيَنْزِلُ الْعِتْقُ عَلَى اعْتِبَارِهِ وَإِذَا نَزَلَ عَلَى اعْتِبَارِهِ عَتَقَ مِنْ الْأَكْبَرِ ثُلُثُهُ؛ لِأَنَّهُ إنْ عَنَاهُ عَتَقَ وَلَا يَعْتِقُ إنْ عَنَى الْآَخَرَيْنِ وَيَعْتِقُ نِصْفُ الْأَوْسَطِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتِقُ إنْ عَنَاهُ وَكَذَا إنْ عَنَى الْأَكْبَرَ؛ لِأَنَّهُ وَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ فَيَعْتِقُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى كَمَا تَعْتِقُ أُمُّهُ وَلَا تَعْتِقُ إنْ عَنَى الْأَصْغَرَ وَأَحْوَالُ الْإِصَابَةِ حَالَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الرِّوَايَاتِ الظَّاهِرَةِ بِخِلَافِ أَحْوَالِ الْحِرْمَانِ فَلِهَذَا يَعْتِقُ نِصْفُهُ. وَأَمَّا الْأَصْغَرُ فَهُوَ حُرٌّ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إلَّا أَنَّ

[إذا كانت الحقيقة متعذرة أو مهجورة صير إلى المجاز]

وَلَا يُعْتَبَرُ مَا يُصِيبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ حَتَّى يَعْتِقَ الثَّالِثُ كُلُّهُ وَنِصْفُ الثَّانِي كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ إصَابَتَهُ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ فِي مُقَابَلَةِ إصَابَتِهِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَجَازِ مِنْ الْحَقِيقَةِ وَأَمْثِلَةُ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى. وَإِذَا كَانَتْ الْحَقِيقَةُ مُتَعَذِّرَةٌ أَوْ مَهْجُورَةٌ صِيرَ إلَى الْمَجَازِ بِالْإِجْمَاعِ لِعَدَمِ الْمُزَاحَمَةِ أَمَّا الْمُتَعَذِّرُ فَمِثْلُ الرَّجُلِ يَحْلِفُ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ أَوْ الْكَرْمَةِ أَنَّهُ يَقَعُ عَلَى مَا يَتَّخِذُ مِنْهُ مَجَازًا بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الشَّاةِ أَوْ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ أَوْ مِنْ هَذَا الرُّطَبِ فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَى عَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ قَائِمَةٌ وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الدَّقِيقِ وَقَعَ عَلَى مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ مُتَعَذِّرَةٌ وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْبِئْرِ لَمْ يَقَعْ عَلَى الْكَرْعِ وَهُوَ حَقِيقَتُهُ لِمَا قُلْنَا وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا أَكَلَ عَيْنَ الدَّقِيقِ أَوْ تَكَلَّفَ فَكَرَعَ مِنْ الْبِئْرِ فَقِيلَ لَمَّا كَانَ مُتَعَذِّرًا لَمْ يَكُنْ مُرَادًا ـــــــــــــــــــــــــــــQأَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يَعْتَبِرْ هَذِهِ الْأَحْوَالَ؛ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ وَلَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ وَلِأَنَّ جِهَةَ الْحُرِّيَّةِ مُخْتَلِفَةٌ وَحُكْمُهَا مُخْتَلِفٌ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مَقْصُودًا بِالدَّعْوَةِ كَانَ حُرَّ الْأَصْلِ وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ غَيْرَهُ كَانَتْ حُرِّيَّتُهُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لِلْأُمِّ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى وَبَيْنَ كَوْنِهِ مَقْصُودًا أَوْ تَبَعًا مُنَافَاةٌ وَكَذَلِكَ بَيْنَ حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ وَحُرِّيَّةِ الْعِتْقِ مُنَافَاةٌ فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْجِهَتَيْنِ جَمِيعًا فَلِهَذَا قَالَ يَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثُهُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ. قَوْلُهُ (وَلَا يُعْتَبَرُ مَا يُصِيبُ كُلُّ وَاحِدٍ) يَعْنِي الْأَوْسَطَ وَالْأَصْغَرَ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ لِأَنَّ إصَابَتَهُ أَيْ إصَابَةَ الْعِتْقِ إيَّاهُ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَجَازِ مِنْ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِوَاسِطَةٍ وَمُتَوَقِّفٌ عَلَيْهَا تَوَقُّفَ الْمَجَازِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَمَا يُصِيبُهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى شَيْءٍ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْحَقِيقَةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إلَّا فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ يَعْتِقُ مِنْ الْأَكْبَرِ نِصْفُهُ؛ لِأَنَّ تَرَدَّدَتْ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَقَطْ إمَّا أَنْ يَكُونَ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ الْمَوْلَى فَيَكُونُ حُرًّا كُلُّهُ أَوْ لَا يَكُونُ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْهُ فَلَا يَعْتِقُ شَيْءٌ مِنْهُ فَلِهَذَا عَتَقَ نِصْفُهُ وَسَعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ. [إذَا كَانَتْ الْحَقِيقَةُ مُتَعَذِّرَةٌ أَوْ مَهْجُورَةٌ صِيرَ إلَى الْمَجَازِ] قَوْلُهُ (مُتَعَذِّرَةٌ أَوْ مَهْجُورَةٌ) الْمُتَعَذِّرَةُ مَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِمَشَقَّةٍ كَأَكْلِ النَّخْلَةِ، وَالْمَهْجُورَةُ مَا يَتَيَسَّرُ إلَيْهِ الْوُصُولُ وَلَكِنَّ النَّاسَ تَرَكُوهُ كَوَضْعِ الْقَدَمِ وَقِيلَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُتَعَذِّرَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ وَإِنْ تَحَقَّقَ وَالْمَهْجُورُ قَدْ يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ إذَا صَارَ فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِ الْمَجَازِ. قَوْلُهُ (لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ) إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَيَمِينُهُ تَقَعُ عَلَى عَيْنِهَا إنْ كَانَتْ مِمَّا يُؤْكَلُ كَالرِّيبَاسِ وَقَصَبِ السُّكْرِ الرَّطْبِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَعَلَى ثَمَرَتِهَا إنْ كَانَتْ لَهَا ثَمَرَةٌ كَالنَّخْلَةِ وَالْكَرْمَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا ثَمَرَةٌ فَعَلَى ثَمَنِهَا كَالْخِلَافِ وَنَحْوِهِ وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَأَمَّا إذَا نَوَى شَيْئًا فَيَمِينُهُ عَلَى مَا نَوَى إنْ كَانَ اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ كَذَا نُقِلَ عَنْ الْعَلَّامَةِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْكَرْدِرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قَوْلُهُ (لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْبِئْرِ) إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْبِئْرِ وَهِيَ مَلِيءٍ فَيَمِينُهُ تَقَعُ عَلَى الْكَرْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا عَلَى الِاغْتِرَافِ وَعِنْدَهُمَا تَقَعُ عَلَى الِاغْتِرَافِ كَذَا فِي بَعْضِ شُرُوحِ الْجَامِعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَلِئَ فَيَمِينُهُ عَلَى الِاغْتِرَافِ لَا عَلَى الْكَرْعِ بِالِاتِّفَاقِ لِتَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ فَإِنْ تَكَلَّفَ فَكَرَعَ مِنْهَا قِيلَ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ إذَا صَارَتْ مَوْجُودَةً لَمْ تَبْقَ مُتَعَذِّرَةً فَكَانَ اعْتِبَارُهَا أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ الْمَجَازِ وَلِأَنَّهَا إذَا صَارَتْ مَوْجُودَةً وَانْتَفَى التَّعَذُّرُ كَانَتْ دَاخِلَةً فِي عُمُومِ الْمَجَازِ هُوَ شُرْبُ الْمَاءِ الْمُجَاوِرِ لِلْبِئْرِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْفُرَاتِ عِنْدَهُمَا وَقِيلَ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ لَمَّا صَارَ مُرَادًا لِتَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ سَقَطَ اعْتِبَارُهَا لِامْتِنَاعِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ لَا يَشْرَبُ مِنْ الْفُرَاتِ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ عُمُومَ الْمَجَازِ وَهُوَ إرَادَةُ الْمَاءِ الْمُجَاوِرِ لِلْفُرَاتِ تَنَاوَلَ الْحَقِيقَةَ وَهِيَ الْكَرْعُ فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْبِئْرِ فَمَجَازُهَا وَهُوَ إرَادَةُ الِاغْتِرَافِ لَا يَتَنَاوَلُ الْحَقِيقَةَ فَلَا يَحْنَثُ بِالْكَرْعِ. وَإِنَّمَا جَعَلَ كَلَامَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْفُرَاتِ عِبَارَةً عَنْ الْمَاءِ الْمُجَاوِرِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ وَهِيَ الْكَرْعُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِيهِ عُرْفًا وَشَرْعًا كَالِاغْتِرَافِ فَجُعِلَ عِبَارَةً عَنْ الْمَاءِ الْمُجَاوِرِ لِلْفُرَاتِ لِيَتَنَاوَلَ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْبِئْرِ فَالْحَقِيقَةُ فِيهَا مُتَعَذِّرَةٌ غَيْرُ مُسْتَعْمَلَةٍ الْعُرْفُ فِيهَا الِاغْتِرَافُ لَا غَيْرُ فَجُعِلَ كَلَامُهُ عِبَارَةً عَنْهُ فَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْكَرْعُ

فَلَا يَحْنَثُ وَقِيلَ بَلْ الْحَقِيقَةُ لَا تَسْقُطُ بِحَالٍ فَيَحْنَثُ وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَنْكِحُ فُلَانَةَ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ أَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْعَقْدِ فَإِنْ زَنَى بِهَا لَمْ يَحْنَثْ فَأَسْقَطُوا حَقِيقَتَهُ وَأَمَّا الْمَهْجُورَةُ فَمِثْلُ مَنْ حَلَفَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلَانٍ أَنَّ الْحَقِيقَةَ مَهْجُورَةٌ وَالْمَجَازُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ وَهُوَ الدُّخُولُ فَحَنِثَ كَيْفَ دَخَلَ وَمِثَالُهُ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ صُرِفَ إلَى جَوَابِ الْخَصْمِ مَجَازًا فَيَتَنَاوَلُ الْإِنْكَارَ وَالْإِقْرَارَ بِإِطْلَاقِهِ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ مَهْجُورَةٌ شَرْعًا وَالْمَهْجُورُ شَرْعًا مِثْلُ الْمَهْجُورِ عَادَةً أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ هَذَا الصَّبِيُّ لَمْ يَتَقَيَّدْ بِصِبَاهُ؛ لِأَنَّ هِجْرَانَ الصَّبِيِّ مَهْجُورٌ شَرْعًا ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ (حَلَفَ أَنْ لَا يَنْكِحَ) إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ أَوْ لِمَنْكُوحَتِهِ إنْ نَكَحْتُك فَكَذَا وَقَعَتْ يَمِينُهُ عَلَى الْوَطْءِ لِمَا مَرَّ أَنَّ النِّكَاحَ لِلْوَطْءِ حَقِيقَةٌ وَلِلْعَقْدِ مَجَازٌ فَإِنْ أَعْتَقَ الْأَمَةَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَوْ أَبَانَ الْمَنْكُوحَةَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَا يَحْنَثُ وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ أَجْنَبِيَّةً وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَقَعَتْ يَمِينُهُ عَلَى الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ مَهْجُورَةٌ شَرْعًا وَعَقْلًا فَإِنْ زَنَى بِهَذِهِ الْأَجْنَبِيَّةِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ لِتَعَذُّرِهِ شَرْعًا فَكَذَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ الْمَهْجُورَ عَادَةً كَالْمَهْجُورِ شَرْعًا. قَوْلُهُ (التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ) إلَى آخِرِهِ إذَا وَكَّلَ رَجُلًا بِالْخُصُومَةِ مُطْلَقًا فَأَقَرَّ عَلَى مُوَكِّلِهِ فِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلَ وَزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ وَهِيَ الْمُنَازَعَةُ وَالْمُشَاجَرَةُ وَالْإِقْرَارُ مُسَالَمَةٌ وَمُوَافَقَةٌ فَكَانَ ضِدَّ مَا أَمَرَ بِهِ وَالتَّوْكِيلُ بِالشَّيْءِ لَا يَتَضَمَّنُ ضِدَّهُ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ إقْرَارُهُ وَهُوَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّا تَرَكْنَا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ وَجَعَلْنَا كَلَامَهُ تَوْكِيلًا بِالْجَوَابِ مَجَازًا إطْلَاقًا لِاسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ؛ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ سَبَبُ الْجَوَابِ أَوْ إطْلَاقًا لِاسْمِ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الْإِنْكَارَ الَّذِي يَنْشَأُ مِنْهُ الْخُصُومَةُ بَعْضُ الْجَوَابِ فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ الْإِنْكَارُ وَالْإِقْرَارُ وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ إنَّمَا يَصِحُّ شَرْعًا بِمَا يَمْلِكُهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ وَاَلَّذِي يُتَيَقَّنُ بِهِ أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِلْمُوَكِّلِ الْجَوَابُ لَا الْإِنْكَارُ فَإِنَّهُ إذَا عُرِفَ الْمُدَّعِي مُحِقًّا لَا يَمْلِكُ الْإِنْكَارَ شَرْعًا وَتَوْكِيلُهُ بِمَا لَا يَمْلِكُ لَا يَجُوزُ شَرْعًا وَالدِّيَانَةُ تَمْنَعُهُ مِنْ قَصْدِ ذَلِكَ فَكَانَ مَهْجُورًا شَرْعًا وَالْمَهْجُورُ شَرْعًا كَالْمَهْجُورِ عَادَةً فَلِهَذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمَجَازِ كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ اثْنَيْنِ بِبَيْعِ أَحَدِهِمَا نِصْفَهُ مُطْلَقًا يَنْصَرِفُ بَيْعُهُ إلَى نَصِيبِهِ خَاصَّةً لِتَصْحِيحِ عَقْدِهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي وَغَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ أَقَامَهُ مُقَامَ نَفْسِهِ مُطْلَقًا فَيَمْلِكُ مَا كَانَ الْمُوَكِّلُ مَالِكًا لَهُ وَالْمُوَكِّلُ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَغَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَكَذَا الْوَكِيلُ وَعِنْدَهُمَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْجَوَابَ إنَّمَا يُسَمَّى خُصُومَةً مَجَازًا إذَا حَصَلَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَرَتَّبَ عَلَى خُصُومَةِ الْآخَرِ إيَّاهُ يُسَمَّى بِاسْمِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وَالْمُجَازَاةُ لَا يَكُونُ سَيِّئَةً وَلِأَنَّ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ مَجْلِسُ الْخُصُومَةِ فَمَا يَجْرِي فِيهِ يُسَمَّى خُصُومَةً مَجَازًا وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ. وَإِلَى قَوْلِهِمَا أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ صُرِفَ إلَى جَوَابِ الْخَصْمِ مَجَازًا؛ لِأَنَّ جَوَابَ الْخَصْمِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي مَجْلِسِ الْخُصُومَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. قَوْلُهُ (لَمْ يَتَقَيَّدْ بِزَمَانِ صِبَاهُ) إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الصَّبِيَّ لَا يَتَقَيَّدُ بِزَمَانِ صِبَاهُ حَتَّى لَوْ كَلَّمَهُ بَعْدَ مَا كَبِرَ يَحْنَثُ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْيَمِينَ مَتَى عُقِدَتْ عَلَى شَيْءٍ بِوَصْفٍ فَإِنْ صَلَحَ دَاعِيًا إلَى الْيَمِينِ يَتَقَيَّدُ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُنَكَّرًا أَوْ مُعَرَّفًا احْتِرَازٌ عَنْ الْإِلْغَاءِ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا أَوْ هَذَا الرُّطَبَ يَتَقَيَّدُ بِالْوَصْفِ حَتَّى لَوْ أَكَلَهُ بَعْدَمَا صَارَ تَمْرًا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ يَصْلُحُ دَاعِيًا إلَى الْيَمِينِ لَنْ يَضُرَّهُ أَكْلُ الرُّطَبِ وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ دَاعِيًا إلَى الْيَمِينِ فَإِنْ كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مُنَكَّرًا يَتَقَيَّدُ بِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ إذْ ذَاكَ يَصِيرُ مَقْصُودًا بِالْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الْمُعَرَّفَ لِلْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَلَوْ تُرِك اعْتِبَارُهُ بَطَلَتْ الْيَمِينُ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ ضَرُورَةً كَمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمَ جَمْلٍ فَأَكَلَ لَحْمَ كَبْشٍ

وَعَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ يَخْرُجُ قَوْلُهُمْ فِي رَجُلٍ قَالَ لِعَبْدِهِ - وَمِثْلُهُ يُولَدُ لِمِثْلِهِ وَهُوَ مَعْرُوفُ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِهِ -: هَذَا ابْنِي أَنَّهُ يَعْتِقُ عَمَلًا بِحَقِيقَتِهِ دُونَ مَجَازِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ فَالنَّسَبُ قَدْ يَثْبُتُ مِنْ زَيْدٍ وَيَشْتَهِرُ مِنْ عَمْرٍو فَيَكُونُ الْمُقِرُّ مُصَدَّقًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الدَّعْوَى وَالْعَتَاقِ أَنَّ الْأُمَّ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا يَحْنَثُ وَإِنْ كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مُعَرَّفًا بِالْإِشَارَةِ لَا يَتَقَيَّدُ الْيَمِينُ بِالْوَصْفِ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمَ هَذَا الْحَمَلِ فَأَكَلَهُ بَعْدَمَا صَارَ كَبْشًا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ لِلتَّقْيِيدِ أَوْ التَّعْرِيفِ وَلَا يَصْلُحُ لِلتَّقْيِيدِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ دَاعِيًا إلَى الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ مَنْ امْتَنَعَ عَنْ أَكْلِ لَحْمِ الْحَمَلِ لِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ يَكُونُ أَشَدَّ امْتِنَاعًا مِنْ أَكْلِ لَحْمِ الْكَبْشِ وَلَا لِلتَّعْرِيفِ أَيْضًا لِحُصُولِ التَّعْرِيفِ بِمُعَرِّفٍ أَقْوَى مِنْهُ وَهُوَ الْإِشَارَةُ إذْ هِيَ فَوْقَ الْوَصْفِ فِي التَّعْرِيفِ لِكَوْنِهَا بِمَنْزِلَةِ وَضْعِ الْيَدِ عَلَى الْمُشَارِ إلَيْهِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْمَجَازِ وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ عِبَارَةً عَنْ الذَّاتِ كَأَنَّهُ قَالَ لَا آكُلُ لَحْمَ هَذَا الْحَيَوَانِ. وَإِذَا عَرَفْت هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَقَيَّدَ الْيَمِينُ فِي قَوْلِهِ لَا أُكَلِّمُ هَذَا الصَّبِيَّ بِوَصْفِ الصِّبَا؛ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ دَاعِيًا إلَى الْحَلِفِ بِتَرْكِ الْكَلَامِ مَعَ الصِّبْيَانِ لِسَفَاهَتِهِمْ وَقِلَّةِ عُقُولِهِمْ وَسُوءِ آدَابِهِمْ كَوَصْفِ الرُّطُوبَةِ، وَلِهَذَا يَصْلُحُ دَاعِيًا إلَى الْيَمِينِ فِي قَوْلِهِ لَا أُكَلِّمُ صَبِيًّا إلَّا أَنَّ هِجْرَانَ الصَّبِيِّ بِتَرْكِ الْكَلَامِ مَعَهُ حَرَامٌ مَهْجُورٌ شَرْعًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَلَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا فَلَيْسَ مِنَّا» وَفِي تَرْكِ الْكَلَامِ تَرْكُ التَّرَحُّمِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَهْجُورِ عَادَةً فَيَتْرُكُ الْحَقِيقَةَ وَيُصَارُ إلَى الْمَجَازِ وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ قَالَ لَا أُكَلِّمُ هَذَا الذَّاتَ بِطَرِيقِ إطْلَاقِ اسْم الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ فَإِذَا كَلَّمَهُ بَعْدَ زَوَالِ الصِّفَةِ يَحْنَثُ لِبَقَاءِ الذَّاتِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ لَا أُكَلِّمُ صَبِيًّا حَيْثُ يَتَقَيَّدُ بِالصِّبَا وَإِنْ كَانَ حَرَامًا مَهْجُورًا شَرْعًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَقْصُودًا بِالْحَلِفِ لِكَوْنِهِ هُوَ الْمُعَرِّفُ لِلْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ كَمَا بَيَّنَّا فَيَجِبُ تَقْيِيدُ الْيَمِينِ بِهِ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا كَمَنْ حَلَفَ لَيَشْرَبَنَّ الْيَوْمَ خَمْرًا أَوْ لَيَسْرِقَنَّ اللَّيْلَةَ يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا لِصَيْرُورَةِ الشُّرْبِ وَالسَّرِقَةِ مَقْصُودَيْنِ بِالْيَمِينِ فَيَحْنَثُ إنْ لَمْ يَشْرَبْ أَوْ لَمْ يَسْرِقْ كَذَا هُنَا. قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ) أَيْ الْجُمْلَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُعْمَلَ فِيهَا بِالْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ لَا بِالْمَجَازِ يُخَرَّجُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ إثْبَاتَ الْعِتْقِ فِيهَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ لَا بِطَرِيقِ أَنَّ اللَّفْظَ صَارَ مَجَازًا لِلتَّحْرِيرِ. وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِجِهَةِ الْحَقِيقَةِ مُمْكِنٌ فَإِنَّ النَّسَبَ قَدْ يَثْبُتُ مِنْ زَيْدٍ بِأَنْ كَانَ الْفِرَاشُ لَهُ فِي الْبَاطِنِ بِأَنْ كَانَتْ مَنْكُوحَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ حَقِيقَةً وَلَا يُمْكِنُهُ الْإِثْبَاتُ لِعَارِضٍ وَيَشْتَهِرُ مِنْ عَمْرٍو لِوُجُودِ ظَاهِرِ الدَّلِيلِ فَلَا يُصَدَّقُ الْمُقِرُّ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ وَلَكِنْ يُصَدَّقُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حَقِّهِ وَيُجْعَلُ كَأَنَّ النَّسَبَ ثَابِتٌ مِنْهُ فَيَثْبُتُ أَحْكَامُ النَّسَبِ فِي حَقِّهِ بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ لَا بِاعْتِبَارِ الْمَجَازِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْجَارِيَةَ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَلَوْ صَارَ مَجَازًا لَمَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ أَنْتَ حُرٌّ بَلْ إنَّمَا يَعْتِقُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهِ وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ فَوَلَدَتْ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ فِي بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ فَقَالَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ وَلَدِي ثُمَّ مَاتَ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ يَعْتِقُ مِنْ الْأَوَّلِ الثُّلُثُ وَمِنْ الثَّانِي النِّصْفُ وَكُلُّ الْآخَرِ وَلَوْ كَانَ الْعِتْقُ فِي قَوْلِهِ هَذَا ابْنِي بِطَرِيقِ الْمَجَازِ لَمَا عَتَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَّا الثُّلُثُ كَمَا لَوْ أَنْشَأَ الْعِتْقَ فِي أَحَدِهِمْ وَمَاتَ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ وَلَمَا كَانَ الْعِتْقُ مِنْهُمْ عَلَى الِاخْتِلَافِ عُلِمَ أَنَّ ثُبُوتَ الْعِتْقِ بِاحْتِمَالِ النَّسَبِ وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ فِي صِحَّتِهِ لِيَسْتَقِيمَ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَ هَؤُلَاءِ وَلَمْ يُجِزْ الْوَرَثَةُ وَقِيمَتُهُمْ عَلَى السَّوَاءِ يُجْعَلُ كُلُّ رَقَبَةٍ سِتَّةَ أَسْهُمٍ لِحَاجَتِنَا إلَى حِسَابٍ لَهُ نِصْفٌ وَثُلُثٌ وَأَقَلُّهُ سِتَّةٌ ثُمَّ يَجْمَعُ سِهَامَ الْعِتْقِ وَهِيَ سَهْمَانِ وَثَلَاثَةٌ وَسِتَّةٌ فَتَبْلُغُ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا وَقَدْ ضَاقَ ثُلُثُ الْمَالِ وَهُوَ سِتَّةٌ عَنْهُ فَيَجْعَلُ كُلَّ رَقَبَةٍ أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا فَيَعْتِقُ مِنْ الْأَكْبَرِ سَهْمَانِ وَيَسْعَى

قَالَ فِي الْجَامِعِ فِي عَبْدٍ لَهُ ابْنٌ وَلِابْنِهِ ابْنَانِ فَقَالَ الْمَوْلَى فِي صِحَّتِهِ أَحَدُ هَؤُلَاءِ وَلَدِي ثُمَّ مَاتَ وَكُلُّهُمْ يَصْلُحُ ابْنًا لَهُ أَنَّهُ يَعْتِقُ مِنْ الْأَوَّلِ رُبُعُهُ وَمِنْ الثَّانِي ثُلُثُهُ وَمِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرَيْنِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ وَعَلَى قِيَاسِ ذَلِكَ الْجَوَابُ لَوْ كَانَ لِابْنِ الْعَبْدِ ابْنٌ وَاحِدٌ وَكُلُّهُمْ يُولَدُ لِمِثْلِهِ أَنَّهُ يَعْتِقُ مِنْ الْأَوَّلِ ثُلُثُهُ وَمِنْ الثَّانِي نِصْفُهُ وَمِنْ الثَّالِثِ كُلُّهُ لِاحْتِمَالِ النَّسَبِ وَلَوْ كَانَ تَحْرِيرُ الْعِتْقِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي تِسْعَةٍ وَمِنْ الْأَوْسَطِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَيَسْعَى فِي ثَمَانِيَةٍ وَمِنْ الْأَصْغَرِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ وَيَسْعَى فِي خَمْسَةٍ لِيَسْتَقِيمَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ. قَوْلُهُ (وَقَالَ فِي الْجَامِعِ كَذَا) رَجُلٌ لَهُ عَبْدٌ وَلِعَبْدِهِ ابْنٌ وَلِلِابْنِ ابْنَانِ فِي بَطْنَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَقَالَ الْمَوْلَى فِي صِحَّتِهِ أَحَدُ هَؤُلَاءِ وَلَدِي وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ فَإِنَّ مِنْ الْأَوَّلِ يَعْتِقُ مِنْهُ رُبُعُهُ وَيَسْعَى فِي الْبَاقِي وَمِنْ الثَّانِي ثُلُثُهُ وَمِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْآَخَرَيْنِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ وَلَوْ كَانَا مِنْ بَطْنٍ وَاحِدٍ يَعْتِقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهِ؛ لِأَنَّ أَحَدَ التَّوْأَمَيْنِ لَا يَنْفَصِلُ عَنْ الْآخِرِ فِي النَّسَبِ أَمَّا النَّسَبُ فَلَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ فِي الْمَجْهُولِ لَبَقِيَ مُعَلَّقًا بِالْبَيَانِ وَتَعْلِيقُ النَّسَبِ بِالشَّرْطِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ أَمْرٍ كَانَ وَالتَّعْلِيقُ فِي أَمْرٍ مَعْدُومٍ يَحْتَمِلُ الْوُجُودُ أَمَّا الْعِتْقُ فَقَدْ قِيلَ أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ قَوْلُهُمَا فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ كَلِمَةَ النَّسَبِ عِبَارَةً عَنْ التَّحْرِيرِ لَمَّا تَعَذَّرَ إثْبَاتُ النَّسَبِ فَيَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ رُبُعَهُ وَلَا يُعْتَبَرُ جِهَةُ النَّسَبِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ كِتَابِ الدَّعْوَى يَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدِ ثُلُثُهُ وَلَا يُعْتَبَرُ جِهَةُ النَّسَبِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ جِهَةَ النَّسَبِ إذَا احْتَمَلَتْ الصِّحَّةَ لَمْ يُجْعَلْ لَغْوًا عِنْدَهُمْ وَإِنْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ وَهُوَ مَعْرُوفُ النَّسَبِ هَذَا ابْنِي أَنَّهُ يَعْتِقُ وَتَصِيرُ أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِاحْتِمَالِ النَّسَبِ مِنْهُ فَكَذَلِكَ هَهُنَا وَلَيْسَ هَذَا كَمَسْأَلَةِ كِتَابِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ هُنَاكَ يَثْبُتُ الْعِتْقُ لَهُمْ عَلَى احْتِمَالِ النَّسَبِ عَلَى السَّوَاءِ وَإِنَّمَا التَّفَاوُتُ فِيمَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ السِّرَايَةِ مِنْ الْأُمِّ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَجَازِ مِنْ الْحَقِيقَةِ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فَأَمَّا الْعِتْقُ هَهُنَا فَلَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ السِّرَايَةِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَوْ كَانَ حُرًّا لَا يَلْزَمُ مِنْهُ حُرِّيَّةُ الْوَلَدِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِجِهَةِ النَّسَبِ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَوْ كَانَ ابْنَهُ لَكَانَ أَوْلَادُهُ حَفَدَةً لَهُ وَهُمْ فِي مِلْكِهِ فَيَعْتِقُونَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ الْجَمْعُ وَيُعْتَبَرُ الْأَحْوَالُ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا قُلْنَا إنَّ الْأَوَّلَ يَعْتِقُ فِي حَالٍ وَلَا يَعْتِقُ فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ فَيَعْتِقُ رُبُعُهُ وَأَمَّا الثَّانِي فَيَعْتِقُ فِي حَالَيْنِ بِأَنْ يُرَادَ نَفْسُهُ أَوْ أَبُوهُ وَلَا يَعْتِقُ فِي حَالَيْنِ بِأَنْ يُرَادَ ابْنُهُ الْأَكْبَرُ أَوْ الْأَصْغَرُ وَأَحْوَالُ الْإِصَابَةِ حَالَةٌ وَاحِدَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَعْتِقَ ثُلُثُهُ وَأَحَدُ الْآخَرِينَ حُرٌّ بِيَقِينٍ بِأَنْ يُرَادَ نَفْسُهُ أَوْ أَبُوهُ أَوْ جَدُّهُ وَأَمَّا الْآخَرُ فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ نَفْسُهُ أَوْ أَبُوهُ أَوْ جَدُّهُ فَكَذَلِكَ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَخُوهُ لَمْ يَعْتِقْ وَأَحْوَالُ الْإِصَابَةِ حَالَةٌ وَاحِدَةٌ فَيَعْتِقُ فِي حَالٍ وَلَا يَعْتِقُ فِي حَالٍ فَيَعْتِقُ نِصْفُهُ فَصَارَ لَهُمَا رَقَبَةٌ وَنِصْفٌ فَيُوَزَّعُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ هُوَ الْحُرُّ كُلُّهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْحُرُّ نِصْفُهُ فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ وَمَا قُلْنَا إنَّ أَحْوَالَ الْإِصَابَةِ حَالَةٌ وَاحِدَةٌ رِوَايَةُ الْجَامِعِ وَفِي الزِّيَادَاتِ اعْتَبَرَ أَحْوَالَ الْإِصَابَةِ كَمَا اعْتَبَرَ أَحْوَالَ الْحِرْمَانِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الرِّقَّ لَا يَثْبُتُ أَصْلُهُ إلَّا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْقَهْرُ أَمَّا الْعِتْقُ فَلَهُ أَسْبَابٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِثْلُ التَّنْجِيزِ وَالتَّعْلِيقِ وَالْكِتَابَةِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالتَّدْبِيرِ فَإِذَا اعْتَبَرَ أَحْوَالَ مَا اتَّحَدَ سَبَبُهُ فَلَأَنْ يَعْتَبِرَ أَحْوَالَ مَا تَعَدَّدَ سَبَبُهُ أَوْلَى. وَجْهُ الْمَذْكُورِ فِي الْجَامِعِ وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ ازْدِحَامَ الْأَسْبَابِ فِي الْإِصَابَةِ لَا يَتَحَقَّقُ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ إذَا أُصِيبَ بِسَبَبٍ اسْتَحَالَ حُصُولُهُ بِسَبَبٍ آخَرَ فَأَمَّا الْحِرْمَانُ فَيَقْبَلُ الِازْدِحَامَ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَصَابَ شَيْئًا بِالشِّرَاءِ لَمْ يُصِبْهُ بِالْهِبَةِ وَالْإِرْثِ وَمَنْ حُرِمَ شَيْئًا بِعَدَمِ الشِّرَاءِ فَقَدْ حُرِمَهُ سَائِرُ الْأَسْبَابِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَ أَحْوَالِ الْحِرْمَانِ دُونَ الْإِصَابَةِ. وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ فِي صِحَّتِهِ احْتِرَازٌ

[قد يتعذر الحقيقة والمجاز معا إذا كان الحكم ممتنعا]

وَأَمَّا فِي الْأَكْبَرِ سِنًّا مِنْهُ فِلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إقْرَارٌ بِالْحُرِّيَّةِ فَيَجِبُ أَنْ يَصِيرَ مُقِرًّا بِحَقِّ الْأُمِّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ وَالثَّانِي أَنَّهُ تَحْرِيرٌ مُبْتَدَأٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالنَّسَبِ لَوْ ثَبَتَ ثَبَتَ تَحْرِيرًا مُبْتَدَأً حَتَّى قُلْنَا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى فِي رَجُلَيْنِ وَرِثَا عَبْدًا ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ابْنَهُ غَرِمَ لِشَرِيكِهِ كَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ مُضَافٌ إلَى خَبَرِهِ؛ لِأَنَّ الْمُخْبَرَ بِهِ قَائِمٌ بِخَبَرِهِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جُعِلَ مَجَازًا عَنْ التَّحْرِيرِ وَحَقُّ الْأُمِّ لَا يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ بِابْتِدَاءِ تَصَرُّفِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْبَشَرِ إثْبَاتُ أُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ قَوْلًا؛ لِأَنَّهَا مِنْ حُكْمِ الْفِعْلِ فَلَمْ يَثْبُتْ بِدُونِهِ. وَقَدْ يَتَعَذَّرُ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ مَعًا إذَا كَانَ الْحُكْمُ مُمْتَنِعًا؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ وُضِعَ لِمَعْنَاهُ فَيَبْطُلُ إذَا اسْتَحَالَ حُكْمُهُ وَمَعْنَاهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَمَّا إذَا قَالَ ذَلِكَ فِي مَرَضِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ وَلَمْ يُجِزْ الْوَرَثَةُ حَيْثُ عَتَقُوا مِنْ الثُّلُثِ بِحِسَابِ حَقِّهِمْ وَذَلِكَ بِأَنْ يَجْعَلَ كُلَّ رَقَبَةٍ اثْنَيْ عَشَرَ لِحَاجَتِنَا إلَى حِسَابٍ لَهُ ثُلُثٌ وَرُبُعٌ وَأَدْنَاهُ اثْنَا عَشَرَ حَقُّ الْأَوَّلِ فِي رُبُعِهِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَحَقُّ الثَّانِي فِي ثُلُثِهِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَحَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرِينَ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ وَهِيَ تِسْعَةٌ فَصَارَتْ سِهَامُ الْوَصِيَّةِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ وَثُلُثُ الْمَالِ سِتَّةَ عَشَرَ فَقَدْ ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْ سِهَامِ الْوَصَايَا فَنَجْعَلُ الثُّلُثَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ وَالْمَالَ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ فَنَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ الرَّقَبَةِ مِنْ الثُّلُثِ لِيَظْهَرَ لَنَا مِقْدَارَ مَا يَعْتِقُ عَنْهَا وَمِقْدَارَ مَا يَسْعَى فِيهِ فَنَقُولُ إنَّ ثُلُثَ الْمَالِ رَقَبَةٌ وَثُلُثَ الرَّقَبَةِ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ وَلَيْسَ لِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ رُبُعٌ صَحِيحٌ فَنَضْرِبُهُ فِي أَرْبَعَةٍ فَيَصِيرُ مِائَةً وَالْمَالُ ثَلَاثَمِائَةٍ وَالرَّقَبَةُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمِائَةِ وَهِيَ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ كَانَ حَقُّ الْأَوَّلِ فِي ثُلُثِهِ فَضَرَبْنَاهَا فِي أَرْبَعَةٍ فَبَلَغَ اثْنَيْ عَشَرَ وَصَارَ حَقُّ الثَّانِي سِتَّةَ عَشَرَ وَصَارَ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرِينَ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ فَذَلِكَ مِائَةٌ وَتِسْعُونَ فِي الْبَاقِي فَحَصَلَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الْمُصَنَّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قَوْلُهُ (وَأَمَّا فِي الْأَكْبَرِ سِنًّا مِنْهُ) يَعْنِي مَهْمَا أَمْكَنَ فِي الْعَمَلِ بِحَقِيقَةِ النَّسَبِ يُعْمَلُ بِهَا فِي قَوْلِهِ هَذَا ابْنِي وَيُجْعَلُ الْعِتْقُ ثَابِتًا بِالنَّسَبِ لَا أَنْ يُجْعَلَ مَجَازًا فِي الْحُرِّيَّةِ فَيَثْبُتُ أُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ بِهِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يُمْكِنْ كَمَا فِي الْأَكْبَرِ سِنًّا مِنْهُ فَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجْعَلُهُ مَجَازًا فِي الْحُرِّيَّةِ. وَذَلِكَ بِطَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُجْعَلَ مَجَازًا فِي الْإِقْرَارِ بِالْحُرِّيَّةِ كَمَا بَيَّنَّا فَيَحْصُلَ مُقِرًّا بِأَنَّ أُمَّ الْغُلَامِ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ لِلْأُمِّ حُكْمُ النَّسَبِ كَمَا أَنَّ حَقِيقَةَ الْحُرِّيَّةِ لِلْوَلَدِ حُكْمُهُ فَكَمَا جُعِلَ قَوْلُهُ هَذَا ابْنِي مَجَازًا لِلْإِقْرَارِ بِحَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ يُجْعَلُ مَجَازًا لِلْإِقْرَارِ بِحَقِّ الْحُرِّيَّةِ لِلْأُمِّ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ عَتَقَ هَذَا عَلَيَّ مِنْ حِينِ مَلَكْته، وَأُمُّهُ أُمَّ وَلَدِي وَالثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ هَذَا ابْنِي بِمَنْزِلَةِ تَحْرِيرٍ مُبْتَدَأٌ كَأَنَّهُ قَالَ هُوَ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ كَلَامًا هُوَ سَبَبٌ لِلْحُرِّيَّةِ فِي مِلْكِهِ فَيَصِيرُ بِهِ مُعْتَقًا ابْتِدَاءً أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَرِثَ رَجُلَانِ عَبْدًا مَجْهُولَ النَّسَبِ ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ابْنَهُ غَرِمَ لِشَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا كَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ تَحْرِيرًا مُبْتَدَأً لِمَا غَرِمَ؛ لِأَنَّ الشَّرِيكَيْنِ إذَا وَرِثَا قَرِيبَ أَحَدِهِمَا لَا يَضْمَنُ وَارِثُ الْقَرِيبِ لِعَدَمِ الصُّنْعِ مِنْهُ وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ لَا يَصِيرُ أُمُّ الْغُلَامِ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِتَحْرِيرِ الْغُلَامِ ابْتِدَاءُ تَأْثِيرٍ فِي إيجَابِ أُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ لِأُمِّهِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مَجَازًا فِي إنْشَاءِ أُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا بِطَرِيقِ الْإِنْشَاءِ قَوْلًا بِأَنْ يَقُولَ جَعَلْتُك أُمَّ وَلَدٍ أَوْ أَنْشَأْت فِيك أُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ حُكْمِ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الِاسْتِيلَادُ. وَقَوْلُهُ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تَحْرِيرًا مُبْتَدَأً يَعْنِي ثُبُوتَ النَّسَبِ مُضَافٌ إلَى خَبَرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا قَبْلَ خَبَرِهِ فَيُقْصَرُ عَلَى وَقْتِ الْخَبَرِ؛ لِأَنَّ الْمُخْبَرَ بِهِ فِي حَقِّ عِلْمِ السَّامِعِ قَائِمٌ أَيْ ثَابِتٌ بِخَبَرِهِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ إذَا كَانَ ثُبُوتُ النَّسَبِ مُضَافًا إلَى خَبَرِهِ جُعِلَ هَذَا الْخَبَرُ مَجَازًا عَنْ التَّحْرِيرِ أَيْ فِي التَّحْرِيرِ أَوْ عِبَارَةً عَنْهُ أَوْ كِنَايَةً عَنْهُ. وَالطَّرِيقُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ إذَا أُكْرِهَ أَنْ يَقُولَ هَذَا ابْنِي لَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ وَالْإِكْرَاهُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ بِالْعِتْقِ لَا صِحَّةَ التَّحْرِيرِ ابْتِدَاءً وَوُجُوبُ الضَّمَانِ فِي مَسْأَلَةِ الدَّعْوَى بِطَرِيقِ الْإِقْرَارِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ كَالْإِنْشَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ عَتَقَ عَلَيَّ مِنْ حِينِ مَلَكْته كَانَ ضَامِنًا لِشَرِيكِهِ أَيْضًا فَعُلِمَ أَنَّ الضَّمَانَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْإِنْشَاءِ كَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. [قَدْ يَتَعَذَّرُ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ مَعًا إذَا كَانَ الْحُكْمُ مُمْتَنِعًا] قَوْلُهُ (وَقَدْ يَتَعَذَّرُ) أَيْ وَقَدْ يَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي بَعْضِ

وَذَلِكَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ هَذِهِ بِنْتِي وَهِيَ مَعْرُوفَةُ النَّسَبِ وَتُولَدُ لِمِثْلِهِ أَوْ أَكْبَرُ سِنًّا مِنْهُ فَإِنَّ الْحُرْمَةَ لَا تَقَعُ بِهِ أَبَدًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ فِي الْأَكْبَرِ سِنًّا مِنْهُ مُتَعَذِّرٌ وَفِي الْأَصْغَرِ سِنًّا تَعَذَّرَ إثْبَاتُ الْحَقِيقَةِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ مِمَّنْ اُشْتُهِرَ مِنْهُ نَسَبُهَا وَفِي حَقِّ الْمُقِرِّ مُعْتَذِرٌ أَيْضًا فِي حُكْمِ التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ الثَّابِتَ بِهَذَا الْكَلَامِ لَوْ صَحَّ مَعْنَاهُ مُنَافٍ لِلْمِلْكِ فَلَمْ يَصْلُحْ حَقًّا مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ بِالْمَجَازِ وَهُوَ التَّحْرِيمُ فِي الْفَصْلَيْنِ مُتَعَذِّرٌ لِهَذَا الْعُذْرِ الَّذِي أَبْلَيْنَاهُ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ النَّسَبُ ثَابِتًا فِي حَقِّ الْمُقِرِّ بِنَاءً عَلَى إقْرَارِهِ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنْهُ صَحِيحٌ وَالْقَاضِي كَذَّبَهُ هَهُنَا فَقَامَ ذَلِكَ مَقَامَ رُجُوعِهِ بِخِلَافِ الْعَتَاقِ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنْهُ لَا يَصِحُّ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْأَلْفَاظِ فَيَلْغُو ضَرُورَةً وَذَلِكَ إذَا كَانَ إثْبَاتُ مُوجِبِ اللَّفْظِ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي اُسْتُعْمِلَ فِيهِ اللَّفْظُ مُمْتَنِعًا؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ وُضِعَ لِإِفَادَةِ الْمَعْنَى فَإِذَا تَعَذَّرَ إثْبَاتُ مَعْنَاهُ الْمَوْضُوعُ لَهُ يُجْعَلُ مَجَازًا وَكِنَايَةً عَنْ حُكْمِهِ أَعْنِي لَازِمَ مَعْنَاهُ الثَّابِتِ بِهِ تَصْحِيحًا لَهُ فَإِذَا تَعَذَّرَ إثْبَاتُ ذَلِكَ أَيْضًا يَلْغُو ضَرُورَةً مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ، وَمِثْلُهَا لَا يَصْلُحُ بِنْتًا لَهُ أَوْ تَصْلُحُ وَهِيَ مَعْرُوفَةُ النَّسَبِ هَذِهِ بِنْتِي لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِهِ أَبَدًا يَعْنِي سَوَاءٌ أَصَرَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بِأَنْ قَالَ غَلِطْت أَوْ أُوهِمْت إلَّا أَنَّهُ إذَا أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ يُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا؛ لَا لِأَنَّ الْحُرْمَةَ ثَابِتَةٌ بِهَذَا اللَّفْظِ بَلْ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَصَرَّ عَلَيْهِ صَارَ ظَالِمًا يَمْنَعُ حَقَّهَا عَنْ الْجِمَاعِ؛ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَنْ وَطِئَهَا عِنْدَ الْإِصْرَارِ وَصَارَتْ هِيَ كَالْمُعَلَّقَةِ فَيَجِبُ دَفْعُهُ فِي التَّفْرِيقِ كَمَا فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ. وَوَافَقَنَا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الَّتِي لَا تَصْلُحُ بِنْتًا لَهُ وَقَالَ فِي الَّتِي تَصْلُحُ بِنْتًا لَهُ أَنَّهَا تَحْرُمُ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ أَضْعَفُ مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ وَالْوِلَادُ أَنْفَى لِهَذَا الْمِلْكِ مِنْهُ لِمِلْكِ الْيَمِينِ ثُمَّ مِلْكُ الْيَمِينِ يَنْتَفِي بِهَذِهِ اللَّفْظِ مِلْكُهُ فَهَذَا أَوْلَى وَهَذَا لِأَنَّ مُوجِبَهُ الْحُرْمَةُ وَإِلَيْهِ إثْبَاتُ الْحُرْمَةِ فَيُؤْخَذُ بِمُوجِبِ قَوْلِهِ فِيمَا أَمْكَنَ وَلَنَا أَنَّ الْعَمَلَ بِحَقِيقَةِ كَلَامِهِ فِي الْفَصْلَيْنِ أَعْنِي فِي الَّتِي تَصْلُحُ بِنْتًا لَهُ وَاَلَّتِي لَا تَصْلُحُ بِنْتًا لَهُ مُتَعَذِّرٌ أَمَّا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي فَظَاهِرٌ وَأَمَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ الْحَقِيقَةَ إمَّا أَنْ جُعِلَتْ ثَابِتَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ بِأَنْ جُعِلَ النَّسَبُ ثَابِتًا مِنْهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمِيعِ النَّاسِ أَوْ جُعِلَتْ ثَابِتَةً فِي حَقِّ الْمُقِرِّ لَا غَيْرُ لِيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي التَّحْرِيمِ كَمَا قُلْنَا فِي قَوْلِهِ لِعَبْدِهِ الَّذِي يُولَدُ لِمِثْلِهِ وَهُوَ مَعْرُوفُ النَّسَبِ هَذَا ابْنِي لِيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي الْعِتْقِ لَا وَجْهَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ أَيْ لِأَنَّ النَّسَبَ مُسْتَحَقٌّ مِنْ جَانِبِ مَنْ اُشْتُهِرَ نَسَبًا مِنْهُ فَلَا يُؤَثِّرُ إقْرَارُهُ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ وَلَا إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَوْ صَحَّ مَعْنَاهُ أَيْ لَوْ ثَبَتَ مُوجِبُهُ وَهُوَ الْبِنْتِيَّةُ كَانَ التَّحْرِيمُ الثَّابِتُ بِهِ مُنَافِيًا لِمِلْكِ النِّكَاحِ وَلَيْسَ إلَى الْعَبْدِ إثْبَاتُ ذَلِكَ إنَّمَا إلَيْهِ إثْبَاتُ حُرْمَةٍ هِيَ مِنْ وَاجِبِ النِّكَاحِ دُونَ تَبْدِيلِ حَالِ الْمَحَلِّ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فَلَمْ يَصْلُحْ حَقًّا مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ أَيْ التَّحْرِيمِ الْمُنَافِي لَا يَصْلُحُ حَقًّا مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَثْبُتُ مَا يُنَافِيه فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ وِلَايَتِهِ بِثُبُوتِ مِلْكِ النِّكَاحِ لَهُ. وَلِأَنَّ حِلَّ الْمَحَلِّيَّةِ ثَبَتَ شَرْعًا كَرَامَةً لَهَا، وَلِهَذَا يَزْدَادُ بِحُرِّيَّتِهَا وَيَنْتَقِصُ بِرِقِّهَا فَيَكُونُ الْإِقْرَارُ بِالْبِنْتِيَّةِ فِي حَقِّ الْحِلِّ إقْرَارًا عَلَيْهَا فَيَكُونُ بَاطِلًا. وَكَذَا الْعَمَلُ بِمَجَازِهِ وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ كِنَايَةً عَنْ التَّحْرِيمِ فِي الْأَكْبَرِ سِنًّا مِنْهُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي الْأَصْغَرِ سِنًّا مِنْهُ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْفَصْلَيْنِ مُتَعَذِّرٌ أَيْضًا لِهَذَا الْعُذْرِ الَّذِي أَبْلَيْنَاهُ وَهُوَ أَنَّ التَّحْرِيمَ الثَّابِتَ بِهَذَا الْكَلَامِ أَيْ التَّحْرِيمَ الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْبِنْتِيَّةِ مُنَافٍ لِمِلْكِ النِّكَاحِ فَلَمْ يَصْلُحْ حَقًّا مِنْ حُقُوقِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعَارَ هَذَا الْكَلَامُ لِذَلِكَ التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَمْلِكُ إثْبَاتَهُ وَالتَّحْرِيمُ الَّذِي يَمْلِكُ الزَّوْجُ إثْبَاتَهُ وَهُوَ التَّحْرِيمُ الْقَاطِعُ لِلْحِلِّ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ لَيْسَ مِنْ مُوجِبَاتِ هَذَا الْكَلَامِ وَلَوَازِمِهِ فَلَا يَصِحُّ اسْتِعَارَته لَهُ أَيْضًا فَلِذَلِكَ بَطَلَ. قَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْعِتْقِ) يَعْنِي بِخِلَافِ قَوْلِهِ هَذَا ابْنِي؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِحَقِيقَتِهِ فِي الْأَصْغَرِ سِنًّا مِنْهُ مُمْكِنٌ عَلَى مَا مَرَّ وَكَذَا بِمَجَازِهِ فِيهِ وَفِي الْأَكْبَرِ سِنًّا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ بَعْدَ الثُّبُوتِ مُوجِبُهَا لِعِتْقٍ يَقْطَعُ الْمِلْكَ كَإِنْشَاءِ الْعِتْقِ، وَلِهَذَا تَأَدَّتْ بِهِ الْكَفَّارَةُ وَثَبَتَ بِهِ الْوَلَاءُ لَا عِتْقٌ يُنَافِي الْمِلْكَ، وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى ابْنَهُ أَوْ بِنْتَه صَحَّ الشِّرَاءُ وَفِي وُسْعِهِ إثْبَاتُ عِتْقٍ يَقْطَعُ الْمِلْكَ وَهُوَ

[الكلام إذا كانت له حقيقة مستعملة ومجاز متعارف]

وَمِنْ حُكْمِ هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْكَلَامَ إذَا كَانَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ وَمَجَازٌ مُتَعَارَفٌ فَالْحَقِيقَةُ أَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْعَمَلُ بِعُمُومِ الْمَجَازِ أَوْلَى وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَصْلِ أَنَّ الْمَجَازَ عِنْدَهُمَا خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ فِي الْحُكْمِ وَفِي الْحُكْمِ لِلْمَجَازِ رُجْحَانٌ؛ لِأَنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مَعًا فَصَارَ مُشْتَمِلًا عَلَى حُكْمِ الْحَقِيقَةِ فَصَارَ أَوْلَى وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ خَلَفٌ فِي التَّكَلُّمِ دُونَ الْحُكْمِ فَاعْتُبِرَ الرُّجْحَانُ فِي التَّكَلُّمِ دُونَ الْحُكْمِ فَصَارَتْ الْحَقِيقَةُ أَوْلَى مِثَالُهُ مَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمُوجِبُ الْبُنُوَّةِ فَيُجْعَلُ كِنَايَةً عَنْهُ. وَقَرَّرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا ذَكَرْنَاهُ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ فَإِنْ قِيلَ يَصِيرُ قَوْلُهُ هَذِهِ بِنْتِي كِنَايَةً عَنْ قَوْلِهِ هِيَ عَلَيَّ حَرَامٌ قُلْنَا أَعَنْ حُرْمَةٍ يَمْلِكُ الزَّوْجُ إثْبَاتَهَا بِمِلْكِ النِّكَاحِ أَوْ عَنْ حُرْمَةٍ لَا يَمْلِكُهَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ عَنْ تَحْرِيمٍ يَمْلِكُ الزَّوْجُ إثْبَاتَهُ بِحَقِّ الْمِلْكِ لِيَنْفُذَ مِنْهُ وَيَلْزَمُهُ بِقَوْلِهِ فَإِنَّ تَحْرِيمًا غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ بِحَقِّ الْمِلْكِ غَيْرُ لَازِمٍ وَلَا نَافِذٍ كَمَا لَوْ أَخْبَرَ بِحُرْمَةٍ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ أَوْ أَخْبَرَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ إنَّهَا بِنْتُ هَذَا الزَّوْجِ وَالتَّحْرِيمُ الْمَمْلُوكُ لِلزَّوْجِ بِحَقِّ الْمِلْكِ تَحْرِيمٌ بَعْدَ الْمِلْكِ مِنْ حَيْثُ قَطْعِ الْمِلْكِ لَا مِنْ حَيْثُ إثْبَاتِ حُرْمَةٍ مُؤَبَّدَةٍ فَالْحُرُمَاتُ الْمُؤَبَّدَةُ عُلِّقَتْ بِأَسْبَابٍ حُكْمِيَّةٍ يَثْبُتُ قَبْلَ مِلْكِ الْمَالِكِ غَيْرِ مَمْلُوكٍ لِلرَّجُلِ بِمِلْكِ النِّكَاحِ وَاللَّفْظُ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ لَا يَحْتَمِلُ هَذَا الْفِرَاقَ الَّذِي قُلْنَاهُ وَلَا يَكُونُ سَبَبًا لَهُ بِحَالٍ بَلْ هُوَ سَبَبٌ لِحُرْمَةٍ مُؤَبَّدَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلنِّكَاحِ مِنْ حَيْثُ يَثْبُتُ لَا مِنْ حَيْثُ تُمْلَكُ فَإِنَّا لَوْ تَوَهَّمْنَاهُ صَادِقًا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا نِكَاحٌ مِنْ الْأَصْلِ وَلَا تَحِلُّ لَهُ بِحَالٍ وَإِذَا لَمْ يَحْتَمِلْهُ لَمْ يَصِحَّ كِنَايَةً عَنْهُ فَلَغَا صَرِيحُهُ وَكِفَايَتُهُ جَمِيعًا. وَقَوْلُهُ أَبْلَيْنَاهُ أَيْ بَيِّنَاهُ مُتَعَدٍّ إلَى مَفْعُولَيْنِ يُقَالُ أَبْلَيْت فُلَانًا عُذْرًا إذَا بَيِّنَتُهُ لَهُ بَيَانًا وَحَقِيقَتُهُ جَعَلْته بَالِيًا بِعُذْرِي وَعَالِمًا بِكُنْهِهِ مِنْ بَلَاهُ إذَا أَخْبَرَهُ وَجَرَّبَهُ وَأَحَدُ الْمَفْعُولَيْنِ هَهُنَا مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ أَبْلَيْنَاكَ إيَّاهُ وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُكْمَ فِي مَجْهُولَةِ النَّسَبِ أَيْضًا مَا عَرَفْته فِي مَعْرُوفَتِهِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأَسْرَارِ فَقِيلَ إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَةٍ هَذِهِ بِنْتِي وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ وَلَهَا نَسَبٌ مَعْرُوفٌ أَوْ لَيْسَ لَهَا نَسَبٌ مَعْرُوفٌ وَقَالَ غَلِطْت أَوْ أَخْطَأْت حَلَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ الْعَقْدِ لَمْ يَحْرُمْ إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا نَسَبٌ مَعْرُوفٌ وَدَامَ عَلَى قَوْلِهِ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَكَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَضْلِ الْكَرْمَانِيُّ فِي إشَارَاتِ الْأَسْرَارِ فَقَالَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ هَذِهِ بِنْتِي وَهِيَ مَجْهُولَةُ النَّسَبِ وَتَصْلُحُ بِنْتًا لَهُ ثُمَّ قَالَ غَلِطْت لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ صَحِيحٌ قَبْلَ تَصْدِيقِ الْمُقَرِّ لَهُ إيَّاهُ كَمَا صَحَّ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِيجَابِ فِي الْعُقُودِ قَبْلَ وُجُودِ الْقَبُولِ فَلَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِمُوجِبِ هَذَا الْإِقْرَارِ قَبْلَ تَأَكُّدِهِ بِالْقَبُولِ لِاحْتِمَالِ انْتِقَاضِهِ بِالرُّجُوعِ أَوْ بِالرَّدِّ إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي مَعْرُوفَةِ النَّسَبِ؛ لِأَنَّ تَعَذُّرَ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ فِيهَا أَظْهَرُ وَقَدْ أَشَارَ الشَّيْخُ إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ النَّسَبَ ثَابِتًا إلَى آخِرِهِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنْهُ صَحِيحٌ يَعْنِي قَبْلَ تَصْدِيقِ الْمُقِرِّ لَهُ وَإِنْ كَانَ مَجْهُولَ النَّسَبِ وَالْقَاضِي كَذَّبَهُ هَهُنَا أَيْ فِي مَعْرُوفَةِ النَّسَبِ فَقَامَ تَكْذِيبُ الْقَاضِي إيَّاهُ مَقَامَ تَكْذِيبِهِ نَفْسِهِ وَأُوضِحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي عَتَاقِ الْمَبْسُوطِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ هَذِهِ بِنْتِي وَهِيَ مَعْرُوفَةُ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُكَذِّبًا شَرْعًا فِي حَقِّ النَّسَبِ وَلَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بِأَنْ قَالَ غَلِطْت لَا يَقَعُ الْفُرْقَةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا نَسَبٌ مَعْرُوفٌ فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ مُكَذِّبًا فِي النَّسَبِ شَرْعًا وَفِي الْعَتَاقِ لَوْ أَكْذَبَ الْمَوْلَى نَفْسَهُ فِي حَقِّ مَنْ لَا نَسَبَ لَهُ كَانَ الْعِتْقُ ثَابِتًا فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ مُكَذِّبًا شَرْعًا. [الْكَلَامَ إذَا كَانَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ وَمَجَازٌ مُتَعَارَفٌ] قَوْلُهُ (وَمِنْ حُكْمِ هَذَا الْبَابِ) إذَا كَانَتْ الْحَقِيقَةُ مُسْتَعْمَلَةً وَالْمَجَازُ غَيْرَ مُسْتَعْمَلٍ أَوْ كَانَا مُسْتَعْمَلَيْنِ وَكَانَتْ الْحَقِيقَةُ أَكْثَرَ اسْتِعْمَالًا أَوْ كَانَا فِي الِاسْتِعْمَالِ عَلَى السَّوَاءِ فَالْعِبْرَةُ لِلْحَقِيقَةِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَلَامِ هُوَ الْحَقِيقَةُ وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُعَارِضُ هَذَا الْأَصْلِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ كَانَ

يَقَعُ عَلَى عَيْنِهَا دُونَ مَا يُتَّخَذُ مِنْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِمَا قُلْنَا وَعِنْدَهُمَا يَقَعُ عَلَى مَضْمُونِهَا عَلَى الْعُمُومِ مَجَازًا وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ الْفُرَاتِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَجَازُ أَغْلَبَ اسْتِعْمَالًا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْعِبْرَةُ لِلْحَقِيقَةِ وَعِنْدَهُمَا الْعِبَرُ لِلْمَجَازِ وَهَذَا أَيْ هَذَا الِاخْتِلَافُ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي خَلْفِيَّةِ الْمَجَازِ فَعِنْدَ هُمَا لَمَّا كَانَتْ الْخَلَفِيَّةُ بِاعْتِبَارِ إثْبَاتِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ هُوَ الْمَقْصُودُ دُونَ الْعِبَارَةِ كَانَ الْعَمَلُ بِعُمُومِ الْمَجَازِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ رَاجِعٌ عَلَى حُكْمِ الْحَقِيقَةِ لِدُخُولِ حُكْمِ الْحَقِيقَةِ تَحْتَ عُمُومِهِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا كَانَتْ الْخَلَفِيَّةُ فِي التَّكَلُّمِ بِهِ لَا فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ فِي عِبَارَتِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُجْعَلُ عِبَارَةً قَائِمَةً مَقَامَ عِبَارَةٍ ثُمَّ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِالْمَجَازِ مَقْصُودًا لَا أَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ الْحُكْمِ عَلَى مَا عَرَفْته لَا يُثْبَتُ الْمُزَاحِمَةُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْخَلَفِ فَيُجْعَلُ اللَّفْظُ عَامِلًا فِي حَقِيقَتِهِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى أَعْمَالِهِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ فِيمَا تَعَذَّرَ إعْمَالُهُ فِي حَقِيقَتِهِ هَذَا بَيَانُ كَلَامِ الشَّيْخِ وَسِيَاقُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِنْدَهُمَا إنَّمَا يَتَرَجَّحُ الْمَجَازُ الْمُتَعَارَفُ إذَا كَانَ عُمُومُهُ مُتَنَاوِلًا لِلْحَقِيقَةِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى حُكْمِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَنَاوِلًا لِلْحَقِيقَةِ. وَذُكِرَ فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الْبُرْهَانِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى تَرَجُّحِهِ بِكُلِّ حَالٍ فَقِيلَ إنْ كَانَ الْمَجَازُ أَغْلَبَ اسْتِعْمَالًا فَعِنْدَهُمَا الْعِبْرَةُ لِلْمَجَازِ؛ لِأَنَّ الْمَرْجُوحَ بِمُقَابَلَةِ الرَّاجِحِ سَاقِطٌ فَكَانَتْ هَذِهِ الْحَقِيقَةُ كَالْمَهْجُورَةِ وَعِنْدَ الْعِبْرَةِ لِلْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْأَصْلِ مُمْكِنٌ فَلَا يُصَارُ إلَى الْمَجَازِ إلَّا بِدَلِيلٍ مُرَجِّحٍ وَغَلَبَةُ الِاسْتِعْمَالِ لَا تَصْلُحُ مُرَجِّحَةً؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَتَرَجَّحُ بِالزِّيَادَةِ مِنْ جِنْسِهَا فَكَانَ الِاسْتِعْمَالُ فِي حَدِّ التَّعَارُضِ فَبَقِيَتْ الْعِبْرَةُ لِلْحَقِيقَةِ بِخِلَافِ الْمَهْجُورَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَعَارُضَ هُنَاكَ فِي الِاسْتِعْمَالِ فَبَقِيَتْ الْعِبْرَةُ لِلْمَجَازِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ التَّعَارُفِ قَالَ مَشَايِخُ بَلْخٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - الْمُرَادُ بِهِ التَّعَارُفُ بِالتَّعَامُلِ وَقَالَ مَشَايِخُ الْعِرَاقِ الْمُرَادُ التَّعَارُفُ بِالتَّفَاهُمِ وَقَالَ مَشَايِخُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ مَا قَالَ مَشَايِخُ الْعِرَاقِ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَا قَالَهُ مَشَايِخُ بَلْخٍ قَوْلَهُمَا بِدَلِيلِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ لَحْمَ آدَمِيٍّ أَوْ خِنْزِيرٍ حَنِثَ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ التَّفَاهُمَ يَقَعُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُسَمَّى لَحْمًا وَلَا يَحْنَثُ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ التَّعَامُلَ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ لَحْمَهُمَا لَا يُؤْكَلُ عَادَةً. قَوْلُهُ (يَقَعُ عَلَى عَيْنِهَا) ؛ لِأَنَّ عَيْنَهَا مَأْكُولَةٌ عَادَةً فَإِنَّهَا تُقْلَى فَيُؤْكَلُ وَيُتَّخَذُ مِنْهَا الْكِشْكُ وَالْهَرِيسَةُ وَقَدْ يُؤْكَلُ أَيْضًا نِيًّا حَبًّا فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى حِنْطَةً يَمْضُغُهَا كَمَا هِيَ لِيَخْتَبِرَ أَنَّهَا رَخْوَةٌ أَمْ عَلِكَةٌ وَلَمَّا كَانَتْ عَيْنُهَا مَأْكُولَةٌ يَنْصَرِفُ الْيَمِينُ إلَى الْحَقِيقَةِ دُونَ الْمَجَازِ كَمَا فِي الْعِنَبِ وَالرُّطَبِ. وَعِنْدَهُمَا لَمَّا كَانَ الْمُتَعَارَفُ مِنْ أَكْلِ الْحِنْطَةِ أَكْلَ مَا فِي بَطْنِهَا كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ يَقَعُ يَمِينُهُ عَلَى مَضْمُونِهَا أَيْ عَلَى الْأَجْزَاءِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ الْحِنْطَةُ لِلتَّعَارُفِ وَكَوْنِ الْحَقِيقَةِ دَاخِلَةً فِي عُمُومِ الْمَجَازِ، وَأَشَارَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ الْأَيْمَانِ الْأَصْلِ إلَى أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلُ قَوْلِهِمَا فِي أَنَّ الْحَقِيقَةَ تُتْرَكُ بِالتَّعَارُفِ وَلَكِنَّهُ خَالَفَهُمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ التَّعَارُفُ فِي حِنْطَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ لَا فِي حِنْطَةٍ بِعَيْنِهَا أَلَا تَرَى إنَّك فِي قَوْلِك فُلَانٌ يَأْكُلُ الْحِنْطَةَ لَا تُرِيدُ حِنْطَةً مُعَيَّنَةً وَلَا اسْتِغْرَاقَ جِنْسِ الْحِنْطَةِ وَاللَّامُ فِيهَا يُفِيدُ تَعْرِيفَهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ التَّعَارُفُ فِي الْمُعَيَّنَةِ لَا يُتْرَكُ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ إنَّمَا يُتْرَكُ بِنِيَّةِ غَيْرِهَا أَوْ بِالْعُرْفِ وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا قَالَ وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ كَمَا قَالَا إذَا عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى حِنْطَةٍ بِغَيْرِ عَيْنِهَا بِأَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ حِنْطَةً وَفِي التَّهْذِيبِ لِمُحْيِي السُّنَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَوْ حَلَفَ عَلَى الْحِنْطَةِ فَلَهُ أَحْوَالٌ ثَلَاثٌ أَحَدُهَا أَنْ يُشِيرَ إلَى حِنْطَةٍ فَيَقُولُ لَا آكُلُ هَذِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ لَفْظَ الْحِنْطَةِ فَيَحْنَثُ بِأَكْلِهَا سَوَاءٌ أَكَلَهَا كَذَلِكَ أَوْ طَحَنَهَا فَأَكَلَ الطَّحِينَ أَوْ خَبَزَهَا

[باب جملة ما يترك به الحقيقة]

يَقَعُ عَلَى الْكَرْعِ خَاصَّةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا يَقَعُ عَلَى شُرْبِ مَاءٍ مُجَاوِرٍ لِلْفُرَاتِ وَذَلِكَ لَا يَنْقَطِعُ بِالْأَوَانِي؛ لِأَنَّهَا دُونَ النَّهْرِ فِي الْإِمْسَاكِ. (بَابُ جُمْلَةِ مَا يُتْرَكُ بِهِ الْحَقِيقَةُ) وَهُوَ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ قَدْ تُتْرَكُ بِدَلَالَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَالْعَادَةِ وَقَدْ تُتْرَكُ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ فِي نَفْسِهِ وَقَدْ تُتْرَكُ بِدَلَالَةِ سِيَاقِ النَّظْمِ وَقَدْ تُتْرَكُ بِدَلَالَةٍ تَرْجِعُ إلَى الْمُتَكَلِّمِ وَقَدْ تُتْرَكُ بِدَلَالَةٍ فِي مَحَلِّ الْكَلَامِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَمِثْلُ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا اسْمٌ لِلدُّعَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] أَيْ اُدْعُ. ثُمَّ سُمِّيَ بِهَا عِبَادَةٌ مَعْلُومَةٌ مَجَازًا لَمَّا أَنَّهَا شُرِعَتْ لِلذِّكْرِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَأَكَلَ الْخُبْزَ وَالثَّانِيَةَ أَنْ يَقُولَ لَا آكُلُ حِنْطَةً فَيَحْنَثُ بِأَكْلِ الْحِنْطَةِ سَوَاءٌ أَكَلَهَا نِيئًا أَوْ مَطْبُوخًا أَوْ مَبْلُولًا أَوْ مَقْلِيًّا وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الدَّقِيقِ وَالسَّوِيقِ وَالْعَجِينِ وَالْخُبْزِ وَالثَّالِثَةُ أَنْ يَقُولَ لَا آكُلُ هَذِهِ الْحِنْطَةَ وَأَشَارَ إلَى صُبْرَةٍ فَأَكَلَ مِنْ دَقِيقِهَا أَوْ عَجِينِهَا أَوْ خُبْزِهَا لَا يَحْنَثُ لِتَبَدُّلِ الِاسْمِ. وَقَالَ ابْنُ شُرَيْحٍ يَحْنَثُ لِوُجُودِ الْإِشَارَةِ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الْحَمَلَ فَذَبَحَهُ وَأَكَلَهُ حَنِثَ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَذْهَبُ بِخِلَافِ الْحَمَلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَكْلُهُ حَيًّا فَكَانَ يَمِينُهُ عَلَى لَحْمِهِ وَالْحِنْطَةُ يُمْكِنُ أَكْلُهَا حَبًّا فَكَانَ يَمِينُهُ عَلَى حَبِّهَا. قَوْلُهُ (يَقَعُ عَلَى الْكَرْعِ خَاصَّةً) ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَهِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ عَادَةً وَشَرْعًا فَإِنَّ «النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَرَّ بِقَوْمٍ فَقَالَ هَلْ عِنْدَكُمْ مَاءٌ بَاتَ فِي شَنٍّ وَإِلَّا كَرَعَنَا فِي الْوَادِي» وَذَلِكَ عَادَةُ أَهْلِ الْبَوَادِي وَالْقُرَى أَيْضًا وَإِذَا كَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً كَانَ اللَّفْظُ مَحْمُولًا عَلَيْهَا دُونَ الْمَجَازِ وَعِنْدَ هُمَا يَقَعُ عَلَى شُرْبِ مَاءٍ يُجَاوِرُ الْفُرَاتَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ فِي الْعُرْفِ يُقَالُ بَنُو فُلَانٍ يَشْرَبُونَ مِنْ الْوَادِي أَوْ مِنْ الْفُرَاتِ وَيُرَادُ بِهِ مَاءٌ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ فَيُحْمَلُ الْكَلَامُ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ مُتَنَاوِلًا لِلْحَقِيقَةِ بِعُمُومِهِ وَالْأَخْذُ بِالْأَوَانِي لَا يَقْطَعُ هَذِهِ النِّسْبَةَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَعْمَلُ عَمَلَ الْأَنْهَارِ فِي إمْسَاكِ الْمَاءِ فَيَحْنَثُ بِالِاغْتِرَافِ وَالْكَرْعِ جَمِيعًا لِعُمُومِ الْمَجَازِ فَإِنْ شَرِبَ مِنْ نَهْرٍ يَأْخُذُ مِنْ الْفُرَاتِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ هَذَا مِثْلُ الْفُرَاتِ فِي إمْسَاكِ الْمَاءِ فَيَقْطَعُ الْمُجَاوَرَةَ عَنْهُ فَخَرَجَ عَنْ عُمُومِ الْمَجَازِ وَالْكَرْعُ تَنَاوُلُ الْمَاءِ بِالْفَمِ مِنْ مَوْضِعِهِ يُقَالُ كَرَعَ الرَّجُلُ فِي الْمَاءِ وَفِي الْإِنَاءِ إذَا مَدَّ عُنُقَهُ نَحْوَهُ لِيَشْرَبَهُ وَمِنْهُ كَرِهَ عِكْرِمَةُ الْكَرْعَ فِي النَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ فِعْلُ الْبَهِيمَةِ يُدْخِلُ فِيهِ أَكَارِعَهُ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ وَفِي الصِّحَاحِ كَرَعَ فِي الْمَاءِ يَكْرَعُ كُرُوعًا إذَا تَنَاوَلَهُ بِفِيهِ مِنْ مَوْضِعِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْرَبَ بِكَفَّيْهِ وَلَا بِإِنَاءٍ وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى كَرِعَ بِالْكَسْرِ يَكْرَعُ كَرْعًا وَفِي الْأَسَاسِ كَرَعَ فِي الْمَاءِ أَدْخَلَ فِيهِ أَكَارِعَهُ بِالْخَوْضِ فِيهِ لِيَشْرَبَ وَالْأَصْلُ فِي الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكَادُ تَشْرَبُ إلَّا بِإِدْخَالِ أَكَارِعِهَا فِيهِ. ثُمَّ قِيلَ لِلْإِنْسَانِ كَرَعَ فِي الْمَاءِ إذَا شَرِبَ فِيهِ خَاضَ أَوْ لَمْ يَخُضْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ جُمْلَةِ مَا يُتْرَكُ بِهِ الْحَقِيقَةُ] [دَلَالَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَالْعَادَةِ] {بَابُ جُمْلَةِ مَا يُتْرَكُ بِهِ الْحَقِيقَةُ} لَمَّا ذَكَرَ أَحْكَامَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْقَرَائِنِ الَّتِي يُصْرَفُ بِهَا الْكَلَامُ إلَى الْمَجَازِ فَقَالَ جُمْلَةُ مَا يُتْرَكُ بِهِ الْحَقِيقَةُ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ يَعْنِي بِهِ الشَّرْعِيَّاتِ. وَالِانْحِصَارُ عَلَى الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ عُرِفَ بِالِاسْتِقْرَاءِ قَوْلُهُ (بِدَلَالَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَالْعَادَةِ) . قِيلَ هُمَا مُتَرَادِفَانِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْ الِاسْتِعْمَالِ نَقْلُ اللَّفْظِ عَنْ مَوْضُوعِهِ الْأَصْلِيِّ إلَى مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ شَرْعًا وَغَلَبَةُ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ حَتَّى صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْحَقِيقَةِ وَيُسَمَّى إذْ ذَاكَ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً. وَمِنْ الْعَادَةِ نَقْلُهُ إلَى مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ عُرْفًا وَاسْتِفَاضَتُهُ فِيهِ كَوَضْعِ الْقَدَمِ فِي قَوْلِهِ لَا أَضَعُ قَدَمِي فِي دَارِ فُلَانٍ وَيُسَمَّى حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِعْمَالُ رَاجِعًا إلَى الْقَوْلِ يَعْنِي إنَّهُمْ يُطْلِقُونَ هَذَا اللَّفْظَ فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ فِي الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ دُونَ مَوْضُوعِهِ الْأَصْلِيِّ كَالصَّلَاةِ وَالدَّابَّةِ مَثَلًا فَإِنَّهُمَا لَا تُسْتَعْمَلَانِ فِي الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ إلَّا فِي الْأَرْكَانِ الْمَعْهُودَةِ وَالْفَرَسِ. وَالْعَادَةُ رَاجِعَةٌ إلَى الْفِعْلِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَدُلُّ سِيَاقُ كَلَامِ الشَّيْخِ قَوْلُهُ (فَإِنَّهَا اسْمٌ لِلدُّعَاءِ) الصَّلَاةُ الدُّعَاءُ لُغَةً قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وَإِذَا كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ» أَيْ فَلْيَدْعُ. وَقَالَ الْأَعْشَى

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] وَكُلُّ ذِكْرٍ دُعَاءٌ وَكَالْحَجِّ فَإِنَّهُ قَصْدٌ فِي اللُّغَةِ فَصَارَ اسْمًا لِعِبَادَةٍ مَعْلُومَةٍ مَجَازًا لِمَا فِيهِ مِنْ قُوَّةِ الْعَزِيمَةِ وَالْقَصْدِ بِقَطْعِ الْمَسَافَةِ وَكَذَلِكَ نَظَائِرُهَا مِنْ الْعُمْرَةِ وَالزَّكَاةِ حَتَّى صَارَتْ الْحَقِيقَةُ مَهْجُورَةً وَإِنَّمَا صَارَ هَذَا دَلَالَةً عَلَى تَرْكِ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَوْضُوعٌ لِاسْتِعْمَالِ النَّاسِ وَحَاجَتِهِمْ فَيَصِيرُ الْمَجَازُ بِاسْتِعْمَالِهِمْ كَالْحَقِيقَةِ وَمِثَالُهُ مَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِيمَنْ نَذَرَ صَلَاةً أَوْ حَجًّا ـــــــــــــــــــــــــــــQتَقُولُ بِنْتِي وَقَدْ قَرُبْت مُرْتَجِلًا ... يَا رَبِّ جَنِّبْ أَبِي الْأَوْصَابَ وَالْوَجَعَا عَلَيْكِ مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضِي عَيْنًا ... فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعًا أَيْ دَعَوْتِ يُرِيدُ قَوْلَهَا يَا رَبِّ جَنِّبْ أَبِي الْأَوْصَابَ، وَقَالَ أَيْضًا: وَصَهْبَاءُ طَافَ يَهُودِيًّا ... وَأَبْرَزَهَا وَعَلَيْهَا خَتَمٌ وَأَقْبَلَهَا الرِّيحُ فِي دَنِّهَا ... وَصَلَّى عَلَى دَنِّهَا وَارْتَسَمْ أَيْ اسْتَقْبَلَ بِالْخَمْرِ الرِّيحَ وَدَعَا، وَارْتَسَمَ مِنْ الرَّوْسَمِ وَهُوَ الْخَاتَمُ يَعْنِي خَتَمَهَا، ثُمَّ نُقِلَتْ إلَى الْأَرْكَانِ الْمَعْلُومَةِ لِمَا ذَكَرَ قَوْلُهُ قَالَ تَعَالَى {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] إمَّا مِنْ قَبِيلِ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى الْمَفْعُولِ أَيْ لِتَذْكُرَنِي فِيهَا لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْأَذْكَارِ الْوَارِدَةِ فِي كُلِّ رُكْنٍ. أَوْ مِنْ قَبِيلِ إضَافَتِهِ إلَى الْفَاعِلِ أَيْ أَقِمْهَا لَأَنْ أَذْكُرَك بِالْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ كَمَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] أَيْ ذِكْرُ اللَّهِ الْعَبْدَ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِ الْعَبْدِ إيَّاهُ. أَوْ أَقِمْهَا لِأَنِّي ذَكَرْتهَا فِي كُلِّ كِتَابٍ وَلَمْ أُخْلِ مِنْهَا شَرِيعَةً وَإِيرَادُهُ هَهُنَا لِلْمَعْنَى الْأَوَّلِ قَوْلُهُ (وَكُلُّ ذِكْرٍ دُعَاءٌ) فَإِنَّ مَنْ ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى يُقَالُ دَعَاهُ. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ اشْتِغَالَ الْعَبْدِ الْفَقِيرِ الْمُحْتَاجِ بِذِكْرِ مَوْلَاهُ الْغَنِيِّ الْكَرِيمِ وَثَنَائِهِ تَعَرُّضٌ مِنْهُ لِطَلَبِ حَاجَتِهِ مِنْهُ فَيَكُونُ كُلُّ ذِكْرٍ دُعَاءً أَوْ الدُّعَاءُ ذِكْرُ الْمَدْعُوِّ لِطَلَبِ أَمْرٍ مِنْهُ. وَقِيلَ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ مَا حَدِيثٌ يُرْوَى عَنْ رَسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. «أَفْضَلُ دُعَاءٍ أُعْطِيته أَنَا وَالنَّبِيُّونَ قَبْلِي أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» قَالَ مَا تُنْكِرُ مِنْ ذَا ثُمَّ حَدَّثَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ تَشَاغَلَ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَعْطَاهُ اللَّهُ فَوْقَ رَغْبَةِ السَّائِلِينَ» . ثُمَّ قَالَ هَذَا أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ يَقُولُ لِابْنِ جُدْعَانَ: أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي ... حَيَاؤُك إنَّ شِيمَتَك الْحَيَاءُ وَعِلْمُك بِالْحُقُوقِ وَأَنْتَ قَرْمُ ... لَك الْحَسَبُ الْمُهَذَّبُ وَالسَّنَاءُ إذَا أَثْنَى عَلَيْك الْمَرْءُ يَوْمًا ... كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ فَهَذَا مَخْلُوقٌ يَقُولُ فِي مَخْلُوقٍ فَمَا ظَنُّك بِرَبِّ الْعَالَمِينَ كَذَا فِي رَبِيعِ الْأَبْرَارِ وَغَيْرِهِ قَوْلُهُ (وَكَالْحَجِّ فَإِنَّهُ قَصْدٌ فِي اللُّغَةِ) الْحَجُّ الْقَصْدُ وَمِنْهُ الْمَحَجَّةُ لِلطَّرِيقِ وَالْحُجَّةُ لِأَنَّهَا تُقْصَدُ وَتُعْتَمَدُ أَوْ بِهَا يُقْصَدُ الْحَقُّ الْمَطْلُوبُ قَالَ الْمُخَبَّلُ السَّعْدِيُّ: وَاشْهَدْ مِنْ عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَةً ... يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا أَيْ يَقْصِدُونَهُ وَيَخْتَلِفُونَ إلَيْهِ. وَالسِّبُّ الْعِمَامَةُ وَالزِّبْرِقَانُ لَقَبُ حُصَيْنِ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيِّ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ الْقَمَرُ ثُمَّ تُعُورِفَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْقَصْدِ إلَى مَكَّةَ لِلنُّسُكِ الْمَعْرُوفِ. وَكَذَلِكَ نَظَائِرُهَا مِنْ الْعُمْرَةِ. الْعُمْرَةُ اسْمٌ مِنْ الِاعْتِمَارِ كَالْعِبْرَةِ مِنْ الِاعْتِبَارِ وَأَصْلُهَا الزِّيَارَةُ يُقَالُ اعْتَمَرَ أَيْ زَارَ. وَفِي الْمُغْرِبِ أَصْلُهَا الْقَصْدُ إلَى مَكَان عَامِرٍ ثُمَّ غَلَبَتْ عَلَى هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْمَعْلُومَةِ وَهِيَ الْإِحْرَامُ وَالطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَالْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ وَالزَّكَاةُ هَذَا التَّرْكِيبُ يَدُلُّ عَلَى الطَّهَارَةِ قَالَ تَعَالَى {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] . قِيلَ وَتُطَهِّرُهُمْ وَيُقَالُ فُلَانٌ زَكَّى نَفْسَهُ أَيْ مَدَحَهَا وَطَهَّرَهَا عَنْ رَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ، وَعَلَى الزِّيَادَةِ وَالنَّمَاءِ وَهُوَ الظَّاهِرُ يُقَالُ زَكَا الزَّرْعُ يَزْكُو زَكَاةً أَيْ نَمَا ثُمَّ سُمِّيَ بِهَا الْقَدْرُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ الْمَالِ إلَى الْفُقَرَاءِ لِأَنَّ إخْرَاجَهُ سَبَبٌ لِنَمَاءِ الْمَالِ وَالْيُمْنِ وَالْبَرَكَةِ فِيهِ وَلِطَهَارَةِ مُؤَدِّيهِ عَنْ الْآثَامِ وَغَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا فِيهِ بِحَيْثُ صَارَتْ الْحَقِيقَةُ مَهْجُورَةً. حَتَّى صَارَتْ الْحَقِيقَةُ مَهْجُورَةً فَإِنَّهُ لَوْ حَلَفَ أَنْ يُصَلِّيَ أَوْ يَحُجَّ أَوْ يَعْتَمِرَ أَوْ يُزَكِّيَ لَمْ يَلْزَمْ عَلَيْهِ إلَّا الْعِبَادَاتُ الْمَعْهُودَةُ وَلَا يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِمُبَاشَرَةِ حَقَائِقِهَا اللُّغَوِيَّةِ. وَإِنَّمَا صَارَ هَذَا أَيْ اسْتِعْمَالُ

أَوْ الْمَشْيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ أَنْ يَضْرِبَ بِثَوْبِهِ حَطِيمَ الْكَعْبَةِ إنَّ ذَلِكَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ وَمِثَالُهُ كَثِيرٌ وَقَالُوا فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رَأْسًا إنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْمُتَعَارَفِ اسْتِحْسَانًا عَلَى حَسَبِ مَا اخْتَلَفُوا وَيَسْقُطُ غَيْرُهُ وَهُوَ حَقِيقَةٌ وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بَيْضًا ـــــــــــــــــــــــــــــQاللَّفْظِ فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ وَاسْتِفَاضَتُهُ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى تَرْكِ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَوْضُوعٌ لِلْإِفْهَامِ وَالْمَطْلُوبُ بِهِ مَا يَسْبِقُ إلَيْهِ الْأَوْهَامُ فَإِذَا تَعَارَفَ النَّاسُ اسْتِعْمَالَهُ لِشَيْءٍ عَيْنًا كَانَ بِحُكْمِ الِاسْتِعْمَالِ كَالْحَقِيقَةِ فِيهِ وَمَا سِوَاهُ لِعَدَمِ الْعُرْفِ كَالْمَجَازِ لَا يَتَنَاوَلُهُ الْكَلَامُ إلَّا بِقَرِينَةٍ. وَهَذَا كَاسْمِ الدَّرَاهِمِ يَتَنَاوَلُ نَقْدَ الْبَلَدِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لِوُجُودِ الْعُرْفِ الظَّاهِرِ فِي التَّعَامُلِ بِهِ وَلَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ إلَّا بِقَرِينَةٍ لِتَرْكِ التَّعَامُلِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ فَرْقٌ فِيمَا وُضِعَ الِاسْمُ لَهُ حَقِيقَةً كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ (أَوْ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ) إذَا قَالَ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ لَزِمَهُ حِجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ وَالْخِيَارُ إلَيْهِ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِأَنَّ الْإِلْزَامَ بِالنَّذْرِ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ شَرْعًا وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ شَرْعًا فَلَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ كَالْمَشْيِ إلَى الْحَرَمِ وَإِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الِالْتِزَامَ بِاللَّفْظِ وَلَمْ يَلْزَمْهُ مَا تَلَفَّظَ بِهِ وَهُوَ الْمَشْيُ بِالِاتِّفَاقِ فَلَأَنْ لَا يَلْزَمُهُ مَا لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ كَانَ أَوْلَى وَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ عَلَيَّ الذَّهَابُ أَوْ السَّفَرُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ. وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْعُرْفِ الظَّاهِرِ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ هَذَا اللَّفْظَ وَيُرِيدُونَ بِهِ الْتِزَامَ النُّسُكِ وَتَعَارَفُوا ذَلِكَ وَاللَّفْظُ إذَا صَارَ عِبَارَةً عَنْ غَيْرِهِ مَجَازًا وَاشْتُهِرَ فِيهِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ حَقِيقَتِهِ وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ تَلَفَّظَ بِمَا صَارَ عِبَارَةً عَنْهُ وَالْعُرْفُ مُخْتَصٌّ بِلَفْظِ الْمَشْيِ الْمُضَافِ إلَى الْكَعْبَةِ أَوْ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ إلَى مَكَّةَ فَبَقِيَ مَا وَرَاءَهَا عَلَى الْقِيَاسِ. وَعِنْدَهُمَا الْمَشْيُ الْمُضَافُ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَالْمُضَافِ إلَى الْكَعْبَةِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ. وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَضْرِبَ بِثَوْبِي حَطِيمَ الْكَعْبَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَهُ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي كَلَامِهِ لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فَلَأَنْ لَا يَلْزَمُهُ غَيْرُهُ أَوْلَى. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ إنَّمَا يُرَادُ بِهَذَا اللَّفْظِ الْإِهْدَاءُ بِهِ فَصَارَ اللَّفْظُ عِبَارَةً عَمَّا يُرَادُ بِهِ عُرْفًا فَكَأَنَّهُ الْتَزَمَ أَنْ يُهْدِيَهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّفْظَ مَتَى صَارَ عِبَارَةً عَنْ غَيْرِهِ سَقَطَ اعْتِبَارُ حَقِيقَتِهِ فِي نَفْسِهِ. كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. وَالْمَعْنَى الْمُجَوِّزُ لِلتَّجَوُّزِ هُوَ أَنَّ الضَّرْبَ عَلَى حَطِيمِ الْكَعْبَةِ أَمَارَةُ إخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَدَلِيلٌ عَلَيْهِ فَكَانَ مِنْ قَبِيلِ ذِكْرِ السَّبَبِ وَإِرَادَةِ الْمُسَبَّبِ. وَمِثَالُهُ كَثِيرٌ مِثْلُ مَا لَوْ قَالَ عَلَيَّ أَنْ أَذْبَحَ الْهَدْيَ يَجِبُ ذَبْحُ الْهَدْيِ بِالْحَرَمِ وَكَمَا لَوْ قَالَ عَلَيَّ أَنْ أَنْحَرَ وَلَدِي أَوْ أَذْبَحَ وَلَدِي أَوْ أُضَحِّيَ وَلَدِي يَلْزَمُهُ ذَبْحُ شَاةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ اسْتِحْسَانًا. قَوْلُهُ (وَقَالُوا فِيمَنْ حَلَفَ) إنَّمَا فُرِّقَ بَيْنَ النَّظَائِرِ الْأُولَى وَبَيْنَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِقَوْلِهِ وَقَالُوا لِأَنَّ فِيمَا تَقَدَّمَ لَمْ تَكُنْ الْحَقِيقَةُ مَنْظُورًا إلَيْهَا أَصْلًا وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ بَعْضُ أَفْرَادِ الْحَقِيقَةِ مَقْصُودٌ وَلِهَذَا قَالَ هُوَ شَبِيهٌ بِالْمَجَازِ. يَقَعُ عَلَى الْمُتَعَارَفِ. إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رَأْسًا فَهُوَ عَلَى رُءُوسِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ رَأْسَ كُلِّ شَيْءٍ فَإِنَّ رَأْسَ الْجَرَادِ وَالْعُصْفُورِ لَا يَدْخُلَانِ تَحْتَهُ وَهُوَ رَأْسٌ حَقِيقَةً فَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْحَقِيقَةَ وَجَبَ اعْتِبَارُ الْعُرْفِ وَهُوَ أَنَّ الرَّأْسَ مَا يُكْبَسُ فِي التَّنَانِيرِ وَيُبَاعُ مَشْوِيًّا. وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ أَوَّلًا يَدْخُلُ فِيهِ رَأْسُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ لِمَا رَأَى مِنْ عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ إنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الرُّءُوسِ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ تَرَكُوا هَذِهِ الْعَادَةَ فِي الْإِبِلِ فَرَجَعَ وَقَالَ يَحْنَثُ

إنَّهُ يَخْتَصُّ بِبَيْضِ الْإِوَزِّ وَالدَّجَاجَةِ اسْتِحْسَانًا وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَبِيخًا أَيْ شِوَاءً إنَّهُ يَقَعُ عَلَى اللَّحْمِ خَاصَّةً اسْتِحْسَانًا وَكُلُّ عَامٍّ سَقَطَ بَعْضُهُ كَانَ شَبِيهًا بِالْمَجَازِ عَلَى مَا سَبَقَ وَهَذَا ثَابِتٌ بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ لَا غَيْرُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي رَأْسِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ خَاصَّةً ثُمَّ إنَّ أَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا رَحِمَهُمَا اللَّهُ شَاهَدَا عَادَةَ أَهْلِ بَغْدَادَ وَسَائِرِ الْبُلْدَانِ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إلَّا فِي رُءُوسِ الْغَنَمِ فَقَالَا لَا يَحْنَثُ إلَّا فِي رَأْسِ الْغَنَمِ فَعُلِمَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ اخْتِلَافُ عُرْفٍ وَزَمَانٍ لَا اخْتِلَافُ حُكْمٍ وَبُرْهَانٍ وَالْعُرْفُ الظَّاهِرُ أَصْلٌ فِي مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ قَوْلُهُ (إنَّهُ يَخْتَصُّ بِبَيْضِ الْإِوَزِّ وَالدَّجَاجَةِ) هَذَا اللَّفْظُ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ مَا سِوَاهُمَا مِنْ الْبَيْضِ لِأَنَّ التَّعَارُفَ مُخْتَصٌّ بِهِمَا وَهَكَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَقَالَ يَتَنَاوَلُ يَمِينُهُ بَيْضَ الدَّجَاجِ وَالْإِوَزِّ خَاصَّةً لِاسْتِعْمَالِ ذَلِكَ عِنْدَ الْأَكْلِ عُرْفًا وَلَا يَتَنَاوَلُ بَيْضَ الْحَمَامِ وَالْعُصْفُورِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بَيْضًا فَهُوَ عَلَى بَيْضِ الطَّيْرِ مِنْ الدَّجَاجَةِ وَالْإِوَزِّ وَغَيْرِهِمَا وَلَا يَدْخُلُ بَيْضُ السَّمَكِ فِيهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهَذَا بَيْضُ كُلِّ شَيْءٍ فَإِنَّ بَيْضَ الدُّودِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ فَيُحْمَلُ عَلَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْبَيْضِ وَيُؤْكَلُ عَادَةً وَهُوَ كُلُّ بَيْضٍ لَهُ قِشْرٌ كَبَيْضِ الدَّجَاجَةِ وَنَحْوِهَا. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَحْنَثُ بِمَا سِوَاهُمَا كَبَيْضِ النَّعَامِ وَالْحَمَامِ وَسَائِرِ الطُّيُورِ وَالدَّجَاجُ مَعْرُوفٌ وَفَتْحُ الدَّالِ فِيهِ أَفْصَحُ مِنْ كَسْرِهَا الْوَاحِدَةُ دَجَاجَةٌ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لِأَنَّ الْهَاءَ دَخَلَتْهُ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ جِنْسِ مِثْلُ حَمَامَةٍ وَبَطَّةٍ كَذَا فِي الصِّحَاحِ قَوْلُهُ (وَلَا يَأْكُلُ طَبِيخًا) وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَبِيخًا فَهُوَ عَلَى اللَّحْمِ خَاصَّةً مَا لَمْ يَنْوِ غَيْرَهُ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ يَحْنَثُ فِي اللَّحْمِ وَغَيْرِهِ مِمَّا هُوَ مَطْبُوخٌ وَلَكِنَّ الْأَخْذَ بِالْقِيَاسِ هَهُنَا يَفْحُشُ فَإِنَّ الْمُسَهِّلَ مِنْ الدَّوَاءِ مَطْبُوخٌ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ ذَلِكَ فَحَمَلْنَاهُ عَلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ وَهُوَ اللَّحْمُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُطْبَخُ فِي الْعَادَاتِ الظَّاهِرَةِ وَتُتَّخَذُ مِنْهُ الْمُبَاحَاتُ. قَالُوا وَإِنَّمَا يَحْنَثُ إذَا أَكَلَ اللَّحْمَ الْمَطْبُوخَ بِالْمَاءِ فَأَمَّا الْقَلِيَّةُ الْيَابِسَةُ فَلَا يُسَمَّى مَطْبُوخًا. فَإِنْ طَبَخَ بِالْمَاءِ إيَّاهَا فَأَكَلَ مِنْ مَرَقِهِ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ يُسَمَّى طَبِيخًا فِي الْعَادَةِ وَلِمَا فِيهِ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّحْمِ. وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الشِّوَاءَ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهُوَ عَلَى اللَّحْمِ خَاصَّةً أَيْضًا اسْتِحْسَانًا دُونَ الْبَيْضِ وَالْبَاذِنْجَانِ وَالسَّلْقِ وَالْجَزَرِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَمَلَ بِالْعُمُومِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَيُصْرَفُ إلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ وَهُوَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعُرْفُ قَوْلُهُ (وَكُلُّ عَامٍّ سَقَطَ بَعْضُهُ كَانَ شَبِيهًا بِالْمَجَازِ) إنَّمَا ذَكَرَ هَذَا جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ يَرِدُ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ أَنْتَ فِي بَيَانِ تَرْكِ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ وَفِيمَا ذَكَرْت مِنْ الْمَسَائِلِ اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُ مَا بَقِيَ تَحْتَهُ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ لَكِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ مَنْ وَرَاءَ ذَلِكَ فَكَانَ مِنْ قَبِيلِ الْحَقِيقَةِ الْقَاصِرَةِ وَقَدْ اخْتَرْت فِي بَابِ مُوجَبِ الْأَمْرِ أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْقَاصِرَةَ لَا يُسَمَّى مَجَازًا فَأَنَّى يَسْتَقِيمُ إيرَادُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي هَذَا الْبَابِ فَقَالَ الْعَامُّ إذَا سَقَطَ بَعْضُهُ صَارَ شَبِيهًا بِالْمَجَازِ لِأَنَّهُ انْتَقَلَ عَنْ مَوْضُوعِهِ الْأَصْلِيِّ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ الْكُلُّ إلَى غَيْرِهِ وَهُوَ الْبَعْضُ. عَلَى مَا سَبَقَ أَيْ فِي بَابِ الْعَامِّ الَّذِي لَحِقَهُ الْخُصُوصُ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ فَإِنَّ الشَّيْخَ أَبَا الْحَسَنِ الْكَرْخِيَّ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَامًّا حَقِيقَةً وَنَحْنُ حَكَمْنَا بِأَنَّهُ تَغَيَّرَ وَصَارَ ظَنِّيًّا فَتَحَقَّقَ بِهِ شَبَهُ الْمَجَازِ فَلِذَلِكَ نَاسَبَ إيرَادُهَا هَهُنَا قَوْلُهُ (وَهَذَا ثَابِتٌ بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ لَا غَيْرُ) أَيْ تَخَصُّصُ هَذِهِ الْعُمُومَاتِ ثَابِتٌ بِالْعُرْفِ الْعَادِي لَا بِالْعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِيِّ فَإِنَّ لَفْظَ الرَّأْسِ كَمَا يُسْتَعْمَلُ فِي رَأْسِ الْغَنَمِ يُسْتَعْمَلُ فِي رَأْسِ الْعُصْفُورِ وَالْحَمَامِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى السَّوَاءِ إلَّا أَنَّ الْعَادَةَ فِي الْأَكْلِ مُخْتَصَّةٌ بِرَأْسِ الْغَنَمِ. وَكَذَا إطْلَاقُ لَفْظِ الْبَيْضِ عَلَى بَيْضِ الْعُصْفُورِ وَالْحَمَامِ شَائِعٌ

[الثابت بدلالة اللفظ في نفسه]

وَأَمَّا الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ فِي نَفْسِهِ فَمِثْلُ قَوْلِهِ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا أَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَى السَّمَكِ وَهُوَ لَحْمٌ فِي الْحَقِيقَةِ لَكِنَّهُ نَاقِصٌ لِأَنَّ اللَّحْمَ يَتَكَامَلُ بِالدَّمِ فَمَا لَا دَمَ لَهُ قَاصِرٌ مِنْ وَجْهٍ فَخَرَجَ عَنْ مُطْلَقِهِ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ الرَّجُلِ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ. لَا يَتَنَاوَلُ الْمُكَاتَبَ، وَكُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ، ـــــــــــــــــــــــــــــQكَمَا شَاعَ فِي بَيْضِ الدَّجَاجِ وَالْإِوَزِّ لَكِنَّ الْعَادَةَ الظَّاهِرَةَ فِي الْأَكْلِ اخْتَصَّتْ بِأَكْلِ بَيْضِ الدَّجَاجِ وَالْإِوَزِّ دُونَ غَيْرِهِمَا. وَهَكَذَا فِي مَسْأَلَةِ الطَّبِيخِ وَالشِّوَاءِ فَتُرِكَتْ الْحَقِيقَةُ وَهِيَ الْعُمُومُ بِالْعَادَةِ. بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ تُرِكَتْ فِيهِ بِغَلَبَةِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي تِلْكَ الْمَعَانِي كَمَا بَيَّنَّا لَا بِالْعَادَةِ لِأَنَّ النَّاسَ كَمَا اعْتَادُوا فِعْلَ الصَّلَاةِ اعْتَادُوا الدُّعَاءَ أَيْضًا. فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَهُ بِدَلَالَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَالْعَادَةِ لَيْسَ بِتَرَادُفٍ كَمَا زَعَمَ الْبَعْضُ وَأَنَّ الْوَاوَ فِيهِ بِمَعْنَى أَوْ. [الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ فِي نَفْسِهِ] قَوْلُهُ (وَأَمَّا الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ فِي نَفْسِهِ) تَرْكُ الْحَقِيقَةِ الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ فِي نَفْسِهِ هُوَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُتَنَاوِلًا لِأَفْرَادٍ بِعُمُومِهِ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ وَلَكِنَّهُ يَكُونُ مَعْنَوِيًّا فَيَتَخَصَّصُ بِالْبَعْضِ بِالنَّظَرِ إلَى مَأْخَذِ اشْتِقَاقِهِ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَدْخُلَ فِي عُمُومِهِ لَحْمُ السَّمَكِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ لِأَنَّهُ لَحْمٌ حَقِيقَةً وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ نَفْيُهُ عَنْهُ وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى لَحْمًا فِي قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14] . وَلَكِنَّهُ تَخَصَّصَ بِدَلَالَةِ الِاشْتِقَاقِ كَمَا تَخَصَّصَ مَا تَقَدَّمَ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّحْمَ اسْمٌ مَعْنَوِيٌّ وَأَصْلُ تَرْكِيبِهِ يَدُلُّ عَلَى الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ يُقَالُ الْتَحَمَ الْقِتَالُ أَيْ اشْتَدَّ وَالْمَلْحَمَةُ الْوَاقِعَةُ الْعَظِيمَةُ ثُمَّ سُمِّيَ اللَّحْمُ بِهَذَا الِاسْمِ لِقُوَّةٍ فِيهِ بِاعْتِبَارِ تَوَلُّدِهِ مِنْ الدَّمِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى الْأَخْلَاطِ فِي الْحَيَوَانِ وَلَيْسَ لِلسَّمَكِ دَمٌ فَكَانَ فِي لَحْمِهِ قُصُورٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَكَانَ صَرْفُ مُطْلَقِ الِاسْمِ إلَى مَالَهُ قُوَّةٌ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ إلَى مَا فِيهِ قُصُورٌ وَإِنْ كَانَ الِاسْمُ لَهُ حَقِيقَةً كَاسْمِ الْوُجُودِ بِالْجَوْهَرِ أَوْلَى مِنْهُ بِالْعَرَضِ وَإِنْ كَانَ الِاسْمُ لَهُ حَقِيقَةً لِقُصُورِ الْعَرَضِ فِي مَعْنَى الْوُجُودِ لِعَدَمِ ثَبَاتِهِ وَلِتَوَقُّفِهِ عَلَى وُجُودِ الْجَوْهَرِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَا يُذْكَرُ إلَّا بِقَرِينَةٍ لِلْقُصُورِ الَّذِي ذَكَرْنَا فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ مُطْلَقِ الِاسْمِ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ لَمَّا لَمْ تُذْكَرْ إلَّا بِقَرِينَةٍ لِقُصُورٍ فِيهَا لَا يَتَنَاوَلُهَا مُطْلَقُ اسْمِ الصَّلَاةِ (فَإِنْ قِيلَ) أَلَيْسَ أَنَّهُ لَوْ أَكَلَ لَحْمَ خِنْزِيرٍ أَوْ لَحْمَ إنْسَانٍ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُذْكَرُ إلَّا بِقَرِينَةٍ (قُلْنَا) قَدْ ذَكَرَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا فِيهِ الْخِلَافَ. وَبَعْضُهُمْ ذَكَرُوا أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ أَوْ الْآدَمِيِّ لِانْعِدَامِ الْعُرْفِ فِي أَكْلِهِمَا فَصَارَ كَالرَّأْسِ وَالْبَيْضِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْإِمَامِ التُّمُرْتَاشِيِّ. وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَحْنَثُ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّ ذِكْرَ الْقَرِينَةِ هَهُنَا لَيْسَ لِقُصُورِ مَعْنَى اللَّحْمِيَّةِ فِيهِ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ الدَّمِ كَلَحْمِ الشَّاةِ وَكَذَا مَعْنَى الْغِذَاءِ الْمَطْلُوبِ مِنْ اللَّحْمِ يَتِمُّ فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْآدَمِيِّ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْقَرِينَةَ لِلتَّعْرِيفِ كَلَحْمِ الشَّاةِ وَالطَّيْرِ وَلِبَيَانِ الْحُرْمَةِ لَا لِقُصُورٍ فِي مَعْنَى اللَّحْمِيَّةِ وَلَيْسَ لِلْحُرْمَةِ تَأْثِيرٌ فِي الْمَنْعِ مِنْ إتْمَامِ شَرْطِ الْحِنْثِ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ شَرَابًا فَشَرِبَ الْخَمْرَ يَحْنَثُ قَوْلُهُ (لَا يَتَنَاوَلُ الْمُكَاتَبُ) إذَا قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُكَاتَبُونَ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْعِتْقَ لِكُلِّ مَمْلُوكٍ يُضَافُ إلَيْهِ بِالْمِلْكِ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ لِي وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْمُكَاتَبِينَ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُمْ رَقَبَةً لَا يَدًا بَلْ الْمُكَاتَبُ كَالْحُرِّ يَدًا حَتَّى كَانَ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ وَلَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى اسْتِكْسَابَهُ وَلَا وَطْءَ الْمُكَاتَبَةِ وَالثَّابِتُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ لَا يَكُونُ ثَابِتًا مُطْلَقًا. وَكَذَلِكَ صَرَّحَ بِالْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِهِ وَالْمُكَاتَبُ مُضَافٌ إلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلِلدَّلَالَةِ فِي لَفْظِهِ وَهِيَ إطْلَاقُ الْمِلْكِ وَالْإِضَافَةُ لَا يَتَنَاوَلُهُ الْكَلَامُ بِدُونِ النِّيَّةِ وَلَكِنْ يَتَنَاوَلُهُ مُطْلَقُ اسْمِ الرَّقَبَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْله تَعَالَى {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] . لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الذَّاتَ الْمَرْقُوقَ وَالرِّقُّ لَا يَنْتَقِصُ بِالْكِتَابَةِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» . وَلِأَنَّهَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَاشْتِرَاطَ الْمِلْكِ بِقَدْرِ مَا يَصِحُّ بِهِ التَّحْرِيرُ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْمُكَاتَبِ

لَا يَتَنَاوَلُ الْمَبْتُوتَةَ الْمُعْتَدَّةَ لِمَا قُلْنَا فَصَارَ مَخْصُوصًا وَلِلْمَخْصُوصِ شِبَهٌ بِالْمَجَازِ وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ مَا يَنْعَكِسُ وَذَلِكَ مِثْلُ رَجُلٍ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ فَاكِهَةً لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَكْلِ الرُّطَبِ وَالرُّمَّانِ وَالْعِنَبِ وَقَالَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الِاسْمَ مُطْلَقٌ فَيَتَنَاوَلُ الْكَامِلَ مِنْهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْفَاكِهَةُ اسْمٌ لِلتَّوَابِعِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَفَكَّهَ مَأْخُوذٌ وَهُوَ التَّنَعُّمُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين: 31] أَيْ نَاعِمِينَ وَذَلِكَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَا يَقَعُ بِهِ الْقِوَامُ وَهُوَ الْغِذَاءُ فَصَارَ تَابِعًا وَالرُّطَبُ وَالْعِنَبُ قَدْ يَصْلُحَانِ لِلْغِذَاءِ وَقَدْ يَقَعُ بِهِمَا الْقِوَامُ وَالرُّمَّانُ قَدْ يَقَعُ بِهِ الْقِوَامُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْأَدْوِيَةِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَانَ فِيهَا وَصْفٌ زَائِدٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَيَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ حَيْثُ يَدْخُلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي عُمُومِ قَوْلِهِ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ وَلَا يَتَأَدَّى بِهِمَا الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِمَا كَامِلٌ إذْ الْمَوْلَى يَمْلِكُهُمَا يَدًا وَرَقَبَةً وَيَمْلِكُ اسْتِغْلَالَهُمَا واستكسابهما وَطْءَ الْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَمْلُوكًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي لَكِنَّ الرِّقَّ فِيهِمَا نَاقِصٌ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ مِنْ جِهَةِ الْعِتْقِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِوَجْهٍ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِمَا الْكَفَّارَةُ قَوْلُهُ (لَا يَتَنَاوَلُ الْمَبْتُوتَةَ الْمُعْتَدَّةَ) يَعْنِي مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لِمَا قُلْنَا مِنْ مَعْنَى الْقُصُورِ فَإِنَّهَا امْرَأَتُهُ مِنْ وَجْهٍ لِبَقَاءِ مِلْكِ الْيَدِ وَالدَّوَاعِي فَلَا يَدْخُلُ وَلَوْ طَلَّقَهَا صَحَّ الطَّلَاقُ أَيْضًا، دُونَ وَجْهٍ لِزَوَالِ أَصْلِ مِلْكِ النِّكَاحِ حَتَّى حَرُمَ الْوَطْءُ وَالدَّوَاعِي فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ مُطْلَقِ الِاسْمِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ. وَفَائِدَةُ الْقَيْدَيْنِ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً رَجْعِيَّةً تَدْخُلُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لِبَقَاءِ النِّكَاحِ وَالْحِلِّ وَلَوْ كَانَتْ مُنْقَضِيَةَ الْعِدَّةِ لَا تَدْخُلُ وَإِنْ نَوَى لِبُطْلَانِ النِّكَاحِ بِالْكُلِّيَّةِ. فَصَارَ الْعَامُّ أَيْ قَوْلُهُ لَحْمًا الْوَاقِعُ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ وَقَوْلُهُ كُلُّ مَمْلُوكٍ وَكُلُّ امْرَأَةٍ. مَخْصُوصًا أَيْ مَخْصُوصًا مِنْهُ فَصَارَ شَبِيهًا بِالْمَجَازِ. قَوْلُهُ (وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ مَا يَنْعَكِسُ) أَيْ وَمِنْ التَّرْكِ الثَّابِتِ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ مَا هُوَ عَلَى عَكْسِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسَائِلِ فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ تُرِكَتْ فِيمَا ذَكَرْنَا بِاعْتِبَارِ النُّقْصَانِ وَالْقُصُورِ لِأَنَّ أَصْلَ الِاشْتِقَاقِ يَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ وَهَهُنَا تُرِكَتْ الْحَقِيقَةُ بِاعْتِبَارِ الْكَمَالِ لِأَنَّ أَصْلَ الِاشْتِقَاقِ يَدُلُّ عَلَى النُّقْصَانِ وَالتَّبَعِيَّةِ. إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ فَاكِهَةً وَلَا نِيَّةَ لَهُ لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ الرُّطَبِ وَالْعِنَبِ وَالرُّمَّانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَحْنَثُ بِأَكْلِهَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَإِنْ نَوَاهَا عِنْدَ الْحَلِفِ يَحْنَثُ بِالْإِجْمَاعِ كَذَا فِي التُّحْفَةِ. قَالُوا إنَّ الْفَاكِهَةَ مَا يُؤْكَلُ عَلَى سَبِيلِ التَّفَكُّهِ وَهُوَ التَّنَعُّمُ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ أَكْمَلُ مَا يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ وَمُطْلَقُ الِاسْمِ يَتَنَاوَلُ الْكَامِلَ وَكَذَا الْفَاكِهَةُ مَا يُقَدَّمُ بَيْنَ يَدَيْ الضِّيفَانِ لِلتَّفَكُّهِ بِهِ لَا لِشِبَعٍ وَالرُّمَّانُ وَالرُّطَبُ وَالْعِنَبُ مِنْ أَنْفَسِ ذَلِكَ كَالتِّينِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ غَيْرُ الْفَاكِهَةِ قَالَ تَعَالَى {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] . وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} [عبس: 27] {وَعِنَبًا وَقَضْبًا} [عبس: 28] {وَزَيْتُونًا وَنَخْلا} [عبس: 29] {وَحَدَائِقَ غُلْبًا} [عبس: 30] {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] . فَتَارَةً عَطَفَ الْفَاكِهَةَ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَتَارَةً عَطَفَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عَلَيْهَا وَالشَّيْءُ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ أَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِ الْمِنَّةِ وَلَا يَلِيقُ بِالْحِكْمَةِ ذِكْرُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ فِي مَوْضِعِ الْمِنَّةِ بِلَفْظَيْنِ وَلِأَنَّ الْفَاكِهَةَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ التَّفَكُّهِ وَهُوَ التَّنَعُّمُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى. {انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين: 31] . أَيْ نَاعِمِينَ وَالتَّنَعُّمُ زَايِدٌ عَلَى مَا بِهِ الْقِوَامُ وَالْبَقَاءُ وَالرُّطَبُ وَالْعِنَبُ يَتَعَلَّقُ بِهِمَا الْقِوَامُ وَقَدْ يُجْتَزَأُ بِهِمَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَالرُّمَّانُ فِي مَعْنَى الدَّوَاءِ قَدْ يَقَعُ بِهِ الْقِوَامُ أَيْضًا وَهُوَ قُوتٌ مِنْ جُمْلَةِ التَّوَابِلِ إذَا يَبِسَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْنَا. كَانَ فِيهَا أَيْ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ وَصْفٌ زَايِدٌ وَهُوَ الْغِذَائِيَّةُ وَقِوَامُ الْبَدَنِ بِهَا فَلِهَذِهِ الزِّيَادَةِ لَا يَتَنَاوَلُهَا مُطْلَقُ اسْمِ الْفَاكِهَةِ كَمَا أَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ اللَّحْمِ لَا يَتَنَاوَلُ لَحْمَ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ لِلنُّقْصَانِ. وَلَا يَلْزَمُ دُخُولُ الطَّرَّارِ تَحْتَ اسْمِ السَّارِقِ وَإِنْ كَانَ فِي فِعْلِهِ وَصْفٌ زَائِدٌ وَهُوَ الْقَاطِعُ مِنْ الْيَقْظَانِ لِأَنَّا أَثْبَتْنَا الْحُكْمَ فِيهِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ مِنْ غَيْرِ مُنَاقَضَةٍ تَلْزَمُ فَإِنَّ مِلْكَ الزِّيَادَةِ مُكَمِّلَةٌ لِمَعْنَى السَّرِقَةِ كَالضَّرْبِ وَالشَّتْمِ كُلُّ وَاحِدٍ مُكَمِّلٌ لِمَعْنَى الْإِيذَاءِ فَأَمَّا الِاسْمُ هَهُنَا فَوَاقِعٌ عَلَى مَا هُوَ تَبَعٌ وَالزِّيَادَةُ هَهُنَا مُغَيِّرَةٌ لِمَعْنَاهُ وَهُوَ التَّبَعِيَّةُ إذْ الْأَصَالَةُ تُنَافِي التَّبَعِيَّةَ فَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ دُخُولُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَحْتَ مُطْلَقِ الِاسْمِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ أَنَّ كَمَالَ الْمَعْنَى فِيهِ أَيْ فِي التَّمْرِ إخْرَاجُهُ

[الثابت بسياق النظم]

وَالِاسْمُ نَاقِصٌ مُقَيَّدٌ فِي الْمَعْنَى فَلَمْ يَتَنَاوَلْ الْكَامِلَ وَكَذَلِكَ طَرِيقُهُ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ إدَامًا أَنَّهُ يَقَعُ عَلَى مَا يَتْبَعُ الْخُبْزَ لِأَنَّ الْأُدْمَ اسْمٌ لِلتَّابِعِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَنَاوَلَ مَا هُوَ أَصْلٌ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ اللَّحْمُ وَالْجُبْنُ وَالْبَيْضُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَتَانِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَأَمَّا الثَّابِتُ بِسِيَاقِ النَّظْمِ فَمِثْلُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا} [الكهف: 29] تُرِكَتْ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ وَالتَّخْيِيرِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا} [الكهف: 29] وَحُمِلَ عَلَى الْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ مَجَازًا ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ أَنْ يَكُونَ فَاكِهَةً وَجَعْلُهُ غِذَاءً فَلَا يَتَنَاوَلُهُ مُطْلَقُ الِاسْمِ لِأَنَّ الْمَطْعُومَاتِ بَعْضُهَا أُصُولٌ وَهِيَ الْأَغْذِيَةُ وَبَعْضُهَا فُرُوعٌ كَالْفَوَاكِهِ وَالتَّمْرُ وَالْعِنَبُ وَالرُّمَّانُ الْتَحَقَتْ بِالْأَغْذِيَةِ لِزِيَادَةِ مَعَانٍ فِيهَا وَكَثْرَةِ رَغَائِبِ النَّاسِ إلَيْهَا لَا جَرَمَ خَرَجَتْ عَنْ مُطْلَقِ اسْمِ الْفُرُوعِ كَالْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ خَرَجُوا عَنْ اسْمِ الْأَقَارِبِ فِي الْوَصِيَّةِ وَفِي الطَّرَّارِ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ قَوْلُهُ (وَالِاسْمُ نَاقِصٌ) أَيْ اسْمُ الْفَاكِهَةِ دَالٌّ عَلَى مَا هُوَ نَاقِصٌ فِي نَفْسِهِ. مُقَيَّدٌ أَيْ بِكَوْنِهِ تَابِعًا فِي الْمَعْنَى أَيْ بِالنَّظَرِ إلَى مَعْنَاهُ فِي أُصُولِ اللُّغَةِ. وَذُكِرَ فِي التُّحْفَةِ وَمَشَايِخُنَا قَالُوا هَذَا اخْتِلَافُ عُرِفَ وَزَمَانٍ فَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَفْتَى عَلَى حَسَبِ عُرْفِ زَمَانِهِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعُدُّونَهَا مِنْ الْفَوَاكِهِ وَتَغَيَّرَ الْعُرْفُ فِي زَمَانِهِمَا وَفِي عُرْفِنَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ فِي يَمِينِهِ أَيْضًا بِالِاتِّفَاقِ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَكَالطَّرِيقِ الْمَذْكُورِ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَسْأَلَةِ الْفَاكِهَةِ طَرِيقَةٌ فِي مَسْأَلَةِ الْإِدَامِ وَهِيَ مَا إذَا حَلَفَ وَلَا يَأْكُلُ إدَامًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَى مَا يَصْطَبِغُ بِهِ مِثْلِ الْخَلِّ وَالزَّيْتِ وَاللَّبَنِ دُونَ الْجُبْنِ وَالْبَيْضِ وَاللَّحْمِ وَالسَّمَكِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّ الْإِدَامَ اسْمٌ لِمَا يُطَيِّبُ الْخُبْزَ وَيُصْلِحُهُ فَكَانَ اسْمًا لِمَا يَتْبَعُ الْخُبْزَ وَمَدَارُ التَّرْكِيبِ يَدُلُّ عَلَى الْمُوَافَقَةِ وَالْمُلَاءَمَةِ يُقَالُ أَدَم اللَّهُ بَيْنَكُمَا وَآدَمَ أَيْ أَصْلَحَ وَأَلَّفَ. وَفِي الْحَدِيثِ «لَوْ نَظَرْتَ إلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا» . يَعْنِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَكُمَا الْمَحَبَّةُ وَالِاتِّفَاقُ وَكَمَالُ التَّبَعِيَّةِ وَالْمُوَافَقَةِ فِيمَا يَخْتَلِطُ بِالْخُبْزِ وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْحَمْلِ قَصْدًا وَلَا إلَى الْمَضْغِ وَالِابْتِلَاعِ كَذَلِكَ وَكَالْخَلِّ وَكَذَا كُلُّ مَا يَصْطَبِغُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَأَمَّا اللَّحْمُ وَالْجُبْنُ وَالْبَيْضُ وَأَمْثَالُهَا فَتُحْمَلُ مَعَ الْخُبْزِ وَيَقَعُ عَلَيْهَا الْمَضْغُ وَالِابْتِلَاعُ قَصْدًا فَيَكُونُ أَصْلًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَكَانَتْ قَاصِرَةً فِي مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ فَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ مُطْلَقِ اسْمِ الْإِدَامِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحْنَثُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَيْضًا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِدَامَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْمُؤَادَمَةِ وَهِيَ الْمُوَافَقَةُ فَمَا يُؤْكَلُ مَعَ الْخُبْزِ غَالِبًا فَهُوَ مُوَافِقٌ لَهُ فَيَكُونُ إدَامًا وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. «سَيِّدُ إدَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ اللَّحْمُ. وَأَخَذَ لُقْمَةً بِيَمِينِهِ وَتَمْرَةً بِشِمَالِهِ فَقَالَ. هَذِهِ إدَامُ هَذِهِ» . فَعَرَفْنَا أَنَّ مَا يُوَافِقُ الْخُبْزَ فِي الْغَالِبِ إدَامٌ إلَّا أَنَّا خَصَّصْنَا مِنْهُ مَا يُؤْكَلُ غَالِبًا وَحْدَهُ كَالْبِطِّيخِ وَالتَّمْرِ وَالْعِنَبِ لِأَنَّ الْإِدَامَ تَبَعٌ فَمَا يُؤْكَلُ وَحْدَهُ غَالِبًا لَا يَكُونُ تَبَعًا فَأَمَّا الْجُبْنُ وَالْبَيْضُ وَاللَّحْمُ فَلَا يُؤْكَلُ وَحْدَهُ غَالِبًا فَكَانَ إدَامًا كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. ثُمَّ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ هَهُنَا عِبَارَةُ كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ حَلَفَ لَا يَأْتَدِمُ بِإِدَامٍ قَالَ الْإِدَامُ كُلُّ شَيْءٍ يَصْطَبِغُ بِهِ قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ فِي كَشْفِ الْغَوَامِضِ فَعَلَى مَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ لَوْ أَكَلَ الْإِدَامَ وَحْدَهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الِائْتِدَامَ بِهِ أَنْ يَأْكُلَ الْخُبْزَ بِهِ وَعَلَى عِبَارَةِ كِتَابِ الْأَيْمَانِ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ قَدْ أَكَلَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَكَلَهُ وَحْدَهُ فَإِنَّ اسْمَ الْإِدَامِ يَلْزَمُهُ أَكَلَهُ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ الْخُبْزِ قَوْلُهُ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَتَانِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ) أَيْ فِي مَسْأَلَةِ الْإِدَامِ دُونَ الْفَاكِهَةِ وَالْفَرْقُ لَهُ عَلَى أَحَدَيْهِمَا شُيُوعُ إطْلَاقِ اسْمِ الْفَاكِهَةِ عَلَى الْعِنَبِ وَالرُّطَبِ وَالرُّمَّانِ حَقِيقَةً وَعُرْفًا وَوُجُودُ مَعْنَى التَّنَعُّمِ فِيهَا وَعَدَمُ شُيُوعِ إطْلَاقِ اسْمِ الْإِدَامِ عَلَى الْبَيْضِ وَاللَّحْمِ وَالْجُبْنِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِدَامَ يُسَمَّى صِبْغًا لِأَنَّ الْخُبْزَ يُغْمَسُ فِيهِ وَيُلَوَّنُ بِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَلَمْ يَكْمُلْ فِيهِ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ. [الثَّابِتُ بِسِيَاقِ النَّظْمِ] قَوْلُهُ (تُرِكَتْ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ) أَيْ حَقِيقَةُ قَوْلِهِ

وَمِثَالُهُ مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ فِي الْحَرْبِيِّ اسْتَأْمَنَ مُسْلِمًا فَقَالَ لَهُ أَنْتَ آمِنٌ كَانَ أَمَانًا فَإِنْ قَالَ أَنْتَ آمِنٌ سَتَعْلَمُ مَا يَلْقَى لَمْ يَكُنْ أَمَانًا وَلَوْ قَالَ انْزِلْ إنْ كُنْت رَجُلًا لَمْ يَكُنْ أَمَانًا وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ طَلِّقْ امْرَأَتِي إنْ كُنْت رَجُلًا أَوْ إنْ قَدَرْت أَوْ اصْنَعْ فِي مَالِي مَا شِئْت إنْ كُنْت رَجُلًا لَمْ يَكُنْ تَوْكِيلًا وَقَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ لِي عَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ الرَّجُلُ لَك عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مَا أَبْعَدَك لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا وَصَارَ الْكَلَامُ لِلتَّوْبِيخِ بِدَلَالَةِ سِيَاقِ نَظْمِهِ وَأَمَّا الثَّابِتُ بِدَلَالَةٍ مِنْ قِبَلِ الْمُتَكَلِّمِ فَمِثْلُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء: 64] إنَّهُ لَمَّا اسْتَحَالَ مِنْهُ الْأَمْرُ بِالْمَعْصِيَةِ وَالْكُفْرِ حُمِلَ عَلَى إمْكَانِ الْفِعْلِ وَإِقْدَارِهِ عَلَيْهِ مَجَازًا لِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْإِيجَابِ فَكَانَ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ اتِّصَالٌ وَمِثَالُهُ مَنْ دُعِيَ إلَى غَدَاءٍ فَحَلَفَ لَا يَتَغَدَّى أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ لِمَا فِي غَرَضِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ بِنَاءِ الْجَوَابِ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ امْرَأَةٌ قَامَتْ لِتَخْرُجَ فَقَالَ لَهَا زَوْجُهَا إنْ خَرَجْت فَأَنْتِ طَالِقٌ أَنَّهُ يَقَعُ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَلْيُؤْمِنْ مَتْرُوكَةٌ هَهُنَا بِقَرِينَةِ فَمَنْ شَاءَ وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِ فَلْيَكْفُرْ مَتْرُوكَةٌ بِدَلَالَةِ الْعَقْلِ وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ} [الكهف: 29] . أَيْ لِلَّذِينَ عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ نَارًا وَكَذَا تُرِكَتْ حَقِيقَةُ التَّخْيِيرِ بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ لِأَنَّ مُوجَبَهُ رَفْعُ الْمَأْثَمِ وَهَذِهِ الْقَرِينَةُ لَا تُنَاسِبُهُ. وَحُمِلَ أَيْ الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ. فَلْيَكْفُرْ. عَلَى الْإِنْكَارِ أَيْ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْإِنْكَارُ وَالرَّدُّ عَلَى مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْكُفْرُ. وَالتَّوْبِيخُ أَيْ التَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40] . مَجَازًا أَيْ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ لِمُنَاسَبَةٍ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مَوْضُوعَهُ الْأَصْلِيَّ هُوَ الطَّلَبُ، وَفَائِدَتُهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِعَةً إلَى الْآمِرِ كَقَوْلِك خِطْ لِي هَذَا الثَّوْبَ أَوْ احْمِلْ لِي هَذَا الطَّعَامَ، أَوْ إلَى الْمَأْمُورِ كَقَوْلِك الْبَسْ هَذَا الثَّوْبَ أَوْ كُلْ هَذَا الطَّعَامَ ثُمَّ الْأَمْرُ الَّذِي يَرْجِعُ نَفْعُهُ إلَى الْمَأْمُورِ أَوْلَى بِالِامْتِثَالِ وَالْقَبُولِ مِنْ غَيْرِهِ فَمَتَى قَابَلَهُ الْمَأْمُورُ بِالرَّدِّ وَالْعِصْيَانِ فَذَلِكَ يُوهِمُ لِلْآمِرِ أَنَّهُ إنَّمَا رَدَّ وَعَصَى لِظَنِّهِ أَنَّ نَفْعَهُ يَعُودُ إلَى الْآمِرِ فَيَطْلُبُ مِنْهُ ضِدَّ الْمَطْلُوبِ الْأَوَّلِ وَيَأْمُرُهُ بِالِاسْتِدَامَةِ عَلَى الْعِصْيَانِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى الرَّدِّ لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا تَنْزِيهُ نَفْسِهِ عَنْ عَوْدِ عَائِدَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ إلَيْهِ إذًا لَوْ كَانَتْ رَاجِعَةً إلَيْهِ لَمَا دَفَعَهَا بِطَلَبِ ضِدِّهَا لِأَنَّهُ خِلَافُ الطَّبْعِ وَالْعَقْلِ وَالثَّانِي أَنَّهُ لَمَّا خَالَفَ أَمْرَهُ أَبْغَضَهُ الْآمِرُ فَطَلَبَ مِنْهُ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعُقُوبَةَ الْعُظْمَى لَمَّا لَمْ يَمْتَثِلْ مَا يَسْتَجْلِبُ الْمَثُوبَةَ الْحُسْنَى فَصَارَ مَعْنَاهُ أَنِّي أَطْلُبُ مِنْك الْعِصْيَانَ لِتَسْتَحِقَّ بِهِ الْخُسْرَانَ وَلِهَذَا لَا يَرِدُ الْأَمْرُ بِمَعْنَى التَّهْدِيدِ إلَّا وَقَدْ سَبَقَهُ أَمْرٌ وَاجِبُ الِامْتِثَالِ بِهِ وَقَدْ تَلَقَّاهُ الْمَأْمُورُ بِالْعِصْيَانِ فَهَذَا هُوَ الْمُجَوِّزُ لِاسْتِعْمَالِ هَذِهِ الصِّيغَةِ فِي الْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى نَزَلَ عَلَى أَسَالِيبِ اسْتِعْمَالَاتِ النَّاسِ فَلِذَلِكَ وَرَدَ فِيهِ الْأَمْرُ بِمَعْنَى التَّوْبِيخِ. وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ ذِكْرِ الضِّدِّ وَإِرَادَةِ الْآخَرِ لِمُعَاقَبَةٍ بَيْنَهُمَا إذْ الْمُرَادُ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ قَوْلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء: 64] أَيْ اسْتَزِلَّ أَوْ حَرِّكْ مَنْ اسْتَطَعْت مِنْهُمْ بِوَسْوَسَتِك وَدُعَائِك إلَى الشَّرِّ. إنَّهُ لَمَّا اسْتَحَالَ مِنْهُ الْأَمْرُ بِالْمَعْصِيَةِ لِأَنَّ الْأَمْرَ لِطَلَبِ الْوُجُودِ مِنْ قِبَلِ الْمَأْمُورِ وَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ هَهُنَا لِأَنَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ كَرِيمٌ حَكِيمٌ لَا يَلِيقُ بِكَرْمِهِ وَحِكْمَتِهِ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ عَدُوِّهِ إبْلِيسَ أَنْ يَسْتَفِزَّ عِبَادَهُ، حُمِلَ عَلَى إمْكَانِ الْفِعْلِ أَيْ تَمْكِينِهِ مِنْهُ وَإِقْدَارِهِ أَيْ جَعْلِهِ قَادِرًا عَلَيْهِ مَجَازًا بِطَرِيقِ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُوجِبَ يَقْتَضِي تَمَكُّنَ الْعَبْدِ مِنْ الْفِعْلِ وَقُدْرَتَهُ عَلَيْهِ أَعْنِي قُدْرَةَ سَلَامَةِ الْآلَاتِ وَصِحَّةِ الْأَسْبَابِ لِأَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ غَيْرُ جَائِزٍ فَاسْتُعِيرَ الْأَمْرُ لِلْإِقْدَارِ وَالتَّمْكِينِ الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْأَمْرِ كَاسْتِعَارَةِ الْأَسَدِ لِلشُّجَاعِ فَصَارَ الْمَعْنَى أَنِّي أَمْكَنْتُك وَأَقْدَرْتُك عَلَى تَهْيِيجِهِمْ وَدُعَائِهِمْ إلَى الشَّرِّ. وَقَوْلُهُ لِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْإِيجَابِ أَوْ لِلْإِيجَادِ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ فَكَانَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ أَيْ الْإِيجَابِ وَالْإِقْدَارِ يُشِيرُ إلَى مَا ذَكَرْنَا يَعْنِي لَمَّا كَانَ الْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ وَلَا إيجَابَ بِدُونِ الْقُدْرَةِ كَانَ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْإِقْدَارِ اتِّصَالٌ لِكَوْنِ الْقُدْرَةِ مِنْ لَوَازِمِ صِحَّةِ الْإِيجَابِ فَيَجُوزُ اسْتِعَارَتُهُ لِلْإِقْدَارِ قَوْلُهُ (وَمِثَالُهُ) أَيْ نَظِيرُ مَا تُرِكَتْ الْحَقِيقَةُ بِدَلَالَةِ حَالِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ الْفُرُوعِ قَوْلُهُ وَاَللَّهِ لَا أَتَغَدَّى جَوَابًا لِمَنْ دَعَاهُ إلَى الْغَدَاءِ فَقَالَ تَعَالَ تَغَدَّ مَعِي فَإِنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الْكَلَامِ لِلْعُمُومِ لِدَلَالَتِهِ لُغَةً عَلَى مَصْدَرٍ مُنَكَّرٍ وَاقِعٍ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ إذْ التَّقْدِيرُ لَا أَتَغَدَّى تَغَدِّيًا فَيَقْتَضِي أَنْ يَحْنَثَ بِكُلِّ تَغَدٍّ يُوجَدُ بَعْدُ كَمَا لَوْ قَالَهُ ابْتِدَاءً إلَّا أَنَّ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ تُرِكَتْ بِدَلَالَةِ حَالِ

[الثابت بدلالة محل الكلام]

عَلَى الْفَوْرِ لِمَا قُلْنَا وَمِثَالُهُ كَثِيرٌ. وَأَمَّا الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ مَحَلِّ الْكَلَامِ فَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [غافر: 58] سَقَطَ عُمُومُهُ وَذَلِكَ حَقِيقَةٌ لِأَنَّ مَحَلَّ الْكَلَامِ وَهُوَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ لَا يَحْتَمِلُهُ لِأَنَّ وُجُوهَ الِاسْتِوَاءِ قَائِمَةٌ فَوَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْكَلَامِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُتَكَلِّمِ لِأَنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْجَوَابِ لِكَلَامِ الدَّاعِي وَأَنَّهُ قَدْ دَعَاهُ إلَى تَغَدِّي الْفِدَاءِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ لَا إلَى غَيْرِهِ فَيُقَيَّدُ بِهِ وَإِذَا تَقَيَّدَ كَلَامُ الدَّاعِي بِهِ يُقَيَّدُ الْجَوَابُ بِهِ أَيْضًا لِأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَيْهِ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَتَغَدَّى الْفِدَاءَ الَّذِي دَعَوْتنِي إلَيْهِ وَقِسْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَسْأَلَةَ الْخُرُوجِ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ مَا لَوْ قَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ إنَّك تَغْتَسِلُ فِي هَذِهِ الدَّارِ اللَّيْلَةَ مِنْ الْجَنَابَةِ فَقَالَ إنْ اغْتَسَلْت فَعَبْدِي حُرٌّ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْيَمِينِ سَبَقَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَمْ يُسْبَقْ بِهِ وَكَانُوا يَقُولُونَ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَمِينُ مُؤَبَّدَةٌ كَقَوْلِهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَمُؤَقَّتَةٌ كَقَوْلِهِ لَا أَفْعَلُ الْيَوْمَ كَذَا فَأَخْرَجَ أَبُو حَنِيفَةَ قِسْمًا ثَالِثًا وَهُوَ مَا يَكُونُ مُؤَبَّدًا لَفْظًا وَمُوَقَّتًا مَعْنًى وَأَخَذَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَابْنِهِ حَيْثُ دُعِيَا إلَى نُصْرَةِ إنْسَانٍ فَحَلَفَا أَنْ لَا يَنْصُرَاهُ ثُمَّ نَصَرَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَمْ يَحْنَثَا وَبِنَاءُ الْكَلَامِ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ مَقْصُودِ الْمُتَكَلِّمِ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ لِمَا بَيَّنَّا فِي قَوْله تَعَالَى {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ} [الإسراء: 64] إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِقْدَارِ وَالتَّمْكِينِ لِاسْتِحَالَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْصِيَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَلِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الدَّاعِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي الْتِمَاسٌ لَا أَمْرٌ لِمَعْنًى فِي الْمُتَكَلِّمِ وَهُوَ أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الِالْتِمَاسَ ضَرُورَةً قَوْلُهُ (عَلَى الْفَوْرِ) أَيْ عَلَى الْحَالِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ فَارَتْ الْقِدْرُ إذَا غَلَتْ فَاسْتُعِيرَ لِلسُّرْعَةِ ثُمَّ سُمِّيَتْ بِهِ الْحَالَةُ الَّتِي لَا رَيْثَ فِيهَا وَلَا لُبْثَ فَقِيلَ جَاءَ فُلَانٌ مِنْ فَوْرِهِ أَيْ مِنْ سَاعَتِهِ وَفِي الصِّحَاحِ ذَهَبْت فِي حَاجَةٍ ثُمَّ أَتَيْت فُلَانًا مِنْ فَوْرِي أَيْ قَبْلَ أَنْ أَسْكُنَ وَالتَّحْقِيقُ الْأَوَّلُ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ. [الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ مَحَلِّ الْكَلَامِ] قَوْلُهُ قَوْله تَعَالَى {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [غافر: 58] حَقِيقَةٌ لِلْعُمُومِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ الثَّابِتَ بِدَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ لُغَةً نَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ فَتَعُمُّ إلَّا أَنَّ الْعَمَلَ بِعُمُومِهَا مُتَعَذِّرٌ لِوُجُودِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الصِّفَاتِ مِثْلُ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْعَقْلِ وَالذُّكُورَةِ وَغَيْرِهَا فَوَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْبَعْضِ لِنُبُوَّةِ الْمَحَلِّ عَنْ قَبُولِ الْعُمُومِ ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَذَهَبَ أَصْحَابُنَا إلَى أَنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ فَحَوَى الْكَلَامِ وَهُوَ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ فِي الْبَصَرِ فِي هَذَا النَّظِيرِ وَنَفْيُ الْمُسَاوَاةِ فِي الْفَوْزِ فِي قَوْله تَعَالَى {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20] وَذَهَبَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ إلَى نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا عَلَى الْعُمُومِ فِيمَا أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِهِ مُتَمَسِّكِينَ بِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْعُمُومِ وَاجِبٌ مَهْمَا أَمْكَنَ فَإِذَا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ سُقُوطُ الْعَمَلِ بِهِ فِيمَا بَقِيَ كَالْعَامِّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102] لَمَّا لَمْ يَكُنْ الْعَمَلُ بِعُمُومِهِ بِدَلَالَةِ الْعَقْلِ فَإِنَّ ذَاتَ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتَهُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَهُ بَقِيَ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ عَلَى الْعُمُومِ وَلَنَا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَمَّا لَمْ يَقْبَلْ الْعُمُومَ لِعَدَمِ صُدُورِهِ فِي مَحَلِّ الْعُمُومِ لَمْ يَنْعَقِدْ لِلْعُمُومِ أَصْلًا لِأَنَّ الشَّيْءَ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ مَحَلِّهِ وَصَارَ كَأَنَّهُ قِيلَ إنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْمُجْمَلِ فَيَجِبُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ النَّصِّ وَعَلَى مَا يَتَيَقَّنُ بِهِ أَنَّهُ مُرَادٌ بِخِلَافِ الْعَامِّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ لِأَنَّهُ قَدْ انْعَقَدَ لِلْعُمُومِ ثُمَّ خُصَّ بَعْضُ الْأَفْرَادِ بِعَارِضٍ لَحِقَهُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى قَدْرِ الْمُعَارِضِ فَيَبْقَى مَا وَرَاءَهُ عَلَى الْعُمُومِ. وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِي أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ عِنْدَهُ وَأَنَّ دِيَتَهُ لَا يَكُونُ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ وَأَنَّ اسْتِيلَاءَ الْكَافِرِ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ لَا يَكُونُ سَبَبَ الْمِلْكِ كَاسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِ عَلَى مَالِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20] وَالْقَوْلُ

وَهُوَ التَّغَايُرُ فِي الْبَصَرِ وَكَذَلِكَ كَافُ التَّشْبِيهِ لَا يُوجِبُ الْعُمُومَ لِمَا قُلْنَا مِنْ قِيَامِ الْمُغَايَرَةِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ حَتَّى إذَا قِيلَ زَيْدٌ مِثْلُك لَمْ يَثْبُتْ عُمُومُهُ إلَّا أَنْ يَقْبَلَ الْمَحَلُّ الْعُمُومَ مِثْلُ قَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِيَكُونَ دِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا وَأَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا فَإِنَّ هَذَا عَامٌّ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْمَحَلَّ يَحْتَمِلُهُ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَرُفِعَ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ سَقَطَتْ حَقِيقَتُهُ لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ غَيْرَ الْخَطَأِ غَيْرُ مَرْفُوعٍ بَلْ هُوَ مُتَصَوَّرٌ فَسَقَطَ حَقِيقَتُهُ وَصَارَ ذِكْرُ الْخَطَأِ وَالْعَمَلِ مَجَازًا عَنْ حُكْمِهِ وَمُوجَبِهِ وَمُوجَبُهُ نَوْعَانِ مُخْتَلِفَانِ أَحَدُهُمَا الثَّوَابُ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ وَالْمَأْثَمُ فِي الْحُرُمَاتِ وَالثَّانِي الْحُكْمُ الْمَشْرُوعُ فِيهِ مِنْ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهَذَانِ مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِانْتِفَاءِ الْمُسَاوَاةِ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مُمْكِنٌ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ وَعِنْدَنَا نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ مُخْتَصٌّ بِالْفَوْزِ بِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20] فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ أَلَا تَرَى أَنَّ نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [غافر: 58] لَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ حَتَّى يَقْتَصِرَ الْبَصِيرُ بِالْأَعْمَى وَيَسْتَوِيَانِ فِي الدِّيَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْبَصَرِ فَكَذَا هَذَا قَوْلُهُ (وَهُوَ التَّغَايُرُ فِي الْبَصَرِ) الْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَمَى الْقَلْبِ وَبَصَرُهُ لِأَنَّ ذِكْرَ الْقَضِيَّةِ الْمَعْلُومَةِ فِي ذِهْنِ كُلِّ أَحَدٍ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذُكِرَ فِي التَّفْسِيرِ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى أَيْ الْمُشْرِكُ الَّذِي لَا يُبْصِرُ الرُّشْدَ وَالْبَصِيرُ أَيْ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُبْصِرُهُ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ كَافُ التَّشْبِيهِ) يَعْنِي كَمَا أَنَّ نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ وَالْمُمَاثَلَةِ لَا يُوجِبُ الْعُمُومَ عِنْدَ نَبْوَةِ الْمَحَلِّ عَنْهُ فَكَذَلِكَ إثْبَاتُ الْمُمَاثَلَةِ بِذِكْرِ حَرْفِ التَّشْبِيهِ أَوْ بِلَفْظِ الْمِثْلِ أَوْ بِغَيْرِهِمَا لَا يُوجِبُ الْعُمُومَ عِنْدَ نَبْوَةِ الْمَحَلِّ أَيْضًا فَيُحْمَلُ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَيَقَّنُ مِثَالُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ سَارِقُ أَمْوَاتِنَا كَسَارِقِ أَحْيَائِنَا لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ فِيهِ بِالْعُمُومِ لِانْتِفَاءِ الْمُمَاثَلَةِ وَالْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ فَيُحْمَلُ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَيَقَّنُ وَهُوَ الْإِثْمُ فِي الْآخِرَةِ دُونَ حُكْمِ الدُّنْيَا وَهُوَ الْقَطْعُ وَإِلَّا إذَا قَبِلَ الْمَحَلُّ الْعُمُومَ فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِهِ حِينَئِذٍ لِارْتِفَاعِ الْمَانِعِ لِأَنَّ الْمَحَلَّ يَحْتَمِلُهُ إذْ الْمُمَاثَلَةُ ثَابِتَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ حِسًّا وَطَبْعًا وَكَذَا يَثْبُتُ حُكْمًا لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ التَّشْبِيهِ إثْبَاتُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْحُكْمِ فَيَكُونُ عَامًّا وَرَأَيْت فِي حَاشِيَةٍ أَنَّا إنَّمَا عَمِلْنَا بِالْعُمُومِ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّ فِيهِ حَقْنَ الدَّمِ وَلَمْ نَعْمَلْ بِالْعُمُومِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لِأَنَّ فِيهِ إثْبَاتَ الْحَدِّ وَالْحَدُّ يُحْتَالُ لِدَرْئِهِ لَا لِإِثْبَاتِهِ قَوْلُهُ (وَمِنْ هَذَا الْبَابِ) أَيْ وَمِمَّا تُرِكَتْ الْحَقِيقَةُ فِيهِ بِدَلَالَةِ مَحَلِّ الْكَلَامِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» . وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» فَإِنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُوجَدَ الْعَمَلُ إلَّا بِالنِّيَّةِ نَظَرًا إلَى كَلِمَةِ الْحَصْرِ وَأَنْ لَا يُوجَدَ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَالْإِكْرَاهُ أَصْلًا نَظَرًا إلَى اسْتِنَادِ الِارْتِفَاعِ إلَى مَا هُوَ مُحَلًّى بِاللَّامِ الْمُسْتَغْرِقِ لِلْجِنْسِ وَقَدْ نَرَى أَنَّ الْعَمَلَ يُوجَدُ بِلَا نِيَّةٍ وَكَذَا يُوجَدُ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَالْإِكْرَاهُ فَعَرَفْنَا بِنَبْوَةِ مَحَلِّ الْكَلَامِ وَهُوَ الْعَمَلُ وَالْخَطَأُ وَاخْتَارَهُ عَنْ قَبُولِ الْحَقِيقَةِ أَنَّهَا سَاقِطَةٌ وَلَيْسَتْ بِمُرَادَةٍ وَأَنَّ الْعَمَلَ فِي حَدِيثِ النِّيَّةِ وَالْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَالْإِكْرَاهَ فِي حَدِيثِ الرَّفْعِ مَجَازٌ وَكِنَايَةٌ عَنْ الْحُكْمِ بِطَرِيقِ إطْلَاقِ اسْمِ الشَّيْءِ عَلَى مُوجَبِهِ أَوْ بِطَرِيقِ حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إلَيْهِ مَقَامَهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] فَصَارَ كَأَنَّهُ قِيلَ حُكْمُ الْأَعْمَالِ بِالنِّيَاتِ وَرُفِعَ حُكْمُ الْخَطَأِ ثُمَّ مَا صَارَ هَذَا الْكَلَامُ عِبَارَةً عَنْهُ وَهُوَ الْحُكْمُ لَهُ مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ أَحَدُهُمَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ وَهُوَ الثَّوَابُ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ وَالْإِثْمُ فِي الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الثَّانِي فَإِنَّهُ وَارِدٌ فِي الْمُحَرَّمَاتِ وَالثَّانِي مَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا وَهُوَ الْحُكْمُ الْمَشْرُوعُ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ مِثْلُ الْجَوَازِ فِي الْأَعْمَالِ الْمَنْوِيَّةِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النَّدْبِ وَالْكَرَاهَةِ وَالْإِسَاءَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ أَنَّ الثَّوَابَ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ عِبَادَةٌ وَالْإِثْمَ فِي الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ مُحَرَّمٌ

أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَوَازَ وَالصِّحَّةَ يَتَعَلَّقُ بِرُكْنِهِ وَشَرْطِهِ وَالثَّوَابُ أَوْ الْمَأْثَمُ يَتَعَلَّقُ بِصِحَّةِ عَزِيمَتِهِ فَإِنَّ مَنْ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ نَجِسٍ وَلَمْ يَعْلَمْ حَتَّى صَلَّى وَمَضَى عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ مُقَصِّرًا لَمْ يَجُزْ فِي الْحُكْمِ لِفَقْدِ شَرْطِهِ وَاسْتَحَقَّ الثَّوَابَ لِصِحَّةِ عَزِيمَتِهِ وَإِذَا صَارَا مُخْتَلِفَيْنِ صَارَ الِاسْمُ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ مَجَازًا مُشْتَرَكًا فَسَقَطَ الْعَمَلُ بِهِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فَيَصِيرُ مُؤَوَّلًا وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْمَأْثَمِ عَلَى هَذَا فَصَارَ هَذَا كَاسْمِ الْمَوْلَى وَالْقُرْءِ وَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQيَبْتَنِي عَلَى الْعَزِيمَةِ وَالْقَصْدِ، وَالْفَسَادَ الَّذِي هُوَ حُكْمٌ يَبْتَنِي عَلَى الْأَدَاءِ بِالْأَرْكَانِ وَالشَّرَائِطِ إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ. وَإِذَا ثَبَتَ اخْتِلَافُ الْمَعْنَيَيْنِ صَارَ هَذَا اللَّفْظُ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرَكِ كَاسْمِ الْمَوْلَى وَالْقُرْءِ فَلَا يَجُوزُ احْتِجَاجُ الْخَصْمِ بِهِ عَلَيْنَا فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ وَفِي عَدَمِ فَسَادِ الصَّوْمِ بِالْخَطَأِ وَالْإِكْرَاهِ حَتَّى يُقِيمَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ لَيْسَ إلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا مِنْ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ وَهُوَ الثَّوَابُ وَالْمَأْثَمُ مُرَادٌ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الثَّوَابِ مُتَعَلِّقٌ بِالْعَزْمِ وَالْإِثْمَ فِي الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ مَرْفُوعٌ بِالِاتِّفَاقِ أَوْ يُقِيمُ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ الْعُمُومِ فِي الْمُشْتَرَكِ وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ أَيْضًا لِمَا مَرَّ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ (فَإِنْ قِيلَ) لَوْ كَانَ الْمُرَادُ حُكْمَ الْآخِرَةِ لَا غَيْرُ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ مِنْ أُمَّتِي فَائِدَةٌ لِأَنَّ عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأُمَمِ إذْ لَا يَجُوزُ فِي الْحِكْمَةِ تَعْذِيبُهُمْ (قُلْنَا) ذَلِكَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ فَأَمَّا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ فَهِيَ جَائِزَةٌ فِي الْحِكْمَةِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى إخْبَارًا {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ جَائِزَيْ الْمُؤَاخَذَةِ كَانَ مَعْنَى الدُّعَاءِ لَا تُجِرْ عَلَيْنَا بِالْمُؤَاخَذَةِ فِيهِمَا إذْ الْمُؤَاخَذَةُ فِيمَا لَا تَجُوزُ الْمُؤَاخَذَةُ فِيهِ جَوْرٌ. وَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ قَوْلُهُ (صَارَ الِاسْمُ) أَيْ اسْمُ الْعَمَلِ وَالْخَطَأِ وَأُخْتَيْهِ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ مَجَازًا حَيْثُ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُهُ وَهُوَ الْحُكْمُ مُشْتَرَكًا أَيْ فِي مَعْنَى الْمُشْتَرَكِ لِأَنَّ مَا هُوَ مُرَادٌ مِنْهُ وَهُوَ الْحُكْمُ مُشْتَرَكٌ قَوْلُهُ (وَحُكْمُ الْمَأْثَمِ) أَيْ حُكْمٌ هُوَ مَأْثَمٌ عَلَى هَذَا يَعْنِي كَمَا أَنَّ الثَّوَابَ يَنْفَصِلُ عَنْ الْجَوَازِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمَاءِ النَّجِسِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ فَكَذَلِكَ الْإِثْمُ يَنْفَصِلُ عَنْ الْفَسَادِ كَمَنْ صَلَّى مُرَائِيًا مُرَاعِيًا لِلشُّرُوطِ وَالْأَرْكَانِ يَسْتَوْجِبُ الْإِثْمَ مِنْ غَيْرِ فَسَادٍ وَكَالْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا تَحَقَّقَ الْفَسَادُ مِنْ غَيْرِ إثْمٍ هَذَا تَقْرِيرُ كَلَامِ الشَّيْخِ وَفِيهِ نَوْعُ اشْتِبَاهٍ فَإِنَّ الِاشْتِرَاكَ الَّذِي لَا يَجْرِي الْعُمُومُ فِيهِ هُوَ الِاشْتِرَاكُ اللَّفْظِيُّ بِأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا بِإِزَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعَانِي الدَّاخِلَةِ تَحْتَهُ قَصْدًا كَاسْمِ الْقُرْءِ وَالْعَيْنِ عَلَى مَا مَرَّ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ دُونَ الِاشْتِرَاكِ الْمَعْنَوِيِّ فَإِنَّ الْعُمُومَ يَجْرِي فِيهِ بِلَا خِلَافٍ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا بِإِزَاءِ مَعْنًى يَعُمُّ ذَلِكَ الْمَعْنَى أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةً كَاسْمِ الْحَيَوَانِ يَتَنَاوَلُ الْإِنْسَانَ وَالْفَرَسَ وَسَائِرَ أَنْوَاعِهِ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ وَهُوَ التَّحَرُّكُ بِالْإِرَادَةِ وَكَاسْمِ الشَّيْءِ يَتَنَاوَلُ الْمُتَضَادَّاتِ بِمَعْنَى الْوُجُودِ وَكَاسْمِ اللَّوْنِ يَتَنَاوَلُ السَّوَادَ وَالْبَيَاضَ وَغَيْرَهُمَا بِاعْتِبَارِ مَعْنَى اللَّوْنِيَّةِ وَالْحُكْمُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ هُوَ الْأَثَرُ الثَّابِتُ بِهِ فَيَتَنَاوَلُ الْجَوَازَ وَالْفَسَادَ وَالثَّوَابَ وَالْمَأْثَمَ بِهَذَا الْمَعْنَى الْعَامِّ لَا بِكَوْنِهِ مَوْضُوعًا بِإِزَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعَانِي الْمُنْتَظِمَةِ تَحْتَهُ فَكَانَ مِنْ قَبِيلِ الشَّيْءِ وَالْحَيَوَانِ لَا مِنْ قَبِيلِ الْعَيْنِ وَالْقُرْءِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الثَّوَابَ أَوْ الْمَأْثَمَ لَا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ ثَوَابًا أَوْ إثْمًا بَلْ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ أَثَرًا ثَابِتًا بِالْفِعْلِ كَالشَّيْءِ يَتَنَاوَلُ الْمَاءَ وَالنَّارَ بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ لَا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مُرَطِّبًا أَوْ مُحْرِقًا. وَمَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْعَيْنِ لِلْيَنْبُوعِ وَالشَّمْسِ لَا مِنْ قَبِيلِ الشَّيْءِ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَتَنَاوَلُ الْجَوَازَ وَالْفَسَادَ وَالثَّوَابَ وَالْمَأْثَمَ قَصْدًا لِأَنَّ هَذِهِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ كَالْعَيْنِ يَتَنَاوَلُ الْيَنْبُوعَ وَالشَّمْسَ قَصْدًا فَكَانَ مُشْتَرَكًا لَفْظِيًّا تَحَكُّمٌ إذْ لَا نَقْلَ فِيهِ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِيَ الْإِمَامَ أَبَا زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُقْتَضَى وَالْمَحْذُوفِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ أَهْلِ الْأُصُولِ

وَمِنْ النَّاسِ مَنْ ظَنَّ أَنَّ التَّحْرِيمَ الْمُضَافَ إلَى الْأَعْيَانِ مِثْلِ الْمَحَارِمِ وَالْخَمْرِ مَجَازٌ لِمَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ فَيَصِيرُ وَصْفُ الْعَيْنِ بِهِ مَجَازًا وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ إذَا أُضِيفَ إلَى الْعَيْنِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَجَعَلَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ مِنْ نَظَائِرِ الْمُقْتَضَى فَقَالَ فِي حَدِيثِ الرَّفْعِ عَيْنُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ غَيْرُ مَرْفُوعَةٍ إذْ لَوْ أُرِيدَ عَيْنُهَا لَصَارَ كَذِبًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ فَاقْتَضَى ضَرُورَةَ زِيَادَةٍ وَهِيَ الْحُكْمُ لِيَصِيرَ مُفِيدًا وَصَارَ الْمَرْفُوعُ حُكْمَهَا وَثَبَتَ رَفْعُ الْحُكْمِ عَامًّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ حَتَّى بَطَلَ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ وَالْمُخْطِئِ وَلَمْ يَفْسُدْ الصَّوْمُ بِالْأَكْلِ مُخْطِئًا لِأَنَّ الْمُقْتَضَى لَهُ عُمُومٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا يَرْتَفِعُ حُكْمُ الْآخِرَةِ لَا غَيْرُ لِأَنَّ بِذَلِكَ الْقَدْرِ يَصِيرُ مُفِيدًا فَيَزُولُ الضَّرُورَةُ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى حُكْمٍ آخَرَ لِأَنَّ الْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ لَهُ وَقَالَ فِي حَدِيثِ النِّيَّةِ لَمَّا ثَبَتَ حُكْمُ الْآخِرَةِ مُرَادًا وَبِهِ يَصِيرُ الْكَلَامُ مُفِيدًا لَمْ يَتَعَدَّ إلَى مَا وَرَاءَهُ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ إنَّمَا ثَوَابُ الْأَعْمَالِ بِالنِّيَّاتِ هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَمَّا خَالَفَهُ الشَّيْخُ الْمُصَنِّفُ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْمَحْذُوفِ وَفَرَّقَا بَيْنَ الْمَحْذُوفِ وَالْمُقْتَضَى وَجَوَّزَا عُمُومَ الْمَحْذُوفِ دُونَ الْمُقْتَضَى وَالْحَدِيثَانِ مِنْ قَبِيلِ الْمَحْذُوفِ دُونَ الْمُقْتَضَى عَلَى أَصْلِهِمَا اُضْطُرَّا إلَى تَخْرِيجِ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَرِدُ نَقْضًا عَلَى مَا اخْتَارَا مِنْ جَوَازِ عُمُومِ الْمَحْذُوفِ فَبَنَيَا انْتِفَاءَ الْعُمُومِ فِيهِمَا عَلَى الِاشْتِرَاكِ دُونَ الِاقْتِضَاءِ وَفِيهِ مِنْ التَّمَحُّلِ مَا تَرَى. وَقَدْ كُنْت فِيهِ بُرْهَةً مِنْ الزَّمَانِ فَلَمْ يَتَّضِحْ لِي وَجْهٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَرَاجَعْت الْفُحُولَ فَلَمْ يُشِيرُوا عَلَيَّ بِجَوَابٍ شَافٍ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْحَقِيقَةِ قَوْلُهُ (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ ظَنَّ) اخْتَلَفُوا فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ الْمُضَافَيْنِ إلَى الْأَعْيَانِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [المائدة: 1] . وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا» «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ» عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فَذَهَبَ الشَّيْخُ الْمُصَنِّفُ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَصَاحِبُ الْمِيزَانِ وَمَنْ تَابَعَهُمْ إلَى أَنَّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ كَالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ الْمُضَافَيْنِ إلَى الْفِعْلِ فَيُوصَفُ الْمَحَلُّ أَوَّلًا بِالْحُرْمَةِ ثُمَّ ثَبَتَتْ حُرْمَةُ الْفِعْلِ بِنَاءً عَلَيْهِ فَيَثْبُتُ التَّحْرِيمُ عَامًّا وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ تَحْرِيمُ الْفِعْلِ أَوْ تَحْلِيلُهُ لَا غَيْرُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَامَّةُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ نَوَابِتِ الْقَدَرِيَّةِ كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ وَأَصْحَابِ أَبِي هَاشِمٍ إلَى أَنَّهُ مُجْمَلٌ وَأَنَّ الِاحْتِجَاجَ فِي تَحْرِيمِ وَطْءِ الْأُمَّهَاتِ وَتَحْرِيمِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَإِبَاحَةِ أَكْلِ لُحُومِ الْأَنْعَامِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ غَيْرُ صَحِيحٍ. تَمَسَّكَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ بِأَنَّ الْقَوْلَ بِثُبُوتِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ عَلَى الْعُمُومِ بِحَيْثُ يُوصَفُ الْعَيْنُ وَالْفِعْلُ جَمِيعًا بِهِمَا مُتَعَذِّرٌ وَبِهَذِهِ النِّسْبَةِ أَوْرَدَ الشَّيْخُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي هَذَا الْبَابِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ لَا يَكُونَانِ وَصْفَيْنِ لِلْأَعْيَانِ لِأَنَّهُمَا مِنْ التَّكْلِيفِ الَّذِي هُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْقُدْرَةِ وَلِهَذَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَالْأَعْيَانُ لَيْسَتْ بِمَقْدُورَةٍ لَنَا فَلَا تَصْلُحُ مُتَعَلَّقَةً لِلتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقَانِ بِالْأَفْعَالِ الْمَقْدُورَةِ لَنَا وَهِيَ الْأَفْعَالُ الِاخْتِيَارِيَّةُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ إضْمَارِ فِعْلٍ يَكُونُ هُوَ مُتَعَلَّقَ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ حَذَرًا مِنْ إهْمَالِ الْخِطَابِ وَلَا يُمْكِنُ إضْمَارُ جَمِيعِ الْأَفْعَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعَيْنِ لِأَنَّ الْإِضْمَارَ خِلَافُ الْأَصْلِ وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِمَا دُونَ الْجَمِيعِ فَوَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْبَعْضِ ثُمَّ ذَلِكَ الْبَعْضُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ لِعَدَمِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ فَكَانَ مُجْمَلًا وَتَمَسَّكَ الْفَرِيقُ الثَّانِي بِأَنَّ الْعُرْفَ يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ تَحْرِيمُ الْفِعْلِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ فَإِنَّ مَنْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQاطَّلَعَ عَلَى أَعْرُفْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَمَارَسَ أَلْفَاظَ الْعَرَبِ لَا يَتَبَادَرُ إلَى فَهْمِهِ عِنْدَ قَوْلِ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ حَرَّمْت عَلَيْك الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَحَرَّمْت عَلَيْك النِّسَاءَ سِوَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَتَحْرِيمِ الْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ فِي النِّسَاءِ وَلَا يَتَخَالَجُهُ شَكٌّ فِي أَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ لَيْسَ بِتَحْرِيمٍ لِنَفْسِ الْعَيْنِ وَأَنَّهُ تَحْرِيمُ الْفِعْلِ الْمَقْصُودِ فَلَا يَكُونُ مُجْمَلًا وَصَارَ كَأَنَّهُ قِيلَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ نِكَاحُ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ الِاسْتِمْتَاعُ بِهِنَّ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَأُحِلَّ لَكُمْ أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ شُرْبُ الْخَمْرِ لِعَيْنِهِ. قَالَ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ إنَّ الْأُمَّةَ بِأَسْرِهَا أَجْمَعَتْ قَبْلَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ وَطْءِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَتَحْلِيلِ أَكْلِ النَّعَمِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ إجْمَاعًا لَا رَيْبَ فِيهِ وَيُكَفِّرُونَ الْمُتَأَوِّلَ لَهَا وَيَقُولُونَ إنَّمَا حَكَمْنَا بِكُفْرِهِ لِتَأْوِيلِهِ نَصًّا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَلَا يَحْتَجُّونَ عَلَيْهِ إلَّا بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْمُخَالِفُ فِي أَنَّ هَذَا دَلِيلٌ ثَابِتٌ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ مُكَذِّبٌ الْأُمَّةَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مُخَالَفَةِ الْأُمَّةِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ مَا ذَكَرْنَا وَبَيْنَ خِلَافِهَا فِي تَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ فَمَنْ أَجَازَ أَحَدَهُمَا لَزِمَهُ تَجْوِيزُ الْآخَرِ قَالَ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّفْظَ إذَا احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ وَبَطَلَ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ أَحَدُهُمَا وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الْآخَرِ وَلَمْ يَجُزْ التَّوَقُّفُ فِيهِ وَقَدْ وَرَدَ لَفْظُ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ مُتَعَلِّقًا بِالْأَعْيَانِ الَّتِي لَا يَصِحُّ كَوْنُهَا مِنْ أَفْعَالِنَا وَلَا يَصِحُّ النَّهْيُ عَنْهَا لِوُجُودِهَا تَعَيَّنَ الْقِسْمُ الْآخَرُ وَهُوَ رُجُوعُ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ إلَى تَصَرُّفِنَا فِيهَا وَلَمْ يَكُنْ لِلتَّوَقُّفِ فِيهِمَا مَعْنًى مَعَ صِحَّةِ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ بِبُطْلَانِ الْآخَرِ وَلَكِنَّا نَقُولُ يَصِحُّ وَصْفُ الْعَيْنِ بِالْحُرْمَةِ حَقِيقَةً كَمَا يَصِحُّ وَصْفُ الْفِعْلِ بِهَا وَمَعْنَى اتِّصَافِهَا بِهَا خُرُوجُهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْفِعْلِ شَرْعًا كَمَا أَنَّ مَعْنَى وَصْفِ الْفِعْلِ بِالْحُرْمَةِ خُرُوجُهُ مِنْ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا فَإِذَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَتِهِ لَا مَعْنَى لِلْإِضْمَارِ لِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَنْعِ قَالَ تَعَالَى {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص: 12] أَيْ مَنَعْنَا وَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ. {قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 50] أَيْ مَنَعَهُمْ شَرَابَ الْجَنَّةِ وَطَعَامَهَا وَمِنْهُ حَرَمُ مَكَّةَ لِمَنْعِ النَّاسِ عَنْ الِاصْطِيَادِ فِيهِ وَغَيْرِهِ وَحَرِيمُ الْبِئْرِ لِمَنْعِ الْغَيْرِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي حَوَالَيْهَا فَيُوصَفُ الْفِعْلُ بِالْحُرْمَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْعَبْدَ مُنِعَ عَنْ اكْتِسَابِهِ وَتَحْصِيلِهِ فَيَصِيرُ الْعَبْدُ مَمْنُوعًا وَالْفِعْلُ مَمْنُوعًا عَنْهُ وَتُوصَفُ الْعَيْنُ بِالْحُرْمَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْعَيْنَ مُنِعَتْ عَنْ الْعَبْدِ تَصَرُّفًا فِيهَا فَيَصِيرُ الْعَيْنُ مَمْنُوعَةً وَالْعَبْدُ مَمْنُوعًا عَنْهَا فَعَرَفْنَا أَنَّ وَصْفَ الْعَيْنِ بِالْحُرْمَةِ صَحِيحٌ وَأَنَّ الْمَنْعَ نَوْعَانِ مَنْعُ الرَّجُلِ عَنْ الشَّيْءِ كَقَوْلِك لِغُلَامِك لَا تَأْكُلْ هَذَا الْخُبْزَ وَهُوَ مَوْضُوعٌ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَنْعُ الشَّيْءِ عَنْ الرَّجُلِ بِأَنْ رَفَعَ الْخُبْزَ مِنْ يَدَيْهِ أَوْ أَكَلَ فَإِذَا أُضِيفَ التَّحْرِيمُ إلَى الْفِعْلِ كَانَ مِنْ قَبِيلِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَإِذَا أُضِيفَ إلَى الْعَيْنِ كَانَ مِنْ النَّوْعِ الثَّانِي وَنَظِيرُهُمَا الْحِفْظُ وَالْحِمَايَةُ فَإِنَّ الْحِمَايَةَ أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُهَا فِي الْحِمَى بِدَفْعِ الْأَغْيَارِ عَنْهُ وَيَكُونُ فِعْلُ الْحَامِي فِي الْقَاصِدِ لِذَلِكَ الْمَحْمِيّ لَا فِي عَيْنِهِ فَيَبْقَى الْمَحْمِيّ عَلَى أَصْلِ الصِّيَانَةِ. وَالْحِفْظُ أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي الْمَحْفُوظِ بِصُنْعٍ فِي الْمَحْفُوظِ لَا فِي دَفْعِ الْقَاصِدِ إلَّا أَنَّ انْدِفَاعَ الْقَاصِدِ عَنْهُ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْوُصُولِ إلَيْهِ فَيَحْصُلُ الصِّيَانَةُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَلَا ذَهَبَ الْمُحَافِظُ وَالْمُحَامِي ... وَمَانِعُ ضَيْمِنَا يَوْمَ الْخِصَامِ ذَكَرَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا فَكَانَ الْمَقْصُودُ حَاصِلًا فِي الْحَالَيْنِ وَهُوَ الصِّيَانَةُ وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ صَاحِبِ الْمَالِ لَكِنْ بِطَرِيقَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَكَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِيهِ كَذَا فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّحْرِيمِ فِي غَايَةِ التَّوْكِيدِ لِانْتِفَاءِ الْفِعْلِ فِيهِ

[باب حروف المعاني]

كَانَ ذَلِكَ أَمَارَةَ لُزُومِهِ وَتَحَقُّقِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ مَجَازًا لَكِنَّ التَّحْرِيمَ نَوْعَانِ تَحْرِيمٌ يُلَاقِي نَفْسَ الْفِعْلِ مَعَ كَوْنِ الْمَحَلِّ قَابِلًا كَأَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي أَنْ يَخْرُجَ الْمَحَلُّ فِي الشَّرْعِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِذَلِكَ الْفِعْلِ فَيَنْعَدِمُ الْفِعْلُ مِنْ قِبَلِ عَدَمِ مَحَلِّهِ فَيَكُونُ نَسْخًا وَيَصِيرُ الْفِعْلُ تَابِعًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَيُقَامُ الْمَحَلُّ مَقَامَ الْفِعْلِ فَيُنْسَبُ التَّحْرِيمُ إلَيْهِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمَحَلَّ لَمْ يُجْعَلْ صَالِحًا لَهُ وَهَذَا فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يُتَصَوَّرُ فِي جَانِبِ الْمَحَلِّ لِتَوْكِيدِ النَّفْيِ فَأَمَّا أَنْ يُجْعَلَ مَجَازًا لِيَصِيرَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ فَغَلَطٌ فَاحِشٌ وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِهَذَا الْقِسْمِ حُرُوفُ الْمَعَانِي فَإِنَّهَا تَنْقَسِمُ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ وَشَطْرٌ مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَهَذَا الْبَابُ لِبَيَانِ مَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنْ الْفُرُوعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (بَابُ حُرُوفِ) (الْمَعَانِي) وَمِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالْكُلِّيَّةِ وَانْقِطَاعِ تَصَوُّرِهِ أَصْلًا فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ لَا تَشْرَبْ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَشْرَبَهُ لِبَقَاءِ الْمَحَلِّ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَأَمَّا إذَا صَبَّهُ الْمَوْلَى بَعْدَ النَّهْيِ أَوْ شَرِبَهُ كَانَ الِانْتِفَاءُ فِيهِ أَقْوَى لِانْقِطَاعِ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ بِفَوَاتِ الْمَحَلِّ فَإِذَا أَمْكَنَ تَحْقِيقُ إضَافَةِ التَّحْرِيمِ إلَى الْعَيْنِ وَاتِّصَافِهَا بِالْحُرْمَةِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا كَانَ جَعْلُ ذَلِكَ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ عَدَمِ قَبُولِ الْمَحَلِّ صِفَةَ الْحُرْمَةِ وَالْحِلِّ كَمَا زَعَمُوا خَطَأً فَاحِشًا وَذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ وَإِنَّمَا أَنْكَرَتْ الْمُعْتَزِلَةُ حُرْمَةَ الْأَعْيَانِ احْتِرَازًا عَنْ مُنَاقَضَةِ مَذْهَبِهِمْ الْفَاسِدِ فِي نَفْيِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِمْ إنَّ مِنْهَا مَا يُوصَفُ بِالْقُبْحِ وَالْحُرْمَةِ مِثْلُ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَلَا يَجُوزُ نِسْبَةُ خَلْقِ الْقَبِيحِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَلْزَمُهُمْ خَلْقُ الْأَعْيَانِ الْقَبِيحَةِ الْمُسْتَقْذَرَةِ مِنْ الْأَنْجَاسِ وَالْجِعْلَانِ وَالْخَنَافِسِ وَالْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ وَنَحْوِهَا فَأَنْكَرُوا قُبْحَ الْأَعْيَانِ. وَقَالُوا إنَّهَا لَيْسَتْ بِقَبِيحَةٍ وَأَنْكَرُوا الْمَحْسُوسَ وَالثَّابِتَ بِبِدَايَةِ الْعُقُولِ وَأَنْكَرُوا اتِّصَافَهَا بِالْحُرْمَةِ لِئَلَّا يَلْزَمَهُمْ اتِّصَافُهَا بِالْقُبْحِ فَإِنَّ كُلَّ مُحَرَّمٍ يَكُونُ مَوْصُوفًا بِالْقُبْحِ وَعِنْدَنَا الْأَعْيَانُ نَوْعَانِ قَبِيحَةٌ وَحَسَنَةٌ كَالْأَفْعَالِ نَوْعَانِ قَبِيحَةٌ وَحَسَنَةٌ وَنَوْعٌ مُتَوَسِّطٌ فِي الْأَعْيَانِ لَا يَنْفِرُ عَنْهُ الطِّبَاعُ وَلَا يَمِيلُ إلَيْهِ فَيُوصَفُ بِالْحِلِّ وَالْإِبَاحَةِ قَوْلُهُ (كَانَ ذَلِكَ أَمَارَةَ لُزُومِهِ وَتَحَقُّقِهِ) يَعْنِي إذَا أُضِيفَ التَّحْرِيمُ إلَى الْعَيْنِ كَانَ حُرْمَةُ الْفِعْلِ آكَدَ وَأَلْزَمَ وَاللُّزُومُ مِنْ أَمَارَاتِ الْحَقِيقَةِ حَتَّى جَعَلْنَا الْفَارِقَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ أَنْ يَكُونَ الْحَقِيقَةُ لَازِمَةً لَا تُنْفَى وَالْمَجَازُ لَا يَكُونُ لَازِمًا وَيُنْفَى فَمَا يُؤَكِّدُ اللُّزُومَ كَيْفَ يَكُونُ مَجَازًا لَكِنَّ التَّحْرِيمَ اسْتِدْرَاكٌ عَنْ قَوْلِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ مَجَازًا أَيْ لَا يَكُونُ مَجَازًا لَكِنْ يَصِيرُ الْفِعْلُ تَابِعًا فِي التَّحْرِيمِ بِخِلَافِ مَا إذَا أُضِيفَ إلَى الْفِعْلِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَقْصُودًا بِالتَّحْرِيمِ فَيُقَامُ الْمَحَلُّ مَقَامَ الْفِعْلِ يَعْنِي لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ تَحْرِيمُ الْفِعْلِ مَقْصُودًا إذْ لَمْ يُذْكَرْ الْفِعْلُ صَرِيحًا أُقِيمَ الْعَيْنُ مَقَامَ الْفِعْلِ فِي إثْبَاتِ حُرْمَةِ الْفِعْلِ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَمَّا اتَّصَفَتْ بِالْحُرْمَةِ ثَبَتَتْ حُرْمَةُ الْفِعْلِ ضَرُورَةً كَمَا بَيَّنَّا أَوْ أُقِيمَتْ مَقَامَهُ فِي الِاتِّصَافِ بِالْحُرْمَةِ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَبْقَ مُتَصَوَّرًا شَرْعًا. وَهَذَا أَيْ تَحْرِيمُ الْفِعْلِ بِإِخْرَاجِ الْمَحَلِّ عَنْ الْمَحَلِّيَّةِ فِي نِهَايَةِ التَّحْقِيقِ وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ فِيهِ تَابِعًا لِأَنَّ نَفْيَ الْفِعْلِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ تَبَعًا أَقْوَى مِنْ نَفْيِهِ إذَا كَانَ مَقْصُودًا كَمَا قَرَّرَنَا (فَأَمَّا أَنْ يَجْعَلَهُ) أَيْ التَّحْرِيمَ الْمُضَافَ إلَى الْعَيْنِ مَجَازًا فِي الْعَيْنِ لِيَصِيرَ الْفِعْلُ فِيهَا بِالنَّظَرِ إلَى أَصْلِهِ مَشْرُوعًا لِبَقَاءِ مَحَلِّهِ كَأَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ (فَغَلَطٌ فَاحِشٌ) لِأَنَّ فِيهِ إخْرَاجَ مَا هُوَ مَقْصُودٌ وَأَصْلٌ وَهُوَ الْعَيْنُ عَنْ الْأَصَالَةِ وَإِقَامَةَ مَا هُوَ تَبَعٌ وَهُوَ الْفِعْلُ مَقَامَهُ وَلِأَنَّ فِيهِ إبْقَاءَ جِهَتِهِ لِلْفِعْلِ فِي الْحِلِّ قَوْلُهُ (وَشَطْرٌ مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ) شَطْرُ كُلِّ شَيْءٍ نِصْفُهُ إلَّا أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْبَعْضِ تَوَسُّعًا فِي الْكَلَامِ وَاسْتِكْثَارًا لِلْقَلِيلِ كَمَا «قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْحَائِضِ تَقْعُدُ شَطْرَ عُمْرِهَا» أَيْ بَعْضَهُ وَمِثْلُهُ فِي التَّوَسُّعِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ فَإِنَّهَا نِصْفُ الْعِلْمِ» كَذَا فِي الْمُغْرِبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ حُرُوفِ الْمَعَانِي] [معانى الْوَاوُ] (بَابُ حُرُوفِ الْمَعَانِي) هَذَا بَابٌ دَقِيقُ الْمَسْلَكِ لَطِيفُ الْمَأْخَذِ، كَثِيرُ الْفَوَائِدِ، جَمُّ الْمَحَاسِنِ، جَمَعَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهِ بَيْنَ لَطَائِفِ النَّحْوِ، وَدَقَائِقِ الْفِقْهِ، وَاسْتَوْدَعَ فِيهِ غَرَائِبَ الْمَعَانِي، وَبَدَائِعَ الْمَبَانِي، فَاصْغِ لِمَا يُتْلَى عَلَيْك مِنْ بَيَانِ لَطَائِفِ حَقَائِقِهِ، وَاسْتَمِعْ لِمَا يُلْقَى إلَيْك مِنْ كَشْفِ غَوَامِضِ دَقَائِقِهِ.

حُرُوفُ الْعَطْفِ وَهِيَ أَكْثَرُهَا وُقُوعًا وَأَصْلُ هَذَا الْقِسْمِ الْوَاوُ وَهِيَ عِنْدَنَا لِمُطْلَقِ الْعَطْفِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِمُقَارَنَةٍ وَلَا تَرْتِيبٍ وَعَلَى هَذَا عَامَّةُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَئِمَّةُ الْفَتْوَى وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إنَّ الْوَاوَ يُوجِبُ التَّرْتِيبَ حَتَّى قَالُوا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] يُوجِبُ التَّرْتِيبَ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَدَأَ بِالصَّفَا فِي السَّعْيِ وَقَالَ نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» يُرِيدُ بِهِ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] فَفُهِمَ وُجُوبُ التَّرْتِيبِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِتَوْفِيقِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ تَسْتَزِدْ بِهِ تَبَصُّرًا فِي دَرْكِ أَسْرَارِ مُسْتَوْدَعَاتِهِ، وَتَسْتَفِدْ بِهِ تَبَحُّرًا فِي الْوُقُوفِ عَلَى عَجَائِبِ مُسْتَبْدَعَاتِهِ، إنْ شَاءَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْحُرُوفِ يُطْلَقُ عَلَى الْحُرُوفِ التِّسْعَةِ وَالْعِشْرِينَ الَّتِي هِيَ أَصْلُ تَرَاكِيبِ الْكَلَامِ وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يُوَصِّلُ مَعَانِيَ الْأَفْعَالِ إلَى الْأَسْمَاءِ وَعَلَى مَا يَدُلُّ بِنَفْسِهِ عَلَى مَعْنًى فِي غَيْرِهِ عَلَى مَا فُسِّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ بِأَنَّ الْحَرْفَ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَيُسَمَّى الْأَوَّلُ حُرُوفَ التَّهَجِّي أَيْ التَّعَدُّدِ مِنْ هَجَى الْحُرُوفَ إذَا عَدَّدَهَا وَالثَّانِي حُرُوفَ الْمَعَانِي لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ إيصَالِهَا مَعَانِيَ الْأَفْعَالِ إلَى الْأَسْمَاءِ أَوْ لِدَلَالَتِهَا عَلَى مَعْنًى فَإِنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِك مَرَرْت بِزَيْدٍ حَرْفُ مَعْنًى لِدَلَالَتِهَا عَلَى الْإِلْصَاقِ بِخِلَافِ الْبَاءِ فِي بَكْرٍ وَبِشْرٍ فَإِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى. وَكَذَا الْهَمْزَةُ فِي أَزِيدُ حَرْفُ مَعْنًى بِخِلَافِهَا فِي أَحْمَدَ وَكَذَا مِنْ فِي قَوْلِك أَخَذْت مِنْ زَيْدٍ حَرْفُ مَعْنًى بِخِلَافِهِ فِي مِنْوَالٍ ثُمَّ إطْلَاقُ لَفْظِ الْحُرُوفِ هَهُنَا عَلَى الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ لِأَنَّ بَعْضَ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْبَابِ أَسْمَاءٌ مِثْلُ كُلٍّ وَمَتَى وَمِنْ وَإِذَا وَغَيْرِهَا لَكِنْ لَمَّا كَانَ أَكْثَرُهَا حُرُوفًا سُمِّيَ الْجَمْعُ بِهَذَا الِاسْمِ قَوْلُهُ (حُرُوفُ الْعَطْفِ) الْعَطْفُ فِي اللُّغَةِ الثَّنْيُ وَالرَّدُّ يُقَالُ عَطَفَ الْعُودَ إذَا ثَنَاهُ وَرَدَّهُ إلَى الْآخَرِ فَالْعَطْفُ فِي الْكَلَامِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدَ الْمُفْرَدَيْنِ إلَى الْآخَرِ فِيمَا حَكَمْت عَلَيْهِ أَوْ إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى فِي الْحُصُولِ. وَفَائِدَتُهُ الِاخْتِصَارُ وَإِثْبَاتُ الْمُشَارَكَةِ وَأَصْلُ هَذَا الْقِسْمِ الْوَاوُ لِأَنَّ الْعَطْفَ لِإِثْبَاتِ الْمُشَارَكَةِ وَدَلَالَةُ الْوَاوِ عَلَى مُجَرَّدِ الِاشْتِرَاكِ وَسَائِرِ حُرُوفِ الْعَطْفِ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى زَائِدٍ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فَإِنَّ الْفَاءَ يُوجِبُ التَّرْتِيبَ مَعَهُ وَثُمَّ يُوجِبُ التَّرَاخِيَ مَعَهُ فَلَمَّا كَانَتْ فِي تِلْكَ الْحُرُوفِ زِيَادَةٌ عَلَى حُكْمِ الْعَطْفِ صَارَتْ كَالْمُرَكَّبَةِ مَعْنًى وَالْوَاوُ مُفْرَدٌ وَالْمُفْرَدُ قَبْلَ الْمُرَكَّبِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَطْفَ لَمَّا كَانَ عِبَارَةً عَنْ الِاشْتِرَاكِ وَالْوَاوُ مُتَمَخِّضَةٌ لِإِفَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى دُونَ غَيْرِهِ صَارَتْ أَصْلًا فِي الْعَطْفِ قَوْلُهُ (وَهِيَ عِنْدَنَا لِمُطْلَقِ الْعَطْفِ) أَيْ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِمُقَارَنَةٍ كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَلَا تَرْتِيبَ كَمَا زَعَمَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ يَعْنِي أَنَّهَا تَدُلُّ فِي عَطْفِ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ عَلَى اشْتِرَاكِ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى كَوْنِهِمَا مَعًا بِالزَّمَانِ أَوْ عَلَى تَقَدُّمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بِهِ، وَفِي عَطْفِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ عَلَى اشْتِرَاكِهِمَا فِي الثُّبُوتِ هَذَا هُوَ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَئِمَّةِ الْفَتْوَى أَيْ أَهْلِ الشَّرْعِ وَالْفَتَى الشَّابُّ الْقَوِيُّ الْحَدَثُ وَاشْتِقَاقُ الْفَتْوَى مِنْهُ لِأَنَّهَا جَوَابٌ فِي حَادِثَةٍ أَوْ أَحْدَاثٍ حُكْمٌ أَوْ تَقْوِيَةٌ لِبَيَانِ مُشْكِلٍ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْضًا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ. وَفِي الْقَوَاطِعِ نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي الْوُضُوءِ يُعْتَبَرُ ذِكْرُ الْآيَةِ ثُمَّ قَالَ وَمَنْ خَالَفَ التَّرْتِيبَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ لَمْ يَجُزْ وَضْؤُهُ وَرُوِيَ عَنْ الْفَرَّاءِ أَنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ حَيْثُ يَسْتَحِيلُ الْجَمْعُ أَمَّا فِي الْمُفْرَدِ فَكَقَوْلِك زَيْدٌ رَاكِعٌ وَسَاجِدٌ وَأَمَّا فِي الْجُمْلَةِ فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] قَوْلُهُ (وَاحْتَجُّوا) تَمَسَّكَ مُثْبِتُو التَّرْتِيبِ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

وَوُجُوبُ التَّرْتِيبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] وَهَذَا حُكْمٌ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِاسْتِقْرَاءِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَبِالتَّأَمُّلِ فِي مَوْضُوعِ كَلَامِهِمْ كَالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ قِبَلِ اتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالتَّأَمُّلِ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ وَكِلَاهُمَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ وَدَلِيلٌ لِمَا قُلْنَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو فَيُفْهَمُ مِنْهُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الْمَجِيءِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْقِرَانِ أَوْ التَّرْتِيبِ فِي الْمَجِيءِ وَلِأَنَّ الْفَاءَ يَخْتَصُّ بِالْأَجْزِئَةِ وَلَا يَصْلُحُ فِيهَا الْوَاوُ حَتَّى أَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَأَنْتِ طَالِقٌ طَلُقَتْ فِي الْحَالِ وَلَوْ احْتَمَلَ الْوَاوُ التَّرْتِيبَ لَصَلَحَ لِلْجَزَاءِ كَالْفَاءِ وَقَدْ صَارَتْ الْوَاوُ لِلْجَمْعِ فِي قَوْلِ النَّاسِ جَاءَنِي الزَّيْدُونَ وَأَصْلُهُ جَاءَنِي زَيْدٌ وَزَيْدٌ وَزَيْدٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَرَضِيَ عَنْهُمْ عِنْدَ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بِأَيِّهِمَا نَبْدَأُ وَقَدْ نَزَلَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] قَالَ ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ مِنْ وُجُوهِ أَحَدُهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهِمَ وُجُوبَ التَّرْتِيبِ حَتَّى قَالَ ابْدَءُوا بِكَذَا وَأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ أَعْلَمَ بِاللِّسَانِ وَأَفْصَحَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَإِلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْكِتَابِ وَالثَّانِي أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَصَّ عَلَى التَّرْتِيبِ عِنْدَ اشْتِبَاهِهَا عَلَيْهِمْ أَنَّهَا لِلْجَمْعِ أَوْ لِلتَّرْتِيبِ فَيَثْبُتُ بِتَنْصِيصِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ. وَالثَّالِثُ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ لَمَا احْتَاجُوا إلَى السُّؤَالِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ لِسَانٍ وَلَا يُعَارَضُ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِلتَّرْتِيبِ لَمَا احْتَاجُوا إلَى السُّؤَالِ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُؤَالُهُمْ لِتَجْوِيزِهِمْ إيَّاهَا مُسْتَعْمَلَةً فِي الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ تَجَوُّزًا بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ قَوْلُهُ (وَوُجُوبُ التَّرْتِيبِ) وَتَمَسَّكُوا أَيْضًا بِأَنَّ الرُّكُوعَ مُقَدَّمٌ عَلَى السُّجُودِ بِلَا خِلَافٍ وَاسْتُفِيدَ هَذَا التَّقَدُّمُ مِنْ الْوَاوِ فِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْوَاوُ لِلتَّرْتِيبِ لَمَا اُسْتُفِيدَ ذَلِكَ مِنْهَا وَمِمَّا تَمَسَّكُوا بِهِ أَنَّ «أَعْرَابِيًّا قَالَ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ اهْتَدَى وَمَنْ عَصَاهُمَا فَقَدْ غَوَى فَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِئْسَ خَطِيبُ الْقَوْمِ أَنْتَ قُلْ وَمَنْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ غَوَى» وَلَوْ كَانَ الْوَاوُ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ لَمَا وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ قَوْلُهُ (وَهَذَا حُكْمٌ) ابْتِدَاءُ دَلِيلِ الْعَامَّةِ أَيْ مُوجَبُ الْوَاوِ حُكْمٌ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِاسْتِقْرَاءِ كَلَامِ الْعَرَبِ أَيْ تَتَبُّعِهِ مِنْ اسْتَقْرَيْت الْبِلَادَ إذَا تَتَبَّعْتهَا تَخْرُجُ مِنْ أَرْضٍ إلَى أَرْضٍ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُنْظَرُ فِي اسْتِعْمَالَاتِهِمْ أَنَّهَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ أَوْ فِي التَّرْتِيبِ وَبِالتَّأَمُّلِ فِي مَوْضُوعِ كَلَامِهِمْ أَيْ فِي قَوَانِينِهِمْ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا كَلَامُهُمْ أَنَّهَا تُوجِبُ كَوْنَهَا لِلتَّرْتِيبِ أَمْ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ كَالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ يُتَعَرَّفُ مِنْ اتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَنْ يُطْلَبَ فِيهِمَا وَبِالتَّأَمُّلِ فِي مَوَارِدِ النُّصُوصِ وَقَوَانِينِ الشَّرْعِ الْمَوْضُوعَةِ لِاسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ إنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِمَا وَكِلَاهُمَا أَيْ الِاسْتِقْرَاءُ وَالتَّأَمُّلُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى مَنْ ادَّعَى أَنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ لَا لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ أَيْ تَصَدٍّ لَهُ وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ يَعْنِي مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ لَهَا عَلَى الْمُقَارَنَةِ وَالتَّرْتِيبِ حَتَّى لَوْ جَاءَ مُقَارِنَيْنِ أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ بِصِفَةِ الْوَصْلِ أَوْ التَّرَاخِي كَانَ صَادِقًا فِي هَذَا الْإِخْبَارِ وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالنَّقْلِ عَنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَنَقْلُ اللُّغَةِ عَنْ أَرْبَابِهَا حُجَّةٌ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ فِي سَبْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا مِنْ كِتَابِهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ عَبْدُ الْقَاهِرِ مَعْنَى الْوَاوِ الْجَمْعُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فِي الْحُكْمِ لَا فِي الْوَقْتِ وَلَا تَرْتِيبَ فِيهِ لِأَنَّهَا فِي الِاسْمَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ بِإِزَاءِ التَّثْنِيَةِ فِي الْمُتَّفِقَيْنِ فَإِذَا قُلْت جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ الْمَبْدُوءُ بِهِ فِي اللَّفْظِ سَابِقًا بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِهِ فِي جَوَازِ تَقْدِيمِهِ كَمَا إذَا قُلْت جَاءَنِي الزَّيْدَانِ إنْ لَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ مُقْتَضِيًا تَقَدُّمَ أَحَدِهِمَا بَلْ مُقْتَضَاهُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي وُجُودِ الْفِعْلِ فَقَطْ وَلِأَنَّ الْفَاءَ يَخْتَصُّ بِالْأَجْزِئَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجَزَاءَ مُتَعَقِّبٌ عَلَى مَا يُوجِبُهُ مِنْ شَرْطٍ أَوْ نَحْوِهِ وَالْفَاءُ هِيَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى التَّعْقِيبِ فَلِذَلِكَ اخْتَصَّتْ بِهَا وَلَا يَصْلُحُ فِيهَا الْوَاوُ لِمَا ذُكِرَ فَلَوْ كَانَ مُوجَبُهَا التَّرْتِيبَ لَمَا افْتَرَقَ الْحَالُ بَيْنَ الْفَاءِ وَالْوَاوِ قَوْلُهُ (وَأَصْلُهُ جَاءَنِي زَيْدٌ وَزَيْدٌ وَزَيْدٌ) وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ نَظِيرُ جَاءَنِي بَكْرٌ وَبِشْرٌ وَخَالِدٌ وَهَذَا الْمَجْمُوعُ أَسْمَاءُ أَعْلَامٍ وُضِعَتْ لِأَشْخَاصٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الْمَعْنَى إلَّا أَنَّ الْأَلْفَاظَ إذَا كَانَتْ مُخْتَلِفَةً لَا يُمْكِنُ جَمْعُهَا فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ مَعَ كَمَالِ

وَقَالُوا لَا تَأْكُلْ السَّمَكَ وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ مَعْنَاهُ لَا تَجْمَعْ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِمُقَارَنَةٍ أَوْ تَرْتِيبٍ فِي الْوُجُودِ وَلَوْ اسْتَعْمَلَ الْفَاءَ مَكَانَهُ لَبَطَلَ الْمُرَادُ وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْت عَظِيمُ أَيْ لَا تَجْمَعْ بَيْنَهُمَا فَهَذَا لِبَيَانِ الْوَضْعِ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ كَلَامَ الْعَرَبِ أَسْمَاءٌ وَأَفْعَالٌ وَحُرُوفٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَقْصُودِ وَهُوَ تَعْرِيفُ ذَوَاتِهِمْ فَلِذَلِكَ يُقَالُ جَاءَنِي بَكْرٌ وَبِشْرٌ وَخَالِدٌ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُتَّفِقَةً فَيُمْكِنُ اخْتِصَارُهَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَالِاكْتِفَاءُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ مِنْهَا مَعَ كَمَالِ الْمَقْصُودِ فَيُقَالُ زَيْدُونَ احْتِرَازًا عَنْ التَّطْوِيلِ وَالتَّكْرِيرِ الْمُسْتَكْرَهِينَ وَهَذَا الْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ بِالْإِجْمَاعِ فَيَكُونُ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ جَاءَنِي بَكْرٌ وَبِشْرٌ وَخَالِدٌ كَذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّ هَذِهِ عَيْنُ تِلْكَ كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ قَوْلُهُ (وَقَالُوا) أَيْ أَهْلُ اللُّغَةِ لَا تَأْكُلْ السَّمَكَ وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ عَبْدُ الْقَاهِرِ اعْلَمْ أَنَّ النَّصْبَ فِي قَوْلِك لَا تَأْكُلْ السَّمَكَ وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ. بِإِضْمَارِ أَنْ وَاَلَّذِي أَوْجَبَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَوْ أَدْخَلُوا مَا بَعْدَ الْوَاوِ فِي إعْرَابِ مَا قَبْلَهَا لَاشْتَمَلَ النَّهْيُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفِعْلَيْنِ وَلَيْسَ الْغَرَضُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ النَّهْيُ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ إدْخَالُ تَشْرَبَ فِي إعْرَابِ تَأْكُلْ وَجَبَ أَنْ يُضْمَرَ أَنْ وَيُنَزَّلُ قَوْلُك لَا تَأْكُلْ السَّمَكَ مَنْزِلَةَ لَا يَكُنْ مِنْك أَكْلُ السَّمَكِ لِيَكُونَ تَشْرَبَ، مَعَ تَقْدِيرِ أَنْ مَصْدَرًا مَعْطُوفًا عَلَى مِثْلِهِ نَحْوُ لَا يَكُنْ مِنْك أَكْلُ السَّمَكِ وَشُرْبُ اللَّبَنِ فَحَصَلَ بِهَذَا الْإِضْمَارِ مَعْنَى النَّهْيِ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَأَنَّ أَحَدَهُمَا مُبَاحٌ لَهُ وَمَا ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ فَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَمَّا قَصَدُوا أَنْ يَكُونَ الثَّانِي غَيْرَ دَاخِلٍ فِي حُكْمِ الْأَوَّلِ فَنَصَبُوهُ صَارَ الْعُدُولُ بِهِ عَنْ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ كَأَنَّهُ نَصَبَهُ إذْ كَانَ سَبَبًا لِإِضْمَارِ أَنْ فَأَمَّا أَنْ يُرَادَ أَنَّ النَّصْبَ بِنَفْسِ مُخَالَفَتِهِ لِلْأَوَّلِ حَتَّى كَانَ عَامِلُهُ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَلَا قَوْلُهُ (وَلَوْ اسْتَعْمَلَ الْفَاءَ مَكَانَهُ لَبَطَلَ الْمُرَادُ) لِأَنَّ الْغَرَضَ هَهُنَا الْجَمْعُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ وَلَا يُرَادُ أَنْ يُجْعَلَ الْأَكْلُ سَبَبًا لِلشُّرْبِ نَحْوُ أَنْ تَقُولَ إنْ أَكَلْت السَّمَكَ شَرِبْت اللَّبَنَ كَمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي قَوْلِك لَا تَنْقَطِعْ عَنَّا فَنَجْفُوَك أَيْ لَا يَكُنْ مِنْك انْقِطَاعٌ فَجَفَاءٌ مِنَّا وَكَقَوْلِك لَا تَدْنُ مِنْ الْأَسَدِ فَيَأْكُلَك أَيْ إنَّك إنْ دَنَوْت مِنْهُ أَكَلَك وَيَصِيرُ دُنُوُّك سَبَبًا لِأَكْلِهِ إيَّاكَ وَعَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} [طه: 81] أَيْ لَا تُجَاوِزُوا الْحَدَّ فِي أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ فَإِنَّكُمْ إنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ حَلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَيَصِيرُ طُغْيَانُكُمْ سَبَبَ حُلُولِ آثَارِ الْغَضَبِ عَلَيْكُمْ وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ الْجَمْعَ وَجَبَ الثَّبَاتُ عَلَى الْوَاوِ دُونَ الْفَاءِ لِأَنَّ الْوَاوَ تَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ وَالْفَاءَ تَدُلُّ أَنَّ الثَّانِيَ بَعْدَ الْأَوَّلِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْفَاءَ لَا تَصْلُحُ فِي مَوْضِعِ الْوَاوِ كَمَا لَا تَصْلُحُ الْوَاوُ فِي مَوْضِعِ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَأَنْتِ طَالِقٌ عُلِمَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وُضِعَتْ لِمَعْنًى عَلَى حِدَةٍ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ لِلتَّرْتِيبِ قَوْلُهُ (وَمِثْلُهُ) أَيْ مِثْلُ قَوْلِهِ لَا تَأْكُلْ السَّمَكَ وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ أَيْ لَا يَكُنْ مِنْك نَهْيٌ عَنْ خُلُقٍ وَإِتْيَانٌ بِمِثْلِهِ أَيْ لَا تَجْمَعْ بَيْنَ هَذَيْنِ فَالنَّهْيُ عَنْ خُلُقٍ مُبَاحٌ لَهُ، إذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِإِتْيَانِ مِثْلِهِ وَمَا حُكِيَ عَنْ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُنْشِدُهُ بِإِسْكَانِ الْيَاءِ وَيَقُولُ إنَّ سَمَاعِي كَذَلِكَ فَوَجْهُهُ أَنْ تَكُونَ الْيَاءُ فِي تَقْدِيرِ النَّصْبِ كَقَوْلِهِ: كَأَنَّ أَيْدِيهُنَّ بِالْقَاعِ الْفَرِقْ أَوْ يَكُونُ عَلَى الِابْتِدَاءِ نَحْوُ لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَأَنْتَ تَأْتِي مِثْلَهُ وَقَبْلَهُ ابْدَأْ بِنَفْسِك فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا ... فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ فَهُنَاكَ تُقْبَلُ إنْ وَعَظْت وَتُقْتَدَى ... بِالْأَمْرِ مِنْك وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْت عَظِيمُ وَمِمَّا تَمَسَّكَ بِهِ الْعَامَّةُ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58] . وَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [الأعراف: 161] وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ آمِرًا وَمَأْمُورًا وَزَمَانًا

وَالْأَصْلُ فِي كُلِّ قِسْمٍ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لِمَعْنًى خَاصٍّ يَتَفَرَّدُ بِهِ فَأَمَّا الِاشْتِرَاكُ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِغَفْلَةٍ مِنْ الْوَاضِعِ أَوْ عُذْرٍ دَعَا إلَيْهِ وَكَذَلِكَ التَّكْرَارُ وَقَدْ وَجَدْنَا حُرُوفَ الْعَطْفِ وَغَيْرَهَا مَوْضُوعَةً لِمَعَانٍ يَتَفَرَّدُ كُلُّ قِسْمٍ بِمَعْنَاهُ فَالْفَاءُ لِلتَّرْتِيبِ وَمَعَ لِلْقِرَانِ وَثُمَّ لِلتَّعْقِيبِ وَالتَّرَاخِي فَلَوْ كَانَ الْوَاوُ لِلتَّرْتِيبِ لَتَكَرَّرَتْ الدَّلَالَةُ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَصْلٍ لَكِنَّ الْوَاوَ لَمَّا كَانَتْ أَصْلًا فِي الْبَابِ كَانَ ذَلِكَ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهَا وُضِعَتْ لِمُطْلَقِ الْعَطْفِ مَعَ احْتِمَالِ كُلِّ قِسْمٍ مِنْ أَقْسَامِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِشَيْءٍ مِنْهَا ثُمَّ انْشَعَبَتْ الْفُرُوعُ إلَى سَائِرِ الْمَعَانِي وَهَذَا كَمَا وُضِعَ لِكُلِّ جِنْسٍ اسْمٌ مُطْلَقٌ مِثْلُ الْإِنْسَانِ وَالتَّمْرِ ثُمَّ وُضِعَتْ لِأَنْوَاعِهَا أَسْمَاءٌ عَلَى الْخُصُوصِ وَصَارَتْ الْوَاوُ فِيمَا قُلْنَا نَظِيرَ اسْمِ الرَّقَبَةِ فِي كَوْنِهِ مُطْلَقًا ـــــــــــــــــــــــــــــQثَبَتَ ذَلِكَ بِنَقْلِ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ فَلَوْ كَانَتْ الْوَاوُ لِلتَّرْتِيبِ لَتَنَاقَضَا لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ عَلَى تَقَدُّمِ الدُّخُولِ عَلَى الْقَوْلِ وَدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَى عَكْسِهِ وَكَلَامُهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ مُنَزَّهٌ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَفَادَ التَّرْتِيبَ لَكَانَ قَوْلُهُ رَأَيْت زَيْدًا وَعَمْرًا قَبْلَهُ مُتَنَاقِضًا وَلَكَانَ قَوْلُهُ رَأَيْت زَيْدًا وَعَمْرًا بَعْدَهُ تَكْرَارًا وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ وَالثَّانِي خِلَافُ الْأَصْلِ قَالَ الْإِمَامُ عَبْدُ الْقَاهِرِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لَا أَصْلَ لَهُ فِي التَّرْتِيبِ أَنَّهُمْ وَضَعُوهَا حَيْثُ لَا يُتَصَوَّرُ التَّرْتِيبُ كَقَوْلِهِمْ اشْتَرَكَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو وَاخْتَصَمَ بَكْرٌ وَخَالِدٌ وَذَلِكَ أَنَّ الِاشْتِرَاكَ وَالِاخْتِصَامَ مِمَّا يَقْتَضِي فَاعِلَيْنِ فَلَوْ قُلْت فِي قَوْلِك اشْتَرَكَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو إنَّ زَيْدًا قَبْلَ عَمْرٍو فِي الرُّتْبَةِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ تَقُولَ اشْتَرَكَ زَيْدٌ وَتَسْكُتَ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا إذَا تَقَدَّمَ عَلَى صَاحِبِهِ لَمْ يَكُنْ مُسَاوِيًا لَهُ وَمُجْتَمِعًا مَعَهُ كَمَا أَنَّك إذَا قُلْت جَاءَنِي زَيْدٌ قَبْلَ عَمْرٍو لَمْ يَكُنْ لِزَيْدٍ اجْتِمَاعٌ مَعَ عَمْرٍو فِي الْمَجِيءِ فَمَنْ ادَّعَى أَنَّ الْوَاوَ دَلِيلٌ عَلَى التَّرْتِيبِ لَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ اشْتَرَكَ زَيْدٌ وَاخْتَصَمَ بَكْرٌ وَيَسْكُتَ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ بِالْفَاءِ وَثُمَّ لِأَنَّك لَوْ قُلْت اخْتَصَمَ زَيْدٌ فَعَمْرٌو أَوْ اشْتَرَكَ بَكْرٌ ثُمَّ خَالِدٌ كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِك جَاءَنِي زَيْدٌ فَعَمْرٌو فِي جَعْلِك الِاخْتِصَامَ وَالِاشْتِرَاكَ مِمَّا يُسْنَدُ إلَى فَاعِلٍ وَاحِدٍ حَتَّى كَأَنَّك قُلْت اخْتَصَمَ زَيْدٌ وَسَكَتّ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّرْتِيبَ يُزِيلُ الِاجْتِمَاعَ. قَوْلُهُ (وَالْأَصْلُ فِي كُلِّ قِسْمٍ كَذَا) يَعْنِي الْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الْخُصُوصُ اسْمًا كَانَ أَوْ فِعْلًا أَوْ حَرْفًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِإِزَاءِ كُلِّ لَفْظٍ مَعْنًى وَاحِدٌ وَأَنْ لَا يَكُونَ لِمَعْنًى وَاحِدٍ إلَّا لَفْظٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ وُضِعَ لِلْإِفْهَامِ وَالِاشْتِرَاكُ يُخِلُّ بِهِ وَالتَّرَادُفُ يُوجِبُ إخْلَاءَهُ عَنْ الْفَائِدَةِ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْحِكْمَةِ. (لِغَفْلَةٍ مِنْ الْوَاضِعِ) يَعْنِي إنْ كَانَتْ اللُّغَاتُ اصْطِلَاحِيَّةً بِأَنْ وَضَعَ الْوَاضِعُ اللَّفْظَ أَوَّلًا بِإِزَاءِ مَعْنًى وَاشْتَهَرَ بَيْنَ قَوْمٍ وَقَدْ نَسِيَهُ ثُمَّ وَضَعَهُ بِإِزَاءِ مَعْنًى آخَرَ وَاشْتَهَرَ بَيْنَ قَوْمٍ آخَرِينَ ثُمَّ اجْتَمَعُوا وَاشْتَهَرَ الْوَضْعَانِ بَيْنَ الْكُلِّ (أَوْ عُذِرَ) أَيُّ حِكْمَةٍ دَعَتْ إلَى ذَلِكَ وَهُوَ الِابْتِلَاءُ إنْ كَانَتْ اللُّغَاتُ تَوْقِيفِيَّةً لِيَتَبَيَّنَ دَرَجَةُ الْعَالِمِ الَّذِي يَسْتَخْرِجُ الْمُرَادَ مِنْ الْكَلَامِ بِقُوَّةِ قَرِيحَتِهِ بِالتَّأَمُّلِ فِيهِ (لِتَكَرُّرِ الدَّلَالَةِ) أَيْ يَلْزَمُ التَّكْرَارُ (فَإِنْ قِيلَ) لَا يَتَكَرَّرُ بَلْ يَكُونُ لِمُطْلَقِ التَّرْتِيبِ (قُلْنَا) قَدْ وُضِعَتْ كَلِمَةُ بَعْدَ لِمُطْلَقِ التَّرْتِيبِ فَيَلْزَمُ التَّكَرُّرُ لَا مَحَالَةَ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ لِمُطْلَقِ التَّرْتِيبِ عِنْدَكُمْ فَإِنَّ الْوَلَاءَ فِي الْوُضُوءِ شَرْطٌ فِي الْجَدِيدِ كَمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَلَوْ كَانَ لِمُطْلَقِ التَّرْتِيبِ لَمْ يُشْتَرَطْ وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِلتَّرْتِيبِ لَخَلَا الْكَلَامُ عَنْ حَرْفٍ يَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِ الْجَمْعِ وَهُوَ مَعْنًى مَقْصُودٌ وَذَلِكَ إخْلَالٌ بِهِ وَلَا يَتَخَالَجَنَّ فِي وَهْمِك أَنَّهَا أَوْجَبَتْ التَّرْتِيبَ فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [يونس: 9] حَيْثُ رَتَّبَ الْعَمَلَ عَلَى الْإِيمَانِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ بِدُونِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ اُسْتُفِيدَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [طه: 112] لَا مِنْ الْوَاوِ لَكِنَّ الْوَاوَ اسْتِدْرَاكٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَيْ لَيْسَتْ الْوَاوُ لِلتَّرْتِيبِ لَكِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ أَصْلًا فِي بَابِ الْعَطْفِ لِكَوْنِهَا أَكْثَرَ وُقُوعًا بِدَلَالَةِ الِاسْتِقْرَاءِ كَانَ ذَلِكَ أَيْ كَوْنُهَا أَصْلًا دَلَالَةً عَلَى أَنَّهَا وُضِعَتْ لِمُطْلَقِ الْعَطْفِ الَّذِي هُوَ أَصْلٌ لِمَا سِوَاهُ مِنْ أَقْسَامِهِ لِلْمُنَاسَبَةِ. ثُمَّ انْشَعَبَتْ الْفُرُوعُ أَيْ الْحُرُوفُ الَّتِي هِيَ فُرُوعٌ لَهَا نَظَرًا إلَى قِلَّةِ وُقُوعِهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوَاوِ كَالْفَاءِ وَثُمَّ إلَى سَائِرِ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ فُرُوعٌ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ مِنْ تَقَيُّدِهِ بِصِفَةِ التَّرْتِيبِ وَصِفَةِ الْقِرَانِ وَصِفَةِ التَّرَاخِي اعْتِبَارًا لِلتَّنَاسُبِ وَمُحَافَظَةً عَلَى قَوَانِينِهِمْ الْمُسْتَمِرَّةِ فِي سَائِرِ الْأَلْفَاظِ فَإِنَّهُمْ

غَيْرَ عَامٍّ وَلَا مُجْمَلٍ وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ حُكْمَ النَّصِّ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ التَّحْصِيلُ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِمُقَارَنَةٍ أَوْ تَرْتِيبٍ وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْوَاوَ لِلْمُقَارَنَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِلْمُقَارَنَةِ لِأَنَّهُمَا قَالَا فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ أَنَّهَا إذَا دَخَلَتْ طَلُقَتْ ثَلَاثًا وَأَنَّهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَطْلُقُ وَاحِدَةً فَدَلَّ أَنَّهُ جَعَلَهَا لِلتَّرْتِيبِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ اخْتِلَافُهُمْ رَاجِعٌ إلَى ذِكْرِ الطَّلْقَاتِ مُتَعَاقِبَةً يَتَّصِلُ الْأَوَّلُ بِالشَّرْطِ عَلَى التَّمَامِ وَالصِّحَّةِ ثُمَّ الثَّانِي وَالثَّالِثُ مَا مُوجَبُهُ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُوجَبُهُ الِافْتِرَاقُ لِأَنَّ الثَّانِيَ اتَّصَلَ بِالشَّرْطِ بِوَاسِطَةٍ وَالثَّالِثُ بِوَاسِطَتَيْنِ وَالْأَوَّلُ بِلَا وَاسِطَةٍ فَلَا يَتَغَيَّرُ هَذَا الْأَصْلُ بِالْوَاوِ وَلِأَنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لِلْقِرَانِ وَقَالَا مُوجَبُهُ الِاجْتِمَاعُ وَالِاتِّحَادُ لِأَنَّ الثَّانِيَ جُمْلَةٌ نَاقِصَةٌ فَشَارَكَتْ الْأَوَّلَ وَهُوَ فِي الْحَالِ تَكَلَّمَ بِالطَّلَاقِ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ فَصَحَّ التَّحْصِيلُ وَالتَّرْتِيبُ فِي التَّكَلُّمِ لَا فِي صَيْرُورَتِهِ طَلَاقًا كَمَا إذَا حَصَلَ التَّعْلِيقُ بِشُرُوطٍ يَتَخَلَّلُهَا أَزْمِنَةٌ كَثِيرَةٌ فَإِنَّ التَّرْتِيبَ لَا يَجِبُ بِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَضَعُوا لِكُلِّ جِنْسٍ اسْمًا ثُمَّ فَرَّعُوا عَلَيْهِ أَنْوَاعَهُ كَالْإِنْسَانِ اسْمُ جِنْسٍ ثُمَّ يَتَنَوَّعُ إلَى رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَكَالتَّمْرِ اسْمُ جِنْسٍ ثُمَّ يَتَنَوَّعُ إلَى عَجْوَةٍ وَبَرْنِيِّ وَسِنْجَانِيٍّ وَقَسْبٍ وَدَقَلٍ وَغَيْرِهَا قَوْلُهُ (غَيْرُ عَامٍّ) كَمَا زَعَمَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ بَيَّنَّا وَلَا مُجْمَلٍ قَدْ زَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ اسْمَ الرَّقَبَةِ مُجْمَلٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ لَا يُعْرَفُ مِنْهَا. وَقَوْلُهُ مُؤْمِنَةٍ مُفَسِّرٌ لَهَا فَلِذَلِكَ يَتَقَيَّدُ الرَّقَبَةُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِصِفَةِ الْإِيمَانِ وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّهَا اسْمُ جِنْسٍ وَأَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ مَعْلُومَةُ الْمَعَانِي عِنْدَ أَرْبَابِ اللِّسَانِ وَأَصْحَابِ الشَّرِيعَةِ فَكَانَتْ مِنْ قَبِيلِ الْمُطْلَقِ لَا مِنْ قَبِيلِ الْمُجْمَلِ (وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ وَلِكَوْنِهَا لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِمُقَارَنَةٍ كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ إذْ الْقِرَانُ فِيهِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِالْوَلَاءِ. (أَوْ تَرْتِيبٍ) كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْجَوَابُ عَنْ مُتَمَسَّكِهِمْ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} [البقرة: 158] لِبَيَانِ أَنَّهُمَا مِنْ مَعَالِمِ الْحَجِّ وَشَعَائِرِ اللَّهِ وَهَذَا لَا يَحْتَمِلُ التَّرْتِيبَ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] لَا يُفِيدُ التَّرْتِيبَ وَمَا عَرَفْنَا وُجُوبَ التَّرْتِيبِ بِهِ كَيْفَ وَأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43] وَإِنَّمَا عَرَفْنَاهُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» أَوْ يَكُونُ الرُّكُوعُ مُقَدِّمَةَ السُّجُودِ وَالْقِيَامُ مُقَدِّمَةَ الرُّكُوعِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ وَكَذَا رَدُّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى الْأَعْرَابِيِّ لَمْ يَكُنْ لِإِفَادَةِ الْوَاوِ التَّرْتِيبَ إذْ لَا تَرْتِيبَ فِي مَعْصِيَتِهِمَا لِعَدَمِ انْفِكَاكِ أَحَدَيْهِمَا مِنْ الْأُخْرَى بَلْ لِتَرْكِ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ قَوْلُهُ (وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا) أَنَّ الْوَاوَ لِلْمُقَارَنَةِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ اسْتِدْلَالًا بِمَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ يَتَعَلَّقُ الْكُلُّ بِالشَّرْطِ وَيَنْزِلْنَ جُمْلَةً وَلَوْ لَمْ تَكُنْ لِلْمُقَارَنَةِ لَوَقَعَ الْأَوَّلُ وَلَغَا الثَّانِي وَالثَّالِثُ لِعَدَمِ الْمَحَلِّ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لِلْمُقَارَنَةِ اسْتِدْلَالًا بِالْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الْمُقَارَنَةِ أَوْ التَّرْتِيبِ فِي صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ الَّتِي وُجِدَتْ فِيهَا الْوَاوُ أَنْ يَكُونَ الْوَاوُ مَوْضُوعَةً لَهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُقَارَنَةُ أَوْ التَّرْتِيبُ بِنَاءً عَلَى مَعْنًى آخَرَ غَيْرِ الْوَاوِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ عَدَمُ اطِّرَادهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُقَارَنَةِ أَوْ التَّرْتِيبِ فِي عَامَّةِ الصُّوَرِ كَيْفَ وَالْمُطْلَقُ فِي الْخَارِجِ لَا يُوجَدُ إلَّا مُقَيَّدًا بِصِفَةٍ وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ اللَّفْظِ مَوْضُوعًا لِلْمُقَيَّدِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ إلَّا مُقَيَّدًا بِصِفَةٍ. وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْإِنْسَانِ دَالٌّ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ وَمَوْضُوعٌ لَهَا بَلْ الْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْعَطْفِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي الْمَسْأَلَةِ بِنَاءً عَلَى كَيْفِيَّةِ تَعَلُّقِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ بِالشَّرْطِ لَا لِأَنَّ الْوَاوَ أَوْجَبَتْ الْمُقَارَنَةَ أَوْ التَّرْتِيبَ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَجَّزَ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةً وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ قَدَّمَ الْجَزَاءَ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ الْكُلُّ بِالشَّرْطِ وَيَنْزِلْنَ جُمْلَةً فَلَوْ كَانَ اخْتِلَافُهُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي مُوجَبِ الْوَاوِ لَثَبَتَ الِاخْتِلَافُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَلَكِنَّهُمَا قَالَا مُوجَبُهُ الِاجْتِمَاعُ أَيْ مُوجَبُ كَلَامِهِ الِاجْتِمَاعُ لِأَنَّ مُوجَبَ الْعَطْفِ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَالْجُمْلَةُ الْأُولَى تَامَّةٌ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَقَوْلُهُ وَطَالِقٌ جُمْلَةٌ نَاقِصَةٌ لِأَنَّهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ فَيَصِيرُ مَا يَتِمُّ بِهِ الْأُولَى وَهُوَ الشَّرْطُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQشَرْطًا لِلثَّانِيَةِ لِتَصِيرَ كَامِلَةً وَلِهَذَا تَعَلَّقَتْ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ بِالشَّرْطِ وَلَمْ تَقَعَا فِي الْحَالِ وَلَمَّا سَاوَتْ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ الْأُولَى فِي التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ وَلَيْسَ بَيْنَ الْأَجْزِئَةِ مَا يُوجِبُ صِفَةَ التَّرْتِيبِ إذْ الْوَاوُ لَا تُوجِبُ ذَلِكَ وَتَعَلَّقَتْ غَيْرَ مَوْصُوفَةٍ بِالتَّرْتِيبِ وَقَعْنَ كَذَلِكَ كَمَا لَوْ كَرَّرَ الشَّرْطَ بِأَنْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ قَدَّمَ الْجَزَاءَ كَمَا ذَكَرْنَا إذْ الْجَزَاءُ يَتَأَخَّرُ عَنْ الشَّرْطِ قَدَّمَ الشَّرْطَ عَلَيْهِ أَوْ أَخَّرَهُ ذِكْرًا وَكَمَا لَوْ قَالَ لَهَا إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً وَنِصْفًا فَدَخَلَتْ الدَّارَ تَطْلُقُ ثِنْتَيْنِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ تَطْلِيقَةٍ وَنِصْفِ تَطْلِيقَةٍ إذْ الطَّلَاقُ لَا نِصْفَ لَهُ وَلَا يَلْزَمُ مَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ فَإِنَّهَا تَطْلُقُ وَاحِدَةً لَا ثَلَاثًا خِلَافًا لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَبَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَرَبِيعَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى لِأَنَّ أَزْمِنَةَ الْوُقُوعِ مُتَفَرِّقَةٌ فَلَا تَقَعُ مُجْتَمِعَةً فَتَبِينُ بِالْأَوَّلِ فَلَا يَصِحُّ الثَّانِي وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ زَمَانُ الْوُقُوعِ زَمَانُ وُجُودِ الشَّرْطِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ تَفْرِيقٌ بَعْدَ الشَّرْطِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَا بَلْ ثِنْتَيْنِ لَمْ تَطْلُقْ إلَّا وَاحِدَةً وَلَوْ عَلَّقَ ثُمَّ وَجَدَ الشَّرْطَ طَلُقَتْ ثَلَاثًا كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَذَكَرَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا فِي بَيَانِ قَوْلِهِمَا إنَّ عَطْفَ الْجُمْلَةِ النَّاقِصَةِ عَلَى الْكَامِلَةِ يُوجِبُ إعَادَةَ مَا فِي الْكَامِلَةِ لِتَصِيرَ النَّاقِصَةُ كَامِلَةً أَيْضًا بِخِلَافِ عَطْفِ الْكَامِلَةِ عَلَى مِثْلِهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ هَذِهِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَهَذِهِ طَلُقَتْ الْأُخْرَى ثَلَاثًا لِأَنَّ خَبَرَ الْأُولَى يَصِيرُ مُعَادًا فِي حَقِّهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ هَذِهِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَهَذِهِ طَالِقٌ حَيْثُ تَطْلُقُ الْأُخْرَى وَاحِدَةً لِأَنَّهَا مُفِيدَةٌ بِنَفْسِهَا فَلَا تَقْتَضِي ذِكْرَ الْخَبَرِ مَرَّةً أُخْرَى. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو أَوْ قَالَ مَرَرْت بِالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ يَصِيرُ الْمَجِيءُ وَالْمُرُورُ مَذْكُورَيْنِ مَرَّةً أُخْرَى لَا طَرِيقَ لَهُ إلَّا ذَلِكَ فَكَذَلِكَ هَهُنَا قَوْلُهُ وَطَالِقٌ نَاقِصٌ لَا شَرْطَ لَهُ فَيَصِيرُ الشَّرْطُ كَالْمَذْكُورِ مَرَّةً أُخْرَى كَأَنَّهُ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَطَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَيَقَعُ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ بِدَخْلَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا لَوْ كَرَّرَ الشَّرْطَ صَرِيحًا وَقَدْ نَصَّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ فَقِيلَ فِي وَقَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَا بَلْ ثِنْتَيْنِ تَقْدِيرُهُ لَا بَلْ ثِنْتَيْنِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَحَاصِلُ الطَّرِيقَتَيْنِ يَرْجِعُ إلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ الطَّلْقَاتِ تَعَلَّقْنَ بِالشَّرْطِ بِلَا وَاسِطَةٍ فَلِذَلِكَ يَنْزِلْنَ جُمْلَةً عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لَا لِأَنَّ الْوَاوَ أَوْجَبَتْ الْمُقَارَنَةَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُوجَبُهُ أَيْ مُوجَبُ ذِكْرِ الطَّلْقَاتِ مُتَعَاقِبَةً الِافْتِرَاقُ أَيْ انْفِصَالُ الثَّانِيَةِ عَنْ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ عَنْهُمَا فِي التَّعَلُّقِ بِالشَّرْطِ وَالتَّعَاقُبِ فِي الْوُقُوعِ لَا الِاجْتِمَاعِ كَمَا لَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ أَوْ قَالَ وَطَالِقٌ بَعْدَهُ وَطَالِقٌ بَعْدَهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ مُسْتَغْنِيَةٌ عَمَّا بَعْدَهَا فَلَمْ تَتَوَقَّفْ عَلَيْهِ فَتَعَلَّقَ هَذَا الطَّلَاقُ بِالشَّرْطِ بِلَا وَاسِطَةٍ. وَقَوْلُهُ وَطَالِقٌ جُمْلَةٌ نَاقِصَةٌ فَتَتَوَقَّفُ عَلَى الْأُولَى لَا مَحَالَةَ لِافْتِقَارِهَا إلَيْهَا إذْ النَّاقِصَةُ مُفْتَقِرَةٌ إلَى الْكَامِلَةِ فِي إفَادَةِ الْمَعْنَى فَيَتَعَلَّقُ الطَّلَاقُ الثَّانِي بَعْدَ تَعَلُّقِ الْأَوَّلِ وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ مُنْفَصِلًا عَنْهُ صَحِيحٌ كَمَا لَوْ نَصَّ عَلَى كَلِمَةِ بَعْدَ أَوْ ثُمَّ فَكَانَ الْأَوَّلُ مُتَعَلِّقًا بِالشَّرْطِ بِلَا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQوَاسِطَةٍ وَالثَّانِي بِوَاسِطَةٍ وَالثَّالِثُ بِوَاسِطَتَيْنِ وَإِذَا تَعَلَّقَ بِهَذَا التَّرْتِيبِ يَنْزِلْنَ كَذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّ الْجَزَاءَ يَنْزِلُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَعَلَّقَ كَالْجَوَاهِرِ إذَا نُظِمَتْ فِي سِلْكٍ وَعُقِدَ، رَأْسُهُ تَنْزِلُ عِنْدَ الِانْحِلَالِ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي نُظِمَتْ بِهِ فَلَوْ غُيِّرَ مُوجَبُ هَذَا الْكَلَامِ وَبَطَلَتْ الْوَاسِطَةُ إنَّمَا يَبْطُلُ قَضِيَّةُ الْوَاوِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوَاوَ لَا تُوجِبُ الْقِرَانَ كَمَا لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَرَّرَ الشَّرْطَ لِأَنَّ الْكُلَّ تَعَلَّقَ بِالشَّرْطِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَبِخِلَافِ مَا إذَا قَدَّمَ الْجَزَاءَ لِأَنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ يَتَوَقَّفُ عَلَى آخِرِهِ إذَا كَانَ فِي آخِرِهِ مَا يُغَيِّرُ أَوَّلَهُ، أَوَّلُ الْكَلَامِ تَنْجِيزٌ لَوْ لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ آخِرًا فَيَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وَإِذَا تَوَقَّفَ تَعَلُّقُ الْكُلِّ بِلَا وَاسِطَةٍ بِالشَّرْطِ أَيْضًا وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً وَنِصْفًا لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي اللُّغَةِ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَوْ جُزْءٌ مِنْهُ فَكَانَ الْوَاحِدُ مَعَ النِّصْفِ كَاسْمٍ وَاحِدٍ بِمَنْزِلَةِ أَحَدَ عَشَرَ وَأَحَدٍ وَعِشْرِينَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَجَّزَ لِهَذَا اللَّفْظِ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً وَنِصْفَ تَطْلِيقَةٍ تَقَعُ ثِنْتَانِ كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إحْدَى وَعِشْرِينَ طَلْقَةً تَقَعُ الثَّلَاثُ جُمْلَةً وَلَمْ تَقَعْ الْوَاحِدَةُ أَوَّلًا ثُمَّ الْعِشْرُونَ كَمَا قَالَ زُفَرُ فَكَذَا هَهُنَا فَأَمَّا طَالِقٌ وَطَالِقٌ فَكَلَامَانِ صِيغَةً وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ يَجْعَلُهُمَا كَلَامًا وَاحِدًا لِأَنَّا وَجَدْنَا فِي اللُّغَةِ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الِاثْنَيْنِ بِعِبَارَةٍ أَوْ جُزْءٍ مِنْهُ وَهِيَ ثِنْتَانِ أَوْ ثَلَاثٌ وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ لَا بَلْ ثِنْتَيْنِ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ وَالْإِضْرَابِ عَمَّا قَبْلَهَا بِإِقَامَةِ الثَّانِي مَقَامَ الْأَوَّلِ فَإِذَا اقْتَضَتْ الِالْتِحَاقَ بِالْأَوَّلِ صِرْنَ جُمْلَةً كَمَا لَوْ قَالَ وَمَعَهَا أُخْرَى وَأَمَّا قَوْلُهُمَا يَصِيرُ مَا تَمَّ بِهِ الْأُولَى كَالْمُعَادِ مَرَّةً أُخْرَى فَسَيَجِيءُ بَيَانُهُ وَقَوْلُهُ (وَهُوَ فِي الْحَالِ تَكَلَّمَ بِالطَّلَاقِ) جَوَابٌ عَنْ كَلَامِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الثَّانِيَ تَعَلَّقَ بِوَاسِطَةٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِيَ الْإِمَامَ أَبَا زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ أَنَّ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ فَإِنَّا مَتَى اعْتَبَرْنَا الطَّلَاقَ الْمُتَعَلِّقَ بِمَحْسُوسٍ عُلِّقَ بِحَبْلٍ وَاحِدٍ أَوْجَبَ التَّعْلِيقُ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ عَلَى التَّعَاقُبِ صِفَةَ تَرْتِيبٍ لِلْمُتَعَلِّقِ فِي نَفْسِهِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَنْزِلَةِ حَلَقٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِحَبْلٍ وَاحِدٍ عَلَى التَّعَاقُبِ وَلَكِنَّ الشُّبْهَةَ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ التَّرْتِيبَ إنَّمَا ثَبَتَ تَكَلُّمًا بِهِ فَكَانَ التَّعَاقُبُ فِي أَزْمِنَةِ التَّعْلِيقِ وَنَحْنُ نُسَلِّمُ التَّعَاقُبَ فِي أَزْمِنَةِ تَعَلُّقِ الْأَجْزِئَةِ بِالشَّرْطِ تَكَلُّمًا بِهَا وَلَكِنَّهُ لَا يُوجِبُ تَعَاقُبَ الْوُقُوعِ حِينَ الشَّرْطِ كَمَا لَوْ كَرَّرَ الشَّرْطَ وَإِنَّمَا الْمُوجِبُ لِلتَّرْتِيبِ فِي الْوُقُوعِ لَفْظٌ يُوجِبُ تَفْرِيقَ أَزْمِنَةِ الْوُقُوعِ كَثُمَّ أَوْ تَرْتِيبِ الْوَاقِعِ إنْ تَعَلَّقْنَ جُمْلَةً كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ وَالثَّانِي وَإِلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْمُتَعَلِّقَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ لِلْحَالِ بَلْ هُوَ كَلَامٌ لَهُ عُرْضِيَّةُ أَنْ يَصِيرَ طَلَاقًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا لِلْحَالِ لَا يَقْبَلُ وَصْفَ التَّرْتِيبِ فِي الْحَالِ لِأَنَّ الْوَصْفَ لَا يَسْبِقُ الْمَوْصُوفَ فَكَانَتْ الْعِبْرَةُ لِحَالَةِ الْوُقُوعِ فَإِنْ وُجِدَ مَا يُوجِبُ تَفْرِيقَ أَزْمِنَةِ الْوُقُوعِ كَكَلِمَةِ ثُمَّ، أَوْ مَا يَبْقَى وَصْفًا لَهُ بَعْدَ الْوُقُوعِ كَكَلِمَةِ بَعْدَ يَثْبُتُ التَّرْتِيبُ وَيَصِيرُ بِكَلِمَةِ ثُمَّ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ الْجَزَاءُ الَّذِي يَصِيرُ طَلَاقًا فِي الثَّانِي أَنَّهُ يَصِيرُ طَلَاقًا بِهَذَا الْوَصْفِ فَأَمَّا الْوَاوُ فَلَا تُوجِبُ ذَلِكَ. وَكَذَا أَزْمِنَةُ التَّعْلِيقِ لَا تَكُونُ وَصْفًا لِمَا يَقَعُ زَمَانَ الشَّرْطِ فَيَلْغُو اعْتِبَارُ تَفَرُّقِهَا وَاجْتِمَاعِهَا فِي حَقِّ الْوَاقِعِ ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ هَاتَيْنِ الشُّبْهَتَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَوَابَ مَيْلًا إلَى تَرْجِيحِ قَوْلِهِمَا فَكَأَنَّ الشَّيْخَ إنَّمَا أَوْرَدَ قَوْلَهُمَا آخِرًا وَذَكَرَ جَوَابَهُمَا عَنْ كَلَامِ أَبِي حَنِيفَةَ اتِّبَاعًا لِلْقَاضِي الْإِمَامِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ

وَإِذَا كَانَ مُوجَبُ الْكَلَامِ مَا قُلْنَا لَمْ يَتَغَيَّرْ بِالْوَاوِ لِأَنَّهَا لَا تَتَعَرَّضُ لِلتَّرْتِيبِ لَا مَحَالَةَ وَلَا تُوجِبُهُ فَلَا يُتْرَكُ الْمُقَيَّدُ بِالْمُطْلَقِ وَإِذَا تَقَدَّمَتْ الْأَجْزِيَةُ فَقَدْ اتَّحَدَ حَالُ التَّعْلِيقِ فَصَارَ مُوجَبُ الْكَلَامِ الِاجْتِمَاعَ وَالِاتِّحَادَ فَلَمْ يُتْرَكْ بِالْوَاوِ لِمَا قُلْنَا فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ قَبْلَ الدُّخُولِ أَنَّهَا تَبِينُ بِوَاحِدَةٍ وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّرْتِيبِ وَقَالَ فِي النِّكَاحِ مِنْ الْجَامِعِ فِيمَنْ زَوَّجَ أَمَتَيْنِ مِنْ رَجُلٍ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُمَا وَبِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ ثُمَّ أَعْتَقَهُمَا الْمَوْلَى مَعًا إنَّهُ لَا يَبْطُلُ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهَا وَلَوْ أَعْتَقَهُمَا فِي كَلِمَتَيْنِ مُنْفَصِلَتَيْنِ بَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ فَإِنْ قَالَ هَذِهِ حُرَّةٌ وَهَذِهِ حُرَّةٌ مُتَّصِلًا بِوَاوِ الْعَطْفِ بَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ وَهَذَا أَيْضًا مِنْ بَابِ التَّرْتِيبِ وَقَالَ فِي هَذَا الْبَابِ فِيمَنْ زَوَّجَ رَجُلًا أُخْتَيْنِ فِي عُقْدَتَيْنِ بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ فَبَلَغَهُ فَأَجَازَهُمَا مَعًا بَطَلَا وَإِنْ أَجَازَهُ مُتَفَرِّقًا بَطَلَ الثَّانِي وَإِنْ قَالَ أَجَزْت نِكَاحَ هَذِهِ وَهَذِهِ بَطَلَا كَأَنَّهُ قَالَ أَجَزْتهمَا وَهَذَا مِنْ بَابِ الْمُقَارَنَةِ وَقَالَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ مِنْ الْجَامِعِ فِيمَنْ هَلَكَ عَنْ ثَلَاثَةِ أَعْبُدٍ قِيمَتُهُمْ سَوَاءٌ وَعَنْ ابْنٍ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَقَالَ الِابْنُ أَعْتَقَ أَبِي فِي مَرَضِ مَوْتِهِ هَذَا وَهَذَا وَهَذَا فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ فِي كَلَامٍ مُتَّصِلٍ عَتَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثُهُ وَإِنْ سَكَتَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ عَتَقَ الْأَوَّلُ وَنِصْفُ الثَّانِي وَثُلُثُ الثَّالِثِ وَهَذَا مِنْ بَابِ الْقِرَانِ قِيلَ لَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَقْرَبُ إلَى مُرَاعَاةِ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ لِأَنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ ذَلِكَ الْمَلْفُوظُ بِهِ يَصِيرُ طَلَاقًا فَإِذَا كَانَ مِنْ ضَرُورَةِ الْعَطْفِ إثْبَاتُ هَذِهِ الْوَاسِطَةِ ذِكْرًا فَعِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ يَصِيرُ كَذَلِكَ طَلَاقًا وَاقِعًا وَمِنْ ضَرُورَةِ تَفَرُّقِ الْوُقُوعِ أَنْ لَا يَقَعَ إلَّا وَاحِدَةً فَإِنَّهَا تَبِينُ لَا إلَى عِدَّةٍ كَمَا لَوْ نَجَّزَ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ قَوْلُهُ (وَإِذَا كَانَ مُوجَبُ الْكَلَامِ مَا قُلْنَا) وَهُوَ الِاجْتِمَاعُ وَالِاتِّحَادُ فَلَا يُتْرَكُ الْمُقَيَّدُ أَيْ الْمُقْتَضِي لِلِاجْتِمَاعِ بِالْمُطْلَقِ أَيْ الْوَاوِ. وَقَوْلُهُ وَإِذَا تَقَدَّمَتْ الْأَجْزِيَةُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَنْ اسْتِدْلَالِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْوَاوَ لِلْمُقَارَنَةِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا يَعْنِي ثَبَتَ الْمُقَارَنَةُ بِاتِّحَادِ حَالِ التَّعْلِيقِ الَّذِي يَقْتَضِي الِاجْتِمَاعَ فِي الْوُقُوعِ لَا بِمُوجَبِ الْوَاوِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِكَلَامِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى سَبِيلِ الْفَرْقِ يَعْنِي إذَا تَأَخَّرَتْ الْأَجْزِيَةُ فَمُوجَبُ كَلَامِهِ الِافْتِرَاقُ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِالْوَاوِ إذَا تَقَدَّمَتْ فَمُوجَبُهُ الِاجْتِمَاعُ فَلَا يُتْرَكُ بِالْوَاوِ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا إنَّهَا لَا تَتَعَرَّضُ لِلْقِرَانِ وَلَا لِلتَّرْتِيبِ ثُمَّ ذَكَرَ الشَّيْخُ مَا يَرِدُ نَقْضًا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَعَ جَوَابِهِ وَهُوَ أَرْبَعُ مَسَائِلَ اثْنَتَانِ مِنْهَا تَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لِلتَّرْتِيبِ وَاثْنَتَانِ عَلَى أَنَّهَا لِلْقِرَانِ مِنْهَا مَسْأَلَةُ الْأَمَتَيْنِ وَهِيَ أَنَّ رَجُلًا لَوْ زَوَّجَ أَمَتَيْنِ لِآخَرَ بِرِضَاهُمَا مِنْ رَجُلٍ فِي عُقْدَةٍ أَوْ عُقْدَتَيْنِ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُمَا وَبِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ كَانَ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنْ نَقَضَ أَحَدُهُمَا انْتَقَضَ وَإِنْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ الْآخَرِ فَإِنْ أَعْتَقَهُمَا الْمَوْلَى بِلَفْظٍ وَاحِدٍ بِأَنْ قَالَ أَعْتَقْتهمَا أَوْ قَالَ هُمَا حُرَّتَانِ لَا يَبْطُلُ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ لَا فِي حَالِ الْعَقْدِ وَلَا فِي حَالِ الْإِجَازَةِ وَلَزِمَ الْعَقْدُ مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى لِسُقُوطِ حَقِّهِ بِالْإِعْتَاقِ وَبَقِيَ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الزَّوْجِ إنْ شَاءَ أَجَازَ نِكَاحَهُمَا وَإِنْ شَاءَ أَجَازَ نِكَاحَ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِعَيْنِهَا وَلَوْ أَعْتَقَهُمَا فِي كَلِمَتَيْنِ مُنْفَصِلَتَيْنِ بِأَنْ قَالَ أَعْتَقْت هَذِهِ أَوْ قَالَ هَذِهِ حُرَّةٌ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ زَمَانٍ لِلْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ أَوْ مُتَّصِلَتَيْنِ كَمَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ بَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ لِمَا سَتَقِفُ عَلَيْهِ وَبَقِيَ نِكَاحُ الْأُولَى مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الزَّوْجِ وَلَوْ وُجِدَ إذْنُ الْمَوْلَى دُونَ الزَّوْجِ فِي الْمَسْأَلَةِ تَوَقَّفَ النِّكَاحُ عَلَى إجَازَةِ الزَّوْجِ لَا غَيْرُ وَلَوْ أُعْتِقَتَا مَعًا لَا يَبْطُلُ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَبَقِيَ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الزَّوْجِ كَمَا كَانَ وَلَوْ أُعْتِقَتَا عَلَى التَّعَاقُبِ بِكَلَامَيْنِ مُنْفَصِلَيْنِ أَوْ مُتَّصِلَيْنِ بَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ وَبَقِيَ نِكَاحُ الْأُولَى مَوْقُوفًا عَلَى مَا كَانَ وَلَوْ وُجِدَ إذْنُ الزَّوْجِ دُونَ الْمَوْلَى تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى وَلَوْ أَعْتَقَهُمَا مَعًا نَفَذَ نِكَاحُهُمَا وَلَوْ أَعْتَقَهُمَا عَلَى التَّعَاقُبِ بَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ وَنَفَذَ نِكَاحُ الْأُولَى. وَلَوْ وُجِدَ إذْنُهُمَا جَمِيعًا نَفَذَ نِكَاحُهُمَا وَلَا يَبْطُلُ بِإِعْتَاقٍ بِحَالٍ، فِيمَا ذَكَرْنَا تَعْرِفُ فَائِدَةَ الْقَيْدَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ فَتَأَمَّلْ قَوْلُهُ (فِي عُقْدَتَيْنِ) احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا زَوَّجَهُمَا فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفُذُ بِحَالٍ قَوْلُهُ (وَلَوْ سَكَتَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ) بِأَنْ قَالَ أَعْتَقَ أَبِي هَذَا وَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ لِلْآخَرِ أَعْتَقَ هَذَا وَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ وَأَعْتَقَ هَذَا عَتَقَ الْأَوَّلُ وَنِصْفُ الثَّانِي وَثُلُثُ الثَّالِثِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِعِتْقِ الْأَوَّلِ فَقَدْ أَقَرَّ بِالثُّلُثِ لَهُ فَعَتَقَ مِنْ غَيْرِ سِعَايَةٍ ثُمَّ لَمْ يَصِحَّ مَا بَعْدَهُ فِي تَغْيِيرِ حَقِّهِ لِأَنَّ الْمُغَيِّرَ إنَّمَا يَصِحُّ بِشَرْطِ الْوَصْلِ وَإِذَا أَقَرَّ بِالثَّانِي فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ الثُّلُثَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَّلِ نِصْفَيْنِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُصَدَّقْ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْأَوَّلِ وَصُدِّقَ فِي إثْبَاتِ حَقِّ الثَّانِي وَلَمَّا أَقَرَّ بِالثَّالِثِ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ الثُّلُثَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لَكِنَّهُ لَمْ يُصَدَّقْ فِي إبْطَالِ

أَمَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَقَدْ قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ إنَّهُ تَقَعُ الثَّلَاثُ وَجَعَلَهَا لِلْقِرَانِ لَكِنَّهُ غَلَطٌ لِمَا قَدَّمْنَا وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ الْمُطْلَقِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ الثَّانِي لِأَنَّ الْأَوَّلَ وَقَعَ قَبْلَ التَّكَلُّمِ بِالثَّانِي لَمَّا لَمْ يَكُنْ الْكَلَامُ نَصًّا عَلَى الْمُقَارَنَةِ وَلَمْ يَقِفْ عَلَى التَّكَلُّمِ بِالْبَاقِي فَسَقَطَتْ وِلَايَتُهُ لِفَوَاتِ مَحَلِّ التَّصَرُّفِ لَا لِخَلَلٍ فِي الْعِبَارَةِ وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ نِكَاحِ الْأُمَّتَيْنِ لِأَنَّ عِتْقَ الْأُولَى يُبْطِلُ مَحَلِّيَّةَ الْوَقْفِ فِي حَقِّ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ لَا حِلَّ لِلْأَمَةِ فِي مُقَابَلَةِ الْحُرَّةِ حَالَ التَّوَقُّفِ فَبَطَلَ الثَّانِي قَبْلَ التَّكَلُّمِ بِعِتْقِهَا ثُمَّ لَمْ يَصِحَّ التَّدَارُكُ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ فِي حُكْمِ التَّوَقُّفِ لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تَتَعَرَّضُ لِلْمُقَارَنَةِ فَأَمَّا فِي نِكَاحِ الْأُخْتَيْنِ فَإِنَّ صَدْرَ الْكَلَامِ تَوَقَّفَ عَلَى آخِرِهِ لَا لِاقْتِضَاءِ وَاوِ الْعَطْفِ لَكِنْ لِأَنَّ صَدْرَ الْكَلَامِ وُضِعَ لِجَوَازِ النِّكَاحِ وَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ آخِرُهُ سَلَبَ عَنْهُ الْجَوَازَ فَصَارَ آخِرُهُ فِي حَقِّ أَوَّلِهِ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQحَقِّ الْأَوَّلَيْنِ كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ لِلْمُصَنِّفِ قَوْلُهُ (أَمَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى) إذَا قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ يَقَعُ وَاحِدَةٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَرَبِيعَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى إنَّهَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا لِأَنَّ الْوَاوَ تُوجِبُ الْمُقَارَنَةَ. وَلِأَنَّ الْجَمْعَ بِحَرْفِ الْجَمْعِ كَالْجَمْعِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ طَلُقَتْ ثَلَاثًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَكَذَا هَهُنَا لَكِنَّ مَا قَالُوهُ غَلَطٌ لِمَا قَدَّمْنَا أَنَّ لِلْقِرَانِ لَفْظًا مَوْضُوعًا وَهُوَ مَعَ فَلَوْ حَمَلْنَا الْوَاوَ عَلَيْهِ كَانَ تَكْرَارًا وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ اللُّغَةِ أَيْضًا وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ الْمُطْلَقِ لَا لِلْقِرَانِ وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِكَوْنِهَا لِلْعَطْفِ الْمُطْلَقِ لَمْ يَقَعْ الثَّانِي لِأَنَّ الْأَوَّلَ وَقَعَ قَبْلَ التَّكَلُّمِ بِالثَّانِي لِأَنَّ تَوَقُّفَ الْكَلَامِ الَّذِي صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَا يُوجِبُ ذَلِكَ مِنْ تَنْصِيصٍ عَلَيْهِ بِلَفْظٍ يُوجِبُهُ كَكَلِمَةِ مَعَ أَوْ مِنْ مُغَيِّرٍ الْتَحَقَ بِآخِرِهِ كَالشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا تَنْصِيصٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْوَاوَ لَيْسَتْ بِنَصٍّ عَلَى الْمُقَارَنَةِ بَلْ هِيَ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ الْوَاوِ وَلَا مُغَيِّرَ أَيْضًا لِأَنَّ ذِكْرَ الطَّلَاقِ الثَّانِي لَا يُؤَثِّرُ فِي الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَلَمْ يَقِفْ عَلَى التَّكَلُّمِ بِالثَّانِي وَإِذَا لَمْ يَتَوَقَّفْ أَوَّلُهُ عَلَى آخِرِهِ بَانَتْ بِالْأَوَّلِ وَلَغَا الثَّانِي وَالثَّالِثُ (لِفَوَاتِ مَحَلِّ التَّصَرُّفِ) بِحُصُولِ الْإِبَانَةِ بِالطَّلَاقِ الْأَوَّلِ (لَا لِخَلَلٍ فِي الْعِبَارَةِ) أَيْ لَا لِفَسَادٍ فِي التَّكَلُّمِ وَالْعَطْفِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي وُقُوعَ الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَلَكِنْ مِنْ شَرْطِهِ قِيَامُ الْمَحَلِّ فَإِذَا لَمْ يَبْقَ لَغَا ضَرُورَةً ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقَعُ الْأَوَّلُ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ التَّكَلُّمِ بِالثَّانِي وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ التَّكَلُّمِ بِالثَّانِي يَقَعُ الْأَوَّلُ لِجَوَازِ أَنْ يُلْحِقَ بِكَلَامِهِ شَرْطًا أَوْ اسْتِثْنَاءً مُغَيِّرًا. وَمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ أَحَقُّ فَإِنَّهُ مَا لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ وَلَا يَفُوتُ الْمَحَلُّ فَلَوْ كَانَ وُقُوعُ الْأَوَّلِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِالثَّانِي لَوَقَعَا جَمِيعًا لِوُجُودِ الْمَحَلِّ مَعَ صِحَّةِ التَّكَلُّمِ بِالثَّانِي كَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ فِي نِكَاحِ الْأَمَتَيْنِ) أَيْ وَكَمَا أَنَّ عَدَمَ وُقُوعِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ (لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ) لَا لِأَنَّ الْوَاوَ تُوجِبُ التَّرْتِيبَ فَكَذَا فِي نِكَاحِ الْأَمَتَيْنِ بُطْلَانُ نِكَاحِ الثَّانِيَةِ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ لَا لِاقْتِضَاءِ الْوَاوِ ذَلِكَ لِأَنَّ عِتْقَ الْأُولَى يُبْطِلُ مَحَلِّيَّةَ الْوَقْفِ فِي حَقِّ الثَّانِيَةِ يَعْنِي بَعْدَمَا عَتَقَتْ الْأُولَى لَا تَبْقَى الثَّانِيَةُ مَحَلًّا لِلنِّكَاحِ الْمَوْقُوفِ (لِأَنَّهُ لَا حِلَّ لِلْأَمَةِ فِي مُقَابَلَةِ الْحُرَّةِ حَالَ التَّوَقُّفِ) أَرَادَ بِهِ حِلَّ الْمَحَلِّيَّةِ أَيْ لَا تَبْقَى الْأَمَةُ مَحَلَّ النِّكَاحِ فِي مُقَابَلَةِ الْحُرَّةِ حَالَ تَوَقُّفِ نِكَاحِ الْأَمَةِ فَإِنَّهُ إنْ تَزَوَّجَ أَمَةً نِكَاحًا مَوْقُوفًا ثُمَّ تَزَوَّجَ حُرَّةً نِكَاحًا نَافِذًا أَوْ مَوْقُوفًا يَبْطُلُ نِكَاحُ الْأَمَةِ أَصْلًا وَذَلِكَ لِأَنَّ حَالَ التَّوَقُّفِ حَالُ انْضِمَامِ الْأَمَةِ إلَى الْحُرَّةِ وَالنِّكَاحُ الْمَوْقُوفُ مُعْتَبَرٌ بِابْتِدَاءِ النِّكَاحِ لِأَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ فَكَانَ فِي حَقِّ مَنْ يَلْزَمُهُ حُكْمُهُ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِ الْمُنْعَقِدِ وَالْأَمَةُ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِابْتِدَاءِ النِّكَاحِ مُنْضَمَّةً إلَى الْحُرَّةِ فَلِهَذَا بَطَلَ تَوَقُّفُ نِكَاحِ الثَّانِيَةِ بَعْدَمَا عَتَقَتْ الْأُولَى قَبْلَ الْفَرَاغِ عَنْ التَّكَلُّمِ بِعِتْقِهَا ثُمَّ لَمْ يَصِحَّ التَّدَارُكُ بَعْدَ إعْتَاقِهَا لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ فِي حَقِّ التَّوَقُّفِ قَبْلَهُ وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ فِي حَقِّ التَّوَقُّفِ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْمَحَلِّيَّةِ فِي حَقِّهِ لَا غَيْرُ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدُ صَحَّ لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ حُرَّةً وَلِأَنَّ الْوَاوَ لَا تَتَعَرَّضُ لِلْمُقَارَنَةِ لِتَجْعَلَهُمَا كَلَامًا وَاحِدًا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَعْتَقْتهمَا وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَعْتَقْت هَذِهِ مَعَ هَذِهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَعْتَقْتهمَا. قَوْلُهُ (فَأَمَّا

وَصَدْرُ الْكَلَامِ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ بِشَرْطِ الْوَصْلِ لِمَا نُبَيِّنُ فِي بَابِ الْبَيَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَكَذَلِكَ هَذَا، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ قَبْلَ الدُّخُول لِأَنَّ صَدْرَ الْكَلَامِ لَا يَتَغَيَّرُ بِآخِرِهِ فَلَمْ يَتَوَقَّفْ. وَكَذَا فِي مَسْأَلَةِ نِكَاحِ الْأَمَتَيْنِ لَا يَتَغَيَّرُ صَدْرُ الْكَلَامِ بِآخِرِهِ لِأَنَّ عِتْقَ الثَّانِيَةِ إنْ ضُمَّ إلَى الْأَوَّلِ لَمْ يَتَغَيَّرْ نِكَاحُ الْأُولَى عَنْ الصِّحَّةِ إلَى الْفَسَادِ وَعَنْ الْوُجُودِ إلَى الْعَدَمِ وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ صَدْرُ الْكَلَامِ يَتَغَيَّرُ بِآخِرِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ مُوجَبَ صَدْرِهِ عِتْقُهُ بِلَا سِعَايَةٍ وَإِذَا انْضَمَّ الْأُخْرَى إلَى الْأَوَّلِ تَغَيَّرَ الصَّدْرُ عَنْ عِتْقٍ إلَى رِقٍّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى مُكَاتَبٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَتَغَيَّرُ عَنْ بَرَاءَةٍ إلَى شُغْلٍ بِدَيْنِ السِّعَايَةِ فَلِذَلِكَ وَقَفَ صَدْرُهُ عَلَى آخِرِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQنِكَاحُ الْأُخْتَيْنِ) ذَكَرَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ اخْتِلَافَ الْجَوَابِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ لِاخْتِلَافِ الْوَضْعِ فَإِنَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الْأَمَتَيْنِ قَالَ هَذِهِ حُرَّةٌ وَهَذِهِ حُرَّةٌ وَالْكَلَامُ الثَّانِي جُمْلَةٌ تَامَّةٌ لِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ فَإِذَا عُطِفَتْ عَلَى جُمْلَةٍ تَامَّةٍ لَا يُوجِبُ مُشَارَكَتَهَا الْأُولَى فَلَا يَتَوَقَّفُ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى آخِرِهِ كَقَوْلِهِ لِامْرَأَتَيْهِ: عَمْرَةُ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَزَيْنَبُ طَالِقٌ إنَّ زَيْنَبَ تَطْلُقُ وَاحِدَةً وَقَالَ فِي مَسْأَلَةِ الْأُخْتَيْنِ أَجَزْت نِكَاحَ هَذِهِ وَهَذِهِ وَالْكَلَامُ الثَّانِي جُمْلَةٌ نَاقِصَةٌ فَشَارَكَتْ الْأُولَى ضَرُورَةً حَتَّى لَوْ قَالَ هَهُنَا وَأَجَزْت هَذِهِ يَجِبُ أَنْ يَبْطُلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ وَلَوْ قَالَ فِي مَسْأَلَةِ الْأَمَتَيْنِ هَذِهِ حُرَّةٌ وَهَذِهِ لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُمَا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَالْأَصَحُّ أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا فِيمَا إذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ جُمْلَةً تَامَّةً فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ. وَالْفَرْقُ مَا أَشَارَ الشَّيْخُ إلَيْهِ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ أَنَّ آخِرَ الْكَلَامِ إذَا كَانَ يُغَيِّرُ أَوَّلَهُ تَوَقَّفَ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ كَمَا وَقَفَ عَلَى الشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَإِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهِ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَيْهِ فَفِي مَسْأَلَةِ الْأُخْتَيْنِ آخِرُ الْكَلَامِ يُغَيِّرُ أَوَّلَهُ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَضُمَّ الثَّانِيَةَ إلَى الْأُولَى صَحَّ نِكَاحُ الْأُولَى وَإِذَا ضَمَّ إلَيْهَا بَطَلَ نِكَاحُهَا لِلْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ سَلَبَ عَنْهُ الْجَوَازَ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ فَتَوَقَّفَ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ فَصَارَ كَالْجَمْعِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَبَطَلَا وَفِي مَسْأَلَةِ الْأَمَتَيْنِ إعْتَاقُ الْأَخِيرَةِ لَا يُغَيِّرُ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَبْقَى مَوْقُوفًا صَحِيحًا كَمَا كَانَ وَإِنَّمَا أَثَرُ الثَّانِي فِي صِحَّةِ نَفْسِهِ لَا فِي تَغْيِيرِ الْأَوَّلِ لَوْ صَحَّ فَلَمْ يَتَوَقَّفْ الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَإِذَا لَمْ يَتَوَقَّفْ فَسَدَ الثَّانِي قَوْلُهُ (وَصَدْرُ الْكَلَامِ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْآخِرِ الَّذِي هُوَ مُغَيِّرٌ بِشَرْطِ الْوَصْلِ هَذَا جَوَابٌ عَمَّا إذَا أَجَازَ نِكَاحَهُمَا مُتَفَرِّقًا حَيْثُ لَا يُؤَثِّرُ إجَازَةُ نِكَاحِ الثَّانِيَةِ فِي إبْطَالِ نِكَاحِ الْأُولَى وَلَا يَتَوَقَّفُ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي وَإِنْ كَانَ مُغَيِّرًا فَقَالَ صَدْرُ الْكَلَامِ إنَّمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمُغَيِّرِ إذَا كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ مُنْفَصِلًا عَنْهُ فَلَا وَهَذَا لَا يُوجَدُ أَيْ تَغَيُّرُ صَدْرِ الْكَلَامِ بِالْآخِرِ فِي مَسْأَلَتَيْنِ لَا يُوجَدُ وَلَا يُقَالُ قَدْ يَتَغَيَّرُ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ صَدْرُ الْكَلَامِ بِآخِرِهِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةٌ غَلِيظَةٌ لِأَنَّا نَقُولُ لَيْسَ ذَلِكَ بِتَغْيِيرٍ بَلْ هُوَ تَقْرِيرُ حُكْمِ أَوَّلِهِ وَتَأْكِيدُهُ لِأَنَّ حُكْمَهُ الْحُرْمَةُ الْخَفِيفَةُ وَحُكْمُ آخِرِهِ الْحُرْمَةُ الْغَلِيظَةُ وَكِلَاهُمَا رَافِعٌ لِلْقَيْدِ وَأَمَّا مَا يَثْبُتُ مِنْ زِيَادَةِ الْحُرْمَةِ فَبِاعْتِبَارِ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ. قَوْلُهُ (عَنْ الصِّحَّةِ إلَى الْفَسَادِ وَعَنْ الْوُجُودِ إلَى الْعَدَمِ) الْمُغَيِّرُ الَّذِي يَلْتَحِقُ بِآخِرِ الْكَلَامِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي الْوَصْفِ كَالشَّرْطِ فَإِنَّهُ لَا يُبْطِلُ الْكَلَامَ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُ حُكْمَهُ إلَى حِينِ وُجُودِ الشَّرْطِ أَوْ فِي الْأَصْلِ كَالِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ أَنْتَ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ يَبْطُلُ أَصْلُ الْكَلَامِ بِالِاسْتِثْنَاءِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُ مُوجَبٌ أَصْلًا فَالشَّيْخُ تَعَرَّضَ لَهُمَا فَقَالَ إعْتَاقُ الثَّانِيَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي وَصْفِ نِكَاحِ الْأُولَى بِالتَّغْيِيرِ مِنْ الصِّحَّةِ إلَى الْفَسَادِ وَلَا فِي أَصْلِهِ بِالْإِعْدَامِ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ) عَطْفٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الْأُخْتَيْنِ يَعْنِي كَمَا أَنَّ صَدْرَ الْكَلَامِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ يَتَغَيَّرُ بِآخِرِهِ فَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ يَتَغَيَّرُ الصَّدْرُ بِآخِرِهِ أَيْضًا. مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ إنَّمَا يَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ثُلُثَهُ لِأَنَّهُ جَمَعَهُمْ بِحَرْفِ الْجَمْعِ وَهُوَ الْوَاوُ وَالْمَجْمُوعُ بِحَرْفِ الْجَمْعِ كَالْمَجْمُوعِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ أَعْتَقَهُمْ وَالِدِي أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَ الرَّجُلِ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَهُمَا عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَأَنَّ قَوْلَهُ بِعْت هَذَا الْعَبْدَ مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ بِعْته مِنْهُمَا فَكَذَا

وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ فِي الْكِتَابِ وَيَنْوِي مَنْ عَنْ يَمِينِهِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْحَفَظَةِ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ تَرْتِيبًا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} [البقرة: 158] لَا يُوجِبُ تَرْتِيبًا أَيْضًا أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ إثْبَاتُ أَنَّهُمَا مِنْ الشَّعَائِرِ وَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ التَّرْتِيبُ ـــــــــــــــــــــــــــــQهَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ الْجَامِعِ وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ الْمُطْلَقِ لَيْسَ لَهَا عَمَلٌ فِي الْقِرَانِ وَلَا فِي التَّرْتِيبِ وَلَكِنَّ آخِرَ الْكَلَامِ هَهُنَا يُغَيِّرُ أَوَّلَهُ لِأَنَّ حُكْمَ الصَّدْرِ لَوْ سَكَتَ عَلَيْهِ سَلَامَةُ نَفْسِ الْأَوَّلِ لَهُ بِلَا سِعَايَةٍ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ الثَّانِي وَالثَّالِثُ تَغَيَّرَ الصَّدْرُ عَنْ عِتْقٍ إلَى رِقٍّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ السِّعَايَةَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَالْمُسْتَسْعَى كَالْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ فِي الْأَحْكَامِ وَالْمُكَاتَبُ عِنْدَنَا عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ. وَعِنْدَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ إلَى الرِّقِّ وَلَكِنْ يَتَغَيَّرُ مِنْ بَرَاءَةٍ إلَى شُغْلٍ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ عَتَقَ مَجَّانًا فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ الثَّانِي وَالثَّالِثُ لَمْ يَبْقَ لَهُ إلَّا ثُلُثُ الثُّلُثِ وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ فَلِذَلِكَ تَوَقَّفَ صَدْرُهُ عَلَى آخِرِهِ لَا لِلْوَاوِ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ وَلِأَنَّ الْوَاوَ لِمُطْلَقِ الْعَطْفِ قُلْنَا إنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ فِي الْكِتَابِ أَيْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَيَنْوِي أَيْ فِي التَّسْلِيمَتَيْنِ مَنْ عَنْ يَمِينِهِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْحَفَظَةِ لَا يُوجِبُ تَرْتِيبًا كَرَّرَ الشَّيْخُ لَفْظَةَ أَنَّ لِطُولِ الْكَلَامِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَفْضِيلُ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَيَظْهَرُ بِهَذَا فَسَادُ قَوْلِ مَنْ قَالَ بِتَفْضِيلِهِمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَادَّعَى أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا اسْتِدْلَالًا بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ أَلَا يَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ وَيَنْوِي بِتَسْلِيمَةِ الْأَوَّلِ مَنْ كَانَ عَنْ يَمِينِهِ مِنْ الْحَفَظَةِ وَالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلُ ذَلِكَ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ مُطْلَقَ الْجَمْعِ فِي النِّيَّةِ لَا التَّرْتِيبَ فِيهَا وَفِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِشَمْسِ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ مَا ذُكِرَ فِي الصَّلَاةِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلُ وَمَا ذُكِرَ هَهُنَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ الثَّانِي فَقَدْ رَجَعَ إلَى تَفْضِيلِ بَنِي آدَمَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ قَالَ وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ فِيهَا كَلَامٌ بَيْنَ أَهْلِ الْأُصُولِ وَلَكِنْ لَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِهِ هَهُنَا فَالْوَاوُ لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ وَالتَّرْتِيبُ فِي النِّيَّةِ لَا يَتَحَقَّقُ فَإِنَّ مَنْ سَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْوِيَ الرِّجَالَ أَوَّلًا ثُمَّ النِّسَاءَ ثُمَّ الصِّبْيَانَ وَلَكِنَّ مُرَادَهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَنْ يَجْمَعَهُمْ فِي نِيَّتِهِ. وَفِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْمُصَنِّفِ فَأَمَّا التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ لَازِمٍ لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تُوجِبُ تَرْتِيبًا لَكِنْ لِلْبِدَايَةِ أَثَرٌ فِي الِاهْتِمَامِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْقُرَبِ فَدَلَّ مَا ذُكِرَ هَهُنَا وَهُوَ آخِرُ التَّصْنِيفَيْنِ أَنَّ مُؤْمِنِي الْبَشَرِ أَفْضَلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ قَالَ الْإِمَامُ الْكَشَانِيُّ وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ خَوَاصَّ بَنِي آدَمَ وَهُمْ الْمُرْسَلُونَ أَفْضَلُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَعَوَامُّ بَنِي آدَمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْأَتْقِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ عَوَامِّ الْمَلَائِكَةِ وَلَيْسُوا بِأَفْضَلَ مِنْ خَوَاصِّهِمْ بَلْ خَوَاصُّ الْمَلَائِكَةِ أَفْضَلُ مِنْ عَوَامِّ بَنِي آدَمَ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] أَمَّا الْكَلَامُ فِي تَفْضِيلِ الْبَشَرِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَالْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ فَإِنَّا لَا نَتَكَلَّمُ فِيهِ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَيْسَ لَنَا إلَى مَعْرِفَتِهِ حَاجَةٌ فَنَكِلُ الْأَمْرَ فِيهِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَذَلِكَ مِثْلُ الْكَلَامِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَأَتْقِيَاءِ الْخَلْقِ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَتَفْضِيلِ هَؤُلَاءِ عَلَى هَؤُلَاءِ فَنُفَوِّضُ ذَلِكَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ شَرِّ الْبَشَرِ وَأَفْسَقِهِمْ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ لَمْ يَعْصُوا اللَّهَ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَيُقَالُ هُمْ أَفْضَلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ وَلَكِنْ إنْ كَانَ لَا بُدَّ فَإِنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ مَا ذَكَرْنَا وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ فَيَتَكَلَّمُ " ح " بِتَفْضِيلِ بَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) جَوَابٌ عَنْ مُتَمَسَّكِ الْخَصْمِ يَعْنِي كَمَا أَنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ

وَإِنَّمَا ثَبَتَ السَّعْيُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] غَيْرَ أَنَّ السَّعْيَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ تَرْتِيبٍ وَالتَّقْدِيمُ فِي الذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ الْمُقَدَّمِ ظَاهِرًا وَهَذَا يَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ فَرُجِّحَ بِهِ فَصَارَ التَّرْتِيبُ وَاجِبًا بِفِعْلِهِ لَا بِنَصِّ الْآيَةِ وَهَذَا كَمَا قَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي الْوَصَايَا بِالْقُرَبِ النَّوَافِلِ إنَّهُ يُبْدَأُ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْمَيِّتُ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى قُوَّةِ الِاهْتِمَامِ وَصَلَحَ لِلتَّرْجِيحِ فَأَمَّا قَوْلُ الرَّجُلِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ وَمِائَةٌ وَثَوْبٌ وَمِائَةٌ وَشَاةٌ وَمِائَةٌ وَعَبْدٌ فَلَيْسَ بِمَبْنِيٍّ عَلَى حُكْمِ الْعَطْفِ بَلْ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ يُذْكَرُ فِي بَابِ الْبَيَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ تَدْخُلُ الْوَاوُ عَلَى جُمْلَةٍ كَامِلَةٍ بِخَبَرِهَا فَلَا تَجِبُ بِهِ الْمُشَارَكَةُ فِي الْخَبَرِ مِثْلُ قَوْلِ الرَّجُلِ هَذِهِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَهَذِهِ طَالِقٌ أَنَّ الثَّانِيَةَ تَطْلُقُ وَاحِدَةً فَسَمَّى بَعْضُهُمْ هَذِهِ وَاوَ الِابْتِدَاءِ أَوْ وَاوَ النَّظْمِ وَهَذَا فَضْلٌ مِنْ الْكَلَامِ وَإِنَّمَا هِيَ لِلْعَطْفِ عَلَى مَا هُوَ أَصْلُهَا لَكِنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْخَبَرِ كَانَتْ وَاجِبَةً لِافْتِقَارِ الْكَلَامِ الثَّانِي إذَا كَانَ نَاقِصًا فَأَمَّا إذَا كَانَ تَامًّا فَقَدْ ذَهَبَ دَلِيلُ الشَّرِكَةِ وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ الْجُمْلَةَ النَّاقِصَةَ تُشَارِكُ الْأُولَى فِيمَا تَمَّ بِهِ الْأَوْلَى بِعَيْنِهِ حَتَّى قُلْنَا فِي قَوْلِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ أَنَّ الثَّانِيَ يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ الشَّرْطِ بِعَيْنِهِ وَلَا يَقْتَضِي الِاسْتِبْدَادَ بِهِ كَأَنَّهُ أَعَادَهُ وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى هَذِهِ الضَّرُورَةِ اسْتِحَالَةَ الِاشْتِرَاكِ فَأَمَّا عِنْدَ عَدَمِ اسْتِحَالَةِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْخَبَرِ الْأَوَّلِ هُوَ الْأَصْلُ مِثْلُ قَوْلِك جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو الثَّانِي يَخْتَصُّ بِمَجِيءٍ عَلَى حِدَةٍ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي مَجِيءِ وَاحِدٍ لَا يُتَصَوَّرُ فَصَارَ الثَّانِي ضَرُورِيًّا وَالْأَوَّلُ أَصْلِيًّا ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْحَفَظَةِ لَا يَحْتَمِلُ التَّرْتِيبَ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} [البقرة: 158] لَا يَحْتَمِلُ التَّرْتِيبَ لِأَنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ لِبَيَانِ أَنَّهُمَا مِنْ الشَّعَائِرِ وَمَعَالِمِ الْحَجِّ وَهَذَا لَا يَحْتَمِلُ التَّرْتِيبَ لِأَنَّهُ يَجْرِي فِي الْفِعْلِ لَا فِي الْعَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الزَّمَانِ الَّذِي كَانَ الصَّفَا فِيهِ مِنْ الْمَعَالِمِ كَانَتْ الْمَرْوَةُ فِيهِ كَذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا ثَبَتَ السَّعْيُ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَمَّا كَانَتْ الْآيَةُ لِبَيَانِ أَنَّهُمَا مِنْ الشَّعَائِرِ فِيمَ ثَبَتَ وُجُوبُ السَّعْيِ أَوْ شَرْعِيَّتِهِ فَقَالَ إنَّمَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] وَلِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ هُوَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَتَرْكُهُ لَا يُوجِبُ شَيْئًا لِأَنَّهُ قَالَ فَلَا جُنَاحَ وَمِثْلُهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمُبَاحِ دُونَ الْوَاجِبِ وَقَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ هُوَ وَاجِبٌ بِهَذَا النَّصِّ وَبِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ فَاسْعَوْا» . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {فَلا جُنَاحَ} [البقرة: 158] أَيْ لَا إثْمَ عَلَيْهِ فَلِتَحَرُّجِ النَّاسِ عَنْ الطَّوَافِ بِهِمَا لِمَكَانِ صَنَمَيْنِ كَانَا عَلَيْهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إسَافٌ وَنَائِلَةُ وَكَانُوا يَعْبُدُونَهُمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَبَعْدَ الْإِسْلَامِ كَرِهُوا التَّعَبُّدَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ فَنَفَى ذَلِكَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (غَيْرَ أَنَّ السَّعْيَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ تَرْتِيبٍ) يَعْنِي أَنَّ النَّصَّ الْمُوجِبَ لِلسَّعْيِ لَا يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ لَكِنَّ السَّعْيَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ تَرْتِيبٍ وَالْبِدَايَةُ بِالذِّكْرِ فِي مُصْطَلَحِ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ عِنَايَةٍ بِذَلِكَ الشَّيْءِ وَقُوَّةِ اهْتِمَامٍ بِهِ كَمَا إذَا فَارَقَك مَنْ كُنْت مَشْغُوفًا بِهِ وَقِيلَ لَك مَا الَّذِي تَتَمَنَّى تَقُولُ وَجْهَ الْحَبِيبِ أَتَمَنَّى فَتُقَدِّمُ وَجْهَ الْحَبِيبِ لِكَوْنِهِ نُصْبَ عَيْنِك وَلِزِيَادَةِ الْتِفَاتِ خَاطِرِك إلَيْهِ وَلَمَّا دَلَّتْ الْبِدَايَةُ عَلَى زِيَادَةِ الْعِنَايَةِ ظَهَرَ بِهَا نَوْعُ قُوَّةٍ صَالِحَةٍ لِلتَّرْجِيحِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَدَلَّ فِي تَفْضِيلِ الْمُهَاجِرِينَ أَوْ تَعْيِينِ الْإِمَامِ مِنْهُمْ بِتَقْدِيمِهِمْ فِي قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} [التوبة: 117] فَذَلِكَ رَجَّحَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالتَّقْدِيمِ فَقَالَ «نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ» أَوْ قَالَ «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» . وَصَارَ التَّرْتِيبُ وَاجِبًا بِفِعْلِهِ وَبِقَوْلِهِ لَا بِنَصِّ الْآيَةِ قَوْلُهُ (فَأَمَّا قَوْلُهُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ) إلَى آخِرِهِ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ الْعَطْفُ يُفَسِّرُ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ حَتَّى كَانَتْ الْمِائَةُ دَرَاهِمَ فَأَنَّى لَمْ يُجْعَلْ مُفَسِّرًا فِي قَوْلِهِ مِائَةٌ وَثَوْبٌ أَوْ يُقَالُ الْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْعَطْفِ فَكَيْفَ جُعِلَ مُبَيِّنًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ وَإِذَا جُعِلَ مُبَيِّنًا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَلِمَ تَخَلَّفَ فِي الصُّورَةِ الْأُخْرَى فَقَالَ لَيْسَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى حُكْمِ الْعَطْفِ لِيَلْزَمَ اطِّرَادُهُ بَلْ عَلَى أَصْلِ الْآخِرِ يَقْرَعُ سَمْعَك إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلُهُ (بِخَبَرِهَا) الْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِكَامِلَةٍ أَيْ كَمَا لَهَا بِخَبَرِهَا فَلَا يَجِبُ بِهِ أَيْ بِهَذَا الْعَطْفِ. وَهَذَا فَضْلٌ أَيْ تَسْمِيَتُهُمْ إيَّاهَا وَاوَ الِابْتِدَاءِ أَوْ النَّظْمِ مِنْ فُضُولِ الْكَلَامِ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا بَلْ هِيَ وَاوُ الْعَطْفِ كَهِيَ فِي الْجُمْلَةِ النَّاقِصَةِ إلَّا أَنَّ عَمَلَهَا فِي عَطْفِ الْجُمْلَةِ النَّاقِصَةِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْكَامِلَةِ فِيمَا تَمَّ بِهِ الْكَامِلَةُ وَفِي عَطْفِ الْكَامِلَةِ الْجَمْعُ بَيْنَ مَضْمُونَيْ الْجُمْلَتَيْنِ فِي الْحُصُولِ لَكِنَّ الشَّرِكَةَ اسْتِدْرَاكٌ عَنْ قَوْلِهِ وَإِنَّمَا هِيَ الْعَطْفُ عَلَى مَا هُوَ أَصْلُهَا أَيْ هِيَ لِلْعَطْفِ لَكِنَّهَا لَا تُوجِبُ الشَّرِكَةَ فِي الْخَبَرِ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ إنَّمَا يَثْبُتُ لِافْتِقَارِ الْكَلَامِ الثَّانِي إيَّاهَا لِعَدَمِ إفَادَتِهَا بِدُونِهَا لَا بِمُجَرَّدِ الْعَطْفِ فَإِذَا كَانَ الْكَلَامُ الثَّانِي مُفِيدًا بِنَفْسِهِ ذَهَبَ دَلِيلُ الشَّرِكَةِ وَهُوَ الِافْتِقَارُ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ وَلِأَنَّ ثُبُوتَ الشَّرِكَةِ لِلِافْتِقَارِ وَالضَّرُورَةِ قُلْنَا إنَّ الْجُمْلَةَ النَّاقِصَةَ تُشَارِكُ الْأُولَى فِيمَا تَمَّ بِهِ الْأُولَى بِعَيْنِهِ وَلَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُ أُعِيدَ مَرَّةً أُخْرَى لِأَنَّ الْإِضْمَارَ خِلَافُ الْأَصْلِ إذْ هُوَ جَعْلُ غَيْرِ الْمَنْطُوقِ مَنْطُوقًا

وَمِنْ عَطْفِ الْجُمْلَةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] فِي قِصَّةِ الْقَذْفِ وَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى {يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} [الشورى: 24] وَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] ـــــــــــــــــــــــــــــQوَإِنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَةُ هَهُنَا مَتَى ارْتَفَعَتْ بِالْأَدْنَى وَهُوَ إثْبَاتُ الشَّرِكَةِ فِيمَا تَمَّ بِهِ الْأُولَى لَا يُصَارُ إلَى الْأَعْلَى وَهُوَ الْإِضْمَارُ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ مُتَقَدِّرٌ بِقَدْرِهَا إلَّا إذَا اسْتَحَالَ إثْبَاتُ الشَّرِكَةِ " فح " يُصَارُ إلَيْهِ فَفِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ وَهِيَ قَوْلُهُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ الطَّالِقُ الثَّانِي مُتَعَلِّقٌ بِذَلِكَ الشَّرْطِ بِعَيْنِهِ وَلَا يَقْتَضِي أَيْ الْعَطْفُ الِاسْتِبْدَادَ أَيْ التَّفَرُّدَ بِالشَّرْطِ كَأَنَّهُ أَعَادَ الشَّرْطَ وَأَفْرَدَ الثَّانِيَ بِهِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ إفَادَةُ الْكَلَامِ الثَّانِي يَحْصُلُ بِتَعَلُّقِهِ بِذَلِكَ الشَّرْطِ بِعَيْنِهِ فَلَا يُصَارُ إلَى الْإِضْمَارِ وَفَائِدَتُهُ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا قَالَ كُلَّمَا حَلَفْت بِطَلَاقِك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ لَهَا إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ كَانَ يَمِينًا وَاحِدَةً حَتَّى لَا يَقَعَ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ كَانَ كَالْمُعَادِ لَوَقَعَتْ طَلْقَتَانِ. وَكَذَا فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ لَوْ كَانَ كَالْمُعَادِ لَوَقَعَتْ طَلْقَتَانِ وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا بِلَا خِلَافٍ أَيْضًا وَكَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ وَإِنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ الْأُخْرَى يَتَعَلَّقُ بِدُخُولِ الدَّارِ الثَّانِيَةِ تِلْكَ التَّطْلِيقَةُ لَا تَطْلِيقَةٌ أُخْرَى حَتَّى لَوْ دَخَلَتْ الدَّارَيْنِ لَا تَطْلُقُ إلَّا وَاحِدَةً وَلَوْ اقْتَضَى الْإِعَادَةَ لَطَلُقَتْ ثِنْتَيْنِ. وَكَذَا لَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَفُلَانَةُ تَعَلَّقَ طَلَاقُ الثَّانِيَةِ بِدُخُولِ الْأُولَى حَتَّى لَوْ دَخَلَتْ الدَّارَ طَلُقَتَا جَمِيعًا وَلَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُ أَفْرَدَهَا بِالشَّرْطِ وَقَالَ وَفُلَانَةُ إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ إذْ لَوْ جُعِلَ كَذَلِكَ لَمْ تَطْلُقْ الثَّانِيَةُ بِدُخُولِ الْأُولَى بَلْ تَطْلُقُ بِدُخُولِ نَفْسِهَا وَفِي هَذَا النَّظِيرِ نَظَرٌ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَوْلُهُ هَذِهِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَهَذِهِ حَيْثُ لَا تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ فِي خَبَرِ الْأُولَى وَيُجْعَلُ الْخَبَرُ كَالْمُعَادِ حَتَّى طَلُقَتْ الثَّانِيَةُ ثَلَاثًا وَلَوْ ثَبَتَتْ الشَّرِكَةُ لَطَلُقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ ثِنْتَيْنِ لِانْقِسَامِ الثَّلَاثِ عَلَيْهِمَا كَمَا لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ وَلِفُلَانٍ يُجْعَلُ الْأَلْفُ مُنْقَسِمًا عَلَيْهِمَا تَحْقِيقًا لِلشَّرِكَةِ وَلَا يُجْعَلُ كَالْمُعَادِ حَتَّى يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ لِأَنَّا نَقُولُ تَعَذَّرَ هَهُنَا إثْبَاتُ الشَّرِكَةِ لِأَنَّ فِي تَنْصِيصِ الزَّوْجِ عَلَى الثَّلَاثِ إشَارَةً إلَى أَنَّ مَقْصُودَهُ إثْبَاتُ الْحُرْمَةِ الْغَلِيظَةِ وَسَدُّ بَابِ التَّدَارُكِ بِالْكُلِّيَّةِ وَبِالِانْقِسَامِ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ فَيُجْعَلُ الْخَبَرُ كَالْمُعَادِ ضَرُورَةً وَلِأَنَّ بِالِانْقِسَامِ يَفُوتُ مُوجَبُ الْكَلَامِ أَصْلًا إذْ لَا دَلَالَةَ لِلثَّلَاثِ عَلَى الْأَرْبَعِ بِوَجْهٍ فَأَمَّا إثْبَاتُ الْمِثْلِ فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى فَيُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ التَّعَذُّرِ قَالَ الْإِمَامُ الْبُرْغَرِيُّ اتَّفَقُوا أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ أَوْ قَالَ فَطَالِقٌ فَطَالِقٌ أَنَّهُ يَقَعُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ كَانَ الْخَبَرُ كَالْمُعَادِ لَوَقَعَ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ كَمَا لَوْ كَرَّرَ الشَّرْطَ صَرِيحًا مَعَ تَخَلُّلِ الْأَزْمِنَةِ. وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى هَذَا أَيْ إلَى الِاسْتِبْدَادِ ضَرُورَةَ اسْتِحَالَةِ الِاشْتِرَاكِ كَمَا إذَا قَالَ فُلَانَةُ طَالِقٌ وَفُلَانَةُ فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَى الثَّانِيَةِ غَيْرُ مَا وَقَعَ عَلَى الْأُولَى لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ بَيْنَهُمَا فِي تَطْلِيقَةٍ لَا يَتَحَقَّقُ فَصَارَ الثَّانِي أَيْ اسْتِبْدَادُ الْجُمْلَةِ النَّاقِصَةِ بِخَبَرٍ آخَرَ ضَرُورِيًّا وَالْأَوَّلُ وَهُوَ اشْتِرَاكُ النَّاقِصَةِ فِي خَبَرِ الْأُولَى مِنْ غَيْرِ اسْتِبْدَادٍ أَصْلِيًّا قَوْلُهُ وَمِنْ عَطْفِ الْجُمْلَةِ قَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] فَإِنَّهُ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ بِخَبَرِهَا فَلَا يُوجِبُ الْعَطْفُ الْمُشَارَكَةَ فِيمَا تَمَّ بِهِ الْجُمْلَتَانِ الْأُولَيَانِ وَهُوَ الشَّرْطُ الَّذِي

وَقَدْ يُسْتَعَارُ الْوَاوُ لِلْحَالِ وَهَذَا مَعْنًى يُنَاسِبُ مَعْنَى الْوَاوِ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ يَحْتَمِلُهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] أَيْ إذَا جَاءُوهَا وَأَبْوَابُهَا مَفْتُوحَةٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQتَضَمَّنَهُ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] كَقَوْلِ الرَّجُلِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَفُلَانَةُ طَالِقٌ لَا يَتَعَلَّقُ طَلَاقُ الثَّانِيَةِ بِالشَّرْطِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ اللَّاحِقُ بِهِ مُخْتَصًّا بِهِ غَيْرَ رَاجِعٍ إلَى مَا تَقَدَّمَهُ فَبَقِيَ الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ غَيْرَ مَقْبُولِ الشَّهَادَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ كَمَا كَانَ قَبْلَهَا وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} [الشورى: 24] فَإِنَّ قَوْلَهُ (وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ) جُمْلَةٌ تَامَّةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ تَحْتَ الشَّرْطِ إذْ لَوْ دَخَلَتْ كَانَ خَتْمُ الْقَلْبِ وَمَحْوُ الْبَاطِلِ مُعَلَّقَيْنِ بِالشَّرْطِ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ وُجُودِهِ وَقَدْ عُدِمَ خَتْمُ الْقَلْبِ وَوُجِدَ مَحْوُ الْبَاطِلِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ الشَّرْطِ وَسُقُوطُ الْوَاوِ فِي الْخَطِّ وَاللَّفْظِ لَيْسَ لِلْجَزْمِ بَلْ سُقُوطُهُ فِي اللَّفْظِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَفِي الْخَطِّ إتْبَاعًا لِلَّفْظِ كَسُقُوطِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَيَدْعُ الإِنْسَانُ} [الإسراء: 11] وَقَوْلِهِ {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق: 18] . وَلِهَذَا وَقَفَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ بِالْوَاوِ نَظَرًا إلَى الْأَصْلِ وَإِنْ وَقَفَ غَيْرُهُ بِغَيْرِ وَاوٍ إتْبَاعًا لِلْخَطِّ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ ابْتِدَاءٌ إعَادَةُ اسْمِ الْفَاعِلِ إذْ لَوْ كَانَ بِنَاءً لَقِيلَ وَيَمْحُو الْبَاطِلَ وَاخْتُلِفَ فِي خَتْمِ الْقَلْبِ فَقِيلَ هُوَ الصَّبْرُ أَيْ إنْ يَشَأْ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِك بِالصَّبْرِ حَتَّى لَا تَجِدَ مَشَقَّةَ اسْتِهْزَائِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ وَقِيلَ هُوَ الْإِنْسَاءُ أَيْ إنْ يَشَأْ اللَّهُ يُنْسِك مَا أَوْحَى إلَيْك فَلَا تُبَلِّغُهُ إلَيْهِمْ فَلَا يَسْتَهْزِئُونَ بِك وَلَا يَكْذِبُونَك وَقِيلَ هُوَ عَدَمُ الْفَهْمِ أَيْ إنْ يَشَأْ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِك فَلَا يُفْهَمُ الْحَقُّ مِنْ الْبَاطِلِ كَمَا فَعَلَ بِأُولَئِكَ الْكَفَرَةِ. تَذْكِرَةَ إحْسَانِهِ إلَيْهِ وَمَا أَكْرَمَهُ بِأَنْوَاعِ الْكَرَامَاتِ لِيَشْكُرَ رَبَّهُ وَيَرْحَمَ عَلَى أُولَئِكَ بِمَا خَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَمَا يَنْزِلُ بِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَيَمْحُ أَيْ يُطَهِّرُ وَيُظْفِرُ أَهْلَ الْحَقِّ عَلَى أَهْلِ الْبَاطِلِ وَيَنْصُرُهُمْ حَتَّى يَصِيرَ أَهْلُ الْحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى الْبَاطِلِ وَقِيلَ يُحِقُّ الْحَقَّ بِالْحُجَجِ وَالْبَرَاهِين وَيَمْحُو الْبَاطِلَ بِالْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ حَتَّى يَعْرِفَ كُلُّ أَحَدٍ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ بِالْحُجَجِ الَّتِي أَقَامَهَا إذَا تَأَمَّلَ فِيهَا حَقَّ التَّأَمُّلِ. بِكَلِمَاتِهِ أَيْ بِحُجَجِهِ كَذَا فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ. وَمِثْلُهُ {وَالرَّاسِخُونَ} [آل عمران: 7] أَيْ وَمِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْجُمْلَةِ الَّذِي لَا يُوجِبُ الِاشْتِرَاكَ قَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ} [آل عمران: 7] فَإِنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 7] لِمَا بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَهَذَا عَلَى تَقْدِيرِ الْوَقْفِ عَلَى قَوْلِهِ {إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 7] فَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ الْوَصْلِ فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الِاسْتِثْنَاءِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ قَوْلُهُ (وَقَدْ يُسْتَعَارُ الْوَاوُ لِلْحَالِ) اعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ مَوْقِعَ الْحَالِ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا الْوَاوُ لِأَنَّ الْإِعْرَابَ لَا يَنْظِمُ الْكَلِمَاتِ كَقَوْلِك ضَرَبَ زَيْدٌ اللِّصَّ مَكْتُوفًا إلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ تَعَلُّقٌ يَنْتَظِمُ مَعَانِيَهَا فَإِذَا وَجَدْت الْإِعْرَابَ قَدْ تَنَاوَلَ شَيْئًا بِدُونِ الْوَاوِ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى تَعَلُّقٍ هُنَاكَ مَعْنَوِيٍّ فَذَلِكَ يَكُونُ مُغْنِيًا عَنْ تَكَلُّفِ مُعَلَّقٍ آخَرَ إلَّا أَنَّ النَّظَرَ إلَيْهَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا جُمْلَةً مُسْتَقِلَّةً بِفَائِدَةٍ غَيْرِ مُتَّحِدَةٍ بِالْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ كَمَا فِي الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ وَغَيْرِ مُنْقَطِعَةٍ عَنْهَا لِجِهَةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَهُمَا كَمَا تَرَى فِي نَحْوِ جَاءَ زَيْدٌ وَفَرَسُهُ يَعْدُو وَيُبْسَطُ الْعُذْرَ فِي أَنْ يَدْخُلَهَا وَاوٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُولَى مِثْلُهُ فِي نَحْوِ قَامَ زَيْدٌ وَقَعَدَ عَمْرٌو فَهَذَا مَعْنَى اسْتِعَارَةِ الْوَاوِ لِلْحَالِ قَوْلُهُ (لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ يَحْتَمِلُهُ) يَعْنِي لَمَّا كَانَتْ الْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ كَانَ الِاجْتِمَاعُ الَّذِي بَيْنَ الْحَالِ وَذِي الْحَالِ مِنْ مُحْتَمَلَاتِهِ

وَاخْتَلَفَ مَسَائِلُ أَصْحَابِنَا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَقَالُوا فِي رَجُلٍ قَالَ لِعَبْدِهِ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا وَأَنْتَ حُرٌّ أَنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ حَتَّى لَا يَعْتِقَ إلَّا بِالْأَدَاءِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ لِحَرْبِيٍّ انْزِلْ وَأَنْتَ آمِنٌ لَمْ يَأْمَنْ حَتَّى يَنْزِلَ فَيَكُونُ الْوَاوُ لِلْحَالِ وَقَالُوا فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ مَرِيضَةٌ أَوْ وَأَنْتِ تُصَلِّينَ أَوْ مُصَلِّيَةٌ أَنَّهُ لِعَطْفِ الْجُمْلَةِ حَتَّى يَقَعَ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ عَلَى احْتِمَالِ الْحِلِّ حَتَّى إذَا نَوَى بِهَا وَاوَ الْحَالِ تَعَلَّقَ الطَّلَاقُ بِالْمَرَضِ وَالصَّلَاةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَحْتَمِلُ الْمُقَيَّدَ فَيَجُوزُ اسْتِعَارَتُهَا لِمَعْنَى الْحَالِ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] أَيْ وَقَدْ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا. قِيلَ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ لَا تُفْتَحُ إلَّا عِنْدَ دُخُولِ أَهْلِهَا فِيهَا وَأَمَّا أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَمُتَقَدِّمٌ فَتْحُهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ} [ص: 50] وَذَلِكَ لِأَنَّ تَقْدِيمَ فَتْحِ بَابِ الضِّيَافَةِ عَلَى وُصُولِ الضَّيْفِ إكْرَامًا لَهُ وَتَأْخِيرَ فَتْحِ بَابِ الْعَذَابِ إلَى وُصُولِ الْمُسْتَحِقِّ لَهُ أَلْيَقُ بِالْكَرَمِ، فَلِذَلِكَ جِيءَ بِالْوَاوِ كَأَنَّهُ قِيلَ حَتَّى إذَا جَاءُوهَا وَقَدْ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا قَبْلُ وَجَوَابُ إذَا مَحْذُوفٌ أَيْ إذَا جَاءُوهَا وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي ذُكِرَتْ إلَى قَوْلِهِ {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73] دَخَلُوهَا وَنَالُوا الْمُنَى وَإِنَّمَا حُذِفَ لِأَنَّهُ فِي صِفَةِ ثَوَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَدَلَّ بِحَذْفِهِ عَلَى أَنَّهُ شَيْءٌ لَا يُحِيطُ بِهِ الْوَصْفُ قَوْلُهُ (وَاخْتَلَفَ مَسَائِلُ أَصْحَابِنَا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ) فَفِي بَعْضِهَا جَعَلُوا الْوَاوَ لِلْحَالِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ وَفِي بَعْضِهَا جَعَلُوهَا لِعَطْفِ الْجُمْلَةِ لَا غَيْرُ وَفِي بَعْضِهَا جَعَلُوهَا لِلْعَطْفِ مُحْتَمِلًا لِلْحَالِ وَفِي بَعْضِهَا اخْتَلَفُوا فَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا وَأَنْتَ حُرٌّ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يُؤَدِّ. وَكَذَا إذَا قَالَ لِحَرْبِيٍّ انْزِلْ وَأَنْتَ آمِنٌ لَا يَأْمَنُ مَا لَمْ يَنْزِلْ جَعَلُوا الْوَاوَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ لِلْحَالِ لِأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ الْعَطْفُ هَهُنَا لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى فِعْلِيَّةٌ طَلَبِيَّةٌ وَالْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ اسْمِيَّةٌ خَبَرِيَّةٌ وَبَيْنَهُمَا كَمَالُ الِانْقِطَاعِ وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ حُسْنِ الْعَطْفِ إذْ لَا بُدَّ لِحُسْنِهِ مِنْ نَوْعِ اتِّصَالٍ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ عَلَى مَا عُرِفَ فَلِذَلِكَ جَعَلْنَاهَا لِلْحَالِ وَلَمَّا صَارَتْ لِلْحَالِ وَالْأَحْوَالُ شُرُوطٌ لِكَوْنِهَا مُقَيِّدَةً كَالشَّرْطِ تَعَلَّقَتْ الْجِزْيَةُ بِالْأَدَاءِ وَالْأَمَانُ بِالنُّزُولِ كَمَا فِي قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ رَاكِبَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ تَعَلَّقَ الطَّلَاقُ بِالرُّكُوبِ تَعَلُّقَهُ بِالدُّخُولِ. وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ وَإِنْ نَزَلْت فَأَنْتَ آمِنٌ هَذَا تَقْرِيرُ عَامَّةِ الْكُتُبِ فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْت عَكْسُ مَا يَقْتَضِيهِ هَذَا الْكَلَامُ فَإِنَّ الْوَاوَ دَخَلَتْ فِي قَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ وَأَنْتَ آمِنٌ لَا فِي قَوْلِهِ أَدِّ وَانْزِلْ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْجِزْيَةُ شَرْطًا لِلْأَدَاءِ وَالْأَمَانُ شَرْطًا لِلنُّزُولِ كَمَا فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ مَرِيضَةٌ إذَا نَوَى التَّعْلِيقَ كَانَ الْمَرَضُ شَرْطًا لِلطَّلَاقِ لِدُخُولِ الْوَاوِ فِيهِ لَا عَكْسُهُ وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كَانَ الْجِزْيَةُ وَالْأَمَانُ سَابِقَيْنِ عَلَى الْأَدَاءِ وَالنُّزُولِ لِأَنَّ الشَّرْطَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَشْرُوطِ لَا مَحَالَةَ فَلَا يَكُونَانِ مُتَعَلِّقَيْنِ بِالْأَدَاءِ وَالنُّزُولِ وَإِذَا انْتَفَى التَّعَلُّقُ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ وَاقِعًا فِي الْحَالِ قُلْنَا الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ كَقَوْلِهِ عَرَضْت النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ أَيْ الْحَوْضَ عَلَى النَّاقَةِ وَهُوَ شَائِعٌ فِي الْكَلَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} [الأعراف: 4] أَيْ جَاءَهَا بَأْسُنَا فَأَهْلَكْنَاهَا عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ وَقَالَ عَزَّ اسْمُهُ {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم: 8] حُمِلَ عَلَى ثُمَّ تَدَلَّى فَدَنَا وَقَالَ رُؤْبَةُ: وَمُهِمَّةٌ مُغْبَرَّةٌ أَرْجَاؤُهُ ... كَأَنَّ لَوْنَ أَرْضِهِ سَمَاؤُهُ أَرَادَ كَأَنَّ لَوْنَ سَمَائِهِ مِنْ غَبْرَتِهَا أَرْضُهُ. وَقَالَ آخَرُ: يَمْشِي فَيَقْعَسُ أَوْ يَكُبُّ فَيَعْثِرُ أَرَادَ أَوْ يَعْثِرُ فَيَكُبُّ وَقَالَ الْقُطَامِيُّ كَمَا طَيَّنْتَ بِالْفَدَنِ السَّيَاعَا أَيْ طَيَّنْتَ بِالسَّيَاعِ الْفَدَنَ. وَهُوَ الْقَصْرُ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ كُنْ حُرًّا وَأَنْتَ مُؤَدٍّ أَلْفًا وَكُنْ آمِنًا وَأَنْتَ نَازِلٌ أَيْ أَنْتَ حُرٌّ وَأَنْتَ آمِنٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى هَذَا لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْأَدَاءِ وَالنُّزُولِ بِمَا دَخَلَ فِيهِ الْوَاوُ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ إنَّمَا يَصِحُّ مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُ التَّنْجِيزُ وَلَيْسَ فِي وُسْعِ الْمُتَكَلِّمِ تَنْجِيزُ الْأَدَاءِ أَوْ النُّزُولِ فَكَيْفَ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ أَلَا تَرَى أَنَّ وُجُودَ الْمَشْرُوطِ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْطِ إذَا لَمْ يَنْزِلْ قَبْلَهُ وَلَوْ وُجِدَتْ الْجِزْيَةُ أَوْ الْأَمَانُ هَهُنَا لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْأَدَاءُ وَالنُّزُولُ وَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ الْعَمَلُ بِظَاهِرِهِ وَلَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِالْعَطْفِ

وَقَالُوا فِي الْمُضَارَبَةِ إذَا قَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ خُذْ هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً وَاعْمَلْ بِهِ فِي الْبَزِّ إنَّ هَذَا الْوَاوَ لِعَطْفِ الْجُمْلَةِ لِلْحَالِ حَتَّى لَا تَصِيرَ شَرْطًا بَلْ تَصِيرُ مَشْهُورَةً وَيَبْقَى الْمُضَارَبَةُ عَامَّةً وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا طَلِّقْنِي وَلَك أَلْفُ دِرْهَمٍ فَحَمَلَهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ حَتَّى إذَا طَلَّقَهَا وَجَبَ لَهُ الْأَلْفُ وَحَمَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى وَاوِ عَطْفِ الْجُمْلَةِ حَتَّى إذَا طَلَّقَهَا لَمْ يَجِبْ لَهُ شَيْءٌ وَلِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْوَاوَ قَدْ يُسْتَعَارُ لِلْبَاءِ كَمَا اُسْتُعِيرَ لَهُ فِي بَابِ الْقَسَمِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَحُمِلَ عَلَى هَذَا الْمَجَازِ بِدَلَالَةِ حَالِ الْمُعَاوَضَةِ لِأَنَّ حَالَ الْخُلْعِ حَالُ الْمُعَاوَضَةِ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِآخَرَ احْمِلْ هَذَا الطَّعَامَ إلَى مَنْزِلِي وَلَك دِرْهَمٌ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْبَاءِ أَيْ بِدِرْهَمٍ وَالثَّانِي أَنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ بِدَلَالَةِ حَالِ الْمُعَاوَضَةِ أَيْضًا لِيَصِيرَ شَرْطًا وَبَدَلًا ـــــــــــــــــــــــــــــQأَيْضًا جَعَلْنَاهُ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ شُعْبَةٌ مِنْ إخْرَاجِ الْكَلَامِ لَا عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ وَأَنَّهُ يُورِثُ الْكَلَامَ مَلَاحَةً وَالثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ وَأَنْتَ حُرٌّ وَقَوْلَهُ وَأَنْتَ آمِنٌ مِنْ الْأَحْوَالِ الْمُقَدَّرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73] أَيْ مُقَدِّرِينَ الْخُلُودَ فِي حَالَةِ الدُّخُولِ لَا مِنْ الْأَحْوَالِ الْوَاقِعَةِ فَإِنَّ غَرَضَ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ عَدَمُ وُقُوعِ الْجِزْيَةِ وَالْأَمَانِ فِي الْحَالِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَدِّ إِلَيَّ أَلْفًا مُقَدِّرًا لِلْجِزْيَةِ فِي حَالَةِ الْأَدَاءِ وَانْزِلْ مُقَدِّرًا لِلْأَمَانِ فِي حَالَةِ النُّزُولِ وَلَمَّا أَثْبَتَ الْمُتَكَلِّمُ الْجِزْيَةَ وَالْأَمَانَ فِي حَالَتَيْ الْأَدَاءِ وَالنُّزُولِ كَانَا مُتَعَلِّقَيْنِ بِهِمَا وَمَعْدُومَيْنِ فِي الْحَالِ. وَالثَّالِثُ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْوَاقِعَةَ حَالًا قَائِمَةٌ مَقَامَ جَوَابِ الْأَمْرِ بِدَلَالَةِ مَقْصُودِ الْمُتَكَلِّمِ فَأَخَذَتْ حُكْمَهُ وَيَصِيرُ مَعْنَى الْكَلَامِ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا تَصِرْ حُرًّا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ الْجِزْيَةُ مُتَعَلِّقَةً بِالْأَدَاءِ وَالْأَمَانُ مُتَعَلِّقًا بِالنُّزُولِ تَعَلُّقَ الْإِكْرَامِ بِالْإِتْيَانِ فِي قَوْلِهِ ائْتِنِي أُكْرِمْك وَالرَّابِعُ أَنَّ قَوْلَهُ أَنْتَ حُرٌّ يُوجِبُ الْحُرِّيَّةَ لِلْحَالِ لَوْلَا قَوْلُهُ أَدِّ إلَيَّ كَذَا فَبِانْضِمَامِ هَذَا الْكَلَامِ إلَيْهِ تَأَخَّرَ الْعِتْقُ كَمَا يَتَأَخَّرُ بِانْضِمَامِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ إلَيْهِ فَكَانَ قَوْلُهُ أَدِّ إِلَيَّ كَذَا بِمَنْزِلَةِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فِي تَأْخِيرِ الْجِزْيَةِ عَنْ وَقْتِ التَّكَلُّمِ فَكَانَ كَالشَّرْطِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَذَكَرَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الْجِزْيَةَ حَالًا لِلْأَدَاءِ أَيْ وَصْفًا لَهُ لَا يَثْبُتُ سَابِقًا عَلَيْهِ إذْ الْحَالُ لَا تَسْبِقُ ذَا الْحَالَ وَالصِّفَةُ لَا تَسْبِقُ الْمَوْصُوفَ قَوْلُهُ (إنَّهُ لِعَطْفِ الْجُمْلَةِ) أَيْ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ إذْ الْجُمْلَتَانِ خَبَرِيَّتَانِ هَهُنَا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ وَذَكَّرَ الضَّمِيرَ لِأَنَّ حُرُوفَ التَّهَجِّي تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ. عَلَى احْتِمَالِ الْحَالِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقْبَلُ الْإِضَافَةَ إلَى حَالِ الْمَرَضِ وَالْمَرَضُ يَصْلُحُ شَرْطًا لَهُ فَإِذَا نَوَى الْحَالَ صَحَّتْ نِيَّتُهُ دِيَانَةً وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي حَالِ مَرَضِك أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ فِي حَالِ اشْتِغَالِك بِالصَّلَاةِ وَلَكِنْ لَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ نَوَى خِلَافَ الظَّاهِرِ وَفِيهِ تَخْفِيفٌ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (خُذْ هَذَا الْمَالَ وَاعْمَلْ بِهِ مُضَارَبَةً) فِي الْبَزِّ أَيْ خُذْهُ مُضَارَبَةً وَاعْمَلْ بِهِ فِي الْبَزِّ كَذَا لَفْظُ الْمَبْسُوطِ. وَهَذِهِ الْوَاوُ لِعَطْفِ الْجُمْلَةِ لِأَنَّهَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ هَهُنَا لِكَوْنِ الْجُمْلَتَيْنِ طَلَبِيَّتَيْنِ لَا لِلْحَالِ لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلْحَالِ هَهُنَا لِأَنَّ حَالَ الْعَمَلِ لَا يَكُونُ وَقْتَ الْأَخْذِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْعَمَلُ بَعْدَ الْأَخْذِ مَعَ أَنَّ اسْتِعَارَتَهَا لِلْحَالِ لِتَصْحِيحِ الْكَلَامِ، وَالْكَلَامُ صَحِيحٌ هَهُنَا بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى حَمْلِ حَرْفِ الْوَاوِ عَلَى الْمَجَازِ فَيَكُونُ مَشُورَةً أَشَارَ بِهَا عَلَيْهِ لَا شَرْطًا فِي الْأَمْرِ الْأَوَّلِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالْبَزُّ مَتَاعُ الْبَيْتِ مِنْ الثِّيَابِ خَاصَّةً عَنْ أَبِي دُرَيْدٍ وَعَنْ اللَّيْثِ ضَرْبٌ مِنْ الثِّيَابِ وَعَنْ الْجَوْهَرِيِّ هُوَ مِنْ الثِّيَابِ أَمْتِعَةُ الْبَزَّازِ وَالْبِزَازَةُ حِرْفَةٌ وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ الْبَزُّ عِنْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ ثِيَابُ الْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ لَا ثِيَابُ الصُّوفِ وَالْخَزِّ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ قَوْلُهُ (أَحَدُهُمَا كَذَا) الْوَاوُ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْبَاءِ مَجَازًا كَمَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي الْقَسَمِ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا صُورَةً وَمَعْنًى أَمَّا صُورَةً فَلِأَنَّ كِلَيْهِمَا شَفَوِيٌّ وَأَمَّا مَعْنًى فَلِأَنَّ الْجَمْعَ مَوْجُودٌ فِي الْإِلْصَاقِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْبَاءِ ثُمَّ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْبَاءُ الَّتِي تُؤَدِّي مَعْنَى الْإِلْصَاقِ دُونَ الْوَاوِ لِأَنَّهُ لَا يُعْطَفُ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَالْخُلْعُ مُعَاوَضَةٌ مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ وَلِهَذَا صَحَّ رُجُوعُ الْمَرْأَةِ قَبْلَ إيقَاعِ الزَّوْجِ فَبِدَلَالَةِ الْمُعَاوَضَةِ حَمَلْنَاهَا عَلَى الْبَاءِ كَمَا فِي. قَوْلِهِ احْمِلْ هَذَا الطَّعَامَ وَلَك دِرْهَمٌ حُمِلَتْ عَلَى الْبَاءِ حَتَّى كَانَ هَذَا وَقَوْلُهُ احْمِلْهُ بِدِرْهَمٍ سَوَاءً وَوَجَبَ الْمَالُ إذَا حَمَلَهُ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ إجَارَةً لَا اسْتِعَانَةً أَوْ هِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْحَالِ بِدَلَالَةِ الْمُعَاوَضَةِ أَيْضًا فَإِنَّهَا تَقْتَضِي الْعِوَضَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَذَلِكَ بِأَنْ يُجْعَلَ الْوَاوُ لِلْحَالِ لِيَصِيرَ وُجُوبُ الْأَلْفِ عَلَيْهَا

وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا وَأَنْتَ حُرٌّ وَانْزِلْ وَأَنْتَ آمِنٌ بِخِلَافِ خُذْ هَذَا الْمَالَ وَاعْمَلْ بِهِ فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْبَاءِ هُنَا وَإِنَّمَا حُمِلَ فِي مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ عَلَى الْحَالِ لِدَلَالَةِ الْمُعَاوَضَةِ وَلَمْ يُوجَدْ وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ مَرِيضَةٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْوَاوُ فِي الْحَقِيقَةِ لِلْعَطْفِ فَلَا تُتْرَكُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَلَا تَصْلُحُ الْمُعَاوَضَةُ دَلَالَةً لِأَنَّ ذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ أَمْرٌ زَائِدٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّلَاقَ إذَا دَخَلَهُ الْعِوَضُ كَانَ يَمِينًا مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ فَلَمْ يَسْتَقِمْ تَرْكُ الْأَصْلِ بِدَلَالَةٍ هِيَ مِنْ بَابِ الزَّوَائِدِ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ مُعَاوَضَةً أَصْلِيَّةً كَسَائِرِ الْبُيُوعِ وَقَوْلُهَا وَلَك أَلْفٌ لَيْسَتْ بِصِيغَةِ الْحَالِ أَيْضًا لِأَنَّ الْحَالَ فِعْلٌ أَوْ اسْمُ فَاعِلٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ أَدِّ أَلْفًا وَأَنْتَ حُرٌّ وَصِيغَتُهُ لِلْحَالِ ـــــــــــــــــــــــــــــQشَرْطًا لِلطَّلَاقِ وَبَدَلًا عَنْهُ لِأَنَّ نَفْسَهَا تَسْلَمُ لَهَا بِهَذَا الْمَالِ فَصَارَ كَأَنَّهَا قَالَتْ طَلِّقْنِي فِي حَالِ مَا يَكُونُ لَك عَلَيَّ أَلْفٌ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْأَحْوَالَ شُرُوطٌ فَكَانَ مَعْنَاهُ طَلِّقْنِي بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ لَك عَلَيَّ أَلْفٌ فَلَمَّا قَالَ الزَّوْجُ طَلَّقْت أَوْ فَعَلْت كَانَ تَقْدِيرُهُ طَلَّقْت بِذَلِكَ الشَّرْطِ أَيْ طَلَّقْت إنْ قَبِلْت الْأَلْفَ وَنَظِيرُهُ أَيْ نَظِيرُ قَوْلِهِ طَلِّقْنِي وَلَك أَلْفٌ وَهَذَا أَيْ قَوْلُهُ وَلَك أَلْفٌ لَا مَعْنَى لِلْبَاءِ هُنَا أَيْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْوَاوُ بِمَعْنَى الْبَاءِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُضَارَبَةِ إذْ لَوْ جُعِلَتْ بِمَعْنَاهَا صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ خُذْ هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً بِالْعَمَلِ بِالْبَزِّ فَيَصِيرُ الْعَمَلُ بِالْبَزِّ عِوَضًا عَنْ الْأَخْذِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ حِينَئِذٍ وَالْعَمَلُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الْمُضَارِبِ بِمُجَرَّدِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ بِالْإِجْمَاعِ. وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ لِلْحَالِ أَيْضًا لِأَنَّهَا إنَّمَا حُمِلَتْ فِي مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ وَهِيَ قَوْلُهُ طَلِّقْنِي وَلَك أَلْفٌ عَلَى الْحَالِ بِدَلَالَةِ الْمُعَاوَضَةِ وَالْمُضَارَبَةُ لَيْسَتْ بِمُعَاوَضَةٍ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَمِينٌ وَبَعْدَ الْأَخْذِ فِي الْعَمَلِ وَكِيلٌ وَعِنْدَ ظُهُورِ الرِّبْحِ شَرِيكٌ وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى الْحَالِ فَبَقِيَتْ لِلْعَطْفِ وَالِابْتِدَاءِ فَكَانَ قَوْلُهُ وَاعْمَلْ بِهِ مَشُورَةً. وَكَذَا الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ مَرِيضَةٌ أَوْ مُصَلِّيَةٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْوَاوُ لِلْعَطْفِ حَقِيقَةً وَالْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَاجِبٌ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ يُعَارِضُهَا وَالْمُعَاوَضَةُ لَا يَصْلُح دَلِيلًا مُعَارِضًا يُتْرَكُ بِهِ الْحَقِيقَةُ لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْ الْعِوَضَ أَوْ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ أَمْرٌ زَائِدٌ فِي الطَّلَاقِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْعِوَضَ إذَا دَخَلَهُ صَارَ يَمِينًا مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ بِأَنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ أَوْ أَدِّي إلَيَّ أَلْفًا وَأَنْتِ طَالِقٌ حَتَّى لَمْ يَصِحَّ رُجُوعُهُ قَبْلَ قَبُولِهَا وَيَحْنَثُ بِهِ فِي قَوْلِهِ إنْ حَلَفَ بِطَلَاقِك فَكَذَا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُعَلِّقًا لِلطَّلَاقِ بِقَبُولِهَا الْمَالَ وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ يَمِينٌ لِمَا عُرِفَ وَالْيَمِينُ لَازِمَةٌ لَا تَقْبَلُ الرُّجُوعَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ» الْحَدِيثَ وَلَوْ كَانَ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فِيهِ أَصْلِيًّا صَارَ يَمِينًا وَيَصِحُّ رُجُوعُهُ كَمَا فِي النِّكَاحِ وَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ. وَكَذَلِكَ يُوجَدُ الطَّلَاقُ بِدُونِ الْعِوَضِ وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ وَإِيجَابُ الْمَالِ فِيهِ نَادِرٌ فَثَبَتَ أَنَّ الْعِوَضَ فِيهِ أَمْرٌ زَايِدٌ فَلَا يَصْلُحُ مُغَيِّرًا لِحَقِيقَةِ الْعَطْفِ وَالطَّلَاقِ لِأَنَّ الْعَارِضَ لَا يُعَارِضُ الْأَصْلِيَّ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فِيهَا أَمْرٌ أَصْلِيٌّ فَجَازَ أَنْ يُعَارِضَ أَمْرًا أَصْلِيًّا آخَرَ قَوْلُهُ (لِأَنَّ الْحَالَ فِعْلٌ أَوْ اسْمُ فَاعِلٍ) نَحْوُ قَوْلِك جَاءَنِي زَيْدٌ يَتَكَلَّمُ أَوْ مُتَكَلِّمًا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْحَالِ الْمُطْلَقَةِ أَنْ تَكُونَ صِفَةً غَيْرَ ثَابِتَةٍ وَالْفِعْلُ وَاسْمُ الْفَاعِلِ أَدَلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِهِ لِدَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالزَّوَالِ وَدَلَالَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ عَلَى اتِّصَافِ الشَّخْصِ بِالْفِعْلِ كَيْفَ وَقَدْ أُخِذَ حُكْمُ الْفِعْلِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ. وَقَوْلُهُ: وَلَك أَلْفٌ. جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ أَوْ ظَرْفِيَّةٌ وَلَيْسَ بِفِعْلٍ وَلَا بِاسْمِ فَاعِلٍ فَلَا يَكُونُ صِفَةَ الْحَالِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ وَأَنْتَ حُرٌّ فَإِنَّ الْحُرَّ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ الْحِرَارِ يُقَالُ حَرَّ الْعَبْدُ يَحَرُّ حَرَارًا مِنْ بَابِ عَلِمَ فَيَصْلُحُ صِفَةَ الْحَالِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى الْحَالِ فِي قَوْلِهِ وَلَك أَلْفٌ مَعْدُومَةٌ مَعَ أَنَّ الصِّيغَةَ لَا تَصْلُحُ لِلْحَالِ فَلَا يَكُونُ الْوَاوُ لِلْحَالِ وَفِي قَوْلِهِ وَأَنْتَ حُرٌّ قَدْ وُجِدَ الْمَعْنَيَانِ فَجُعِلَتْ لِلْحَالِ هَذَا تَقْرِيرُ كَلَامِ الشَّيْخِ وَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي عَامَّةِ كُتُبِ النَّحْوِ أَنَّ الْجُمَلَ الْأَرْبَعَ وَهِيَ الِاسْمِيَّةُ وَالْفِعْلِيَّةُ وَالشَّرْطِيَّةُ وَالظَّرْفِيَّةُ قَدْ تَقَعُ حَالًا ثُمَّ الْجُمْلَةُ إنْ كَانَتْ اسْمِيَّةً أَوْ شَرْطِيَّةً فَالْوَاوُ لَازِمَةٌ نَحْوُ جَاءَنِي زَيْدٌ وَأَبُوهُ مُنْطَلِقٌ وَلَقِيته وَإِنْ تُكْرِمْهُ يُكْرِمْك وَإِنْ كَانَتْ فِعْلِيَّةً وَالْفِعْلُ مُضَارِعٌ مُثْبَتٌ فَالتَّرْكُ لَازِمٌ نَحْوُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQجَاءَنِي زَيْدٌ يُسْرِعُ أَوْ يَتَكَلَّمُ أَوْ يَعْدُو فَرَسُهُ. وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مَاضِيًا أَوْ مُضَارِعًا مَنْفِيًّا جَازَ الْأَمْرَانِ وَإِنْ كَانَتْ ظَرْفِيَّةً وَلَيْسَ بَعْدَ الظَّرْفِ مُظْهَرٌ فَالتَّرْكُ لَازِمٌ نَحْوُ لَقِيته أَمَامَك وَأَكْرَمْته فِي الدَّارِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ مُظْهَرٌ فَالْأَمْرَانِ جَائِزَانِ نَحْوُ لَقِيته عَلَيْهِ جُبَّةٌ وَشَيْءٌ وَلَقِيته وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ وَشَيْءٌ. وَقَوْلُهُ وَلَك أَلْفٌ. مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَالًا وَكَيْفَ وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ هَهُنَا لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى طَلَبِيَّةٌ مَعَ كَوْنِهَا فِعْلِيَّةً وَالثَّانِيَةُ خَبَرِيَّةٌ مَعَ كَوْنِهَا اسْمِيَّةً وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ التَّنَاسُبَ شَرْطٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَلَمَّا لَمْ يَسْتَقِمْ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ تُجْعَلُ لِلْحَالِ تَصْحِيحًا لِكَلَامِهِ وَاحْتِرَازًا عَنْ الْإِلْغَاءِ. وَكَذَا قَوْلُهُ وَأَنْتَ حُرٌّ صِيغَتُهُ لِلْحَالِ مُشْكِلٌ أَيْضًا لِأَنَّ قَوْلَهُ حُرٌّ بِنَفْسِهِ لَمْ يَقَعْ حَالًا وَإِنَّمَا وَقَعَ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ وَلَوْ جُعِلَ حَالًا كَانَ مَنْصُوبًا مَرْفُوعًا مَعًا وَهُوَ بَاطِلٌ بَلْ الْجُمْلَةُ بِمَجْمُوعِهَا وَقَعَتْ فِي حَيِّزِ الْحَالِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِفِعْلٍ وَلَا بِاسْمِ فَاعِلٍ وَإِذَا جَازَ وُقُوعُهَا حَالًا مَعَ أَنَّهَا جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَانَ وُقُوعُ قَوْلِهِ وَلَك حَالًا أَقْرَبُ إلَى الْجَوَازِ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهَا فِعْلِيَّةً كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْبَعْضِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الشَّيْخِ مِنْ قَوْلِهِ الْحَالُ فِعْلٌ أَوْ اسْمُ فَاعِلٍ أَنَّهَا كَذَلِكَ نَظَرًا إلَى الْأَصْلِ أَيْ الْأَصْلُ فِيهَا أَنْ تَكُونَ فِعْلًا أَوْ اسْمَ فَاعِلٍ وَوُقُوعُ غَيْرِهِمَا حَالًا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْلُهُ لَيْسَ بِصِيغَةٍ لِلْحَالِ أَيْ صِيغَةُ الْحَالِ فِي الْأَصْلِ فِعْلٌ أَوْ اسْمُ فَاعِلٍ وَإِنْ وَقَعَ غَيْرُهُمَا حَالًا أَيْضًا وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ مَا يَجِيءُ مِنْ الْحَالِ الَّتِي لَيْسَتْ هِيَ بِفِعْلٍ وَلَا بِاسْمِ فَاعِلٍ مِنْ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَالظَّرْفِيَّةِ كَقَوْلِهِمْ: فُوهُ إلَى فِي وَلَقِيته وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ وَشَيْءٌ مُقَدَّرٌ بِاسْمِ الْفَاعِلِ وَهُوَ مُشَافِهًا وَمُسْتَقِرَّةٌ عَلَيْهِ جُبَّةٌ وَشَيْءٌ فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْكِتَابِ الْحَالُ فِعْلٌ أَوْ اسْمُ فَاعِلٍ صَحِيحٌ وَلَكِنْ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ فَلْتَكُنْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَهِيَ قَوْلُهَا وَلَك أَلْفٌ. حَالًا بِمِثْلِ هَذِهِ التَّأْوِيلِ أَيْضًا أَيْ طَلِّقْنِي مُسْتَقِرًّا لَك عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَوْ وَاجِبًا عَلَيَّ ذَلِكَ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ لَا يَصْلُحُ لِلْحَالِ لِأَنَّ الْحَالَ إذَا كَانَتْ مُفْرَدَةً لَا يَقْتَضِي الْوَاوَ أَلْبَتَّةَ. وَكَذَا إذَا كَانَتْ فِعْلًا مُضَارِعًا مُثْبَتًا لِأَنَّ فَحَوَاهُ فَحَوَى الْمُفْرَدِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِك جَاءَنِي زَيْدٌ مُسْرِعًا وَجَاءَنِي زَيْدٌ يُسْرِعُ فِي إفَادَةِ مَعْنَى الْإِسْرَاعِ ثُمَّ الظَّرْفُ لِافْتِقَارِهِ إلَى الْعَامِلِ إمَّا مُقَدَّرٌ بِالْفِعْلِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْبَعْضِ أَوْ بِاسْمِ الْفَاعِلِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ آخَرِينَ فَإِذَا وَقَعَتْ الْجُمْلَةُ الظَّرْفِيَّةُ فِي حَيِّزِ الْحَالِ كَانَتْ مُقَدَّرَةً بِالْفِعْلِ أَوْ بِاسْمِ الْفَاعِلِ فَكَانَ تَقْدِيرُ قَوْلُهُ لَقِيته عَلَيْهِ جُبَّةٌ وَشَيْءٌ لَقِيته تَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ جُبَّةٌ وَشَيْءٌ أَوْ مُسْتَقِرَّةٌ عَلَيْهِ جُبَّةٌ وَشَيْءٌ وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَسْتَقِيمُ الْوَاوُ لِأَنَّ الْوَاقِعَ حَالًا فِي التَّحْقِيقِ هُوَ الْفِعْلُ الْمُقَدَّرُ أَوْ اسْمُ الْفَاعِلِ الْمُقَدَّرُ وَكِلَاهُمَا لَا يَقْتَضِي الْوَاوَ فَكَانَ هَذَا التَّرْتِيبُ مَعَ الْوَاوِ غَيْرَ صَالِحٍ لِلْحَالِ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِالْمُضْمَرِ فَقِيلَ لَقِيته يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ جُبَّةٌ وَشَيْءٌ أَوْ مُسْتَقِرَّةٌ عَلَيْهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ وَأَنْتَ حُرٌّ فَإِنَّهُ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ وَقَعَتْ بِمَجْمُوعِهَا فِي حَيِّزِ الْحَالِ وَلَا يَصْلُحُ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ لَهَا إلَّا مَعَ الْوَاوِ فَكَانَتْ هَذِهِ الصِّيغَةُ صَالِحَةً لِلْحَالِ. وَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ الْحَالُ فِعْلٌ أَوْ اسْمُ فَاعِلٍ لِلْعَهْدِ أَيْ الْحَالُ الْمُسْتَتِرَةُ فِي هَذَا الظَّرْفِ وَهُوَ قَوْلُهُ أَوْ لَك فِعْلٌ أَيْ يَسْتَقِرُّ أَوْ اسْمُ فَاعِلٍ أَيْ مُسْتَقِرٌّ قُلْت هَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِرِوَايَاتِ كُتُبِ النَّحْوِ أَجْمَعَ فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِيهَا أَنَّ الْجُمْلَةَ

[معانى الفاء]

وَصَدْرُ الْكَلَامِ غَيْرُ مُفِيدٍ إلَّا شَرْطًا لِلتَّحْرِيرِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ مُفِيدٌ بِنَفْسِهِ. وَقَوْلُهُ أَنْتِ مَرِيضَةٌ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى الْحَالِ لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ أَدِّ أَلْفًا لَا يَصْلُحُ ضَرِيبَةً فَصَلَحَ دَلَالَةً عَلَى الْحَالِ وَقَوْلُهُ وَاعْمَلْ بِهِ فِي بَابِ الْمُضَارَبَةِ لَا يَصْلُحُ حَالًا لِلْأَخْذِ فَبَقِيَ قَوْلُهُ خُذْ هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً مُطْلَقًا وَقَوْلُهُ انْزِلْ وَأَنْتَ آمِنٌ فِيهِ دَلَالَةُ الْحَالِ لِأَنَّ الْأَمَانَ إنَّمَا يُرَادُ إعْلَاءُ الدِّينِ وَلِيُعَايِنَ الْحَرْبِيُّ مَعَالِمَ الدِّينِ وَمَحَاسِنَهُ فَكَانَ الظَّاهِرُ فِيهِ الْحَالَ لِيَصِيرَ مُعَلَّقًا بِالنُّزُولِ إلَيْنَا وَالْكَلَامُ يَحْتَمِلُ الْحَالَ وَأَمَّا الْفَاءُ فَإِنَّهُ لِلْوَصْلِ وَالتَّعْقِيبِ حَتَّى أَنَّ الْمَعْطُوفَ بِالْفَاءِ يَتَرَاخَى عَنْ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِزَمَانٍ وَإِنْ لَطَفَ. هَذَا مُوجَبُهُ الَّذِي وُضِعَ لَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْوَاقِعَةَ حَالًا إذَا كَانَتْ ظَرْفِيَّةً وَبَعْدَ الظَّرْفِ اسْمٌ مُظْهَرٌ جَازَ فِيهَا إثْبَاتُ الْوَاوِ وَتَرْكُهَا أَمَّا تَرْكُهَا فَلِمَا ذَكَرَ هَذَا الْقَائِلُ، وَأَمَّا إثْبَاتُهَا فَلِأَنَّهَا أَخَذَتْ شَبَهًا بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الظَّرْفَ خَبَرٌ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ الْمُظْهَرِ مُخْبَرٌ عَنْهُ فَجَازَ فِيهِ الْأَمْرَانِ قَوْلُهُ (وَصَدْرُ الْكَلَامِ) يَعْنِي قَوْلُهُ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا غَيْرُ مُفِيدٍ شَيْئًا إلَّا شَرْطًا لِلْجِزْيَةِ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلْإِيجَابِ ابْتِدَاءً إذْ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا وَلَا يَصْلُحُ لِلضَّرِيبَةِ أَيْضًا لِأَنَّهَا لَا يَكُونُ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ وَاصْطِلَاحٍ وَلِأَنَّهَا لَا يَزِيدُ فِي شَهْرٍ عَلَى عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ ثَلَاثِينَ أَوْ نَحْوِهَا وَالضَّرِيبَةُ وَظِيفَةٌ يَأْخُذُهَا الْمَالِكُ فَحُمِلَ عَلَيْهِ أَيْ حُمِلَ صَدْرُ الْكَلَامِ عَلَى كَوْنِهِ شَرْطًا لِلتَّحْرِيرِ بِأَنْ جُعِلَتْ الْوَاوُ لِلْحَالِ لِيَصِيرَ تَعْلِيقًا لِلْعِتْقِ بِأَدَاءِ الْمَالِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ إنْ صَدَرَ مِنْ الزَّوْجِ بِأَنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَعَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ كَانَ إيقَاعًا مُفِيدًا مِنْهُ بِدُونِ آخِرِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْحَمْلِ عَلَى الْحَالِ وَإِنْ صَدَرَ مِنْهَا فَهُوَ الْتِمَاسٌ صَحِيحٌ مِنْهَا فَلِهَذَا لَا يُحْمَلُ عَلَى الْحَالِ بَلْ يَكُونُ مَعْنَاهُ وَلَك أَلْفٌ فِي تَيْنِك أَوْ يَكُونُ وَعْدًا مِنْهَا إيَّاهُ بِالْمَالِ وَالْمَوَاعِيدُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ. وَلِأَنَّ أَدْنَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ حَرْفُ الْوَاوِ مُحْتَمِلًا لِجَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا وَالْمَالُ بِالشَّكِّ لَا يَجِبُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ فَصَلَحَ أَيْ قَوْلُهُ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا دَلَالَةً عَلَى الْحَالِ أَيْ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ قَوْلُهُ (لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى الْحَالِ) لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي التَّصَرُّفَاتِ التَّنْجِيزُ وَالتَّعْلِيقُ يَثْبُتُ فِيهَا بِعَارِضِ الشَّرْطِ وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ وَالشَّكِّ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْمُؤْمِنِ أَنَّهُ لَا يُطَلِّقُ حَلِيلَتَهُ فِي حَالِ الْمَرَضِ لِأَنَّهُ حَالُ شَفَقَةٍ وَمَرْحَمَةٍ وَلَمَّا لَمْ تُوجَدْ دَلَالَةٌ عَلَى الْحَالِ حُمِلْت الْوَاوُ عَلَى الْعَطْفِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَتُهَا وَقَدْ صَحَّ الْحَمْلُ عَلَيْهِ لِاتِّفَاقِ الْجُمْلَتَيْنِ وَلَكِنَّهَا يَحْتَمِلُ الْحَالَ لِأَنَّ الْمَرِيضَ قَدْ يَصْلُحُ شَرْطًا لِلطَّلَاقِ وَالطَّلَاقُ قَدْ يَتَأَخَّرُ إلَى الْمَرَضِ وَيَتَحَقَّقُ فِيهِ فَإِذَا نَوَى التَّعْلِيقَ يُصَدَّقُ دِيَانَةً لِأَنَّهُ مُحْتَمِلُ كَلَامِهِ. لَا يَصْلُحُ حَالًا لِلْأَخْذِ لِأَنَّ الْعَمَلَ يُوجَدُ بَعْدَ الْأَخْذِ فَلَا يَصْلُحُ حَالًا لِلْأَخْذِ الْمَوْجُودِ قَبْلَهُ وَالْكَلَامُ يَحْتَمِلُ الْحَالَ أَيْضًا لِأَنَّ قَوْلَهُ آمِنٌ نَعْتُ فَاعِلٍ أَوْ لِأَنَّهُ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ مَعَ الْوَاوِ وَأَيْضًا نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ مِنْ آضَ يَئِيضُ إذَا رَجَعَ وَيَنُوبُ عَنْ الْحَالِ تَقُولُ فَعَلْت ذَاكَ أَيْضًا أَيْ أَيْضًا عَائِدًا إلَيْهِ وَيُقَالُ قَدْ أَكْثَرْت مِنْ أَيْضٍ أَيْ أَكْثَرْت التَّكَلُّمَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ كَذَا ذَكَرَ الْمَيْدَانِيُّ. [معانى الْفَاءُ] قَوْلُهُ (الْفَاءُ لِلْوَصْلِ وَالتَّعْقِيبِ) يَعْنِي مُوجَبُهُ وُجُودُ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ بِغَيْرِ مُهْلَةٍ حَتَّى لَوْ قُلْت ضَرَبْت زَيْدًا فَعَمْرًا كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ ضَرْبَ عَمْرٍو وَقَعَ عَقِيبَ ضَرْبِ زَيْدٍ وَلَمْ يَتَطَاوَلْ الْمُدَّةُ بَيْنَهُمَا وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَرَاخَى عَنْ الْمَعْطُوفِ بِزَمَانٍ وَإِنْ لَطَفَ هُوَ أَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ التَّعْقِيبِ تَرَاخِيَ الثَّانِي عَنْ الْأَوَّلِ بِزَمَانٍ وَإِنْ قَلَّ ذَلِكَ الزَّمَانُ بِحَيْثُ لَا يُدْرَكُ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ مُقَارِنًا وَالْقِرَانُ لَيْسَ بِمُوجَبٍ لَهُ قَالَ الْإِمَامُ عَبْدُ الْقَاهِرِ أَصْلُ الْفَاءِ الِاتِّبَاعُ وَالْعَطْفُ فَرْعٌ عَلَى ذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَعْرَى عَنْ الِاتِّبَاعِ بِوَجْهٍ لِأَنَّك إذَا قُلْت ضَرَبْت زَيْدًا فَعَمْرًا فَقَدْ أَتْبَعْت عَمْرًا زَيْدًا مَعَ عَطْفِك عَلَى مَا قَبْلَهُ لَفْظًا وَقَدْ يَكُونُ لِلِاتِّبَاعِ مُتَجَرِّدًا عَنْ الْعَطْفِ كَمَا فِي جَوَابِ الشَّرْطِ بِالْفَاءِ نَحْوُ إنْ تَأْتِنِي فَأَنَا أُكْرِمُك فَعَرَفْت أَنَّ أَعْرَفَ الْمَعْنَيَيْنِ هُوَ الِاتِّبَاعُ وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الْمُوجَزِ أَنَّ الْفَاءَ فِي التَّرْتِيبِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ

أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَرَبَ تَسْتَعْمِلُ الْفَاءَ فِي الْجَزَاءِ لِأَنَّهُ مُرَتَّبٌ لَا مَحَالَةَ وَتَسْتَعْمِلُ فِي أَحْكَامِ الْعِلَلِ كَمَا يُقَالُ جَاءَ الشِّتَاءُ فَتَأَهَّبْ لِأَنَّ الْحُكْمَ مُرَتَّبٌ عَلَى الْعِلَّةِ وَيُقَالُ أَخَذْت كُلَّ ثَوْبٍ بِعَشَرَةٍ فَصَاعِدًا أَيْ كَانَ كَذَلِكَ فَازْدَادَ الثَّمَنُ صَاعِدًا مُرْتَفِعًا وَلَمَّا قُلْنَا إنَّ وُجُوهَ الْعَطْفِ مُنْقَسِمَةٌ عَلَى صِلَاتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْفَاءُ مُخْتَصًّا بِمَعْنًى هُوَ مَوْضُوعٌ لَهُ حَقِيقَةً وَذَلِكَ هُوَ التَّعْقِيبُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالثَّانِي مِنْ مُوجَبِ الْأَوَّلِ فَيَكُونَ بَعْدَهُ بِلَا فَصْلٍ كَقَوْلِهِ ضَرَبْته فَبَكَى لِأَنَّهُ مِنْ مُوجَبِ الضَّرْبِ وَالثَّانِي أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ مُوجَبِ الْأَوَّلِ فَيَكُونَ بَعْدَ الْأَوَّلِ وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مُهْلَةٌ يَسِيرَةٌ كَقَوْلِك جَاءَ زَيْدٌ فَعَمْرٌو إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ مَجِيءِ زَيْدٍ وَعَمْرٍو مُهْلَةٌ يَسِيرَةٌ. وَالثَّالِثُ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ مُوجَبِ الْأَوَّلِ وَيَكُونَ بَيْنَهُمَا مَسَافَةٌ كَقَوْلِك دَخَلْت الْبَصْرَةَ فَالْكُوفَةُ فَإِنَّ الثَّانِيَ بَعْدَهُ وَبَيْنَهُمَا قَدْرُ الْمَسَافَةِ إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ الثَّانِي عَقِيبَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ (أَلَا تَرَى) تَوْضِيحٌ لِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْفَاءَ لِلْوَصْلِ وَالتَّعْقِيبِ يَعْنِي لَمَّا كَانَ الْفَاءُ لِلتَّرْتِيبِ مَعَ الْوَصْلِ اسْتَعْمَلَتْهُ الْعَرَبُ فِي الْآخَرِ بِهِ لِأَنَّ مِنْ حَقِّ الْجَزَاءِ أَنْ يَتَعَقَّبَ نُزُولُهُ وُجُودَ الشَّرْطِ بِلَا فَصْلٍ لِأَنَّ الْحُكْمَ مُرَتَّبٌ عَلَى الْعِلَّةِ أَيْ بِلَا فَصْلٍ رُتْبَةً أَوْ زَمَانًا عَلَى حَسَبِ مَا اخْتَلَفُوا قَوْلُهُ (أَخَذْت كُلَّ ثَوْبٍ بِعَشَرَةٍ فَصَاعِدًا) مَعْنَى هَذَا أَنَّك اشْتَرَيْت عَدْلَ ثِيَابٍ وَوَقَعَ سِعْرُ أَوَّلِ ثَوْبٍ بِعَشَرَةٍ ثُمَّ غَلَا السِّعْرُ فَزَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ فَتَقُولُ أَخَذْت كُلَّ ثَوْبٍ بِعَشَرَةٍ فَصَاعِدًا فَقَوْلُهُ فَصَاعِدًا انْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ بِعَامِلٍ مُضْمَرٍ وَالتَّقْدِيرُ كَانَ الْأَخْذُ بِعَشَرَةٍ فَازْدَادَ الثَّمَنُ عَقِيبَ الْأَخْذِ صَاعِدًا مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ أَوْ ذَهَبَ الثَّمَنُ صَاعِدًا وَلَيْسَ انْتِصَابُ صَاعِدًا عَلَى الْعَطْفِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ إلَّا ذِكْرُ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَالْعَشَرَةِ وَلَا يَسْتَقِيمُ عَطْفُهُ عَلَى الْفَاعِلِ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَكَذَا عَلَى الْمَفْعُولِ مَعْنًى إذْ لَيْسَ الْغَرَضُ أَنَّك أَخَذْت الْمُثَمَّنَ وَالصَّاعِدَ لِأَنَّ الصَّاعِدَ هُوَ الثَّمَنُ وَكَذَا عَلَى الْعَشَرَةِ لَفْظًا وَهُوَ ظَاهِرٌ وَكَذَا مَعْنًى لِأَنَّك لَمْ تُرِدْ أَنَّك أَخَذْت الْمُثْمَنَ بِعَشَرَةٍ فَتَصَاعُدًا وَإِنَّمَا أَرَدْت أَنَّك أَخَذْت بَعْضَهُ بِعَشَرَةٍ وَبَعْضَهُ بِأَكْثَرَ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ فَازْدَادَ الثَّمَنُ صَاعِدًا أَيْ ذَهَبَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ فِي الْبَعْضِ. قَوْلُهُ (وُجُوهُ الْعَطْفِ مُنْقَسِمَةٌ عَلَى صِلَاتِهِ) أَرَادَ بِالصَّلَاةِ الْحُرُوفَ يَعْنِي قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَنْوَاعَ الْعَطْفِ انْقَسَمَتْ عَلَى حُرُوفِ الْعَطْفِ وَأَنَّ كُلَّ حَرْفٍ مُخْتَصٌّ بِمَعْنًى فِي أَصْلِ الْوَضْعِ فَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْعَطْفِ وَثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ مَعَ التَّرَاخِي فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْفَاءُ لِمَعْنًى اُخْتُصَّ بِهِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ وَذَلِكَ هُوَ التَّعْقِيبُ بِصِفَةِ الْوَصْلِ إذْ لَمْ يُوضَعْ لَهُ لَفْظٌ آخَرُ وَالِاشْتِرَاكُ خِلَافُ الْأَصْلِ لِمَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ قَوْلُهُ (وَلِذَلِكَ) أَيْ وَلِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ بِعْت هَذَا الْعَبْدَ مِنْك بِكَذَا وَقَالَ الْمُشْتَرِي فَهُوَ حُرٌّ إنَّهُ يَعْتِقُ وَيُجْعَلُ الرَّجُلُ قَابِلًا لِلْبَيْعِ ثُمَّ مُعْتِقًا لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْحُرِّيَّةَ بِحَرْفِ الْفَاءِ عَقِيبَ الْإِيجَابِ وَالْفَاءُ لِلتَّرْتِيبِ وَلَا يَتَرَتَّبُ الْعِتْقُ عَلَى الْإِيجَابِ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْقَبُولِ فَيَثْبُتُ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ قَبِلْت فَهُوَ حُرٌّ بِخِلَافِ قَوْلِهِ هُوَ حُرٌّ أَوْ وَهُوَ حُرٌّ لِعَدَمِ مَا يُوجِبُ التَّعْقِيبَ فَبَقِيَ مُحْتَمِلًا لِرَدِّ الْإِيجَابِ بِأَنْ جَعَلَهُ إخْبَارًا عَنْ الْحُرِّيَّةِ الْبَاقِيَةِ قَبْلَ الْإِيجَابِ وَلِقَبُولِ الْبَيْعِ بِأَنْ جُعِلَ إنْشَاءً لِلْحُرِّيَّةِ فِي الْحَالِ فَلَا يَثْبُتُ الْقَبُولُ بِالشَّكِّ. قَوْلُهُ (فَإِذَا هُوَ لَا يَكْفِيهِ أَنَّهُ يَضْمَنُ) وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلْوَصْلِ وَالتَّعْقِيبِ فَبِذِكْرِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ شَارِطٌ لِلْكِفَايَةِ فِي الْإِذْنِ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِقَطْعٍ مُرَتَّبٍ عَلَى الْكِفَايَةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ كَفَانِي قَمِيصًا فَاقْطَعْهُ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَإِذَا لَمْ يَكْفِهِ قَمِيصًا كَانَ الْقَطْعُ حَاصِلًا بِغَيْرِ إذْنٍ فَكَانَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ اقْطَعْهُ فَقَطَعَهُ فَإِذَا هُوَ لَا يَكْفِيهِ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّ قَوْلَهُ اقْطَعْهُ إذْنٌ مُطْلَقٌ فَلَا يَكُونُ الْقَطْعُ بَعْدَهُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ لِأَنَّ الْغُرُورَ بِمُجَرَّدِ الْخَبَرِ

وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ لِآخَرَ بِعْت مِنْك هَذَا الْعَبْدَ بِكَذَا فَقَالَ الْآخَرُ فَهُوَ حُرٌّ إنَّهُ قَبُولٌ لِلْبَيْعِ وَلَوْ قَالَ هُوَ حُرٌّ أَوْ وَهُوَ حُرٌّ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ وَقَالَ مَشَايِخُنَا فِيمَنْ قَالَ لِخَيَّاطٍ اُنْظُرْ إلَى هَذَا الثَّوْبِ أَيَكْفِينِي قَمِيصًا فَنَظَرَ فَقَالَ نَعَمْ فَقَالَ فَاقْطَعْهُ فَقَطَعَهُ فَإِذَا هُوَ لَا يَكْفِيهِ إنَّهُ يَضْمَنُ كَمَا لَوْ قَالَ فَإِنْ كَفَانِي قَمِيصًا فَاقْطَعْهُ فَإِذَا هُوَ لَا يَكْفِيهِ أَنَّهُ يَضْمَنُ وَلِذَلِكَ قَالُوا فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ فَدَخَلَتْ الدَّارَ وَهِيَ غَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا أَنَّهُ يَقَعُ عَلَى التَّرْتِيبِ فَتَبِينُ بِالْأُولَى وَلِذَلِكَ اخْتَصَّ الْفَاءُ بِعَطْفِ الْحُكْمِ عَلَى الْعِلَلِ كَمَا يُقَالُ أَطْعَمْته فَأَشْبَعْته أَيْ بِهَذَا الْإِطْعَامِ وَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ» فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ مُعْتَقًا حُكْمٌ لِلشِّرَى بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ وَلِهَذَا قُلْنَا فِيمَنْ قَالَ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ، فَهَذِهِ الدَّارَ، فَعَبْدِي حُرٌّ إنَّ الشَّرْطَ أَنْ يَدْخُلَ الْأَخِيرَةَ بَعْدَ الْأُولَى مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــQإذَا لَمْ يَكُنْ فِي ضِمْنِ عَقْدِ ضَمَانٍ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْغَارِّ كَمَا لَوْ قَالَ هَذِهِ الطَّرِيقُ آمِنٌ فَسَلَكَ فِيهِ فَأَخَذَ اللُّصُوصُ مَتَاعَهُ لَا يَضْمَنُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ قَوْلُهُ (فَتَبِينُ بِالْأَوَّلِ) قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَيَنْبَغِي أَنْ تَطْلُقَ ثِنْتَيْنِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِمُوجَبِ الْفَاءِ هَهُنَا غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَنَّ الْأَجْزِيَةَ لَا يَتَرَتَّبُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَيُجْعَلُ الْفَاءُ بِمَعْنَى الْوَاوِ مَجَازًا وَحُكْمُهُ عَلَى الْخِلَافِ كَمَا عَرَفْت وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تَطْلُقُ وَاحِدَةً عِنْدَهُمْ جَمِيعًا لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ فَيَثْبُتُ بِهِ تَرْتِيبٌ بَيْنَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ فِي الْوُقُوعِ كَمَا لَوْ قَالَ بِكَلِمَةِ بَعْدَ فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِإِيقَاعِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهَا تَبِينُ بِالْأُولَى وَمَعَ إمْكَانِ اعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ لَا مَعْنَى لِلْمَصِيرِ إلَى الْمَجَازِ كَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قَوْلُهُ (وَلِذَلِكَ) أَيْ وَلِمَعْنَى التَّعْقِيبِ اخْتَصَّ الْفَاءَ بِكَذَا إنَّمَا أَعَادَ هَذَا الْكَلَامَ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ ذِكْرَ الْحَدِيثِ الَّذِي أَوْرَدَهُ وَبِظَاهِرِهِ تَمَسَّكَ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ مِنْهُمْ دَاوُد الْأَصْبَهَانِيُّ فَقَالُوا إنَّ الرَّجُلَ إذَا مَلَكَ أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتِقَهُ وَلَكِنْ لَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ قَبْلَ إعْتَاقِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَيَعْتِقَهُ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ إعْتَاقَهُ وَلَوْ عَتَقَ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ فَيَعْتِقَهُ مَعْنًى وَلِأَنَّ الْقَرَابَةَ لَا تَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ ابْتِدَاءً فَلَا تَمْنَعُ الْبَقَاءَ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَمَّا مَنَعَتْ بَقَاءَ مِلْكِ النِّكَاحِ مَنَعَتْ ثُبُوتَهُ ابْتِدَاءً وَقَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ يَعْتِقُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إعْتَاقٍ لِمَا عُرِفَ وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فَيَشْتَرِيَهُ فَيَعْتِقَهُ الْإِعْتَاقُ بِذَلِكَ الشِّرَاءِ لَا بِسَبَبٍ آخَرَ كَمَا يُقَالُ أَطْعَمَهُ فَأَشْبَعَهُ وَسَقَاهُ فَرَوَاهُ وَعَلَّمَهُ فَهَدَاهُ وَضَرَبَ فَأَوْجَعَ وَكَتَبَ فَقَرْمَطَ وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَا بِهِ الْمِلْكَ ابْتِدَاءً لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْعُبُودِيَّةِ وَثُبُوتَ الْعِتْقِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِهِ فَإِذَا لَمْ يَمْلِكْهُ لَا يَعْتِقُ بِخِلَافِ مِلْكِ النِّكَاحِ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إثْبَاتِ مِلْكِ النِّكَاحِ لَهُ عَلَى ابْنَتِهِ ثُمَّ إزَالَتِهِ لِأَنَّهَا تَعُودُ إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (وَأَطْعَمْته فَأَشْبَعْته) أَيْ بِهَذَا الْإِطْعَامِ إذْ لَوْ كَانَ الْإِشْبَاعُ بِغَيْرِ هَذَا الْإِطْعَامِ لَمْ يَكُنْ الْإِشْبَاعُ مُتَّصِلًا بِهَذَا الْإِطْعَامِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُوجَبِ الْفَاءِ وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَيَشْتَرِيَهُ فَيَعْتِقَهُ مُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ الْإِعْتَاقُ مُتَّصِلًا بِالشِّرَاءِ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلِ زَمَانٍ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا فَلَوْ شُرِطَ إعْتَاقٌ ابْتِدَائِيٌّ لَا يَكُونُ ذَلِكَ عَمَلًا بِالْفَاءِ لِأَنَّهُ وَإِنْ أَعْتَقَهُ مُتَّصِلًا بِالشِّرَاءِ فَذَلِكَ لَا يَكُونُ إعْتَاقًا حَتَّى يُتِمَّ كَلَامَهُ فَيَتَخَلَّلُ بَيْنَهُمَا زَمَانٌ وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُقْتَضَى الْفَاءِ كَذَا قِيلَ وَفِيهِ تَكَلُّفٌ. قَوْلُهُ (فَدَلَّ ذَلِكَ) أَيْ قَوْلُهُ فَيَشْتَرِيَهُ فَيَعْتِقَهُ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ مُعْتِقًا حُكْمٌ لِلشِّرَاءِ كَالْإِشْبَاعِ فِي قَوْلِهِ أَطْعَمَهُ فَأَشْبَعَهُ وَقَوْلُهُ بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ احْتِرَازٌ عَمَّا يُقَالُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْإِعْتَاقُ حُكْمًا لِلشِّرَاءِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ مَوْضُوعٌ لِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ وَالْإِعْتَاقُ إزَالَةٌ لَهُ فَكَانَ مُنَافِيًا لَهُ وَالْمُنَافِي لِحُكْمِ الشَّيْءِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا لِذَلِكَ الشَّيْءِ فَقَالَ إنَّهُ بِنَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ حُكْمًا لَهُ وَلَكِنَّهُ يَصْلُحُ بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِالشِّرَاءِ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا وَالْمِلْكُ فِي الْقَرِيبِ إكْمَالٌ لِعِلَّةِ الْعِتْقِ فَيَصِيرُ الْعِتْقُ مُضَافًا إلَى الشِّرَاءِ بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ وَإِذَا صَارَ مُضَافًا إلَيْهِ يَصِيرُ بِهِ مُعْتِقًا لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْحُكْمِ بِوَاسِطَةٍ كَالْمُوجِبِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فِي كَوْنِ الْحُكْمِ مُضَافًا إلَيْهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ إلَى إعْتَاقٍ آخَرَ كَمَا قَالَهُ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ وَإِذَا اشْتَرَاهُ نَاوِيًا عَنْ الْكَفَّارَةِ يَخْرُجُ بِهِ عَنْ الْعُهْدَةِ أَيْضًا خِلَافًا لِمَا قَالَهُ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَإِنَّمَا حَصَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُجَازَاةَ

وَقَدْ تَدْخُلُ الْفَاءُ عَلَى الْعِلَلِ أَيْضًا إذَا كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُومُ فَتَصِيرُ بِمَعْنَى التَّرَاخِي كَمَا يُقَالُ أَبْشِرْ فَقَدْ أَتَاك الْغَوْثُ وَقَدْ نَجَوْت وَنَظِيرُهُ مَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْمَأْذُونِ فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ أَنَّهُ يَعْتِقُ لِلْحَالِ وَتَقْدِيرُهُ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا فَإِنَّك قَدْ عَتَقْت لِأَنَّ الْعِتْقَ دَائِمٌ فَأَشْبَهَ الْمُتَرَاخِيَ وَقَالُوا فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ انْزِلْ فَأَنْتَ آمِنٌ إنَّهُ آمِنٌ نَزَلَ أَوْ لَمْ يَنْزِلْ لِمَا قُلْنَا فَلَمْ يُجْعَلْ بِمَعْنَى التَّعْلِيقِ كَأَنَّهُ أَضْمَرَ الشَّرْطَ لِأَنَّ الْكَلَامَ صَحَّ بِدُونِ الْإِضْمَارِ وَإِنَّمَا الْإِضْمَارُ ضَرُورِيٌّ فِي الْأَصْلِ وَلِهَذَا قُلْنَا فِيمَنْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دِرْهَمٌ فَدِرْهَمٌ إنَّهُ يَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ غَيْرُ الْأَوَّلِ وَيُصْرَفُ التَّرْتِيبُ إلَى الْوُجُوبِ دُونَ الْوَاجِبِ أَوْ يُجْعَلُ مُسْتَعَارًا بِمَعْنَى الْوَاوِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَزِمَهُ دِرْهَمٌ لِأَنَّ مَعْنَى التَّرْتِيبِ لَغْوٌ فَحُمِلَ عَلَى جُمْلَةٍ مُبْتَدَأَةٍ لِتَحْقِيقِ الْأَوَّلِ فَهُوَ دِرْهَمٌ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَالشِّعْرُ لَا يَسْطِيعُهُ مَنْ يَظْلِمُهْ ... يُرِيدُ أَنْ يُعْرِبَهُ فَيُعْجِمُهْ وَقَوْلُهُ {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ} [إبراهيم: 4] ـــــــــــــــــــــــــــــQالْوَلَدِ الْوَالِدَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ لِأَنَّ الْوُجُودَ أَعْظَمُ النِّعَمِ وَأَعْلَاهَا وَقَدْ حَصَلَ لِلْوَلَدِ بِوَاسِطَةِ الْأَبِ فَلَا يُمْكِنُ لِلْوَلَدِ مُجَازَاتُهُ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الْوَلَدِ مِنْ الْإِحْسَانِ إلَى الْأَبِ لَا يُمَاثَلُ بِنِعْمَةِ الْوُجُودِ لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى الْأَحْوَالِ وَمَا صَدَرَ مِنْ الْأَبِ رَاجِعٌ إلَى الذَّاتِ لَا إذَا وَجَدَهُ مَمْلُوكًا وَأَعْتَقَهُ بِالشِّرَاءِ " فح " يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْهُ نَوْعَ مُجَازَاةٍ لِأَنَّ الرِّقَّ أَثَرُ الْكُفْرِ الَّذِي هُوَ مَوْتٌ حُكْمًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] أَيْ كَافِرًا فَهَدَيْنَاهُ فَإِذَا أَزَالَ عَنْهُ هَذَا الْوَصْفَ بِالشِّرَاءِ صَارَ كَأَنَّهُ أَحْيَاهُ بَعْدَمَا فَنِيَ فَيَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ مُقَابَلًا بِإِحْسَانِهِ وَمُجَازَاةً لِإِنْعَامِهِ وَهَذَا عَلَى وَجْهِ التَّحْرِيضِ وَالتَّرْغِيبِ لَا عَلَى طَرِيقِ التَّحْقِيقِ فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَقْدِرُ عَلَى مُجَازَاةِ الْأَبَوَيْنِ وَمُكَافَأَتِهِمَا بِحَالٍ إذَا أَنْصَفَ مِنْ نَفْسِهِ وَتَأَمَّلَ فِي إحْسَانِهِمَا إلَيْهِ وَإِشْفَاقِهِمَا عَلَيْهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا مَا ضَيَّعْنَا مِنْ حُقُوقِهِمْ وَاغْفِرْ لَهُمْ مَا ضَيَّعُوا مِنْ حَقِّك يَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ أَيْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَغِلَ بَيْنَهُمَا بِعَمَلٍ آخَرَ أَوْ يُؤَخِّرَ الدُّخُولَ فِي الثَّانِيَةِ مِنْ غَيْرِ اشْتِغَالٍ بِعَمَلٍ. قَوْلُهُ (وَقَدْ تَدْخُلُ الْفَاءُ عَلَى الْعِلَلِ) الْأَصْلُ أَنْ تَدْخُلَ الْفَاءُ عَلَى الْأَحْكَامِ لِأَنَّهَا مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى الْعِلَلِ وَلَا تَدْخُلُ عَلَى الْعِلَلِ لِاسْتِحَالَةِ تَأَخُّرِ الْعِلَّةِ عَنْ الْمَعْلُولِ إلَّا أَنَّهَا قَدْ تَدْخُلُ عَلَى الْعِلَلِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ لَهَا دَوَامٌ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ دَائِمَةً كَانَتْ فِي حَالَةِ الدَّوَامِ مُتَرَاخِيَةً عَنْ ابْتِدَاءِ الْحُكْمِ فَيَصِحُّ دُخُولُ الْفَاءِ عَلَيْهَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَمَا يُقَالُ لِمَنْ هُوَ فِي قَيْدِ ظَالِمٍ أَوْ حَبْسِ ذِي سُلْطَانٍ أَوْ ضِيقٍ أَوْ مَشَقَّةٍ إذَا ظَهَرَ آثَارُ الْفَرَجِ وَالْخَلَاصِ لَهُ أَبْشِرْ فَقَدْ أَتَاك الْغَوْثُ وَقَدْ نَجَوْت بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْغَوْثَ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ الْإِبْشَارِ بَاقٍ بَعْدَ ابْتِدَاءِ الْإِبْشَارِ وَيُسَمَّى هَذِهِ الْفَاءُ فَاءَ التَّعْلِيلِ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى لَامِ التَّعْلِيلِ وَالْإِبْشَارُ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ يُقَالُ بَشَّرْته بِمَوْلُودٍ فَأَبْشَرَ أَيْ صَارَ فَرِحًا مَسْرُورًا بِهِ وَهَهُنَا بِمَعْنَى اللَّازِمِ وَالْمُرَادُ مِنْ الْغَوْثِ الْمُغِيثُ قَوْلُهُ (أَنَّهُ يَعْتِقُ لِلْحَالِ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفَاءَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ لِلتَّعْلِيلِ فَيَصِيرُ مَعْنَاهُ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا لِأَنَّك حُرٌّ فَلِذَلِكَ يَتَنَجَّزُ بِهِ الْعِتْقُ. وَقَوْلُهُ وَلَمْ يُجْعَلْ بِمَعْنَى التَّعْلِيقِ كَأَنَّهُ أَضْمَرَ الشَّرْطَ جَوَابُ سُؤَالٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ هَلَّا جَعَلْت قَوْلَهُ أَدِّ إِلَيَّ أَلْفًا عِلَّةً وَقَوْلَك فَأَنْتَ حُرٌّ ثَابِتًا بِهِ كَمَا هُوَ حَقِيقَةُ الْفَاءِ وَالْأَدَاءُ صَالِحٌ لِإِضَافَةِ الْحُرِّيَّةِ إلَيْهِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ كَمَا فِي صُورَةِ الْوَاوِ فَقَالَ لِأَنَّا إنْ جَعَلْنَاهُ كَذَلِكَ احْتَجْنَا إلَى إضْمَارِ الشَّرْطِ وَالْإِضْمَارُ خِلَافُ الْأَصْلِ فَإِذَا صَحَّ الْكَلَامُ بِدُونِهِ لَا يُصَارُ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا يُقَالُ دُخُولُ الْفَاءِ عَلَى الْعِلَّةِ أَيْضًا خِلَافُ الْأَصْلِ لِأَنَّ مُوجَبَهُ التَّرْتِيبُ وَالْعِلَّةُ سَابِقَةٌ عَلَى الْحُكْمِ كَمَا بَيَّنَّا لِأَنَّا نَقُولُ فِيمَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ عَمَلٌ بِحَقِيقَةِ الْفَاءِ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَمَّا كَانَتْ مُسْتَدَامَةً يَحْصُلُ التَّرْتِيبُ فَكَانَ أَوْلَى مِنْ الْإِضْمَارِ ثُمَّ رَجَعَ الشَّيْخُ إلَى أَصْلِ الْكَلَامِ فَقَالَ وَلِهَذَا قُلْنَا أَيْ وَلِأَنَّ الْفَاءَ لِلْعَطْفِ بِالصِّفَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ. قُلْنَا إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دِرْهَمٌ فَدِرْهَمٌ إنَّهُ يَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلْعَطْفِ وَمِنْ شَرْطِهِ الْمُغَايَرَةُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ عَمَلًا بِحَقِيقَةِ الْعَطْفِ لَكِنَّ التَّرْتِيبَ مِنْ لَوَازِمِ الْفَاءِ وَلَا يُمْكِنُ رِعَايَتُهُ هَهُنَا لِأَنَّ التَّرْتِيبَ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ هُوَ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ زَمَانًا وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ هَذَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالزَّمَانِ وَهُوَ الْفِعْلُ دُونَ الْعَيْنِ وَلِهَذَا لَا يُقَالُ هَذَا أَوَّلٌ وَهَذَا آخِرٌ وَإِنَّمَا يُقَالُ هَذَا ثَبَتَ أَوَّلًا أَوْ جَلَسَ أَوْ قَامَ أَوْ نَحْوُهُ وَالدَّرَاهِمُ فِي الذِّمَّةِ

[معانى ثم]

إلَّا أَنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ إلَّا بِإِضْمَارٍ فِيهِ تَرْكُ الْحَقِيقَةِ وَالْحَقِيقَةُ أَحَقُّ مَا أَمْكَنَ. وَأَمَّا ثُمَّ فَلِلْعَطْفِ عَلَى سَبِيلِ التَّرَاخِي وَهُوَ مَوْضُوعَةٌ لِيَخْتَصَّ بِمَعْنًى يَنْفَرِدُ بِهِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَثَرِ التَّرَاخِي فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هُوَ بِمَعْنَى الِانْقِطَاعِ كَأَنَّهُ مُسْتَأْنِفٌ حُكْمًا قَوْلًا بِكَمَالِ التَّرَاخِي ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي حُكْمِ الْعَيْنِ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا التَّرْتِيبُ فَيُصْرَفُ التَّرْتِيبُ إلَى الْوُجُوبِ أَيْ وَجَبَ دِرْهَمٌ وَبَعْدَهُ آخَرُ كَمَا إذَا قَالَ دِرْهَمٌ ثُمَّ دِرْهَمٌ يَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ بِالْإِجْمَاعِ وَيُصْرَفُ التَّرَاخِي وَالتَّرْتِيبُ إلَى الْوُجُوبِ أَوْ يُجْعَلُ الْفَاءُ عِبَارَةً عَنْ الْوَاوِ مَجَازًا لِمُشَارَكَتِهِمَا فِي نَفْسِ الْعَطْفِ كَأَنَّهُ قَالَ دِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَزِمَهُ دِرْهَمٌ لِأَنَّ مُوجَبَ حَرْفِ الْفَاءِ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الدَّرَاهِمِ كَمَا ذَكَرْنَا وَلَا يُمْكِنُ صَرْفُهُ إلَى الْوُجُوبِ أَيْضًا لِأَنَّ وُجُوبَ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ مُتَّصِلًا بِهِ لَا يُتَصَوَّرُ إذْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُبَاشَرَةِ سَبَبٍ آخَرَ بَعْدَ وُجُوبِ الْأَوَّلِ فَيَنْفَصِلُ لَا مَحَالَةَ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ جُمْلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ مَحْذُوفَةُ الْمُبْتَدَأِ ذُكِرَتْ لِتَحْقِيقِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى وَتَأْكِيدِهَا كَأَنَّهُ قَالَ فَهُوَ دِرْهَمٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى. {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ} [النساء: 64] أَيْ مِنْ قَبْلِك {إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] أَيْ بِلُغَتِهِمْ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أَيْ الدِّينَ الْحَقَّ وَالصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ} [إبراهيم: 4] أَيْ يَصِيرُ ذَلِكَ الْبَيَانُ سَبَبَ ضَلَالِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ إضْلَالَهُ وَالْمَذْكُورُ فِي التَّفَاسِيرِ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ بَعْدَ التَّبْيِينِ بِإِشَارَةِ الْبَاطِلِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ لِاتِّبَاعِ الْحَقِّ وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ وَهُوَ رُؤْبَةُ فِي رِوَايَةِ صَاحِبِ الصِّحَاحِ: يُرِيدُ أَنْ يُعْرِبَهُ فَيُعْجِمُهْ أَيْ إعْرَابُهُ إعْجَامُهُ وَمَعْنَى الْبَيْتِ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إنْشَاءِ الشِّعْرِ وَالتَّكَلُّمِ بِهِ مَنْ وَضَعَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ بِأَنْ مَدَحَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ أَوْ ذَمَّ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ لِأَنَّ حُسْنَ الْكَلَامِ وَفَصَاحَتَهُ بِحُسْنِ مَوْقِعِهِ فَإِذَا فَقَدَ ذَلِكَ فَسَدَ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ يُرِيدُ أَنْ يُعْرِبَهُ أَيْ يُفْصِحَهُ وَلَا يَلْحَنُ فِي إعْرَابِهِ فَيُعْجِمُهُ أَيْ يَأْتِي بِهِ عَجَمِيًّا يَعْنِي يَلْحَنُ فِيهِ قَالَ الْفَرَّاءُ رَفَعَهُ عَلَى الْمُخَالَفَةِ يُرِيدُ أَنْ يُعْرِبَهُ وَلَا يُرِيدُ أَنْ يُعْجِمَهُ وَقَالَ الْأَخْفَشُ لِوُقُوعِهِ مَوْقِعَ الْمَرْفُوعِ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ يُرِيدُ أَنْ يُعْرِبَهُ فَيَقَعُ مَوْقِعَ الْإِعْجَامِ، فَلَمَّا وَضَعَ قَوْلَهُ فَيُعْجِمُ مَوْضِعَ قَوْلِهِ فَيَقَعُ رَفَعَهُ. كَذَا فِي الصِّحَاحِ وَذَكَرَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي رِسَالَتِهِ الزَّاخِرَةِ رَاوِيًا عَنْ الْحُطَيْئَةِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: قَوْلُ جَيِّدِ الشِّعْرِ أَشَدُّ مِنْ قَضْمِ الْحِجَارَةِ. وَقَالَ: الشِّعْرُ صَعْبٌ وَطَوِيلٌ سُلَّمُهُ ... إذَا ارْتَقَى فِيهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهْ زَلَّتْ بِهِ إلَى الْحَضِيضِ قَدَمُهْ ... يُرِيدُ أَنْ يُعْرِبَهُ فَيُعْجِمُهْ قَوْلُهُ (إلَّا أَنَّ هَذَا) أَيْ جَعْلَهُ جُمْلَةً مُبْتَدَأَةً كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَصِحُّ إلَّا بِإِضْمَارٍ فِيهِ تَرْكُ الْحَقِيقَةِ وَهِيَ الْعَطْفُ وَإِلْغَاءُ الْفَاءِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِأَنَّهُ يُسَاوِي قَوْلَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ دِرْهَمٌ وَالْحَقِيقَةُ أَحَقُّ بِالِاعْتِبَارِ مِنْ الْإِلْغَاءِ مَا أَمْكَنَ وَفِيمَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ إنْ كَانَ تَرْكُ الْحَقِيقَةِ مِنْ وَجْهٍ فَفِيهِ اعْتِبَارُهَا مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّهُ إنْ فَاتَ الْعَمَلُ بِصِفَةِ الْوَصْلِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قَالَهُ فَقَدْ حَصَلَ الْعَمَلُ بِمَعْنَى الْعَطْفِ الَّذِي هُوَ أَصْلٌ فِي هَذَا الْحَرْفِ وَبِصِفَةِ التَّعْقِيبِ فِي الْوُجُوبِ فَكَانَ أَحَقَّ مِمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ. [معانى ثُمَّ] قَوْلُهُ (عَلَى سَبِيلِ التَّرَاخِي) وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مُهْلَةٌ فِي الْفِعْلِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِمَا فَإِذَا قُلْت جَاءَنِي زَيْدٌ ثُمَّ عَمْرٌو أَوْ قُلْت ضَرَبْت زَيْدًا ثُمَّ عَمْرًا كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ وَقَعَ بَيْنَهُمَا مُهْلَةٌ وَلِهَذَا جَازَ أَنْ تَقُولَ ضَرَبْت زَيْدًا ثُمَّ عَمْرًا بَعْدَهُ بِشَهْرٍ وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ بِالْفَاءِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَثَرِ التَّرَاخِي أَيْ فِي ظُهُورِ أَثَرِهِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْحُكْمِ وَالتَّكَلُّمِ جَمِيعًا حَتَّى كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ سَكَتَ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ قَوْلًا بِكَمَالِ التَّرَاخِي يَعْنِي هَذِهِ الْكَلِمَةُ وُضِعَتْ لِمُطْلَقِ التَّرَاخِي فَيَدُلُّ عَلَى كَمَالِهِ إذْ الْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَثْبُتَ التَّرَاخِي فِي التَّكَلُّمِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا إذْ لَوْ كَانَ التَّرَاخِي فِي الْوُجُودِ دُونَ التَّكَلُّمِ كَانَ ثَابِتًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ أَلَا تَرَى أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ دَخَلَتْ عَلَى اللَّفْظِ فَيَجِبُ إظْهَارُ أَثَرِ التَّرَاخِي فِي نَفْسِ اللَّفْظِ أَيْضًا تَقْدِيرًا كَمَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْحُكْمِ وَإِذَا ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي اللَّفْظِ صَارَ كَمَا لَوْ فُصِلَ

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا التَّرَاخِي رَاجِعٌ إلَى الْوُجُودِ فَأَمَّا فِي حُكْمِ التَّكَلُّمِ فَمُتَّصِلٌ. بَيَانُهُ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَوَّلُ يَقَعُ وَيَلْغُو مَا بَعْدَهُ كَأَنَّهُ سَكَتَ عَلَى الْأَوَّلِ وَلَوْ قَدَّمَ الشَّرْطَ تَعَلَّقَ الْأَوَّلُ وَوَقَعَ الثَّانِي وَلَغَا الثَّالِثُ كَمَا إذَا قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَتَعَلَّقْنَ جَمِيعًا وَيَنْزِلْنَ عَلَى التَّرْتِيبِ سَوَاءٌ قَدَّمَ الشَّرْطَ أَوْ أَخَّرَ وَلَوْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا نَزَلَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَتَعَلَّقَ الثَّالِثُ إذَا أَخَّرَ الشَّرْطَ وَإِذَا قَدَّمَهُ تَعَلَّقَ الْأَوَّلُ وَنَزَلَ الْبَاقِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا يَتَعَلَّقُ الْكُلُّ ذَكَرَهُ فِي النَّوَادِرِ وَقَدْ يُسْتَعَارُ ثُمَّ بِمَعْنَى وَاوِ الْعَطْفِ مَجَازًا لِلْمُجَاوَرَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17] {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 46] ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالسُّكُوتِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ التَّرَاخِي رَاجِعٌ إلَى الْوُجُودِ أَيْ يُوجَدُ مَا دَلَّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ مُتَرَاخِيًا كَمَا فِي كَلِمَةِ بَعْدَ لَا فِي التَّكَلُّمِ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ حَقِيقَةً وَكَيْفَ يُجْعَلُ التَّكَلُّمُ مُنْفَصِلًا وَالْعَطْفُ لَا يَصِحُّ مَعَ الِانْفِصَالِ فَيَبْقَى الِاتِّصَالُ حُكْمًا مُرَاعَاةً لِحَقِّ الْعَطْفِ بَيَانُهُ فِيمَنْ قَالَ إلَى آخِرِهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ أَمَّا إنْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِكَلِمَةِ ثُمَّ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا أَوْ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَأَمَّا إنْ قَدَّمَ الشَّرْطَ أَوْ أَخَّرَهُ فَإِذَا أَخَّرَ الشَّرْطَ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقَعُ الْأَوَّلُ فِي الْحَالِ وَيَلْغُو مَا بَعْدَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ كَأَنَّهُ سَكَتَ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ لَا يَتَوَقَّفُ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى آخِرِهِ إنْ وُجِدَ الْمُغَيِّرُ فِي آخِرِهِ لِفَوَاتِ شَرْطِ التَّوَقُّفِ وَهُوَ الِاتِّصَالُ فَيَقَعُ الْأَوَّلُ فِي الْحَالِ وَتَبِينُ لَا إلَى عِدَّةٍ فَيَلْغُو مَا بَعْدَهُ ضَرُورَةً كَمَا إذَا وُجِدَ حَقِيقَةُ السُّكُوتِ. وَإِذَا قَدَّمَ الشَّرْطَ فَقَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ تَعَلَّقَ الْأَوَّلُ بِالشَّرْطِ وَوَقَعَ الثَّانِي لِبَقَاءِ الْمَحَلِّ إذْ الْمُعَلَّقُ لَا يُتْرَكُ فِي الْمَحَلِّ وَلَغَا الثَّالِثُ لِأَنَّهَا بَانَتْ لَا إلَى عِدَّةٍ وَلَا يُقَالُ يَنْبَغِي أَنْ يَلْغُوَ الثَّانِي أَيْضًا لِأَنَّ الْكَلَامَ الثَّانِيَ لَمَّا انْقَطَعَ عَنْ الْأَوَّلِ حَتَّى ظَهَرَ أَثَرُ الِانْقِطَاعِ فِي عَدَمِ التَّعَلُّقِ بِالشَّرْطِ لَا يَثْبُتُ لَهُ شَرِكَةٌ فِيمَا تَمَّ بِهِ الْأَوَّلُ وَلَا يَصِيرُ ذَلِكَ كَالْمُعَادِ فِيهِ أَيْضًا لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِشَرْطِ الِاتِّصَالِ وَهُوَ مَعْدُومٌ فَيَبْقَى قَوْلُهُ ثُمَّ طَالِقٌ بِلَا مُبْتَدَأٍ وَلَوْ اسْتَأْنَفَ بِهِ حَقِيقَةً لَا يَقَعُ شَيْءٌ فَكَذَا إذَا صَارَ مُسْتَأْنَفًا حُكْمًا لِأَنَّا نَقُولُ صِحَّةُ الْعَطْفِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاتِّصَالِ صُورَةً وَذَلِكَ مَوْجُودٌ هَهُنَا فَأَمَّا التَّعَلُّقُ بِالشَّرْطِ فَمَبْنِيٌّ عَلَى اتِّصَالِ الْكَلَامِ صُورَةً وَمَعْنًى وَلِهَذَا اخْتَصَّ بِحَرْفِ الْفَاءِ الَّذِي يُوجِبُ الْوَصْلَ حَتَّى لَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَأَنْتِ طَالِقٌ لَا يَثْبُتُ التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ لَا يَتَعَلَّقُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ بِالشَّرْطِ لِعَدَمِ مَا يُوجِبُ التَّعْلِيقَ وَهُوَ حَرْفُ الْفَاءِ وَلَكِنْ يَثْبُتُ الشَّرِكَةُ فِيمَا تَمَّ بِهِ الْجُمْلَةُ الْأُولَى لِلِاتِّصَالِ صُورَةً وَيُمْكِنُ ذَلِكَ بِدُونِ الْعَاطِفِ بِأَنْ يُجْعَلَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ وَإِذَا أَخَّرَ الشَّرْطَ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا أَوْ قَدَّمَهُ تَعَلَّقَ بِالشَّرْطِ مَا يَلِيهِ وَوَقَعَ الثَّانِي فِي الْحَالِ وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَعِنْدَهُمَا يَتَعَلَّقُ الْكُلُّ بِالشَّرْطِ فِي الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ وَيَنْزِلْنَ عَلَى التَّرْتِيبِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لِأَنَّ كَلِمَةَ ثُمَّ لِلْعَطْفِ بِصِفَةِ التَّرَاخِي فَلِوُجُودِ مَعْنَى الْعَطْفِ يَتَعَلَّقُ الْكُلُّ بِالشَّرْطِ وَلِمَعْنَى التَّرَاخِي يَقَعُ مُرَتَّبًا فَإِذَا كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا تَطْلُقُ وَاحِدَةً وَيَلْغُو الثَّانِي لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ بِالْبَيْنُونَةِ قَوْلُهُ (كَمَا إذَا قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ) يَعْنِي لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا تَعَلَّقَ الْأَوَّلُ بِالشَّرْطِ وَوَقَعَ الثَّانِي وَلَغَا الثَّالِثُ وَلَوْ أَخَّرَ الشَّرْطَ طَلُقَتْ وَاحِدَةً فِي الْحَالِ وَلَغَا مَا سِوَاهَا وَلَوْ قَدَّمَ الشَّرْطَ أَوْ أَخَّرَهُ وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ مَدْخُولًا بِهَا طَلُقَتْ ثِنْتَيْنِ لِلْحَالِ وَتَعَلَّقَ بِالشَّرْطِ مَا يَلِيهِ وَهَذِهِ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ مَذْكُورَةٌ فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ فَتَصْلُحُ مَقِيسًا عَلَيْهَا لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ قَوْلُهُ (وَقَدْ يُسْتَعَارُ ثُمَّ بِمَعْنَى الْوَاوِ) وَإِذَا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ مُسْتَعَارًا لَهُ لِلْوَاوِ احْتِرَازًا عَنْ الْإِلْغَاءِ لِلْمُجَاوَرَةِ أَيْ لِلِاتِّصَالِ الَّذِي بَيْنَهُمَا فِي مَعْنَى الْعَطْفِ فَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْعَطْفِ وَثُمَّ لِعَطْفٍ مُقَيَّدٍ وَالْمُطْلَقُ دَاخِلٌ فِي الْمُقَيَّدِ فَيَثْبُتُ بَيْنَهُمَا اتِّصَالٌ مَعْنَوِيٌّ فَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ بِمَعْنَى الْوَاوِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى

وَلِهَذَا قُلْنَا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ لْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ» إنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِ مُمْكِنٌ لِأَنَّا نَعْمَلُ بِحَقِيقَةِ مُوجَبِ الْأَمْرِ فَيُجْعَلُ الْكَفَّارَةُ وَاجِبَةً بَعْدَ الْحِنْثِ وَرُوِيَ «فَلْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ ثُمَّ لْيَأْتِ بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ» فَحَمَلْنَا هَذَا عَلَى وَاوِ الْعَطْفِ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِحَقِيقَتِهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَهُوَ مُوجَبُ الْأَمْرِ لِأَنَّ التَّكْفِيرَ قَبْلَ الْحِنْثِ غَيْرُ وَاجِبٍ فَكَانَ الْمَجَازُ مُتَعَيِّنًا تَحْقِيقًا لِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَإِذَا صَحَّ بِأَنْ يُسْتَعَارَ ثُمَّ لِلْوَاوِ ـــــــــــــــــــــــــــــQ {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17] أَيْ وَكَانَ لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِحَقِيقَةِ ثُمَّ إذْ الْإِيمَانُ هُوَ الْأَصْلُ الْمُقَدَّمُ الَّذِي يُبْتَنَى عَلَيْهِ سَائِرُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَهُوَ شَرْطُ صِحَّتِهَا فَلَا يَكُونُ فَكُّ الرَّقَبَةِ وَالْإِطْعَامُ مُعْتَبَرَيْنِ قَبْلَهُ كَالصَّلَاةِ قَبْلَ الطَّهَارَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بِمَعْنَى الْوَاوِ وَذَكَرَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ كَلِمَةَ التَّرَاخِي لِبَيَانِ تَبَايُنِ الْمَنْزِلَتَيْنِ كَمَا أَنَّهَا لِبَيَانِ تَبَايُنِ الْوَقْتَيْنِ فِي جَاءَنِي زَيْدٌ ثُمَّ عَمْرٌو. وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَاءَ بِثُمَّ لِتَرَاخِي الْإِيمَانِ وَتَبَاعُدِهِ فِي الرُّتْبَةِ وَالْفَضِيلَةِ عَنْ الْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ لَا فِي الْوَقْتِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ السَّابِقُ الْمُقَدَّمُ عَلَى غَيْرِهِ وَذَكَرَ فِي التَّيْسِيرِ أَنَّهَا لِتَرْتِيبِ الْإِخْبَارِ لَا لِتَرْتِيبِ الْوُجُودِ أَيْ ثُمَّ أُخْبِرُكُمْ أَنَّ هَذَا لِمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 46] قَدْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ ثُمَّ لِأَنَّهُ تَعَالَى شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ قَبْلَ رُجُوعِهِمْ إلَيْهِ كَمَا هُوَ شَهِيدٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَانَ بِمَعْنَى الْوَاوِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ: إنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ ... ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهْ قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ الْمُرَادُ مِنْ الشَّهَادَةِ مُقْتَضَاهَا وَنَتِيجَتُهَا وَهُوَ الْعِقَابُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ ثُمَّ اللَّهُ يُعَاقِبُ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ وَقَالَ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ أَنَّ اللَّهَ مُؤَدٍّ شَهَادَتَهُ عَلَى أَفْعَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُنْطِقُ جُلُودَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ شَاهِدَةً عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ وَلِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَوُجُوبِ الْمَصِيرِ إلَى الْمَجَازِ عِنْدَ التَّعَذُّرِ قُلْنَا كَذَا. وَلِجَوَازِ اسْتِعَارَةِ ثُمَّ لِلْوَاوِ قُلْنَا كَذَا إذَا عَجَّلَ الْكَفَّارَةَ بِالْمَالِ قَبْلَ الْحِنْثِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ ثُمَّ لِيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» شَرَعَ الْكَفَّارَةَ قَبْلَ الْحِنْثِ وَمَا رُوِيَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ لْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ» مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ وَهَذَا عَلَى الْجَوَازِ وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ لْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ» رَتَّبَ وَالتَّرْتِيبُ لِلْوُجُوبِ فِي الشَّرْعِ فَحَمَلْنَا ثُمَّ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّكْفِيرِ وَهُوَ قَوْلُهُ ثُمَّ لِيُكَفِّرْ يَبْقَى عَلَى حَقِيقَتِهِ إذْ الْكَفَّارَةُ وَاجِبَةٌ بَعْدَ الْحِنْثِ بِالِاتِّفَاقِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الْمَشْهُورُ وَلَا تُعَارِضُهَا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى وَهُوَ قَوْلُهُ «فَلْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ ثُمَّ لِيَأْتِ بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ» لِأَنَّهَا غَيْرُ مَشْهُورَةٍ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَلَوْ صَحَّتْ كَانَ ثُمَّ فِيهَا مَحْمُولًا عَلَى الْوَاوِ لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِحَقِيقَتِهِ إذْ لَوْ حُمِلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَا يَكُونُ الْأَمْرُ بِالتَّكْفِيرِ لِلْوُجُوبِ حِينَئِذٍ لِأَنَّ التَّكْفِيرَ قَبْلَ الْحِنْثِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْجَوَازِ فَإِنْ قِيلَ فِيمَا ذَكَرْتُمْ تُرِكَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ ثُمَّ. وَإِنْ كَانَ فِيهِ عَمَلٌ بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَفِيمَا قُلْنَا عَكْسُهُ فَبِمَ تَرَجَّحَ مَا ذَكَرْتُمْ قُلْنَا يَكُونُ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ سَوْقِ الْكَلَامِ إذْ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْ الْيَمِينِ الْبِرُّ وَالْكَفَّارَةُ خَلَفٌ عَنْهُ فَحَمْلُ مَا هُوَ رَاجِعٌ إلَى الْمَقْصُودِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى مِنْ عَكْسِهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ تَحْقِيقًا لِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَبِأَنَّ فِيمَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ تَرْكَ الْحَقِيقَةِ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ تَرْكُ الْعَمَلِ بِحَقِيقَةِ ثُمَّ وَفِيمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ تَرْكُ الْحَقِيقَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ وَهُمَا حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَتَرْكُ الْعَمَلِ بِالْإِطْلَاقِ لِأَنَّ التَّكْفِيرَ بِالصَّوْمِ قَبْلَ الْحِنْثِ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ وَالْأَمْرُ بِالتَّكْفِيرِ ثَبَتَ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِالْمَالِ فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أَحَقَّ وَفِيمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ

فَالْفَاءُ بِهِ أَوْلَى لِأَنَّ جَوَازَهُ بِالْفَاءِ أَقْرَبُ وَلِهَذَا قَالَ مَشَايِخُنَا فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ فَطَالِقٌ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا إنَّ هَذَا عَلَى الِاخْتِلَافِ مِثْلُ مَا اخْتَلَفُوا فِي الْوَاوِ إلَّا أَنَّ الْحَقِيقَةَ أَوْلَى فَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا الِاتِّفَاقَ فِي هَذَا وَإِذَا قَدَّمَ الْجَزَاءَ بِحَرْفِ الْفَاءِ فَعَلَى هَذَا أَيْضًا. . ـــــــــــــــــــــــــــــQتَرْكُ حَقِيقَةِ الْكَلَامِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَّقَ التَّكْفِيرَ بِأَمْرَيْنِ بِالْحَلِفِ وَبِرُؤْيَةِ الْحِنْثِ خَيْرًا وَجَوَازُ التَّعْجِيلِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَيْرِيَّةِ عَلَى أَصْلِهِمْ وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهُ عِبَارَةً عَنْ الْوَاوِ مَجَازًا دُونَ الْفَاءِ مَعَ أَنَّ الْفَاءَ أَقْرَبُ إلَيْهِ لِأَنَّ الْفَاءَ يُوجِبُ تَرْتِيبًا أَيْضًا فَلَا يَحْصُلُ الْغَرَضُ إذْ يَبْقَى الْأَمْرُ غَيْرَ مُوجَبٍ كَمَا كَانَ وَلَا يُقَالُ لَمَّا صَارَ بِمَعْنَى الْوَاوِ يَجِبُ أَنْ يَجُوزَ كَيْفَ مَا كَانَ عَمَلًا بِمُطْلَقِ الْعَطْفِ لِأَنَّا إنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْوَاوِ لِيَبْقَى الْأَمْرُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَلَوْ قُلْنَا بِالْجَوَازِ كَيْفَ مَا كَانَ لَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ فَجَعَلْنَاهُ مُقَيَّدًا بِتَرْتِيبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ وَإِنْ صَارَ بِمَعْنَى الْوَاوِ لِيَبْقَى الْأَمْرُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَلِيَتَوَافَقَ الرِّوَايَتَانِ. قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ» الْيَمِينُ خِلَافُ الْيَسَارِ فِي الْأَصْلِ وَسُمِّيَ الْقَسَمُ بِالْيَمِينِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَمَاسَحُونَ بِأَيْمَانِهِمْ حَالَةَ التَّحَالُفِ وَقَدْ يُسَمَّى الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ يَمِينًا لِتَلَبُّسِهِ بِهَا وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ» وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ فِي جَمِيعِ الْمَعَانِي كَذَا فِي الْمُغْرِبِ قَوْلُهُ (فَالْفَاءُ بِهِ أَوْلَى) أَيْ الْوَاوُ أَوْلَى مِنْ ثُمَّ لِأَنَّ جَوَازَ الْفَاءِ بِالْوَاوِ أَقْرَبُ مِنْ جَوَازِ ثُمَّ بِالْوَاوِ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ وَمَعْنَى الْجَمْعِ فِي التَّعْقِيبِ مَعَ الْوَصْلِ أَقْرَبُ مِنْهُ فِي التَّعْقِيبِ مَعَ الْفَصْلِ فَكَانَ أَحَقَّ بِجَوَازِ الِاسْتِعَارَةِ لِلْوَاوِ مِنْ ثُمَّ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دِرْهَمٌ فَدِرْهَمٌ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ كَمَا لَوْ قَالَ دِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ وَلِهَذَا أَيْ وَلِقُرْبِ جَوَازِهِ بِالْوَاوِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا مِنْهُمْ الطَّحَاوِيُّ إنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ فَطَالِقٌ بِمَعْنَى الْوَاوِ لِتَعَذُّرِ حَمْلِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فَيَقَعُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَاحِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا ثَلَاثٌ إلَّا أَنَّ الْحَقِيقَةَ أَوْلَى يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ تَعَذُّرَ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُتَعَذِّرَةً كَانَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ أَوْلَى فَكَانَتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى الِاتِّفَاقِ لَا عَلَى الِاخْتِلَافِ فَلَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةً عِنْدَهُمْ جَمِيعًا لِأَنَّ فِي كَلَامِهِ تَنْصِيصًا عَلَى أَنَّ الثَّانِيَةَ تَعْقُبُ الْأُولَى فَتَبِينُ الْأُولَى لَا إلَى عِدَّةٍ بِخِلَافِ الْوَاوِ. وَإِذَا قَدَّمَ الْجَزَاءَ بِحَرْفِ الْفَاءِ فَقَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ فَطَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَعَلَى هَذَا أَيْضًا أَيْ لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةً بِالِاتِّفَاقِ كَمَا إذَا قَدَّمَ الشَّرْطَ لِأَنَّ مُوجَبَ الْفَاءِ لَمَّا كَانَ هُوَ التَّرْتِيبُ كَانَ النُّزُولُ عَلَى التَّرْتِيبِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَلَا يَتَفَاوَتُ الْأَمْرُ بَيْنَ تَقْدِيمِ الْجَزَاءِ وَتَأْخِيرِهِ وَعِنْدَ أُولَئِكَ الْبَعْضِ يَنْبَغِي أَنْ تَقَعَ الثَّلَاثُ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا إذَا قَدَّمَ الْجَزَاءَ بِحَرْفِ الْوَاوِ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ تَطْلُقُ ثَلَاثًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِالِاتِّفَاقِ وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ أَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ فَطَالِقٌ بِحَرْفِ الْفَاءِ لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَوَابَهُ فِي الْكِتَابِ وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي الْمُخْتَلِفَاتِ أَنَّهُ يَقَعُ عِنْدَ الْكُلِّ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ مَتَى وُجِدَ الشَّرْطُ سَوَاءٌ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ لَمْ تَكُنْ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الِاخْتِلَافِ وَإِنْ أَخَّرَ الشَّرْطَ فَبِالْإِجْمَاعِ يَقَعُ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ لِأَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ بِكَلِمَةِ الْوَاوِ يَقَعُ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُ الْوَصْلَ فَإِذَا ذَكَرَ بِكَلِمَةِ الْفَاءِ وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْوَصْلَ أَوْلَى وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ فَإِنْ قَدَّمَ الشَّرْطَ فَقَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ أَوْ قَالَ بِحَرْفِ الْفَاءِ وَالْمَرْأَةُ غَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا فَدَخَلَتْ

[معانى بل]

وَأَمَّا بَلْ فَمَوْضُوعٌ لِإِثْبَاتِ مَا بَعْدَهُ وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا قَبْلَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّدَارُكِ يُقَالُ جَاءَنِي زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو وَلِهَذَا قَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَنْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ بَلْ أَلْفَانِ إنَّهُ يَلْزَمُهُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الثَّانِيَ وَأَبْطَلَ الْأَوَّلَ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ إبْطَالَ الْأَوَّلِ فَلَزِمَاهُ كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَا بَلْ ثِنْتَيْنِ إنَّهَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا وَقُلْنَا نَحْنُ إنَّمَا وُضِعَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ لِلتَّدَارُكِ وَذَلِكَ فِي الْعَادَاتِ بِأَنْ يُنْفَى انْفِرَادُهُ وَيُرَادَ بِالْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ كَمَالُهَا بِالْأُولَى وَهَذَا فِي الْإِخْبَارِ مُمْكِنٌ كَرَجُلٍ يَقُولُ سِنِّي سِتُّونَ بَلْ سَبْعُونَ زِيَادَةَ عَشْرٍ عَلَى الْأَوَّلِ فَأَمَّا الْإِنْشَاءُ فَلَا يَحْتَمِلُ تَدَارُكَ الْغَلَطِ وَقَعَ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ حَتَّى إذَا قَالَ كُنْت طَلَّقْت أَمْسِ امْرَأَتِي وَاحِدَةً بَلْ ثِنْتَيْنِ أَوْ لَا بَلْ ثِنْتَيْنِ وَقَعَتْ ثِنْتَانِ لِمَا قُلْنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQالدَّارَ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا تَقَعُ ثَلَاثٌ، وَلَوْ كَانَتْ مَدْخُولَةً تَقَعُ الثَّلَاثُ بِالْإِجْمَاعِ، عِنْدَهُ مُتَتَابِعَةً وَعِنْدَهُمَا جُمْلَةً وَلَوْ أَخَّرَ الشَّرْطَ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَذَكَرَهُ بِالْفَاءِ فَإِنَّهَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا سَوَاءٌ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ لَمْ تَكُنْ فَالطَّحَاوِيُّ جَعَلَ كَلِمَةَ الْفَاءِ مِثْلَ كَلِمَةِ الْوَاوِ قَدَّمَ الشَّرْطَ أَوْ أَخَّرَ. وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ أَنَّهَا مِثْلُ كَلِمَةِ بَعْدَ فَقَالَ إذَا قَالَ لَهَا إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ فَطَالِقٌ إنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا تَقَعُ الثَّلَاثُ مُتَتَابِعَةً وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ بِالْإِجْمَاعِ [معانى بَلْ] قَوْلُهُ (وَأَمَّا بَلْ) اعْلَمْ أَنَّ كَلِمَةَ بَلْ مَوْضُوعَةٌ لِلْإِضْرَابِ عَنْ الْأَوَّلِ مَنْفِيًّا كَانَ أَوْ مُوجَبًا وَالْإِثْبَاتُ لِلثَّانِي عَلَى سَبِيلِ التَّدَارُكِ لِلْغَلَطِ فَإِذَا قُلْت جَاءَنِي زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو كُنْت قَاصِدًا لِلْإِخْبَارِ بِمَجِيءِ زَيْدٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَك أَنَّك غَلِطْت فِي ذَلِكَ فَتُضْرِبُ عَنْهُ إلَى عَمْرٍو فَتَقُولُ بَلْ عَمْرٌو وَإِذَا قُلْت مَا جَاءَنِي زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مَا جَاءَنِي زَيْدٌ بَلْ مَا جَاءَنِي عَمْرٌو فَكَأَنَّك قَصَدْت أَنْ تُثْبِتَ نَفْيَ الْمَجِيءِ لِزَيْدٍ ثُمَّ اسْتَدْرَكْت فَأَثْبَتّه لِعَمْرٍو وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مَا جَاءَنِي زَيْدٌ بَلْ جَاءَنِي عَمْرٌو فَيَكُونُ نَفْيُ الْمَجِيءِ ثَابِتًا لِزَيْدٍ وَيَكُونُ إثْبَاتُهُ لِعَمْرٍو وَيَكُونُ الِاسْتِدْرَاكُ فِي الْفِعْلِ وَحْدَهُ دُونَ الْفِعْلِ وَحَرْفِ النَّفْيِ مَعًا كَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ عَبْدُ الْقَاهِرِ وَقَدْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ كَلِمَةُ (لَا) تَأْكِيدًا لِلنَّفْيِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ. وَإِنَّمَا يَصِحُّ الْإِضْرَابُ عَنْ الْكَلَامِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ إذَا كَانَ الصَّدْرُ مُحْتَمِلًا لِلرَّدِّ وَالرُّجُوعِ فَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْعَطْفِ الْمَحْضِ فَيَعْمَلُ فِي إثْبَاتِ الثَّانِي مَضْمُومًا إلَى الْأَوَّلِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ دُونَ التَّرْتِيبِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَا بَلْ ثِنْتَيْنِ تَطْلُقُ ثَلَاثًا لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَمَّا أَوْقَعَ وَبِمِثْلِهِ لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ طَلِّقْ امْرَأَتِي فُلَانَةَ لَا بَلْ فُلَانَةَ يَمْلِكُ أَنْ يُطَلِّقَ الثَّانِيَةَ دُونَ الْأُولَى لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ التَّوْكِيلِ مِنْهُ صَحِيحٌ كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ لِشَمْسِ الْأَئِمَّةِ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِكَوْنِهِ إعْرَاضًا عَمَّا قَبْلَهُ وَإِثْبَاتًا لِمَا بَعْدَهُ قَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ بَلْ أَلْفَانِ يَلْزَمُهُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّ كَلِمَةَ بَلْ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْأَوَّلِ وَإِقَامَةِ الثَّانِي مَقَامَهُ وَرُجُوعُهُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْأَلْفِ بَاطِلٌ وَإِقْرَارُهُ بِالْأَلْفَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْإِقَامَةِ مَقَامَ الْأَوَّلِ صَحِيحٌ فَيَلْزَمُهُ الْمَالَانِ كَمَا لَوْ قَالَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ بَلْ أَلْفُ دِينَارٍ أَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَا بَلْ ثِنْتَيْنِ وَقُلْنَا يَلْزَمُهُ أَلْفَانِ لَا غَيْرُ وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ وُضِعَتْ لِتَدَارُكِ الْغَلَطِ إلَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ فِي الْعَادَةِ تَدَارُكُهُ بِنَفْيِ انْفِرَادِ مَا أَقَرَّ بِهِ أَوَّلًا لَا بِنَفْيِ أَصْلِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَصْلَهُ دَاخِلٌ فِي الْكَلَامِ الثَّانِي فَلَوْ صَحَّ التَّدَارُكُ بِنَفْيِ أَصْلِهِ لَاجْتَمَعَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَعُلِمَ أَنَّ تَدَارُكَ الْغَلَطِ فِي هَذَا الْكَلَامِ بِإِثْبَاتِ الزِّيَادَةِ الَّتِي نَفَاهَا فِي الْكَلَامِ الْأَوَّلِ تَقْدِيرًا فَكَأَنَّهُ قَالَ عَلَيَّ أَلْفٌ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ ثُمَّ اسْتَدْرَكَ النَّفْيُ بِقَوْلِهِ بَلْ أَلْفَانِ أَيْ غَلِطْت فِي نَفْيِ الْغَيْرِ عَنْهُ بَلْ مَعَ ذَلِكَ الْأَلْفِ آخَرُ كَمَا يُقَالُ حَجَجْت حَجَّةً لَا بَلْ حَجَّتَيْنِ كَانَ اسْتِدْرَاكًا لِنَفْيِ الِانْفِرَادِ عَنْهَا وَإِخْبَارًا لِحَجَّتَيْنِ لَا غَيْرُ وَكَمَا يُقَالُ جَاءَنِي رَجُلٌ بَلْ رَجُلَانِ كَانَ اسْتِدْرَاكًا لِانْفِرَادِهِ لَا لِأَصْلِ مَجِيئِهِ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا

وَلِهَذَا قُلْنَا فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَا بَلْ ثِنْتَيْنِ أَوْ بَلْ ثِنْتَيْنِ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا إنَّهَا تَطْلُقُ وَاحِدَةً لِأَنَّهُ قَصَدَ إثْبَاتَ الثَّانِي مَقَامَ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَمْلِكْ لِأَنَّهَا بَانَتْ وَلِهَذَا قَالُوا جَمِيعًا فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَا بَلْ ثِنْتَيْنِ أَوْ بَلْ ثِنْتَيْنِ إنَّهَا إذَا دَخَلَتْ طَلُقَتْ ثَلَاثًا لِأَنَّ هَذَا لَمَّا كَانَ لِإِبْطَالِ الْأَوَّلِ وَإِقَامَةِ الثَّانِي مَقَامَهُ كَانَ مِنْ قَضِيَّتِهِ اتِّصَالُهُ بِذَلِكَ الشَّرْطِ بِلَا وَاسِطَةٍ لَكِنْ بِشَرْطِ إبْطَالِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ إبْطَالُ الْأَوَّلِ وَلَكِنْ فِي وُسْعِهِ إفْرَادُ الثَّانِي بِالشَّرْطِ لِيَتَّصِلَ بِهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ كَأَنَّهُ قَالَ لَا بَلْ أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَيَصِيرُ كَالْحَلِفِ بِالْيَمِينَيْنِ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَطْفِ بِالْوَاوِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَثِنْتَيْنِ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا إنَّهَا تَبِينُ بِالْوَاحِدَةِ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ عَلَى تَقْدِيرِ الْأَوَّلِ فَيَصِيرُ مَعْطُوفًا عَلَى سَبِيلِ الْمُشَارَكَةِ فَيَصِيرُ مُتَّصِلًا بِذَلِكَ الشَّرْطِ بِوَاسِطَةٍ وَلَا يَصِيرُ مُنْفَرِدًا بِشَرْطِهِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الشَّرِكَةِ فِي اتِّحَادِ الشَّرْطِ فَيَصِيرُ الثَّانِي مُتَّصِلًا بِهِ بِوَاسِطَةِ الْأَوَّلِ فَقَدْ جَاءَ التَّرْتِيبُ وَيَتَّصِلُ بِهَذَا أَنَّ الْعَطْفَ مَتَى تَعَارَضَ لَهَا شَبَهَانِ اُعْتُبِرَ أَقْوَاهُمَا لُغَةً ـــــــــــــــــــــــــــــQاخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَالِ لِأَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّهُ أَعَادَ الْقَدْرَ الْأَوَّلَ وَزَادَ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَا أَقَرَّ بِهِ أَوَّلًا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْكَلَامِ الثَّانِي بِخِلَافِ مَا إذَا اتَّفَقَ الْجِنْسُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ حَجَجْت حَجَّةً لَا بَلْ عُمْرَتَيْنِ وَبِخِلَافِ الطَّلَاقِ أَيْضًا لِأَنَّهُ إنْشَاءٌ أَيْ إخْرَاجٌ مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ وَبَعْدَمَا ثَبَتَ وُجُودُ شَيْءٍ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ بِأَنْ يُجْعَلَ غَيْرَ مَوْجُودٍ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَلَا يَصِحُّ اسْتِدْرَاكُهُ حَتَّى لَوْ أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْإِخْبَارِ كَانَ إقْرَارًا بِالثِّنْتَيْنِ اسْتِحْسَانًا خِلَافًا لَهُ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا إنَّ الْغَلَطَ فِي الْإِخْبَارِ قَدْ يَتَمَكَّنُ وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ عَلَيَّ أَلْفَانِ بَلْ أَلْفٌ أَوْ عَلَيَّ أَلْفُ دِينَارٍ لَا بَلْ زُيُوفٌ يَلْزَمُهُ أَزْيَدُ الْمَالَيْنِ وَأَفْضَلُهُمَا وَهُمَا الْأَلْفَانِ وَالْجِيَادُ فِي الِاسْتِحْسَانِ لِأَنَّهُ قَصَدَ اسْتِدْرَاكَ الْغَلَطِ بِالرُّجُوعِ عَنْ بَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ أَوَّلًا أَوْ وَصَفَهُ فَلَمْ يَعْمَلْ وَفِي الْقِيَاسِ يَلْزَمُهُ الْمَالَانِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِكَوْنِهِ لِلْإِعْرَاضِ عَمَّا قَبْلَهُ وَإِقَامَةِ الثَّانِي مَقَامَهُ قُلْنَا إذَا قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَلْ ثِنْتَيْنِ إنَّهَا تَطْلُقُ وَاحِدَةً لِأَنَّهُ قَصَدَ الرُّجُوعَ عَنْ الْأَوَّلِ بِإِثْبَاتِ الثَّانِي مَقَامَهُ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الرُّجُوعِ لِأَنَّهُ لَازِمٌ وَلَا عَلَى إقَامَةِ الثَّانِي مَقَامَهُ وَإِيقَاعِهِ لِأَنَّهَا لَمْ تَبْقَ مَحَلًّا بِوُقُوعِ الْأَوَّلِ فَلَغَا آخِرُ كَلَامِهِ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِمَا ذَكَرْنَا قَالُوا جَمِيعًا إلَى آخِرِهِ. قَالَ أَبُو الْيُسْرِ إنَّمَا يَقَعُ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ عِنْدَ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَدْ تَعَلَّقَ الطَّلَاقُ بِالشَّرْطِ فَإِذَا قَالَ لَا بَلْ تَطْلِيقَتَيْنِ فَقَدْ قَصَدَ الرُّجُوعَ وَإِقَامَةَ التَّطْلِيقَتَيْنِ مَقَامَهُ فَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِالشَّرْطِ عَلَى سَبِيلِ اللُّزُومِ وَتَعْلِيقُ الثِّنْتَيْنِ بِالشَّرْطِ يَصِحُّ لِأَنَّهُ فِي وُسْعِهِ وَقَدْ أَتَى بِهِ لِأَنَّ اللَّفْظَ يُنْبِئُ عَنْهُ فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الشَّرْطَ ثَبَتَ هُنَا مَذْكُورًا إلَّا أَنَّهُ حُذِفَ اخْتِصَارًا فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ فَدَخَلَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً تَقَعُ الثَّلَاثُ وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ حَيْثُ يَقَعُ وَاحِدَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ الْوَاوَ مَا وُضِعَتْ لِلِاسْتِدْرَاكِ وَلَكِنَّهَا لِلْعَطْفِ فَالْأَوَّلُ تَعَلَّقَ بِالشَّرْطِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَالثَّانِي تَعَلَّقَ بِذَلِكَ الشَّرْطِ بِوَاسِطَةٍ فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ نَزَلَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَعَلَّقَ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ إنَّمَا يُجْعَلُ مُكَرَّرًا إمَّا لِضَرُورَةٍ أَوْ لِأَنَّ اللَّفْظَ دَالٌّ عَلَيْهِ لُغَةً أَمَّا الضَّرُورَةُ فَمِثَالُهُ قَوْلُهُ جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو. ثَبَتَ مَجِيءُ كُلِّ وَاحِدٍ مُنْفَرِدًا ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ مَجِيئُهُمَا بِمَجِيءِ وَاحِدٍ وَأَمَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ لُغَةً فَحَرْفُ (بَلْ) فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى وُجُودِ الشَّرْطِ لُغَةً عَلَى مَا بَيَّنَّا. قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَعْضِ تَصَانِيفِهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَيْ إنَّهُ يُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ يَمِينَيْنِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ الشَّرْطُ مُدْرَجًا صَارَ مَعْطُوفًا وَهُوَ يَقْتَضِي الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بِدُونِهِ لَا يُتَصَوَّرُ فَيَثْبُتُ الْوَاسِطَةُ ح بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مُوجَبَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ بَلْ مُوجَبُهَا مَا ذَكَرْنَا فَصَارَ كَأَنَّهُ أَعَادَ الشَّرْطَ وَهَذَا تَعْلِيلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّهُ قَالَ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ (لَا بَلْ ثِنْتَيْنِ) إنْ دَخَلْت قَوْلُهُ (وَيَتَّصِلُ بِهَذَا) أَيْ بِبَابِ الْعَطْفِ أَنَّ الْعَطْفَ مَتَى تَعَارَضَ لَهُ شَبَهَانِ أَيْ جِهَتَانِ اُعْتُبِرَ أَقْوَاهُمَا لُغَةً وَإِنْ بَعُدَ ذَلِكَ الشَّبَهُ لِأَنَّ الْقُرْبَ لَا يُقَابِلُ الْقُوَّةَ فَيُعْتَبَرُ الْقُوَّةُ أَوَّلًا ثُمَّ الْقُرْبُ ثَانِيًا نَحْوُ الْكِنَايَةِ تَنْصَرِفُ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ فِي الْكَلَامِ أَوَّلًا لِأَنَّهُ أَقْوَى

فَإِنْ اسْتَوَيَا اُعْتُبِرَ أَقْرَبُهُمَا مِثَالُهُ مَا قَالَ فِي الْجَامِعِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ لَا بَلْ هَذِهِ لِامْرَأَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ جُعِلَ عَطْفًا عَلَى الْجَزَاءِ دُونَ الشَّرْطِ لِأَنَّا لَوْ عَطَفْنَاهُ عَلَى الشَّرْطِ كَانَ قَبِيحًا لِأَنَّهُ ضَمِيرٌ مَرْفُوعٌ مُتَّصِلٌ غَيْرُ مُؤَكَّدٍ بِالضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ الْمُنْفَصِلِ وَهُوَ التَّاءُ فِي قَوْلِهِ دَخَلْت وَذَلِكَ قَبِيحٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] فَأَكَّدَهُ وَذَلِكَ أَنَّ الْفَاعِلَ مَعَ الْفِعْلِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ وَإِذَا كَانَ ضَمِيرُهُ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ تَأَكَّدَ الشَّبَهُ بِالْعَدَمِ فَقَبُحَ الْعَطْفُ بِخِلَافِ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ لِأَنَّهُ مُنْفَصِلٌ فِي الْأَصْلِ لِأَنَّهُ يَتِمُّ الْكَلَامُ بِدُونِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا نَظِيرُهُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ ضَرَبْتُك لَا بَلْ هَذِهِ يَنْصَرِفُ إلَى الثَّانِيَةِ فَإِذَا عَطَفْنَاهُ عَلَى الْجَزَاءِ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى ضَمِيرٍ مَرْفُوعٍ مُنْفَصِلٍ وَذَلِكَ أَحْسَنُ فَلِذَلِكَ قَدَّمْنَاهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQكَقَوْلِك رَأَيْت ابْنَ زَيْدٍ وَكَلَّمْته يَنْصَرِفُ الْكِنَايَةُ إلَى الِابْنِ دُونَ زَيْدٍ ثُمَّ إلَى الْمَكْنِيِّ الْأَقْرَبِ ثَانِيًا وَكَمَا فِي الْعَصَبَاتِ يُعْتَبَرُ قُوَّةُ الْقَرَابَةِ أَوَّلًا ثُمَّ الْقُرْبُ ثَانِيًا مِثَالُهُ رَجُلٌ لَهُ امْرَأَتَانِ فَقَالَ لِأَحَدَيْهِمَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ لَا بَلْ هَذِهِ مُشِيرًا إلَى الْمَرْأَةِ الْأُخْرَى لَا إلَى دَارٍ أُخْرَى أَنَّهُ أَيْ قَوْلُهُ لَا بَلْ هَذِهِ يُجْعَلُ عَطْفًا عَلَى الْجَزَاءِ دُونَ الشَّرْطِ حَتَّى لَوْ دَخَلَتْ الْأُولَى الدَّارَ طَلُقَتَا جَمِيعًا وَلَوْ دَخَلَتْ الْأُخْرَى لَمْ تَطْلُقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا وَلِهَذَا الْكَلَامِ وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا أَنْ يُجْعَلَ مَعْطُوفًا عَلَى الْجَزَاءِ وَتَقْدِيرُهُ لَا بَلْ هَذِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَالثَّانِي أَنْ يُجْعَلَ مَعْطُوفًا عَلَى الشَّرْطِ وَتَقْدِيرُهُ لَا بَلْ هَذِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَالثَّالِثُ أَنْ يُجْعَلَ مَعْطُوفًا عَلَى الْمَجْمُوعِ وَتَقْدِيرُهُ لَا بَلْ هَذِهِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَيَكُونُ طَلَاقُهَا مُعَلَّقًا بِدُخُولِهَا وَالْكَلَامُ لَا يُحْمَلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِحَالٍ وَيُحْمَلُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي عِنْدَ وُجُودِ النِّيَّةِ فَإِذَا عَدِمَتْ حُمِلَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ اسْتِدْلَالًا بِغَرَضِ الْمُتَكَلِّمِ وَصِيغَةِ الْكَلَامِ. أَمَّا الِاسْتِدْلَال بِالْغَرَضِ فَهُوَ أَنَّ كَلِمَةَ بَلْ تُسْتَعْمَلُ لِلتَّدَارُكِ وَالظَّاهِرُ أَنْ يَقْصِدَ الْإِنْسَانُ تَدَارُكَ أَعْظَمِ الْأَمْرَيْنِ وَالْغَلَطُ فِي الْجَزَاءِ أَهَمُّ وَأَعْظَمُ مِنْ الْغَلَطِ فِي الشَّرْطِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ لِلرُّجْحَانِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِصِيغَةِ الْكَلَامِ فَهُوَ أَنَّ الْعَطْفَ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ الْمُتَّصِلِ بَارِزًا كَانَ أَوْ مُسْتَتِرًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤَكَّدَ بِضَمِيرٍ مَرْفُوعٍ مُنْفَصِلٍ قَبِيحٌ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا تَقُولُ الْعَرَبُ فَعَلْت أَنَا وَزَيْدٌ وَقَلَّمَا تَقُولُ فَعَلْت وَزَيْدٌ بَلْ هُوَ شَيْءٌ لَا يَكَادُ يُوجَدُ إلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ} [المؤمنون: 28] فَلَمْ يَعْطِفْ عَلَى الضَّمِيرِ حَتَّى أَكَّدَهُ بِالْمُنْفَصِلِ وَإِنَّمَا وَجَبَ ذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْعَطْفِ الْمُجَانَسَةُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِيُفِيدَ الْعَطْفُ فَائِدَتَهُ وَهُوَ التَّشْرِيكُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْمَعْنَى وَلِهَذَا لَا يُعْطَفُ الِاسْمُ عَلَى الْفِعْلِ وَلَا عَلَى الْعَكْسِ ثُمَّ الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ الْمُتَّصِلُ بِمَنْزِلَةِ الْجُزْءِ مِنْ الْكَلِمَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ إعْرَابَ الْفِعْلِ يَقَعُ بَعْدَ هَذَا الضَّمِيرِ فِي نَحْوِ يَضْرِبَانِ وَيَضْرِبُونَ إذْ النُّونُ فِيهِمَا بَدَلٌ عَنْ الرَّفْعِ فِي يَضْرِبُ. وَأَلَا تَرَى أَنَّهُمْ أَسْكَنُوا لَامَ الْفِعْلِ مَعَ هَذَا الضَّمِيرِ فَقَالُوا ضَرَبْت وَضَرَبْنَا احْتِرَازًا عَنْ تَوَالِي الْحَرَكَاتِ وَإِنَّمَا يُحْتَرَزُ عَنْهُ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لَا فِي كَلِمَتَيْنِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْفِعْلِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْعَطْفُ عَلَيْهِ عَطْفًا عَلَى الْفِعْلِ فِي الظَّاهِرِ فَوَجَبَ تَأْكِيدُهُ بِالْمُنْفَصِلِ لِيَكُونَ عَطْفًا لِلِاسْمِ عَلَى الِاسْمِ وَلِأَنَّ الْفِعْلَ وَالْفَاعِلَ بِمَنْزِلَةِ شَيْءٍ وَاحِدٍ لِافْتِقَارِ كُلٍّ مِنْهُمَا إلَى الْآخَرِ إذْ الْفِعْلُ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْفَاعِلِ وَمَنْ قَامَ بِهِ الْفِعْلُ لَا يَتَّصِفُ بِالْفَاعِلِيَّةِ بِدُونِ الْفِعْلِ فَكَانَ لَهُ فِي ذَاتِهِ شَبَهٌ بِالْعَدَمِ نَظَرًا إلَى افْتِقَارِهِ إلَى الْفِعْلِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ بِأَنْ كَانَ مُظْهَرًا مُنْفَصِلًا لَا يُعْبَأُ بِهَذَا الشَّبَهِ اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ فَإِذَا كَانَ غَيْرَ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ بِأَنْ كَانَ ضَمِيرًا مُسْتَكِنًّا أَوْ بَارِزًا مُتَّصِلًا تَأَكَّدَ الشَّبَهُ بِالْعَدَمِ وَالْعَطْفُ عَلَى الْمَعْدُومِ حَقِيقَةً بَاطِلٌ فَعَلَى مَا تَأَكَّدَ شَبَهُهُ بِالْعَدَمِ كَانَ قَبِيحًا فَوَجَبَ التَّأْكِيدُ بِالْمُنْفَصِلِ لِيَحْصُلَ الْعَطْفُ عَلَى الْمَوْجُودِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ الْمُتَّصِلِ حَيْثُ جَازَ مِنْ غَيْرِ مُؤَكِّدٍ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQكَقَوْلِك ضَرَبْته وَزَيْدًا لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ لَفْظًا لَا تَقْدِيرًا لِأَنَّ الْمَفْعُولَ فَضْلَةٌ فِي الْكَلَامِ فَكَانَ مُنْفَصِلًا فِي التَّقْدِيرِ وَلِذَلِكَ لَا يُغَيَّرُ لَهُ الْكَلِمَةُ فَإِنَّك تَقُولُ ضَرَبَك وَضَرَبَنَا فَيَكُونُ الْبَاءُ عَلَى حَالِهَا فَلِذَلِكَ جَازَ الْعَطْفُ عَلَيْهِ فَأَمَّا مَا نَحْنُ فِي بَيَانِهِ فَمُتَّصِلٌ لَفْظًا وَتَقْدِيرًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْفَاعِلَ كَالْجُزْءِ مِنْ الْفِعْلِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَحْسُنْ الْعَطْفُ عَلَيْهِ إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ إذَا عَطَفْنَا قَوْلَهُ لَا بَلْ هَذِهِ عَلَى الشَّرْطِ صَارَ عَطْفًا عَلَى التَّاءِ فِي قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت وَهُوَ ضَمِيرٌ مَرْفُوعٌ مُتَّصِلٌ غَيْرُ مُؤَكَّدٍ بِالْمُنْفَصِلِ وَلَوْ عَطَفْنَاهُ عَلَى الْجَزَاءِ صَارَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ فَأَنْتِ وَهُوَ ضَمِيرٌ مَرْفُوعٌ مُنْفَصِلٌ فَكَانَ هَذَا أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ قَدْ جُعِلَ الْفَاصِلُ قَائِمًا مَقَامَ الْمُؤَكِّدِ فِي جَوَازِ الْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ الْمُتَّصِلِ مِنْ غَيْرِ قَبِيحٍ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ - وَامْرَأَتُهُ} [المسد: 3 - 4] فَقَوْلُهُ امْرَأَتُهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ فِي سَيَصْلَى عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ (حَمَّالَةَ) بِالنَّصْبِ وَجَازَ ذَلِكَ لِلْفَاصِلِ وَهُوَ قَوْلُهُ {نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد: 3] وَكَذَا وَلَا آَبَاؤُنَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148] مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ فِي أَشْرَكْنَا لِلْفَاصِلِ وَهُوَ كَلِمَةُ لَا وَكَذَا وَآَبَاؤُنَا فِي قَوْله تَعَالَى إخْبَارًا {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا} [النمل: 67] مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ فِي كُنَّا بِاعْتِبَارِ الْفَاصِلِ وَهُوَ تُرَابًا إلَى غَيْرِهَا مِنْ النَّظَائِرِ وَهَهُنَا قَدْ وُجِدَ الْفَاصِلُ وَهُوَ لَفْظَةُ الدَّارِ وَكَلِمَةُ لَا فَيَقْتَضِي جَوَازَ الْعَطْفِ عَلَى التَّاءِ فِي دَخَلْت مِنْ غَيْرِ قُبْحٍ كَمَا جَازَ عَلَى أَنْتَ وَاسْتِوَاءَ الشَّبَهَيْنِ فِي صِحَّةِ الْعَطْفِ وَإِذَا اسْتَوَيَا تَرَجَّحَ الْعَطْفُ عَلَى الشَّرْطِ بِالْقُرْبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ ضَرَبْتُك لَا بَلْ هَذِهِ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي ضَرَبْتُك لَا عَلَى قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ حَتَّى كَانَ طَلَاقُ الْأُولَى مُعَلَّقًا بِضَرْبِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَا تَطْلُقُ الثَّانِيَةُ بِحَالٍ لِاسْتِوَاءِ الْجِهَتَيْنِ وَتَرَجُّحِ الْأَخِيرَةِ بِالْقُرْبِ قُلْنَا إنَّمَا جُعِلَ الْفَاصِلُ قَائِمًا مَقَامَ الْمُؤَكِّدِ فِي جَوَازِ الْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ الْمُتَّصِلِ مِنْ غَيْرِ قُبْحٍ إذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الْكَلَامِ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ آخَرُ أَقْوَى مِنْهُ فَأَمَّا إذَا وُجِدَ ذَلِكَ فَالْعَطْفُ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ الْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ وَفِي مَسْأَلَتِنَا قَدْ وُجِدَ الْأَقْوَى وَهُوَ قَوْلُهُ أَنْتِ لِعَدَمِ احْتِيَاجِهِ فِي صِحَّةِ الْعَطْفِ عَلَيْهِ إلَى مُؤَكِّدٍ وَلَا فَاصِلٍ فَكَانَ أَوْلَى مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ الْعَطْفُ عَلَى الْأَقْوَى فَحِينَئِذٍ يُصَارُ إلَى مَا دُونَهُ فِي الدَّرَجَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ لَا بَلْ فُلَانٌ فَيَتَعَيَّنُ الْعَطْفُ عَلَى الشَّرْطِ وَإِنْ كَانَ ضَمِيرًا مَرْفُوعًا مُتَّصِلًا لِتَعَذُّرِ الْعَطْفِ عَلَى الْجَزَاءِ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِهِ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ. وَقَدْ جَاءَ الْعَطْفُ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ فِي قَوْلِهِ: قُلْت إذْ أَقْبَلَتْ وَزَهْرٌ تَهَادَى ... كَنِعَاجِ الْمَلَا تَعَسَّفْنَ رَمْلَا فَمَعَ الْفَصْلِ أَوْلَى ثُمَّ إنَّهُ إنْ نَوَى الْوَجْهَ الثَّانِيَ وَهُوَ الْعَطْفُ عَلَى الشَّرْطِ صَحَّ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَإِنْ دَخَلَتْ الثَّانِيَةُ أَوْ الْأُولَى الدَّارَ طَلُقَتْ الْأُولَى وَاحِدَةً وَلَوْ دَخَلَتَا فَكَذَلِكَ أَيْضًا وَذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ دَخَلَتْ الْأُولَى طَلُقَتْ الْأَخِيرَةُ أَيْضًا فِي الْحُكْمِ لِأَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي صَرْفِ الطَّلَاقِ عَنْ الثَّانِيَةِ بِدُخُولِ الْأُولَى لِأَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ بِظَاهِرِ الْعَطْفِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي إبْطَالِهِ وَإِنَّمَا صَدَّقْنَاهُ فِيمَا فِيهِ تَغْلِيظٌ عَلَيْهِ دُونَ التَّخْفِيفِ وَإِنْ نَوَى الْوَجْهَ الثَّالِثَ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ قَضِيَّةَ الْعَطْفِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ الْقِيَامُ مَقَامَ الْأَوَّلِ فِي الَّذِي تَمَّ بِهِ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ فَإِذَا تَعَذَّرَ إبْطَالُ الْأَوَّلِ وَجَبَ الشَّرِكَةُ فِي ذَلِكَ

[معانى لكن]

وَأَمَّا إذَا اسْتَوَيَا فَمِثَالُهُ مَا ذَكَرْنَا فِي الْإِقْرَارِ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَدِينَارًا أَنَّ الدِّينَارَ صَارَ دَاخِلًا فِي الِاسْتِثْنَاءِ وَصَارَ مَشْرُوطًا مَعَ الْعَشَرَةِ لَا مَعَ الْأَلْفِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ عَطْفَهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَحِيحٌ فَصَارَ مَا جَاوَرَهُ أَوْلَى. وَأَمَّا لَكِنْ فَقَدْ وُضِعَ لِلِاسْتِدْرَاكِ بَعْدَ النَّفْيِ تَقُولُ مَا جَاءَنِي زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو فَصَارَ الثَّابِتُ بِهِ إثْبَاتَ مَا بَعْدَهُ فَأَمَّا نَفْيُ الْأَوَّلِ فَيَثْبُتُ بِدَلِيلِهِ بِخِلَافِ كَلِمَةِ بَلْ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِعَيْنِهِ فَلَوْ أَفْرَدْنَاهُ بِالشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ لَبَطَلَتْ الشَّرِكَةُ وَذَلِكَ مِمَّا يُنَافِيهِ الْعَطْفُ النَّاقِصُ كَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْعَطْفِ النَّاقِصِ إنَّمَا يُجْعَلُ مَا تَقَدَّمَ كَالْمُعَادِ ضَرُورَةَ الْحَاجَةِ إلَى تَصْحِيحِ آخِرِ كَلَامِهِ فَإِنَّ قَوْلَهُ لَا بَلْ هَذِهِ غَيْرُ مَفْهُومِ الْمَعْنَى وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِصَرْفِهَا إلَى الطَّلَاقِ أَوْ إلَى الشَّرْطِ فَلَا يُصَارُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا إذَا اسْتَوَيَا) أَيْ اسْتَوَى الشَّبَهَانِ فِي صِحَّةِ الْعَطْفِ وَحُسْنِهِ فَمِثَالُهُ مَا لَوْ قَالَ إنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَدِينَارًا كَانَ الدِّينَارُ مَعْطُوفًا عَلَى الْعَشَرَةِ لَا عَلَى الْأَلْفِ حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهُ مُسْتَثْنَاةً مِثْلَ الْعَشَرَةِ فَيَلْزَمُهُ تِسْعُمِائَةٍ وَثَمَانُونَ لَوْ قَدَّرْنَا قِيمَةَ الدِّينَارِ عَشَرَةً أَوْ سَبْعُونَ لَوْ قَدَّرْنَاهَا عِشْرِينَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَعْطُوفًا عَلَى الْأَلْفِ لَزِمَهُ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا وَدِينَارٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَارَضَ فِي عَطْفِ الدِّينَارِ شَبَهَانِ إذْ يَحْسُنُ عَطْفُهُ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَهُوَ الْأَلْفُ كَمَا لَوْ قَالَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَدِينَارٌ وَيَحْسُنُ عَطْفُهُ أَيْضًا عَلَى الْمُسْتَثْنَى وَهُوَ عَشَرَةٌ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الدِّينَارِ مِنْ الدَّرَاهِمِ الْأَلْفِ صَحِيحٌ اسْتِحْسَانًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ كَاسْتِثْنَاءِ الْعَشَرَةِ مِنْهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَدِينَارًا كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى الْعَشَرَةِ لَا غَيْرُ وَإِذَا صَحَّ الْعَطْفُ عَلَيْهِمَا تَرَجَّحَ الْعَطْفُ عَلَى الْعَشَرَةِ بِالْقُرْبِ وَالْجِوَارِ وَبِأَنَّ فِيهِ الْعَمَلَ بِالْأَصْلِ وَهُوَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فَيَصِيرُ قِيمَتُهُ مُسْتَثْنَاةً مَعَ الْعَشَرَةِ مِنْ الْأَلْفِ، قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ أَصْلَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيَجِبُ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنْ يَكُونَ الدِّينَارُ مَعْطُوفًا عَلَى الْأَلْفِ لِأَنَّا إنْ جَعَلْنَاهُ مَعْطُوفًا عَلَى الْعَشَرَةِ يَصِيرُ الدِّينَارُ مُسْتَثْنًى مِنْ الدَّرَاهِمِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَهُمَا وَهُوَ الْقِيَاسُ وَلَمَّا بَطَلَ إحْدَى الْجِهَتَيْنِ تَعَيَّنَتْ الْأُخْرَى لِلْعَطْفِ. فَإِنْ قِيلَ إذَا جَعَلْنَاهُ مَعْطُوفًا عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ يَصِيرُ الدَّرَاهِمُ الْعَشَرَةُ مُسْتَثْنَاةً مِنْ الْأَلْفِ وَمِنْ الدِّينَارِ وَذَلِكَ عِنْدَهُمَا غَيْرُ جَائِزٍ أَيْضًا وَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ الْعَطْفُ عَلَى الْأَلْفِ وَعَلَى الْعَشَرَةِ عِنْدَهُمَا يَجِبُ أَنْ يَبْطُلَ كَمَا لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا عَشَرَةً وَثَوْبًا قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ صِحَّةِ عَطْفِهِ عَلَى الْأَلْفِ عِنْدَهُمَا بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ فَإِنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَمِائَةُ دِينَارٍ إلَّا دِرْهَمٌ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَيَنْصَرِفُ إلَى الدَّرَاهِمِ لِأَنَّا إنْ جَعَلْنَاهُ اسْتِثْنَاءً مِنْ الدَّنَانِيرِ نَظَرًا إلَى الْقُرْبِ صَحَّ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ وَإِنْ جَعَلْنَاهُ اسْتِثْنَاءً مِنْ الدَّرَاهِمِ صَحَّ بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى فَكَانَ جَعْلُهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ أَوْلَى ثُمَّ قَالَ إذَا كَانَ ذَلِكَ لِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ جَعَلْنَا الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ نَوْعِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ فِي مِثْلِ هَذَا يَنْصَرِفُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْجِنْسِ فَصَحَّ الْعَطْفُ عَلَى الْأَلْفِ. [معانى لَكِنْ] قَوْلُهُ (وَأَمَّا لَكِنْ) اعْلَمْ أَنَّ لَكِنْ يُسْتَدْرَكُ بِهِ مَا يُقَدَّرُ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ التَّوَهُّمِ نَحْوَ قَوْلِك مَا رَأَيْت زَيْدًا لَكِنْ عَمْرًا فَلِمُتَوَهِّمٍ أَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّ عَمْرًا غَيْرُ مَرْئِيٍّ أَيْضًا فَأَمَاطَتْ كَلِمَةُ لَكِنْ هَذَا التَّوَهُّمَ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَلْ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَكِنْ أَخَصُّ مِنْ بَلْ فِي الِاسْتِدْرَاكِ لِأَنَّك تَسْتَدْرِكُ بَلْ بَعْدَ الْإِيجَابِ كَقَوْلِك ضَرَبْت زَيْدًا بَلْ عَمْرًا وَبَعْدَ النَّفْيِ كَقَوْلِك مَا جَاءَنِي زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو وَلَا تَسْتَدْرِكُ بِلَكِنْ إلَّا بَعْدَ النَّفْيِ لَا تَقُولُ ضَرَبْت زَيْدًا لَكِنْ عَمْرًا وَإِنَّمَا تَقُولُ مَا ضَرَبْت زَيْدًا لَكِنْ عَمْرًا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وُضِعَ لِلِاسْتِدْرَاكِ

غَيْرَ أَنَّ الْعَطْفَ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عِنْدَ اتِّسَاقِ الْكَلَامِ فَإِذَا اتَّسَقَ الْكَلَامُ تَعَلَّقَ النَّفْيُ بِالْإِثْبَاتِ الَّذِي وُصِلَ بِهِ وَإِلَّا فَهُوَ مُسْتَأْنَفٌ مِثَالُهُ مَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْجَامِعِ فِي رَجُلٍ فِي يَدِهِ عَبْدٌ فَأَقَرَّ أَنَّهُ لِفُلَانٍ فَقَالَ فُلَانٌ مَا كَانَ لِي قَطُّ لَكِنَّهُ لِفُلَانٍ آخَرَ فَإِنْ وُصِلَ الْكَلَامُ فَهُوَ لِلْمُقَرِّ لَهُ الثَّانِي وَإِنْ فُصِلَ يُرَدُّ عَلَى الْمُقِرِّ لِأَنَّهُ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا عَنْ نَفْسِهِ أَصْلًا فَيَرْجِعُ إلَى الْأَوَّلِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا إلَى غَيْرِ الْأَوَّلِ فَإِذَا وُصِلَ كَانَ بَيَانًا أَنَّهُ نَفَاهُ إلَى الثَّانِي وَإِذَا فُصِلَ كَانَ مُطْلَقًا فَصَارَ تَكْذِيبًا لِلْمُقِرِّ وَقَالُوا فِي الْمَقْضِيِّ لَهُ بِدَارٍ بِالْبَيِّنَةِ إذَا قَالَ مَا كَانَتْ لِي قَطُّ ـــــــــــــــــــــــــــــQبَعْدَ النَّفْيِ وَهَذَا فِي عَطْفِ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ فَإِنْ كَانَ فِي الْكَلَامِ جُمْلَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ جَازَ الِاسْتِدْرَاكُ بِلَكِنْ فِي الْإِيجَابِ أَيْضًا كَقَوْلِك جَاءَنِي زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو لَمْ يَأْتِ فَقَوْلُك عَمْرٌو لَمْ يَأْتِ جُمْلَةٌ مَنْفِيَّةٌ وَمَا قَبْلَ لَكِنْ جُمْلَةٌ مُوجَبَةٌ فَقَدْ حَصَلَ الِاخْتِلَافُ وَعَمْرٌو فِي قَوْلِك لَكِنْ عَمْرٌو لَمْ يَأْتِ، مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ وَلَمْ يَأْتِ خَبَرُهُ وَكَذَا قَوْلُك ضَرَبْت زَيْدًا لَكِنْ لَمْ أَضْرِبْ عَمْرًا فَعَمْرًا مَنْصُوبٌ بِلَمْ أَضْرِبْ وَلَيْسَ لِحَرْفِ الْعَطْفِ فِيهِ حَظٌّ كَمَا يَكُونُ فِي قَوْلِك مَا ضَرَبْت زَيْدًا لَكِنْ عَمْرًا كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَهُ لِلِاسْتِدْرَاكِ بَعْدَ النَّفْيِ مُخْتَصٌّ بِعَطْفِ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ دُونَ عَطْفِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَالثَّانِي أَنَّ مُوجِبَ الِاسْتِدْرَاكِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ إثْبَاتُ مَا بَعْدَهُ فَأَمَّا نَفْيُ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ مِنْ أَحْكَامِهَا بَلْ يَثْبُتُ ذَلِكَ بِدَلِيلِهِ وَهُوَ النَّفْيُ الْمَوْجُودُ فِيهِ صَرِيحًا بِخِلَافِ كَلِمَةِ بَلْ فَإِنَّ مُوجِبَهَا وَضْعًا نَفْيُ الْأَوَّلِ وَإِثْبَاتُ الثَّانِي يُوَضِّحُهُ أَنَّ فِي قَوْلِك مَا جَاءَنِي زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو انْتَفَى مَجِيءُ زَيْدٍ بِصَرِيحِ هَذَا الْكَلَامِ لَا بِكَلِمَةِ لَكِنْ فَإِنَّهُ لَوْ سَكَتَ عَنْ قَوْلِهِ لَكِنْ عَمْرٌو كَانَ الِانْتِفَاءُ ثَابِتًا أَيْضًا وَفِي قَوْلِك جَاءَنِي زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو انْتَفَى مَجِيءُ زَيْدٍ بِكَلِمَةِ بَلْ لَا بِصَرِيحِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ لَوْ سَكَتَ عَنْ قَوْلِهِ بَلْ عَمْرٌو لَا يَثْبُتُ الِانْتِفَاءُ بَلْ يَثْبُتُ ضِدُّهُ وَهُوَ الثُّبُوتُ فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا قَوْلُهُ (غَيْرَ أَنَّ الْعَطْفَ) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى لَكِنْ مِنْ قَوْلِهِ وُضِعَ لِلِاسْتِدْرَاكِ بَعْدَ النَّفْيِ وَتَقْدِيرُهُ لَكِنْ لِلْعَطْفِ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْرَاكِ بَعْدَ النَّفْيِ إلَّا أَنَّ الْعَطْفَ بِهَذَا الطَّرِيقِ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عِنْدَ اتِّسَاقِ الْكَلَامِ وَالْمُرَادُ مِنْ اتِّسَاقِ الْكَلَامِ، انْتِظَامُهُ وَذَلِكَ بِطَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مُتَّصِلًا بَعْضُهُ بِبَعْضٍ غَيْرَ مُنْفَصِلٍ لِيَتَحَقَّقَ الْعَطْفُ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْإِثْبَاتِ غَيْرَ مَحَلِّ النَّفْيِ لِيُمْكِنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَلَا يُنَاقِضُ آخِرُ الْكَلَامِ أَوَّلَهُ كَمَا فِي قَوْلِك مَا جَاءَنِي زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو فَإِذَا فَاتَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ لَا يَثْبُتُ الِاتِّسَاقُ فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْرَاكُ فَيَكُونُ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا مِثَالُ فَوَاتِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ رَجُلٌ فِي يَدِهِ عَبْدٌ فَأَقَرَّ بِهِ لِإِنْسَانٍ فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ مَا كَانَ لِي قَطُّ لَكِنَّهُ لِفُلَانٍ آخَرَ فَإِنْ وَصَلَ الْكَلَامَ فَهُوَ لِلْمُقَرِّ لَهُ الثَّانِي وَهُوَ فُلَانٌ وَإِنْ فَصَلَ يُدْرَدُ عَلَى الْمُقَرِّ الْأَوَّلِ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ وَهُوَ قَوْلُهُ مَا كَانَ لِي قَطُّ تَصْرِيحٌ بِنَفْيِ مِلْكِهِ عَنْ الْعَبْدِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا عَنْ نَفْسِهِ أَصْلًا مِنْ غَيْرِ تَحْوِيلٍ إلَى آخَرَ فَيَكُونُ هَذَا رَدًّا لِلْإِقْرَارِ وَهُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّهُ خَرَجَ جَوَابًا لَهُ وَالْمُقَرُّ لَهُ مُتَفَرِّدٌ بِرَدِّ الْإِقْرَارِ فَيَرْتَدُّ بِرَدِّهِ وَيَرْجِعُ الْعَبْدُ إلَى الْمُقِرِّ الْأَوَّلِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا عَنْ نَفْسِهِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ الثَّانِي فَيَكُونُ تَحْوِيلًا لَا رَدًّا لِلْإِقْرَارِ وَيَصِيرُ قَابِلًا لَهُ مُقِرًّا بِهِ لِغَيْرِهِ. فَإِذَا وَصَلَ أَيْ قَوْلُهُ لَكِنَّهُ لِفُلَانٍ بِهِ أَيْ بِقَوْلِهِ مَا كَانَ لِي قَطُّ كَانَ وَصْلُهُ بِهِ بَيَانًا أَنَّهُ نَفَاهُ أَيْ الْمِلْكَ عَنْ نَفْسِهِ إلَى الثَّانِي لَا أَنَّهُ نَفَاهُ مُطْلَقًا وَصَارَ كَالْمَجَازِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً فَيَصِيرُ قَوْلُهُ عَلَيَّ مَجَازًا لِلْحِفْظِ إذَا وَصَلَهُ بِالْكَلَامِ فَكَذَلِكَ هَهُنَا وَإِذَا فَصَلَ فِي قَوْلِهِ لَكِنَّهُ لِفُلَانٍ عَنْ النَّفْيِ كَانَ هَذَا نَفْيًا مُطْلَقًا أَيْ نَفْيًا عَنْ نَفْسِهِ أَصْلًا لَا نَفْيًا إلَى أَحَدٍ فَكَانَ رَدًّا لِلْإِقْرَارِ وَتَكْذِيبًا لِلْمُقِرِّ حَمْلًا لِلْكَلَامِ عَلَى الظَّاهِرِ وَكَانَ قَوْلُهُ لَكِنَّهُ لِفُلَانٍ بَعْدَ ذَلِكَ شَهَادَةً بِالْمِلْكِ لِلْمُقَرِّ لَهُ الثَّانِي عَلَى الْمُقِرِّ الْأَوَّلِ وَبِشَهَادَةِ الْفَرْدِ لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فَيَبْقَى الْعَبْدُ مِلْكًا لِلْمُقِرِّ الْأَوَّلِ وَمِثَالٌ آخَرُ رَجُلٌ ادَّعَى

لَكِنَّهَا لِفُلَانٍ وَقَالَ فُلَانٌ إنَّهُ بَاعَنِي بَعْدَ الْقَضَاءِ أَوْ وَهَبَنِي أَنَّ الدَّارَ لِلْمُقَرِّ لَهُ وَعَلَى الْمَقْضِيِّ لَهُ الْقِيمَةُ لِلْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ نَفَاهَا عَنْ نَفْسِهِ إلَى الثَّانِي أَيْضًا حَيْثُ وُصِلَ بِهِ الْبَيَانُ ـــــــــــــــــــــــــــــQدَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهَا دَارُهُ وَاَلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ يَجْحَدُ ذَلِكَ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً أَنَّهَا دَارُهُ فَقَضَى الْقَاضِي بِهَا لَهُ ثُمَّ أَقَرَّ الْمَقْضِيُّ لَهُ أَنَّهَا دَارُ فُلَانٍ وَلَمْ يَكُنْ لِي قَطُّ أَوْ قَالَ مَا كَانَتْ لِي قَطُّ لَكِنَّهَا لِفُلَانٍ بِكَلَامٍ مُتَّصِلٍ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الْجَمِيعِ تُرَدُّ الدَّارُ عَلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ وَلَا شَيْءَ لِلْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا أَنَّ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةَ وَالْحُكْمَ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ بَاطِلًا فَوَجَبَ رَدُّ الدَّارِ عَلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّ الْمُقِرَّ الْأَوَّلَ. وَالثَّانِيَ وَالْمُقَرَّ لَهُ الْآخَرَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّ الثَّانِيَ صَدَّقَ الْمُقِرَّ الْأَوَّلَ فِي النَّفْيِ وَإِنْ كَذَّبَهُ فِي الْجِهَةِ وَالثَّالِثَ صَدَّقَ الْمُقِرَّ الثَّانِيَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَقَدْ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنْ لَا حَقَّ لِلْأَوَّلِ فِي الْعَبْدِ فَلَمْ يَسْتَقِمْ رَدُّهُ عَلَيْهِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى خِلَافِهِ فَيُرَدُّ إلَى الثَّالِثِ لِأَنَّهُ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ فَأَمَّا الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَيَدَّعِيهَا وَلَمْ يَزْعُمْ قَطُّ أَنَّهَا لَيْسَتْ لَهُ وَلَكِنْ اُسْتُحِقَّتْ عَلَيْهِ بِالْقَضَاءِ فَإِذَا بَطَلَ الْقَضَاءُ بِقَوْلِ الْمَقْضِيِّ لَهُ إنَّهَا مَا كَانَتْ لِي قَطُّ لَكِنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ مَنْ أَخَذَهَا بِزَعْمِهِ فَلِهَذَا تُرَدُّ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الْمُقَرَّ لَهُ صَدَّقَهُ فِي الْإِقْرَارِ وَكَذَّبَهُ فِي النَّفْيِ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنْ قَالَ كَانَتْ الدَّارُ مِلْكًا لِلْمُقِرِّ إلَّا أَنَّهُ وَهَبَهَا لِي بَعْدَ الْقَضَاءِ وَسَلَّمَهَا إلَيَّ أَوْ بَاعَهَا مِنِّي فَهِيَ لِلْمُقَرِّ لَهُ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهَا لِلْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ وَهَذَا لَا يُشْكِلُ إذَا بَدَأَ بِالْإِقْرَارِ ثُمَّ بِالنَّفْيِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ صَحَّ ظَاهِرًا وَثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ لِلْمُقَرِّ لَهُ بِتَصْدِيقِهِ إيَّاهُ فِي قَوْلِهِ هِيَ لِفُلَانٍ فَإِذَا قَالَ بَعْدَهُ مَا كَانَتْ لِي قَطُّ فَقَطْ أَرَادَ إبْطَالَ إقْرَارِهِ وَالرُّجُوعَ عَنْهُ وَكَذَّبَهُ الْمُقِرُّ فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَبْطُلْ فِي حَقِّهِ وَأَمَّا إذَا بَدَأَ بِالنَّفْيِ بِأَنْ قَالَ مَا كَانَتْ لِي قَطُّ لَكِنَّهَا لِفُلَانٍ بِكَلَامٍ مَوْصُولٍ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا وَعَنْ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الدَّارَ تُرَدُّ عَلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَا كَانَتْ لِي قَطُّ كَافٍ فِي نَقْضِ الْقَضَاءِ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: وَلَكِنَّهَا لِفُلَانٍ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ مَقْطُوعٌ عَمَّا قَبْلَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبَيَانٍ مُغَيِّرٍ لِيَتَوَقَّفَ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ وَيَصِيرَا كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِالْمِلْكِ لِلْغَيْرِ بَعْدَمَا انْتَفَى مِلْكُهُ وَعَادَ إلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ فَلَا يَصِحُّ هَذَا الْإِقْرَارُ وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ كَمَا لَوْ فَصَلَ الْإِقْرَارَ عَنْ النَّفْيِ وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّ آخِرَ كَلَامِهِ مُنَافٍ لِأَوَّلِهِ لِأَنَّ آخِرَهُ إثْبَاتٌ وَأَوَّلَهُ نَفْيٌ وَالْإِثْبَاتُ مَتَى ذُكِرَ مَعْطُوفًا عَلَى النَّفْيِ مُتَّصِلًا بِهِ لَا يَقَعُ عَنْهُ وَلَا يُحْكَمُ لِأَوَّلِ الْكَلَامِ بِشَيْءٍ قَبْلَ آخِرِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ تَكُونُ إقْرَارًا بِالتَّوْحِيدِ بِاعْتِبَارِ آخِرِهِ وَلَا فَرْقَ فَإِنَّ ذَلِكَ كَلَامٌ يَشْتَمِلُ عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ كَمَا أَنَّ هَذَا كَلَامٌ يَشْتَمِلُ عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَيُعْتَبَرُ الْحَاصِلُ وَهُوَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ لِلْمُقَرِّ لَهُ عِنْدَ اتِّصَالِ آخِرِهِ بِأَوَّلِهِ كَمَا فِي كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ مَا كَانَتْ لِي قَطُّ بِاتِّصَالِ الْإِثْبَاتِ بِهِ نَفْيًا لِلْمِلْكِ عَنْ نَفْسِهِ بِإِثْبَاتِهِ لِلثَّانِي وَذَلِكَ مُحْتَمِلٌ بِأَنْ يَمْلِكَهُ بَعْدَ الْقَضَاءِ فَيُحْمَلَ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْمُقَرِّ لَهُ وَلِهَذَا قَالُوا إنَّمَا يَصِحُّ هَذَا الْإِقْرَارُ إذَا غَابَا عَنْ مَجْلِسِ الْقَاضِي حَتَّى يُمْكِنَ لِلْقَاضِي تَصْدِيقُ الْمُقَرِّ لَهُ فَأَمَّا إذَا قَالَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَقَدْ عَلِمَ الْقَاضِي بِكَذِبِهِ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَجْرِ بَيْنَهُمَا هِبَةٌ وَقَبْضٌ وَلَا بَيْعٌ وَالْكَذِبُ لَا حُكْمَ لَهُ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَلِأَنَّ اتِّصَالَ النَّفْيِ عَنْ نَفْسِهِ بِالْإِثْبَاتِ لِغَيْرِهِ إنَّمَا يَكُونُ لِتَأْكِيدِ الْإِثْبَاتِ عُرْفًا وَمَا ذُكِرَ تَأْكِيدًا لِلشَّيْءِ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَلَا يَكُونُ لَهُ حُكْمُ نَفْسِهِ فَصَارَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قَالَ هَذَا الدَّارُ لِفُلَانٍ وَسَكَتَ وَلِأَنَّ النَّفْيَ

إلَّا أَنَّهُ بِالْإِسْنَادِ صَارَ شَاهِدًا عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ فَلَمْ تَصِحَّ شَهَادَتُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ وَقَالَ فِي نِكَاحِ الْجَامِعِ فِي أَمَةٍ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَقَالَ الْمَوْلَى لَا أُجِيزُ النِّكَاحَ وَلَكِنْ أُجِيزُهُ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ أَوْ إنْ زِدْتنِي خَمْسِينَ أَنَّ هَذَا فَسْخٌ لِلنِّكَاحِ وَجُعِلَ لَكِنْ مُبْتَدَأً لِأَنَّ الْكَلَامَ غَيْرُ مُتَّسِقٍ لِأَنَّهُ نَفْيُ فِعْلٍ وَإِثْبَاتُهُ بِعَيْنِهِ فَلَمْ يَصْلُحْ لِلتَّدَارُكِ وَفِي قَوْلِ الرَّجُلِ لَك عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ قَرْضٌ فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ لَا وَلَكِنَّهُ غَصْبٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَمَّا كَانَ لِتَأْكِيدِ الْإِقْرَارِ كَانَ مُؤَخَّرًا عَنْ الْإِقْرَارِ مَعْنًى لِأَنَّ التَّأْكِيدَ أَبَدًا يَكُونُ بَعْدَ الْمُؤَكَّدِ. وَلِأَنَّ الْمُقِرَّ قَصَدَ تَصْحِيحَ إقْرَارِهِ وَلَا يَصِحُّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إلَّا بِجَعْلِ الْإِقْرَارِ مُقَدَّمًا وَالْكَلَامُ يَحْتَمِلُ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ دُونَ الْإِلْغَاءِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مَوْصُولًا قَوْلُهُ (إلَّا أَنَّهُ) أَيْ لَكِنَّهُ بِالْإِسْنَادِ أَيْ بِإِسْنَادِ نَفْيِ الْمِلْكِ إلَى مَا قَبْلَ الْقَضَاءِ فَإِنَّ قَوْلَهُ مَا كَانَتْ لِي قَطُّ يَتَنَاوَلُ الْأَزْمِنَةَ السَّابِقَةَ عَلَى الْقَضَاءِ صَارَ شَاهِدًا عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّ حَقَّ الْمُقَرِّ لَهُ قَدْ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ بِقَوْلِهِ لَكِنَّهَا لِفُلَانٍ وَهُوَ بِالْإِسْنَادِ يُبْطِلُ هَذَا الْحَقَّ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَا كَانَتْ لِي قَطُّ يَتَضَمَّنُ بُطْلَانَ الْقَضَاءِ وَفِي بُطْلَانِهِ بُطْلَانُ حَقِّ الْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الْإِقْرَارِ الَّذِي هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى صِحَّةِ الْقَضَاءِ فَصَارَ شَاهِدًا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَلَمْ يَصِحَّ شَهَادَتُهُ عِنْدَ تَكْذِيبِ الْمُقِرِّ لَهُ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ لِلْغَيْرِ وَيَتَّضِحُ هَذَا بِفَصْلِ تَقْدِيمِ الْإِقْرَارِ عَلَى النَّفْيِ بِأَنْ قَالَ هِيَ لِفُلَانٍ وَلَمْ يَكُنْ لِي قَطُّ فَإِنَّ النَّفْيَ فِيهِ شَهَادَةٌ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ وَبُطْلَانُ حَقِّهِ الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ السَّابِقِ فَكَذَلِكَ فِي فَصْلِ تَأْخِيرِ الْإِقْرَارِ لِأَنَّ الْكَلَامَ بِاتِّصَالِ النَّفْيِ بِالْإِثْبَاتِ صَارَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فَصَارَ تَقَدُّمُ الْإِقْرَارِ وَتَأَخُّرُهُ سَوَاءً ثُمَّ إنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُصَدَّقْ فِي حَقِّ الْمُقَرِّ لَهُ فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَظَاهِرُ كَلَامِهِ إقْرَارٌ بِبُطْلَانِ الْقَضَاءِ وَهُوَ حَقُّهُ فَصَارَ بِهِ مُقِرًّا بِالدَّارِ لِلْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ فَيَضْمَنُ لَهُ قِيمَتَهَا. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ الْجَامِعِ وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى ضَمَانَ الْعَقَارِ بِالْغَصْبِ فَيَضْمَنُ بِالْقَصْرِ أَيْضًا فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَلَا وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ لِلْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا لِأَنَّ الْعَقَارَ يُضْمَنُ بِالْقَوْلِ مِثْلُ سَوْمِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ فَكَذَا هَهُنَا وَذَكَرَ شَمْسُ الْإِسْلَامِ الْأُوزْجَنْدِيّ أَنَّهُ بِالْإِقْرَارِ لِغَيْرِهِ صَارَ مُتْلِفًا لِلدَّارِ وَالدَّارُ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ عِنْدَ الْكُلِّ كَمَا يُضْمَنُ بِالشَّهَادَةِ الْبَاطِلَةِ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَيْنِ الْمِثَالَيْنِ أَعْنِي قَوْلَ الْمُقَرِّ لَهُ بِالْعَبْدِ مَا كَانَ لِي قَطُّ لَكِنَّهُ لِفُلَانٍ وَقَوْلَ مُدَّعِي الدَّارِ مَا كَانَتْ لِي قَطُّ لَكِنَّهَا لِفُلَانٍ لَيْسَا مِنْ نَظَائِرِ هَذَا الْبَابِ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ لَكِنَّ الْمُشَدَّدَةَ لَيْسَتْ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ بَلْ هِيَ مِنْ الْحُرُوفِ النَّاصِبَةِ أَوْ إنَّمَا الْعَاطِفَةُ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ إلَّا أَنَّهُمَا لَمَّا اشْتَرَكَتَا فِي الِاسْتِدْرَاكِ وَاسْتَوَتَا فِي الْحُكْمِ أَوْرَدَ الشَّيْخُ هَذَيْنِ الْمِثَالَيْنِ فِي هَذَا الْفَصْلِ وَمِثَالُ فَوَاتِ الْمَعْنَى الثَّانِي أَمَةٌ تَزَوَّجَتْ إلَى آخِرِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ. قَوْلُهُ (وَفِي قَوْلِ الرَّجُلِ لَك عَلَيَّ كَذَا) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُخَالِفُ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي قَبْلَهَا فِي أَنَّ الِاسْتِدْرَاكَ فِيهَا صَرْفٌ إلَى الْجُمْلَةِ حَتَّى صَحَّ وَلَمْ يُصْرَفْ إلَى أَصْلِ الْإِقْرَارِ وَفِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ صَرْفٌ إلَى أَصْلِ النِّكَاحِ وَلَمْ يُصْرَفْ إلَى الْجِهَةِ وَهِيَ نَفْيُ الْمِائَةِ وَإِثْبَاتُ الْمِائَةِ وَالْخَمْسِينَ كَمَا فِي قَوْلِهِ لَا أُجِيزُ النِّكَاحَ إلَّا بِزِيَادَةِ خَمْسِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ قَدْ صَرَّحَ بِرَدِّ النِّكَاحِ بِقَوْلِهِ لَا أُجِيزُ النِّكَاحَ فَلَا يُمْكِنُ صَرْفُهُ إلَى الْجِهَةِ وَفِي مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ لَمْ يُصَرِّحْ بِرَدِّ أَصْلِ الْإِقْرَارِ وَهُوَ الْأَلْفُ بَلْ قَالَ لَا وَأَنَّهُ يَصْلُحُ رَدًّا لِلْجِهَةِ وَرَدًّا لِلْأَصْلِ فَإِذَا وَصَلَ بِهِ قَوْلُهُ وَلَكِنَّهُ غَصْبٌ عُلِمَ أَنَّهُ نَفَى السَّبَبَ لَا أَصْلَ الْمَالِ وَأَنَّهُ قَدْ صَدَّقَهُ فِي الْإِقْرَارِ بِأَصْلِ الْمَالِ وَلَا تَفَاوُتَ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ السَّبَبَيْنِ وَالْأَسْبَابُ مَطْلُوبَةٌ لِلْأَحْكَامِ فَعِنْدَ عَدَمِ التَّفَاوُتِ يَتِمُّ تَصْدِيقُهُ لَهُ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ فَيَلْزَمُهُ الْمَالُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِأَنَّ الْأَلْفَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْغَصْبِ وَشَهِدَ الْآخَرُ بِأَنَّ الْأَلْفَ

[معانى أو]

الْكَلَامُ مُتَّسِقٌ فَيَصِحُّ الْوَصْلُ لِبَيَانِ أَنَّهُ نَفْيُ السَّبَبِ لَا الْوَاجِبِ. وَأَمَّا أَوْ فَإِنَّهَا تَدْخُلُ بَيْنَ اسْمَيْنِ أَوْ فِعْلَيْنِ فَيَتَنَاوَلُ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ هَذَا مَوْضُوعَهَا الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ يُقَالُ جَاءَنِي زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو أَيْ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُوضَعْ لِلشَّكِّ وَلَيْسَ الشَّكُّ بِأَمْرٍ مَقْصُودٍ يُقْصَدُ بِالْكَلَامِ وَضْعًا لَكِنَّهَا وُضِعَتْ لِمَا قُلْنَا فَإِنْ اُسْتُعْمِلَتْ فِي الْخَبَرِ تَنَاوَلَتْ أَحَدَهُمَا غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَأَفْضَى إلَى الشَّكِّ وَإِذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي الِابْتِدَاءِ وَالْإِنْشَاءِ تَنَاوَلَتْ أَحَدَهُمَا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ تَقُولُ رَأَيْت زَيْدًا أَوْ عَمْرًا فَيَكُونُ لِلتَّخْيِيرِ لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ لَا يَحْتَمِلُ الشَّكَّ فَعَلِمْت أَنَّ الشَّكَّ إنَّمَا جَاءَ مِنْ قِبَلِ مَحَلِّ الْكَلَامِ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَيْهِ بِسَبَبِ الْقَرْضِ حَيْثُ لَا تُقْبَلُ وَإِنْ اتَّفَقَا فِي الْأَصْلِ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَصِيرُ مُكَذِّبًا أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ فِي بَعْضِ مَا شَهِدَ بِهِ وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلشَّهَادَةِ فَأَمَّا تَكْذِيبُ الْمُقَرِّ لَهُ لِلْمُقِرِّ فِي بَعْضِ مَا أَقَرَّ فَلَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْإِقْرَارِ فَافْتَرَقَا وَقَوْلُهُ الْكَلَامُ مُتَّسِقٌ أَيْ كَلَامُ الْمُقَرِّ لَهُ مَعَ كَلَامِ الْمُقِرِّ مُتَوَافِقَانِ لَا مُتَنَافِيَانِ لِأَنَّهُمَا تَوَافَقَا فِي أَصْلِ الْوَاجِبِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي السَّبَبِ. [معانى أَوْ] قَوْلُهُ (وَأَمَّا أَوْ) اعْلَمْ أَنَّ كَلِمَةَ أَوْ تَدْخُلُ بَيْنَ اسْمَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ كَقَوْلِك جَاءَنِي زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو أَوْ بَيْنَ فِعْلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] وَقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} [النساء: 66] وَكَقَوْلِك كُلْ السَّمَكَ أَوْ اشْرَبْ اللَّبَنَ فَيَتَنَاوَلُ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ هَذَا مُوجَبُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْوَضْعِ لِأَنَّهَا فِي مَوَاضِعِ اسْتِعْمَالِهَا لَا تَخْلُو عَنْ هَذَا الْمَعْنَى فَعَرَفْنَا أَنَّهَا وُضِعَتْ لَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] وَالْوَاجِبُ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ حَتَّى لَوْ كَفَّرَ بِالْأَنْوَاعِ كُلِّهَا كَانَ مُؤَدِّيًا بِأَحَدِ الْأَنْوَاعِ لَا بِالْجَمِيعِ كَمَا قَالَهُ الْبَعْضُ. وَكَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] الْوَاجِبُ وَاحِدٌ مِنْهَا وَكَذَا الْجَائِي فِي قَوْلِك جَاءَنِي زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو أَحَدُهُمَا لَا كِلَاهُمَا قَوْلُهُ (وَلَمْ يُوضَعْ لِلشَّكِّ) نَفْيٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي التَّقْوِيمِ أَنَّ كَلِمَةَ أَوْ عِنْدَ عَامَّةِ النَّاسِ لِلتَّخْيِيرِ فِي الْإِثْبَاتِ وَلِلنَّفْيِ فِي النَّفْيِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّ كَلِمَةَ أَوْ كَلِمَةُ تَشْكِيكٍ فَإِنَّك إذَا قُلْت رَأَيْت زَيْدًا أَوْ عَمْرًا لَا تَكُونُ مُخْبِرًا عَنْ رُؤْيَتِهِمَا جَمِيعًا وَلَكِنَّك تَكُونُ مُخْبِرًا عَنْ رُؤْيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى سَبِيلِ الشَّكِّ فَإِنَّك قَدْ رَأَيْت أَحَدَهُمَا وَلَكِنَّك شَكَكْت فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ مِنْهُمَا حَتَّى احْتَمَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَرْئِيُّ وَأَنْ لَا يَكُونَ إلَّا أَنَّهَا إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي الْإِيجَابَاتِ وَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي لَمْ تُوجِبْ شَكًّا لِأَنَّ الشَّكَّ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ الْتِبَاسِ الْعِلْمِ بِشَيْءٍ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْإِخْبَارَاتِ فَأَمَّا الْإِنْشَاءَاتُ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا شَكٌّ وَلَا الْتِبَاسٌ لِأَنَّهَا لِإِثْبَاتِ حُكْمٍ ابْتِدَاءً وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ مَذْهَبُ عَامَّةِ النُّحَاةِ وَخَالَفَهُ الشَّيْخُ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَا هَذِهِ الْكَلِمَةُ لَيْسَتْ لِلتَّشْكِيكِ لِأَنَّ الشَّكَّ لَيْسَ بِمَعْنًى يُقْصَدُ بِالْكَلَامِ وَضْعًا أَيْ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي الْمُخَاطَبَاتِ بِحَيْثُ يُوضَعُ كَلِمَةً تُوجِبُ تَشْكِيكَ السَّامِعِ فِي مَعْنَى الْكَلَامِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّكَّ لَيْسَ بِمَعْنًى يُوضَعُ لَهُ لَفْظٌ لِأَنَّ لَفْظَ الشَّكِّ قَدْ وُضِعَ لِمَعْنَاهُ بَلْ الْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا. وَذَلِكَ لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْكَلَامِ إفْهَامُ السَّامِعِ لَا تَشْكِيكُهُ فَلَا يَكُونُ الشَّكُّ مِنْ مَقَاصِدِهِ فَلَا يَكُونُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ مَوْضُوعَةً لِذَلِكَ بَلْ هِيَ مَوْضُوعَةٌ لِأَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ غَيْرِ عَيْنٍ كَمَا قُلْنَا إلَّا أَنَّهَا فِي الْإِخْبَارَاتِ يُفْضِي إلَى الشَّكِّ بِاعْتِبَارِ مَحَلِّ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ مَجِيءِ أَحَدِهِمَا فِي قَوْلِهِ جَاءَنِي زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِعْلَ الْمَجِيءِ وُجِدَ مِنْ أَحَدِهِمَا عَيْنًا لَا نَكِرَةً إذْ لَا تَصَوُّرَ لِصُدُورِ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ الْعَيْنِ وَبِإِضَافَةِ الْفِعْلِ إلَى أَحَدِهِمَا غَيْرِ عَيْنٍ لَا يَنْتَقِلُ الْفِعْلُ مِنْ الْعَيْنِ إلَى النَّكِرَةِ بَلْ يَبْقَى مُضَافًا إلَى الْعَيْنِ كَمَا وُجِدَ وَإِنَّمَا جَهِلَهُ السَّامِعُ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الَّذِي وُجِدَ مِنْهُ فِعْلُ الْمَجِيءِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ التَّشْكِيكَ إنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمًا وَاتِّفَاقًا بِكَوْنِ الْكَلَامِ خَبَرًا لَا مَقْصُودًا بِحَرْفِ أَوْ كَالْهِبَةِ وُضِعَتْ لِإِفَادَةِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ ثُمَّ إذَا أُضِيفَ إلَى الدَّيْنِ يَكُونُ إسْقَاطًا حُكْمًا وَاتِّفَاقًا لَا مَقْصُودًا بِالْهِبَةِ أَلَا تَرَى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّهَا إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي الْإِنْشَاءِ لَا تُؤَدِّي مَعْنَى الشَّكِّ أَصْلًا مَعَ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِيهِ لَا مَجَازٌ وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الْحَقِيقَةَ لَا تَخْلُو عَنْ مَوْضُوعِهِ الْأَصْلِيِّ فَثَبَتَ أَنَّهَا لَمْ تُوضَعْ لِلتَّشْكِيكِ وَكَذَا التَّخْيِيرُ يَثْبُتُ بِمَحَلِّ الْكَلَامِ أَيْضًا لِأَنَّهَا إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي الِابْتِدَاءِ كَقَوْلِك اضْرِبْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا تَنَاوَلْت أَحَدَهُمَا غَيْرَ عَيْنٍ وَالْأَمْرُ لِلِائْتِمَارِ وَلَا يُتَصَوَّرُ الِائْتِمَارُ بِإِيقَاعِ الْفِعْلِ فِي غَيْرِ الْعَيْنِ فَيَثْبُتُ التَّخْيِيرُ ضَرُورَةَ التَّمَكُّنِ مِنْ الِائْتِمَارِ وَلِهَذَا لَوْ اخْتَارَ أَحَدَهُمَا قَوْلًا لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هِيَ فِي حَقِّ الْفِعْلِ وَكَذَا إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي الْإِنْشَاءِ كَقَوْلِهِ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا. وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ الشَّيْخَيْنِ مَا ذُكِرَ فِي الْمُفَصَّلِ أَنَّ (أَوْ) وَ (أَمْ) وَأَمَّا ثَلَاثَتُهَا لِتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِأَحَدِ الْمَذْكُورِينَ إلَّا أَنَّ (أَوْ) وَ (أَمَّا) يَقَعَانِ فِي الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ وَالِاسْتِفْهَامِ وَ (أَمْ) لَا يَقَعُ إلَّا فِي الِاسْتِفْهَامِ إذَا كَانَتْ مُتَّصِلَةً إلَى آخِرِهِ وَمَا ذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ فِي الْإِيضَاحِ أَنَّ أَوْ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوْ الْأَشْيَاءِ فِي الْخَبَرِ وَغَيْرِهِ تَقُولُ كُلْ السَّمَكَ أَوْ اشْرَبْ اللَّبَنَ أَيْ افْعَلْ أَحَدَهُمَا وَلَا تَجْمَعْ بَيْنَهُمَا وَمَا ذَكَرَ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي التَّلْخِيصِ أَنَّ أَوْ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوْ الْأَشْيَاءِ بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّك تَقُولُ جَاءَنِي زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّك أَثْبَتّ الْمَجِيءَ لِأَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ فَهَذَا أَصْلُهُ ثُمَّ إنْ كَانَ الْكَلَامُ خَبَرًا كَانَتْ أَوْ لِلشَّكِّ كَمَا رَأَيْت وَإِنْ كَانَ أَمْرًا كَانَتْ لِلتَّخْيِيرِ كَقَوْلِك اضْرِبْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا فَقَدْ أَمَرْته بِأَنْ يَضْرِبَ أَحَدَهُمَا ثُمَّ خَيَّرْته فِي ذَلِكَ فَأَيُّهُمَا ضَرَبَ كَانَ مُطِيعًا وَمَا ذَكَرَ أَيْضًا فِي الْمُقْتَصِدِ أَنَّ أَوْ لَهُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا الشَّكُّ نَحْوُ قَوْلِهِ ضَرَبْت زَيْدًا أَوْ عَمْرًا أَرَدْت أَنْ تُخْبِرَ بِضَرْبِك زَيْدًا فَاعْتَرَضَك شَكٌّ صَوَّرْت لَهُ أَنْ تَكُونَ ضَرَبْت عَمْرًا فَأَثْبَتَّ بِأَوْ وَعَطَفْتَ عَمْرًا عَلَى زَيْدٍ فَصَارَ كَلَامُك مُفِيدًا أَنَّك ضَرَبْت وَاحِدًا مِنْ زَيْدٍ وَعَمْرٍو بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي التَّخْيِيرُ كَقَوْلِك اضْرِبْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا فَقَدْ أَمَرْته بِضَرْبِ أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَضْرِبَهُمَا مَعًا فَلَيْسَ فِي هَذَا شَكٌّ وَإِنَّمَا هُوَ تَخْيِيرٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْآمِرَ إذَا قَالَ اضْرِبْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَيْءٌ مَوْجُودٌ قَدْ شَكَّ فِيهِ كَمَا يَكُونُ فِي الْخَبَرِ وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ الْإِبَاحَةُ نَحْوَ قَوْلِهِمْ جَالِسْ الْحَسَنَ أَوْ ابْنَ سِيرِينَ فَهَذَا يُشْبِهُ التَّخْيِيرَ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ أَنَّهُ جَالَسَ أَحَدَهُمَا كَانَ مُطِيعًا وَيُفَارِقُهُ مِنْ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ إنْ جَالَسَهُمَا مَعًا كَانَ جَائِزًا. وَلَوْ قُلْت اضْرِبْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا فَضَرَبَهُمَا جَمِيعًا لَمْ يَجُزْ قَالَ وَلَمَّا كَانَ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوْ الْأَشْيَاءِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا قَالُوا زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو قَامَ وَلَمْ يَقُولُوا قَامَا لِأَنَّ الْمَعْنَى أَحَدُهُمَا قَامَ فَإِنْ قِيلَ أَوَّلُ هَذَا الْكَلَامِ يُؤَيِّدُ الْمَذْهَبَ الْأَوَّلَ وَكَذَا مَا ذَكَرْنَا فِي الْمُفَصَّلِ وَيُقَالُ فِي أَوْ وَأَمَّا فِي الْخَبَرِ أَنَّهُمَا لِلشَّكِّ وَفِي الْأَمْرِ أَنَّهُمَا لِلتَّخْيِيرِ وَالْإِبَاحَةِ وَمَا ذُكِرَ فِي الْمِفْتَاحِ أَنَّ أَوْ فِي الْخَبَرِ لِلشَّكِّ وَفِي الْأَمْرِ لِلتَّخْيِيرِ وَهُوَ الِامْتِنَاعُ عَنْ الْجَمْعِ أَوْ الْإِبَاحَةِ وَهِيَ تَجْوِيزُ الْجَمْعِ وَفِي الِاسْتِفْهَامِ لِأَحَدِ مَا يُذْكَرُ لَا عَلَى التَّعْيِينِ قُلْنَا هَذَا مِنْهُمْ تَسَامُحٌ فِي الْعِبَارَةِ وَبَيَانٌ لِمَوَاضِعِ الِاسْتِعْمَالِ وَتَقْسِيمٌ لَهُ بِحَسَبِ الْعَوَارِضِ وَالتَّحْقِيقُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَرَأَيْت فِي كِتَابِ بَيَانِ حَقَائِقِ الْحُرُوفِ أَنَّ مَعْنَى أَوْ إثْبَاتُ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوْ الْأَشْيَاءِ مُبْهَمًا مَعَ إفْرَادِهِ عَنْ غَيْرِهِ فِي الْمَعْنَى بِلَا تَرْتِيبٍ لِأَنَّهَا فِي حُرُوفِ الْعَطْفِ بِمَنْزِلَةِ الْوَاوِ وَفِي أَنَّهَا لَا تُرَتِّبُ إلَّا أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ وَأَوْ لِلْإِفْرَادِ وَهِيَ تَجِيءُ عَلَى سِتَّةِ أَوْجُهٍ إبْهَامُ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوْ الْأَشْيَاءِ وَالشَّكُّ وَالتَّخْيِيرُ وَالْإِبَاحَةُ وَالتَّفْصِيلُ وَمَعْنَى الْإِفْرَادِ فَقَطْ، وَبِمَعْنَى إلَّا أَنَّ. وَالْأَصْلُ فِي الْجَمِيعِ هُوَ الْأَوَّلُ فَقَطْ لِرُجُوعِهَا فِي الْجَمِيعِ إلَيْهِ

وَعَلَى هَذَا قُلْنَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا وَهَذِهِ طَالِقٌ أَوْ هَذِهِ إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَحَدُكُمَا وَهَذَا الْكَلَامُ إنْشَاءٌ يَحْتَمِلُ الْخَبَرَ فَأَوْجَبَ التَّخْيِيرَ عَلَى احْتِمَالِ أَنَّهُ بَيَانٌ حَتَّى جُعِلَ الْبَيَانُ إنْشَاءً مِنْ وَجْهٍ وَإِظْهَارًا مِنْ وَجْهٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي مَسَائِلِ الْعَتَاقِ فِي الْجَامِعِ وَالزِّيَادَاتِ ـــــــــــــــــــــــــــــQإذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ مَا يُوجِبُ زِيَادَةً عَلَيْهِ قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى أَنَّهَا يَتَنَاوَلُ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ قُلْنَا فِي قَوْلِهِ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا أَوْ هَذِهِ طَالِقٌ أَوْ هَذِهِ إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ أَوْ أَحَدَيْكُمَا طَالِقٌ وَهَذَا الْكَلَامُ أَيْ قَوْلُهُ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا أَوْ قَوْلُهُ أَحَدُكُمَا حُرٌّ إنْشَاءٌ يَحْتَمِلُ الْخَبَرَ أَيْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِأَنَّهُ فِي وَضْعِهِ الْأَصْلِيِّ خَبَرٌ كَقَوْلِك لِلرَّجُلَيْنِ أَحَدُكُمَا عَالِمٌ إلَّا أَنَّ الْإِخْبَارَ يَقْتَضِي تَقَدُّمَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ عَلَى مَا عَلَيْهِ وَضْعُهُ فَاقْتَضَى الْإِخْبَارُ عَنْ الْحُرِّيَّةِ وُجُودَ الْحُرِّيَّةِ سَابِقًا عَلَيْهِ لِيَصِحَّ الْإِخْبَارُ عَنْهَا فَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْحُرِّيَّةُ ثَابِتَةً جَعَلْنَا هَذَا الْكَلَامَ إنْشَاءً كَأَنَّهُ قَالَ أُنْشِئُ الْحُرِّيَّةَ احْتِرَازًا عَنْ الْإِلْغَاءِ وَالْكَذِبِ أَوْ جَعَلْنَا الْحُرِّيَّةَ ثَابِتَةً قُبَيْلَ هَذَا الْكَلَامِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ تَصْحِيحًا لَهُ لِأَنَّ إثْبَاتَهَا فِي وِلَايَتِهِ فَصَارَ إنْشَاءً شَرْعًا وَعُرْفًا إخْبَارًا حَقِيقَةً وَلِهَذَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ وَقَالَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ يُجْعَلُ إخْبَارًا حَتَّى لَا يَعْتِقَ الْعَبْدُ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِمَوْضُوعِهِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ الْإِخْبَارُ. وَإِذَا كَانَ إنْشَاءً يَحْتَمِلُ الْخَبَرَ أَوْجَبَ التَّخْيِيرَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إنْشَاءٌ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ الْعِتْقَ فِي أَيِّهِمَا شَاءَ بِأَنْ يُبَيِّنَ الْعِتْقَ فِي أَحَدِهِمَا كَمَا كَانَ لِلْمَأْمُورِ فِي قَوْلِهِ اضْرِبْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا أَنْ يَخْتَارَ الضَّرْبَ فِي أَيِّهِمَا شَاءَ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ خَبَرٌ يُوجِبُ الْبَيَانَ أَيْ الْإِظْهَارَ لَا التَّخْيِيرَ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا عَيْنًا ثُمَّ نَسِيَهُ فَأَخْبَرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا حُرٌّ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُبَيِّنَ الْعِتْقَ فِي أَيِّهِمَا شَاءَ بَلْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ الْعِتْقَ فِي الَّذِي أَوْقَعَهُ فِيهِ إذَا تَذَكَّرَ ثُمَّ إنَّهُ إذَا تَبَيَّنَ الْعِتْقُ فِي أَحَدِهِمَا كَانَ لَهُ حُكْمُ الْإِنْشَاءِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْإِيجَابَ الْأَوَّلَ إنْشَاءٌ وَهُوَ غَيْرُ نَازِلٍ فِي الْعَيْنِ لِأَنَّهُ مَا أَوْجَبَهُ إلَّا فِي النَّكِرَةِ وَالنَّكِرَةُ ضِدُّ الْمَعْرِفَةِ لُغَةً فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ فِي غَيْرِ مَا أَوْجَبَهُ كَمَا إذَا أَوْقَعَهُ فِي سَالِمٍ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ فِي بَزِيعٍ وَالْعِتْقُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْعَيْنِ بِالْبَيَانِ فَكَانَ لَهُ حُكْمُ الْإِنْشَاءِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلِهَذَا شُرِطَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْإِنْشَاءِ وَصَلَاحِيَّةُ الْمَحَلِّ لِلْإِنْشَاءِ حَتَّى لَوْ مَاتَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ فَبَيَّنَ الْعِتْقَ فِي الْمَيِّتِ لَا يَصِحُّ وَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْإِيجَابَ يَحْتَمِلُ الْخَبَرَ يَكُونُ الْبَيَانُ إظْهَارًا أَيْ هَذَا هُوَ الَّذِي أَخْبَرْتُ بِحُرِّيَّتِهِ أَوْ مِنْ حَيْثُ إنَّ الَّذِي أَوْقَعَ الْعِتْقَ فِيهِ مَعْرِفَةٌ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّهُ لَا يَعْدُوهُمَا بِيَقِينٍ كَانَ الْعِتْقُ وَاقِعًا فِيهِ فَكَانَ الْبَيَانُ إظْهَارًا وَلِهَذَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ إنْشَاءً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَمَا أُجْبِرَ عَلَيْهِ وَإِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ جِهَتَا الْإِنْشَاءِ وَالْإِظْهَارِ عَمِلَ بِهِمَا فِي الْأَحْكَامِ فَاعْتُبِرَتْ جِهَةُ الْإِنْشَاءِ فِي مَوْضِعِ التُّهْمَةِ وَجِهَةُ الْإِظْهَارِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التُّهْمَةِ. فَإِذَا طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ الْأَرْبَعِ وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهِنَّ فَتَزَوَّجَ خَامِسَةً أَوْ أُخْتَ إحْدَاهُنَّ ثُمَّ بَيَّنَ الطَّلَاقَ فِي أُخْتِ الْمُتَزَوِّجَةِ جَازَ لَهُ نِكَاحُ الْخَامِسَةِ وَنِكَاحُ الْأُخْتِ فَاعْتُبِرَ الْبَيَانُ إظْهَارًا لِعَدَمِ التُّهْمَةِ إذْ يُمْكِنُ لَهُ إنْشَاءُ الطَّلَاقِ فِي الَّتِي عَيَّنَهَا وَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا فِي الْحَالِ وَلَوْ كَانَ دَخَلَ بِهِنَّ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْخَامِسَةِ وَالْأُخْتِ فَاعْتُبِرَ إنْشَاءً فِي حَقِّ الْعِدَّةِ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ بِإِنْشَاءِ الطَّلَاقِ فِي الْحَالِ وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ أَحَدَيْكُمَا طَالِقٌ فَمَاتَتْ أَحَدَيْهِمَا قَبْلَ الْبَيَانِ تَعَيَّنَتْ الْبَاقِيَةُ لِلطَّلَاقِ لِزَوَالِ الْمُزَاحَمَةِ بِخُرُوجِ الْمَيِّتَةِ عَنْ مَحَلِّيَّةِ الطَّلَاقِ فَإِنْ قَالَ عَنَيْت الْمَيِّتَةَ حِينَ تَكَلَّمْتُ صُدِّقَ فِي حَقِّ بُطْلَانِ مِيرَاثِهِ عَنْهَا وَلَا يُصَدَّقُ فِي إبْطَالِ طَلَاقٍ لِأَنَّ الطَّلَاقَ تَعَيَّنَ فِيهَا شَرْعًا فَلَا يَمْلِكُ صَرْفَ الطَّلَاقِ عَنْهَا بِقَوْلِهِ وَلَوْ كَانَتْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ وَأَمَةٌ قَدْ دَخَلَ بِهِمَا فَقَالَ أَحَدَيْكُمَا طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ ثُمَّ أُعْتِقَتْ الْأَمَةُ

وَلِهَذَا قُلْنَا فِيمَنْ قَالَ وَكَّلْت فُلَانًا أَوْ فُلَانًا بِبَيْعِ هَذَا الْعَبْدِ إنَّهُ صَحِيحٌ وَيَبِيعُ أَيَّهمَا شَاءَ لِأَنَّ أَوْ فِي مَوْضِعِ الِابْتِدَاءِ تَخْيِيرٌ وَالتَّوْكِيلُ صَحِيحٌ اسْتِحْسَانًا وَأَيُّهُمَا بَاعَهُ صَحَّ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ وَكَّلْت بِهِ أَحَدَ هَذَيْنِ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ بِعْ هَذَا أَوْ هَذَا إنَّهُ صَحِيحٌ وَيَبِيعُ أَيَّهمَا شَاءَ لِأَنَّ أَوْ فِي مَوْضِعِ الِابْتِدَاءِ لِلتَّخْيِيرِ وَالتَّوْكِيلُ إنْشَاءٌ وَالتَّخْيِيرُ لَا يَمْنَعُ الِامْتِثَالَ وَقُلْنَا فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ إذَا دَخَلَتْ أَوْ فِي الْمَبِيعِ أَوْ فِي الثَّمَنِ فَسَدَ الْعَقْدُ ـــــــــــــــــــــــــــــQثُمَّ مَرِضَ الزَّوْجُ وَبَيَّنَ الطَّلَاقَ فِي الْمُعْتَقَةِ فَإِنَّهَا تَحْرُمُ حُرْمَةً غَلِيظَةً وَيَصِيرُ الزَّوْجُ فَارًّا حَتَّى تَرِثَ هِيَ فَاعْتُبِرَ إظْهَارًا فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ وَإِنْشَاءً فِي حَقِّ الْإِرْثِ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ لِأَنَّ حَقَّهَا تَعَلَّقَ بِمَالِهِ فِي مَرَضِهِ فَهُوَ بِالْبَيَانِ فِيهَا يُرِيدُ إبْطَالَ حَقِّهَا. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدَيْنِ لَهُ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا أَلْفٌ وَقِيمَةُ الْآخَرِ مِائَةٌ أَحَدُكُمَا حُرٌّ ثُمَّ مَرِضَ فَبَيَّنَ الْعِتْقَ فِي كَثِيرِ الْقِيمَةِ يَصِحُّ وَيُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ فَاعْتُبِرَ جِهَةُ الْإِظْهَارِ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَعْتِقَ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَعْتِقَ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْفِرَارِ لِتَحَقُّقِ التُّهْمَةِ هُنَاكَ فَاعْتُبِرَ إنْشَاءً وَعَلَى هَذَا فَقِسْ الْمَسَائِلَ فِي الزِّيَادَاتِ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ أَوْ يَتَنَاوَلُ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ قُلْنَا إذَا قَالَ وَكَّلْت هَذَا أَوْ هَذَا بِبَيْعِ هَذَا الْعَبْدِ صَحَّ التَّوْكِيلُ وَلَمْ يُشْتَرَطْ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَى الْبَيْعِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ وَهَذَا وَإِذَا بَاعَ أَحَدُهُمَا نَفَذَ الْبَيْعُ وَلَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَبِيعَهُ وَإِنْ عَادَ إلَى مِلْكِ مُوَكِّلِهِ وَقِيلَ الْبَيْعَ يُبَاحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَبِيعَهُ وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِجَهَالَةِ مَنْ وُكِّلَ بِبَيْعِهِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ جَهَالَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ فَتُحْمَلُ فِيمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ بِعْ هَذَا أَوْ هَذَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ اسْتِحْسَانًا أَيْضًا وَلَمْ يَنُصَّ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْأَصْلِ كَمَا نَصَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ فَقَالُوا الْجَهَالَةُ فِيمَا تَنَاوَلَتْهُ الْوَكَالَةُ بِالْبَيْعِ دُونَ الْجَهَالَةِ فِيمَنْ هُوَ وَكِيلٌ بِالْبَيْعِ كَمَا فِي الْإِقْرَارِ جَهَالَةُ الْمُقَرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ وَجَهَالَةُ الْمُقَرِّ لَهُ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْفَصْلَيْنِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا. وَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْبَيْعِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ الْبَيْعِ وَإِيجَابُ الْبَيْعِ فِي أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَا يَصِحُّ لِلْجَهَالَةِ فَكَذَلِكَ التَّوْكِيلُ وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ مَبْنَى الْوَكَالَةِ عَلَى التَّوَسُّعِ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ اللُّزُومُ بِنَفْسِهَا وَهَذِهِ جَهَالَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّوْكِيلِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُوَكِّلَ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى هَذَا لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيَّ الْعَبْدَيْنِ يُرَوِّجُ فَيُوَكِّلُهُ بِبَيْعِ أَحَدِهِمَا تَوْسِعَةً لِلْأَمْرِ عَلَيْهِ وَتَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ نَفْسِهِ فِي الثَّمَنِ (قَوْلُهُ وَالتَّخْيِيرُ لَا يَمْنَعُ الِامْتِثَالَ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّ الْمُوَكِّلَ إنَّ مَا أَمَرَهُ بِبَيْعِ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ وَهُوَ مَجْهُولٌ فَلَا يُمْكِنُهُ الِامْتِثَالُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ التَّوْكِيلُ فَقَالَ هَذَا الْأَمْرُ يُوجِبُ التَّخْيِيرَ وَهُوَ غَيْرُ مَانِعٍ عَنْ الِامْتِثَالِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْإِتْيَانُ بِأَحَدِهِمَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] قَوْلُهُ (وَقُلْنَا) مَعْطُوفٌ عَلَى قُلْنَا الْأَوَّلِ أَيْ وَلِأَنَّ أَوْ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ قُلْنَا كَذَا وَقُلْنَا أَيْضًا إذَا دَخَلَتْ أَوْ فِي الْمَبِيعِ بِأَنْ قَالَ بِعْت مِنْك هَذَا الثَّوْبَ أَوْ هَذَا بِعَشَرَةٍ أَوْ فِي الثَّمَنِ بِأَنْ قَالَ بِعْت مِنْك هَذَا الثَّوْبَ بِعَشَرَةٍ أَوْ بِعِشْرِينَ فَقَالَ قَبِلْت أَوْ فِي الْمُسْتَأْجَرِ بِأَنْ قَالَ آجَرْت الْيَوْمَ هَذَا الْعَبْدَ أَوْ هَذَا بِدِرْهَمٍ أَوْ فِي الْأُجْرَةِ بِأَنْ قَالَ آجَرْت هَذَا الْعَبْدَ الْيَوْمَ بِدِرْهَمٍ أَوْ بِدِرْهَمَيْنِ فَسَدَ الْعَقْدُ فِي الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّ كَلِمَةَ أَوْ أَوْجَبَتْ التَّخْيِيرَ وَمَنْ لَهُ الْخِيَارُ مِنْهُمَا غَيْرُ مَعْلُومٍ فَبَقِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ أَوْ الْمَعْقُودُ بِهِ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُؤَدِّيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ وَهِيَ مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ مَعْلُومًا فِي اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ بِأَنْ قَالَ بِعْت هَذَا أَوْ هَذَا عَلَى أَنَّك بِالْخِيَارِ تَأْخُذُ أَيَّهمَا شِئْت فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ الْعَقْدُ اسْتِحْسَانًا. وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَجُوزُ وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّ الْمَبِيعَ أَحَدُ الثَّوْبَيْنِ أَوْ الْأَثْوَابِ وَأَنَّهُ مَجْهُولٌ

إلَّا أَنْ يَكُونَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ مَعْلُومًا فِي اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فَيَصِحُّ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا أَوْجَبَ جَهَالَةً وَمُنَازَعَةً وَإِذَا كَانَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ مَعْلُومًا لَمْ يُوجِبْ مُنَازَعَةً لَكِنَّهُ يُوجِبُ خَطَرًا فَاحْتُمِلَ فِي الثَّلَاثِ اسْتِحْسَانًا ـــــــــــــــــــــــــــــQمُتَفَاوِتٌ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ كَمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ مَعْلُومًا وَكَمَا لَوْ اشْتَرَى أَحَدَ الْأَثْوَابِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهَا شَاءَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ بَعْدَ تَعَيُّنِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِأَنَّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ يَسْتَبِدُّ بِالتَّعْيِينِ فَلَا تَمْنَعُ جَوَازَ الْعَقْدِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَكِنْ بَقِيَ فِي هَذَا الْعَقْدِ مَعْنَى الْحَظْرِ لِتَرَدُّدِ عَاقِبَتِهِ إذْ يَحْتَمِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّوْبَيْنِ أَنْ يَسْتَقِرَّ الْعَقْدُ فِيهِ وَأَنْ لَا يَسْتَقِرَّ وَالْحَظْرُ مُفْسِدٌ كَالشَّرْطِ فَلَمَّا اُحْتُمِلَ الشَّرْطُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ فِي الْمَحَلِّ الْوَاحِدِ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ يُتَحَمَّلُ الْحَظْرُ هَهُنَا أَيْضًا فِي الثَّلَاثَةِ اعْتِبَارًا لِلْمَحَلِّ بِالزَّمَانِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ مُتَحَقِّقَةٌ هَهُنَا أَيْضًا لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى اخْتِيَارِ مَنْ يَثِقُ بِهِ أَوْ اخْتِيَارِ مَنْ يَشْتَرِيهِ لِأَجْلِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ مِنْ الْحَمْلِ إلَيْهِ إلَّا بِالتَّبَعِ فَكَانَ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ وَلَمَّا لَمْ يُتَحَمَّلْ فِي الشَّرْطِ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةٍ لِانْدِفَاعِ الْحَاجَةِ بِمَا دُونَهُ غَالِبًا لَمْ يُتَحَمَّلْ هَهُنَا أَيْضًا فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ لِانْدِفَاعِ الْحَاجَةِ بِمَا دُونَهُ إذْ الثَّلَاثَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى كُلِّ الْأَوْصَافِ جَيِّدٍ وَوَسَطٍ وَرَدِيءٍ فَيَصِيرُ الزِّيَادَةُ لَغْوًا وَصْفًا كَذَا فِي الْأَسْرَارِ فَإِنْ قِيلَ فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ الْمُعَلَّقُ هُوَ الْحُكْمُ دُونَ الْعَقْدِ وَهَهُنَا الْمُعَلَّقُ نَفْسُ الْعَقْدِ وَهَذَا فَوْقَ ذَلِكَ فَكَيْفَ يَجُوزُ الْإِلْحَاقُ بِهِ. قُلْنَا نَعَمْ وَلَكِنَّ الْحُكْمَ ثَمَّةَ غَيْرُ ثَابِتٍ أَصْلًا وَهَهُنَا الْحُكْمُ ثَبَتَ فِي أَحَدِهِمَا نَكِرَةً فَفِي حَقِّ الْحُكْمِ تَأْثِيرُ شَرْطِ الْخِيَارِ أَكْثَرُ وَفِي حَقِّ الْعَقْدِ تَأْثِيرُ الشَّرْطِ هَهُنَا أَكْثَرُ فَاسْتَوَيَا فَجَازَ الْإِلْحَاقُ وَلَا يُقَالُ لَمَّا جَازَ خِيَارُ الشَّرْطِ عِنْدَهُمَا فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ الْمُدَّةُ مَعْلُومَةً يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ خِيَارُ التَّعْيِينِ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ أَيْضًا لِأَنَّا نَقُولُ إنَّهُمَا إنَّمَا جَوَّزَا خِيَارَ الشَّرْطِ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ بِالْأَثَرِ غَيْرِ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَلَا يُمْكِنُ الْإِلْحَاقُ بِهِ. وَقَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ مَعْلُومًا يُشِيرُ بِعُمُومِهِ إلَى ثُبُوتِ خِيَارِ التَّعْيِينِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ وَبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ فِي جَانِبِ الْمُشْتَرِي اعْتِبَارًا بِخِيَارِ الشَّرْطِ يَثْبُتُ فِي جَانِبِ الْبَائِعِ أَيْضًا اعْتِبَارًا بِهِ وَذَكَرَ فِي الْمُجَرَّدِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي حَقِّ الْبَائِعِ لِأَنَّ الْجَوَازَ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي ثَبَتَ لِدَفْعِ الْحَاجَةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ مَا هُوَ الْأَرْفَقُ بِحَضْرَةِ مَنْ يَقَعُ الشِّرَاءُ لَهُ وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ فِي جَانِبِ الْبَائِعِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ قَدْ كَانَ مَعَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ وَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ إلَى فَصْلِ الْمَبِيعِ دُونَ الثَّمَنِ حَتَّى لَوْ كَانَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ مَعْلُومًا فِي فَصْلِ الثَّمَنِ بِأَنْ قَالَ بِعْت مِنْك هَذَا الثَّوْبَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ بِدِينَارٍ عَلَى أَنْ آخُذَ مِنْك أَيَّهمَا شِئْت أَوْ عَلَى أَنْ تُؤَدِّيَ إلَيَّ أَيَّهمَا شِئْت لَا يَصِحُّ لِأَنَّ جَوَازَهُ ثَبَتَ إلْحَاقًا لَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْمَبِيعِ دُونَ الثَّمَنِ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَيْهِ فِي الثَّمَنِ لَيْسَتْ مِثْلَ الْحَاجَةِ فِي الْمَبِيعِ فَيُرَدُّ إلَى الْقِيَاسِ وَكَذَا حُكْمُ الْأُجْرَةِ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ فَأَمَّا الْمُسْتَأْجَرُ فِيهِ فَمِثْلُ الْمَبِيعِ فِي خِيَارِ التَّعْيِينِ لِأَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ وَخِيَارَ الرُّؤْيَةِ وَخِيَارَ الْعَيْبِ تَجْرِي فِيهِ فَيَجْرِي خِيَارُ التَّعْيِينِ أَيْضًا وَذَكَرَ فِي الْفَصْلِ السَّادِسِ مِنْ إجَارَاتِ الْمُحِيطِ الْأَصْلُ أَنَّ الْإِجَارَةَ إذَا وَقَعَتْ عَلَى أَحَدِ شَيْئَيْنِ وَسَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ أَجْرًا مَعْلُومًا بِأَنْ قَالَ آجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ بِخَمْسَةٍ أَوْ هَذِهِ الْأُخْرَى بِعَشَرَةٍ أَوْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ فِي حَانُوتَيْنِ أَوْ عَبْدَيْنِ أَوْ مَسَافَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ إلَى وَاسِطَ بِكَذَا أَوْ إلَى الْكُوفَةِ بِكَذَا فَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا. وَكَذَا إذَا خَيَّرَهُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي الْمَهْرِ إذَا دَخَلَهُ أَوَانُ التَّخْيِيرَ إذَا كَانَ مُفِيدًا أَوْجَبَ التَّخْيِيرَ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْجَامِعِ تَزَوَّجْتُك عَلَى أَلْفٍ حَالَّةٍ أَوْ أَلْفَيْنِ إلَى سَنَةٍ أَوْ أَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ مِائَةِ دِينَارٍ أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُعْطِيَ أَيَّ الْمَهْرَيْنِ شَاءَ وَإِذَا لَمْ يُفِدْ التَّخْيِيرَ مِثْلُ أَلْفٍ أَوْ أَلْفَيْنِ لَزِمَهُ الْأَقَلُّ إلَّا أَنْ يُعْطِيَ الزِّيَادَةَ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَمَّا لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى التَّسْمِيَةِ اُعْتُبِرَتْ التَّسْمِيَةُ بِالْإِقْرَارِ بِالْمَالِ مُفْرَدًا وَبِالْوَصَايَا وَبِبَدَلِ الْخُلْعِ وَالْعِتْقِ وَالصُّلْحِ عَنْ الْقَوَدِ وَصَارَ مَنْ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ أَوْلَى بِالْبَيَانِ وَالتَّخْيِيرِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُوجِبُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُصَارُ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِطَرِيقِ التَّخْيِيرِ غَيْرُ مَعْلُومٍ إلَّا بِشَرْطِ الِاخْتِيَارِ فَلَا يَقْطَعُ الْمُوجِبُ الْمُتَعَيِّنَ بِخِلَافِ الْعِتْقِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ الْقَوَدِ لِأَنَّهُ لَا يُعَارِضُهُ مُوجِبٌ مُتَعَيَّنٍ لِأَنَّهُ جَائِزٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَأَمَّا النِّكَاحُ فَلَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِمَهْرِ الْمِثْلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَإِنْ ذَكَرَ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ لَمْ يَجُزْ وَكَذَا هَذَا فِي أَنْوَاعِ الصِّبْغِ وَالْخِيَاطَةِ إذَا ذَكَرَ ثَلَاثَةً جَازَ وَإِنْ زَادَ عَلَيْهَا لَمْ يَجُزْ اسْتِدْلَالًا بِالْبَيْعِ إلَّا أَنَّ فَرْقَ مَا بَيْنَ الْإِجَارَةِ وَالْبَيْعِ أَنَّ الْإِجَارَةَ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْخِيَارِ حَتَّى أَنَّ مَنْ بَاعَ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَإِجَارَةُ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْخِيَارِ (قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ) إلَى آخِرِهِ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَلْفٍ حَالَّةً أَوْ عَلَى أَلْفَيْنِ إلَى سَنَةٍ أَوْ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ مِائَةِ دِينَارٍ أَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ أَوْ أَلْفَيْنِ أَوْ عَلَى أَلْفٍ حَالَّةً أَوْ أَلْفٍ نَسِيئَةً لَا يُحْكَمُ مَهْرُ الْمِثْلِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ عِنْدَهُمَا بِحَالٍ بَلْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلزَّوْجِ إذَا كَانَ التَّخْيِيرُ مُفِيدًا بِأَنْ كَانَ الْمَالَانِ مُخْتَلِفَيْنِ وَصْفًا كَمَا فِي الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ إلَى سَنَةٍ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَالَيْنِ أَنْقَصُ مِنْ الْآخَرِ مِنْ وَجْهٍ وَأَزْيَدُ مِنْ وَجْهٍ أَوْ جِنْسًا كَمَا فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَيُعْطِي أَيَّ الْمَهْرَيْنِ شَاءَ لِأَنَّ مُوجَبَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ التَّخْيِيرُ وَقَدْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ التَّخْيِيرُ مُفِيدًا كَمَا فِي الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ أَوْ الْأَلْفِ الْحَالَّةِ وَالْأَلْفِ الْمُؤَجَّلَةِ إذْ لَا فَائِدَةَ فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ لَزِمَهُ الْأَقَلُّ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الْمَالِ فِي النِّكَاحِ مُنْفَصِلَةٌ عَنْ الْعَقْدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ الْعَقْدُ عَلَى ذِكْرِهِ فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْتِزَامِ الْمَالِ بِغَيْرِ عَقْدٍ فَيَجِبُ الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ اُعْتُبِرَتْ التَّسْمِيَةُ بِالْإِقْرَارِ بِالْمَالِ مُفْرَدًا أَيْ صَارَ كَأَنَّهُ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِأَلْفٍ أَوْ أَلْفَيْنِ أَوْ أَوْصَى لِفُلَانٍ بِأَلْفٍ أَوْ أَلْفَيْنِ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ تَمَامِهِ وَالتَّخْيِيرَ بَيْنَ الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ فَكَانَ قِيَاسَ الطَّلَاقِ بِمَالٍ وَالْعِتْقِ بِمَالٍ وَهُنَاكَ إذَا سَمَّى الْأَلْفَ وَالْأَلْفَيْنِ يَجِبُ الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ فَكَذَا هَهُنَا وَلَا وَجْهَ لِلرُّجُوعِ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ مُوجَبُ نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ وَبِالتَّخْيِيرِ لَا تَنْعَدِمُ التَّسْمِيَةُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. وَقَوْلُهُ وَصَارَ مَنْ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ رَدٌّ لِمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ إنَّ الْخِيَارَ لِلْمَرْأَةِ إذَا كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَقَالَا مَنْ اُسْتُفِيدَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ جِهَتِهِ أَيْ صَدَرَ هَذَا الْإِيجَابُ مِنْهُ أَوْلَى بِبَيَانِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُجْمِلُ فَكَانَ الْخِيَارُ لَهُ بِكُلِّ حَالٍ قَوْلُهُ (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُصَارُ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ) أَيْ يُحْكَمُ مَهْرُ الْمِثْلِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا لِأَنَّهُ الْوَاجِبُ الْأَصْلِيُّ فِي النِّكَاحِ كَالْقِيمَةِ فِي بَابِ الْبَيْعِ وَأَجْرِ الْمِثْلِ فِي الْإِجَارَةِ وَإِنَّمَا يُعْدَلُ عَنْهُ إذَا كَانَتْ التَّسْمِيَةُ مَعْلُومَةً قَطْعًا وَلَمْ يُوجَدْ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ إنَّ الْخِلَافَ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ مَا مُوجَبُهُ وَمُوجَبُهُ الْمُسَمَّى فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ مَا أَمْكَنَ وَقَدْ وُجِدَ فِي مَسْأَلَةِ الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ تَسْمِيَتَانِ أَحَدَيْهِمَا لَا شَكَّ فِيهَا وَالْأُخْرَى فِيهَا شَكٌّ فَتَثْبُتُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهَا فَلَمْ يَجِبْ مَهْرُ الْمِثْلِ. قُلْنَا النِّكَاحُ لِمَا صَحَّ بِمَهْرِ الْمِثْلِ صَارَ هُوَ الْوَاجِبُ الْأَصْلِيُّ لِأَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ قَبْلَ التَّسْمِيَةِ فَكَانَتْ التَّسْمِيَةُ زِيَادَةً لَا مَحَالَةَ فَحَلَّ مَحَلَّ أَجْرِ الْمِثْلِ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ فَلَا يَجِبُ الْعُدُولُ عَنْهُ بِالشَّكِّ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ فَصَارَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ الْمُوجَبَ الْأَصْلِيَّ فِي النِّكَاحِ هُوَ الْمُسَمَّى فَلَا يُمْكِنُ الْمَصِيرُ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ إلَّا إذَا فَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ لَمَّا كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَاجِبًا بِنَفْسِ الْعَقْدِ كَانَ هُوَ الْأَصْلُ فَالْعُدُولُ إلَى الْمُسَمَّى حِينَ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ وَلَمْ يَثْبُتْ ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْأَلْفِ الْحَالَّةِ وَالْأَلْفَيْنِ

وَعَلَى هَذَا قُلْنَا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] إنَّ الْوَاجِبَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ يَتَعَيَّنُ بِاخْتِيَارِهِ مِنْ طَرِيقِ الْفِعْلِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا ذُكِرَتْ فِي مَوْضِعِ الْإِنْشَاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَى سَنَةٍ إنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفَيْ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ فَالْخِيَارُ لِلْمَرْأَةِ إنْ شَاءَتْ أَخَذَتْ الْأَلْفَ الْحَالَّةَ وَإِنْ شَاءَتْ كَانَ لَهَا الْأَلْفَانِ إلَى سَنَةٍ لِأَنَّهَا الْتَزَمَتْ أَحَدَ وَجْهَيْ الْحَظِّ إمَّا الْقَدْرُ وَإِمَّا الْأَجَلُ وَالْمَقَاصِدُ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ فَوَجَبَ التَّخْيِيرُ وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَقَلَّ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ كَانَ الْخِيَارُ لِلزَّوْجِ يُعْطِيهَا أَيَّهمَا شَاءَ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ هُوَ الْحَكَمُ وَقَدْ الْتَزَمَ الزَّوْجُ أَحَدَ وَجْهَيْنِ مِنْ الزِّيَادَةِ إمَّا الزِّيَادَةُ إلَى أَلْفَيْ دِرْهَمٍ لَكِنْ بِصِفَةِ الْأَجَلِ وَإِمَّا أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ غَيْرِ أَجَلٍ وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ فَيَخْتَارُ أَيَّهمَا شَاءَ كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ لِلْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا قُلْنَا) أَيْ عَلَى أَنَّ أَوْ يَتَنَاوَلُ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ فَيُوجِبُ التَّخْيِيرَ فِي مَوْضِعِ الْإِنْشَاءِ قُلْنَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ مَا الْوَاجِبَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] الْآيَةَ وَكَفَّارَةُ الْحَلْقِ الْوَاجِبَةُ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وَجَزَاءُ الصَّيْدِ الثَّابِتُ بِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] الْآيَةَ أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا وَفِي أَمْثَالِهَا وَاحِدٌ مِنْ الْجُمْلَةِ غَيْرُ عَيْنٍ وَالْمُكَلَّفُ مُخَيَّرٌ فِي تَعْيِينِ وَاحِدٍ مِنْهَا فِعْلًا لَا قَوْلًا فَيَتَعَيَّنُ فِي ضِمْنِ الْفِعْلِ وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَيُسَمَّى هَذَا وَاجِبًا مُخَيَّرًا وَذَهَبَتْ شِرْذِمَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْمُعْتَزِلَةُ إلَى أَنَّ الْكُلَّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ فَإِذَا فَعَلَ أَحَدَهَا سَقَطَ وُجُوبُ بَاقِيهَا. ثُمَّ إنَّهُ إذَا أَتَى بِالْكُلِّ كَانَ الْوَاجِبُ وَاحِدًا مِنْهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الَّذِي كَانَ أَعْلَاهَا قِيمَةً وَلَوْ تَرَكَ الْكُلَّ كَانَ مُعَاقَبًا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا وَهُوَ الَّذِي كَانَ أَدْنَاهَا قِيمَةً لِأَنَّ الْفَرْضَ يَسْقُطُ بِالْأَدْنَى وَاخْتَلَفَ الْمُخَالِفُونَ فِي ذَلِكَ فَعَامَّتُهُمْ وَافَقُونَا فِيهِ فَكَانَ الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ لَفْظِيًّا لَا مَعْنَوِيًّا كَمَا قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ إنَّهُمْ يَعْنُونَ بِوُجُوبِ الْجَمِيعِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِجَمِيعِهَا وَلَا يَجِبُ الْإِتْيَانُ بِهِ وَلِلْمُكَلَّفِ اخْتِيَارُ أَيِّ وَاحِدٍ كَانَ وَهُوَ بِعَيْنِهِ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّهُ إذَا أَتَى بِالْجَمِيعِ يُثَابُ ثَوَابَ الْوَاجِبِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ وَلَوْ تَرَكَ الْجَمِيعَ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ كُلِّ وَاحِدٍ فَعَلَى هَذَا كَانَ الْخِلَافُ مَعْنَوِيًّا قَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ فَرْعُ مَسْأَلَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ التَّكْلِيفَ يُبْتَنَى عَلَى حَقِيقَةِ الْعِلْمِ عِنْدَهُمْ دُونَ السَّبَبِ الْمُوَصِّلِ إلَيْهِ وَإِيجَابُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ غَيْرِ عَيْنِ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا عِلْمَ لِلْمُكَلَّفِ بِهِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مَجْهُولٌ حَالَةَ التَّكْلِيفِ فَيَكُونُ تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ. وَعِنْدَنَا التَّكْلِيفُ يُبْتَنَى عَلَى سَبَبِ الْعِلْمِ لَا عَلَى حَقِيقَتِهِ كَمَا يُبْتَنَى عَلَى سَبَبِ الْقُدْرَةِ لَا عَلَى حَقِيقَتِهَا وَهَهُنَا طَرِيقُ الْعِلْمِ قَائِمٌ وَهُوَ الِاخْتِيَارُ فَلَا يَكُونُ تَكْلِيفَ الْعَاجِزِ تَمَسَّكُوا فِي ذَلِكَ بِأَنَّ إيجَابَ أَحَدِ الْأَشْيَاءِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُوجَبُهُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا عَيْنًا أَوْ فِي وَاحِدٍ غَيْرِ عَيْنٍ أَوْ فِي الْكُلِّ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ لَا وَجْهَ لِلْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ لِأَنَّهُ خِلَافُ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ كَيْفَ وَالتَّخْيِيرُ يُنَافِيهِمَا وَلَا لِلثَّانِي لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ بِمَا هُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ لِلْمُكَلَّفِ وَقْتَ التَّكْلِيفِ وَالتَّكْلِيفُ بِإِتْيَانِ الْمَجْهُولِ تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ وَهُوَ بَاطِلٌ فَتَعَيَّنَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْكُلِّ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ وَهُوَ طَرِيقٌ مَشْرُوعٌ مُوَافِقٌ لِلْأُصُولِ فَإِنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ مِثْلَ الْجِهَادِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ يَجِبُ عَلَى الْكُلِّ بِطَرِيقِ الْبَدَلِ حَتَّى إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ وَلِعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْأَمْرَ بِأَحَدِ الْأَشْيَاءِ لَمَّا صَحَّ حَتَّى لَوْ تَرَكَ الْكُلَّ أَثِمَ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا بِأَحَدِهَا عَيْنًا وَلَا بِالْكُلِّ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَا بِالْكُلِّ عَلَى سَبِيلِ

فَأَوْجَبَ التَّخْيِيرَ عَلَى احْتِمَالِ الْإِبَاحَةِ حَتَّى إذَا فَعَلَ الْكُلَّ جَازَ فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْكُلُّ وَاجِبًا فَلَا عَلَى مَا زَعَمَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا فِي كَفَّارَةِ الْحَلْقِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} [المائدة: 33] فَقَدْ جَعَلَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لِلتَّخْيِيرِ فَأَوْجَبُوا التَّخْيِيرَ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ قَطْعِ الطَّرِيقِ وَقُلْنَا نَحْنُ هَذِهِ ذُكِرَتْ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ بِالْمُحَارَبَةِ وَالْمُحَارَبَةُ مَعْلُومَةٌ بِأَنْوَاعِهَا عَادَةً بِتَخْوِيفٍ أَوْ أَخْذِ مَالٍ أَوْ قَتْلٍ أَوْ قَتْلٍ وَأَخْذِ مَالٍ فَاسْتَغْنَى عَنْ بَيَانِهَا وَاكْتَفَى بِإِطْلَاقِهَا بِدَلَالَةِ تَنْوِيعِ الْجَزَاءِ فَصَارَتْ أَنْوَاعُ الْجَزَاءِ مُقَابَلَةً بِأَنْوَاعِ الْمُحَارَبَةِ فَأَوْجَبَ التَّفْضِيلَ وَالتَّقْسِيمَ عَلَى حَسَبِ أَحْوَالِ الْجِنَايَةِ وَتَفَاوُتِ الْأَجْزِيَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْبَدَلِ لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْكُلَّ لَا يَأْثَمُ إلَّا إثْمَ الْوَاحِدِ وَلَوْ أَتَى بِالْكُلِّ لَا يُثَابُ ثَوَابَ الْوَاجِبِ إلَّا عَلَى الْوَاحِدِ وَذَلِكَ يُخَالِفُ حَدَّ الْوَاجِبِ تَعَيَّنَ أَنَّهُ أَمْرٌ بِأَحَدِ الْأَشْيَاءِ غَيْرِ عَيْنٍ وَهُوَ جَائِزٌ عَقْلًا فَإِنَّ السَّيِّدَ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ أَوْجَبْت عَلَيْك خِيَاطَةَ هَذَا الثَّوَابِ أَوْ بِنَاءَ هَذَا الْحَائِطِ فِي هَذَا الْيَوْمِ أَيُّهُمَا فَعَلْت اكْتَفَيْت بِهِ وَأَثَبْتُكَ بِهِ وَإِنْ تَرَكْتهمَا عَاقَبْتُك وَلَسْت أُوجِبُ الْجَمِيعَ وَإِنَّمَا أُوجِبُ وَاحِدًا لَا بِعَيْنِهِ أَيَّ وَاحِدٍ أَرَدْت كَانَ هَذَا كَلَامًا مَعْقُولًا وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ إيجَابُ الْجَمِيعِ لِلتَّصْرِيحِ بِنَقِيضِهِ فَكَذَا إذَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ وَلَيْسَ هَذَا تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ لِقِيَامِ سَبَبِ حُصُولِ الْعِلْمِ بِالْوَاجِبِ عَيْنًا بِاخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ وَشُرُوعِهِ فِي الْفِعْلِ وَذَلِكَ كَافٍ لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ. قَوْلُهُ (فَأَوْجَبَ التَّخْيِيرَ عَلَى احْتِمَالِ الْإِبَاحَةِ) التَّخْيِيرُ الثَّابِتُ بِكَلِمَةِ أَوْ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَثْبُتَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْكُلِّ كَقَوْلِك اضْرِبْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا كَانَ لَهُ أَنْ يَضْرِبَ أَيَّهمَا شَاءَ وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْحَظْرُ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ بِعَارِضِ الْأَمْرِ وَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ وَاحِدًا مِنْ الْجُمْلَةِ فَتُقْصَرُ عَلَيْهِ وَالثَّانِي أَنْ يَثْبُتَ عَلَى وَجْهٍ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْكُلِّ كَقَوْلِك جَالِسْ الْفُقَهَاءَ أَوْ الْمُحَدِّثِينَ كَانَ لَهُ أَنْ يُجَالِسَ أَيَّ فَرِيقٍ شَاءَ وَأَنْ يُجَالِسَهُمْ جَمِيعًا لِأَنَّ إبَاحَةَ مُجَالَسَتُهُمْ وَمُجَالَسَةُ غَيْرِهِمْ قَدْ كَانَتْ ثَابِتَةً قَبْلَ الْأَمْرِ فَبِالْأَمْرِ اقْتَصَرَتْ عَلَى الْمَذْكُورَيْنِ وَصَارَ مَعْنَى الْكَلَامِ اقْتَصِرْ عَلَى مُجَالَسَةِ هَؤُلَاءِ وَلَا تُجَالِسْ غَيْرَهُمْ ثُمَّ إنْ كَانَ الْأَمْرُ لِلْإِبَاحَةِ كَمَا فِي النَّظِيرِ الْمَذْكُورِ يَحْصُلُ الِامْتِثَالُ بِالْجَمِيعِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْوَاحِدِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ الِاقْتِصَارُ حَاصِلٌ بِالْجَمِيعِ كَمَا هُوَ حَاصِلٌ بِالْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ لِلْوُجُوبِ كَانَ الِامْتِثَالُ بِالْوَاحِدِ لَا غَيْرُ وَإِنْ أَتَى بِالْجَمِيعِ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا وَاحِدًا مِنْ الْجُمْلَةِ وَلَكِنْ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِالْجَمِيعِ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً قَبْلَ الْأَمْرِ فَتَبْقَى عَلَى مَا كَانَتْ. فَمِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ قَوْلُ الرَّجُلِ لِآخَرَ طَلِّقْ مِنْ نِسَائِي فُلَانَةَ أَوْ فُلَانَةَ أَوْ أَعْتِقْ مِنْ عَبِيدِي فُلَانًا أَوْ فُلَانًا أَوْ بِعْ مِنْهُمْ فُلَانًا أَوْ فُلَانًا وَقَوْلُ الْمَرْأَةِ الطَّالِبَةِ لِلنِّكَاحِ مِنْ أَحَدِ الْكُفُوَيْنِ لِوَلِيِّهَا زَوِّجْنِي فُلَانًا أَوْ فُلَانًا يَثْبُتُ التَّخْيِيرُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كَانَتْ مَحْظُورَةً عَلَى الْمَأْمُورِ قَبْلَ الْأَمْرِ وَمِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي خِصَالُ الْكَفَّارَةِ وَجَزَاءُ الصَّيْدِ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ فَيَثْبُتُ التَّخْيِيرُ فِيهَا عَلَى وَجْهٍ يُجَوِّزُ الْجَمْعَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كَانَتْ مُبَاحَةً قَبْلَ الْأَمْرِ فَبَقِيَتْ عَلَى الْإِبَاحَةِ فَاتَّضَحَ بِمَا ذَكَرْنَا مَعْنَى قَوْلِهِ فَأَوْجَبَ التَّخْيِيرَ عَلَى احْتِمَالِ الْإِبَاحَةِ وَظَهَرَ أَنَّهُ احْتِرَازٌ عَنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] أَيْ يُحَارِبُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمَوَدَّةُ إذَا اسْتَحْكَمَتْ يُضِيفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحِبِّينَ فِعْلَ صَاحِبِهِ إلَى نَفْسِهِ وَفِي الْخَبَرِ الْإِلَهِيِّ «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ» أَوْ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ لِلتَّبَرُّكِ وَتَشْرِيفِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] وَالْمُرَادُ مُحَارَبَةُ رَسُولِ اللَّهِ وَمُحَارَبَةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي حُكْمِ مُحَارَبَتِهِ {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33] أَيْ مُفْسِدِينَ أَوْ لِأَنَّ سَعْيَهُمْ لَمَّا كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْفَسَادِ نَزَلَ مَنْزِلَةَ وَيُفْسِدُونَ فَانْتَصَبَ فَسَادًا عَلَى الْمَعْنَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ أَيْ لِلْفَسَادِ وَالسَّعْيُ هُوَ الْمَشْيُ بِسُرْعَةٍ وَاسْتُعِيرَ فِي الْكَسْبِ وَالتَّصَرُّفِ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ غَالِبًا وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة: 33] ذَهَبَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَمَالِكٌ إلَى أَنَّ الْإِمَامَ بِالْخِيَارِ فِي الْعُقُوبَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَقِّ كُلِّ قَاطِعِ طَرِيقٍ

وَقَدْ وَرَدَ بَيَانُهُ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ بِالسُّنَّةِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حِينَ نَزَلَ بِالْحَدِّ عَلَى أَصْحَابِ أَبِي بُرْدَةَ عَلَى التَّفْصِيلِ فَأَمَّا فِيمَا سَبَقَ فَلَا أَنْوَاعَ لِلْجِنَايَةِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَجْزِيَةِ فَأَوْجَبَ التَّخْيِيرَ وَهَذَا لِأَنَّ مُقَابَلَةَ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ يُوجِبُ التَّقْسِيمَ لَا مَحَالَةَ وَالْجِنَايَةُ بِأَنْوَاعِهَا لَا تَقَعُ إلَّا مَعْلُومَةً فَكَذَلِكَ الْجَزَاءُ ـــــــــــــــــــــــــــــQكَذَا فِي الْكَشَّافِ وَالْمَبْسُوطِ وَأُشِيرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ إلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ وَالْقَطْعِ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ قَطْعِ الطَّرِيقِ عِنْدَهُمْ وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى النَّفْيِ لِأَنَّ مَنْ أَثْبَتَ التَّخْيِيرَ لَمْ يَجْعَلْ النَّفْيَ جَزَاءً عَلَى حِدَةٍ بَلْ حَمَلَ كَلِمَةَ أَوْ فِي قَوْلِهِ {أَوْ يُنْفَوْا} [المائدة: 33] عَلَى الْوَاوِ وَالنَّفْيَ عَلَى الْقَتْلِ فَكَانَ بِمَعْنَاهُ وَيُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ بِالْقَتْلِ وَالصَّلْبِ قَالُوا كَلِمَةُ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ بِحَقِيقَتِهَا فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا إلَى أَنْ يَقُومَ دَلِيلُ الْمَجَازِ لِأَنَّ قَطْعَ الطَّرِيقِ فِي ذَاتِهِ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ وَهَذِهِ الْأَجْزِيَةُ ذُكِرَتْ بِمُقَابَلَتِهَا فَيَصْلُحُ كُلُّ وَاحِدٍ جَزَاءً لَهُ فَيَثْبُتُ التَّخْيِيرُ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَلَكِنَّا نَقُولُ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِالتَّخْيِيرِ هَهُنَا لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى حَسَبِ الْجِنَايَةِ يَزْدَادُ بِزِيَادَتِهَا وَيَنْتَقِصُ بِنُقْصَانِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] فَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ عِنْدَ غِلَظِ الْجِنَايَةِ يُعَاقَبُ بِأَخَفِّ الْأَنْوَاعِ وَعِنْدَ خِفَّتِهَا بِأَغْلَظِ الْأَنْوَاعِ تَقْرِيرُهُ أَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ أَوْ آخِذَ الْمَالِ لَا يُجَازَى بِالنَّفْيِ وَحْدَهُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْأَجْزِيَةِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْكُلِّ فَدَلَّ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ التَّخْيِيرِ كَذَا فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ 1 - ثُمَّ الْمُحَارَبَةُ أَنْوَاعٌ كُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا مَعْلُومٌ مِنْ تَخْوِيفٍ أَوْ أَخْذِ مَالٍ أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ أَوْ جَمْعٍ بَيْنَ الْقَتْلِ وَأَخْذِ الْمَالِ وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ تَتَفَاوَتُ فِي صِفَةِ الْجِنَايَةِ وَالْمَذْكُورُ أَجْزِيَةٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِي مَعْنَى التَّشْدِيدِ فَوَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ بِتِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ عَنْ بَيَانِ تَقْسِيمِ الْأَجْزِيَةِ عَلَى أَنْوَاعِ الْجِنَايَةِ نَصًّا وَهَذَا التَّقْسِيمُ ثَابِتٌ بِأَصْلٍ مَعْلُومٍ وَهُوَ أَنَّ الْجُمْلَةَ إذَا قُوبِلَتْ بِالْجُمْلَةِ يَنْقَسِمُ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ كَمَا يُقَالُ لِمَنْ يَسْأَلُ عَنْ حُدُودِ الْكَبَائِرِ هِيَ جَلْدٌ مِائَةً أَوْ ثَمَانِينَ أَوْ الرَّجْمُ أَوْ الْقَطْعُ يُفْهَمُ مِنْهُ التَّقْسِيمُ وَالتَّفْصِيلُ لَا التَّخْيِيرُ فَكَذَا هَهُنَا وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى النَّصِّ أَنَّ جَزَاءَ الْمُحَارِبِينَ لَا يَخْلُو عَنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ إمَّا أَنْ يُقَتَّلُوا مِنْ غَيْرِ صَلْبٍ إنْ أَفْرَدُوا الْقَتْلَ أَوْ يُصَلَّبُوا مَعَ الْقَتْلِ إنْ جَمَعُوا بَيْنَ الْأَخْذِ وَالْقَتْلِ {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} [المائدة: 33] إنْ أَفْرَدُوا الْأَخْذَ قَطْعُ الْيَدِ لِأَخْذِ الْمَالِ وَالرِّجْلِ لِإِخَافَةِ السَّبِيلِ أَوْ لِتَغَلُّظِ الْجِنَايَةِ بِالْمُجَاهَرَةِ {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] بِالْحَبْسِ إنْ أَفْرَدُوا الْإِخَافَةَ، وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ أَنَّ كَلِمَةَ أَوْ مَتَى ذُكِرَتْ بَيْنَ الْأَجْزِيَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَسْبَابِ يُرَادُ بِهَا التَّرْتِيبُ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَإِلَّا فَهِيَ لِلتَّخْيِيرِ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ. قَوْلُهُ (وَقَدْ وَرَدَ بَيَانُهُ) أَيْ بَيَانُ الْحَدِّ الْمَذْكُورِ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ وَهُوَ التَّقْسِيمُ عَلَى أَحْوَالِ الْجِنَايَةِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَادَعَ أَبَا بُرْدَةَ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَبَا بَرْزَةَ هِلَالَ بْنَ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيِّ وَهُوَ الْأَصَحُّ عَلَى أَنْ لَا يُعِينَهُ وَلَا يُعِينَ عَلَيْهِ فَجَاءَ أُنَاسٌ يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ فَقَطَعَ عَلَيْهِمْ أَصْحَابُهُ الطَّرِيقَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْحَدِّ فِيهِمْ أَنَّ مَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ صُلِبَ وَمَنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ قُتِلَ وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ وَمَنْ جَاءَ مُسْلِمًا هَدَمَ الْإِسْلَامُ مَا كَانَ مِنْهُ فِي الشِّرْكِ» وَفِي رِوَايَةِ عَطِيَّةَ عَنْهُ «وَمَنْ أَخَافَ الطَّرِيقَ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ نُفِيَ» فَفِي هَذَا الْخَبَرِ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ أَوْ هَهُنَا لِلتَّفْصِيلِ دُونَ التَّخْيِيرِ (فَإِنْ قِيلَ) فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ قَطَعُوا عَلَى أُنَاسٍ يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ وَبِنَفْسِ الْإِرَادَةِ لَا يَثْبُتُ الْإِسْلَامُ وَلَا يَخْرُجُ الْكَافِرُ عَنْ كَوْنِهِ حَرْبِيًّا وَقَدْ ثَبَتَ

حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ إنَّ الْإِمَامَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ أَوْ صَلَبَهُ وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُ ابْتِدَاءً أَوْ صَلَبَهُ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تَحْتَمِلُ الِاتِّحَادَ وَالتَّعَدُّدَ فَكَذَلِكَ الْجَزَاءُ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالدَّلِيلِ أَنَّ مَنْ قَطَعَ عَلَى حَرْبِيٍّ طَرِيقًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَإِنْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا قُلْنَا قَدْ قِيلَ إنَّهُمْ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا فَجَاءُوا يُرِيدُونَ الْهِجْرَةَ لِتَعَلُّمِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فَكَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ يُرِيدُونَ تَعَلُّمَ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ بَلْ جَاءُوا عَلَى قَصْدِ أَنْ يُسْلِمُوا وَمَنْ جَاءَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ عَلَى هَذَا الْقَصْدِ فَوَصَلَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْحَدُّ يَجِبُ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ كَمَا يَجِبُ بِالْقَطْعِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِينَ (فَإِنْ قِيلَ) دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ صُلِبَ وَمَنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ قُتِلَ وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ فَقَدْ أَوْجَبَ عَلَى كُلِّ فَرِيقٍ حَدًّا عَلَى حِدَةٍ بِسَبَبِ قَطْعِ طَرِيقٍ وَاحِدٍ وَمَتَى قَطَعَ الطَّرِيقَ جَمَاعَةٌ فَقَتَلَ الْبَعْضُ مِنْهُمْ وَأَخَذَ الْمَالَ فَإِنَّ الصَّلْبَ يَجِبُ عَلَى الْكُلِّ بِلَا تَفْصِيلٍ قُلْنَا الْحَدُّ ذُكِرَ مُطْلَقًا فِي الْحَدِيثِ إذْ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ أَنَّ مَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ مِنْهُمْ صُلِبَ فَيَنْصَرِفُ كُلُّ حَدٍّ إلَى نَوْعٍ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ عَلَى حِدَةٍ وَلَا يَنْصَرِفُ كُلُّهُ إلَى أَصْحَابِ أَبِي بُرْدَةَ فَكَانَ أَصْحَابُهُ سَبَبًا لِبَيَانِ الْحُكْمِ فِي كُلِّ نَوْعٍ لَا أَنْ كَانَ الْحُكْمُ فِيهِمْ عَلَى التَّفْصِيلِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مُضَافٍ إلَيْهِمْ وَالْعِبْرَةُ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ كَذَا ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ (حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ) يَعْنِي لَمَّا انْقَسَمَتْ أَنْوَاعُ الْجَزَاءِ عَلَى أَنْوَاعِ الْجِنَايَةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا جَمَعَ بَيْنَ الْأَخْذِ وَالْقَتْلِ كَانَ لِلْإِمَامِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ قَطَعَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ أَوْ صَلَبَهُ وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُ أَوْ صَلَبَهُ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ جِهَةُ الِاتِّحَادِ وَجِهَةُ التَّعَدُّدِ أَمَّا جِهَةُ التَّعَدُّدِ فَلِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْقَطْعِ قَدْ وُجِدَ وَالسَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْقَتْلِ قَدْ وُجِدَ فَيَلْزَمُهُ حُكْمُ السَّبَبَيْنِ. وَأَمَّا جِهَةُ الِاتِّحَادِ فَلِأَنَّ الْكُلَّ قَطْعُ الْمَادَّةِ وَهُوَ وَاحِدٌ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْقَتْلِ أَوْ الصَّلْبِ وَهَذَا نَظِيرُ مَا قَالَ فِيمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا إنْ شَاءَ الْوَلِيُّ قَطَعَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ لِاجْتِمَاعِ جِهَتَيْ التَّعَدُّدِ وَالِاتِّحَادِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَصْلُبُهُ الْإِمَامُ لَا غَيْرُ لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ مَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ صُلِبَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ يَدُلُّ عَلَى مَا قَالُوا وَلِأَنَّ هَذَا الْحَدَّ شُرِعَ جَزَاءَ قَطْعِ الطَّرِيقِ الْآمِنِ بِأَمَانِ اللَّهِ تَعَالَى لِإِجْرَاءِ أَخْذِ الْمَالِ وَقَتْلِ النَّفْسِ مُجَاهَرَةً إذْ الْحَقُّ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فِي الْمَالِ وَالنَّفْسِ لِصَاحِبِهِ إلَّا أَنَّ قَطْعَ الطَّرِيقِ يَتَقَوَّى إذَا خَوَّفَ النَّاسَ بِالْقَتْلِ وَالْأَخْذِ جَمِيعًا فَيَزْدَادُ الْحَدُّ كَمَا ازْدَادَ الْجِنَايَةُ فَيَزْدَادُ حَدُّ الزَّانِي الْمُحْصَنِ عَلَى حَدِّ الْبِكْرِ لِقُوَّةِ جِنَايَتِهِ بِزِيَادَةِ الْحُرْمَةِ بِاجْتِمَاعِ الْمَوَانِعِ مِنْ الزِّنَا كَذَا فِي الْأَسْرَارِ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَنَا وَذَكَرَ الْإِمَامُ خُوَاهَرْ زَادَهْ أَنَّ الْجَوَابَ لِأَبِي حَنِيفَةَ عَنْ الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَرْوِيَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا ذَكَرْنَا وَقَدْ رُوِيَ فِي رِوَايَةِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ وَصُلِبَ فَقَدْ تَعَارَضَتْ الرِّوَايَاتُ فِي حَدِيثِهِ فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَوَجَبَ التَّمَسُّكُ بِمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلْعُرَنِيِّينَ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَارَضْ فِيهِ الرِّوَايَاتُ. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَمَرَ بِقَطْعِ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ وَأَمَرَ بِتَرْكِهِمْ فِي الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا» فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ فَأَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ بِهَذَا لَمَّا تَعَارَضَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَشَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ فِي جَانِبِ الْجَوَابِ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى أَنَّ قَوْلَهُ

وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ وَدَابَّتِهِ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا إنَّهُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِأَحَدِهِمَا غَيْرُ عَيْنٍ وَذَلِكَ غَيْرُ مَحَلٍّ لِلْعِتْقِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هُوَ كَذَلِكَ لَكِنْ عَلَى احْتِمَالِ التَّعْيِينِ حَتَّى لَزِمَهُ التَّعْيِينُ فِي مَسْأَلَةِ الْعَبْدَيْنِ وَالْعَمَلُ بِالْمُحْتَمَلِ أَوْلَى مِنْ الْإِهْدَارِ فَجُعِلَ مَا وُضِعَ لِحَقِيقَتِهِ مَجَازًا عَمَّا يَحْتَمِلُهُ وَإِنْ اسْتَحَالَتْ حَقِيقَتُهُ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَصْلِهِ فِيمَا مَضَى وَهُمَا يُنْكِرَانِ الِاسْتِعَارَةَ عِنْدَ اسْتِحَالَةِ الْحُكْمِ لِأَنَّ الْكَلَامَ لِلْحُكْمِ وُضِعَ عَلَى مَا سَبَقَ وَلِهَذَا قُلْنَا فِيمَنْ قَالَ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا وَهَذَا إنَّ الثَّالِثَ يَعْتِقُ وَيُخَيَّرُ بَيْنَ الْأَوَّلَيْنِ لِأَنَّ صَدْرَ الْكَلَامِ تَنَاوَلَ أَحَدَهُمَا عَمَلًا بِكَلِمَةِ التَّخْيِيرِ وَالْوَاوُ تُوجِبُ الشَّرِكَةَ فِيمَا سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ فَيَصِيرُ عَطْفًا عَلَى الْمُعْتَقِ مِنْ الْأَوَّلَيْنِ كَقَوْلِهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ وَهَذَا ثُمَّ يُسْتَعَارُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ لِلْعُمُومِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ صُلِبَ بَيَانُ مَا يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْحَالَةِ لَا بَيَانُ مَا يَخْتَصُّ هَذِهِ الْحَالَةَ بِهِ فَلَا يَجُوزُ الصَّلْبُ إلَّا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَلَكِنْ يَجُوزُ فِيهَا غَيْرُهُ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ وَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ الْقَطْعِ وَلَمْ يُوجَدْ عَنْهُ مَانِعٌ فَيَجُوزُ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قَالَ) أَيْ وَلِأَنَّ أَوْ لِأَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَوْ جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَدَابَّتِهِ فَقَالَ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا لَغَا كَلَامُهُ لِأَنَّ أَوْ لَمَّا كَانَ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ كَانَ مَحَلُّ الْإِيجَابِ أَحَدَهُمَا غَيْرَ عَيْنٍ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْمَذْكُورَيْنِ مَحَلًّا لِلْإِيجَابِ فَغَيْرُ الْمُعَيَّنِ مِنْهُمَا لَا يَكُونُ صَالِحًا وَبِدُونِ صَلَاحِيَةِ الْمَحَلِّ لَا يَصِحُّ الْإِيجَابُ أَصْلًا كَذَا فِي أُصُولِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ. وَهَذَا الْكَلَامُ وَسِيَاقُ كَلَامِ الشَّيْخِ يُشِيرَانِ إلَى أَنَّهُ لَوْ نَوَى عَبْدَهُ بِهَذَا الْإِيجَابِ لَا يَعْتِقُ عِنْدَهُمَا أَيْضًا لِأَنَّ اللَّغْوَ وَالْبَاطِلَ لَا حُكْمَ لَهُ أَصْلًا وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ مَا يُخَالِفُهُ فَقَالَ إذَا جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَبَيْنَ مَا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْعِتْقُ مِنْ مَيِّتٍ أَوْ أُسْطُوَانَةٍ أَوْ حِمَارٍ فَقَالَ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا أَوْ قَالَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ لَا يَعْتِقُ عَبْدُهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إلَّا أَنْ يُعَيِّنَهُ لِأَنَّهُ رَدَّدَ الْكَلَامَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَغَيْرِهِ فَلَا يَتَعَيَّنُ عَبْدُهُ إلَّا بِنِيَّتِهِ كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ وَقَالَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا ضَمَّ إلَيْهِ مَا لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْعِتْقُ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ أَوْ لَا وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَمْ يَعْتِقْ إلَّا بِالنِّيَّةِ فَكَذَا هَهُنَا قَوْلُهُ (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ) نَعَمْ هُوَ كَذَلِكَ أَيْ سَلَّمَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هَذَا الْإِيجَابَ يَتَنَاوَلُ أَحَدَهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَأَنَّ غَيْرَ الْعَيْنِ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْعِتْقِ فِي مَسْأَلَتِنَا وَلَكِنْ لَا يُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعَيُّنَ بَلْ يَقُولُ يَحْتَمِلُهُ فَإِنَّ الْمَذْكُورَيْنِ لَوْ كَانَا عَبْدَيْنِ لَهُ يَتَنَاوَلُ الْإِيجَابُ أَحَدَهُمَا عَلَى احْتِمَالِ التَّعْيِينِ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ التَّعْيِينُ وَأُجْبِرَ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْإِقْرَارِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمَلَ كَلَامِهِ لَمَا أُجْبِرَ عَلَيْهِ وَكَذَا إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ بَاعَ أَحَدَهُمَا يَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِلْعِتْقِ فَعُلِمَ أَنَّ التَّعْيِينَ يَحْتَمِلُهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يُحْمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِحَقِيقَتِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ لِأَكْبَرَ سِنًّا مِنْهُ هَذَا ابْنِي لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْمُحْتَمَلِ أَوْلَى مِنْ الْإِلْغَاءِ وَيَلْغُو ذِكْرُ مَا ضَمَّ إلَيْهِ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِهِ هَذَا حُرٌّ وَسَكَتَ كَمَا إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِحَيٍّ وَمَيِّتٍ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ كُلُّهَا لِلْحَيِّ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ ثُلُثُ مَالِي لِفُلَانٍ وَسَكَتَ وَهَذَا بِخِلَافِ عَبْدِ الْغَيْرِ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِإِيجَابِ الْعِتْقِ. وَلَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ فَلِهَذَا لَا يَعْتِقُ عَبْدُهُ هُنَاكَ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ إذَا جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِهِ وَأُسْطُوَانَةٍ فَقَالَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ عَتَقَ عَبْدُهُ لِأَنَّ كَلَامَهُ إيجَابٌ لِلْحُرِّيَّةِ وَلَوْ قَالَ هَذَا حُرٌّ وَهَذَا لَمْ يَعْتِقْ عَبْدُهُ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَيْسَ بِإِيجَابٍ لِلْحُرِّيَّةِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لِعَبْدِهِ هَذَا حُرٌّ أَوْ لَا قَوْلُهُ (وَلِهَذَا الْأَصْلِ) وَهُوَ أَنَّ أَوْ لِإِيجَابِ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ قُلْنَا إذَا قَالَ لِعَبِيدِهِ الثَّلَاثَةِ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا وَهَذَا أَنَّهُ يُخَيَّرُ فِي الْأَوَّلَيْنِ وَيَعْتِقُ الثَّالِثُ فِي الْحَالِ. وَكَذَا الْحُكْمُ فِي الطَّلَاقِ إذَا قَالَ هَذِهِ طَالِقٌ أَوْ هَذِهِ وَهَذِهِ وَعِنْدَ الْفَرَّاءِ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَبَيْنَ الثَّانِي وَالثَّالِثِ إنْ شَاءَ أَوْقَعَ الْعِتْقَ عَلَى الْأَوَّلِ وَإِنْ شَاءَ عَلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَلَا يَعْتِقُ أَحَدٌ فِي الْحَالِ لِأَنَّ الْجَمْعَ بِحَرْفِ الْوَاوِ فِي مُخْتَلِفَيْ اللَّفْظِ كَالْجَمْعِ بِكِنَايَةِ الْجَمْعِ فِي مُتَّفِقَيْ اللَّفْظِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَانِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ هَذَا أَوْ هَذَا وَهَذَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَا أُكَلِّمُ هَذَا أَوْ هَذَيْنِ حَتَّى أَنَّهُ إنْ كَلَّمَ الْأَوَّلَ حَنِثَ وَإِنْ كَلَّمَ الْآخَرَيْنِ حَنِثَ وَإِنْ كَلَّمَ الثَّانِيَ وَحْدَهُ أَوْ الثَّالِثَ وَحْدَهُ لَمْ يَحْنَثْ كَذَا فِي الْجَامِعِ وَعَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرْتُمْ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إلَّا بِأَنْ يَجْمَعَ فِي التَّكَلُّمِ بَيْنَ أَحَدِ

بِدَلَالَةٍ تَقْتَرِنُ فَيَصِيرُ شَبِيهًا بِوَاوِ الْعَطْفِ لَا عَيْنَهُ فَمِنْ ذَلِكَ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي النَّفْيِ صَارَتْ بِمَعْنَى الْعُمُومِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] أَيْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا وَقَالَ أَصْحَابُنَا فِي الْجَامِعِ فِي رَجُلٍ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا أَوْ فُلَانًا إنَّ مَعْنَاهُ فُلَانًا وَلَا فُلَانًا ـــــــــــــــــــــــــــــQالْأَوَّلَيْنِ وَبَيْنَ الثَّالِثِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَا أُكَلِّمُ أَحَدَ هَذَيْنِ وَهَذَا. وَلَكِنَّا نَقُولُ سَوْقُ الْكَلَامِ لِإِيجَابِ الْعِتْقِ فِي أَحَدِهِمَا وَالْعَطْفُ لِإِثْبَاتِ الشَّرِكَةِ فِيمَا سَبَقَ لَهُ الْكَلَامُ فَصَارَ قَوْلُهُ وَهَذَا مَعْطُوفًا عَلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْمُعْتَقُ مِنْهُمَا لَا عَلَى الْأَوَّلِ بِعَيْنِهِ وَلَا عَلَى الثَّانِي إذْ لَيْسَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَيْنًا حَظٌّ مِنْ الْإِيجَابِ فَلَمْ يَصْلُحْ الْعَطْفُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا الْحَظُّ لِأَحَدِهِمَا غَيْرِ عَيْنٍ فَصَارَ عَطْفًا عَلَيْهِ كَأَنَّهُ قَالَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ وَهَذَا فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْيَمِينِ فَالْقِيَاسُ فِيهَا مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَكِنَّا اخْتَرْنَا الْجَوَابَ الَّذِي ذَكَرْنَا لِأَنَّ الثَّابِتَ بِكَلِمَةِ أَوْ هُنَا نَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ فَأَوْجَبَتْ الْعُمُومَ عَلَى طَرِيقِ الْإِفْرَادِ فَكَانَ تَقْدِيرُ صَدْرِ الْكَلَامِ لَا أُكَلِّمُ هَذَا وَلَا هَذَا فَلَمَّا قَالَ وَهَذَا فَقَدْ عَطَفَ بِوَاوِ الْجَمْعِ وَقَضِيَّتُهَا الْجَمْعُ فَصَارَ جَامِعًا لَهُ إلَى الثَّانِي بِنَفْيِ وَاحِدٍ فَشَارَكَ الثَّانِيَ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَا أُكَلِّمُ هَذَا وَلَا هَذَيْنِ وَالْجَمْعُ فِي النَّفْيِ يُوجِبُ الِاتِّحَادَ فِي الْحِنْثِ وَالتَّفْرِيقُ يُوجِبُ الِافْتِرَاقَ تَقُولُ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا وَفُلَانًا فَلَا تَحْنَثُ حَتَّى تُكَلِّمَهُمَا وَتَقُولُ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا وَلَا فُلَانًا فَأَيُّهُمَا كَلَّمْته وَجَبَ الْحِنْثُ فَلِذَلِكَ صَارَ الْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَا كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ لِلْمُصَنِّفِ وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِ مَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ لِأَنَّ خَبَرَ الْمُثَنَّى غَيْرُ خَبَرِ الْوَاحِدِ لَفْظًا يُقَالُ لِلْوَاحِدِ حُرٌّ وَلِلِاثْنَيْنِ حُرَّانِ وَالْمَذْكُورُ فِي كَلَامِهِ مِنْ الْخَبَرِ قَوْلُهُ حُرٌّ وَهُوَ لَا تَصْلُحُ خَبَرًا لِلِاثْنَيْنِ وَلَا وَجْهَ لِإِثْبَاتِ خَبَرٍ آخَرَ لِأَنَّ الْعَطْفَ لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ أَوْ لِإِثْبَاتِ خَبَرٍ مِثْلِ الْأَوَّلِ لَفْظًا لِإِثْبَاتِ خَبَرٍ آخَرَ مُخَالِفًا لَهُ لَفْظًا بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْيَمِينِ لِأَنَّ الْخَبَرَ الْمَذْكُورَ يَصْلُحُ لِلْمُثَنَّى كَمَا يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ فَإِنَّهُ يَقُولُ لَا أُكَلِّمُ هَذَا لَا أُكَلِّمُ هَذَيْنِ فَلِذَلِكَ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَا أُكَلِّمُ هَذَا أَوْ هَذَيْنِ. وَلَا يَخْلُو هَذَا الْكَلَامُ عَنْ اشْتِبَاهٍ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى كَلَامِ الشَّيْخِ قَوْلُهُ (بِدَلَالَةٍ تَقْتَرِنُ) أَيْ إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ بِدَلِيلٍ يَقْتَرِنُ بِالْكَلَامِ وَقَوْلُهُ فَيَصِيرُ شَبِيهًا بِوَاوِ الْعَطْفِ تَفْسِيرٌ لِذَلِكَ الْعُمُومِ أَيْ يَصِيرُ حَرْفٌ شَبِيهًا بِوَاوِ الْعَطْفِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَذْكُورَيْنِ مُرَادٌ مِنْ الْكَلَامِ لَا عَيْنَهُ أَيْ عَيْنَ الْوَاوِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى الِانْفِرَادِ مَقْصُودٌ وَالِاجْتِمَاعُ لَيْسَ بِحَتْمٍ فِيهِ بِخِلَافِ الْوَاوِ فَبَقِيَ فِيهِ شَبَهُ الْحَقِيقَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ إنَّ أَوْ فِي النَّهْيِ آكَدُ مِنْ الْوَاوِ لِأَنَّك لَوْ قُلْت لَا تُطِعْ زَيْدًا وَعَمْرًا جَازَ لِلْمَنْهِيِّ أَنْ يُطِيعَ أَحَدَهُمَا وَلَوْ قُلْت لَا تُطِعْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُطِيعَ أَحَدَهُمَا كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُطِيعَهُمَا فَمِنْ ذَلِكَ أَيْ مِنْ الْمَذْكُورِ يَعْنِي مِنْ الدَّلَالَاتِ الْمُقْتَرِنَةِ بِهَا الَّتِي تَدُلُّ عَلَى عُمُومِهَا اسْتِعْمَالُهَا فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] أَيْ وَلَا كَفُورًا فَحَرُمَ عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - طَاعَتُهُمَا جَمِيعًا وَلَكِنْ بِصِفَةِ الِانْفِرَادِ. فَإِنْ قِيلَ كَانُوا كُلُّهُمْ كَفَرَةً فَمَا مَعْنَى الْقِسْمَةِ فِي قَوْلِهِ {آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] قُلْنَا مَعْنَاهُ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ رَاكِبًا لِمَا هُوَ إثْمٌ دَاعِيًا لَك إلَيْهِ أَوْ فَاعِلًا لِمَا هُوَ كُفْرٌ دَاعِيًا لَك إلَيْهِ لِأَنَّهُمْ إمَّا أَنْ يَدْعُوهُ إلَى مُسَاعَدَتِهِمْ إلَى فِعْلٍ هُوَ إثْمٌ أَوْ كُفْرٌ أَوْ غَيْرُ إثْمٍ وَلَا كُفْرٍ فَنُهِيَ أَنْ يُسَاعِدَهُمْ عَلَى الِاثْنَيْنِ دُونَ الثَّالِثِ وَقِيلَ الْآثِمُ عُتْبَةُ وَالْكَفُورُ الْوَلِيدُ لِأَنَّ عُتْبَةَ كَانَ رَكَّابًا لِلْمَأْثَمِ مُتَعَاطِيًا لِأَنْوَاعِ الْفُسُوقِ وَكَانَ الْوَلِيدُ غَالِبًا فِي الْكُفْرِ شَدِيدَ الشَّكِيمَةِ فِي الْعُتُوِّ كَذَا فِي الْكَشَّافِ وَإِنَّمَا يَعُمُّ فِي النَّفْيِ لِأَنَّ أَوْ لَمَّا تَنَاوَلَ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ غَيْرَ عَيْنٍ كَانَ مِنْ ضَرُورَةِ صِدْقِ الْكَلَامِ إذْ نَفَاهُ انْتَفَى الْجَمِيعُ إنْ كَانَ خَبَرًا كَمَا مَرَّ تَحْقِيقُهُ وَإِنْ كَانَ نَهْيًا وَلَيْسَ فِي وُسْعِ الْعَبْدِ

حَتَّى إذَا كَلَّمَ أَحَدَهُمَا يَحْنَثُ وَلَوْ كَلَّمَهُمَا لَمْ يَحْنَثْ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ اسْتَعْمَلَ هَذَا فِي الْإِيلَاءِ بَانَتَا جَمِيعًا وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ كَلِمَةَ أَوْ لَمَّا تَنَاوَلَتْ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ كَانَ ذَلِكَ نَكِرَةً وَقَدْ قَامَتْ فِيهَا دَلَالَةُ الْعُمُومِ وَهُوَ النَّفْيُ عَلَى مَا سَبَقَ فَلِذَلِكَ صَارَ عَامًّا إلَّا أَنَّهَا أَوْجَبَتْ الْعُمُومَ عَلَى الْإِفْرَادِ لِمَا أَنَّ الْإِفْرَادَ أَصْلُهَا حَتَّى أَنَّ مَنْ قَالَ لَا تُطِعْ فُلَانًا أَوْ فُلَانًا فَأَطَاعَ أَحَدَهُمَا كَانَ عَاصِيًا وَلَوْ قَالَ وَفُلَانًا لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا حَتَّى يُطِيعَهُمَا وَإِذَا حَلَفَ رَجُلٌ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا وَفُلَانًا لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يُكَلِّمُهُمَا وَلَوْ قَالَ أَوْ فُلَانًا حَنِثَ إذَا كَلَّمَ أَحَدَهُمَا لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ عَلَى سَبِيلِ الشَّرِكَةِ وَالْجَمْعِ دُونَ الْإِفْرَادِ وَمِنْ ذَلِكَ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ تَصِيرُ عَامَّةً لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ دَلِيلُ الْعُمُومِ فَعَمَّتْ بِهَا النَّكِرَةُ كَمَا يُقَالُ: جَالِسْ الْفُقَهَاءَ أَوْ الْمُحَدِّثِينَ. أَيْ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا إنْ شِئْت وَفَرْقٌ مَا بَيْنَ التَّخْيِيرِ وَالْإِبَاحَةِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي التَّخْيِيرِ يَجْعَلُ الْمَأْمُورَ مُخَالِفًا وَفِي الْإِبَاحَةِ مُوَافِقًا ـــــــــــــــــــــــــــــQالِانْتِهَاءُ عَنْ أَحَدِهِمَا غَيْرِ عَيْنٍ كَانَ مِنْ ضَرُورَةِ حُصُولِ الِانْتِهَاءِ عَنْ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وُجُوبُ الِانْتِهَاءِ عَنْهُمَا وَلِهَذَا عَمَّتْ فِي الْإِبَاحَةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَمَّا أَطْلَقَ الْمُجَالَسَةَ مَثَلًا فِي قَوْلِهِ جَالِسْ الْفُقَهَاءَ أَوْ الْمُحَدِّثِينَ مَعَ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ وَمُجَالَسَةُ أَحَدِهِمَا غَيْرُ عَيْنٍ لَا يُتَصَوَّرُ ثَبَتَ الْعُمُومُ ضَرُورَةَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْعَمَلِ بِحُكْمِ الْإِطْلَاقِ قَوْلُهُ (حَتَّى إذَا كَلَّمَ أَحَدَهُمَا يَحْنَثُ) بِخِلَافِ الْوَاوِ فَإِنَّهُ فِي قَوْلِهِ وَفُلَانًا لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يُكَلِّمْهُمَا وَلَوْ كَلَّمَهُمَا لَمْ يَحْنَثْ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً كَمَا فِي الْوَاوِ وَكَأَنَّهُ جَوَابُ سُؤَالٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَمَّا دَخَلَ كَلَامُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْيَمِينِ عَلَى سَبِيلِ الِانْفِرَادِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ يَمِينَيْنِ فَيَحْنَثُ بِالْكَلَامِ مَعَهُمَا مَرَّتَيْنِ فَقَالَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ لِأَنَّ تَعَدُّدَ الْحِنْثِ بِتَعَدُّدِ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يُوجَدْ إلَّا هَتْكٌ وَاحِدٌ. وَقَوْلُهُ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي ذَلِكَ بَيَانُ الْعُمُومِ يَعْنِي لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْعُمُومِ بَقِيَ لَهُ الْخِيَارُ كَمَا فِي قَوْلِهِ لَأُكَلِّمَنَّ الْيَوْمَ فُلَانًا أَوْ فُلَانًا فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ تَكَلُّمَ أَحَدِهِمَا لِلْبِرِّ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّكَلُّمُ مَعَ الْآخَرِ وَلَوْ قَالَ لَا أُكَلِّمُ الْيَوْمَ فُلَانًا أَوْ فُلَانًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ الِامْتِنَاعَ عَنْ تَكَلُّمِ أَحَدِهِمَا مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الِامْتِنَاعُ عَنْ تَكَلُّمِهِمَا جَمِيعًا قَوْلُهُ (لَوْ) (اسْتَعْمَلَ هَذَا) أَيْ الْحَرْفَ أَوْ فِي الْإِيلَاءِ بِأَنْ قَالَ لَا أَقْرَبُ هَذِهِ أَوْ هَذِهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَصِيرُ مُولِيًا مِنْهُمَا حَتَّى لَوْ لَمْ يَقْرَبْهُمَا فِي الْمُدَّةِ بَانَتَا جَمِيعًا (فَإِنْ قِيلَ) لَمَّا كَانَتْ كَلِمَةُ أَوْ لِأَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَا أَقْرَبُ أَحَدَيْكُمَا كَمَا فِي قَوْلِهِ هَذِهِ طَالِقٌ أَوْ هَذِهِ وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ أَحَدَيْكُمَا كَانَ مُولِيًا مِنْ أَحَدَيْهِمَا لَا مِنْهُمَا جَمِيعًا وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ حَتَّى لَوْ مَضَتْ الْمُدَّةُ وَلَمْ يَقْرَبْهُمَا بَانَتْ أَحَدَيْهِمَا وَالْخِيَارُ إلَيْهِ فِي التَّعْيِينِ وَالْمَسْأَلَةُ فِي إيمَانِ الْجَامِعِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَعَمَّمَ هَهُنَا أَيْضًا (قُلْنَا) كَانَ الْقِيَاسُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَكُونَ مُولِيًا مِنْهُمَا أَيْضًا لِأَنَّ إحْدَى كَلِمَةٌ تُنْبِئُ عَنْ غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ فَكَانَتْ فِي مَعْنَى النَّكِرَةِ وَقَدْ وَقَعَتْ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ فَيُوجِبُ التَّعْمِيمَ كَمَا لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ وَاحِدَةً مِنْكُمَا إلَّا أَنَّهَا كَلِمَةٌ خَاصَّةٌ صِيغَةً وَمَعْنًى لِأَنَّهَا لَا تَعُمُّ بِسَائِرِ دَلَائِلِ الْعُمُومِ فَكَذَا بِوُقُوعِهَا فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهَا كَلِمَةُ الْإِحَاطَةِ وَالْعُمُومِ فَلَا يُقَالُ كُلُّ أَحَدَيْكُمَا وَأَنَّهَا لَا تُوصَلُ بِكَلِمَةِ التَّبْعِيضِ فَلَا يُقَالُ إحْدَى مِنْكُمَا فَكَانَتْ فِي حُكْمِ الْمَعَارِفِ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا التَّعْمِيمُ بِالنَّفْيِ أَيْضًا بِخِلَافِ كَلِمَةِ أَوْ فَإِنَّهَا تُوجِبُ الْعُمُومَ فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ فَكَذَلِكَ تُوجِبُهُ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ وَبِخِلَافِ الْوَاحِدَةِ فَإِنَّهَا تَعُمُّ بِكَلِمَةِ الْإِحَاطَةِ فَكَذَلِكَ بِالنَّفْيِ كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ لِلْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى مَا سَبَقَ أَيْ فِي بَابِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ أَنَّ النَّفْيَ مِنْ دَلَائِلِ الْعُمُومِ فِي النَّكِرَةِ لَمَّا أَنَّ الْإِفْرَادَ أَصْلُهَا لِأَنَّهَا فِي الْأَصْلِ لِتَنَاوُلِ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ وَالْعُمُومُ إنَّمَا يَثْبُتُ فِيهِ بِعَارِضٍ يَقْتَرِنُ بِهِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْعُمُومِ الِاجْتِمَاعُ بَلْ يَثْبُتُ الْعُمُومُ بِصِفَةِ الْإِفْرَادِ أَيْضًا كَمَا فِي كَلِمَةِ كُلُّ وَكَلِمَةِ مَنْ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِيقَةِ فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِهِ رِعَايَةً لِلْحَقِيقَةِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ) أَيْ مِنْ الْقَرَائِنِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى عُمُومِهَا اسْتِعْمَالُهَا فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ دَلِيلُ الْعُمُومِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِبَاحَةَ هِيَ الْإِطْلَاقُ وَرَفْعُ الْمَانِعِ وَذَلِكَ فِي شَيْءٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ يُوجِبُ الْعُمُومُ ضَرُورَةَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْعَمَلِ بِهِ فَإِذَا قِيلَ جَالِسْ الْفُقَهَاءَ أَوْ الْمُحَدِّثِينَ يُفْهَمُ مِنْهُ جَالِسْ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا إنْ شِئْت أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام: 146]

وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الْإِبَاحَةُ مِنْ التَّخْيِيرِ بِحَالٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِي الْجَامِعِ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ أَحَدًا إلَّا فُلَانًا أَوْ فُلَانًا إنَّ لَهُ أَنْ يُكَلِّمَهُمَا جَمِيعًا وَكَذَلِكَ قَالَ لَا أَقْرَبُكُنَّ إلَّا فُلَانَةَ أَوْ فُلَانَةَ فَلَيْسَ بِمُولٍ مِنْهُمَا وَقَالُوا فِيمَنْ قَالَ بَرِئَ فُلَانٌ مِنْ كُلِّ حَقٍّ لِي قِبَلَهُ إلَّا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ إنَّ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ الْمَالَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّ هَذَا مَوْضِعُ الْإِبَاحَةِ فَصَارَ عَامًّا أَلَا تَرَى أَنَّهُ اسْتَثْنَى مِنْ الْحَظْرِ فَكَانَ إبَاحَةً وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِكُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ عَلَى مَعْنَى الْإِبَاحَةِ أَيْ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنْهُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَمَّا كَانَ مِنْ التَّحْرِيمِ حَتَّى أَوْجَبَ الْإِبَاحَةَ تَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَمَا ثَبَتَتْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَإِلَى قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} [النور: 31] الْآيَةَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَمَّا كَانَ مُوجِبًا لِلْإِبَاحَةِ جَازَ لَهُنَّ إبْدَاءُ مَوَاضِعِ الزِّينَةِ لِجَمِيعِ الْمُسْتَثْنَيَيْنِ كَمَا جَازَ ذَلِكَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَعَرَفْنَا أَنَّ مُوجَبَهَا فِي الْإِبَاحَةِ الْعُمُومُ بِمَنْزِلَةِ وَاوِ الْعَطْفِ قَالَ الْإِمَامُ عَبْدُ الْقَاهِرِ إنَّ أَوْ فِي قَوْلِك جَالِسْ الْحَسَنَ أَوْ ابْنَ سِيرِينَ لِلْإِبَاحَةِ وَمَعْنَاهُ أَبَحْت لَك هَذَا النَّوْعَ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَاوِ مِنْ وَجْهٍ وَمُفَارِقٌ لَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. أَمَّا مُوَافَقَتُهُ لِلْوَاوِ فَمِنْ حَيْثُ إنَّ مُجَالَسَتَهُمَا جَمِيعًا مِمَّا لَا يَكُونُ فِيهِ عِصْيَانٌ كَمَا أَنَّك إذَا قُلْت جَالِسْ الْحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ كَانَ كَذَلِكَ وَأَمَّا مُفَارَقَتُهُ لِلْوَاوِ فَهُوَ أَنَّهُ لَوْ جَالَسَ وَاحِدًا مِنْهُمَا وَلَمْ يُجَالِسْ الْآخَرَ كَانَ جَائِزًا وَلَوْ قَالَ جَالِسْ الْحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يُجَالِسَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَأَوْ يُفِيدُ إبَاحَةَ الْجَمْعِ وَالْوَاوُ يُوجِبُهُ قَوْلُهُ (وَفَرْقٌ مَا بَيْنَ الْإِبَاحَةِ وَالتَّخْيِيرِ) أَيْ الْفَرْقُ بَيْنَ وُقُوعِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ وَبَيْنَ وُقُوعِهَا فِي مَوْضِعِ التَّخْيِيرِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي الْإِبَاحَةِ يَجُوزُ كَمَا ذَكَرْنَا وَفِي التَّخْيِيرِ لَا يَجُوزُ فَفِي قَوْلِك اضْرِبْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا لَوْ ضَرَبَهُمَا جَمِيعًا لَمْ يَجُزْ وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ كَانَ مُمْتَثِلًا بِأَحَدِهَا لَا بِالْجَمِيعِ لِأَنَّهَا لَا يُوجِبُ الْعُمُومَ فِي مَوْضِعِ التَّخْيِيرِ قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الْإِبَاحَةُ مِنْ التَّخْيِيرِ بِحَالٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عَلَيْهَا أَيْ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَعَلَى هَذَا أَيْ عَلَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ عُرِفَتْ بِدَلَالَةِ الْحَالِ قَالَ أَصْحَابُنَا أَنَّهَا تُوجِبُ الْعُمُومَ فِي هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ لِأَنَّ صَدْرَ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ لَا أُكَلِّمُ أَحَدًا وَقَوْلِهِ لَا أَقْرَبُكُنَّ لِلْحَظْرِ وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْحَظْرِ إبَاحَةٌ فَكَانَتْ كَلِمَةُ أَوْ فِي قَوْلِهِ إلَّا فُلَانًا أَوْ فُلَانًا وَإِلَّا فُلَانَةَ أَوْ فُلَانَةَ وَاقِعَةٌ فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ فَأَوْجَبَتْ الْعُمُومَ كَمَا فِي قَوْلِهِ لَا آكُلُ طَعَامًا إلَّا خُبْزًا أَوْ لَحْمًا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهُمَا فَكَذَلِكَ هَهُنَا. قَالَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الِاسْتِثْنَاءُ نَفْيٌ فِي اللُّغَةِ وَلَكِنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ الْإِثْبَاتِ كَانَ نَفْيًا وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّفْيِ كَانَ إثْبَاتًا لِأَنَّ نَفْيَ النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَالنَّفْيُ مِنْ دَلَالَاتِ الْعُمُومِ فَيَعُمُّ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ أَيْضًا. وَكَذَا فِي قَوْلِهِ قَدْ بَرِئَ فُلَانٌ مِنْ كُلِّ حَقٍّ لِي قِبَلَهُ يُوجِبُ حَطَّ الدَّعْوَى فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ فَكَانَ قَوْلُهُ إلَّا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ اسْتِثْنَاءً مِنْ الْحَظْرِ مَعْنًى فَيَصْلُحُ دَلَالَةً عَلَى الْعُمُومِ قَوْلُهُ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ) إلَى آخِرِهِ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شُرُوطِ الْأَصْلِ إذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَشْتَرِيَ دَارًا كَتَبَ هَذَا مَا اشْتَرَى فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ وَسَاقَ الْكَلَامَ إلَى أَنْ قَالَ اشْتَرَاهَا بِحُدُودِهَا وَمَرَافِقِهَا وَطَرِيقِهَا وَكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا وَكُلِّ حَقٍّ هُوَ فِيهَا دَاخِلٍ فِيهَا وَخَارِجٍ مِنْهَا بِكَذَا كَذَا دِرْهَمًا. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ ثُمَّ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَعْنِي كِتَابَ الشُّرُوطِ يَقُولُ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ وَفِي كِتَابِ الْوَقْفِ وَالشُّفْعَةِ قَالَ بِكُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ وَاَلَّذِي ذَكَرَ هَهُنَا أَحْسَنُ لِأَنَّ أَوْ لِلشَّكِّ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ عِنْدَ ذِكْرِ حَرْفِ أَوْ أَحَدُ الْمَذْكُورَيْنِ لَا كِلَاهُمَا فَأَشَارَ الشَّيْخُ إلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْعُمُومَ هَهُنَا لِأَنَّهَا لِلْإِبَاحَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إذْ الْأَصْلُ حُرْمَةُ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ وَهَذَا الْكَلَامُ لِإِطْلَاقِ التَّصَرُّفِ فِي الْحُقُوقِ وَإِبَاحَتِهِ فَلِذَلِكَ أَوْجَبَتْ الْعُمُومَ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَى مَعْنَى الْإِبَاحَةِ أَيْ ذَكَرَ هَذَا اللَّفْظَ عَلَى مَعْنَى إبَاحَةِ

وَكَذَلِكَ دَاخِلٌ فِيهَا أَوْ خَارِجٌ أَيْ دَاخِلًا أَوْ خَارِجًا وَيَجُوزُ الْوَاوُ فِيهِمَا وَكَذَلِكَ أَحْكَامُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي الْأَفْعَالِ إنْ دَخَلَتْ فِي الْخَبَرِ أَفْضَتْ إلَى الشَّكِّ وَإِنْ دَخَلَتْ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْجَبَتْ التَّخْيِيرَ مِثْلُ قَوْلِ الرَّجُلِ وَاَللَّهِ لَأَدْخُلَنَّ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ لَأَدْخُلَنَّ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ إنَّ لَهُ الْخِيَارَ وَلَهَا وَجْهٌ آخَرُ هُنَا وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ بِمَعْنَى حَتَّى أَوْ إلَّا أَنْ ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّصَرُّفِ وَمَعْنَاهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنْهُ أَيْ مِنْ الْمَبِيعِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا فَيُوجِبُ الْعُمُومَ ضَرُورَةً أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُذْكَرُ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ فِي إسْقَاطِ حَقِّ الْبَائِعِ عَنْ الْمَبِيعِ وَعَمَّا هُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِ الثَّمَرَةُ وَالزَّرْعُ وَكَذَا يَدْخُلُ فِيهِ الْأَمْتِعَةُ إنْ كَانَ قَالَ أَوْ فِيهَا وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يَكْتُبُ هَذَا اللَّفْظَ يَعْنِي قَوْلَهُ بِكُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ لِأَنَّهُ إذَا كَتَبَ هَذَا دَخَلَ فِيهِ الْأَمْتِعَةُ الْمَوْضُوعَةُ فِيهَا لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ أَرَى أَنْ يُقَيِّدَ ذَلِكَ الْكِتَابَ فَيَقُولَ هُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا مِنْ حُقُوقِهَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ حَرْفُ أَوْ مُسَاوِيًا لِلْوَاوِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَا يُقَالُ لَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي فِي الطَّرِيقِ وَالشُّرْبِ بِطَرِيقِ الْإِبَاحَةِ لَأَمْكَنَ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِيهَا لِأَنَّا نَقُولُ لَا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ لِأَنَّهَا يَثْبُتُ فِي ضِمْنِ عَقْدٍ لَازِمٍ وَهُوَ الْبَيْعُ فَأَعْطَى لَهَا حُكْمَ الْمُتَضَمَّنِ فِي اللُّزُومِ (قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ دَاخِلٌ فِيهَا أَوْ خَارِجٌ) يَعْنِي أَوْ لِلْعُمُومِ فِي هَذَا الْكَلَامِ كَهُوَ فِي الْكَلَامِ الْأَوَّلِ فَكَانَ مُسَاوِيًا لِلْوَاوِ قَالَ الطَّحَاوِيَّ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنْ يَكْتُبَ بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهَا دَاخِلٍ فِيهَا وَكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهَا خَارِجٍ مِنْهَا لِأَنَّهُ إذَا قَالَ وَخَارِجٍ مِنْهَا فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ هَذَا شَيْئًا وَاحِدًا مَنْعُوتًا بِالنَّعْتَيْنِ جَمِيعًا وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ وَالْمَشْرُوطُ فِي الْعَقْدِ بِنَعْتَيْنِ لَا يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ بِأَحَدِ النَّعْتَيْنِ خَاصَّةً فَالْأَحْسَنُ أَنْ يَقُولَ بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهَا دَاخِلٍ فِيهَا وَكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهَا خَارِجٍ مِنْهَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ وَكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ لِأَنَّ الْقَلِيلَ جُزْءٌ مِنْ الْكَثِيرِ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يَقُولَ وَكُلِّ قَلِيلٍ وَكُلٍّ كَثِيرٍ وَهَهُنَا الْحُقُوقُ الدَّاخِلَةُ غَيْرُ الْحُقُوقِ الْخَارِجَةِ فَلِهَذَا يَذْكُرُهُمَا جَمِيعًا عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَمَّا ذَكَرَ الطَّحَاوِيَّ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُتَصَوَّرْ اجْتِمَاعُ الْوَصْفَيْنِ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ اقْتَضَى الْكَلَامُ إضْمَارَ مَنْعُوتٍ آخَرَ بِدَلَالَةِ الْعَطْفِ كَمَا فِي قَوْلِك جَاءَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو لَمَّا لَمْ يُتَصَوَّرْ اشْتِرَاكُهُمَا فِي مَجِيءِ وَاحِدٍ اقْتَضَى إعَادَةَ الْفِعْلِ حَتَّى كَانَ التَّقْدِيرُ جَاءَ زَيْدٌ جَاءَ عَمْرٌو فَلَا يَحْتَاجُ إلَى التَّكَلُّفِ الْمَذْكُورِ قَوْلُهُ (وَإِنْ دَخَلَتْ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْجَبَتْ التَّخْيِيرَ) يَعْنِي كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ تَحْقِيقًا لِمُوجَبِ الْكَلَامِ حَتَّى كَانَ لَهُ فِي قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَأَدْخُلَنَّ هَذِهِ الدَّارَ الْيَوْمَ أَوْ لَأَدْخُلَنَّ هَذِهِ الدَّارَ أَنْ يَخْتَارَ دُخُولَ أَيَّهمَا شَاءَ لِلْبِرِّ وَلَا يُشْتَرَطُ دُخُولُهُمَا لِأَنَّهُ الْتَزَمَ دُخُولَ أَحَدَيْهِمَا فَلَوْ لَمْ يَبَرَّ بِدُخُولِ أَحَدَيْهِمَا لَصَارَ مُلْتَزِمًا دُخُولَهُمَا وَلَيْسَ ذَلِكَ مُوجَبَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي الْإِثْبَاتِ فَأَمَّا فِي النَّفْيِ بِأَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَلَا يُوجِبُ التَّخْيِيرَ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ عَدَمَ دُخُولِ إحْدَى الدَّارَيْنِ لِلْبِرِّ بَلْ يُوجِبُ الْعُمُومَ عَلَى سَبِيلِ الْإِفْرَادِ حَتَّى يُشْتَرَطَ لِلْبِرِّ عَدَمُ دُخُولِهِمَا جَمِيعًا وَيَحْنَثُ بِدُخُولِ أَيَّتِهِمَا وُجِدَ إذْ لَوْ لَمْ يَحْنَثْ بِدُخُولِ أَحَدَيْهِمَا لَصَارَتْ الْيَمِينُ وَاقِعَةً عَلَيْهِمَا جَمِيعًا وَذَلِكَ بَاطِلٌ كَذَا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ دَخَلَتْ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْجَبَتْ التَّخْيِيرَ مُخْتَصٌّ بِحَالَةِ الْإِثْبَاتِ وَأَنَّ. قَوْلَهُ أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ 1 - قَوْلُهُ (وَلَهَا) أَيْ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ وَجْهٌ آخَرُ هَهُنَا أَيْ مَعْنًى آخَرُ فِي الْأَفْعَالِ لَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الْأَسْمَاءِ وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ بِمَعْنَى حَتَّى أَوْ إلَّا أَنْ اعْلَمْ أَنَّ أَوْ حَرْفُ عَطْفٍ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ فَإِذَا وُجِدَ الْفِعْلُ بَعْدَهُ مَنْصُوبًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجَدَ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ مَنْصُوبٌ كَقَوْلِك لَأَلْزَمَنَّكَ أَوْ تُعْطِينِي حَقِّي فَذَلِكَ بِإِضْمَارِ أَنْ كَأَنَّك قُلْت لَأَلْزَمَنَّكَ أَوْ أَنْ تُعْطِيَنِي

وَمَوْضِعُ ذَلِكَ أَنْ يَفْسُدَ الْعَطْفُ لِاخْتِلَافِ الْكَلَامِ وَيُحْتَمَلُ ضَرْبُ الْغَايَةِ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 128] أَيْ حَتَّى يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، أَوْ إلَّا أَنْ فِي بَعْضِ الْأَقَاوِيلِ، لِأَنَّ الْعَطْفَ لَمْ يُحْسِنْ الْفِعْلَ عَلَى الِاسْمِ وَلِلْمُسْتَقْبَلِ عَلَى الْمَاضِي فَسَقَطَتْ حَقِيقَتُهُ وَاسْتُعِيرَ لِمَا يَحْتَمِلُهُ وَهُوَ الْغَايَةُ لِأَنَّ كَلِمَةَ أَوْ لَمَّا تَنَاوَلَتْ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ كَانَ احْتِمَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَنَاهِيًا بِوُجُودِ صَاحِبِهِ فَشَابَهَ الْغَايَةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَاسْتُعِيرَ لِلْغَايَةِ وَالْكَلَامُ يَحْتَمِلُهُ لِأَنَّهُ لِلتَّحْرِيمِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ الِامْتِدَادَ وَكَذَلِكَ يُقَالُ وَاَللَّهِ لَا أُفَارِقُك أَوْ تَقْضِيَنِي حَقِّي مَعْنَاهُ حَتَّى تَقْضِيَنِي حَقِّي أَوْ إلَّا أَنْ تَقْضِيَنِي حَقِّي وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لَا يُحْصَى ـــــــــــــــــــــــــــــQحَقِّي وَذَلِكَ أَنَّك لَوْ قُلْت لَأَلْزَمَنَّكَ أَوْ تُعْطِينِي بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى الْأَوَّلِ لَكُنْت قَدْ أَثْبَتّ الْإِعْطَاءَ كَمَا أَثْبَتّ اللُّزُومَ وَلَمْ تُقَدِّرْ أَنَّ اللُّزُومَ لِأَجْلِ الْإِعْطَاءِ وَنُزُولِ قَوْلِك مَنْزِلَةَ قَوْلِ الرَّجُلِ اضْرِبْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا فَلَمَّا كَانَ الْقَصْدُ أَنَّ اللُّزُومَ لِأَجْلِ الْإِعْطَاءِ حَتَّى كَأَنَّهُ قِيلَ لَأَلْزَمَنَّكَ لِتُعْطِيَنِي وَجَبَ إضْمَارُ أَنْ لِيُعْلَمَ أَنَّ الثَّانِيَ لَمْ يَدْخُلْ فِي حُكْمِ الْأَوَّلِ وَقُدِّرَ مَا قَبْلَ أَوْ تَقْدِيرَ الْمَصْدَرِ كَأَنَّهُ قِيلَ لَيَكُونَنَّ لُزُومٌ مِنِّي أَوْ إعْطَاءٌ مِنْك وَيَنْزِلُ الْكَلَامُ مَنْزِلَةَ قَوْلِك لَأَلْزَمَنَّكَ إلَى أَنْ تُعْطِيَنِي وَحَتَّى تُعْطِيَنِي وَيَكُونُ حَرْفُ الْجَارِّ أَعْنِي إلَى أَوْ حَتَّى دَاخِلًا عَلَى الِاسْمِ فِي الْمَعْنَى لَا عَلَى الْفِعْلِ وَإِنْ جَعَلْت أَوْ بِمَعْنَى إلَّا وَجَبَ إضْمَارُ أَنْ أَيْضًا لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ حِينَئِذٍ مِنْ عَامِّ الظَّرْفِ الزَّمَانِيِّ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُثَنَّى ظَرْفًا زَمَانِيًّا أَيْضًا وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إلَّا إذَا كَانَ مَا بَعْدَ إلَّا مَصْدَرًا مُضَافًا إلَيْهِ الزَّمَانُ عَلَى نَحْوِ إلَّا وَقْتَ إعْطَائِك فَوَجَبَ إضْمَارُ أَنْ لِيَكُونَ الْمُضَارِعُ فِي تَقْدِيرِ الْمَصْدَرِ وَكَانَ الْمَعْنَى لُزُومِي إيَّاكَ وَاقِعٌ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ إلَّا وَقْتَ إعْطَائِك وَمَوْضِعُ ذَلِكَ أَيْ مَوْضِعُ أَنْ يُجْعَلَ أَوْ بِمَعْنَى حَتَّى أَوْ إلَّا أَنْ أَنْ يَفْسُدَ الْعَطْفُ لِاخْتِلَافِ الْكَلَامِ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا اسْمًا وَالْآخَرُ فِعْلًا أَوْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَاضِيًا وَالْآخَرُ مُسْتَقْبَلًا وَيَحْتَمِلُ ضَرْبُ الْغَايَةِ بِأَنْ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلِامْتِدَادِ. وَذَلِكَ أَيْ الْمَوْضِعُ الَّذِي جُعِلَ أَوْ فِيهِ بِمَعْنَى حَتَّى أَوْ إلَّا أَنْ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 128] فَإِنَّ أَوْ هُنَا بِمَعْنَى حَتَّى أَوْ إلَّا أَنْ فِي بَعْضِ الْأَقَاوِيلِ وَمَعْنَاهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَيْسَ لَك مِنْ الْأَمْرِ فِي عَذَابِهِمْ أَوْ اسْتِصْلَاحِهِمْ شَيْءٌ حَتَّى يَقَعَ تَوْبَتُهُمْ أَوْ تَعْذِيبُهُمْ وَمَا عَلَيْك إلَّا أَنْ تُبَلِّغَ الرِّسَالَةَ وَتُجَاهِدَ حَتَّى تُظْهِرَ الدِّينَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَطْفَ لَمَّا لَمْ يَحْسُنْ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَوْ يَتُوبَ إمَّا إنْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى شَيْءٍ أَوْ لَيْسَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَيَلْزَمُ عَطْفُ الْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ أَوْ الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى الْمَاضِي. سَقَطَتْ حَقِيقَتُهُ أَيْ حَقِيقَةُ أَوْ وَوَجَبَ الْعَمَلُ بِمَجَازِهِ فَاسْتُعِيرَ لِمَا يَحْتَمِلُهُ وَهُوَ الْغَايَةُ لِأَنَّ مَعْنَى أَوْ يُنَاسِبُ مَعْنَى الْغَايَةِ لِأَنَّهُ لِمَا تَنَاوَلَ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ كَانَ تَعْيِينُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاعْتِبَارِ الْخِيَارِ قَاطِعًا لِاحْتِمَالِ الْآخَرِ وَهَذَا يُنَاسِبُ مَعْنَى الْغَايَةِ. وَكَذَا يُنَاسِبُ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ لِمَا قُلْنَا فَلِذَلِكَ جُعِلَ بِمَعْنَى حَتَّى أَوْ إلَّا وَذَكَرَ فِي الْكَشَّافِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 128] عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] اعْتِرَاضٌ وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَالِكٌ أَمْرَهُمْ فَإِمَّا أَنْ يُهْلِكَهُمْ أَوْ يَهْزِمَهُمْ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إنْ أَسْلَمُوا أَوْ يُعَذِّبَهُمْ إنْ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ وَلَيْسَ لَك مِنْ أَمْرِهِمْ شَيْءٌ إنَّمَا أَنْتَ عَبْدٌ مَبْعُوثٌ لِإِنْذَارِهِمْ وَمُجَاهَدَتِهِمْ. وَقِيلَ أَوْ يَتُوبَ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ وَأَنْ يَتُوبَ فِي حُكْمِ اسْمٍ مَعْطُوفٍ بِأَوْ عَلَى الْأَمْرِ أَوْ عَلَى شَيْءٍ أَيْ لَيْسَ لَك مِنْ أَمْرِهِمْ شَيْءٌ أَوْ مِنْ التَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ أَوْ مِنْ تَعْذِيبِهِمْ أَوْ لَيْسَ لَك مِنْ أَمْرِهِمْ شَيْءٌ أَوْ التَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ أَوْ تَعْذِيبِهِمْ وَقِيلَ أَوْ بِمَعْنَى إلَّا أَنْ كَقَوْلِك لَأَلْزَمَنَّكَ أَوْ تُعْطِيَنِي حَقِّي عَلَى مَعْنَى لَيْسَ لَك مِنْ أَمْرِهِمْ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَتَفْرَحُ بِحَالِهِمْ أَوْ تَعْذِيبِهِمْ فَيَتَشَفَّى مِنْهُمْ قَوْلُهُ (وَالْكَلَامُ يَحْتَمِلُهُ) أَيْ تَقْبَلُ مَعْنَى الْغَايَةِ لِأَنَّهُ لِلتَّحْرِيمِ فَإِنَّهُ رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَأْذَنَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِمْ فَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا شُجَّ وَجْهُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَوْمَ أُحُدٍ سَأَلَهُ أَصْحَابُهُ أَنْ يَلْعَنَهُمْ وَيَدْعُوَ بِهَلَاكِهِمْ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَا بَعَثَنِي اللَّهُ لَعَّانًا وَلَا طَعَّانًا وَلَكِنْ بَعَثَنِي

وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ أَدْخُلَ هَذِهِ الدَّارَ الْأُخْرَى إنَّ مَعْنَاهُ حَتَّى أَدْخُلَ هَذِهِ فَإِنْ دَخَلَ الْأُولَى أَوَّلًا حَنِثَ وَإِنْ دَخَلَ الْأَخِيرَةَ أَوَّلًا انْتَهَتْ الْيَمِينُ وَتَمَّ الْبِرُّ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْعَطْفَ مُتَعَذِّرٌ لِاخْتِلَافِ الْفِعْلَيْنِ مِنْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ وَالْغَايَةُ صَالِحَةٌ لِأَنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ حَظْرٌ وَتَحْرِيمٌ فَلِذَلِكَ وَجَبَ الْعَمَلُ بِمَجَازِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ـــــــــــــــــــــــــــــQدَاعِيًا وَرَحْمَةً اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» فَنَزَلَتْ الْآيَةُ وَنُهِيَ عَنْ سُؤَالِ الْهِدَايَةِ لَهُمْ فَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ لِلتَّحْرِيمِ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْغَايَةِ. وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يَعْنِي أَوْ بِمَعْنَى حَتَّى وَإِلَّا أَنْ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ مِثْلُ قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: بَكَى صَاحِبِي لَمَّا رَأَى الدَّرْبَ دُونَهُ ... وَأَيْقَنَ أَنَّا لَاحِقَانِ بِقَيْصَرَا فَقُلْت لَهُ لَا تَبْكِ عَيْنُك إنَّمَا ... نُحَاوِلُ مُلْكًا أَوْ نَمُوتَ فَنُعْذَرَا وَمِثْلُ قَوْلِ الْآخَرِ: لَا أَسْتَطِيعُ نُزُوعًا عَنْ مَوَدَّتِهَا ... أَوْ يَصْنَعَ الْبَيْنُ بِي غَيْرَ الَّذِي صَنَعَا قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى أَنَّ أَوْ يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْغَايَةِ قَالَ أَصْحَابُنَا إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ أَدْخُلَ هَذِهِ الدَّارَ الْأُخْرَى أَنَّ أَوْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمَعْنَى حَتَّى فَيَحْنَثُ بِدُخُولِ الْأُولَى أَوَّلًا وَإِنْ دَخَلَ الْأُخْرَى أَوَّلًا بَرَّ فِي يَمِينِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ ازْدِوَاجٌ تَعَذَّرَ الْعَطْفُ وَالْكَلَامُ يَحْتَمِلُ الْغَايَةَ لِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ فَتُرِكَتْ الْحَقِيقَةُ وَحُمِلَتْ عَلَى الْغَايَةِ مَجَازًا فَإِذَا دَخَلَ الْأُولَى قَبْلَ الْأُخْرَى فَقَدْ بَاشَرَ الْمَحْظُورَ بِيَمِينِهِ فَحَنِثَ وَإِذَا دَخَلَ الثَّانِيَةَ أَوَّلًا فَقَدْ أَصَرَّ عَلَى الْبِرِّ إلَى وُجُودِ الْغَايَةِ فَصَارَ بَارًّا كَمَا لَوْ. قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُهَا الْيَوْمَ فَلَمْ يَدْخُلْ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ كَذَا ذَكَرَ فِي عَامَّةِ شُرُوحِ الْجَامِعِ إلَّا أَنَّ تَعَذُّرَ الْعَطْفِ بِاعْتِبَارِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عِنْدَ النُّحَاةِ فَإِنَّ النَّفْيَ يُعْطَفُ عَلَى الْإِثْبَاتِ وَعَلَى الْعَكْسِ يُقَالُ جَاءَنِي زَيْدٌ وَمَا جَاءَنِي عَمْرٌو وَمَا رَأَيْت عَمْرًا لَكِنْ رَأَيْت بِشْرًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ تَعَذَّرَ الْعَطْفُ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ تَقَدُّمِ فِعْلٍ مَنْصُوبٍ يُعْطَفُ الثَّانِي عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ قَالَ أَوْ أَدْخُلُ بِالرَّفْعِ يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ الْعَطْفُ وَيَثْبُتَ التَّخْيِيرُ أَوْ يُقَالُ تَعَذُّرُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ مَعَ أَنْ فِي حُكْمِ الِاسْمِ وَانْتِصَابُهُ هَهُنَا لَا يَصِحُّ إلَّا بِإِضْمَارِ أَنْ فَيَلْزَمُ مِنْهُ عَطْفُ الِاسْمِ عَلَى الْفِعْلِ وَهُوَ فَاسِدٌ فَلِذَلِكَ جُعِلَ بِمَعْنَى الْغَايَةِ. وَقَوْلُهُ وَالْغَايَةُ صَالِحَةٌ احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ أَبَدًا أَوْ لَأَدْخُلَنَّ هَذِهِ الدَّارَ الْأُخْرَى الْيَوْمَ فَإِنَّ أَوْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ بِمَعْنَى الْغَايَةِ لِأَنَّهُ وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَالِازْدِوَاجِ بَيْنَهُمَا لَكِنَّ النَّفْيَ مُؤَبَّدٌ وَالْإِثْبَاتَ مُوَقَّتٌ وَالْمُوَقَّتُ لَا يَصْلُحُ غَايَةً لِلْمُؤَبَّدِ لِأَنَّ الْمُؤَبَّدَ لَا يَنْتَهِي إلَّا بِالْمَوْتِ وَإِذَا تَعَذَّرَ جَعْلُهُ غَايَةً وَجَبَ الْعَمَلُ بِالتَّخْيِيرِ فَيَصِيرُ مُلْتَزِمًا الْكَفَّارَةَ بِإِحْدَى الْيَمِينَيْنِ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ حَنِثْت فِي هَذِهِ الْيَمِينِ أَوْ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ فَعَلَيَّ كَفَّارَةٌ وَشَرْطُ الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ الْأُولَى الدُّخُولُ فِي الدَّارِ الْأُولَى وَفِي الثَّانِيَةِ تَرْكُ الدُّخُولِ فِي الدَّارِ الثَّانِيَةِ فِي الْيَوْمِ فَإِذَا دَخَلَ الْأُولَى حَنِثَ فِي الْيَمِينِ الْأُولَى وَبَطَلَتْ الْيَمِينُ الثَّانِيَةُ لِأَنَّهُ خَيَّرَ نَفْسَهُ فِي الْتِزَامِ الْحِنْثِ بِإِحْدَى الْيَمِينِ فَإِذَا لَزِمَهُ الْحِنْثُ بِأَحَدَيْهِمَا بَطَلَتْ الْأُخْرَى كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ أَوْ لَمْ أَدْخُلْ هَذِهِ الدَّارَ الْيَوْمَ فَحَنِثَ فِي أَحَدِهِمَا لَزِمَهُ جَزَاؤُهُ وَبَطَلَ الْآخَرُ. وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ الْأُولَى وَدَخَلَ الدَّارَ الثَّانِيَةَ الْيَوْمَ بَرَّ فِي الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ وَبَطَلَتْ الْأُولَى لِأَنَّهُ اخْتَارَ يَمِينَ الْإِثْبَاتِ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهُمَا حَتَّى مَضَى الْيَوْمُ حَنِثَ فِي الثَّانِيَةِ لِأَنَّ شَرْطَ الْبِرِّ فِيهَا الدُّخُولُ فِي الدَّارِ الثَّانِيَةِ فِي الْيَوْمِ وَقَدْ فَاتَ فَيَحْنَثُ فِيهَا وَتَبْطُلُ الْأُولَى لِمَا قُلْنَا كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ لِشَمْسِ الْإِسْلَامِ الْأُوزْجَنْدِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -

[باب حتى]

بَابُ حَتَّى) : هَذِهِ كَلِمَةٌ أَصْلُهَا لِلْغَايَةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ حَقِيقَةُ هَذَا الْحَرْفِ لَا يَسْقُطُ ذَلِكَ عَنْهُ إلَّا مَجَازًا لِيَكُونَ الْحَرْفُ مَوْضُوعًا لِمَعْنَى يَخُصُّهُ وَقَدْ وَجَدْنَاهَا تُسْتَعْمَلُ لِلْغَايَةِ لَا يَسْقُطُ عَنْهَا ذَلِكَ فَعَلِمْنَا أَنَّهَا وُضِعَتْ لَهُ فَأَصْلُهَا كَمَالُ مَعْنَى الْغَايَةِ فِيهَا وَخُلُوصُهَا لِذَلِكَ بِمَعْنَى إلَى كَقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5] وَتَقُولُ أَكَلْت السَّمَكَةَ حَتَّى رَأْسِهَا أَيْ إلَى رَأْسِهَا فَإِنَّهُ بَقِيَ أَيْ بَقِيَ الرَّأْسُ وَهَذَا عَلَى مِثَالِ سَائِرِ الْحَقَائِقِ ـــــــــــــــــــــــــــــQ [بَابُ حَتَّى] بَابُ كَلِمَةِ حَتَّى) كَلِمَةُ حَتَّى مِنْ الْحُرُوفِ الْجَارَّةِ كَمَا هِيَ مِنْ الْحُرُوفِ الْعَاطِفَةِ فَأَفْرَدَهَا الشَّيْخُ بِبَابٍ عَلَى حِدَةٍ وَأَوْرَدَ الْبَابَ بَيْنَ بَابِ حُرُوفِ الْعَطْفِ وَبَابِ حُرُوفِ الْجَرِّ رِعَايَةً لِلتَّنَاسُبِ ، هَذِهِ كَلِمَةٌ أَصْلُهَا لِلْغَايَةِ أَيْ هِيَ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ لِلْغَايَةِ فِي كَلَامِهِمْ، هُوَ حَقِيقَةُ هَذَا الْحَرْفِ أَيْ مَعْنَى الْغَايَةِ هُوَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ لِهَذَا الْحَرْفِ لَا يَسْقُطُ مَعْنَى الْغَايَةِ عَنْهُ أَيْ عَنْ هَذَا الْحَرْفِ، إلَّا مَجَازًا أَيْ إلَّا إذَا اُسْتُعْمِلَتْ مَجَازًا كَمَا إذَا اُسْتُعْمِلَتْ لِلْعَطْفِ الْمَحْضِ فِي الْأَفْعَالِ فَإِنَّ مَعْنَى الْغَايَةِ غَيْرُ مُرَادٍ حِينَئِذٍ كَسَائِرِ الْحَقَائِقِ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي غَيْرِ مَوْضُوعَاتِهَا لِيَكُونَ الْحَرْفُ مَوْضُوعًا لِمَعْنًى يَخُصُّهُ اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ هُوَ حَقِيقَةُ هَذَا الْحَرْفِ وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي يَخُصُّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَى الْحَرْفِ وَالْبَارِزُ إلَى مَعْنًى أَوْ عَلَى الْعَكْسِ أَيْ إنَّمَا قُلْنَا مَعْنَى الْغَايَةِ حَقِيقَةُ هَذَا الْحَرْفِ لِيَكُونَ الْحَرْفُ مَوْضُوعًا لِمَعْنًى يَخُصُّ ذَلِكَ الْحَرْفَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى فَيَنْتَفِي الِاشْتِرَاكُ أَوْ يَخُصُّ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِذَلِكَ الْحَرْفِ فَيَنْتَفِي التَّرَادُفُ. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَنْتَفِي التَّرَادُفُ وَقَدْ وُضِعَ لِلْغَايَةِ حَرْفُ إلَى أَيْضًا. قُلْنَا قَدْ ثَبَتَ الْفَرْقُ الْمَانِعُ مِنْ التَّرَادُفِ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ أَنَّ الْغَايَةَ فِي حَتَّى يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَوْضُوعَةً بِأَنْ تَكُونَ شَيْئًا يَنْتَهِي بِهِ الْمَذْكُورُ أَوْ عِنْدَهُ كَالرَّأْسِ لِلسَّمَكَةِ وَالصَّبَاحِ لِلْبَارِحَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي إلَى فَامْتَنَعَ قَوْلُك نِمْت الْبَارِحَةَ حَتَّى نِصْفِ اللَّيْلِ وَصَحَّ نِمْتهَا إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] . وَالْيَدُ مِنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ إلَى الْمَنْكِبِ وَمِنْ ذَلِكَ لَا يَدْخُلُ حَتَّى عَلَى مُضْمَرٍ فَلَا يُقَالُ حَتَّاهُ بِخِلَافِ إلَى فَإِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَى الْمُضْمَرِ وَالْمُظْهَرِ جَمِيعًا لِأَنَّ الْغَايَةَ فِي حَتَّى لِمَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ آخِرَ جُزْءٍ مِنْ الشَّيْءِ أَوْ مَا يُلَاقِي آخِرَ جُزْءٍ مِنْهُ وَالْمُضْمَرُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا مِنْ الشَّيْءِ بَلْ هُوَ نَفْسُهُ امْتَنَعَ دُخُولُهُ عَلَى الْمُضْمَرِ وَلَمَّا لَمْ يُشْتَرَطْ ذَلِكَ فِي إلَى لَمْ يَمْتَنِعْ دُخُولُهُ عَلَى الْمُضْمَرِ. وَذَكَرَ فِي كِتَابِ بَيَانِ حَقَائِقِ الْحُرُوفِ أَنَّ إلَى لِانْتِهَاءٍ لَهُ ابْتِدَاءٌ فِيمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عَلَى نَقِيضِ مِنْ تَقُولُ خَرَجْت مِنْ الْبَصْرَةِ إلَى الْكُوفَةِ فَمِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَإِلَى لِانْتِهَاءٍ بِهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ حَتَّى فِي مُقَابَلَةِ مِنْ لَا يُقَالُ خَرَجْت مِنْ الْبَصْرَةِ حَتَّى الْكُوفَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ إلَى أَصْلٌ فِي الْغَايَةِ لَا تَخْرُجُ مِنْ مَعْنَاهَا إلَى مَعْنًى آخَرَ وَحَتَّى ضَعِيفٌ فِي مَعْنَى الْغَايَةِ فَإِنَّهَا تَخْرُجُ إلَى غَيْرِهَا مِنْ الْمَعَانِي قَوْلُهُ (وَقَدْ وَجَدْنَاهَا تُسْتَعْمَلُ لِلْغَايَةِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ قَدْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَلِمَةِ أَنْ تَكُونَ مَوْضُوعَةً لِمَعْنًى خَاصٍّ وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْغَايَةُ هَاهُنَا بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ لِكَوْنِهَا مُسْتَعْمَلَةً فِي غَيْرِهِ. فَقَالَ قَدْ وَجَدْنَاهَا مُسْتَعْمَلَةً فِي الْغَايَةِ بِحَيْثُ لَا تَسْقُطُ مَعْنَى الْغَايَةِ عَنْهَا وَإِنْ اُسْتُعْمِلَتْ فِي مَعَانٍ أُخَرَ كَمَا سَنُبَيِّنُ فَعَرَفْنَا أَنَّ مَعْنَى الْغَايَةِ هُوَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ لِهَذَا الْحَرْفِ وَأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ (فَإِنَّهُ بَقِيَ) اعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ أَكْثَرِ النُّحَاةِ أَنَّ مَا بَعْدَ حَتَّى لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِيمَا قَبْلَهَا كَمَا فِي إلَى فَفِي قَوْلِهِمْ أَكَلْت السَّمَكَةَ حَتَّى رَأْسِهَا وَنِمْت الْبَارِحَةَ حَتَّى الصَّبَاحِ لَمْ يُؤْكَلْ الرَّأْسُ وَمَا نِيمَ الصَّبَاحُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْغَايَةِ أَنْ لَا تَكُونَ دَاخِلَةً فِي الْمُغَيَّا لِمَا عُرِفَ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5] . فَإِنَّهُ إنْ وَقَفَ عَلَى (سَلَامٌ) لَمْ يَدْخُلْ مَطْلَعُ الْفَجْرِ تَحْتَ حُكْمِ اللَّيْلَةِ. وَكَذَا إنْ لَمْ يَقِفْ لِأَنَّ سَلَامَ الْمَلَائِكَةِ يَنْتَهِي عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ

ثُمَّ قَدْ يُسْتَعْمَلُ لِلْعَطْفِ لِمَا بَيْنَ الْعَطْفِ وَالْغَايَةِ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ مَعَ قِيَامِ مَعْنَى الْغَايَةِ تَقُولُ جَاءَنِي الْقَوْمُ حَتَّى زَيْدٌ وَرَأَيْت الْقَوْمَ حَتَّى زَيْدًا فَزَيْدًا إمَّا أَفْضَلُهُمْ وَإِمَّا أَرْذَلُهُمْ لِيَصْلُحَ غَايَةً أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِمْ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَنْزِلُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي كَبْكَبَةٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَمَعَهُ لِوَاءٌ أَخْضَرُ يَرْكُزُهُ فَوْقَ الْكَعْبَةِ ثُمَّ يَتَفَرَّقُ الْمَلَائِكَةُ فِي النَّاسِ حَتَّى تُسَلِّمُوا عَلَى كُلِّ قَائِمٍ وَقَاعِدٍ وَذَاكِرٍ وَرَاكِعٍ وَسَاجِدٍ إلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ» . وَقَدْ صَرَّحَ فِي شَرْحِ الْمَلْحَمَةِ فَقِيلَ مَا أُكِلَ الرَّأْسُ وَمَا نِيمَ الصَّبَاحُ فِي مَسْأَلَتَيْ السَّمَكَةِ وَالْبَارِحَةِ. وَذَهَبَ الْإِمَامُ عَبْدُ الْقَاهِرِ إلَى أَنَّ مَا بَعْدَ حَتَّى دَاخِلٌ فِيمَا قَبْلَهَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُقْتَصِدِ فَقَالَ وَيَكُونُ مَا بَعْدَ حَتَّى دَاخِلًا فِيمَا قَبْلَهُ أَلَا تَرَى أَنَّك إذَا قُلْت أَكَلْت السَّمَكَةَ حَتَّى رَأْسِهَا كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ الْأَكْلَ قَدْ اشْتَمَلَ عَلَى الرَّأْسِ. وَكَذَا قَوْلُك ضَرَبْت الْقَوْمَ حَتَّى زَيْدًا لِمَعْنَى أَنَّ زَيْدًا قَدْ ضَرَبْته. قَالَ وَإِذَا كَانَتْ عَاطِفَةً كَانَ مَجْرَاهَا مَجْرَى الْجَارَةِ فِي تَضَمُّنِ مَعْنَى الْغَايَةِ تَقُولُ ضَرَبْت الْقَوْمَ حَتَّى زَيْدًا وَمَرَرْت بِالْقَوْمِ حَتَّى زَيْدٍ وَجَاءَنِي الْقَوْمُ حَتَّى زَيْدٌ. وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ فِي مَسَائِلِ السَّمَكَةِ الثَّلَاثِ وَمَسَائِلِ الْبَارِحَةِ الثَّلَاثِ قَدْ أُكِلَ الرَّأْسُ وَنِيمَ الصَّبَاحُ. وَتَابَعَهُ فِي ذَلِكَ جَارُ اللَّهِ فَقَالَ فِي الْمُفَصَّلِ وَمِنْ حَقِّهَا أَنْ يَدْخُلَ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا فَفِي مَسْأَلَتَيْ السَّمَكَةِ وَالْبَارِحَةِ قَدْ أُكِلَ الرَّأْسُ وَنِيمَ الصَّبَاحُ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَرَضَ أَنْ يَنْقَضِيَ الشَّيْءُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْفِعْلُ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى يَأْتِيَ الْفِعْلُ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ كُلِّهِ فَلَوْ انْقَطَعَ الْأَكْلُ عِنْدَ الرَّأْسِ لَا يَكُونُ فِعْلُ الْأَكْلِ آتِيًا عَلَى السَّمَكَةِ كُلِّهَا وَلِذَلِكَ امْتَنَعَ أَكَلْت السَّمَكَةَ حَتَّى نِصْفَهَا لِأَنَّ الْغَرَضَ لَمَّا كَانَ مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ قَدْ فَاتَ فِي الْغَايَةِ الْجَعْلِيَّةِ خَلَا الْكَلَامُ عَنْ الْفَائِدَةِ فَلَمْ يَصِحَّ. وَرَأَيْت فِي نُسْخَةٍ مِنْ شُرُوحِ النَّحْوِ أَنَّ كَلِمَةَ حَتَّى إذَا كَانَتْ لِلْغَايَةِ لَا تَدْخُلُ الْغَايَةُ تَحْتَ مَا ضُرِبَتْ لَهُ الْغَايَةُ وَهَكَذَا قَالَ ابْنِ جِنِّي وَإِلَيْهِ كَانَ يَمِيلُ الشَّيْخ أَبُو مَنْصُورٍ السَّفَّارُ وَالشَّيْخُ الْإِمَامُ عَلِيٌّ الْبَزْدَوِيُّ وَلَكِنْ لَا يَسْتَقِيمُ هَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ نَقُولُ إنْ كَانَ الْمَذْكُورُ بَعْدَ حَتَّى بَعْضًا لِلْمَذْكُورِ قَبْلَهُ يَدْخُلُ تَحْتَ مَا ضُرِبَتْ لَهُ الْغَايَةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا نَصَّ الْمُبَرِّدَ فِي كِتَابِ الْمُقْتَضَبِ وَابْنِ الْوَرَّاقِ فِي الْفُصُولِ وَالْفَرَّاءُ فِي الْمَعَانِي وَهَكَذَا ذَكَرَ السِّيرَافِيُّ أَيْضًا. مِثَالُ الْأَوَّلِ زَارَنِي أَشْرَافُ الْبَلْدَةِ حَتَّى الْأَمِيرُ وَسَبَّنِي النَّاسُ حَتَّى الْعَبِيدُ. وَمِثَالُ الثَّانِي قَرَأْت الْقُرْآنَ حَتَّى الصَّبَاحِ فَالصَّبَاحُ لَا يَكُونُ دَاخِلًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بَعْضَ اللَّيْلِ وَكَانَ حَتَّى هَاهُنَا بِمَعْنَى إلَى. فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ هُوَ اخْتِيَارُ مَذْهَبِ الْأَكْثَرِ وَعَرَفْت بِهِ أَيْضًا أَنَّ مَا وَقَعَ عِنْدَ الْبَعْضِ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ سَهْوٌ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ أَوْ تَصْحِيفٌ فَإِنَّهُ مِنْ النَّفْيِ لَا مِنْ الْبَقَاءِ وَمَعْنَاهُ أَكَلَ وَهْمٌ بَيِّنٌ وَتَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ. قَوْلُهُ (ثُمَّ قَدْ يُسْتَعْمَلُ) أَيْ حَرْفُ حَتَّى لِلْعَطْفِ أَيْ فِيهِ أَوْ يُضَمَّنُ يُسْتَعْمَلُ مَعْنَى يُسْتَعَارُ لِمَا بَيْنَ الْغَايَةِ وَالْعَطْفِ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَعْطُوفَ يَتَّصِلُ بِالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَيَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وَالْغَايَةُ تَتَّصِلُ بِالْمُغَيَّا وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ مَعَ قِيَامِ مَعْنَى الْغَايَةِ. قَالَ الْإِمَامُ عَبْدُ الْقَاهِرِ وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ عَاطِفَةً كَانَتْ مَجْرَاهَا مَجْرَى الْجَارَةِ فِي تَضَمُّنِ مَعْنَى الْغَايَةِ تَقُولُ ضَرَبْت الْقَوْمَ حَتَّى زَيْدًا وَمَرَرْت بِالْقَوْمِ حَتَّى زَيْدٍ وَجَاءَنِي الْقَوْمُ حَتَّى زَيْدٌ بِذَلِكَ عَلَى تَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْعَطْفِ إنَّك لَوْ حَرَّرْت كَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا وَإِنَّمَا يَتَغَيَّرُ بِالْعَطْفِ الْحُكْمُ وَهُوَ أَنَّهَا تَتْبَعُ الثَّانِي الْأَوَّلَ كَالْوَاوِ. وَيَكُونُ لِتَعْظِيمٍ نَحْوَ قَوْلِهِمْ مَاتَ النَّاسُ حَتَّى الْأَنْبِيَاءُ. أَوْ تَحْقِيرٍ مِثْلَ قَوْلِهِمْ قَدِمَ الْحَاجُّ حَتَّى الْمُشَاةُ. وَحَتَّى هَذِهِ مُخَالِفَةٌ لِسَائِرِ حُرُوفِ الْعَطْفِ

اسْتَنَّتْ الْفِصَالُ حَتَّى الْقَرْعَى فَجُعِلَ عَطْفًا هُوَ غَايَةٌ فَكَانَتْ حَقِيقَةً قَاصِرَةً وَعَلَى هَذَا أَكَلْت السَّمَكَةَ حَتَّى رَأْسَهَا بِالنَّصْبِ أَيْ أَكَلْته أَيْضًا وَقَدْ تَدْخُلُ عَلَى جُمْلَةٍ مُبْتَدَأَةٍ عَلَى مِثَالِ وَاوِ الْعَطْفِ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ لِعَطْفِ الْجُمَلِ وَهِيَ غَايَةٌ مَعَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ مَذْكُورًا فَهُوَ خَبَرُهُ وَإِلَّا فَيَجِبُ إثْبَاتُهُ مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهُ تَقُولُ ضَرَبْت الْقَوْمَ حَتَّى زَيْدٌ غَضْبَانُ فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ هِيَ غَايَةُ مَعْنًى وَمِنْ ذَلِكَ أَكَلْت السَّمَكَةَ حَتَّى رَأْسُهَا إلَّا أَنَّ الْخَبَرَ غَيْرُ مَذْكُورٍ هُنَا فَيَجِبُ إثْبَاتُهُ مِنْ جِنْسِ مَا سَبَقَ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ أَوْ إلَى غَيْرٍ أَعْنِي حَتَّى رَأْسُهَا مَأْكُولِي أَوْ مَأْكُولُ غَيْرِي وَمَوَاضِعُهَا فِي الْأَفْعَالِ أَنْ يُجْعَلَ غَايَةً بِمَعْنَى إلَى أَوْ غَايَةً هِيَ جُمْلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ وَعَلَامَةُ الْغَايَةِ أَنْ يَحْتَمِلَ الصَّدْرُ الِامْتِدَادَ وَأَنْ يَصْلُحَ الْآخَرُ دَلَالَةً عَلَى الِانْتِهَاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي أَنَّ مَا بَعْدَهَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُجَانِسًا لِمَا قَبْلَهَا فَلَا تَقُولُ ضَرَبْت الْقَوْمَ حَتَّى حِمَارًا وَضَرَبْت الرِّجَالَ حَتَّى امْرَأَةً كَمَا تَقُولُ ضَرَبْت الْقَوْمَ وَحِمَارًا وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لِلْغَايَةِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَحَدِ طَرَفَيْ الشَّيْءِ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ طَرَفُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِهِ فَلَوْ قُلْت رَأَيْت الْقَوْمَ حَتَّى حِمَارًا كُنْت جَعَلْت الْحِمَارَ طَرَفًا لِلْقَوْمِ مُنْقَطِعًا لَهُمْ وَلِهَذَا كَانَ فِيهَا التَّعْظِيمُ وَالتَّحْقِيرُ لِأَنَّ الشَّيْءَ إذَا أُخِذَ مِنْ أَدْنَاهُ فَأَعْلَاهُ غَايَةٌ لَهُ وَطَرَفٌ فَالْأَنْبِيَاءُ غَايَةُ جِنْسِ النَّاسِ إذَا أَخَذْنَا مِنْ الْمَرَاتِبِ وَاسْتَقْوَيْنَاهَا صَاعِدِينَ. وَإِذَا أُخِذَ مِنْ أَعْلَى الشَّيْءِ فَأَدْنَاهُ طَرَفٌ لَهُ وَذَلِكَ كَالْمُشَاةِ فِي الْحَاجِّ تَأْخُذُ مِنْ الْأَقْوِيَاءِ الرَّاكِبِينَ وَتَنْزِلُ فَتَنْتَهِي إلَى الْمُشَاةِ وَهِيَ مُنْقَطِعُ الْجِنْسِ كَمَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَعَلَى هَذَا قَالُوا لَوْ قَالَ أَعْتَقْت غِلْمَانِي حَتَّى فُلَانَةَ أَوْ أَعْتَقْت إمَائِي حَتَّى سَالِمًا لَمْ يُعْتَقْ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ كَلِمَةُ حَتَّى لِأَنَّ الْغِلْمَانَ وَالْإِمَاءَ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ. وَلَوْ قَالَ أَعْتَقْت سَالِمًا حَتَّى مُبَارَكًا أَوْ حَتَّى مُبَارَكٍ لَا يُعْتَقُ مُبَارَكٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجُزْءٍ لِسَالِمٍ. بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إلَى مَكَانَ حَتَّى فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ فَإِنَّهُمْ يُعْتَقُونَ جَمِيعًا لِإِمْكَانِ حَمْلِ إلَى عَلَى مَعْنَى مَعَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى. {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] . كَذَا فِي كِتَابِ بَيَانِ حَقَائِقِ الْحُرُوفِ. قَوْلُهُمْ اسْتَنَّتْ الْفِصَالُ حَتَّى الْقَرْعَى. الِاسْتِنَانُ هُوَ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ وَيَطْرَحَهُمَا مَعًا وَذَلِكَ فِي حَالَةِ الْعَدْوِ. وَالْقَرْعَى جَمْعُ قَرِيعٍ وَهُوَ الَّذِي بِهِ قَرْعٌ وَهُوَ بَثْرٌ أَبْيَضُ يَخْرُجُ بِالْفِصَالِ. هَذَا مَثَلٌ يُضْرَبُ لِمَنْ يَتَكَلَّمُ مَعَ مَنْ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ لِعُلُوِّ قَدْرِهِ. فَجُعِلَ عَطْفًا هُوَ غَايَةٌ لِانْتِهَاءِ الِاسْتِنَانِ بِاسْتِنَانِهَا فَكَانَتْ حَقِيقَةً قَاصِرَةً مِنْ حَيْثُ إنَّهَا لَمْ تَخْلُصْ لِلْغَايَةِ. وَعَلَى هَذَا أَيْ عَلَى أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ لِلْعَطْفِ مَعَ رِعَايَةِ مَعْنَى الْغَايَةِ. وَقَدْ تَدْخُلُ أَيْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ عَلَى جُمْلَةٍ لَا لِلْعَطْفِ بَلْ تَسْتَأْنِفُ بَعْدَهَا كَمَا تَسْتَأْنِفُ بَعْدَ أَمَّا وَإِذَا تَقُولُ خَرَجَتْ النِّسَاءُ حَتَّى هِنْدٌ خَارِجَةٌ وَلِهَذَا جَازَ إدْخَالُ وَاوِ الْعَطْفِ عَلَيْهَا كَمَا فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: مَطَوْت بِهِمْ حَتَّى يَكِلَّ غَرِيمُهُمْ ... وَحَتَّى الْجِيَادُ مَا يُقَدْنَ بِأَرْسَانِ فَالْجِيَادُ مُبْتَدَأٌ وَمَا يُقَدْنَ خَبَرُهُ وَالْوَاوُ دَاخِلَةٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ حَتَّى هَذِهِ لَيْسَتْ بِعَاطِفَةٍ وَلَوْ كَانَتْ حَرْفَ عَطْفٍ لَمْ يَجُزْ دُخُولُ حَرْفٍ آخَرَ عَلَيْهَا كَمَا لَمْ يَجُزْ إذَا كَانَ حَرْفُ عَطْفٍ قَطْعًا فِي قَوْلِك ضَرَبْت الْقَوْمَ حَتَّى زَيْدًا أَلَا تَرَاك لَا تَقُولُ ضَرَبْت الْقَوْمَ وَفَعَمْرًا فَقَوْلُهُ وَحَتَّى الْجِيَادُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ وَأَمَّا الْجِيَادُ فِي كَوْنِ مَا بَعْدَهُمَا مُبْتَدَأً. عَلَى مِثَالِ وَاوِ الْعَطْفِ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ لِعَطْفِ الْجُمَلِ فَإِنَّهَا فِي هَذَا الْمَحَلِّ لِلِابْتِدَاءِ لَا لِلْعَطْفِ عِنْدَ الْبَعْضِ وَلِهَذَا سَمَّوْهَا وَاوَ الِاسْتِئْنَافِ وَالِابْتِدَاءِ فَهَذِهِ جُمْلَةٌ هِيَ غَايَةٌ أَيْ لِلضَّرْبِ فَإِنَّهُ يَنْتَهِي بِهَا عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يُنْسَبَ أَيْ ذَلِكَ الْخَبَرُ الْمُثْبِتُ مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهُ. إلَيْهِ أَيْ إلَى الْمُتَكَلِّمِ 1 - قَوْلُهُ (وَمَوَاضِعُهَا) أَيْ مَوَاضِعُ كَلِمَةِ حَتَّى فِي الْأَفْعَالِ أَنْ يُجْعَلَ غَايَةً بِمَعْنَى إلَى مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً، مُبْتَدَأَةً كَقَوْلِهِ سِرْت حَتَّى أَدْخُلَهَا. أَوْ غَايَةً هِيَ جُمْلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ كَقَوْلِك خَرَجَ النِّسَاءُ حَتَّى خَرَجَتْ هِنْدٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ فِي الْأَصْلِ لِلْغَايَةِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ مَا أَمْكَنَ. فَإِنْ قِيلَ لَمَّا جُعِلَتْ بِمَعْنَى إلَى كَيْفَ جَازَ دُخُولُهَا عَلَى الْفِعْلِ لِأَنَّهَا إذْ ذَاكَ حَرْفُ جَرٍّ. قُلْنَا إنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِكَوْنِ أَنَّ مُقَدَّرًا فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ وَأَنَّ مَعَ الْفِعْلِ فِي حُكْمِ الِاسْمِ فَتَكُونُ دَاخِلَةً عَلَى الِاسْمِ تَقْدِيرًا وَيَكُونُ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ مَجْرُورَ الْمَحَلِّ بِهَا. وَعَلَامَةُ الْغَايَةِ أَنْ يَحْتَمِلَ الصَّدْرُ الِامْتِدَادَ بِأَنْ صَلَحَ فِيهِ ضَرْبُ الْمُدَّةِ. وَأَنْ يَصْلُحَ الْآخَرُ دَلَالَةً عَلَى الِانْتِهَاءِ كَالصِّيَاحِ فِي قَوْلِهِ إنْ لَمْ أَضْرِبْك حَتَّى تَصِيحَ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهَا لِلْغَايَةِ. فَإِذَا قَالَ عَبْدِي حُرٌّ إنْ لَمْ نُخْبِرْ فُلَانًا بِمَا صَنَعْت حَتَّى يَضْرِبَك

فَإِنْ لَمْ يَسْتَقِمْ فَلِلْمُجَازَاةِ بِمَعْنَى لَامِ كَيْ وَهَذَا إذَا صَلَحَ الصَّدْرُ سَبَبًا وَلَمْ يَصْلُحْ الْآخَرُ غَايَةً وَصَلَحَ جَزَاءً وَهَذَا نَظِيرُ قِسْمِ الْعَطْفِ مِنْ الْأَسْمَاءِ فَإِنْ تَعَذَّرَ هَذَا جُعِلَ مُسْتَعَارًا لِلْعَطْفِ الْمَحْضِ وَبَطَلَ مَعْنَى الْغَايَةِ وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ أَصْحَابِنَا فِي الزِّيَادَاتِ وَلِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مَا خَلَا الْمُسْتَعَارَ الْمَحْضَ ذِكْرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وَحَتَّى تَغْتَسِلُوا هِيَ بِمَعْنَى إلَى وَكَذَلِكَ {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] وَقَالَ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ حَتَّى هَاهُنَا لِلْغَايَةِ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ مِمَّا لَا يَمْتَدُّ فَيُجْعَلُ بِمَعْنَى لَامِ كَيْ فَإِذَا أَخْبَرَهُ وَلَمْ يَضْرِبْهُ بَرَّ فِي يَمِينِهِ لِأَنَّ شَرْطَ الْبِرِّ الْإِخْبَارُ لَا غَيْرُ وَقَدْ وُجِدَ. وَلَوْ قَالَ عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ لَمْ أَضْرِبْك حَتَّى تَضْرِبَنِي أَوْ تَشْتُمَنِي فَضَرَبَهُ وَلَمْ يَضْرِبْهُ الْمَضْرُوبُ بَرَّ أَيْضًا لِأَنَّ الضَّرْبَ وَإِنْ كَانَ فِعْلًا مُمْتَدًّا لَكِنَّ الضَّرْبَ وَالشَّتْمَ مِنْ الْمَضْرُوبِ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الِانْتِهَاءِ بَلْ هُوَ دَاعٍ إلَى زِيَادَةِ الضَّرْبِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ غَايَةً فَيُحْمَلُ عَلَى الْجَزَاءِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُرَادُهُ إظْهَارُ عَجْزِهِ عَنْ الضَّرْبِ لَا وُجُودُ فِعْلِ الضَّرْبِ مِنْهُ وَمَعْنَاهُ أَنَا أَضْرِبُك حَتَّى تَضْرِبَنِي إنْ قَدَرْت عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنَّك لَا تَقْدِرُ فَتَبَيَّنَ لِلنَّاسِ عَجْزُك وَضَعْفُك بِضَرْبِي إيَّاكَ فَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ نَفْيَ فِعْلِ الضَّرْبِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ غَايَةً. فَإِنْ لَمْ يَسْتَقِمْ فَلِلْمُجَازَاةِ أَيْ إنْ لَمْ يَسْتَقِمْ أَنْ يُجْعَلَ غَايَةً لِفَوَاتِ الْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُجَازَاةِ بِمَعْنَى لَامِ كَيْ لِمُنَاسِبَةٍ بَيْنَ الْمُجَازَاةِ وَبَيْنَ الْغَايَةِ لِأَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ يَنْتَهِي بِوُجُودِ الْجَزَاءِ عَادَةً كَمَا يَنْتَهِي بِوُجُودِ الْغَايَةِ. وَهَذَا أَيْ الْحَمْلُ عَلَى الْمُجَازَاةِ إنَّمَا يَكُونُ إذَا صَلَحَ الصَّدْرُ سَبَبًا وَلَمْ يَصْلُحْ الْآخِرُ غَايَةً حَتَّى لَوْ صَلَحَ الْآخَرُ غَايَةً مَعَ كَوْنِ الصَّدْرِ صَالِحًا لِلسَّبَبِيَّةِ يُجْعَلُ لِلْغَايَةِ كَقَوْلِهِ إنْ أَضْرِبْك حَتَّى تُصْبِحَ فَعَبْدِي حُرٌّ. وَهَذَا نَظِيرُ قِسْمِ الْعَطْفِ مِنْ الْأَسْمَاءِ أَيْ حَتَّى الَّتِي لِلْمُجَازَاةِ فِي الْأَفْعَالِ نَظِيرُ حَتَّى الْعَاطِفَةِ فِي الْأَسْمَاءِ مِنْ حَيْثُ إنَّ مَعْنَى الْغَايَةِ بَاقٍ فِيهَا مِنْ وَجْهٍ. فَإِنْ تَعَذَّرَ هَذَا أَيْ جَعْلُهَا لِلْمُجَازَاةِ يُجْعَلُ لِلْعَطْفِ الْمَحْضِ. وَعَلَى هَذَا أَيْ عَلَى الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لَهَا فِي الْأَفْعَالِ ثَبَتَ مَسَائِلُ أَصْحَابِنَا فِي الزِّيَادَاتِ. وَحَاصِلُهُ مَا ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّ كَلِمَةَ حَتَّى فِي الْأَصْلِ لِلْغَايَةِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا إذَا أَمْكَنَ وَشَرْطُ الْإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْمُغَيَّا مُمْتَدًّا وَأَنْ يَكُونَ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ مُؤَثِّرًا فِي إنْهَاءِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ. فَإِنْ تَعَذَّرَ حَمْلُهَا عَلَى الْغَايَةِ تُحْمَلُ عَلَى لَامِ السَّبَبِ إنْ أَمْكَنَ وَشَرْطُ الْإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ الْحَلِفُ مَعْقُودًا عَلَى فِعْلَيْنِ أَحَدُهُمَا مِنْ شَخْصٍ وَالْأُخَرُ مِنْ شَخْصٍ آخَرَ لِأَنَّ فِعْلَ نَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ جَزَاءً لِفِعْلِهِ عَادَةً إذْ الْجَزَاءُ مُكَافَأَةُ الْفِعْلِ وَهُوَ لَا يُكَافِئُ نَفْسَهُ عَادَةً. فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ يُحْمَلُ عَلَى الْعَطْفِ. وَمِنْ حُكْمِ الْغَايَةِ أَنْ يُشْتَرَطَ وُجُودُهَا لِلْبِرِّ فَإِنْ أَقْلَعَ قَبْلَ الْغَايَةِ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ. وَمِنْ حُكْمِ لَامِ السَّبَبِ أَنْ يُشْتَرَطَ وُجُودُ مَا يَصْلُحُ سَبَبًا لَا وُجُودُ الْمُسَبِّبِ. وَمِنْ حُكْمِ الْعَطْفِ أَنْ يُشْتَرَطَ وُجُودُهُمَا لِلْبِرِّ قَوْلُهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] وَ {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] وَ {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] . كَلِمَةُ حَتَّى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَعْنَى إلَى لِأَنَّ صَدْرَ الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ {قَاتِلُوا} [آل عمران: 167] . وَقَوْلُهُ {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} [النساء: 43] . وَقَوْلُهُ. لَا تَدْخُلُوا. يَحْتَمِلُ الِامْتِدَادَ إذْ الْمُقَاتَلَةُ تَمْتَدُّ يَوْمًا وَيَوْمَيْنِ وَأَكْثَرَ وَقَبُولُ الْجِزْيَةِ يَصْلُحُ مُنْهِيًا لَهَا. وَكَذَا الْمَنْعُ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ جُنُبًا مُمْتَدٌّ وَالِاغْتِسَالُ يَصْلُحُ مُنْهِيًا لَهَا. وَكَذَا الْمَنْعُ مِنْ دُخُولِ بَيْتِ الْغَيْرِ مُمْتَدٌّ وَالِاسْتِئْنَاسُ وَهُوَ الِاسْتِئْذَانُ يَصْلُحُ مُنْهِيًا لَهُ قَوْلُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] أَيْ كَيْ لَا يَكُونَ فِتْنَةٌ أَيْ مُحَارَبَةٌ. وَإِنَّمَا جُعِلَتْ حَتَّى هَذِهِ بِمَعْنَى لَامِ كَيْ لِأَنَّ آخِرَ الْكَلَامِ لَا يَصْلُحُ لِانْتِهَاءِ الصَّدْرِ إذْ الْقِتَالُ وَاجِبٌ مَعَ عَدَمِ الْمُحَارَبَةِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يَبْدَؤُنَا بِالْقِتَالِ وَجَبَ عَلَيْنَا مُحَارَبَتُهُمْ وَصَدْرُ الْكَلَامِ يَصْلُحُ سَبَبًا لِانْتِفَاءِ الْفِتْنَةِ فَوَجَبَ الْحَمْلُ عَلَى لَامِ كَيْ. وَهَذَا إذَا فُسِّرَتْ الْفِتْنَةُ بِالْمُحَارَبَةِ فَإِنْ فُسِّرَتْ بِالشِّرْكِ يَكُونُ حَتَّى بِمَعْنَى إلَى عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الْكَشَّافِ {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] إلَى أَنْ يُوجَدَ مِنْهُمْ شِرْكٌ قَطُّ

{وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة: 214] بِالنَّصْبِ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا إلَى أَنْ يَقُولَ الرَّسُولُ فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُمْ سَبَبًا لِمَقَالَةِ الرَّسُولِ وَيَنْتَهِي فِعْلُهُمْ عِنْدَ مَقَالَتِهِ عَلَى مَا هُوَ مَوْضُوعُ الْغَايَاتِ أَنَّهَا إعْلَامُ الِانْتِهَاءِ مِنْ غَيْرِ أَثَرٍ وَالثَّانِي وَزُلْزِلُوا لِكَيْ يَقُولَ الرَّسُولُ فَيَكُونُ فِعْلُهُمْ سَبَبًا لِمَقَالَتِهِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ الِانْتِهَاءَ وَقُرِئَ حَتَّى يَقُولُ بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى جُمْلَةٍ مُبْتَدَأَةٍ أَيْ حَتَّى الرَّسُولُ يَقُولُ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُمْ سَبَبًا وَيَكُونُ مُتَنَاهِيًا بِهِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ فِي رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ عَبْدِي حُرٌّ إنْ لَمْ أَضْرِبْك حَتَّى تُصْبِحَ أَوْ حَتَّى تَشُكِّي يَدِي أَوْ حَتَّى يَشْفَعَ فُلَانٌ أَوْ حَتَّى يَدْخُلَ اللَّيْلُ أَنَّ هَذِهِ غَايَاتٌ حَتَّى إذَا أَقْلَعَ قَبْلَ الْغَايَاتِ حَنِثَ لِأَنَّ الْفِعْلَ بِطَرِيقِ التَّكْرَارِ يَحْتَمِلُ الِامْتِدَادَ فِي حُكْمِ الْبِرِّ وَالْكَفُّ عَنْهُ مُحْتَمَلُهُ فِي حُكْمِ الْحِنْثِ لَا مَحَالَةَ وَهَذِهِ الْأُمُورُ دِلَالَاتُ الْإِقْلَاعِ عَنْ الضَّرْبِ ـــــــــــــــــــــــــــــQ {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ} [الأنفال: 39] وَيَضْمَحِلُّ عَنْهُمْ كُلُّ دِينٍ بَاطِلٍ. وَيَبْقَى فِيهِمْ دَيْنُ الْإِسْلَامِ وَحْدَهُ قَوْلُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة: 214] أَوَّلُ الْآيَةِ {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} [البقرة: 214] أَمْ مُنْقَطِعَةٌ وَمَعْنَى الْهَمْزَةِ فِيهَا لِلتَّقْرِيرِ وَإِنْكَارِ الْحُسْبَانِ وَاسْتِبْعَادِهِ لَمَّا ذَكَرَ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْأُمَمُ مِنْ الِاخْتِلَافِ عَلَى النَّبِيِّينَ بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ. وَلِمَا فِيهَا مَعْنَى التَّوَقُّعِ أَيْ إتْيَانُ ذَلِكَ مُتَوَقَّعٌ مُنْتَظَرٌ أَيْ أَحَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ بَلَاءٍ وَلَا مَكْرُوهٍ {وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ} [البقرة: 214] . أَيْ حَالُهُمْ الَّتِي هِيَ مَثَلٌ فِي الشِّدَّةِ. ثُمَّ بَيَّنَ الْمَثَلَ فَقَالَ {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ} [البقرة: 214] الشِّدَّةُ وَالضَّرَّاءُ الْمَرَضُ وَالْجُوعُ وَزُلْزِلُوا وَأُزْعِجُوا إزْعَاجًا شَدِيدًا شَبِيهًا بِالزَّلْزَلَةِ بِمَا أَصَابَهُمْ مِنْ الْأَهْوَالِ وَالْأَفْزَاعِ. {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة: 214] قُرِئَ بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ وَلِلنَّصَبِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ حَتَّى بِمَعْنَى إلَى أَيْ حُرِّكُوا بِأَنْوَاعِ الْبَلَايَا إلَى الْغَايَةِ الَّتِي قَالَ الرَّسُولُ وَهُوَ الْيَسَعُ أَوْ شُعَيْبٌ {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة: 214] أَيْ بَلَغَ بِهِمْ الضَّجَرُ وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ صَبْرٌ حَتَّى قَالُوا ذَلِكَ. وَمَعْنَاهُ طَلَبُ النَّصْرِ وَتَمَنِّيه وَاسْتِطَالَةُ زَمَنِ الشِّدَّةِ {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214] . عَلَى إرَادَةِ الْقَوْلِ يَعْنِي فَقِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ إجَابَةً لَهُمْ إلَى طَلَبَتِهِمْ مِنْ عَاجِلِ النَّصْرِ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ فِعْلُهُمْ أَيْ زَلْزَلَتُهُمْ وَامْتِحَانُهُمْ بِالْبَلَايَا سَبَبًا لِمَقَالَةِ الرَّسُولِ بَلْ يَنْتَهِي فِعْلُهُمْ عِنْدَ مَقَالَتِهِ. وَلَا يُقَالُ لَيْسَ لَهُمْ فِعْلٌ بَلْ وَقَعَ الزِّلْزَالُ عَلَيْهِمْ فَكَيْفَ جَعَلَ ذَلِكَ فِعْلَهُمْ. لِأَنَّا نَقُولُ لَمَّا زُلْزِلُوا كَانَ التَّزَلْزُلُ مَوْجُودًا مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ إذَا حُرِّكُوا كَانَ التَّحَرُّكُ مَوْجُودًا مِنْهُمْ خُصُوصًا عَلَى اصْطِلَاحِ أَهْلِ النَّحْوِ فَإِنَّهُمْ هُمْ الْفَاعِلُونَ بِسَبَبِ أَنَّ الزِّلْزَالَ أُسْنِدَ إلَيْهِمْ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ. عَلَى مَا هُوَ مَوْضُوعُ الْغَايَاتِ أَنَّهَا أَعْلَامُ الِانْتِهَاءِ مِنْ غَيْرِ أَثَرٍ يَعْنِي أَنَّ الْغَايَةَ عَلَامَةٌ عَلَى انْتِهَاءِ الْمُغَيَّا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهَا أَثَرٌ فِي انْتِهَائِهِ كَالْمِيلِ لِلطَّرِيقِ وَالْمَنَارَةِ لِلْمَسْجِدِ وَالْإِحْصَانِ لِلرَّجْمِ فَإِنَّهَا أَعْلَامٌ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُضَافَ إلَيْهَا وُجُودُ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ. أَوْ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْمُغَيَّا أَثَرٌ فِي إيجَادِ الْغَايَةِ وَإِثْبَاتِهَا كَحُدُودِ الدَّارِ أَعْلَامٌ عَلَى انْتِهَائِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلدَّارِ أَثَرٌ فِي إيجَادِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى لَامِ كَيْ كَقَوْلِك أَسْلَمْت حَتَّى أَدْخُلَ الْجَنَّةَ أَيْ وَزُلْزِلُوا لِكَيْ يَقُولَ الرَّسُولُ ذَلِكَ الْقَوْلَ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِعْلُهُمْ أَيْ زَلْزَلَتُهُمْ سَبَبًا لِمَقَالَتِهِ وَهُوَ لَا يُوجِبُ الِانْتِهَاءَ بَلْ يَكُونُ دَاعِيًا إلَيْهِ. وَوَجْهُ الرَّفْعِ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ بَعْدَهُ بِمَعْنَى الْحَالِ كَقَوْلِهِمْ شَرِبَتْ الْإِبِلُ حَتَّى يَجِيءُ الْبَعِيرُ يَجُرُّ بَطْنَهُ إلَّا أَنَّهَا حَالٌ مَاضِيَةٌ مَحْكِيَّةٌ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ بَقِيَ فِيهِ مَعْنَى الْغَايَةِ وَيَكُونُ هَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ أَوْ غَايَةً وَهِيَ جُمْلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ قَوْلُهُ (لِأَنَّ الْفِعْلَ) أَيْ الْفِعْلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ وَهُوَ الضَّرْبُ. يَحْتَمِلُ الِامْتِدَادَ بِطَرِيقِ التَّكْرَارِ يَعْنِي لَا امْتِدَادَ لِفِعْلٍ مَا حَقِيقَةً لِأَنَّهُ عَرَضٌ لَا يَبْقَى فَلَا يُتَصَوَّرُ امْتِدَادُهُ لَكِنَّ بَعْضَ الْأَفْعَالِ قَدْ يُحْتَمَلُ الِامْتِدَادُ بِتَجَدُّدِ الْأَمْثَالِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ كَالْجُلُوسِ وَالرُّكُوبِ. وَالضَّرْبِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَكَانَ شَرْطُ الْبِرِّ وَهُوَ الْمَدُّ إلَى الْغَايَةِ الْمَضْرُوبَةِ لَهُ مُتَصَوَّرًا وَإِذَا كَانَ مُحْتَمَلًا لِلِامْتِدَادِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا كَانَ الْكَفُّ عَنْهُ أَيْ عَنْ الْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ بِأَنْ يُقْلِعَ قَبْلَ الْغَايَةِ مُحْتَمَلُ هَذَا الْفِعْلِ لَا مَحَالَةَ فَيَكُونُ شَرْطُ الْحِنْثِ مُتَصَوَّرًا أَيْضًا وَلَا بُدَّ مِنْ تَصَوُّرِ شَرْطِ الْحِنْثِ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ حَتَّى لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأَقْتُلَنَّ فُلَانًا. وَفُلَانٌ مَيِّتٌ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِمَوْتِهِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ هُنَا كَشَرْطِ الْبِرِّ كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ أَيْ الْأَفْعَالُ الْمَذْكُورَةُ مِنْ الصِّيَامِ وَاشْتِكَاءِ الْيَدِ أَيْ تَأَلُّمِهَا وَشَفَاعَةِ فُلَانٍ وَدُخُولِ

فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَتِهَا فَصَارَ شَرْطُ الْحِنْثِ الْكَفَّ عَنْهُ قَبْلَ الْغَايَةِ وَلَوْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ إنْ لَمْ آتِك حَتَّى تُغَدِّيَنِي فَأَتَاهُ فَلَمْ يُغَدِّهِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ قَوْلَهُ حَتَّى تُغَدِّيَنِي لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الِانْتِهَاءِ بَلْ هُوَ دَاعٍ إلَى زِيَادَةِ الْإِتْيَانِ وَالْإِتْيَانُ يَصْلُحُ سَبَبًا وَالْغِدَاءُ يَصْلُحُ جَزَاءً فَحُمِلَ عَلَيْهِ لِأَنَّ جَزَاءَ السَّبَبِ غَايَتُهُ فَاسْتَقَامَ الْعَمَلُ بِهِ فَصَارَ شَرْطُ بِرِّهِ فِعْلَ الْإِتْيَانِ عَلَى وَجْهٍ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْجَزَاءِ بِالْغِدَاءِ وَقَدْ وُجِدَ وَلَوْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ إنْ لَمْ آتِك حَتَّى أَتَغَدَّى عِنْدَك كَانَ هَذَا لِلْعَطْفِ الْمَحْضِ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ إحْسَانٌ فَلَا يَصْلُحُ غَايَةً لِلْإِتْيَانِ وَلَا يَصْلُحُ إتْيَانُهُ سَبَبًا لِفِعْلِهِ وَلَا فِعْلُهُ جَزَاءً لِإِتْيَانِ نَفْسِهِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ حُمِلَ عَلَى الْعَطْفِ الْمَحْضِ وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ آتِك حَتَّى أُغَدِّيَك فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ لَمْ آتِك فَأَتَغَدَّى عِنْدَك حَتَّى إذَا أَتَاهُ فَلَمْ يَتَغَدَّ ـــــــــــــــــــــــــــــQاللَّيْلَةِ دِلَالَاتُ الْإِقْلَاعِ أَيْ الْإِمْسَاكِ وَالْكَفِّ عَنْ الضَّرْبِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَمْتَنِعُ عَنْ الضَّرْبِ بِهَا. فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَتِهَا أَيْ بِحَقِيقَةِ الْغَايَةِ وَحَمْلُ حَتَّى عَلَيْهَا فَإِذَا أَقْلَعَ قَبْلَ الْغَايَةِ كَانَ حَانِثًا. فَإِنْ قِيلَ شَرْطُ الْبِرِّ مُتَصَوَّرُ الْوُجُودِ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي فَلِمَاذَا يَحْنَثُ فِي الْحَالِ. قُلْنَا الْيَمِينُ تَقَعُ عَلَى أَوَّلِ الْوَهْلَةِ لِأَنَّ الْحَامِلَ عَلَى الْيَمِينِ غَيْظٌ لَحِقَهُ مِنْ جِهَتِهِ فِي الْحَالِ هَذَا هُوَ الْعَادَةُ فَيَتَقَيَّدُ بِهِ الْيَمِينُ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الْحَقِيقَةِ عُرْفٌ كَمَا فِي الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهَا عُرْفٌ ظَاهِرٌ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْعُرْفِ بِمَنْزِلَةِ الْحَقِيقَةِ حَتَّى لَوْ قَالَ إنْ لَمْ أَضْرِبْك حَتَّى أَقْتُلَك أَوْ حَتَّى تَمُوتَ كَانَ هَذَا عَلَى الضَّرْبِ الشَّدِيدِ لَا عَلَى حَقِيقَةِ الْقَتْلِ وَالْمَوْتِ لِلْعُرْفِ فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ قَصْدُهُ الْقَتْلَ لَا يُذْكَرُ لَفْظَةَ الضَّرْبِ وَإِنَّمَا يَذْكُرُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ الْقَتْلَ وَجَعْلُ الْقَتْلِ غَايَةً لِبَيَانِ شِدَّةِ الضَّرْبِ مُعْتَادٌ مُتَعَارَفٌ. وَلَوْ قَالَ حَتَّى يُغْشَى عَلَيْك أَوْ حَتَّى تَبْكِيَ كَانَ عَلَى حَقِيقَةِ الْغَايَةِ لِأَنَّ الضَّرْبَ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ مُعْتَادٌ كَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ (حَتَّى تُغَذِّيَنِي لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الِانْتِهَاءِ) التَّغْذِيَةُ لَا تَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى انْتِهَاءِ الْإِتْيَانِ وَكَذَا الْإِتْيَانُ لَيْسَ بِمُسْتَدَامٍ أَيْضًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ضَرْبُ الْمُدَّةِ فِيهِ فَفَاتَ شَرْطَا الْغَايَةِ جَمِيعًا وَلَكِنَّهُ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلتَّغْذِيَةِ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ وَالزِّيَارَةِ إحْسَانٌ بَدَنِيٌّ إلَى الْمَزُورِ فَيَصْلُحُ سَبَبًا لِإِحْسَانٍ مَالِيٍّ مِنْهُ إلَى الزَّائِرِ وَعَنْ هَذَا قِيلَ مَنْ زَارَ حَيًّا وَلَمْ يُذَقْ عِنْدَهُ شَيْئًا فَكَأَنَّمَا زَارَ مَيِّتًا. وَالتَّغْذِيَةُ صَالِحَةٌ لِلْجَزَاءِ لِأَنَّهَا إحْسَانٌ أَيْضًا فَيَصْلُحُ مُكَافَأَةً لِلْإِحْسَانِ. وَقَوْلُهُ عَلَى وَجْهٍ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْجَزَاءِ بِأَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ وَالزِّيَارَةُ احْتِرَازٌ عَنْ الْإِتْيَانِ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيرِ بِأَنْ أَتَاهُ لِيَضْرِبَهُ أَوْ يَشْتُمَهُ أَوْ يُؤْذِيَهُ فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلتَّغْذِيَةِ فَلَا يَكُونُ شَرْطًا لِلْبِرِّ. وَكَذَا الْحُكْمُ فِي قَوْلِهِ إنْ لَمْ تَأْتِنِي حَتَّى أُغَذِّيَك. وَلَوْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ إنْ لَمْ آتِك حَتَّى أَتَغَذَّى عِنْدَك أَوْ قَالَ إنْ لَمْ تَأْتِنِي حَتَّى تُغَذِّيَنِي فَعَبْدِي حُرٌّ كَانَ حَتَّى لِلْعَطْفِ الْمَحْضِ مِنْ غَيْرِ رِعَايَةِ مَعْنَى الْغَايَةِ فِيهِ. لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ أَيْ التَّغَذِّيَ مِنْ غِذَاءِ الْغَيْرِ عِنْدَ الْإِبَاحَةِ إحْسَانٌ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَوْ دُعِيت إلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْت» . أَلَا تَرَى أَنَّ تَرْكَ الْأَكْلِ عِنْدَ الْإِبَاحَةِ إسَاءَةٌ وَدَلِيلٌ عَلَى الْعَدَاوَةِ حَتَّى أَوْجَسَ الْخَلِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه خِيفَةً فِي نَفْسِهِ مِنْ الضَّيْفِ إذْ لَمْ يَأْكُلُوا مِنْ ضِيَافَتِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ مُنْهِيًا لِلْإِتْيَانِ. أَوْ الْمُرَادُ مِنْ الْفِعْلِ التَّغْذِيَةُ أَيْ التَّغْذِيَةُ الَّتِي يُبْتَنَى عَلَيْهَا الغذي إحْسَانٌ لِمَا ذَكَرْنَا فَلَا تَصْلُحُ غَايَةً لِلْإِتْيَانِ بَلْ هِيَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ إذْ الْإِنْسَانُ عَبِيدُ الْإِحْسَانِ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ حَتَّى عَلَى الْغَايَةِ وَلَا يَصْلُحُ إتْيَانُهُ سَبَبًا لِفِعْلِهِ أَيْ الْفِعْلُ نَفْسُهُ كَمَا أَنَّ فِعْلَهُ لَا يَصْلُحُ جَزَاءً لِإِتْيَانِهِ فَتَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى الْمُجَازَاةِ أَيْضًا فَحُمِلَ عَلَى الْعَطْفِ بِمَعْنَى الْفَاءِ أَوْ بِمَعْنَى ثُمَّ لِأَنَّ التَّعْقِيبَ يُنَاسِبُ مَعْنَى الْغَايَةِ فَيَتَوَقَّفُ الْبِرُّ عَلَى وُجُودِ الْفِعْلَيْنِ بِوَصْفِ التَّعْقِيبِ كَمَا لَوْ قَالَ إنْ لَمْ آتِك فَأَتَغَذَّى عِنْدَك قَوْلُهُ (حَتَّى إذَا أَتَاهُ فَلَمْ يَتَغَذَّ) إلَى آخِرِهِ. اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَمَّا إنْ وَقَّتَ بِالْيَوْمِ بِأَنْ قَالَ إنْ لَمْ آتِك الْيَوْمَ حَتَّى أَتَغَذَّى عِنْدَك. أَوْ لَمْ يُوَقِّتْ. فَإِنْ وَقَّتَ فَشَرْطُ الْبِرِّ وُجُودُ الْفِعْلَيْنِ فِي الْيَوْمِ وَشَرْطُ الْحِنْثِ عَدَمُ أَحَدِهِمَا فِيهِ حَتَّى إذْ أَتَاهُ فِي الْيَوْمِ وَتَغَذَّى عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مُتَّصِلًا بِالْإِتْيَانِ أَوْ مُتَرَاخِيًا عَنْهُ كَانَ بَارًّا لِوُجُودِ شَرْطِ الْبِرِّ. إلَّا إذَا عَنَى الْفَوْرَ فَيُشْتَرَطُ وُجُودُ

ثُمَّ تَغَدَّى مِنْ بَعْدُ غَيْرَ مُتَرَاخٍ فَقَدْ بَرَّ وَإِنْ لَمْ يَتَغَذَّ أَصْلًا حَنِثَ وَهَذِهِ اسْتِعَارَةٌ لَا يُوجَدُ لَهَا ذِكْرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَلَا ذَكَرَهَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ فِيمَا أَعْلَمُ لَكِنَّهَا اسْتِعَارَةٌ بَدِيعَةٌ اقْتَرَحَهَا أَصْحَابُنَا عَلَى قِيَاسِ اسْتِعَارَاتِ الْعَرَبِ لِأَنَّ بَيْنَ الْعَطْفِ وَالْغَايَةِ مُنَاسَبَةٌ مِنْ حَيْثُ يُوصِلُ الْغَايَةَ بِالْجُمْلَةِ كَالْمَعْطُوفِ وَقَدْ اُسْتُعْمِلَتْ بِمَعْنَى الْعَطْفِ مَعَ قِيَامِ الْغَايَةِ بِلَا خِلَافٍ فَاسْتَقَامَ أَنْ يُسْتَعَارَ لِعَطْفِ الْمَحْضِ إذَا تَعَذَّرَتْ حَقِيقَتُهُ وَهَذَا عَلَى مِثَالِ اسْتِعَارَاتِ أَصْحَابِنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْبَابِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ عَلَى هَذَا جَاءَنِي زَيْدٌ حَتَّى عَمْرٌو وَهَذَا غَيْرُ مَسْمُوعٍ مِنْ الْعَرَبِ وَإِذَا اُسْتُعِيرَ لِلْعَطْفِ اُسْتُعِيرَ لِمَعْنَى الْفَاءِ دُونَ الْوَاوِ لِأَنَّ الْغَايَةَ تُجَانِسُ التَّعْقِيبَ. . ـــــــــــــــــــــــــــــQالْفِعْلَيْنِ بِصِفَةِ الِاتِّصَالِ. وَإِنْ لَمْ يُوَقِّتْ كَانَ شَرْطُ الْبِرِّ وُجُودَ الْفِعْلَيْنِ فِي الْعُمُرِ بِصِفَةِ الِاتِّصَالِ أَوْ التَّرَاخِي إذَا لَمْ يَنْوِ الْفَوْرَ وَشَرْطُ الْحِنْثِ عَدَمُ أَحَدِهِمَا فِي الْعُمُرِ هَذَا حَاصِلُ مَا ذَكَرَ فِي عَامَّةِ نُسَخِ الزِّيَادَاتِ. وَهَكَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ الزِّيَادَاتِ أَيْضًا فَقَالَ إذَا قَالَ إنْ لَمْ آتِك حَتَّى أَتَغَذَّى عِنْدَك الْيَوْمَ أَوْ إنْ لَمْ تَأْتِنِي حَتَّى تَتَغَذَّى عِنْدَك الْيَوْمَ فَكَذَا فَأَتَاهُ ثُمَّ لَمْ يَتَغَذَّ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَنِثَ لِأَنَّ شَرْطَ الْبِرِّ وُجُودُ الْأَمْرَيْنِ فِي الْيَوْمِ وَلَمْ يُوجَدْ. وَإِنْ لَمْ يُوَقِّتْ بِالْيَوْمِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ يُرْجَى الْبِرُّ وَهُوَ التَّغَذِّي فِي وَقْتٍ آخَرَ وَهَكَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي شَرْحِ الزِّيَادَاتِ أَيْضًا. وَإِذَا تَحَقَّقَتْ هَذَا عَلِمْت أَنَّ فِي قَوْلِهِ فِي الْكِتَابِ حَتَّى إذَا أَتَاهُ فَلَمْ يَتَغَذَّ ثُمَّ تَغَذَّى مِنْ بَعْدُ غَيْرَ مُتَرَاخٍ فَقَدْ بَرَّ نَوْعَ اشْتِبَاهٍ لِأَنَّ لِقَوْلِهِ فَلَمْ يَتَغَذَّ مَعَ قَوْلِهِ تَغَذَّى مِنْ بَعْدُ غَيْرَ مُتَرَاخٍ نَوْعَ مُنَافَاةٍ. وَظَنِّي أَنَّ الْمَسْأَلَةَ كَانَتْ مَوْضُوعَةً فِي الْكِتَابِ فِي الْيَوْمِ مِثْلُهَا فِي أُصُولِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَعَامَّةِ نُسَخِ الزِّيَادَاتِ فَسَقَطَ لَفْظُ الْيَوْمِ عَنْ قَلَمِ الْكَاتِبِ. وَعَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرَ كَانَ مَعْنَى مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ حَتَّى إذَا أَتَاهُ أَيْ فِي الْيَوْمِ. فَلَمْ يَتَغَذَّ عِنْدَهُ أَيْ عَلَى فَوْرِ الْإِتْيَانِ. ثُمَّ تَغَذَّى مِنْ بَعْدُ أَيْ مِنْ بَعْدُ إنْ لَمْ يَتَغَذَّ عَلَى الْفَوْرِ. غَيْرَ مُتَرَاخٍ أَيْ عَنْ الْيَوْمِ فَقَدْ بَرَّ. وَإِنْ لَمْ يَتَغَذَّ فِي الْيَوْمِ أَصْلًا حَنِثَ. فَأَمَّا إذَا أَجْرَيْنَاهَا عَلَى إطْلَاقِهَا كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ فَأَنَا لَا أَدْرِي مَعْنَى قَوْلِهِ غَيْرَ مُتَرَاخٍ إذْ لَوْ قُدِّرَتْ غَيْرَ مُتَرَاخٍ عَنْ الْإِتْيَانِ لَا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِ فَلَمْ يَتَغَذَّ وَلَوْ قُدِّرَتْ غَيْرَ مُتَرَاخٍ عَنْ الْعُمُرِ لَا فَائِدَةَ فِيهِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ التَّغَذِّي مُتَرَاخِيًا عَنْ الْعُمُرِ. وَفِي بَعْضِ الْحَوَاشِي ثُمَّ تَغَذَّى مَنْ تَغَذَّى غَيْرَ مُتَرَاخٍ أَيْ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ عَنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَلَا أَعْرِفُ صِحَّتَهُ قَوْلُهُ (وَهَذِهِ اسْتِعَارَةٌ) أَيْ اسْتِعَارَةُ حَتَّى لِمَعْنَى الْعَطْفِ الْمَحْضِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مَعْنَى الْغَايَةِ فِيهِ بِوَجْهِ اسْتِعَارَةٍ لَمْ تُوجَدْ فِي كَلَامِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ رَأَيْت زَيْدًا حَتَّى عَمْرًا كَمَا يَقُولُونَ رَأَيْت زَيْدًا فَعَمْرًا أَوْ ثُمَّ عَمْرًا وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ اللُّغَةِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي لُغَتِهِمْ لَكِنَّ هَذِهِ اسْتِعَارَةٌ اقْتَرَحَهَا مُحَمَّدٌ أَيْ اسْتَخْرَجَهَا بِقَرِيحَتِهِ عَلَى طَرِيقَةِ اسْتِعَارَاتِهِمْ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ الدَّلِيلِ فَإِنْ أَئِمَّةَ اللُّغَةِ مِثْلَ أَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرَهُ كَانُوا يَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ فَكَانَ مُسْتَغْنِيًا عَنْ الدَّلِيلِ: إذَا قَالَتْ حَذَامِ فَصَدِّقُوهَا ... . فَإِنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَتْ حَذَامِ وَذَكَرَ ابْنُ السَّرَّاجِ أَنَّ الْمُبَرِّدَ سُئِلَ عَنْ مَعْنَى الْغَزَالَةِ فَقَالَ هِيَ الشَّمْسُ كَذَا قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَلَى أَنَّ فِي الِاسْتِعَارَةِ لَا يُشْتَرَطُ السَّمَاعُ بَلْ يُشْتَرَطُ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبِ الصَّالِحِ لِلِاسْتِعَارَةِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ وَقَدْ وُجِدَ لِمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ. وَهَذَا أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ اسْتِعَارَةِ حَتَّى لِلْعَطْفِ الْمَحْضِ عَلَى مِثَالِ اسْتِعَارَاتِ أَصْحَابِنَا. فِي غَيْرِ هَذَا الْبَاب أَيْ بَابِ حَتَّى مِثْلُ اسْتِعَارَتِهِمْ الْبَيْعَ لِلنِّكَاحِ وَالْعَتَاقَ لِلطَّلَاقِ وَالْحَوَالَةَ لِلْوِكَالَةِ وَنَحْوَهَا. وَإِذَا اُسْتُعِيرَ أَيْ حَتَّى لِلْعَطْفِ اُسْتُعِيرَ بِمَعْنَى الْفَاءِ أَيْ بِمَعْنَى حَرْفٍ يُوجِبُ التَّعْقِيبَ مِثْلَ الْفَاءِ أَوْ ثُمَّ دُونَ الْوَاوِ لِأَنَّ التَّعْقِيبَ أَشَدُّ مُنَاسَبَةً وَمُجَانَسَةً لِلْغَايَةِ مِنْ مُطْلَقِ الْجَمْعِ لِوُجُودِ التَّرْتِيبِ فِيهِمَا. وَالْإِمَامُ الْعَتَّابِيُّ جَعَلَهُ بِمَعْنَى الْوَاوِ فَقَالَ وَإِنْ تَعَذَّرَ الْحَمْلُ عَلَى الْجَزَاءِ يُحْمَلُ عَلَى الْعَطْفِ كَقَوْلِك جَاءَنِي الْقَوْمُ حَتَّى زَيْدٌ أَيْ وَزَيْدٌ ثُمَّ قَالَ فِي قَوْلِهِ إنْ لَمْ آتِك الْيَوْمَ حَتَّى أَتَغَذَّى عِنْدَك تَقْدِيرُهُ إنْ لَمْ آتِك الْيَوْمَ وَأَتَغَذَّى عِنْدَك وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

[باب حروف الجر]

بَابُ حُرُوفِ الْجَرِّ) أَمَّا الْبَاءُ فَلِلْإِلْصَاقِ هُوَ مَعْنَاهُ بِدَلَالَةِ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ وَلِيَكُونَ مَعْنًى تَخُصُّهُ هُوَ لَهُ حَقِيقَةٌ وَلِهَذَا صَحِبَتْ الْبَاءُ الْأَثْمَانَ فِيمَنْ قَالَ اشْتَرَيْت مِنْك هَذَا الْعَبْدَ بِكُرٍّ مِنْ حِنْطَةٍ وَوَصْفُهَا أَنَّ الْكُرَّ ثَمَنٌ يَصِحُّ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى الْكُرِّ فَقَالَ اشْتَرَيْت مِنْك كُرَّ حِنْطَةٍ وَوَصْفُهَا بِهَذَا الْعَبْدِ أَنَّهُ يَصِيرُ سَلَمًا لَا يَصِحُّ إلَّا مُؤَجَّلًا وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ لِأَنَّهُ إذَا أَضَافَ الْبَيْعَ إلَى الْعَبْدِ جَعَلَهُ أَصْلًا وَأَلْصَقَهُ بِالْكُرِّ فَصَارَ الْكُرُّ شَرْطًا يُلْصَقُ بِهِ الْأَصْلُ وَهَذَا حَدُّ الْأَثْمَانِ الَّتِي هِيَ شُرُوطٌ وَاتِّبَاعٌ وَلِذَلِكَ قُلْنَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ إنْ أَخْبَرْتنِي بِقُدُومِ فُلَانٍ فَعَبْدِي حُرٌّ أَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْحَقِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQ [بَابُ حُرُوفِ الْجَرِّ] [مَعْنَى الْبَاءُ] سُمِّيَتْ حُرُوفُ الْجَرِّ لِأَنَّهَا تَجُرُّ فِعْلًا إلَى اسْمٍ نَحْوَ مَرَرْت بِزَيْدٍ أَوْ اسْمًا إلَى اسْمٍ نَحْوَ الْمَالِ لِزَيْدٍ. وَسُمِّيَتْ حُرُوفُ الْإِضَافَةِ لِأَنَّ وَضْعَهَا عَلَى أَنْ تُفْضِيَ بِمَعَانِي الْأَفْعَالِ إلَى الْأَسْمَاءِ. الْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ هُوَ مَعْنَاهَا بِدَلَالَةِ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ وَهُوَ أَقْوَى دَلِيلِ فِي اللُّغَةِ كَالنَّصِّ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ. وَلِيَكُونَ عَطْفٌ عَلَى الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ مَعْنًى أَيْ لِلِاسْتِعْمَالِ وَلِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ لِلْبَاءِ مَعْنًى يَخْتَصُّ الْبَاءُ بِذَلِكَ الْمَعْنَى نَفْيًا لِلِاشْتِرَاكِ. هُوَ لَهُ حَقِيقَةً أَيْ يَكُونُ ذَلِكَ الْمَعْنَى لِلْبَاءِ مَعْنًى حَقِيقِيًّا. ثُمَّ الْإِلْصَاقُ يَقْتَضِي طَرَفَيْنِ مُلْصَقًا وَمُلْصَقًا بِهِ فَمَا دَخَلَ عَلَيْهِ الْبَاءُ فَهُوَ الْمُلْصَقُ بِهِ وَالطَّرَفُ الْآخَرُ هُوَ الْمُلْصَقُ فَفِي قَوْلِك كَتَبْت بِالْقَلَمِ. الْكِتَابَةُ مُلْصَقٌ وَالْقَلَمُ مُلْصَقٌ بِهِ وَمَعْنَاهُ أَلْصَقَتْ الْكِتَابَةَ بِالْقَلَمِ. وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ فِي الْإِلْصَاقِ إيصَالَ الْفِعْلِ بِالِاسْمِ دُونَ عَكْسِهِ إذْ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِك كَتَبْت بِالْقَلَمِ وَنَحَرْتُ بِالْقَدُومِ وَقَطَعْت بِالسِّكِّينِ وَضَرَبْت بِالسَّيْفِ وَنَحْوَهَا إلْصَاقُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ دُونَ الْعَكْسِ كَانَ الْمُلْصَقُ أَصْلًا وَالْمُلْصَقُ بِهِ تَبَعًا بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ لِلشَّيْءِ. وَلِهَذَا صَحِبَتْ الْبَاءُ الْأَثْمَانَ أَيْ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا لِلْإِلْصَاقِ وَأَنَّ الْإِلْصَاقَ يَقْتَضِي طَرَفَيْنِ مُلْصِقًا وَمُلْصَقًا بِهِ وَالْمُلْصِقُ هُوَ الْأَصْلُ وَالْمُلْصَق بِهِ هُوَ التَّبَعُ صَحِبَتْ الْبَاءُ الْأَثْمَانَ لِأَنَّ الثَّمَنَ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي الْبَيْعِ بَلْ هُوَ تَبَعٌ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَرَضَ الْأَصْلِيَّ فِي الْبَيْعِ الِانْتِفَاعُ بِالْمَمْلُوكِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِمَا هُوَ مَبِيعٌ لَا بِمَا هُوَ ثَمَنٌ لِأَنَّهُ فِي الْغَالِبِ مِنْ النُّقُودِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِمُنْتَفَعٍ بِهَا فِي ذَوَاتِهَا وَإِنَّمَا هِيَ وَسِيلَةٌ إلَى حُصُولِ الْمَقَاصِدِ كَالْآلَةِ لِلشَّيْءِ وَلِهَذَا يَجُوزُ الْبَيْعُ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكُ الثَّمَنَ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ. إذَا أَدْخَلَ الْبَاءَ فِي الْكُرِّ الْمَوْصُوفِ صَارَ ثَمَنًا بِدَلَالَةِ الْبَاءِ وَيَنْعَقِدُ الْبَيْعُ مُسَاوَمَةً وَوَجَبَ الْكُرُّ فِي الذِّمَّةِ حَالًا كَمَا إذَا سُمِّيَ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ لِأَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ مِمَّا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ وَيَصِحُّ التَّصَرُّفُ فِيهِمَا قَبْلَ الْقَبْضِ بِالِاسْتِبْدَالِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَثْمَانِ. وَإِنْ أَدْخَلَ الْبَاءَ فِي الْعَبْدِ الْمُشَارِ وَأَضَافَ الْعَقْدَ إلَى الْكُرِّ الْمَوْصُوفِ انْعَقَدَ سَلَمًا وَيَصِيرُ الْعَبْدُ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ بِدَلَالَةِ الْبَاءِ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ هُوَ الثَّمَنُ فِي السَّلَمِ وَيَصِيرُ الْكُرُّ مَبِيعًا لِإِضَافَةِ الْعَقْدِ إلَيْهِ فَيَعْتَبِرُ شَرَائِطَ السَّلَمِ مِنْ التَّأْجِيلِ وَقَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ وَعَدَمِ صِحَّةِ الِاسْتِبْدَالِ بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قَوْلُهُ (إنْ أَخْبَرْتنِي بِقُدُومِ فُلَانٍ) إلَى آخِرِهِ قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الْإِخْبَارُ يَقْتَضِي مَفْعُولَيْنِ أَحَدُهُمَا الَّذِي يُبَلِّغُهُ وَالثَّانِي الْكَلَامُ الَّذِي يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الْمَعْرِفَةِ فَإِذَا قَالَ إنْ أَخْبَرْتنِي بِقُدُومِ فُلَانٍ كَانَ الْقُدُومُ مَشْغُولًا بِالْخَافِضِ فَلَمْ يَصْلُحْ مَفْعُولَ الْخَبَرِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا لِأَنَّ الْمَشْغُولَ لَا يُشْغَلُ فَاحْتِيجَ إلَى مَفْعُولٍ آخَرَ هُوَ كَلَامٌ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ أَخْبَرْتنِي خَبَرًا مُلْصَقًا بِقُدُومِهِ فَبَقِيَ الْقُدُومُ وَاقِعًا عَلَى حَقِيقَتِهِ فِعْلًا وَإِلْصَاقُ الْخَبَرِ بِالْقُدُومِ لَا يُتَصَوَّرُ قَبْلَ وُجُودِهِ وَالْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ فَلِذَلِكَ اقْتَضَى وُجُودَهُ. فَأَمَّا إذَا قَالَ إنْ أَخْبَرْتنِي أَنَّ فُلَانًا قَدِمَ فَالْمُخْبَرُ بِهِ هُوَ الْقُدُومُ وَهُوَ الْمَفْعُولُ وَالْقُدُومُ بِحَقِيقَتِهِ لَا يَصْلُحُ مَفْعُولَ الْخَبَرِ فَصَارَ عِبَارَةً عَنْ التَّكَلُّمِ بِهِ فَصَارَ التَّكَلُّمُ بِهِ شَرْطًا لِلْحِنْثِ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ تَكَلَّمْت بِهَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ إنْ كُنْت تُحِبِّينِي بِقَلْبِك فَكَذَا فَقَالَتْ كَاذِبَةً أُحِبُّك حَيْثُ تَطْلُقُ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ مَعَ أَنَّ مَحَبَّتَهُ لَمْ تَلْتَصِقْ بِقَلْبِهَا لِأَنَّ اللِّسَانَ جُعِلَ خَلَفًا عَنْ الْقَلْبِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا فِي الْقَلْبِ فَلَمْ يُلْتَفَتْ

لِأَنَّ مَا صَحِبَهُ الْبَاءُ لَا يَصْلُحُ مَفْعُولَ الْخَبَرِ وَلَكِنَّ مَفْعُولَ الْخَبَرِ مَحْذُوفٌ بِدَلَالَةِ حَرْفِ الْإِلْصَاقِ كَمَا يَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ أَيْ بَدَأْت بِهِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ إنْ أَخْبَرْتنِي أَنَّ فُلَانًا قَدِمَ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْكَذِبَ أَيْضًا لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْغُولٍ بِالْبَاءِ فَصَلَحَ مَفْعُولًا وَأَنَّ مَا بَعْدَهَا مَصْدَرٌ وَمَعْنَاهُ إنْ أَخْبَرْتنِي خَبَرًا مُلْصَقًا بِقُدُومِهِ وَالْقُدُومُ اسْمٌ لِفِعْلِ وُجُودٍ بِخِلَافِ قَوْلِهِ إنْ أَخْبَرْتنِي قُدُومَهُ وَمَفْعُولُ الْخَبَرِ كَلَامٌ لَا فِعْلٌ فَصَارَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي التَّكَلُّمَ بِقُدُومِهِ وَذَلِكَ دَلِيلُ الْوُجُودِ لَا مُوجِبَ لَهُ لَا مَحَالَةَ وَلِهَذَا قَالُوا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ أَنْتِ طَالِقٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَبِإِرَادَتِهِ أَنَّهُ بِمَعْنَى الشَّرْطِ لِأَنَّ الْإِلْصَاقَ يُؤَدِّي مَعْنَى الشَّرْطِ وَيُفْضِي إلَيْهِ وَكَذَلِكَ أَخَوَاتُهَا عَلَى مَا قَالَ فِي الزِّيَادَاتِ ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَيْهِ فَأَمَّا الْقُدُومُ فَأَمْرٌ مَحْسُوسٌ فَاعْتُبِرَ الْإِلْصَاقُ بِهِ. وَهَذَا أَيْضًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ إنْ أَعْلَمْتنِي أَنَّ فُلَانًا قَدِمَ فَعَبْدِي حُرٌّ فَأَعْلَمُهُ حَيْثُ لَمْ يَحْنَثْ إلَّا أَنْ يَكُونَ حَقًّا كَمَا لَوْ قَالَ إنْ أَعْلَمْتنِي بِقُدُومِهِ لِأَنَّ الْإِعْلَامَ مَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَالْبَاطِلُ لَا يُسَمَّى عِلْمًا وَإِنَّمَا الْعِلْمُ اسْمٌ لِلْحَقِّ فَلَمْ يَكُنْ الْإِخْبَارُ بِالْبَاطِلِ إعْلَامًا. فَإِنْ قِيلَ الْإِخْبَارُ الْإِعْلَامُ وَالْخَبَرُ الْعِلْمُ قَالَ تَعَالَى إخْبَارًا {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف: 68] . أَيْ عِلْمًا أَلَا تَرَى أَنَّ الْخَبِيرَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى كَالْعَلِيمِ بَلْ أَبْلَغَ مِنْهُ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلْعَلِيمِ بِالْأَسْرَارِ الْخَفِيَّةِ وَلِهَذَا سُمِّيَ الْأَكَّارُ خَبِيرًا لِعِلْمِهِ بِخَبَايَا الْأَرْضِ وَمِنْهُ سُمِّيَ الِامْتِحَانُ اخْتِبَارًا فَكَانَ الْإِخْبَارُ وَالْإِعْلَامُ سَوَاءً فَيَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ عَلَى الْحَقِّ فِي الصُّورَتَيْنِ كَمَا فِي الْإِعْلَامِ. قُلْنَا الْحَقِيقَةُ مَا ذُكِرَتْ لَكِنَّ الْخَبَرَ قَدْ اُسْتُعْمِلَ فِي الْعُرْفِ لِمَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الْمَعْرِفَةِ فَصَارَ يَنْطَلِقُ عَلَى الْحَقِّ وَالْكَذِبِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ هَذَا خَبَرٌ بَاطِلٌ وَزُورٌ وَكَذِبٌ وَلَا يُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْعِلْمِ فَلِهَذَا افْتَرَقَا قَوْلُهُ (لِأَنَّ مَا صَحِبَهُ الْبَاءُ لَا يَصْلُحُ مَفْعُولَ الْخَبَرِ) أَيْ الْإِخْبَارِ لِكَوْنِهِ مَعْمُولَ الْبَاءِ فَلَا يَصْلُحُ مَعْمُولًا لِشَيْءٍ آخَرَ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ قَدْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَعْمُولًا لِعَامِلٍ آخَرَ فِي الظَّاهِرِ وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَعْمُولًا لِشَيْءٍ آخَرَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَالْمَحَلِّ فَيَكُونُ مَجْرُورًا بِالْبَاءِ وَمَنْصُوبَ الْمَحَلِّ بِالْفِعْلِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي قَوْلِهِ أَخْبَرَنِي بِهَذَا الْخَبَرِ زَيْدٌ كَانَ الطَّرَفُ وَهُوَ الْجَارُ وَالْمَجْرُورُ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ مِنْ غَيْرِ إضْمَارٍ بِشَيْءٍ آخَرَ إذْ لَا يَسْتَقِيمُ فِيهِ أَخْبَرَنِي خَبَرًا مُلْصَقًا بِهَذَا الْخَبَرِ زَيْدٌ فَكَذَا هَذَا. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ حَقِيقَةً وَقَدْ يَجِيءُ لِلتَّعَدِّيَةِ بِمَعْنَى الْهَمْزَةِ كَقَوْلِك ذَهَبَ بِهِ وَخَرَجَ بِهِ أَيْ أَذْهَبَهُ وَأَخْرَجَهُ وَالْإِخْبَارُ مِمَّا يَتَعَدَّى إلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِنَفْسِهِ وَبِالْبَاءِ فَفِيمَا أَمْكَنَ جَعْلُهُ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ لِتَبْقَى الْبَاءُ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ جُعِلَ مُتَعَدِّيًا بِالْبَاءِ فَمَسْأَلَةُ الْكِتَابِ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَمَا ذَكَرْت مِنْ الْقَبِيلِ الثَّانِي فَلِذَلِكَ افْتَرَقَا. وَأَنَّ مَعَ مَا بَعْدَهَا مَصْدَرٌ أَيْ فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ كَمَا فِي قَوْلُك أَعْجَبَنِي أَنَّ زَيْدًا قَامَ أَوْ قَائِمٌ وَبَلَغَنِي أَنَّ عَمْرًا مُنْطَلِقٌ مَعْنَاهُ أَعْجَبَنِي قِيَامُ زَيْدٍ وَبَلَغَنِي انْطِلَاقُ عَمْرٍو وَإِذَا كَانَ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ صَارَ فِي تَأْوِيلِ الْمُفْرَدِ فَصَلَحَ مَفْعُولًا وَمَفْعُولُ الْخَبَرِ أَيْ الْإِخْبَارِ كَلَامٌ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَدِمَ فُلَانٌ لَا حَقِيقَةُ فِعْلِ الْقُدُومِ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ قَوْلٌ وَالْقُدُومُ فِعْلٌ وَالْفِعْلُ لَا يَصْلُحُ مَفْعُولَ الْقَوْلِ. يُوضِحُهُ أَنَّ فِي قَوْلِك ضَرَبْت زَيْدًا لَا يَكُونُ مُسَمَّى زَيْدٍ مَفْعُولًا لِضَرَبْتُ لِأَنَّ الشَّخْصَ لَا يَتَأَثَّرُ بِالْقَوْلِ حَقِيقَةً بَلْ مَفْعُولُهُ لَفْظُ زَيْدٍ فَكَذَلِكَ حَقِيقَةُ الْقُدُومِ لَا تَصْلُحُ مَفْعُولَ أَخْبَرْتنِي لِأَنَّهُ قَوْلٌ وَالْقُدُومُ فِعْلٌ إلَّا أَنَّ مُسَمَّى زَيْدٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُتَأَثِّرًا بِمَدْلُولِ ضَرَبْت وَهُوَ حَقِيقَةُ الضَّرْبِ وَفِعْلُ الْقُدُومِ هَاهُنَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُتَأَثِّرًا بِمَدْلُولِ أَخْبَرْتنِي وَهُوَ حَقِيقَةُ الْإِخْبَارِ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ التَّكَلُّمُ بِالْخَبَرِ وَذَلِكَ لَا يَعْدُو إلَى الْقُدُومِ بِوَجْهٍ فَلِذَلِكَ لَا يَصْلُحُ مَفْعُولًا لَهُ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ إنْ أَخْبَرْتنِي أَنَّ فُلَانًا قَدِمَ إنْ تَكَلَّمْت بِخَبَرِ قُدُومِ فُلَانٍ وَالْخَبَرُ مَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى وُجُودِ الْمُخْبَرِ بِهِ لَا مَا يُوجِبُ وُجُودَهُ لَا مَحَالَةَ فَصَارَ شَرْطُ الْحِنْثِ كَلَامًا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الْقُدُومِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي الْإِخْبَارِ كَاذِبًا فَيَحْنَثُ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ. قَالُوا يَعْنِي أَصْحَابُنَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ أَنْتِ طَالِقٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَبِإِرَادَتِهِ أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ أَصْلًا لِأَنَّ الْإِلْصَاقَ يُؤَدِّي مَعْنَى الشَّرْطِ أَيْ يُفْضِي إلَيْهِ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْبَاءُ لِلتَّبْعِيضِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] حَتَّى أَوْجَبَ مَسْحَ بَعْضِ الرَّأْسِ وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْبَاءُ صِلَةٌ لِأَنَّ الْمَسْحَ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ فَيُؤَكَّدُ بِالْبَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20] فَيَصِيرُ تَقْدِيرُهُ وَامْسَحُوا رُءُوسَكُمْ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَمَّا جَعَلَ الطَّلَاقَ مُلْصَقًا بِالْمَشِيئَةِ لَا يَقَعُ قَبْلَ الْمَشِيئَةِ إذْ لَا يَتَحَقَّقُ الْإِلْصَاقُ بِدُونِ الْمُلْصَقِ بِهِ وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الشَّرْطِ إذْ لَا وُجُودَ لِلْمَشْرُوطِ بِدُونِ الشَّرْطِ غَيْرَ أَنَّ التَّعْلِيقَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ إبْطَالٌ لِلْإِيجَابِ لِمَا عُرِفَ فَلِهَذَا لَا يَقَعُ شَيْءٌ كَمَا لَوْ قَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَلَوْ أَضَافَ الْمَشِيئَةَ إلَى الْعَبْدِ بِأَنْ قَالَ بِمَشِيئَةِ فُلَانٍ كَانَ تَعْلِيقًا وَتَمْلِيكًا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إنْ شَاءَ فُلَانٌ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَجْلِسِ الْعِلْمِ. وَكَذَلِكَ أَخَوَاتُهَا أَيْ أَمْثَالُ الْمَشِيئَةِ كَالرِّضَا وَالْمَحَبَّةِ. عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ. . . الْمَذْكُورُ فِيهَا عَشْرَةُ أَلْفَاظٍ الْمَشِيئَةُ وَالْإِرَادَةُ وَالرِّضَاءُ وَالْمَحَبَّةُ وَالْأَمْرُ وَالْحُكْمُ وَالْإِذْنُ وَالْقَضَاءُ وَالْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ وَأَنَّهَا قَدْ تُضَافُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتُضَافُ إلَى الْعَبْدِ أَيْضًا فَفِي الْأَرْبَعَةِ الْأُوَلِ إنْ أُضِيفَتْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَإِنْ أُضِيفَتْ إلَى الْعَبْدِ كَانَ تَمْلِيكًا فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَجْلِسِ الْعِلْمِ وَفِي السِّتَّةِ الْبَاقِيَةِ يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ سَوَاءٌ أُضِيفَتْ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ إلَى الْعَبْدِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ بِأَمْرِ فُلَانٍ أَوْ بِحُكْمِهِ أَوْ بِإِذْنِهِ أَوْ بِعِلْمِهِ بِأَمْرِ فُلَانٍ إيَّايَ أَوْ بِحُكْمِ فُلَانٍ عَلَيَّ بِذَلِكَ أَوْ يَأْذَنُ فُلَانٌ لِي بِذَلِكَ أَوْ يَعْلَمُ فُلَانٌ مِنِّي ذَلِكَ فَيَكُونُ هَذَا كُلُّهُ تَحْقِيقًا لِلْإِيقَاعِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ بِمَعْنَى الشَّرْطِ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ اُحْكُمْ وَأْمُرْ وَاعْلَمْ وَأْذَنْ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهُ تَخْيِيرًا بَلْ يَكُونُ قَوْلُهُ اُحْكُمْ إلْزَامًا لَهُ ذَلِكَ وَفِيمَا تَقَدَّمَ لَوْ قَالَ شَاءَ كَانَ تَخْيِيرًا فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ بِمَشِيئَةِ فُلَانٍ يَكُونُ تَخْيِيرًا مِنْهُ لِفُلَانٍ كَذَا فِي زِيَادَاتِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ. فَإِنْ قِيلَ هَلَّا حُمِلَتْ الْبَاءُ فِي مَسْأَلَةِ الْمَشِيئَةِ وَأَخَوَاتِهَا عَلَى السَّبَبِيَّةِ لِأَنَّهَا قَدْ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى السَّبَبِ قَالَ تَعَالَى {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا - ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا - جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام: 38 - 146] . وَإِذَا حُمِلَتْ عَلَى السَّبَبِ تَطْلُقُ فِي الْحَالِ كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ أَوْ لِمَشِيئَةِ فُلَانٍ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ يَدُلُّ عَلَى تَحْقِيقِ الْإِيقَاعِ لَا عَلَى انْتِفَائِهِ. قُلْنَا الْحَمْلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الشَّرْطِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْإِلْصَاقِ لِأَنَّ فِي الْإِلْصَاقِ مَعْنَى التَّرَتُّبِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي مُلْصَقًا بِهِ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمُلْصَقِ زَمَانًا لِيُمْكِنَ الْإِلْصَاقُ بِهِ وَالتَّرَتُّبُ الزَّمَانِيُّ فِي الشَّرْطِ وَالْمَشْرُوطِ مَوْجُودٌ بِخِلَافِ الْعِلَّةِ مَعَ الْمَعْلُولِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ مُقَارِنٌ لِلْمَعْلُولِ زَمَانًا قَوْلُهُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ) إلَى آخِرِهِ. ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] لِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّ الْبَاءَ إذَا دَخَلَتْ فِي الْمَحَلِّ أَفَادَتْ. التَّبْعِيضَ لُغَةً يُقَالُ مَسَحْت الرَّأْسَ إذَا اسْتَوْعَبْته وَمَسَحَ بِالرَّأْسِ أَيْ بِبَعْضِهِ هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ. وَلِأَنَّ الِاسْتِيعَابَ لَيْسَ بِشَرْطٍ بِاتِّفَاقٍ بَيْننَا وَبَيْنَكُمْ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُ الرَّأْسِ وَإِذَا ثَبَتَ الْبَعْضُ مُرَادًا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِأَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ كَمَا لَوْ قَالَ امْسَحُوا بَعْضَ رُءُوسِكُمْ فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْوَاجِبِ بِثَلَاثَةِ أَصَابِعَ أَوْ بِرُبُعِ الرَّأْسِ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ بِالرَّأْيِ أَوْ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَيَكُونُ مَرْدُودًا. وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ مُطْلَقُ مَسْحِ الْبَعْضِ لَيْسَ بِمُرَادٍ لِأَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِغَسْلِ الْوَجْهِ وَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْفَرْضُ بِالِاتِّفَاقِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بَعْضٌ مُقَدَّرٌ وَذَلِكَ مُجْمَلٌ لِعَدَمِ أَوْلَوِيَّةِ بَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ فَكَانَ فِعْلُ النَّبِيِّ وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ بَيَانًا لَهُ. لِأَنَّهُ يَقُولُ عَدَمُ الْجَوَازِ لِفَوَاتِ التَّرْتِيبِ الْوَاجِبِ عِنْدِي إلَّا لِعَدَمِ حُصُولِ مَسْحِ الْبَعْضِ فَإِنَّهُ لَوْ اسْتَوْعَبَ رَأْسَهُ بِالْمَسْحِ بَعْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ قَبْلَ غَسْلِ الْيَدَيْنِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ عِنْدِي لِفَوَاتِ التَّرْتِيبِ فَكَذَا هَاهُنَا. وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْبَاءُ صِلَةٌ أَيْ مَزِيدَةٌ زِيدَتْ لِلتَّأْكِيدِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20] . وَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] . أَيْ لَا تُلْقُوا أَيْدِيَكُمْ كَذَا قَالَهُ عَبْدُ الْقَاهِرِ وَإِذَا كَانَتْ مَزِيدَةً وَجَبَ مَسْحُ الْكُلِّ كَمَا لَوْ قِيلَ وَامْسَحُوا رُءُوسَكُمْ. قَالَ وَمَا قُلْنَاهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ عَمَلٌ بِالْمَجَازِ لَكِنَّهُ أَحْوَطُ لِأَنَّ فِيهِ الْخُرُوجَ عَنْ

وَقُلْنَا أَمَّا الْقَوْلُ بِالتَّبْعِيضِ فَلَا أَصْلَ لَهُ فِي اللُّغَةِ وَالْمَوْضُوعُ لِلتَّبْعِيضِ كَلِمَةُ (مِنْ) وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّكْرَارَ وَالِاشْتِرَاكَ لَا يَثْبُتُ فِي الْكَلَامِ أَصْلًا وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الْعَوَارِضِ فَلَا يُصَارُ إلَى إلْغَاءِ الْحَقِيقَةِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى التَّوْكِيدِ إلَّا بِضَرُورَةٍ بَلْ هَذِهِ الْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ الْبَاءَ إذَا دَخَلَتْ فِي آلَةِ الْمَسْحِ كَانَ الْفِعْلُ مُتَعَدِّيًا إلَى مَحَلِّهِ كَمَا تَقُولُ مَسَحْت الْحَائِطَ بِيَدِي فَيَتَنَاوَلُ كُلَّهُ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إلَى جُمْلَتِهِ وَمَسَحْت رَأْسَ الْيَتِيمِ بِيَدِي وَإِذَا دَخَلَ حَرْفُ الْإِلْصَاقِ فِي مَحَلِّ الْمَسْحِ بَقِيَ الْفِعْلُ مُتَعَدِّيًا إلَى الْآلَةِ وَتَقْدِيرُهُ وَامْسَحُوا أَيْدِيَكُمْ بِرُءُوسِكُمْ أَيْ أَلْصِقُوهَا بِرُءُوسِكُمْ فَلَا تَقْتَضِي اسْتِيعَابَ الرَّأْسِ وَهُوَ غَيْرُ مُضَافٍ إلَيْهِ لَكِنَّهُ يَقْتَضِي وَضْعَ آلَةِ الْمَسْحِ وَذَلِكَ لَا يَسْتَوْعِبُهُ فِي الْعَادَاتِ فَيَصِيرُ الْمُرَادُ بِهِ أَكْثَرَ الْيَدِ فَصَارَ التَّبْعِيضُ مُرَادًا بِهَذَا الشَّرْطِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى عَلَى أَنَّا إنْ عَمِلْنَا بِحَقِيقَتِهَا فَذَلِكَ يُوجِبُ الِاسْتِيعَابَ أَيْضًا لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ حَقِيقَةً وَقَدْ أَلْصَقَ الْمَسْحَ بِالرَّأْسِ وَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّهِ لَا لِبَعْضِهِ فَيَقْتَضِي مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ قَوْلُهُ (وَقُلْنَا نَحْنُ أَمَّا الْقَوْلُ بِالتَّبْعِيضِ فَلَا أَصْلَ لَهُ) أَيْ الْقَوْلُ بِالتَّبْعِيضِ كَلَامٌ عَنْ تَشَهٍّ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ إذْ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ نَقَلَةِ اللُّغَةِ أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ إنَّمَا الْمَوْضُوعُ لِلتَّبْعِيضِ كَلِمَةُ مِنْ فَلَوْ أَفَادَتْ الْبَاءُ التَّبْعِيضَ لَوَجَبَ التَّكْرَارُ أَيْ التَّرَادُفُ لِدَلَالَةِ اللَّفْظَيْنِ عَلَى مَعْنَى وَاحِدٍ. وَالِاشْتِرَاكُ أَيْضًا لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ بِالِاتِّفَاقِ فَلَوْ أَفَادَتْ التَّبْعِيضَ لَكَانَ لَفْظٌ وَاحِدٌ دَالًّا عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا خِلَافُ الْأَصْلِ لِمَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ. هَذَا رَدُّ لِكَلَامِ الْقَائِلِينَ بِالتَّبْعِيضِ وَقَوْلُهُ وَلَا يُصَارُ إلَى إلْغَاءِ الْحَقِيقَةِ رَدٌّ لِقَوْلِ مَالِكٍ أَيْ إذَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ لَا يُصَارُ إلَى إلْغَائِهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا ضَرُورَةَ هَاهُنَا فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ وَبِأَنْ جَازَ تَرْكُ الْحَقِيقَةِ فِي مَوْضِعٍ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَرْكُهُ فِي مَوْضِعٍ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَكَانَتْ الْبَاءُ عَلَى حَقِيقَتِهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَمَا هُوَ أَصْلُهَا. وَبَيَانُ هَذَا أَيْ بَيَانُ أَنَّهَا لِلْإِلْصَاقِ فِي الْآيَةِ وَأَنَّ التَّبْعِيضَ ثَبَتَ بِطَرِيقٍ آخَرَ لَا بِالْبَاءِ أَنَّ الْمَسْحَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ آلَةٍ وَمَحَلٍّ فَإِذَا دَخَلَتْ الْبَاءُ فِي الْآلَةِ كَانَ الْفِعْلُ مُتَعَدِّيًا إلَى الْمَحَلِّ وَيَصِيرُ الْمَحَلُّ مَفْعُولَ فِعْلِهِ فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمَحَلِّ كَقَوْلِك مَسَحْت الْحَائِطَ بِيَدِي أَوْ مَسَحْت بِيَدِي الْحَائِطَ وَإِذَا دَخَلَتْ فِي الْمَحَلِّ كَانَ الْفِعْلُ مُتَعَدِّيًا إلَى الْآلَةِ وَلِهَذَا ظَهَرَ عَمَلُهُ فِيهَا حَتَّى انْتَصَبَتْ بِذَلِكَ الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِيَّةِ فَهَذَا لَا يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ وَإِنَّمَا يَقْتَضِي إلْصَاقَ الْفِعْلِ بِالْمَحَلِّ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ لَكِنْ بِهَذِهِ الْآلَةِ. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا صَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ وَامْسَحُوا أَيْدِيَكُمْ بِرُءُوسِكُمْ فَلَا يَقْتَضِي هَذَا الْكَلَامُ اسْتِيعَابَ الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ كَمَا ظَنَّهُ مَالِكٌ. لِأَنَّهُ أَيْ الْمَسْحَ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى الرَّأْسِ بَلْ أُضِيفَ إلَى الْيَدِ. وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَهُوَ غَيْرُ مُضَافٍ لِلْحَالِ وَالْجُمْلَةُ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ. لَكِنَّهُ أَيْ لَكِنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَقْتَضِي وَضْعَ آلَةِ الْمَسْحِ عَلَى الرَّأْسِ وَإِلْصَاقَهَا بِهِ. وَذَلِكَ أَيْ وَضْعُ الْآلَةِ لَا يَسْتَوْعِبُ الرَّأْسَ فِي الْعَادَاتِ أَيْضًا لِأَنَّ الْيَدَ لَا تَسْتَوْعِبُ الرَّأْسَ عَادَةً. إلَّا أَنَّ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ لَا يَصْلُحُ قَوْلُهُ (فَصَارَ الْمُرَادُ بِهِ أَكْثَرَ الْيَدِ) نَتِيجَةٌ لَهُ فَيُجْعَلُ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي لَا يَسْتَوْعِبُهُ عَائِدًا إلَى الْآلَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ أَيْ الْوَضْعُ لَا يَسْتَوْعِبُ الْآلَةَ فِي الْعَادَاتِ يَعْنِي هَذَا التَّقْدِيرَ وَإِنْ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْمَسْحُ مُتَنَاوِلًا لِكُلِّ الْآلَةِ لَكِنْ فِي الْعَادَةِ لَا تُوضَعُ الْآلَةُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا عَلَى الرَّأْسِ فَإِنَّ مَا بَيْنَ الْأَصَابِعِ وَظَهْرِ الْكَفِّ لَا يُسْتَعْمَلَانِ فِي الْمَسْحِ عَادَةً فَيُكْتَفَى فِيهِ بِالْأَكْثَرِ الَّذِي يُحْكَى حِكَايَةَ الْكُلِّ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَصَابِعَ. فَصَارَ التَّبْعِيضُ مُرَادًا بِهَذَا الشَّرْطِ أَيْ صَارَ التَّبْعِيضُ مُرَادًا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْبَعْضُ مُقَدَّرًا بِآلَةِ الْمَسْحِ أَوْ بِأَكْثَرِهَا لَا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقُ التَّبْعِيضِ مُرَادًا عَمَلًا بِالْبَاءِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَعِبَارَةُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ أَوْضَحُ فَإِنَّهُ قَالَ وَإِذَا قُرِنَتْ الْبَاءُ بِمَحَلِّ الْمَسْحِ يَتَعَدَّى الْفِعْلُ إلَى الْآلَةِ فَلَا يَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ وَإِنَّمَا يَقْتَضِي إلْصَاقَ الْآلَةِ بِالْمَحَلِّ وَذَلِكَ لَا يَسْتَوْعِبُ الْكُلَّ عَادَةً ثُمَّ أَكْثَرُ الْآلَةِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْكُلِّ فَيَتَأَدَّى الْمَسْحُ بِإِلْصَاقِ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ بِمَحَلِّ الْمَسْحِ وَمَعْنَى التَّبْعِيضِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِهَذَا الطَّرِيقِ لَا بِحَرْفِ الْبَاءِ. وَذَكَرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ لِمَشَايِخِنَا بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ قَوْله تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] . أُدْخِلَ حَرْفُ الْبَاءِ فِي الْمَحَلِّ فَيَتَعَدَّى الْفِعْلُ إلَى الْآلَةِ وَهِيَ الْيَدُ كَأَنَّهُ قِيلَ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ أَيْدِيَكُمْ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْجَمْعَ مَتَى قُوبِلَ بِالْجَمْعِ يَنْقَسِمُ آحَادُ هَذَا عَلَى آحَادِ ذَلِكَ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ وَلْيَمْسَحْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ بِرَأْسِهِ يَدَهُ

فَأَمَّا الِاسْتِيعَابُ فِي التَّيَمُّمِ مَعَ قَوْلِهِ {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43] فَثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ فِيهِ ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلذِّرَاعَيْنِ فَجُعِلَتْ الْبَاءُ صِلَةً وَبِدَلَالَةِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ شُرِعَ خَلَفًا عَنْ الْأَصْلِ وَكُلُّ تَنْصِيفٍ يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الْبَاقِي عَلَى مَا كَانَ وَعَلَى هَذَا قَوْلِ الرَّجُلِ إنْ خَرَجْت مِنْ الدَّارِ إلَّا بِإِذْنِي أَنَّهُ يَشْتَرِطُ تَكْرَارَ الْإِذْنِ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَإِذَا وَضَعَ الْيَدَ عَلَى الرَّأْسِ جَازَ لِأَنَّهُ وُجِدَ الْمَسْحُ. وَلَوْ مَسَحَ بِثَلَاثَةِ أَصَابِعَ جَازَ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ الْآلَةِ فَيَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فَيَجُوزُ التَّبْعِيضُ بِإِقَامَةِ الْأَكْثَرِ لَا بِحَرْفِ الْبَاءِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ هَاهُنَا كَمَا فِي قَوْلِهِ كَتَبْت بِالْقَلَمِ إلَّا أَنَّ كَلِمَةَ الْبَاءِ مَتَى دَخَلَتْ مَحَلَّ الْفِعْلِ كَانَ الْمُرَادُ إلْصَاقَ الْفِعْلِ بِالْمَحَلِّ لَا إلْصَاقَ الْمَحَلِّ بِالْفِعْلِ لِأَنَّ الْفِعْلَ مَعْدُومٌ لَا يُتَصَوَّرُ إلْصَاقُ الْمَحَلِّ بِهِ قَبْلَ الْوُجُودِ وَبَعْدَ الْوُجُودِ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِلْصَاقُ بِهِ لِأَنَّهُ يَنْعَدِمُ كَمَا وُجِدَ وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ إلْصَاقُهُ بِالْمَحَلِّ فَكَانَ الْمَقْصُودُ إلْصَاقَ الْفِعْلِ بِالْمَحَلِّ فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ إثْبَاتَ وَصْفٍ فِي الْفِعْلِ هُوَ الْإِلْصَاقُ فَيَصِيرُ الْفِعْلُ هُوَ الْمَقْصُودُ لِإِثْبَاتِ صِفَةِ الْإِلْصَاقِ فِيهِ وَالْمَحَلُّ إنَّمَا يُرَاعَى لِتَصَوُّرِ هَذَا الْمَقْصُودِ لَا أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ وَمَا يُرَاعَى لِتَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ إنَّمَا يُرَاعَى بِقَدْرِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ وَهُوَ إلْصَاقُ الْفِعْلِ بِالرَّأْسِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِبَعْضِ الرَّأْسِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ الْبَعْضَ بِهَذَا الطَّرِيقِ لَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْبَعْضَ لُغَةً. وَاعْلَمْ أَنَّ لِمَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي تَقْدِيرِ فَرْضِ الْمَسْحِ طَرِيقِينَ. أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ وَالثَّانِي أَنْ مُطْلَقَ الْبَعْضِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُرَادًا لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ فِي عَامَّةِ الْأَعْضَاءِ بَعْضٌ مُقَدَّرٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ هَاهُنَا وَلِهَذَا لَوْ زَادَ عَلَى الْمِقْدَارِ الَّذِي قُدِّرَ بِهِ لَا يَكُونُ الزَّائِدُ فَرْضًا بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ كَانَ الدَّاخِلُ تَحْتَ الْأَمْرِ بَعْضًا مُطْلَقًا لَوَقَعَ الزَّائِدُ فَرْضًا كَالزَّائِدِ عَلَى الْآيَاتِ الثَّلَاثِ فِي فَرْضِ الْقِرَاءَةِ صَارَ الْبَعْضُ مُجْمَلًا فَيَتَعَرَّفُ بِالسُّنَّةِ وَهِيَ تُوجِبُ أَنْ يُقَدَّرَ بِالرُّبُعِ عَلَى مَا عُرِفَ إلَّا أَنَّ فِي إثْبَاتِ الْإِجْمَالِ بِهَذَا الطَّرِيقِ نَوْعَ ضَعْفٍ فَإِنَّ الْخُصُومَ لَمْ يُسَلِّمُوا الْإِجْمَالَ فِي الْآيَةِ وَقَالُوا بَلْ مُطْلَقُ الْمَسْحِ هُوَ الثَّابِتُ بِالنَّصِّ وَهُوَ مَعْلُومٌ فَلِذَلِكَ اخْتَارَ الشَّيْخُ هَاهُنَا الطَّرِيقَ الَّذِي بَيَّنَّا لِأَنَّهُ أَسْلَمُ قَوْلُهُ (وَأَمَّا الِاسْتِيعَابُ) إلَى آخِرِهِ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ قَدْ دَخَلَتْ الْبَاءُ فِي قَوْله تَعَالَى {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43] . فِي الْمَحَلِّ وَقَدْ شُرِطَ فِيهِ الِاسْتِيعَابَ كَمَا فِي الْوُضُوءِ فَقَالَ لَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِيعَابُ بِدُخُولِ الْبَاءِ فِي الْمَحَلِّ وَلَكِنَّهُ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ وَهِيَ «قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِعَمَّارٍ. يَكْفِيك ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلذِّرَاعَيْنِ» . وَبِمِثْلِهَا يُزَادُ عَلَى الْكِتَابِ فَجُعِلَتْ الْبَاءُ صِلَةً أَيْ زَائِدَةً بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ مِثْلُهَا فِي قَوْله تَعَالَى {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20] فَصَارَ كَأَنَّهُ قِيلَ فَامْسَحُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ فَيَجِبُ الِاسْتِيعَابُ. وَبِدَلَالَةِ الْكِتَابِ أَيْ الْكِتَابُ دَلَّ عَلَى اشْتِرَاطِ الِاسْتِيعَابِ أَيْضًا لِأَنَّ التَّيَمُّمَ شُرِعَ خَلَفًا عَنْ الْأَصْلِ الْوُضُوءِ بِأَنْ أُقِيمَ الْمَسْحُ بِالصَّعِيدِ فِي الْعُضْوَيْنِ مَقَامَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ بِالْمَاءِ فِي الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ فَنُصِّفَ الْحَلِفُ تَخْفِيفًا وَكُلُّ تَنْصِيفٍ يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الْبَاقِي عَلَى مَا كَانَ كَصَلَاةِ الْمُسَافِرِ وَعِدَّةِ الْإِمَاءِ وَحُدُودِ الْعَبِيدِ وَكَمَنْ لَهُ عَلَى آخِرَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسَةٍ أَوْ أَبْرَأهُ عَنْ خَمْسَةٍ يَجِبُ الْبَاقِي بِصِفَةِ الْأَصْلِ فِي الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ ثُمَّ الِاسْتِيعَابُ فِي غَسْلٍ فِي هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ وَاجِبٌ بِالنَّصِّ فَكَذَا فِيمَا قَامَ مَقَامَهُمَا عَلَى أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُشْتَرَطُ الِاسْتِيعَابُ بَلْ الْأَكْثَرُ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ لِأَنَّ فِي الْمَمْسُوحَاتِ الِاسْتِيعَابَ لَيْسَ بِشَرْطٍ كَمَا فِي مَسْحِ الْخُفِّ وَالرَّأْسِ قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا) أَيْ يُبْتَنَى عَلَى أَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ. قَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ إنْ خَرَجْت مِنْ هَذِهِ الدَّارِ إلَّا بِإِذْنِي فَكَذَا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ تَكْرَارُ الْإِذْنِ حَتَّى لَوْ خَرَجَتْ بِإِذْنِهِ ثُمَّ خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ حَنِثَ لِأَنَّ قَوْلَهُ إنْ خَرَجْت يَتَنَاوَلُ الْمَصْدَرَ لُغَةً وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَا تَخْرُجِي خُرُوجًا

فَاقْتَضَى مُلْصَقًا بِهِ لُغَةً وَهُوَ الْخُرُوجُ فَصَارَ الْخُرُوجُ الْمُصْلَقُ بِالْإِذْنِ الْمَوْصُوفِ بِهِ مُسْتَثْنًى فَصَارَ عَامًّا فَأَمَّا قَوْلُهُ إلَّا أَنْ آذَنَ لَك فَإِنَّهُ جُعِلَ مُسْتَثْنَى بِنَفْسِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّهُ خِلَافُ جِنْسِهِ فَجُعِلَ مَجَازًا عَنْ الْغَايَةِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُنَاسِبُ الْغَايَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــQفَصَارَ عَامًّا وَاسْتَثْنَى مِنْهُ خُرُوجًا مَوْصُوفًا بِصِفَةِ الْإِذْنِ فَبَقِيَ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْخُرُوجِ دَاخِلًا فِي الْحَظْرِ فَإِذَا فَعَلَتْ وَجَبَ الْجَزَاءُ كَمَا لَوْ قَالَ إنْ خَرَجْت إلَّا بِقِنَاعٍ أَوْ بِمُلَاءَةٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَمَتَى خَرَجَتْ بِقِنَاعٍ أَوْ بِمُلَاءَةٍ لَمْ تَطْلُقْ وَلَمْ يَسْقُطْ الْخَطَرُ حَتَّى لَوْ خَرَجَتْ بِغَيْرِ قِنَاعٍ أَوْ مُلَاءَةٍ طَلُقَتْ فَكَذَا هَذَا قَوْلُهُ (فَاقْتَضَى مُلْصَقًا بِهِ) أَيْ شَيْئًا يَلْتَصِقُ بِالْإِذْنِ إذْ لَا بُدَّ لِلْجَارِ وَالْمَجْرُورِ مِنْ مُتَعَلِّقٍ. وَهُوَ أَيْ الشَّيْءُ الْمُلْصِقُ بِالْإِذْنِ هُوَ الْخُرُوجُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. فَصَارَ عَامًا أَيْ صَارَ الْخُرُوجُ الْمَوْصُوفُ الْمُسْتَثْنَى عَامًّا حَتَّى تَنَاوَلَ كُلَّ خَرْجَةٍ وُصِفَتْ بِالْإِذْنِ وَإِنْ كَانَ الْخُرُوجُ الْمُسْتَثْنَى نَكِرَةً فِي الْإِثْبَاتِ لِعُمُومِ صِفَتِهِ كَمَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ فِي قَوْلِهِ لَا أَتَزَوَّجُ إلَّا امْرَأَةً كُوفِيَّةً. وَذَلِكَ أَيْ جَعْلُهُ مُسْتَثْنًى بِنَفْسِهِ غَيْرَ مُسْتَقِيمٍ. لِأَنَّهُ أَيْ الْمُسْتَثْنَى وَهُوَ الْإِذْنُ خِلَافُ جِنْسِهِ أَيْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَهُوَ الْخُرُوجُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ إظْهَارُ الْخُرُوجِ هَاهُنَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ إلَّا بِإِذْنِي فَإِنَّهُ يَسْتَقِيمُ أَنْ يَقُولَ إلَّا خُرُوجًا بِإِذْنِي وَلَوْ قَالَ إلَّا خُرُوجًا أَنْ آذَنَ لَك كَانَ كَلَامًا مُخْتَلًّا. قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ الْجَامِعِ وَلَوْ قَالَ إلَّا أَنْ آذَنَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ حَتَّى عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ أَذِنَ فِي الْخُرُوجِ ثُمَّ نَهَى عَنْهُ ثُمَّ خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ يَحْنَثْ وَقَالَ الْفَرَّاءُ بَلْ يَحْنَثُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إلَّا بِإِذْنِي. وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب: 53] . وَقَدْ كَانَ تَكْرَارُ الْإِذْنِ شَرْطًا. وَلِأَنَّ كَلِمَةَ أَنْ مَعَ الْفِعْلِ مَصْدَرٌ وَلَا اتِّصَالَ لَهُ بِمَا تَقَدَّمَ إلَّا بِصِلَةٍ فَوَجَبَ تَقْدِيرُ الصِّلَةِ فِيهِ وَهِيَ الْبَاءُ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إلَّا بِإِذْنِي. قَالَ وَفِيمَا قُلْنَا تَحْقِيقُ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْعَمَلُ بِهِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ وَالْغَايَةُ مَجَازٌ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: 267] . وَ {إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] . وَمَعْنَاهُ الْغَايَةُ. وَلِأَنَّ الْكَلَامَ إذَا بَطَلَتْ حَقِيقَتُهُ تَعَيَّنَ مَجَازُهُ وَحَقِيقَةُ الِاسْتِثْنَاءِ مُتَعَذِّرَةٌ هَاهُنَا لِأَنَّ أَنْ مَعَ الْفِعْلِ مَصْدَرٌ فَيَصِيرُ مُسْتَثْنِيًا لِلْإِذْنِ مِنْ الْخُرُوجِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَعُمِلَ بِمَجَازِهِ وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ غَايَةً لِأَنَّ كُلَّ اسْتِثْنَاءٍ يُنَاسِبُ الْغَايَةَ مِنْ حَيْثُ أَنَّ حُكْمَ مَا وَرَاءَ الْغَايَةِ عَلَى خِلَافِ الْمُغَيَّا كَمَا أَنَّ حُكْمَ مَا وَرَاءَ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى خِلَافِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا مِائَةً كَانَ الْحُكْمُ فِيمَا وَرَاءَ تِسْعِمِائَةٍ عَلَى خِلَافِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ فِي تِسْعِمِائَةٍ فَيُجْعَلُ غَايَةً بِمَنْزِلَةِ حَتَّى وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ إلَّا بِإِذْنِي لِأَنَّ حَرْفَ الْإِلْصَاقِ يَقْتَضِي مُلْصِقًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَحَذْفُهُ سَائِغٌ لِقِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ وَهُوَ حَرْفُ الْإِلْصَاقِ كَمَا فِي بِسْمِ اللَّهِ أَيْ بَدَأْت أَوْ أَبْدَأُ بِهِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا صَحَّ الْحَذْفُ لِقِيَامِ الْبَاءِ وَذَلِكَ الْمَحْذُوفُ هُوَ الْخُرُوجُ الَّذِي بِهِ تَحْقِيقُ الِاسْتِثْنَاءِ فَكَأَنَّهُ قَالَ إلَّا خُرُوجًا بِإِذْنِي فَصَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ فَأَمَّا هَاهُنَا فَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ ذِكْرُ الْبَاءِ فَلَمْ يَصِحَّ حَذْفُ الْخُرُوجِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَلِذَلِكَ تَعَذَّرَتْ حَقِيقَتُهُ فَتَعَيَّنَ مَجَازُهُ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَوْله تَعَالَى {إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب: 53] . لِأَنَّ التَّكْرَارَ ثَمَّةَ مَا جَاءَ مِنْ لَفْظٍ إلَّا أَنْ لِأَنَّهُ لَوْ ذُكِرَ بِحَرْفِ حَتَّى كَانَ الْحُكْمُ هَكَذَا أَيْضًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] . بَلْ التَّكْرَارُ عُرِفَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى. {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} [الأحزاب: 53] . فَإِنْ نَوَى بِقَوْلِهِ إلَّا أَنْ آذَنَ إلَّا بِإِذْنِي صَحَّتْ نِيَّتُهُ قَضَاءً وَدِيَانَةً لِأَنَّهُ نَوَى مُحْتَمَلَ كَلَامِهِ لِأَنَّ حَذْفَ حَرْفِ الِالْتِصَاقِ سَائِغٌ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ فَيُصَدَّقُ. وَإِنْ نَوَى فِي قَوْلِهِ إلَّا بِإِذْنِي الْإِذْنَ مَرَّةً صَحَّتْ أَيْضًا لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُفِيدُ مَا يُفِيدُ الْغَايَةُ وَهُوَ إخْرَاجُ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ لَوْلَا الِاسْتِثْنَاءُ فَكَانَ بَيْنَهُمَا مُشَابَهَةٌ فِي الْمَعْنَى

[معنى على]

وَأَمَّا (عَلَى) فَإِنَّهَا وُضِعَتْ لِوُقُوعِ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِهِ وَارْتِفَاعِهِ وَعُلُوِّهِ فَوْقَهُ فَصَارَ هُوَ مَوْضُوعًا لِلْإِيجَابِ وَالْإِلْزَامِ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَنَّهُ دَيْنٌ إلَّا أَنْ يَصِلَ بِهِ الْوَدِيعَةَ فَإِنْ دَخَلَتْ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمَحْضَةِ كَانَتْ بِمَعْنَى الْبَاءِ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ لِأَنَّ اللُّزُومَ يُنَاسِبُ الْإِلْصَاقَ فَاسْتُعِيرَ لَهُ وَإِذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي الطَّلَاقِ كَانَتْ بِمَعْنَى الشَّرْطِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَتَّى أَنَّ مَنْ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ طَلِّقْنِي ثَلَاثًا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَيُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِأَنَّ فِيهِ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ كَذَا فِي الْجَامِعِ الْبُرْهَانِيِّ وَغَيْرِهِ. [مَعْنَى عَلَى] قَوْلُهُ (وَأَمَّا عَلَى) إلَى آخِرِهِ كَلِمَةُ عَلَى وُضِعَتْ لِلِاسْتِعْلَاءِ وَمِنْهُ يُقَالُ فُلَانٌ عَلَيْنَا أَمِيرٌ لِأَنَّ لِلْأَمِيرِ عُلُوًّا وَارْتِفَاعًا عَلَى غَيْرِهِ وَلِهَذَا يُخَاطَبُ بِالْمَجْلِسِ الْعَالِي وَالرَّفِيعِ وَيُقَالُ زَيْدٌ عَلَى السَّطْحِ لِتَعَلِّيهِ عَلَيْهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ عَلَى فُلَانٍ دَيْنٌ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَسْتَعْلِي مَنْ يَلْزَمُهُ وَلِذَا يُقَالُ رَكِبَهُ دَيْنٌ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فَصَارَ مَوْضُوعًا لِلْإِيجَابِ وَالْإِلْزَامِ فِي قَوْلِهِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ يَعْنِي لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ مَوْضُوعَةً لِلِاسْتِعْلَاءِ وَالِاسْتِعْلَاءُ فِي لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا فِي الْإِيجَابِ دُونَ غَيْرِهِ كَانَتْ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ لِلْإِيجَابِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْوَضْعِ. أَنَّهُ دَيْنٌ أَيْ الثَّابِتُ بِهِ دَيْنٌ لَا غَيْرُ لِأَنَّ الِاسْتِعْلَاءَ فِيهِ. إلَّا أَنْ يَصِلَ بِهِ الْوَدِيعَةَ فَيَقُولُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ وَدِيعَةٍ فَحِينَئِذٍ لَا يَثْبُتُ الدَّيْنُ لِأَنَّ عَلَى يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْوَدِيعَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِي الْوَدِيعَةِ وُجُوبَ الْحِفْظِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ. وَقَوْلُهُ إنَّهُ دَيْنٌ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ وَلَوْ قِيلَ بِالْوَاوِ لَكَانَ أَحْسَنَ. وَعِبَارَةُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ أَوْضَحُ فَإِنَّهُ قَالَ وَأَمَّا عَلَى فَلِلْإِلْزَامِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْوَضْعِ لِأَنَّ مَعْنَى حَقِيقَةِ الْكَلِمَةِ مِنْ عُلُوِّ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ وَارْتِفَاعِهِ فَوْقِهِ وَذَلِكَ قَضِيَّةُ الْوُجُوبِ وَاللُّزُومِ وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَنَّ مُطَلَّقَهُ مَحْمُولٌ عَلَى الدَّيْنِ إلَّا أَنْ يَصِلَ بِكَلَامِهِ وَدِيعَةً لِأَنَّ حَقِيقَةَ اللُّزُومِ فِي الدَّيْنِ. ثُمَّ أَنَّهَا قَدْ تُسْتَعَارُ لِلْبَاءِ لِأَنَّ اللُّزُومَ يُنَاسِبُ الْإِلْصَاقَ فَإِنَّ الشَّيْءَ إذَا لَزِمَ الشَّيْءَ كَانَ مُلْتَصِقًا بِهِ لَا مَحَالَةَ وَلِأَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ يَنُوبُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُوصِلُ الْفِعْلَ إلَى الِاسْمِ. قَالَ الْإِمَامُ عَبْدُ الْقَاهِرِ عَلَى فِي قَوْلِك مَرَرْت عَلَى زَيْدٍ أَوْصَلَ الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ مَرَرْت إلَى الِاسْمِ الَّذِي هُوَ زَيْدٌ كَمَا يَفْعَلُ الْبَاءُ كَذَلِكَ فِي قَوْلِك مَرَرْت بِزَيْدٍ فَكَانَ بَيْنَهُمَا مُنَاسَبَةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَتُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الشَّرْطِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْجَزَاءَ يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ فَيَكُونُ لَازِمًا عِنْدَ وُجُودِهِ فَكَانَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الشَّرْطِ بِمَنْزِلَةِ الْحَقِيقَةِ. فَإِذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي الْمُفَاوَضَاتِ الْمَحْضَةِ وَهِيَ الَّتِي تَخْلُو عَنْ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ كَالْبَيْعِ فَإِنَّهُ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِمَالٍ. وَالْإِجَارَةِ فَإِنَّهَا مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِمَنْفَعَةٍ. وَالنِّكَاحِ فَإِنَّهُ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ كَانَتْ بِمَعْنَى الْبَاءِ الَّتِي تَصْحَبُ الْأَعْوَاضَ لِأَنَّ الْعَمَلَ لَمَّا تَعَذَّرَ بِحَقِيقَتِهَا تُحْمَلُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِالْمُعَاوَضَاتِ وَهُوَ الْبَاءُ لِمَا بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ مِنْ اللُّزُومِ وَالِاتِّصَالِ فِي الْوُجُوبِ وَلَا تُحْمَلُ عَلَى الشَّرْطِ لِأَنَّ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَحْضَةِ لَا تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالْخَطَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْقِمَارِ فَتُحْمَلُ عَلَى مَا تَحْتَمِلُهُ تَصْحِيحًا لِلْكَلَامِ. وَإِذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي الطَّلَاقِ كَانَتْ بِمَعْنَى الشَّرْطِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ثَبَتَ بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ يَثْبُتُ مَعَ مُقَابِلِهِ بِطَرِيقِ الْمُقَارَنَةِ كَالْأَخِ مَعَ الْأَخِ وَالْجَارِ مَعَ الْجَارِ إذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مُقَابِلًا لِشَيْءٍ قَبْلَ مُقَابَلَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ إيَّاهُ وَثُبُوتُ الْعِوَضِ مَعَ الْمُعَوَّضِ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَمَا ثَبَتَ بِطَرِيقِ الْمُعَاقَبَةِ يَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنْ صَاحِبِهِ وَصَاحِبُهُ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ كَالْمَشْرُوطِ مَعَ الشَّرْطِ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الشَّرْطِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَثْبُتَ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَعَقَّبَهُ الْمَشْرُوطُ ثُمَّ إنَّ أَجْزَاءَ الْعِوَضِ يَتَوَزَّعُ عَلَى أَجْزَاءِ الْمُعَوَّضِ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ ثُبُوتَهُمَا بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ فَيُقَابَلُ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ الْعِوَضِ جُزْءًا مِنْ الْمُعَوَّضِ وَأَجْزَاءُ الشَّرْطِ لَا يَتَوَزَّعُ عَلَى أَجْزَاءِ الْمَشْرُوطِ بِالِاتِّفَاقِ أَيْضًا لِأَنَّ ثُبُوتَ الْمَشْرُوطِ وَالشَّرْطِ بِطَرِيقِ الْمُعَاقَبَةِ فَلَوْ ثَبَتَ الِانْقِسَامُ لَزِمَ تَقَدُّمُ جُزْءٍ مِنْ الْمَشْرُوطِ عَلَى الشَّرْطِ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ وَهَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ تَعَلَّقَتْ الطَّلْقَتَانِ بِدُخُولِ

وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ ثُلُثُ الْأَلْفِ كَمَا فِي قَوْلِهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَلِمَةُ (عَلَى) لِلُّزُومِ عَلَى مَا قُلْنَا وَلَيْسَ بَيْنَ الْوَاقِعِ وَبَيْنَ مَا لَزِمَهَا مُقَابَلَةٌ بَلْ بَيْنَهُمَا مُعَاقَبَةٌ وَذَلِكَ مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فَصَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ حَقِيقَةِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَقَدْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَإِنْ دَخَلَهُ الْمَالُ فَيَصْلُحُ تَعْلِيقُهُ بِالشُّرُوطِ حَتَّى إنَّ جَانَبَ الزَّوْجَ يَمِينٌ فَيَصِيرُ هَذَا مِنْهَا طَلَبًا لِتَعْلِيقِ الْمَالِ بِشَرْطِ الثُّلُثِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالدَّارَيْنِ فَلَوْ ثَبَتَ الِانْقِسَامُ تَقَعُ تَطْلِيقَةً بِدُخُولِ إحْدَى الدَّارَيْنِ وَدُخُولُ الدَّارَيْنِ شَرْطٌ وَاحِدٌ فَيَكُونُ بَعْضُ الْمَشْرُوطِ مُتَقَدِّمًا عَلَى الشَّرْطِ وَأَنَّهُ فَاسِدٌ. إذَا عَرَفْت هَذَا قُلْنَا إذَا قَالَتْ لِزَوْجِهَا طَلِّقْنِي ثَلَاثًا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ يَحْتَمِلُ عَلَى الشَّرْطِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً لَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ وَكَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا. وَعِنْدَهُمَا تُحْمَلُ عَلَى الْبَاءِ حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً يَجِبُ عَلَيْهَا ثُلُثُ الْأَلْفِ وَكَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا كَمَا لَوْ قَالَتْ طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ لِأَنَّ الطَّلَاقَ عَلَى مَالِ مُعَاوَضَةٍ مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ وَلِهَذَا كَانَ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ قَبْلَ كَلَامِ الزَّوْجِ وَإِنَّمَا يَجِبُ الْمَالُ عَلَيْهَا عِوَضًا عَنْ الطَّلَاقِ وَكَلِمَةُ عَلَى تَحْتَمِلُ مَعْنَى الْبَاءِ أَوْ قَدْ صَدَرَتْ مِنْ جَانِبِهَا فَتُحْمَلُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ لِاحْتِمَالِ الطَّلَاقِ إيَّاهَا وَدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهَا وَصَارَ كَقَوْلِهِ احْمِلْ هَذَا الطَّعَامَ إلَى مَنْزِلِي عَلَى دِرْهَمٍ فَإِنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى الْبَاءِ وَكَمَا لَوْ قَالَتْ طَلِّقْنِي وَضَرَّتِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَطَلَّقَهَا وَحْدَهَا لَزِمَهَا بِقَدْرِ مَا يَخُصُّهَا مِنْ الْأَلْفِ كَمَا لَوْ قَالَتْ بِأَلْفٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَلِمَةُ عَلَى لِلُّزُومِ كَمَا بَيَّنَّا وَلَيْسَ بَيْنَ الْوَاقِعِ وَهُوَ الطَّلَاقُ وَبَيْنَ مَا لَزِمَهَا وَهُوَ الْأَلْفُ مُقَابَلَةٌ لِيَنْعَقِدَ مُعَاوَضَةً فَتُحْمَلُ عَلَى الْبَاءِ بَلْ بَيْنَهُمَا مُعَاقَبَةٌ لِأَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ أَوَّلًا ثُمَّ يَجِبُ الْمَالُ أَوْ يَجِبُ الْمَالُ ثُمَّ يَقَعُ الطَّلَاقُ. وَذَلِكَ أَيْ التَّعَاقُبُ مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ لَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فَصَارَ مَعْنَى الشَّرْطِ بِمَنْزِلَةِ حَقِيقَةِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ لِلُّزُومِ وَبَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ مُلَازَمَةٌ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إلَى التَّحْقِيقِ أَوْلَى مِنْ الْحَمْلِ عَلَى الْبَاءِ. وَقَدْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِ أَيْ بِمَعْنَى الشَّرْطِ هَاهُنَا. لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَإِنْ دَخَلَهُ الْمَالُ وَالْمَالُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ يَصْلُحُ تَعْلِيقُهُ بِالشُّرُوطِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ إنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ صَحَّ وَلَمْ يَمْنَعْ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ عَنْ صِحَّةِ التَّعْلِيقِ لِأَنَّهُ تَابِعٌ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَيَصْلُحُ زَائِدَةٌ وَقَعَتْ غَيْرَ مَوْقِعِهَا لِأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي خَبَرَانِ. حَتَّى إنْ جَانَبَ الزَّوْجَ يَمِينٌ يَعْنِي لَوْ ابْتَدَأَ الزَّوْجُ فَقَالَ طَلَّقْتُك ثَلَاثًا عَلَى أَلْفٍ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْيَمِينِ حَتَّى لَا يُمْكِنَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ كَلَامِ الْمَرْأَةِ وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى مَجْلِسِ الزَّوْجِ وَلَا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا بِأَنْ قُدِّرَ مَعْنَى التَّعْلِيقِ فِيهِ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ الْتَزَمْت أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَعَرَفْنَا أَنَّ دُخُولَ الْمَالِ فِي الطَّلَاقِ لَا يَمْنَعُ مَعْنَى التَّعْلِيقِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يُجْعَلُ قَوْلُهَا طَلِّقْنِي ثَلَاثًا عَلَى أَلْفٍ تَعْلِيقًا لِوُجُوبِ الْمَالِ بِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ كَأَنَّهَا قَالَتْ إنْ طَلَّقْتنِي ثَلَاثًا فَلَكَ أَلْفٌ وَطَلَبًا مِنْ الزَّوْجِ إيجَادَ هَذَا الشَّرْطِ وَهُوَ الثَّلَاثُ. فَإِذَا خَالَفَ أَيْ الزَّوْجُ أَمْرَهَا لَمْ يَجِبْ الْمَالُ كُلُّهُ لِعَدَمِ الشَّرْطِ وَهُوَ الثَّلَاثُ وَلَا بَعْضُهُ لِعَدَمِ صِحَّةِ انْقِسَامِ الْمَشْرُوطِ عَلَى أَجْزَاءِ الشَّرْطِ هَذَا تَقْرِيرُ مَا فِي الْكِتَابِ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيبِ. وَفِي لَفْظِ الشَّيْخِ نَوْعُ اشْتِبَاهٍ فَإِنَّهُ قَالَ فَيَصِيرُ هَذَا أَيْ قَوْلُهَا طَلِّقْنِي ثَلَاثًا عَلَى أَلْفٍ مِنْهَا طَلَبًا لِتَعْلِيقِ الْمَالِ بِشَرْطِ الثَّلَاثِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ تَعْلِيقُ الِالْتِزَامِ بِالطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ مِنْهَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَالْغَرَضِ فَإِنَّ مَقْصُودَهَا تَحْصِيلُ الثَّلَاثِ بِالْمَالِ فَصَارَ كَأَنَّهَا قَالَتْ إنْ طَلَّقْتنِي ثَلَاثًا فَلَكَ أَلْفٌ. فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فَيَصِيرُ هَذَا تَعْلِيقًا لِلُّزُومِ الْمَالِ بِالثَّلَاثِ. وَلَا مُطَابِقَةَ أَيْضًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَإِنْ دَخَلَهُ الْمَالُ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشُّرُوطِ. وَفِي التَّحْقِيقِ لَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ لِأَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ الدَّاخِلِ فِيهِ الْمَالِ بِشَرْطٍ بِوَجْهٍ بَلْ هُوَ تَعْلِيقُ الْتِزَامِ الْمَالِ بِالثَّلَاثِ

فَإِذَا خَالَفَ لَمْ يَجِبْ وَفِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمَحْضَةِ يَسْتَحِيلُ مَعْنَى الشَّرْطِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِمَجَازِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَطَلَبُ إيجَادِ الشَّرْطِ مِنْ الزَّوْجِ فَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يُقَالَ وَقَدْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْتِزَامِ الْمَالِ مِنْ الْمَرْأَةِ بِشَرْطِ الطَّلَاقِ يَصِحُّ لِتَأْدِيَتِهِ إلَى مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فِي الْآخِرَةِ فَيَصِيرُ هَذَا مِنْهَا تَعْلِيقًا لِلْمَالِ بِشَرْطِ الثَّلَاثِ فِي ضِمْنِ الطَّلَبِ فَإِذَا خَالَفَ لَمْ يَجِبْ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ عَلَى بِمَعْنَى الشَّرْطِ لِأَنَّ أَصْلَهَا اللُّزُومُ فَاسْتُعِيرَتْ لِلشَّرْطِ لِأَنَّهُ يُلَازِمُ الْجَزَاءَ فَصَارَتْ طَالِبَةً لِلثَّلَاثِ بِأَلْفٍ بِكَلِمَةٍ هِيَ لِلشَّرْطِ وَصَارَ بِحُكْمِ الِاتِّحَادِ دُخُولُهَا عَلَى الْمَالِ مِثْلَ دُخُولِهَا عَلَى الطَّلَاقِ بِأَنْ قَالَتْ لَك عَلَيَّ أَلْفٌ عَلَى أَنْ تُطَلِّقَنِي ثَلَاثًا وَهُنَاكَ لَا يَجِبُ شَيْءٌ إلَّا بِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. وَذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ أَنَّ حَقِيقَةَ كَلِمَةِ عَلَى لِإِثْبَاتِ الْجَزَاءِ إذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْجَوَابِ لَا لِإِثْبَاتِ الْعِوَضِ كَقَوْلِك أَكْرِمْنِي عَلَى أَنْ أُكْرِمَك مَعْنَاهُ إنْ أَكْرَمْتنِي أُكْرِمْك فَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْإِيجَابَاتِ أَوْ الْعِدَّاتِ لَا تَقْتَضِي مُقَابَلَةً فَلَا يَجِبُ الْمَالُ بِهِ وُجُوبُ الْأَعْوَاضِ بَلْ يَجِبُ بِهِ وُجُوبُ الْأَجْزِئَةِ مَعَ الشُّرُوطِ لِأَنَّ الْكَلِمَةَ لِلشَّرْطِ بِمَنْزِلَةِ الْحَقِيقَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اقْتَضَى تَعَلُّقَ وُجُوبِ الْمَالِ بِالطَّلَاقِ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَاقَبَةِ كَمَا لَوْ قَالَتْ إنْ طَلَّقْتنِي فَلَكَ أَلْفٌ لَا عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَوَزَّعْ. بِخِلَافِ الْبَاءِ فَإِنَّهَا لِلْمُقَابَلَةِ فَإِنْ لَمْ يُثْبِتْ الْمُقَابَلَةَ بَيْنَهُمَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُبَدَّلَ وَهُوَ الطَّلَاقُ لَيْسَ بِصَالِحٍ لَكِنْ يُثْبِتُ التَّوْزِيعَ كَيْ لَا يَبْطُلَ الْعَمَلُ بِهِ أَصْلًا. وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهَا عَلَى الْمُقَابَلَةِ فِي مَسْأَلَةِ طَلَاقِ الضَّرَّةِ مَعَهَا عَلَى أَلْفٍ لِأَنَّا إنْ حَمَلْنَاهَا عَلَى الْجَزَاءِ وَالْمُعَاقَبَةِ كَانَ الْبَدَلُ كُلُّهُ عَلَيْهَا كَمَا لَوْ قَالَتْ إنْ طَلَّقْتنَا فَلَكَ أَلْفٌ وَإِنْ حَمَلْنَاهَا عَلَى الْمُقَابَلَةِ وَجَبَ بَعْضُ الْبَدَلِ عَلَيْهَا إذَا قُبِلَتْ وَلَا يَكُونُ عَلَيْهَا إلَّا النِّصْفُ فَدَلَّ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهَا عَلَى إرَادَةِ الْمُقَابَلَةِ لِتَسْتَفِيدَ بِهَذَا الطَّلَبِ نُقْصَانَ الْبَدَلِ إذْ لَا فَائِدَةَ لَهَا فِي طَلَاقِ الضَّرَّةِ بَعْدَ طَلَاقِهَا فَأَمَّا هَاهُنَا فَالْفَائِدَةُ لَهَا أَكْثَرُ فِي أَنْ يَجْعَلَ الْأَلْفَ جَزَاءً حَتَّى لَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ بِبَعْضِ الطَّلَاقِ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا وَادَعَ أَهْلَ الْحَرْبِ سَنَةً عَلَى أَلْفِ دِينَارٍ جَازَتْ الْمُوَادَعَةُ. فَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِي إبْطَالِهَا رَدَّ الْمَالَ إلَيْهِمْ ثُمَّ نَبَذَ إلَيْهِمْ وَقَاتَلَهُمْ. وَإِنْ كَانَ مَضَى نِصْفُ السَّنَةِ فَفِي الْقِيَاسِ يَرُدُّ نِصْفَ الْمَالِ وَيُمْسِكُ النِّصْفَ لِلْمُسْلِمِينَ اعْتِبَارًا بِالْإِجَارَةِ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَرُدُّ الْكُلَّ لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا الْمَالَ بِشَرْطِ أَنْ يُسَلِّمَ لَهُمْ الْمُوَادَعَةَ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ وَالْجَزَاءُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ الشَّرْطِ جُمْلَةً وَلَا يَتَوَزَّعُ عَلَى أَجْزَائِهِ وَكَلِمَةُ عَلَى لِلشَّرْطِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمُوَادَعَةُ فِي الْأَصْلِ لَيْسَتْ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فَجَعَلْنَا هَذِهِ الْكَلِمَةَ عَامِلَةً فِيهَا بِحَقِيقَتِهَا فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمَ لَهُمْ الْمُوَادَعَةَ سَنَةً كَامِلَةً وَجَبَ رَدُّ الْمَالِ كُلِّهِ عَلَيْهِمْ. وَإِنْ كَانَ وَادَعَهُمْ ثَلَاثَ سِنِينَ كُلَّ سَنَةٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ وَقَبَضَ الْمَالَ كُلَّهُ ثُمَّ أَرَادَ الْإِمَامُ نَقْضَ الْمُوَادَعَةِ بَعْدَ مُضِيِّ سَنَةٍ فَإِنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ الْأَلْفَيْنِ لِأَنَّ الْمُوَادَعَةَ كَانَتْ هَاهُنَا بِحَرْفِ الْبَاءِ وَهِيَ تَصْحَبُ الْأَعْوَاضَ فَيَنْقَسِمُ الْعِوَضُ عَلَى الْمُعَوَّضِ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ وَفِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمَحْضَةِ يَسْتَحِيلُ مَعْنَى الشَّرْطِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْلِيقِ التَّمْلِيكِ بِالْخَطَرِ وَهُوَ فَاسِدٌ بِخِلَافِ تَعْلِيقِ الْمَالِ بِالطَّلَاقِ لِأَنَّ الْمَالَ وَجَبَ فِي ضِمْنِ مَا يَصِحُّ فِيهِ التَّعْلِيقُ وَمَا ثَبَتَ فِي ضِمْنِ شَيْءٍ لَا يُعْطِي لَهَا حُكْمَ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا يُعْطِي لَهُ حُكْمَ الْمُتَضَمَّنِ كَذَا قِيلَ. فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِمَجَازِهِ

[معنى من]

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ} [الأعراف: 105] وَقَالَ {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12] . وَأَمَّا مِنْ فَلِلتَّبْعِيضِ هُوَ أَصْلُهَا وَمَعْنَاهَا الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ لِمَا قُلْنَا وَقَدْ ذَكَرْنَا مَسَائِلَهَا فِي قَوْلِهِ أَعْتِقْ مِنْ عَبِيدِي مَنْ شِئْت وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ وَمَسَائِلُهُ كَثِيرَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــQوَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ بِمَعْنَى الْبَاءِ قَوْلُهُ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ فَصَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ حَقِيقَةِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ} [الأعراف: 105] . أَيْ أَنِّي جَدِيرٌ بِأَمْرِ الرِّسَالَةِ بِشَرْطِ أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ. وَقَالَ تَعَالَى {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12] . أَيْ بِشَرْطِ عَدَمِ الْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ هَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. فَأَمَّا أَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ فَلَمْ يَذْكُرُوا مَعْنَى الشَّرْطِ فِيهِ فَقَالُوا مَعْنَاهُ جَدِيرٌ بِأَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ. أَوْ ضَمِنَ حَقِيقٌ مَعْنَى حَرِيصٍ فَاسْتَقَامَ عَلَى صِلَةٍ لَهُ. أَوْ هُوَ مُبَالَغَةٌ مِنْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالصِّدْقِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ فِرْعَوْنَ قَالَ لَهُ لَمَّا قَالَ {إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 104] كَذَبْت فَيَقُولُ أَنَا حَقِيقٌ عَلَى قَوْلِ الْحَقِّ أَيْ وَاجِبٌ عَلَيَّ قَوْلُ الْحَقِّ أَنْ أَكُونَ قَائِلَهُ وَالْقَائِمَ بِهِ وَلَا يَرْضَى إلَّا بِمِثْلِي نَاطِقًا بِهِ. وَكَذَا قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى. {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12] . أَنَّ عَلَى صِلَةُ الْمُبَايَعَةِ يُقَالُ بَايَعَهُ عَلَى كَذَا إلَّا أَنَّهُ لَمَّا أَدَّى إلَى مَعْنَى الشَّرْطِ إذْ الْمُبَايَعَةُ تَوْكِيدٌ كَالشَّرْطِ، تَوَسَّعَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ وَقَالُوا إنَّهُ بِمَعْنَى الشَّرْطِ. [مَعْنَى مِنْ] قَوْلُهُ (فَأَمَّا مِنْ فَلِلتَّبْعِيضِ) ذَكَرَ النُّحَاةُ أَنَّهَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ يُقَالُ سِرْت مِنْ الْكُوفَةِ إلَى الْبَصْرَةِ وَهَذَا الْكِتَابُ مِنْ فُلَانٍ إلَى فُلَانٍ. وَقَدْ تَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ كَقَوْلِهِمْ أَخَذْت مِنْ الدَّرَاهِمِ وَزَيْدٌ مِنْ الْقَوْمِ. وَلِلتَّبْيِينِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى. {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج: 30] . وَكَقَوْلِهِمْ: خَاتَمٌ مِنْ فِضَّةٍ وَبَابٌ مِنْ سَاجٍ. وَقَدْ تَكُونُ مَزِيدَةً كَقَوْلِك مَا جَاءَنِي مِنْ أَحَدٍ وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ الْكُلُّ رَاجِعٌ إلَى مَعْنَى ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فَإِنَّ قَوْلَك أَخَذْت مِنْ الدَّرَاهِمِ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الدَّرَاهِمَ مَوْضِعُ أَخْذِك وَابْتِدَاءُ غَايَتِهِ كَمَا أَنَّ قَوْلَك سِرْت مِنْ الْبَصْرَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَصْرَةِ مَنْشَأُ سَيْرِك غَيْرَ أَنَّهَا فِي الدَّرَاهِمِ أَفَادَتْ التَّبْعِيضَ لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ فِيهَا وَلَمْ تَفْدِهِ فِي قَوْلِك سِرْت مِنْ الْبَصْرَةِ لِأَنَّك إذَا فَارَقْتهَا فَقَدْ فَارَقْت جَمِيعَ نَوَاحِيهَا إذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ خَارِجًا مِنْهَا وَغَيْرَ خَارِجٍ. وَكَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ} [الحج: 30] إذْ الرِّجْسُ مِنْ الْأَوْثَانِ وَغَيْرِهَا فَلَمَّا قَالَ مِنْ الْأَوْثَانِ بَيَّنَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَجَعَلَ مَبْدَأَ الِاجْتِنَابِ الْأَوْثَانَ. وَكَذَا قَوْلُك مَا جَاءَنِي مِنْ أَحَدٍ مَعْنَاهُ مِنْ وَاحِدٍ هَذَا الْجِنْسُ إلَى إقْصَاءٍ فَيَكُونُ مَعْنَى ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ مُسْتَفَادًا مِنْ الْجَمِيعِ كَمَا تَرَى. وَلِهَذَا قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ مَعْنَاهَا ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ فَقَطْ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ فِي جَامِعِهِ أَيْضًا أَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لَيْسَتْ عَيْنُهَا بِمَعْنَى التَّبْعِيضِ وَلِلِانْتِزَاعِ وَابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فَصَارَتْ لِلتَّبْعِيضِ. وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ إلَّا أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ لَمَّا وَجَدَهَا أَكْثَرَ اسْتِعْمَالًا فِي التَّبْعِيضِ جَعَلُوهَا فِيهِ أَصِيلًا وَفِيمَا سِوَاهُ دَخِيلًا وَإِلَيْهِ مَالَ الشَّيْخُ هَاهُنَا فَقَالَ هُوَ أَصْلُهَا وَمَعْنَاهُ الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ لَمَّا قُلْنَا إنَّ الِاشْتِرَاكَ خِلَافُ الْأَصْلِ فَجَعَلْنَاهَا لِلتَّبْعِيضِ لِيَكُونَ لَهُ مَعْنًى يَخُصُّهُ. وَرَأَيْت فِي بَعْضِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ وَابْتِدَاءِ الْغَايَةِ جَمِيعًا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ مَوْضِعِهِ حَقِيقَةٌ. وَمَسَائِلُهُ كَثِيرَةٌ. مِنْهَا مَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ: رَجُلٌ قَالَ إنْ كَانَ مَا فِي يَدِي مِنْ الدَّرَاهِمِ إلَّا ثَلَاثَةً أَوْ غَيْرَ ثَلَاثَةٍ أَوْ سِوَى ثَلَاثَةٍ فَجَمِيعُ مَا فِي يَدِي صَدَقَةٌ فِي الْمَسَاكِينِ فَإِذَا فِي يَدِهِ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ أَوْ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِذَلِكَ كُلِّهِ. وَلَوْ قَالَ إنْ كَانَ فِي يَدِي دَرَاهِمُ إلَّا ثَلَاثَةً، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ حِنْثِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنْ يَكُونَ فِي يَدِهِ غَيْرُ الثَّلَاثَةِ مَا يَكُونُ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدِّرْهَمُ

[معنى إلى]

وَأَمَّا إلَى فَلِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ لِذَلِكَ وُضِعَتْ وَلِذَلِكَ اُسْتُعْمِلَتْ فِي الْآجَالِ وَإِذَا دَخَلَتْ فِي الطَّلَاقِ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ أَنْتِ طَالِقٌ إلَى شَهْرٍ فَإِنْ نَوَى التَّنْجِيزَ وَقَعَ وَإِنْ نَوَى الْإِضَافَةَ تَأَخَّرَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ وَقَعَ لِلْحَالِ عِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ إلَى لِلتَّأْجِيلِ وَالتَّأْجِيلُ لَا يَمْنَعُ الْوُقُوعَ وَقُلْنَا إنَّ التَّأْجِيلَ لِتَأْخِيرِ مَا يَدْخُلُهُ وَهُنَا دَخَلَ عَلَى أَصْلِ الطَّلَاقِ فَأَوْجَبَ تَأْخِيرَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالدِّرْهَمَانِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَجَعَلَ شَرْطَ حِنْثِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ أَنْ يَكُونَ فِي يَدِهِ غَيْرُ الثَّلَاثَةِ مِمَّا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الدَّرَاهِمِ وَلَمْ يُوجَدْ لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى الدِّرْهَمِ وَالدِّرْهَمَيْنِ. [مَعْنَى إلَى] قَوْلُهُ (وَأَمَّا إلَى فَلِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ) هَذِهِ الْكَلِمَةُ لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ عَلَى مُقَابَلَةِ مِنْ يُقَالُ سِرْت مِنْ الْبَصْرَةِ إلَى الْكُوفَةِ فَالْكُوفَةُ مُنْقَطَعِ السَّيْرِ كَمَا كَانَتْ الْبَصْرَةُ مُبْتَدَأً. وَيَقُولُ الرَّجُلُ إنَّمَا أَنَا إلَيْك أَيْ أَنْتَ غَايَتِي وَتَقُولُ قُمْت إلَى فُلَانٍ فَتَجْعَلُهُ مُنْتَهَاك مِنْ مَكَانِك هَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ فِي اللُّغَةِ. وَقَدْ يَجِيءُ لِمَعْنَى الْمُصَاحَبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى. {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] . وَقَوْلُهُمْ الذَّوْدُ إلَى الذَّوْدِ إبِلٌ لَكِنَّهُ رَاجِعٌ فِي التَّحْقِيقِ إلَى مَعْنَى الِانْتِهَاءِ أَيْضًا فَإِنَّ الْأَكْلَ فِي الْآيَةِ ضَمِنَ مَعْنَى الضَّمِّ إذْ النَّهْيُ لَا يَخْتَصُّ بِالْأَكْلِ فَعُدِّيَ بِإِلَى أَيْ لَا تَضُمُّوهَا إلَى أَمْوَالِكُمْ فِي الْإِنْفَاقِ حَتَّى لَا تُفَرِّقُوا بَيْنَ أَمْوَالِكُمْ وَأَمْوَالِهِمْ، قِلَّةُ مُبَالَاةٍ بِمَا لَا يَحِلُّ وَتَسْوِيَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَلَالِ. أَوْ الْمَعْنَى لَا يَنْتَهِ أَكْلُ أَمْوَالِهِمْ إلَى أَمْوَالِكُمْ فَيَكُونُ إلَى صِلَةُ فِعْلِ الِانْتِهَاءِ. وَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ الذَّوْدُ إلَى الذَّوْدِ إبِلٌ الذَّوْدُ مُنْضَمًّا إلَى الذَّوْدِ إبِلٌ. وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِأَنَّهَا وُضِعَتْ لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ اُسْتُعْمِلَتْ فِي آجَالِ الدُّيُونِ لِأَنَّ آجَالَ الدُّيُونِ غَايَاتُهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ كَلِمَةَ إلَى إذَا دَخَلَتْ فِي الْأَزْمِنَةِ قَدْ تَكُونُ لِلتَّوْقِيتِ وَهُوَ الْأَصْلُ وَقَدْ تَكُونُ لِلتَّأْجِيلِ وَالتَّأْخِيرِ. وَمَعْنَى التَّوْقِيتِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ ثَابِتًا فِي الْحَالِ وَيَنْتَهِي بِالْوَقْتِ الْمَذْكُورِ وَلَوْلَا الْغَايَةُ لَكَانَ ثَابِتًا فِيمَا وَرَائِهَا أَيْضًا كَقَوْلِك وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا إلَى شَهْرٍ كَانَ ذِكْرُ الشَّهْرِ لِتَوْقِيتِ الْيَمِينِ إذْ لَوْلَاهُ لَكَانَتْ مُؤَبَّدَةً وَكَذَلِكَ قَوْلُك آجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ إلَى شَهْرٍ. وَمَعْنَى التَّأْخِيرِ وَالتَّأْجِيلِ أَنْ لَا يَكُونَ الشَّيْءُ ثَابِتًا فِي الْحَالِ مَعَ وُجُودِ مَا يُوجِبْ ثُبُوتُهُ ثُمَّ يَثْبُتُ بَعْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ وَلَوْلَا الْغَايَةُ لَكَانَ ثَابِتًا فِي الْحَالِ أَيْضًا كَالْبَيْعِ إلَى شَهْرٍ فَإِنَّهُ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ إلَى مُضِيِّ الشَّهْرِ وَلَوْلَاهُ لَكَانَتْ الْمُطَالَبَةُ ثَابِتَةً فِي الْحَالِ وَبَعْدَ الشَّهْرِ أَيْضًا مَا لَمْ يَسْقُطْ الدَّيْنُ بِالْأَدَاءِ أَوْ الْإِبْرَاءِ فَإِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إلَى شَهْرٍ وَنَوَى التَّنْجِيزَ تَطْلُقُ فِي الْحَالِ وَيَلْغُو آخِرَ كَلَامِهِ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ فَإِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ وَيَنْتَهِيَ بِمُضِيِّ الشَّهْرِ وَالطَّلَاقُ لَا يَقْبَلُ التَّوْقِيتَ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَمْتَدُّ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ وَيَلْغُو التَّوْقِيتُ. وَإِنْ نَوَى التَّأْخِيرَ يَتَأَخَّرُ الْوُقُوعُ إلَى مُضِيِّ الشَّهْرِ لِأَنَّهُ نَوَى مُحْتَمَلَ كَلَامِهِ إذْ الطَّلَاقُ يَقْبَلُ الْإِضَافَةَ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا وَإِلَى تُسْتَعْمَلُ فِي التَّأْخِيرِ كَمَا تُسْتَعْمَلُ فِي التَّوْقِيتِ فَصَارَ تَقْدِيرُ كَلَامِهِ أَنْتِ طَالِقٌ مُؤَخَّرًا إلَى شَهْرٍ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ وَقَعَ لِلْحَالِ عِنْدَ زُفَرَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّ إلَى لِلتَّأْجِيلِ أَوْ لِلتَّوْقِيتِ وَكُلُّ ذَلِكَ صِفَةٌ لِوُجُودٍ فَلَا بُدَّ مِنْ الْوُجُودِ لِلْحَالِ ثُمَّ يَلْغُو الْوَصْفُ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ عَبْدَهُ بِأَلْفٍ إلَى شَهْرٍ يَثْبُتُ الْأَلْفُ لِلْحَالِ وَيَتَأَجَّلُ بَعْدَ الثُّبُوتِ. وَعِنْدَنَا يَتَأَخَّرُ الْوُقُوعُ إلَى مُضِيِّ الشَّهْرِ لِأَنَّ إلَى كَمَا تَدْخُلُ فِي الشَّيْءِ لِتَوْقِيتِهِ تَدْخُلُ لِتَأْجِيلِ الثُّبُوتِ أَيْضًا فَيَصِيرُ كَالْمُتَعَلَّقِ بِهِ وَالطَّلَاقُ بَعْدَ وُقُوعِهِ لَا يَقْبَلُ التَّأْجِيلَ وَالتَّأْخِيرَ فَأَمَّا الْإِيقَاعُ فَيَقْبَلُهُ فَانْصَرَفَ الْأَجَلُ إلَيْهِ كَيْ لَا يَكُونَ إبْطَالًا لَهُ وَهُوَ كَالنِّصَابِ عِلَّةٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَلَمَّا أُجِّلَ بِحَوْلٍ تَأَجَّلَ الْوُجُوبُ لَا الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ لِأَنَّهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ لَا تَقْبَلُ الْأَجَلَ وَالْوُجُوبُ نَفْسُهُ يَقْبَلُهُ فَعَمِلَ الْأَجَلُ عَمَلَهُ فِيمَا يَقْبَلُهُ. بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِأَلْفٍ إلَى شَهْرٍ لِأَنَّ الْأَلْفَ مِمَّا يَتَأَجَّلُ قَبْضُهُ فَانْصَرَفَ إلَيْهِ وَلَمْ يَنْصَرِفْ إلَى الْوُجُوبِ

وَالْأَصْلُ فِي الْغَايَةِ إذَا كَانَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْحُكْمِ مِثْلَ قَوْلِ الرَّجُلِ مِنْ هَذَا الْبُسْتَانِ إلَى هَذَا الْبُسْتَانِ وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] إلَّا أَنْ يَكُونَ صَدْرُ الْكَلَامِ يَقَعُ عَلَى الْجُمْلَةِ فَيَكُونُ الْغَايَةُ لِإِخْرَاجِ مَا وَرَاءَهَا فَيَبْقَى دَاخِلًا بِمُطْلَقِ الِاسْمِ مِثْلَ مَا قُلْنَا فِي الْمَرَافِقِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَبِخِلَافِ الْيَمِينِ الْمُوَقِّتَةِ إلَى شَهْرٌ لِأَنَّ الْيَمِينَ ثَابِتَةٌ لِلْحَالِ وَتَقْبَلُ التَّوْقِيتَ فَتَتَوَقَّتُ كَالْإِجَارَةِ فَأَمَّا انْعِقَادُ الْيَمِينِ فَلَا يَقْبَلُ التَّأْجِيلَ فَلَمْ يَنْصَرِفْ إلَيْهِ وَانْعَقَدَ لِلْحَالِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ. وَبَيَانُ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ التَّأْجِيلَ لِتَأْخِيرِ مَا يَدْخُلُ فِيهِ كَتَأْجِيلِ الدَّيْنِ وَهَاهُنَا دَخَلَ عَلَى أَصْلِ الطَّلَاقِ لِأَنَّ قَوْلَهُ إلَى شَهْرٍ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ كَمَا دَخَلَ قَوْلُهُ بِعْتُك بِأَلْفٍ إلَى شَهْرٍ فِي الْأَلْفِ إلَّا أَنَّ ثُبُوتَ نَفْسِ الدَّيْنِ لَا يَقْبَلُ التَّأْجِيلَ فَانْصَرَفَ إلَى الْمُطَالَبَةِ وَثُبُوتُ الطَّلَاقِ يَقْبَلُهُ فَانْصَرَفَ التَّأْجِيلُ إلَيْهِ فَأَوْجَبَ تَأْخِيرُهُ قَوْلُهُ (وَالْأَصْلُ فِي الْغَايَةِ) إلَى آخِرِهِ لَمَّا كَانَ بَعْضُ الْغَايَاتِ الثَّابِتَةِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ غَيْرَ دَاخِلَةٍ فِي حُكْمِ الْمُغَيَّا كَاللَّيْلِ فِي الصِّيَامِ وَبَعْضُهَا دَاخِلَةً فِيهِ كَالْمِرْفَقِ فِي غَسْلِ الْيَدِ لَا بُدَّ مِنْ ضَابِطٍ لِذَلِكَ. فَقَالَ الْأَصْلُ فِيهَا أَنَّهَا إذَا كَانَتْ قَائِمَةً بِنَفْسِهَا بِأَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً قَبْلَ التَّكَلُّمِ وَلَا تَكُونَ مُفْتَقِرَةً فِي وُجُودِهَا إلَى الْمُغَيَّا لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ الْحُكْمِ الثَّابِتِ لَهُ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ قَائِمَةً بِنَفْسِهَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَتْبِعَهَا الْمُغَيَّا مِثْلَ قَوْلِهِ بِعْت مِنْ هَذَا الْبُسْتَانِ إلَى هَذَا الْبُسْتَانِ. وَقَوْلُهُ لِفُلَانٍ مِنْ هَذَا الْحَائِطِ إلَى هَذَا الْحَائِطِ فَإِنَّ الْغَايَتَيْنِ لَا تَدْخُلَانِ فِي الْبَيْعِ وَالْإِقْرَارِ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء: 1] . حَيْثُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى تَحْتَ الْإِسْرَاءِ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى. لِأَنَّا نَقُولَ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ لَا بِمُوجِبِ هَذَا الْكَلَامِ. إلَّا أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْحُكْمِ أَيْ لَا تَدْخُلُ الْغَايَةُ تَحْتَ حُكْمِ الْمُغَيَّا إذَا كَانَتْ قَائِمَةً بِنَفْسِهَا إلَّا إذَا كَانَ صَدْرُ الْكَلَامِ وَاقِعًا عَلَى الْجُمْلَةِ أَيْ الْمُغَيَّا وَالْغَايَةُ جَمِيعًا فَحِينَئِذٍ تَدْخُلُ لِأَنَّ صَدْرَ الْكَلَامِ لَمَّا كَانَ وَاقِعًا عَلَى الْجُمْلَةِ قَبْلَ ذِكْرِ الْغَايَةِ وَبَعْدَ ذِكْرِهَا لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْبَعْضَ مِنْهَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الْغَايَةِ إسْقَاطَ مَا وَرَاءَهَا ضَرُورَةً وَالِاسْمُ يَتَنَاوَلُ مَوْضِعَ الْغَايَةِ فَبَقِيَ دَاخِلًا تَحْتَ صَدْرِ الْكَلَامِ لِتَنَاوُلِ الِاسْمِ إيَّاهُ. مِثْلُ مَا قُلْنَا فِي الْمَرَافِقِ أَنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْغُسْلِ وَهُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ الْمَرَافِقِ إسْقَاطُ مَا وَرَائِهَا إذْ لَوْلَا ذِكْرُهَا لَاسْتَوْعَبَتْ الْوَظِيفَةُ كُلَّ الْيَدِ فَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْإِسْقَاطِ بَلْ بَقِيَتْ دَاخِلَةً تَحْتَ الْوُجُوبِ بِمُطْلَقِ اسْمِ الْيَدِ وَلِهَذَا فَهِمَتْ الصَّحَابَةُ مِنْ إطْلَاقِ الْأَيْدِي فِي التَّيَمُّمِ الْأَيْدِيَ إلَى الْإِبَاطِ كَذَا فِي بُيُوعِ الْمَبْسُوطِ. فَإِنْ قِيلَ لَا بُدَّ لِلْجَارِ وَالْمَجْرُورِ مِنْ مُتَعَلِّقٍ وَهُوَ قَوْلُهُ {فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ جَعْلُهُ غَايَةً لِلْإِسْقَاطِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ وَلَا مُضْمَرٍ. قُلْنَا تَعَلُّقُ الْجَارِ وَالْمَجْرُورِ بِالْغُسْلِ ظَاهِرًا وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْإِسْقَاطُ دُونَ مَدِّ الْحُكْمِ كَمَا قَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَالْمِرْفَقُ غَايَةٌ لِلْغُسْلِ لَفْظًا وَظَاهِرًا وَغَايَةٌ لِلْإِسْقَاطِ مَعْنًى وَمَقْصُودًا وَالْعِبْرَةُ لِلْمَعَانِي دُونَ الظَّوَاهِرِ. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ كَلِمَةَ إلَى تُفِيدُ مَعْنَى الْغَايَةِ مُطْلَقًا فَأَمَّا دُخُولُهَا فِي الْحُكْمِ وَخُرُوجُهَا مِنْهُ فَأَمْرٌ يَدُورُ مَعَ الدَّلِيلِ. فَمَا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْخُرُوجِ قَوْله تَعَالَى {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] . لِأَنَّ الْإِعْسَارَ عِلَّةُ الْإِنْظَارِ وَبِوُجُودِ الْمَيْسَرَةِ تَزُولُ الْعِلَّةُ وَلَوْ دَخَلَتْ الْمَيْسَرَةُ فِيهِ لَكَانَ مُنْظَرًا فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ مُعْسِرًا أَوْ مُوسِرًا فَتَبْطُلُ الْغَايَةُ. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] . إذْ لَوْ دَخَلَ لَوَجَبَ الْوِصَالُ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى الدُّخُولِ قَوْلُك قَرَأْت الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ لِأَنَّ الْكَلَامَ سِيقَ لِحِفْظِ الْقُرْآنِ كُلِّهِ فَقَوْلُهُ إلَى الْمَرَافِقِ وَإِلَى الْكَعْبَيْنِ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فَأَخَذَ

وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْغَايَةِ فِي الْخِيَارِ أَنَّهُ يَدْخُلُ وَكَذَلِكَ فِي الْآجَالِ فِي الْأَيْمَانِ فِي رِوَايَةِ حَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ بِالِاحْتِيَاطِ فَحَكَمُوا بِدُخُولِهَا فِي الْغُسْلِ وَأَخَذَ زُفَرُ وَدَاوُد بِالْمُتَيَقِّنِ فَلَمْ يُدْخِلَاهَا. وَلِهَذَا أَيْ وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّدْرَ إذَا كَانَ مُتَنَاوِلًا لِلْجُمْلَةِ تَدْخُلُ الْغَايَةُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ إلَى الْغَدِ أَوْ إلَى اللَّيْلِ أَوْ إلَى الظُّهْرِ تَدْخُلُ الْغَايَةُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لِأَنَّ الْغَايَةَ هَاهُنَا حَدُّ الْإِسْقَاطِ فَإِنَّهُ لَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ مُطْلَقًا يَثْبُتُ الْخِيَارُ مُؤَبَّدًا وَلِهَذَا فَسَدَ الْعَقْدُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَسْقَطَ الْخِيَارَ فِي الثَّلَاثِ عِنْدَهُ وَبَعْدَ أَيِّ مُدَّةٍ كَانَتْ عِنْدَهُمَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مُنْعَقِدٌ بِصِفَةِ الْفَسَادِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ ذِكْرُ الْغَايَةِ لِإِخْرَاجِ مَا وَرَاءَهَا فَتَبْقَى دَاخِلَةً تَحْتَ الْجُمْلَةِ كَالْمَرَافِقِ فِي الْوُضُوءِ. بِخِلَافِ الْأَجَلِ فِي الدَّيْنِ لِأَنَّ الْغَايَةَ فِيهِ لِمَدِّ الْحُكْمِ إلَى مَوْضِعِ الْغَايَةِ لِأَنَّ الْأَجَلَ لِلتَّرْفِيَةِ فَمُطْلَقُ الِاسْمِ يَتَنَاوَلُ أَدْنَى مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّرْفِيَةُ. وَبِخِلَافِ الْإِجَارَةِ فَإِنَّ الْغَايَةَ فِيهَا لَا تَدْخُلُ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ أَيْضًا لِأَنَّهَا عَقْدُ تَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ فَمُطْلَقُهَا لَا يُوجِبُ إلَّا أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ وَذَلِكَ مَجْهُولٌ وَلِأَجْلِ الْجَهَالَةِ يَفْسُدُ الْعَقْدُ فَكَانَ ذِكْرُ الْغَايَةِ لِبَيَانِ مِقْدَارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ بِمَدِّ الْحُكْمِ إلَى مَوْضِعِ الْغَايَةِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا تَدْخُلُ الْغَايَةُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لِأَنَّ الْغَدَ جُعِلَ غَايَةً وَالْأَصْلُ أَنَّ الْغَايَةَ لَا تَدْخُلُ فِي الصَّدْرِ إلَّا بِدَلِيلِ وَلِهَذَا سُمِّيَتْ غَايَةً لِأَنَّ الْحُكْمَ يَنْتَهِي إلَيْهَا دَلَّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ إلَى اللَّيْلِ وَالْأَكْلُ إلَى الْفَجْرِ وَلِهَذَا لَوْ آجَرَ دَارِهِ إلَى رَمَضَانَ أَوْ بَاعَ بِأَجَلٍ إلَى رَمَضَانَ أَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ إلَى رَمَضَانَ لَمْ يَدْخُلْ رَمَضَانُ تَحْتَ الْجُمْلَةِ لِأَنَّهُ غَايَةٌ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْنَا الْمَرَافِقُ فَإِنَّهَا دَخَلَتْ تَحْتَ الْجُمْلَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ عَلَّمَ الْوُضُوءَ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ غَسَلَ الْمَرَافِقَ هَكَذَا حَكَى الْحَاكِي الْوُضُوءَ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَذْهَبَهُمَا أَوْضَحُ لِأَنَّ قَوْلَهُ إلَى غَدٍ قُرِنَ بِالْخِيَارِ فَصَارَ مَدًّا لِلْخِيَارِ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْمِرْفَقُ قُرِنَ بِالْغُسْلِ وَالْكَلَامُ إذَا قُرِنَ بِهِ غَايَةٌ أَوْ اسْتِثْنَاءٌ أَوْ شَرْطٌ لَا يُعْتَبَرُ بِالْمَفْصُولِ عَنْ الْقَيْدِ ثُمَّ التَّعْبِيرُ بِالْقَيْدِ عَنْ حَالِ الْإِطْلَاقِ بَلْ يُعْتَبَرُ مَعَ الْقَيْدِ جُمْلَةً وَاحِدَةً لِمَا عُرِفَ فِي مَسْأَلَةِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ لِلشَّرْطِ وَمَتَى جُعِلَ كَلَامًا وَاحِدًا لِلْإِيجَابِ إلَى غَدٍ لَا الْإِيجَابِ وَالْإِسْقَاطِ لِأَنَّهُمَا ضِدَّانِ فَلَا يَثْبُتَانِ إلَّا بِنَصَّيْنِ وَالنَّصُّ مَعَ الْغَايَةِ نَصٌّ وَاحِدٌ. وَلِأَنَّ مَسْأَلَةَ الْيَمِينِ لَازِمَةٌ عَلَى طَرِيقِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ دُونَ رِوَايَةِ الْحَسَنِ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ فِي الْآجَالِ فِي الْأَيْمَانِ) أَيْ وَكَمَا تَدْخُلُ الْغَايَةُ فِي الْجُمْلَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْخِيَارِ عِنْدَهُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى تَدْخُلُ الْآجَالَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْأَيْمَانِ أَيْضًا بِأَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا إلَى رَجَبٍ أَوْ إلَى رَمَضَانَ أَوْ إلَى الْغَدِ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَهُ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ لِذَلِكَ الْمَعْنَى فَإِنَّ مُطْلَقَ كَلَامِهِ يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ فَيَكُونُ ذِكْرُ الْغَايَةِ لِإِخْرَاجِ مَا وَرَائِهَا. وَلَا تَدْخُلُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُهُمَا لِأَنَّ فِي حُرْمَةِ الْكَلَامِ وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالْكَلَامِ فِي مَوْضِعِ الْغَايَةِ شَكًّا كَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلِأَنَّ الْكَلَامَ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ وَالتَّأْبِيدَ بَلْ مُطْلَقُهُ يَتَنَاوَلُ أَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ كَاسْمِ الصِّيَامِ يَتَنَاوَلُ أَدْنَى الْإِمْسَاكِ وَاقْتِضَاؤُهُ لِلتَّأْبِيدِ فِي قَوْلِهِ لَا أُكَلِّمُ بِالْعَارِضِ وَهُوَ وُقُوعُهُ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ لَا بِأَصْلِ الْوَضْعِ فَكَانَ عِنْدَنَا فِي حُكْمِ الْغَايَةِ لِأَنَّ كَوْنَ الْغَايَةِ لِلْمَدِّ أَوْ لِلْإِسْقَاطِ بِالنَّظَرِ إلَى أَصْلِ الْوَضْعِ

وَقَالَ فِي قَوْلِهِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِنْ دِرْهَمٍ إلَى عَشْرَةٍ لَمْ يَدْخُلْ الْعَاشِرُ لِأَنَّ مُطْلَقَ الِاسْمِ لَا يَتَنَاوَلُهُ وَقَالَا يَدْخُلُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَائِمٍ بِنَفْسِهِ وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الطَّلَاقِ وَإِنَّمَا دَخَلَتْ الْغَايَةُ الْأُولَى لِلضَّرُورَةِ. . ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا بِاعْتِبَارِ الْعَوَارِضِ فَكَانَ ذِكْرُ الْغَايَةِ لِمَدِّ الْحُكْمِ بِالنَّظَرِ إلَى أَصْلِ الْوَضْعِ لَا لِلْإِسْقَاطِ فَلَا تَدْخُلُ الْغَايَةُ تَحْتَ الْجُمْلَةِ كَمَا لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأُكَلِّمَنَّ فُلَانًا إلَى اللَّيْلِ أَوْ إلَى الْغَدِ بِخِلَافِ اسْمِ الْيَدِ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْعُضْوِ الْمَعْلُومِ بِأَصْلِ الْوَضْعِ فَيَكُونُ ذِكْرُ الْغَايَةِ لِلْإِسْقَاطِ. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَكَذَلِكَ فِي الْآجَالِ وَالْأَيْمَانِ وَفِي بَعْضِهَا فِي الْآجَالِ وَفِي الْأَيْمَانِ وَفِي بَعْضِهَا وَفِي الْأَثْمَانِ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ سَهْوٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ إنْ اتَّصَلَ بِالْجَمِيعِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِي الْآجَالِ رِوَايَتَانِ وَإِنْ اتَّصَلَ بِالْأَخِيرِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْآجَالُ دَاخِلَةً فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ رِوَايَةٍ وَاحِدَةٍ وَكُلُّ ذَلِكَ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْأَجَلَ فِي الدَّيْنِ وَالْبَيْعِ الْمُؤَجَّلِ وَالْإِجَارَةِ لَا يَدْخُلُ فِي الْجُمْلَةِ بِالِاتِّفَاقِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفِي الْآجَالِ وَالْإِجَارَاتِ لَا يَدْخُلُ الْغَايَةُ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ وَفِي تَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ وَتَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ فِي مَوْضِعِ الْغَايَةِ شَكٌّ فَثَبَتَ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ النُّسَخِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا قَوْلُهُ (وَقَالَ) أَيْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَوْلِهِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِنْ دِرْهَمٍ إلَى عَشْرَةٍ لَمْ يَدْخُلْ الدِّرْهَمُ الْعَاشِرُ فِي الْوُجُوبِ فَيَلْزَمُهُ تِسْعَةٌ لِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الدِّرْهَمِ لَا يَتَنَاوَلُ الْعَاشِرَ فَيَكُونُ ذِكْرُهُ لِمَدِّ الْوُجُوبِ إلَيْهِ فَلَا يَدْخُلُ. وَقَالَا تَدْخُلُ الْغَايَةُ الْأَخِيرَةُ كَالْأُولَى. لِأَنَّهُ أَيْ الْعَاشِرَ لَيْسَ بِقَائِمٍ بِنَفْسِهِ إذْ لَا تَحَقُّقَ لِلْعَاشِرِ إلَّا بِوُجُودِ تِسْعَةٍ أُخْرَى قَبْلَهُ كَمَا لَا تَحَقُّقَ لِلْأَوَّلِ إلَّا بِوُجُودِ ثَانٍ بَعْدَهُ فَلَا يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَايَةً مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا وَذَلِكَ بِالْوُجُوبِ. وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الطَّلَاقِ يَعْنِي مَا ذَكَرْنَا مِنْ دُخُولِ الْغَايَةِ الْأُولَى دُونَ الْأَخِيرَةِ عِنْدَهُ وَدُخُولُ الْغَايَتَيْنِ عِنْدَهُمَا ثَابِتٌ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ فِي بَعْضِ نُسْخَةٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُمَا يَقُولَانِ أَنَّهُ جَعَلَ الْمَشْرُوعَ غَايَةً فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِ لِيَصْلُحَ غَايَةً وَوُجُودُهُ بِوُقُوعِهِ وَثُبُوتِهِ. وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّهُ أَوْقَعَ طَلَاقًا مَوْصُوفًا بِوَصْفٍ أَنَّهُ بَيْنَ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ فَلَا يَقَعُ حَتَّى يُوجَدَ إذْ وُجُودُهُمَا بِوُقُوعِهِمَا فَإِذَا وَقَعَا لَمْ يَرْتَفِعَا بَعْدَ ذَلِكَ فَلِهَذَا اقْتَضَى دُخُولُهُمَا فِي الْمُغَيَّا وَإِنَّمَا دَخَلَتْ الْأُولَى أَيْ الْغَايَةُ الْأُولَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِلضَّرُورَةِ وَهِيَ أَنَّهُ إنَّمَا أَوْقَعَ مَا بَيْنَ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ بِنَصِّهِ فَيَكُونُ ثَانِيَةً وَالثَّانِيَةُ عَلَى حَقِيقَتِهَا لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِالْأُولَى فَاقْتَضَى ذَلِكَ دُخُولَ الْأُولَى لِتَصِيرَ هِيَ ثَانِيَةً وَلَمْ يَقْتَضِ دُخُولَ الثَّالِثَةِ لِأَنَّ الثَّابِتَةَ ثَانِيَةٌ بِلَا ثَالِثَةٍ فَعَمِلْنَا بِالْغَايَةِ الْأُولَى عَلَى مَجَازِهَا عَمَلًا بِحَقِيقَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهَا هِيَ الْوَاقِعَةُ وَالْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ بِهَذَا الْإِيجَابِ فَكَانَ طَلَبُ حَقِيقَتِهِ أَوْلَى مِنْ طَلَبِ حَقِيقَةِ الْغَايَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَانِيَةً فَإِنَّهَا تَقَعُ وَاحِدَةً لِأَنَّ الثَّانِيَةَ تَلْغُو وَلَمْ يُمْكِنْ إثْبَاتُهَا بِالْوَاحِدَةِ قَبْلَهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ يَحْتَمِلُ الثُّبُوتَ وَالطَّلَاقُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِلَفْظٍ وَقَدْ جَرَى فِي مَسْأَلَةِ الْغَايَةِ مَا يَحْتَمِلُ الثُّبُوتَ لِأَنَّ الْغَايَةَ قَدْ تَدْخُلُ فِي الْجُمْلَةِ إذَا قَامَ دَلِيلُهُ أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ لِآخَرَ كُلْ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ إلَى عَشْرِ لُقُمَاتٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ اللُّقْمَةَ الْعَاشِرَةَ وَلَوْ قَالَ اشْتَرِ لِي عَبْدًا إلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ دَخَلَ الْأَلْفُ وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ عَنْ رَجُلٍ إلَى أَلْفِ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْحَالِ دَلَّتْ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكْفُلُ إلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ إلَّا وَهُوَ رَاضٍ بِتَمَامِهَا وَكَذَا الشِّرَاءُ وَكَذَا إبَاحَةُ الطَّعَامِ فَإِنَّهُ قَلَّ مَا يَجْرِي الضِّمْنُ بِلُقْمَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَمَّا الطَّلَاقُ فَدَلَالَةُ الْحَالِ تَمْنَعُ الدُّخُولَ لِأَنَّ الرَّجُلَ يَحْتَرِزُ عَنْ الثَّالِثَةِ أَشَدَّ الِاحْتِرَازِ. وَكَذَا الْإِقْرَارُ

[معنى في]

وَأَمَّا فِي فَلِلظَّرْفِ وَعَلَى ذَلِكَ مَسَائِلُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَلَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي حَذْفِهِ وَإِثْبَاتِهِ فِي ظُرُوفِ الزَّمَانِ وَهُوَ أَنْ تَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا أَوْ فِي غَدٍ وَقَالَاهُمَا سَوَاءٌ وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَهُمَا فِيمَا إذَا نَوَى آخِرَ النَّهَارِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي مَوْضِعِهِ أَنَّ حَرْفَ الظَّرْفِ إذَا سَقَطَ اتَّصَلَ الطَّلَاقُ بِالْغَدِ بِلَا وَاسِطَةٍ فَيَقَعُ فِي كُلِّهِ فَيَتَعَيَّنُ وَلَهُ فَلَا يُصَدَّقُ فِي التَّأْخِيرِ وَإِذَا لَمْ يَسْقُطْ حَرْفُ الظَّرْفِ صَارَ مُضَافًا إلَى جُزْءٍ مِنْهُ مُبْهَمٍ فَيَكُونُ نِيَّتُهُ بَيَانًا لِمَا أَبْهَمَهُ فَيُصَدِّقُهُ الْقَاضِي وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ الرَّجُلِ إنْ صُمْت الدَّهْرَ فَعَلَيَّ كَذَا أَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْأَبَدِ وَإِنْ صُمْت فِي الدَّهْرِ يَقَعُ عَلَى سَاعَةٍ وَإِذَا أُضِيفَ إلَى الْمَكَانِ فَقِيلَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي مَكَانِ كَذَا وَقَعَ لِلْحَالِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِأَنَّهُ إخْبَارٌ فَيَنْتَهِي صِحَّتُهُ عَلَى ثُبُوتِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَثُبُوتُ تِسْعَةٍ لَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْعَاشِرِ لِيَدْخُلَ تَحْتَهُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ فَبَقِيَ الْأَمْرُ عَلَى ظَاهِرِهِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ. [مَعْنَى فِي] قَوْلُهُ (وَأَمَّا فِي فَلِلظَّرْفِ) هَذِهِ الْكَلِمَةُ تَجْعَلُ مَا تَدْخُلُ هِيَ عَلَيْهِ ظَرْفًا لِمَا قَبْلَهَا وَوِعَاءً لَهُ فَإِذَا قُلْت الْخُرُوجُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَقَدْ أَخْبَرْت أَنَّ الْيَوْمَ قَدْ اشْتَمَلَ عَلَى الْخُرُوجِ وَصَارَ وِعَاءً لَهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُك الرَّكْضُ فِي الْمَيْدَانِ وَزَيْدٌ فِي الدَّارِ هَذَا أَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ ثُمَّ قِيلَ زَيْدٌ يَنْظُرُ فِي الْعِلْمِ وَأَنَا فِي حَاجَتِك مَجَازًا عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْعِلْمَ جُعِلَ وِعَاءً لِنَظَرِهِ وَتَأَمُّلِهِ وَعَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا صَرَفَ الْعِنَايَةَ إلَى حَاجَتِهِ صَارَتْ كَأَنَّهَا قَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ لِغَلَبَتِهَا عَلَى قَلْبِهِ وَهَمِّهِ وَعَلَى ذَلِكَ مَسَائِلُ أَصْحَابِنَا أَيْ عَلَى أَنَّهَا لِلظَّرْفِ بُنِيَتْ مَسَائِلُ أَصْحَابِنَا فَإِذَا قَالَ غَصَبْتُك ثَوْبًا فِي مِنْدِيلٍ أَوْ تَمْرًا فِي قَوْصَرَّةٍ يَلْزَمُهُ كِلَاهُمَا لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِغَصْبِ مَظْرُوفٍ فِي ظَرْفٍ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِغَصْبِهِ إيَّاهُمَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هُمَا سَوَاءٌ أَيْ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا وَأَنْتِ طَالِقٌ فِي غَدٍ سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ حَتَّى لَوْ نَوَى آخِرَ النَّهَارِ فِي قَوْلِهِ فِي غَدٍ لَا يُصَدَّقُ قَضَاءً لِأَنَّ حَذْفَ حَرْفِ فِي وَإِثْبَاتِهِ فِي الْكَلَامِ سَوَاءٌ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ خَرَجْت يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَوْلِهِ خَرَجْت فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَسَكَنْت الدَّارَ وَسَكَنْت فِي الدَّارِ وَقَدْ أَجْمَعْنَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ غَدًا وَنَوَى آخِرَ النَّهَارِ يُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً فَكَذَا إذَا قَالَ فِي غَدٍ أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ غَدًا مَعْنَاهُ فِي غَدٍ إلَّا أَنَّهُ حَذَفَ عَنْهُ حَرْفَ الظَّرْفِ اخْتِصَارًا فَكَانَ كَالْمُصَرَّحِ بِهِ فِي الْحُكْمِ. وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِيمَا إذَا نَوَى آخِرَ النَّهَارِ فَقَالَ فِي قَوْلِهِ فِي غَدٍ يُصَدَّقُ دِيَانَةً وَقَضَاءً وَفِي قَوْلِهِ غَدًا يُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً. عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي مَوْضِعِهِ أَيْ مِنْ شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالْمَبْسُوطِ أَنَّ الظَّرْفَ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْفِعْلُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ اقْتَضَى اسْتِيعَابَهُ إنْ أَمْكَنَ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ شَابَهَ الْمَفْعُولَ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ صَارَ مَعْمُولًا لِلْفِعْلِ وَمَنْصُوبًا بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا اتَّسَعَ فِي مِثْلِ هَذَا الظَّرْفِ وَلَمْ يُقَدَّرْ فِيهِ حَرْفَ فِي أَخَذَ حُكْمَ الْمَفْعُولِ بِهِ حَتَّى إذَا أَخْبَرْت عَنْهُ بِاَلَّذِي عَمِلْت بِهِ مَا عَمِلْت بِالْمَفْعُولِ بِهِ فَقُلْت فِي مِثْلِ قَوْلِك مُتَّسَعًا سِرْت يَوْمَ الْجُمُعَةِ الَّذِي سِرْته يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَمَا تَقُولُ الَّذِي ضَرَبْته زَيْدٌ وَلَمْ يَقُلْ الَّذِي سِرْت فِيهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. وَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ الْفِعْلُ بِوَاسِطَةِ حَرْفِ الظَّرْفِ اقْتَضَى وُقُوعَهُ فِي جُزْءٍ مِنْهُ إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الظَّرْفِيَّةِ الِاسْتِيعَابُ. وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ قُلْنَا إذَا قَالَ غَدًا وَنَوَى آخِرَ النَّهَارِ لَمْ يُصَدَّقْ قَضَاءً لِأَنَّ الطَّلَاقَ اتَّصَلَ بِالْغَدِ بِلَا وَاسِطَةٍ فَاقْتَضَى اسْتِيعَابَ الْغَدِ أَعْنِي كَوْنَهَا مَوْصُوفَةً بِالطَّلَاقِ فِي جَمِيعِ الْغَدِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا فِي أَوَّلِهِ لِيَحْصُلَ الِاسْتِيعَابُ فَإِذَا نَوَى آخِرَ النَّهَارِ فَقَدْ غَيَّرَ مُوجِبَ كَلَامِهِ إلَى مَا هُوَ تَخْفِيفٌ عَلَيْهِ فَلَا يُصَدَّقُ قَضَاءً وَلَكِنَّهُ يُصَدَّقُ دِيَانَةً لِأَنَّهُ نَوَى مُحْتَمَلَ كَلَامِهِ. وَأَمَّا إذَا قَالَ فِي غَدٍ فَمُوجِبُ كَلَامِهِ الْوُقُوعُ فِي جُزْءٍ مِنْ الْغَدِ مُبْهَمٍ وَإِلَيْهِ وِلَايَةُ التَّعْيِينِ كَمَا لَوْ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ فَإِذَا نَوَى آخِرَ النَّهَارِ كَانَتْ نِيَّتُهُ تَعْيِينًا لِمَا أَبْهَمَهُ لَا تَغْيِيرًا لِلْحَقِيقَةِ فَيُصَدَّقُ قَضَاءً كَمَا يُصَدَّقُ دِيَانَةً وَإِذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا كَانَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِعَدَمِ الْمُزَاحَمِ وَالسَّبْقِ فَلِذَلِكَ يَقَعُ فِيهِ. ثُمَّ اسْتَوْضَحَ مَا ذَكَرَ مِنْ الْفَرْقِ فَقَالَ وَذَلِكَ أَيْ الْفَرْقُ الَّذِي ذَكَرْنَا مِثْلُ الْفَرْقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ: إنْ صُمْت الدَّهْرَ فَكَذَا. كَانَ شَرْطُ الْحِنْثِ صَوْمَ جَمِيعِ الْعُمُرِ وَلَوْ قَالَ: إنْ صُمْت فِي الدَّهْرِ كَانَ شَرْطُ الْحِنْثِ صَوْمَ سَاعَةٍ مَعْنَاهُ أَنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ إلَى اللَّيْلِ فِي وَقْتِهِ ثُمَّ يُفْطِرُ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْلِهِ (وَإِذَا أُضِيفَ)

إلَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ إضْمَارُ الْفِعْلِ فَيَصِيرُ بِمَعْنَى الشَّرْطِ وَقَدْ يُسْتَعَارُ هَذَا الْحَرْفُ لِلْمُقَارَنَةِ إذَا نُسِبَ إلَى الْفِعْلِ فَقِيلَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي دُخُولِ الدَّارِ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا وَفِي الظَّرْفِ مَعْنَى الْمُقَارَنَةِ فَجُعِلَ مُسْتَعَارًا بِمَعْنَاهُ فَصَارَ بِمَعْنَى الشَّرْطِ وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ الزِّيَادَاتِ أَنْتِ طَالِقٌ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ وَأَخَوَاتُهُمَا فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَيْ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ إلَى الْمَكَانِ بِأَنْ قِيلَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي الدَّارِ أَوْ فِي الظِّلِّ أَوْ فِي الشَّمْسِ طَلُقَتْ فِي الْحَالِ حَيْثُمَا كَانَتْ لِأَنَّ الْمَكَانَ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا لِلطَّلَاقِ إذْ الظَّرْفُ لِلشَّيْءِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصْفِ لَهُ وَمَا كَانَ وَصْفًا لِلشَّيْءِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِلتَّخْصِيصِ وَالْمَكَانُ لَا يَصْلُحُ مُخَصَّصًا لِلطَّلَاقِ بِحَالٍ لِأَنَّهُ إذَا وَقَعَ فِي مَكَان كَانَ وَاقِعًا فِي الْأَمْكِنَةِ كُلِّهَا وَكَذَا الْمَرْأَةُ إذَا اتَّصَفَتْ بِهِ فِي مَكَان تُوصَفُ بِهِ فِي جَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ وَإِذَا لَمْ يَصْلُحْ مُخَصَّصًا لَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ بِمَعْنَى الشَّرْطِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جُعِلَ بِمَعْنَى الشَّرْطِ وَهُوَ مَوْجُودٌ كَانَ تَنْجِيزًا أَيْضًا لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِأَمْرٍ كَائِنٍ تَنْجِيزٌ. بِخِلَافِ إضَافَتِهِ إلَى الزَّمَانِ لِأَنَّ الزَّمَانَ يَصْلُحُ مُخَصِّصًا لَهُ إذْ الطَّلَاقُ يَكُونُ وَاقِعًا فِي زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ فَإِذَا أَضَافَهُ إلَى زَمَانٍ مَعْدُومٍ فِي الْحَالِ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ بِمَعْنَى الْمُعَلَّقِ بِهِ فَلَا يَقَعُ فِي الْحَالِ. أَلَا أَنْ يُرَادَ بِهِ أَوْ بِقَوْلِهِ فِي الدَّارِ مَثَلًا إضْمَارُ الْفِعْلِ بِأَنْ أُرِيدَ بِهِ فِي دُخُولِك الدَّارَ فَحِينَئِذٍ لَا تَطْلُقُ فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْمَحَلَّ وَإِرَادَتُهُ الْفِعْلُ الْحَالُ فِيهِ. أَوْ ذَكَرَ الْمُسَبَّبَ وَأَرَادَ بِهِ السَّبَبَ إذْ الدُّخُولُ فِي الدَّارِ سَبَبُ كَيْنُونَتِهَا فِيهَا وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ فَكَانَ مَا نَوَى مُحْتَمَلَ كَلَامِهِ فَيَصِحُّ إرَادَتُهُ وَصَارَ الدُّخُولُ مُضْمَرًا فِي الْكَلَامِ وَإِذَا صَارَ مُضْمَرًا كَانَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ لِمَا سَنَذْكُرُهُ. إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي دُخُولِك الدَّارَ لَمْ تَطْلُقْ قَبْلَ الدُّخُولِ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا لِلطَّلَاقِ عَلَى مَعْنَى أَنْ يَكُونَ شَاغَلَا لَهُ لِأَنَّهُ عَرَضٌ لَا يَبْقَى فَتَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ فِي فَيُجْعَلُ مُسْتَعَارًا لِمَعْنَى الْمُقَارَنَةِ لِأَنَّ فِي الظَّرْفِ مَعْنَى الْمُقَارَنَةِ إذْ مِنْ قَضِيَّتِهِ الِاحْتِوَاءُ عَلَى الْمَظْرُوفِ فَيُقَارِنُهُ بِجَوَانِبِهِ الْأَرْبَعَةِ فَصَارَ بِمَعْنَى مَعَ فَيَتَعَلَّقُ وُجُودُ الطَّلَاقِ بِوُجُودِ الدُّخُولِ لِأَنَّ قِرَانَ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي وُجُودَهُ ضَرُورَةً فَكَانَ مِنْ ضَرُورَتِهِ تَعَلُّقُهُ بِوُجُودِ الدُّخُولِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ شَرْطًا مَحْضًا لِأَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ مَعَ الدُّخُولِ لَا بَعْدَهُ فَلِهَذَا قَالَ بِمَعْنَى الشَّرْطِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُجْعَلُ مُسْتَعَارًا لِمَعْنَى الشَّرْطِ لِمُنَاسِبَةٍ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الظَّرْفِ وَالشَّرْطِ لَيْسَ بِمُؤَثِّرٍ فَيَتَعَلَّقُ الْجَزَاءُ بِهِ فَعَلَى هَذَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مُتَأَخِّرًا عَنْ الدُّخُولِ كَمَا لَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ أَنْتِ طَالِقٌ فِي نِكَاحِك فَتَزَوَّجَهَا لَا تَطْلُقُ كَمَا لَوْ قَالَ مَعَ نِكَاحِك وَلَوْ جُعِلَ مُسْتَعَارًا لِلشَّرْطِ لَطَلُقَتْ كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ تَزَوَّجْتُك إلَيْهِ أَشَارَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ بِمَعْنَاهُ رَاجِعٌ إلَى مَا يَرْجِعُ إلَيْهِ ضَمِيرُ جَعَلَ وَهُوَ حَرْفُ فِي وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ جُعِلَ حَرْفُ فِي مُسْتَعَارًا لِمَعْنَى الْمُقَارَنَةِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ. أَوْ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى الْمُقَارَنَةِ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَالْبَاءُ بِمَعْنَى اللَّامِ أَيْ جَعَلَ حَرْفَ فِي مُسْتَعَارًا لِمَعْنَى الْمُقَارَنَةِ. وَعَلَى هَذَا أَيْ عَلَى أَنَّ فِي تَصِيرُ بِمَعْنَى الشَّرْطِ بُنِيَتْ مَسَائِلُ فِي الزِّيَادَاتِ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ فِي شَرْحِ الزِّيَادَاتِ إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ أَوْ فِي إرَادَتِهِ أَوْ فِي رِضَاهُ أَوْ فِي مَحَبَّتِهِ أَوْ فِي أَمْرِهِ وَفِي إذْنِهِ أَوْ فِي حُكْمِهِ أَوْ فِي قُدْرَتِهِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ أَصْلًا إلَّا فِي عِلْمِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ فِيهِ فِي الْحَالِ لِأَنَّ كَلِمَةَ فِي لِلظَّرْفِيَّةِ حَقِيقَةُ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ حَمْلُهَا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ بِأَنْ صَحِبَتْ الْأَفْعَالَ فَيُحْمَلُ عَلَى التَّعْلِيقِ لِمُنَاسِبَةٍ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الِاتِّصَالِ وَالْمُقَارَنَةِ غَيْرَ أَنَّهُ إنَّمَا يَصِحُّ حَمْلُهَا عَلَى التَّعْلِيقِ إذَا كَانَ الْفِعْلُ مِمَّا يَصِحُّ وَصْفُهُ بِالْوُجُودِ وَبِضِدِّهِ لِيَصِيرَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ فَيَكُونُ تَعْلِيقًا وَالْمَشِيئَةُ وَالْإِرَادَةُ وَالرِّضَاءُ وَالْمَحَبَّةُ مِمَّا يَصِحُّ وَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ، وَبِضِدِّهِ

إلَّا فِي عِلْمِ اللَّهِ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعْلُومِ وَلَا يَصْلُحُ شَرْطًا بَلْ يَسْتَحِيلُ وَإِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي الدَّارِ وَأَضْمَرَ الدُّخُولَ صُدِّقَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَصِيرُ بِمَعْنَى مَا قُلْنَا وَعَلَى هَذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ يَلْزَمُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلظَّرْفِ فَلَغْوٌ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ مَعْنَى مَعَ أَوْ وَاوِ الْعَطْفِ فَيُصَدَّقُ لِمَا قُلْنَا إنَّ فِي الظَّرْفِ مَعْنَى الْمُقَارَنَةِ فَيَصِيرُ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ مُنَاسِبًا لَمَعَ وَلِلْعَطْفِ فَيَلْزَمُهُ عِشْرُونَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فِي وَاحِدَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ وَإِنْ نَوَى مَعْنَى مَعَ وَقَعَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَإِنْ نَوَى الْوَاوَ وَقَعَتْ وَاحِدَةً. وَمِنْ ذَلِكَ حُرُوفِ الْقَسَمِ وَهِيَ الْبَاءُ وَالْوَاوُ وَالتَّاءُ وَمَا وُضِعَ لِذَلِكَ وَهُوَ اَيْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ وَهُوَ لَعَمْرُ اللَّهِ فَأَمَّا الْبَاءُ فَهِيَ لِلْإِلْصَاقِ وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى فِعْلٍ مَحْذُوفٍ مَعْنَاهُ أَقْسِمُ لَهُ أَوْ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَإِنَّهُ يَصِحُّ شَاءَ اللَّهُ كَذَا وَلَمْ يَشَأْ كَذَا وَأَرَادَ وَلَمْ يُرِدْ وَأَحَبَّ وَلَمْ يُحِبَّ وَكَذَا الْأَمْرُ وَالرِّضَاءُ وَالْحُكْمُ وَالْإِذْنُ فَكَانَ إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَيْهَا تَعْلِيقًا وَالتَّعْلِيقُ بِهَا بِحَقِيقَةِ الشَّرْطِ إبْطَالٌ لِلْإِيجَابِ فَكَذَا هَذَا، أَمَّا الْعِلْمُ فَلَا يَصِحُّ وَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِضِدِّهِ لِأَنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [سبأ: 3] فَكَانَ التَّعْلِيقُ بِهِ تَحْقِيقًا وَتَنْجِيزًا فَيَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ. وَيُشْكِلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا الْقُدْرَةُ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ وَصْفُهُ تَعَالَى بِضِدِّهَا وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ لَكِنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ أَنَّ الْقُدْرَةَ هَاهُنَا بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ وَقُرِئَ قَوْله تَعَالَى. {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات: 23] . بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} [النمل: 57] . وَالتَّقْدِيرُ مِمَّا يَصِحُّ وَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ وَبِضِدِّهِ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ قَدَّرَ اللَّهُ كَذَا وَلَا يُقَدِّرُ كَذَا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِإِضَافَتِهِ إلَيْهَا قَوْلُهُ (إلَّا فِي عِلْمِ اللَّهِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ لَا يَقَعُ. لِأَنَّهُ أَيْ الْعِلْمَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعْلُومِ اسْتِعْمَالًا شَائِعًا يُقَالُ اغْفِرْ اللَّهُمَّ عِلْمَكَ فِينَا أَيْ مَعْلُومَك وَيُقَالُ عِلْمُ أَبِي حَنِيفَةَ وَيُرَادُ مَعْلُومُهُ وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ بِعِلْمِ اللَّهِ لَا يَكُونُ يَمِينًا وَإِذَا كَانَ مُسْتَعْمَلًا بِمَعْنَى الْمَعْلُومِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُجْعَلَ بِمَعْنَى الشَّرْطِ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَا يَكُونُ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ وَمَعْلُومُ اللَّهِ تَعَالَى مُتَحَقِّقٌ لَا مَحَالَةَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ وَاقِعًا فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَعْلُومَ اللَّهِ تَعَالَى ظَرْفًا لِلطَّلَاقِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الطَّلَاقُ فِي مَعْلُومِهِ أَنْ لَوْ كَانَ وَاقِعًا فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَاقِعًا لَكَانَ عَدَمُهُ فِي مَعْلُومِهِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. فَإِنْ قِيلَ لَوْ قَالَ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ لَمْ يُطَلِّقْ وَقَدْ يَسْتَعْمِلُ الْقُدْرَةَ بِمَعْنَى الْمَقْدُورِ فَقَدْ يَقُولُ مَنْ يَسْتَعْظِمُ شَيْئًا هَذَا قُدْرَةُ اللَّهِ. قُلْنَا مَعْنَى هَذَا اسْتِعْمَالُ أَنَّهُ أَثَرُ قُدْرَةِ اللَّهِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ يُقَامُ الْمُضَافُ إلَيْهِ مَقَامَ الْمُضَافِ فَفُهِمَ الْمَقْدُورُ مِنْ الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ لَا مِنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَمِثْلُهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْعِلْمِ إذْ الْقُدْرَةُ مِنْ الْمُؤْثَرَاتِ بِخِلَافِ الْعِلْمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ اللَّهُ تَعَالَى مَعْلُومٌ لَنَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ اللَّهُ مَقْدُورُنَا قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَرْفَ يُسْتَعَارُ لِلْمُقَارَنَةِ حُمِلَ عَلَى مَعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ النِّيَّةِ فَإِذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِي عَشْرَةِ دَرَاهِمَ يَلْزَمُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ عِنْدَنَا إلَّا أَنْ يَعْنِيَ مَعْنَى مَعَ فَيَلْزَمُهُ عِشْرُونَ. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَلْزَمُهُ عِشْرُونَ بِكُلِّ حَالٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ يَلْزَمُهُ مِائَةٌ؛ لِأَنَّ الْعَشَرَةَ فِي الْعَشَرَةِ فِي مُتَعَارَفِ الْحِسَابِ مِائَةٌ فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا. إلَّا أَنَّا نَقُولُ أَثَّرَ الضَّرْبُ فِي تَكْثِيرِ الْأَجْزَاءِ إلَّا فِي زِيَادَةِ الْمَالِ وَعَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَزْنًا وَإِنْ تَكْثُرْ أَجْزَاؤُهَا لَا تَصِيرُ أَكْثَرَ مِنْ عَشْرَةٍ. وَزُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ هَذَا الْحَرْفِ لِأَنَّ الْعَدَدَ لَا يَكُونُ ظَرْفًا لِمِثْلِهِ بِلَا شُبْهَةٍ حُمِلَ عَلَى مَعَ أَوْ وَاوِ الْعَطْفِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِي الظَّرْفِ مَعْنَى الْمُقَارَنَةِ وَالْجَمْعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] أَيْ مَعَهُمْ. وَإِنَّا نَقُولُ جِهَةُ الْمَجَازِ هَاهُنَا مُتَعَدِّدَةٌ فَإِنَّ فِي قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى عَلَى وَبِمَعْنَى مِنْ كَمَا يَكُونُ بِمَعْنَى مَعَ قَالَ تَعَالَى إخْبَارًا {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] . أَيْ عَلَيْهَا وَقَالَ عَزَّ اسْمُهُ {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} [النساء: 5] . أَيْ مِنْهَا وَلَيْسَ أَحَدُ الْوُجُوهِ أَوْلَى مِنْ الْبَاقِي فَيَعْتَبِرُ أَوَّلَ كَلَامِهِ فَيَلْزَمُهُ عَشْرَةٌ وَيَلْغُو آخِرَهُ. إلَّا أَنْ يَقُولَ عَنَيْت هَذِهِ وَهَذِهِ فَحِينَئِذٍ يُعْمِلُ بَيَانَهُ لِأَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَهُ بِمَعْنَى مَعَ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ فَيُصَدَّقُ. وَلَا يُقَالُ مَعْنَى عَلَى أَوْ مِنْ لَا يَسْتَقِيمُ هَاهُنَا إذْ لَا يُقَالُ عَلَيَّ عَشْرَةٌ عَلَيَّ عَشْرَةٌ وَلَا عَلَيَّ عَشْرَةٌ

[حروف القسم]

وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَكَذَلِكَ فِي الْكِنَايَاتِ تَقُولُ بِك لَأَفْعَلَنَّ كَذَا وَبِهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا فَلَمْ يَكُنْ لَهَا اخْتِصَاصُ الْقَسَمِ. وَأَمَّا الْوَاوُ فَإِنَّهَا اُسْتُعِيرَتْ بِمَعْنَى الْبَاءِ لِأَنَّهَا تُنَاسِبُ صُورَةً وَمَعْنًى أَمَّا الصُّورَةُ فَإِنَّ صُورَتَهَا وُجُودُهَا مِنْ مَخْرَجِهَا بِضَمِّ الشَّفَتَيْنِ مِثْلُ الْبَاءِ وَأَمَّا الْمَعْنَى فَإِنَّ عَطْفَ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِهِ نَظِيرُ إلْصَاقِهِ بِهِ فَاسْتُعِيرَ لَهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يُحْسِنُ إظْهَارُ الْفِعْلِ هَا هُنَا تَقُولُ وَاَللَّهِ وَلَا تَقُولُ أَحْلِفُ وَاَللَّهِ لِأَنَّهُ اُسْتُعِيرَ لِلْبَاءِ تَوْسِعَةً لِصِلَاتِ الْقَسَمِ فَلَوْ صَحَّ الْإِظْهَارُ لَصَارَ مُسْتَعَارًا بِمَعْنَى الْإِلْصَاقِ فَتَصِيرُ الِاسْتِعَارَةُ عَامَّةً فِي بَابِهَا وَإِنَّمَا الْغَرَضُ بِهَا الْخُصُوصُ لَبَابِ الْقَسَمِ الَّذِي يَدْعُو إلَى التَّوْسِعَةِ وَيُشْبِهُ قِسْمَيْنِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْكِنَايَةِ أَعْنِي الْكَافَ ثُمَّ اُسْتُعِيرَ التَّاءُ بِمَعْنَى الْوَاوِ تَوْسِعَةً لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَى الْقَسَمِ لِمَا بَيْنَ الْوَاوِ وَالتَّاءِ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ فَإِنَّهُمَا مِنْ حُرُوفِ الزَّوَائِدِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِثْلُ التُّرَاثِ لُغَةً فِي الْوَارِثِ وَالتَّوْرِيَةُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَلَمَّا صَارَ ذَلِكَ دَخِيلًا عَلَى مَا لَيْسَ بِأَصْلٍ انْحَطَّتْ رُتْبَتُهُ عَنْ رُتْبَةِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فَقِيلَ لَا تَدْخُلُ إلَّا فِي اسْمِ اللَّهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُقْسَمُ بِهِ غَالِبًا فَجَازَ تَاللَّهِ وَلَمْ يَجُزْ تَالرَّحِيمِ وَقَدْ يُحْذَفُ حَرْفُ الْقَسَمِ تَخْفِيفًا فَيُقَالُ اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ عَشْرَةٍ فَكَانَ مَعْنَى الْمُقَارَنَةِ مُتَعَيِّنًا فَوَجَبَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ كَمَا قَالَ زُفَرُ. لِأَنَّا نَقُولُ الْمَالُ لَا يَجِبُ بِالشَّكِّ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ أَصْلٌ وَقَدْ أَمْكَنَ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى تَكْثِيرِ الْأَجْزَاءِ فَلَا وَجْهَ لِلْمَصِيرِ إلَى الْمَجَازِ وَإِيجَابِ الزِّيَادَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَمِثْلُ قَوْلِهِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشْرَةٌ فِي عَشْرَةٍ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فِي وَاحِدَةٍ فِي أَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْمَذْكُورَ الْأَوَّلَ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ فَيَقَعُ وَاحِدَةً سَوَاءٌ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ لَمْ تَكُنْ وَيَصِحُّ إرَادَةُ مَعَ أَوْ الْوَاوِ إلَّا أَنَّهُ إذَا أَرَادَ مَعَ لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا فَتَقَعَانِ جَمِيعًا وَإِنْ أَرَادَ الْوَاوَ يَقَعُ ثِنْتَانِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا وَوَاحِدَةٌ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِالْوَاوِ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً. [حُرُوفِ الْقَسَمِ] قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِنْ بَابِ حُرُوفِ الْجَرِّ وَمِنْ بَابِ حُرُوفِ الْمَعَانِي حُرُوفُ الْقَسَمِ. وَالْقَسَمُ جُمْلَةٌ إنْشَائِيَّةٌ يُؤَكَّدُ بِهَا جُمْلَةٌ أُخْرَى وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ السُّكُوتُ عَلَيْهِ فَلَا تَقُولُ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ وَتَسْكُتُ بَلْ يَجِبُ أَنْ تَأْتِيَ بِالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ فَتَقُولُ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ لِأَنَّك لَمْ تَقْصِدْ الْإِخْبَارَ بِالْحَلِفِ وَإِنَّمَا قَصَدْت أَنْ تُخْبِرَ بِأَمْرٍ آخَرَ نَحْوَ لَأَفْعَلَنَّ إلَّا أَنَّك أَكَّدْته وَنَفَيْت عَنْهُ الشَّكَّ بِأَنْ أَقْسَمْت عَلَيْهِ. وَهِيَ الْبَاءُ وَالْوَاوُ وَالتَّاءُ فَإِنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْقَسَمِ وَإِنْ لَمْ تُوضَعْ لَهُ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ أَيْضًا. وَمَا وُضِعَ لِذَلِكَ أَيْ لِلْقَسَمِ وَهُوَ اَيْمُ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَمْ يُوضَعْ إلَّا لِلْقَسَمِ وَلِهَذَا لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي غَيْرِهِ. وَمَا يُؤَدِّي مَعْنَى الْقَسَمِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. وَأَمَّا الْبَاءُ فَهِيَ الَّتِي لِلْإِلْصَاقِ أَيْ الْبَاءِ الَّتِي فِي الْقَسَمِ لَيْسَتْ بِحَرْفٍ مَوْضُوعٍ لِلْقَسَمِ بَلْ هِيَ الْبَاءُ الَّتِي لِلْإِلْصَاقِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا احْتَاجُوا إلَى إلْصَاقِ فِعْلِ الْحَلِفِ بِمَا يَقْسِمُونَ بِهِ اسْتَعْمَلُوهَا فِيهِ اسْتِعْمَالَهُمْ إيَّاهَا فِي قَوْلِهِمْ كَتَبْت بِالْقَلَمِ إلَّا أَنَّهُمْ حَذَفُوا الْفِعْلَ لِكَثْرَةِ الْقَسَمِ فِي كَلَامِهِمْ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ الْبَاءِ عَلَيْهِ كَمَا حَذَفُوا فِي بِسْمِ اللَّهِ فَقَالُوا بِاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ مُرِيدِينَ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ أَوْ أُقْسِمُ بِهِ فَكَانَتْ الْبَاءُ دَالَّةً عَلَى فِعْلٍ مَحْذُوفٍ. وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَسْمَاءِ أَيْ كَمَا تَدُلُّ الْبَاءُ عَلَى فِعْلٍ مَحْذُوفٍ فِي بِاَللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ تَدُلُّ عَلَى فِعْلٍ مَحْذُوفٍ فِي الْحَلِفِ بِسَائِرِ الْأَسْمَاءِ مِثْلَ قَوْلِهِ بِالرَّحْمَنِ وَبِالرَّحِيمِ بِالْقُدُّوسِ لَأَفْعَلَنَّ. وَالصِّفَاتُ مِثْلُ قَوْلِهِ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَبِجَلَالِهِ وَبِعَظَمَتِهِ وَبِكِبْرِيَائِهِ. فَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَيْ لِلْبَاءِ اخْتِصَاصٌ بِالْقَسَمِ يَعْنِي لِمَا كَانَ دُخُولُهَا فِي الْقَسَمِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْإِلْصَاقِ لَا أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لَهُ لَمْ تَكُنْ مُخْتَصَّةً بِالْقَسَمِ لِأَنَّ الْإِلْصَاقَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ. وَأَمَّا الْوَاوُ فَإِنَّهَا أَسْتُعِيرَتْ فِي الْقَسَمِ بَدَلًا مِنْ الْبَاءِ لِمُنَاسِبَةٍ بَيْنَهُمَا صُورَةً وَمَعْنًى كَمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ. وَشَرْطُ إبْدَالِهَا حَذْفُ الْفِعْلِ وَلِهَذَا قِيلَ إنَّهَا عِوَضٌ عَنْ الْفِعْلِ وَمِنْ ثَمَّةَ جَازَ أَقْسَمْت بِاَللَّهِ وَامْتَنَعَ أَقْسَمْت وَاَللَّهِ كَذَا فِي بَعْضِ شُرُوحِ الْمُفَصَّلِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ لَا يَحْسُنُ إظْهَارُ الْفِعْلِ لَا يَجُوزُ. لِأَنَّهُ أَيْ الْوَاوَ اُسْتُعِيرَ لِلْبَاءِ تَوْسِعَةً لِصِلَاتِ الْقَسَمِ إذْ الْحَاجَةُ دَعَتْ إلَى الِاسْتِعَارَةِ فِي بَابِ الْقَسَمِ لِكَثْرَةِ دَوْرِهِ عَلَى الْأَلْسِنَةِ لَا لِمَعْنَى الْإِلْصَاقِ فَلَوْ صَحَّ إظْهَارُ الْفِعْلِ مَعَ الْوَاوِ لَصَارَ الْوَاوُ مُسْتَعَارًا لِمَعْنَى الْإِلْصَاقِ إذْ لَا مَعْنَى لَهُ عِنْدَ ظُهُورِ الْفِعْلِ إلَّا الْإِلْصَاقُ كَالْبَاءِ. فَتَصِيرُ الِاسْتِعَارَةُ عَامَّةً فِي بَابِهَا فِي بَابِ اسْتِعَارَةِ الْوَاوِ لِلْبَاءِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ صِحَّةُ اسْتِعْمَالِهِ مَكَانَ الْبَاءِ فِي غَيْرِ الْقَسَمِ أَيْضًا فَيُقَال مَرَرْت وَزَيْدٍ بِالْجَرِّ بِمَعْنَى بِزَيْدٍ وَبِعْت هَذَا الْعَبْدَ وَأَلْفِ دِرْهَمٍ بِمَعْنَى بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ إذْ لَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ مِنْ أَحَدٍ. وَلِأَنَّهُ خُرُوجٌ عَنْ الْغَرَضِ إذْ الْغَرَضُ لَهَا أَيْ لِاسْتِعَارَةِ الْوَاوِ لِلْبَاءِ الْخُصُوصُ لِبَابِ الْقَسَمِ إذْ الدَّاعِي إلَيْهَا وَهُوَ الْحَاجَةُ إلَى التَّوْسِعَةِ مُخْتَصٌّ بِهِ. قَوْلُهُ (وَيُشْبِهُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQقِسْمَيْنِ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا يَعْنِي لَا يَجُوزُ إظْهَارُ الْفِعْلِ مَعَ الْوَاوِ فَلَوْ أَظْهَرَ مَعَ ذَلِكَ كَانَ فِي مَعْنَى قِسْمَيْنِ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَحْلِفُ بِانْفِرَادِهِ يَمِينٌ. وَكَذَا قَوْلُهُ وَاَللَّهِ فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَصْلُحْ الْوَاوُ رَابِطَةً صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ ثُمَّ قَالَ وَاَللَّهِ بِخِلَافِ الْبَاءِ لِأَنَّهَا لِلْإِلْصَاقِ فَيَكُونُ الْكُلُّ كَلَامًا وَاحِدًا فَيَكُونُ يَمِينًا وَاحِدَةً. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى فَيَصِيرُ أَيْ لَوْ صَحَّ إظْهَارُ الْفِعْلِ صَارَتْ الِاسْتِعَارَةُ عَامَّةً وَأَشْبَهَ كَلَامُهُ قِسْمَيْنِ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ أَحْلِفُ وَاَللَّهِ بِمَعْنَى بِاَللَّهِ كَانَ بِظَاهِرِهِ قَسَمَانِ لِمَا ذَكَرْنَا وَغَرَضُهُ قَسَمٌ وَاحِدٌ فَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ بِظَاهِرِهِ مُخَالِفًا لِغَرَضِهِ فَلَمْ يَكُنْ خَالِيًا عَنْ خَلَلٍ فَكَانَ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ أَوْلَى. وَكَأَنَّ الشَّيْخَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّمَا قَالَ لَا يَحْسُنُ إظْهَارُ الْفِعْلِ فَلَمْ يَقُلْ لَا يَجُوزُ إشَارَةً مِنْهُ إلَى أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَلْغُو عِنْدَ إظْهَارِ الْفِعْلِ وَلَكِنَّهُ يُشْبِهُ قِسْمَيْنِ وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلْغَرَضِ. وَلَا تَدْخُلُ أَيْ وَاوُ الْقَسَمِ فِي الْكِنَايَةِ أَيْ فِي الْمُضْمَرِ لَا يُقَالُ وَكَلَأَفْعَلَنَّ وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ الْكِنَايَةِ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ مُتَنَاوِلًا لِلضَّمَائِرِ وَغَيْرِهَا احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ أَعْنِي الْكَافَ عَنْ غَيْرِ الضَّمَائِرِ. ثُمَّ اُسْتُعِيرَ التَّاءُ بِمَعْنَى الْوَاوِ أَيْ أُبْدِلَ التَّاءُ عَنْهَا عَلَى طَرِيقَةِ الْإِبْدَالِ فِي نَحْوِ تُرَاثٍ، وَتَوْرِيَةٍ، وَتُجَاهٍ، وَتُخَمَةٍ، وَتُهْمَةٍ، إذْ الْأَصْلُ فِيهَا وَارِثٌ فُعَالٌ مِنْ وَرِثَ وِرَاثَةً، وَوَوْرَاةٌ فَوْعَلَةٌ مِنْ وَرِيَ الزَّنْدُ يَرِي وَرْيًا، إذَا أَخْرَجَ نَارَهُ وَوِجَاهٌ مِنْ الْوَجْهِ، وَوَخِمَةٌ مِنْ وَخِمَ الرَّجُلُ وَخَامَةً إذَا لَمْ يَهْنَأْ الطَّعَامُ لَهُ، وَهِمَّةٌ مِنْ الْوَهْمِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ يَقَعُ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ كَالظَّنِّ. وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الْقَصِيدَةِ الشَّاطِبِيَّةِ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي التَّوْرِيَةِ فَذَهَبَ الْبَصْرِيُّونَ إلَى أَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ وَرِيَ الزَّنْدُ وَهُوَ الضَّوْءُ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْهُ عِنْدَ الْقَدْحِ فَكَأَنَّهَا ضِيَاءٌ وَنُورٌ وَوَزْنُهَا فَوْعَلَةٌ كَدَوْحَلَةٍ وَحَوْقَلَةٍ فَأُبْدِلَتْ وَاوُهَا تَاءً عَلَى حَدِّ تُجَاهٍ وَتُخَمَةٍ وَقُلِبَتْ يَاؤُهَا أَلْفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ وَزْنُهَا تَفَعُّلَةٌ كَتَنَفُّلٍ فِي تَنَفَّلَ وَضَعُفَ ذَلِكَ لِقِلَّةِ هَذَا الْبِنَاءِ وَشُذُوذِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ تَفْعِلَةٌ كَتَوْصِيَةٍ فَفُتِحَتْ عَيْنُهَا وَقُلِبَتْ تَاؤُهَا أَلْفًا وَقَدْ فُعِلَ ذَلِكَ فِي نَاصِيَةٍ وَجَارِيَةٍ فَقِيلَ نَاصَاةٍ وَجَارَاةٍ فِي لُغَةِ طَيِّئٍ وَضَعُفَ ذَلِكَ أَيْضًا لِعَدَمِ إطْرَادِهِ فِي تَوْصِيَةٍ وَتَوْقِيَةٍ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِيهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ اسْمَانِ أَعْجَمِيَّانِ وَتَكَلَّفَ اشْتِقَاقَهُمَا مِنْ الْوَرِيِّ وَالنَّجْلِ وَوَزْنُهُمَا بِفَوْعَلَةٍ وَإِفْعِيلٍ إنَّمَا يَصِحُّ بَعْدَ كَوْنِهِمَا عَرَبِيَّتَيْنِ. قَالَ وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْإِنْجِيلُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْعُجْمَةِ عَلَى أَفْعِيلٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَدِيمِ أَوْزَانِ الْعَرَبِ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الِاسْتِشْهَادَ فِي الْكِتَابِ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَقَطْ. ثُمَّ الشَّيْخُ ذَكَرَ أَنَّ الْمَعْنَى الْمُجَوِّزَ لِلْمَجَازِ كَوْنُهُمَا مِنْ حُرُوفِ الزَّوَائِدِ وَذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ وَجْهًا آخَرَ فَقَالَ اتَّكَلْت عَلَى فُلَانٍ فِي أَمْرِي إذَا اعْتَمَدْته وَأَصْلُهُ اوْتَكَلْتُ قُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا ثُمَّ أُبْدِلَتْ مِنْهَا التَّاءُ فَأُدْغِمَتْ فِي تَاءِ الِافْتِعَالِ ثُمَّ بُنِيَتْ عَلَى هَذَا الْإِدْغَامِ أَسْمَاءٌ مِنْ الْمِثَالِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا تِلْكَ الْعِلَّةُ تَوَهُّمًا أَنَّ التَّاءَ أَصْلِيَّةٌ لِأَنَّ هَذَا الْإِدْغَامَ لَا يَجُوزُ إظْهَارُهُ فِي حَالٍ فَمِنْ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ التَّكْلُ وَالتُّكْلَانُ وَالتُّخَمَةُ وَالنَّجَاةُ وَالتُّرَاثُ وَالتَّقْوَى وَإِذَا صُغِّرَتْ قُلْت تُكَيْلَةٌ وَتُخَيْمَى وَلَا تُعِيدُ الْوَاوَ لِأَنَّ هَذِهِ حُرُوفٌ أُلْزِمَتْ الْبَدَلُ فَتَثْبُتُ فِي التَّصْغِيرِ وَالْجَمْعِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ أَنَّ الْوَاوَ فِي اتَّعَدَ قُلِبَتْ تَاءً لِأَنَّ الْوَاوَ قَرِيبَةٌ مِنْ التَّاءِ وَقَدْ وَقَعَ بَعْدَهَا تَاءُ الِافْتِعَالِ وَهِيَ تُقْلَبُ تَاءً بِغَيْرِ سَبَبٍ كَثِيرًا نَحْوَ تُخَمَةٍ وَتُجَاهٍ وَتُرَاثٍ فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ بِمَنْزِلَةِ اجْتِمَاعِ مُتَقَارِبَيْنِ يَنْقَلِبُ أَحَدُهُمَا إلَى

لَكِنَّهُ بِالنَّصْبِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَهُوَ مَذْهَبُنَا وَبِالْخَفْضِ عِنْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ مَا يَتَّصِلُ بِهَذَا الْأَصْلِ مِثْلَ قَوْلِ الرَّجُلِ وَاَللَّهِ اللَّهِ وَاَللَّهِ الرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْجَامِعِ. . ـــــــــــــــــــــــــــــQصَاحِبِهِ لِيَقَعَ الْإِدْغَامُ. وَلَا يَجُوزُ تَالرَّحْمَنِ وَتَالرَّحِيمِ قَدْ حَكَى أَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشُ تَرَبِّ الْكَعْبَةِ وَلَكِنَّهُ شَاذٌّ لَا يُؤْخَذُ بِهِ. قَوْلُهُ (لَكِنَّهُ) أَيْ الْمُقْسَمُ بِهِ بِالنَّصْبِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ. حَاصِلُهُ أَنَّ الْخَفْضَ فِي الْقَسَمِ بِإِضْمَارِ حَرْفِ الْخَفْضِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ جَائِزٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَعِنْدَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِعِوَضٍ نَحْوَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَهَاءِ التَّنْبِيهِ فِي قَوْلِهِمْءَاللَّهِ مَا فَعَلْت كَذَا وَقَوْلُهُمْ لَا هَا اللَّهِ. احْتَجَّ الْكُوفِيُّونَ بِمَا تَقُولُ الْعَرَبُ اللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ فَيَقُولُ الْمُجِيبُ اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ مَقْصُورَةٍ فِي الثَّانِيَةِ فَيُخْفَضُ بِتَقْدِيرِ حَرْفِ الْخَفْضِ وَإِنْ كَانَ مَحْذُوفًا. وَقَدْ جَاءَ فِي كَلَامِهِمْ إعْمَالُ حَرْفِ الْخَفْضِ مَعَ الْحَذْفِ فَقَدْ حَكَى يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ أَنَّ مِنْ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ مَرَرْت بِرَجُلٍ صَالِحٍ إلَّا صَالِحٍ فَطَالِحٍ أَيْ إلَّا أَكُنْ مَرَرْت بِرَجُلٍ صَالِحٍ فَقَدْ مَرَرْت بِطَالِحٍ. وَرُوِيَ عَنْ رُؤْبَةَ الْعَجَّاجِ أَنَّهُ إذَا قِيلَ لَهُ كَيْفَ أَصْبَحْت كَانَ يَقُولُ: خَيْرٍ. عَافَاك اللَّهُ أَيْ بِخَيْرٍ وَفِي الشَّوَاهِدِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْأَشْعَارِ كَثِيرَةٌ. وَأَمَّا الْبَصْرِيُّونَ فَقَالُوا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي حُرُوفِ الْجَرِّ أَنْ لَا تَعْمَلَ مَعَ الْحَذْفِ وَإِنَّمَا تَعْمَلُ مَعَ الْحَذْفِ فِي بَعْضِ الْمَاضِي إذَا كَانَ عَنْهَا عِوَضٌ فَبَقِيَتْ فِيمَا عَدَاهُ عَلَى الْأَصْلِ. وَلَا تَمَسُّكَ لَهُمْ فِيمَا ذَكَرُوا لِأَنَّ الْجَوَازَ فِي قَوْلِهِ اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ ثَبَتَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ كَمَا ثَبَتَ دُخُولُ حَرْفِ النِّدَاءِ عَلَيْهِ مَعَ الْأَلْفِ وَاللَّامِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ فِي غَيْرِهِ لِشُذُوذِهِ وَقِلَّتِهِ. وَكَذَا مَا حَكَى يُونُسُ وَمَا رُوِيَ عَنْ رُؤْبَةَ وَمَا نُقِلَ مِنْ الْأَشْعَارِ فِي ذَلِكَ كُلِّهَا مِنْ الشَّوَاذِّ الَّتِي لَا يُعْتَدُّ بِهَا فَلَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهَا كَذَا فِي كِتَابِ الْإِنْصَافِ لِلْأَنْبَارِيِّ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي الْمُقْتَصِدِ وَأَمَّا حَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ الَّذِي هُوَ الْبَاءُ فِي بِاَللَّهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُحْذَفَ وَيُوصَلَ الْفِعْلُ إلَى الِاسْمِ فَيَنْصِبَهُ فَيُقَالُ اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَأَنَّهُ قَالَ حَلَفْت اللَّهَ لَأَفْعَلَنَّ وَعَلَى ذَلِكَ ثَبَتَ الْكِتَابُ: أَلَا رُبَّ مَنْ قَلْبِي لَهُ اللَّهِ نَاصِحٌ ... وَمَنْ قَلْبُهُ لِي فِي الظِّبَاءِ السَّوَانِحِ التَّقْدِيرُ أَلَا رُبَّ مَنْ قَلْبِي لَهُ نَاصِحٌ بِاَللَّهِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ تُضْمَرَ وَيَبْقَى الْجَرُّ فَيُقَالُ اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ وَالْأَكْثَرُ النَّصْبُ لِأَنَّ الْجَارَّ لَا يُضْمَرُ إلَّا قَلِيلًا وَإِلَيْهِ مَالَ صَاحِبُ الْمُفَصَّلِ أَيْضًا. فَعَلَى هَذَا لَا خِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ إذْ الْخِلَافُ فِي الْأَوْلَوِيَّةِ لَا فِي الْجَوَازِ قَوْلُهُ (وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ مَا يَتَّصِلُ بِهَذَا الْأَصْلِ) وَهُوَ أَنَّ حَذْفَ حَرْفِ الْقَسَمِ جَائِزٌ فَقِيلَ إذَا قَالَ وَاَللَّهِ اللَّهِ لَا أُكَلِّمُك فَكَلَّمَهُ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ اسْمَ اللَّهِ إنْ لَمْ يَكُنْ مُشْتَقًّا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ كَانَ قَوْلُهُ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَدَلِ عَنْ الْأَوَّلِ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُشْتَقِّ لَا يَصْلُحُ نَعْتًا فَصَارَ كَأَنَّهُ سَكَتَ وَاسْتَأْنَفَ الْحَلِفَ بِقَوْلِهِ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَالْقَسَمُ بِغَيْرِ حَرْفٍ صَحِيحٌ وَإِنْ اُخْتُلِفَ فِي إعْرَابِهِ كَمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانَ مُشْتَقًّا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْبَعْضُ كَانَ نَعْتًا لِلْأَوَّلِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ وَاَللَّهِ الْمَعْبُودِ الْحَقِّ الْمَقْصُودِ لَا أُكَلِّمُك فَلَا يَلْزَمُهُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ. وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ الرَّحْمَنِ لَا أُكَلِّمُك فَكَلَّمَهُ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ جَعَلَ الرَّحْمَنَ خَارِجًا مَخْرَجَ النَّعْتِ لِلْأَوَّلِ فَصَارَ الِاسْتِشْهَادُ وَاحِدًا فِي كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ وَتَسْمِيَتِهِ فَلَا يَتَعَدَّدُ الْهَتْكُ. وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ لَا أُكَلِّمُك فَكَلَّمَهُ لَزِمَتْهُ كَفَّارَتَانِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِاتِّحَادِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ فَإِنَّ قِوَامَ الْيَمِينِ فَعَمْرُك بِهِ فَعَمْرُك عَلَيْهِ وَاتِّحَادُ الْأَوَّلِ مَعَ تَعَدُّدِ الثَّانِي يُوجِبُ كَوْنَهُ يَمِينًا وَاحِدَةً فَكَذَا عَكْسُهُ. وَقُلْنَا إنَّ قَوْلَهُ وَاَللَّهِ عَمْرُك بِهِ. وَقَوْلُهُ وَالرَّحْمَنِ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ

[ايم الله]

وَأَمَّا اَيْمُ اللَّهِ فَأَصْلُهُ أَيْمُنُ اللَّهِ وَهُوَ جَمْعُ يَمِينٍ وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَمَّا مَذْهَبُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَهُوَ قَوْلُنَا إنَّ ذَلِكَ صِلَةٌ وُضِعَتْ لِلْقَسَمِ لَا اشْتِقَاقَ لَهَا مِثْلُ صَهٍ وَمَهْ وَبَخٍ وَالْهَمْزَةُ لِلْوَصْلِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُوصَلُ إذَا تَقَدَّمَهُ حَرْفٌ مِثْلُ سَائِرِ حُرُوفِ الْوَصْلِ وَلَوْ كَانَ لِبِنَاءِ الْجَمْعِ وَصِيغَتُهُ لِمَا ذَهَبَ عِنْدَ الْوَصْلِ وَالْكَلَامُ فِيهِ يَطُولُ وَأَمَّا لَعَمْرُ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّامَ فِيهِ لِلِابْتِدَاءِ وَالْعَمْرُ الْبَقَاءُ وَمَعْنَاهُ لِبَقَاءِ اللَّهِ هُوَ الَّذِي أُقْسِمُ بِهِ فَيَصِيرُ تَصْرِيحًا لِمَعْنَى الْقَسَمِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الرَّجُلِ جَعَلْت هَذَا الْعَبْدَ مِلْكًا لَك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَنَّهُ تَصْرِيحٌ لِمَعْنَى الْبَيْعِ فَيَجْرِي مَجْرَاهُ فَكَذَلِكَ هَذَا ـــــــــــــــــــــــــــــQفَكَانَ غَيْرُهُ فِي تَسْمِيَةِ الْحَالِفِ فَتَعَدَّدَ الِاسْتِشْهَادُ فَتَعَدَّدَ الْهَتْكُ فَتَعَدَّدَتْ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهَا جَزَاءُ الْهَتْكِ وَصَارَ فِي حَقِّ الْمُقْسَمِ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْيَمِينَيْنِ وَإِنْ كَانَ الْبِرُّ وَاحِدًا. إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِالْوَاوِ فِي وَالرَّحْمَنِ وَاوَ الْقَسَمِ فَيَكُونُ يَمِينًا وَاحِدَةً لِأَنَّهُ إذَا نَوَى وَاوَ الْقَسَمِ انْقَطَعَ الْكَلَامُ وَصَارَ كَأَنَّهُ سَكَتَ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ وَالرَّحْمَنِ لَا أُكَلِّمُك وَلَمْ يَحْمِلْ عَلَيْهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْوَصْلِ فِي الْأَصْلِ وَعَلَى اعْتِبَارِ الْوَصْلِ يَصِيرُ وَاوُ الْقَسَمِ مُدْرَجًا كَمَا تَقُولُ مَرَرْت بِزَيْدٍ وَعَمْرٍو أَيْ وَبِعَمْرٍو. وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُك فَكَلَّمَهُ حَيْثُ يُحْمَلُ عَلَى وَاوِ الْقَسَمِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ حَتَّى تَلْزَمَهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ عَطْفَ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ قَبِيحٌ فَيَجْعَلُ الْوَاوَ لِلْقَسَمِ فَكَانَ رَدُّ الْأَوَّلِ كَأَنَّهُ سَكَتَ عَلَيْهِ وَاسْتَأْنَفَ الْكَلَامَ فَكَانَ يَمِينًا وَاحِدَةً فَلَا يَلْزَمُهُ بِالْهَتْكِ إلَّا كَفَّارَةً وَاحِدَةً. [اَيْمُ اللَّهِ] قَوْلُهُ (وَأَمَّا اَيْمُ اللَّهِ) إلَى آخِرِهِ. اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُمْ فِي الْقَسَمِ أَيْمُنُ اللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ اسْمٌ مُفْرَدٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ وَلَيْسَ بِجَمْعِ يَمِينٌ وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ هُوَ جَمْعُ يَمِينٍ لِأَنَّ وَزْنَ أَفْعُلَ مُخْتَصٌّ بِالْجَمْعِ وَلَا يَكُونُ فِي الْمُفْرَدِ. يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ التَّقْدِيرَ فِي قَوْلِهِمْ أَيْمُنُ اللَّهِ عَلَيَّ أَيْمُنُ اللَّهِ أَيْ أَيْمَانُ اللَّهِ أَوْ أَيْمُنُ اللَّهِ يَمِينِي. وَقَدْ جَاءَ جَمْعُ يَمِينٍ عَلَى أَيْمُنٍ كَقَوْلِهِ: يَأْتِي لَهَا مِنْ أَيْمُنٍ وَأَشْمُلٍ وَكَقَوْلِ زُهَيْرٍ: فَيُجْمَعُ أَيْمُنٌ مِنَّا وَمِنْكُمْ ... بِمُقْسِمِهِ تَمُورُ بِهَا الدِّمَاءُ وَالْأَصْلُ فِي هَمْزَتِهَا أَنْ تَكُونَ مَقْطُوعَةً لِأَنَّهَا جَمْعٌ إلَّا أَنَّهَا وُصِلَتْ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَبَقِيَتْ فَتَحْتُهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ وَلَوْ كَانَتْ هَمْزَةُ وَصْلٍ لَكَانَتْ مَكْسُورَةً. وَاحْتَجَّ الْبَصْرِيُّونَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَمْعًا لَوَجَبَ قَطْعُ الْهَمْزَةِ فِيهِ وَلَمَّا سَقَطَتْ فِي بَيْدِ كَمَا فِي أَحْرُفٍ وَأَكْلُبٍ وَلَمَّا سَقَطَتْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَتْ بِجَمْعٍ. يُؤَيِّدُهُ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي أَيْمُنِ اللَّهِ مِ اللَّهِ وَلَوْ كَانَ جَمْعًا لَمَا جَازَ حَذْفُ جَمِيعِ حُرُوفِهِ إلَّا حَرْفًا وَاحِدًا إذْ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي كَلَامِهِمْ. وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الْوَزْنَ مُخْتَصٌّ بِالْجَمْعِ فَقَدْ جَاءَ فِي الْمُفْرَدِ أَيْضًا مِثْلُ آنُكِ وَآسُدٌ. وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِمْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْهَمْزَةِ الْقَطْعُ وَلَكِنَّهَا وُصِلَتْ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا جَازَ كَسْرُهَا وَقَدْ جَازَ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ فَدَلَّ أَنَّ الْوَصْلَ فِي الْهَمْزَةِ أَصْلٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِجَمْعٍ كَذَا فِي الْإِنْصَافِ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي الْمُقْتَصِدِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي هَمْزَةِ أَيْمُنُ الْقَطْعُ لِأَنَّهَا جَمْعُ يَمِينٍ وَلَكِنَّهُمْ وَصَلُوهَا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَكَذَا إذَا قِيلَ اَيْمُ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّامَ مَحْذُوفَةٌ مِنْ أَيْمُنٍ وَقَدْ دَعَاهُمْ الْحِرْصُ عَلَى التَّخْفِيفِ بِكَثْرَةِ تَصَرُّفِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ إلَى أَنْ احْتَجَفُوا بِهَا فَرَدُّوهَا إلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ فَقَالُوا مِ اللَّهِ فَمَالَ إلَى قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَذَكَرَ فِي الْإِقْلِيدِ أَنَّهَا أَيْ كَلِمَةُ أَيْمُنٍ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ اُشْتُقَّتْ مِنْ الْيُمْنِ، سَاكِنَةُ الْأَوَّلِ فَاجْتُلِبَتْ الْهَمْزَةُ لِلِابْتِدَاءِ كَمَا اُجْتُلِبَتْ فِي ابْنٍ وَأَشْبَاهِهِ. وَحَاصِلُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي اَيْمُ اللَّهِ أَيْمُنُ اللَّهِ بِالِاتِّفَاقِ إلَّا أَنَّ الْأَيْمُنَ جَمْعُ يَمِينٍ عِنْدَ الْبَعْضِ وَاسْمٌ مُفْرَدٌ مُشْتَقٌّ مِنْ الْيُمْنِ عِنْدَ آخَرِينَ فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ أَنَّ ذَلِكَ أَيْ اَيْمُ اللَّهِ. صِلَةٌ وُضِعَتْ لِلْقَسَمِ أَيْ كَلِمَةٌ بِنَفْسِهَا يُوصَلُ بِهَا الْقَسَمُ بِمَنْزِلَةِ الْبَاءِ فِي بِاَللَّهِ لَا اشْتِقَاقَ لَهَا أَيْ لَا أَصْلَ لَهَا تَرْجِعُ إلَيْهِ قَوْلٌ آخَرُ خَارِجٌ عَنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ ظَفَرَ الشَّيْخُ بِهِ وَاخْتَارَهُ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْعُمُرُ) إذَا قُلْت لَعَمْرُكَ لَأَفْعَلَنَّ فَعَمْرُك مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ لَعَمْرُكَ قَسَمِي

[أسماء الظروف]

وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ أَسْمَاءُ الظُّرُوفِ وَهِيَ مَعَ وَبَعْدَ وَقَبْلَ وَعِنْدَ أَمَّا مَعَ فَلِلْمُقَارَنَةِ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً مَعَ وَاحِدَةٍ أَوْ مَعَهَا وَاحِدَةٌ أَنَّهُ يَقَعُ ثِنْتَانِ مَعًا قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَبْلَ لِلتَّقْدِيمِ حَتَّى إنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ دُخُولِك الدَّارَ طَلُقَتْ لِلْحَالِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَوْ مَا أُقْسِمُ بِهِ فَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى قَوْلِك أَقْسَمْت بِعُمُرِك وَإِذَا قُلْت لَعَمْرُ اللَّهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ الْبَاقِي. وَإِضْمَارُ هَذَا الْخَبَرِ لَازِمٌ كَإِضْمَارِ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ بَعْدَ لَوْلَا فَلَا يُقَالُ لَعَمْرُ اللَّهِ قَسَمِي كَمَا لَا يُقَالُ لَوْلَا زَيْدٌ مَوْجُودٌ لَكَانَ كَذَا فَإِنْ لَمْ تَأْتِ بِاللَّامِ نَصَبْته نَصْبَ الْمَصَادِرِ وَهُوَ الْقَسَمُ أَيْضًا وَقُلْت عَمْرُك مَا فَعَلْت كَذَا وَعَمَّرَك اللَّهُ مَا فَعَلَتْ كَذَا أَيْ بِتَعْمِيرِك اللَّهِ وَإِقْرَارِك لَهُ بِالْبَقَاءِ. وَالْعَمْرُ وَالْعُمُرُ وَإِنْ كَانَا مُتَّفِقِينَ فِي الْمَعْنَى وَهُوَ الْبَقَاءُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي الْيَمِينِ إلَّا الْفَتْحُ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الْمِثْلِ وَفِي الِاخْتِصَاصِ ضَرْبٌ مِنْ تَغْيِيرِ اللَّفْظِ لِتَغْيِيرِ الْمَعْنَى. وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ عَمَرَ الرَّجُلُ مِنْ حَدِّ عِلْمٍ أَيْ بَقِيَ عُمُرًا وَعَمْرًا عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ لِأَنَّ قِيَاسَ مَصْدَرِهِ التَّحْرِيكُ. [أَسْمَاءُ الظُّرُوفِ] قَوْلُهُ (وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ) أَيْ مِنْ قِسْمِ حُرُوفِ الْمَعَانِي أَسْمَاءُ الظُّرُوفِ. أَلْحَقَهَا بِحُرُوفِ الْمَعَانِي لِمُشَابِهَتِهَا بِالْحُرُوفِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا لَا تُفِيدُ مَعَانِيَهَا إلَّا بِإِلْحَاقِهَا بِأَسْمَاءٍ أُخَرَ كَالْحُرُوفِ. أَمَّا مَعَ فَلِلْمُقَارَنَةِ هَذَا مَعْنًى أَصْلِيٌّ لَهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَك جَاءَ زَيْدٌ مَعَ عَمْرٍو يَقْتَضِي مَجِيئَهُمَا مَعًا فَلِذَلِكَ وَقَعَتْ تَطْلِيقَتَانِ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً مَعَ وَاحِدَةٍ أَوْ مَعَهَا وَاحِدَةٌ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ. وَكَذَا لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشْرَةٌ مَعَ كُلِّ دِرْهَمٍ مِنْ هَذِهِ الدَّرَاهِمِ الْعَشَرَةِ دِرْهَمٌ يَلْزَمُهُ عِشْرُونَ دِرْهَمًا. وَذَكَرَ فِي الْهَادِي لِلشَّادِّي أَنَّ مَعَ إذَا كَانَتْ سَاكِنَةَ الْعَيْنِ فَهِيَ حَرْفٌ وَإِنْ كَانَتْ مُتَحَرِّكَةَ الْعَيْنِ فَهِيَ اسْمٌ وَكِلَاهُمَا بِمَعْنَى الْمُصَاحَبَةِ. وَذَكَرَ فِي الصِّحَاحِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ السُّدِّيَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعَ اسْمٌ حَرَكَةُ آخِرِهِ مَعَ تَحَرُّكِ مَا قَبْلَهُ وَقَدْ يُسَكَّنُ وَيُنَوَّنُ نَقُولُ جَاءُوا مَعًا. وَأَمَّا كَوْنُهُ مِنْ الظُّرُوفِ فَمَذْكُورٌ فِي بَعْضِ كُتُبِ النَّحْوِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ كَعِنْدَ لِأَنَّ انْتِصَابَ الْعَيْنِ فِيهِ لَيْسَ لِلْبِنَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُقَالُ جَاءَ فُلَانٌ مِنْ مَعَهُمْ بِخَفْضِ الْعَيْنِ كَمَا يُقَالُ جَاءَ مِنْ عِنْدِهِمْ فَدَلَّ أَنَّ انْتِصَابَهُ عَلَى الظَّرْفِ كَانْتِصَابِ عِنْدَ وَكَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَدَّرَ فِيهِ مَعْنَى فِي فَإِنَّ قَوْلَك زَيْدٌ مَعَ عَمْرٍو مَعْنَاهُ فِي مُصَاحَبَةِ عَمْرٍو كَمَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُهُ فِي عِنْدَ فِي قَوْلِك زَيْدٌ عِنْدَ عَمْرٍو أَيْ فِي حَضْرَتِهِ. وَقَبْلَ لِلتَّقْدِيمِ وَالسَّبَقِ فَإِذَا وُصِفَ الطَّلَاقُ بِالْقَبْلِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ كَانَ إيقَاعًا فِي الْحَالِ وَلَا يَقْتَضِي وُجُودَ مَا بَعْدَهُ فَإِنَّ صِحَّةَ التَّكْفِيرِ فِي قَوْله تَعَالَى. {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] . لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الْمَسِيسِ بَعْدَهُ. وَصِحَّةُ الْإِيمَانِ فِي قَوْله تَعَالَى {آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا} [النساء: 47] . لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الطَّمْسِ بَعْدَهُ بَلْ يُسْتَفَادُ بِهِ الْأَمْنُ عَنْهُ. فَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ دُخُولِك الدَّارَ أَوْ قَبْلَ قُدُومِ فُلَانٍ طَلُقَتْ لِلْحَالِ دَخَلَتْ الدَّارَ بَعْدُ أَوْ لَمْ تَدْخُلْ قَدِمَ فُلَانٌ أَوْ لَمْ يَقْدَمْ. إذَا قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَ وَاحِدَةٍ تَقَعُ وَاحِدَةً. وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَهَا وَاحِدَةٌ وَقَعَتْ ثِنْتَانِ. وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ تَقَعُ ثِنْتَانِ. وَلَوْ قَالَ بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ تَقَعُ وَاحِدَةً وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَحُكْمُهَا أَيْ حُكْمُ كَلِمَةِ بَعْدَ فِي الطَّلَاقِ ضِدُّ كَلِمَةِ قَبْلَ يَعْنِي فِي الصُّورَتَيْنِ. وَالْأَصْلُ فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ شَيْئَانِ. أَحَدُهُمَا أَنَّ الظَّرْفَ إذَا أُدْخِلَ بَيْنَ اسْمَيْنِ وَلَمْ يَتَّصِلْ بِهِ كِنَايَةٌ كَانَ صِفَةً لِلْمَذْكُورِ أَوَّلًا وَإِنْ اتَّصَلَ بِهِ كِنَايَةٌ كَانَ صِفَةً لِلْمَذْكُورِ آخِرًا فَإِذَا قَالَ جَاءَنِي زَيْدٌ قَبْلَ عَمْرٍو كَانَتْ الْقَبْلِيَّةُ صِفَةً لِزَيْدٍ وَإِذَا قَالَ قَبْلَهُ عَمْرٌو كَانَتْ الْقَبْلِيَّةُ صِفَةً لِعَمْرٍو

وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَهَا وَاحِدَةٌ تَقَعُ ثِنْتَانِ وَلَوْ قَالَ قَبْلَ وَاحِدَةٍ تَقَعُ وَاحِدَةً وَبَعْدَ لِلتَّأْخِيرِ وَحُكْمُهُمَا فِي الطَّلَاقِ ضِدُّ حُكْمِ قَبْلَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الظَّرْفَ إذَا قُيِّدَ بِالْكِنَايَةِ كَانَ صِفَةً لِمَا بَعْدَهُ وَإِذَا لَمْ يُقَيَّدْ كَانَ صِفَةً لِمَا قَبْلَهُ هَذَا الْحَرْفُ أَصْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَعِنْدَ لِلْحَضْرَةِ حَتَّى إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ كَانَ وَدِيعَةً لِأَنَّ الْحَضْرَةَ تَدُلُّ عَلَى الْحِفْظِ دُونَ اللُّزُومِ وَالْوُقُوعِ عَلَيْهِ عَلَى هَذَا قُلْنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْمُرَادُ بِكَوْنِ الْقَبْلِيَّةِ صِفَةً لِكَذَا كَوْنُهَا صِفَةً مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَيْ التَّقَدُّمُ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ صِفَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ لِكَذَا فَأَمَّا اللَّفْظُ فَمَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ وَلَوْ كَانَتْ صِفَةً لَفْظًا لَمْ يَكُنْ إلَّا لِلْمَذْكُورِ أَوَّلًا. وَالْأَصْلُ الثَّانِي مَنْ أَقَرَّ بِطَلَاقٍ سَابِقٍ يَكُونُ ذَلِكَ إيقَاعًا مِنْهُ فِي الْحَالِ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ الْإِسْنَادِ الْوُقُوعُ فِي حَالٍ وَهُوَ مَالِكٌ لِلْإِيقَاعِ فِي الْحَالِ غَيْرُ مَالِكٍ لِلْإِسْنَادِ فَيَثْبُتُ الْإِيقَاعُ فِي الْحَالِ تَصْحِيحًا لِكَلَامِهِ. فَإِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَ وَاحِدَةٍ كَانَتْ الْقَبْلِيَّةُ صِفَةً لِلْوَاحِدَةِ الْأُولَى وَلَوْ لَمْ يُقَيِّدْهَا بِهَذَا الْوَصْفِ لَكِنْ قَالَ وَوَاحِدَةٌ لَوَقَعَتْ الْأُولَى سَابِقَةً وَلَغَتْ الثَّانِيَةُ لِعَدَمِ الْمَحَلِّ فَعِنْدَ التَّأْكِيدِ بِهِ أَوْلَى وَصَارَ مَعْنَاهُ قَبْلَ وَاحِدَةٍ تَقَعُ عَلَيْك. وَإِذَا قَالَ وَاحِدَةً قَبْلَهَا وَاحِدَةٌ كَانَتْ الْقَبْلِيَّةُ صِفَةً لِلثَّانِيَةِ وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ تَقْدِيمُ الثَّانِيَةِ وَفِي وُسْعِهِ الْقِرَانِ كَمَا إذَا قَالَ مَعَهَا وَاحِدَةٌ فَيَثْبُتُ مِنْ قَصْدِهِ قَدْرُ مَا كَانَ فِي وُسْعِهِ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ قَبْلَهَا وَاحِدَةٌ وَقَعَتْ عَلَيْك. وَكَذَا إذَا قَالَ بَعْدَ وَاحِدَةٍ وَقَعَتْ ثِنْتَانِ لِأَنَّ الْبَعْدِيَّةَ تَصِيرُ صِفَةً لِلْأُولَى فَتَقْتَضِي تَأْخِيرَ الْأُولَى وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ ذَلِكَ بَعْدَمَا أَوْجَبَهَا وَفِي وُسْعِهِ الْجَمْعُ فَيَثْبُتُ مِنْ قَصْدِهِ ذَلِكَ وَصَارَ مَعْنَى كَلَامِهِ بَعْدَ وَاحِدَةٍ تَقَعُ عَلَيْك. وَإِذَا قَالَ بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ وَقَعَتْ لِأَنَّ الْبَعْدِيَّةَ صِفَةٌ لِلثَّانِيَةِ فَلَا تَقَعُ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُؤَكِّدْ الثَّانِيَةَ بِالْبَعْدِيَّةِ لَا تَقَعُ الثَّانِيَةُ لِمَا ذَكَرَ فَعِنْدَ التَّأْكِيدِ أَوْلَى وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ بَعْدَ الْأُولَى الَّتِي وَقَعَتْ عَلَيْك. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ قَبْلَ دِرْهَمٍ يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ قَبْلًا نَعْتٌ لِلْمَذْكُورِ أَوَّلًا فَكَأَنَّهُ قَالَ دِرْهَمٌ قَبْلَ دِرْهَمٍ آخَرَ يَجِبُ عَلَيَّ. وَلَوْ قَالَ قَبْلَهُ دِرْهَمٌ فَعَلَيْهِ دِرْهَمَانِ لِأَنَّهُ نَعْتٌ لِلْمَذْكُورِ آخِرًا أَيْ قَبْلَهُ دِرْهَمٌ قَدْ وَجَبَ عَلَيَّ. وَلَوْ قَالَ دِرْهَمٌ بَعْدَ دِرْهَمٍ أَوْ بَعْدَهُ دِرْهَمٌ يَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ بَعْدَ دِرْهَمٍ قَدْ وَجَبَ أَوْ بَعْدَ دِرْهَمٍ قَدْ وَجَبَ لَا يُفْهَمُ مِنْ الْكَلَامِ إلَّا هَذَا. وَفِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ دِرْهَمٌ الْإِقْرَارُ مُخَالِفٌ لِلطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ الطَّلَاقِ هُنَاكَ لَا يَقَعُ وَالدِّرْهَمُ بَعْدَ الدِّرْهَمِ يَجِبُ دَيْنًا كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالطَّلَاقِ فِي قَوْلِهِ وَحُكْمُهَا فِي الطَّلَاقِ ضِدُّ حُكْمِ قَبْلَ احْتِرَازٌ عَنْ الْإِقْرَارِ وَقَوْلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا إشَارَةٌ إلَى الْمَذْكُورِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالْمَبْسُوطِ. لِأَنَّ الْحَضْرَةَ تَدُلُّ عَلَى الْحِفْظِ كَمَا إذَا قَالَ لِآخَرَ وَضَعْت هَذَا الشَّيْءَ عِنْدَك يُفْهَمُ مِنْهُ الِاسْتِحْفَاظُ وَكَمَا لَوْ قَالَ لِنَاشِدِ الضَّالَّةِ لَا تَطْلُبْ ضَالَّتَك فَإِنَّهَا عِنْدِي يُفْهَمُ مِنْهُ الْحِفْظُ أَيْ هِيَ مَحْفُوظَةٌ عِنْدِي. وَكَمَا لَوْ كَانَ رَجُلَانِ فِي مَجْلِسٍ فَخَرَجَ أَحَدُهُمَا وَتَرَكَ مَتَاعَهُ وَجَبَ عَلَى الْآخَرِ الْحِفْظُ حَتَّى لَوْ تَرَكَهُ صَارَ ضَامِنًا بِتَرْكِ الْحِفْظِ فَثَبَتَ أَنَّ الْحَضْرَةَ تَدُلُّ عَلَى الْحِفْظِ. وَفِي الْمَبْسُوطِ إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ كَانَ إقْرَارًا الْوَدِيعَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُرْبِ وَهِيَ تَحْتَمِلُ الْقُرْبَ مِنْ يَدِهِ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِالْأَمَانَةِ وَمِنْ ذِمَّتِهِ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ إلَّا الْأَقَلُّ وَهُوَ الْوَدِيعَةُ وَلَوْ قَالَ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ فَهِيَ دَيْنٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ عِنْدِي مُحْتَمَلٌ فَسَّرَهُ بِأَحَدِ الْمُحْتَمَلَيْنِ فَكَانَ تَفْسِيرُهُ صَحِيحًا. وَعَلَى هَذَا قُلْنَا أَيْ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تَدُلُّ عَلَى الظَّرْفِ عَلَى تَفَاوُتِ مَعَانِيهَا قُلْنَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَقَدْ دَخَلَ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْسَ لَهُ نِيَّةٌ لَمْ تَطْلُقْ إلَّا وَاحِدَةً عِنْدَنَا وَإِذَا ذَكَرَ الْأَلْفَاظَ الْمَذْكُورَةَ تَطْلُقُ ثَلَاثًا وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَطْلُقُ ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي

[حروف الاستثناء]

وَإِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّ يَوْمٍ طَلُقَتْ وَاحِدَةً وَلَوْ قَالَ عِنْدَ كُلِّ يَوْمٍ أَوْ مَعَ كُلِّ يَوْمٍ طَلُقَتْ ثَلَاثًا وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي كُلَّ يَوْمٍ فَهُوَ ظِهَارٌ وَاحِدٌ وَلَوْ قَالَ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَوْ مَعَ كُلِّ يَوْمٍ أَوْ عِنْدَ كُلِّ يَوْمٍ يُجَدَّدُ عِنْدَ كُلِّ يَوْمٍ ظِهَارٌ. وَهَذَا لِمَا قُلْنَا أَنَّهُ إذَا حَذَفَ اسْمَ الظَّرْفِ كَانَ الْكُلُّ ظَرْفًا وَاحِدًا فَإِذَا أَثْبَتَهُ صَارَ كُلُّ فَرْدٍ بِانْفِرَادِهِ ظَرْفًا عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا فِي مَسْأَلَةِ الْغَدِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ حُرُوفُ الِاسْتِثْنَاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَيْضًا لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ إيقَاعٌ وَكَلِمَةُ كُلَّ تَجْمَعُ الْأَسْمَاءَ فَقَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ مُوقِعَ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ وَذَلِكَ بِتَجَدُّدِ الْوُقُوعِ إلَى أَنْ تَطْلُقَ ثَلَاثًا كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ. وَلَكِنَّنَا نَقُولُ صِيغَةُ كَلَامِهِ وَصْفٌ قَدْ وَصَفَهَا بِالطَّلَاقِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَهِيَ بِالتَّطْلِيقَةِ الْوَاحِدَةِ يَتَّصِفُ بِهِ فِي الْأَيَّامِ كُلِّهَا وَإِنَّمَا جَعَلْنَا كَلَامَهُ إيقَاعًا لِضَرُورَةِ تَحْقِيقِ الْوَصْفِ وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِالْوَاحِدَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَبَدًا لَمْ تَطْلُقْ إلَّا وَاحِدَةً. بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ لِأَنَّ حَرْفَ فِي لِلظَّرْفِ وَالزَّمَانُ ظَرْفٌ لِلطَّلَاقِ مِنْ حَيْثُ الْوُقُوعِ فِيهِ فَمَا يَكُونُ الْيَوْمُ ظَرْفًا لَهُ لَا يَصْلُحُ الْغَدُ ظَرْفًا لَهُ فَتَجَدَّدَ الْإِيقَاعُ لِتَحْقِيقِ مَا اقْتَضَاهُ حَرْفُ فِي كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَفِي قَوْلِهِ كُلَّ يَوْمٍ إنْ قَالَ أَرَدْت أَنَّهَا طَالِقٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلِيقَةً أُخْرَى فَهُوَ كَمَا نَوَى وَتَطْلُقُ ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِأَنَّهُ أَضْمَرَ حَرْفَ فِي. وَكَذَا قَوْلُهُ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي كُلَّ يَوْمٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْخِلَافِ فَيَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ يَوْمٍ ظِهَارٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا وَهُوَ ظِهَارُ وَاحِدَةٍ وَيَدْخُلُ فِيهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَبَدًا. وَلَوْ قَالَ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَوْ مَعَ كُلِّ يَوْمٍ أَوْ عِنْدَ كُلِّ يَوْمٍ تَجَدَّدَ عِنْدَ كُلِّ يَوْمٍ ظِهَارٌ لَكِنْ لَا يَدْخُلُ اللَّيْلُ فِي الظِّهَارِ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَقْرَبَهَا بِاللَّيْلِ لِأَنَّ تَوْقِيتَ الظِّهَارِ عِنْدَنَا صَحِيحٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي هَذَا الْيَوْمَ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ اللَّيْلُ. وَهَذَا أَيْ التَّفْرِقَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا بَيْنَ حَذْفِ الظَّرْفِ وَإِثْبَاتِهِ. لِمَا قُلْنَا فِي مَوْضِعِهِ مِنْ الْمَبْسُوطِ أَنَّهُ إذَا حَذَفَ لَفْظَ الظَّرْفِ كَانَ الْكُلُّ أَيْ كُلُّ الْأَيَّامِ ظَرْفًا وَاحِدًا لِلطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ فَلَا يَقَعُ إلَّا تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ وَظِهَارٌ وَاحِدٌ. فَإِذَا أَثْبَتَهُ أَيْ لَفْظَ الظَّرْفِ بِأَنْ قَالَ عِنْدَ كُلِّ يَوْمٍ مَثَلًا صَارَ كُلُّ فَرْدٍ أَيْ كُلُّ يَوْمٍ بِانْفِرَادِهِ ظَرْفًا عَلَى حِدَةٍ لِأَنَّ الظَّرْفَ حِينَئِذٍ كَلِمَةُ عِنْدَ مُضَافَةً إلَى كُلِّ يَوْمٍ فَيَسْتَدْعِي مَظْرُوفًا عَلَى حِدَةٍ فَيَتَجَدَّدُ الطَّلَاقُ وَالظِّهَارُ عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا فِي مَسْأَلَةِ الْغَدِ مِنْ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ حَذْفِ فِي وَإِثْبَاتِهِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُؤَيِّدُ مَذْهَبَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْغَدِ. فَإِنْ قِيلَ إنَّ أَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا لَمْ يُفَرِّقَا فِي مَسْأَلَةِ الْغَدِ بَيْنَ حَذْفِ فِي وَإِثْبَاتِهِ وَهَاهُنَا فَرَّقَا بَيْنَ حَذْفِ الظَّرْفِ وَإِثْبَاتِهِ فَمَا وَجْهُ الْفَرْقِ لَهُمَا بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ. قُلْنَا وَجْهُهُ أَنَّ الْغَدَ ظَرْفٌ وَاحِدٌ بِلَا شُبْهَةٍ لَا يَتَعَدَّدُ بِإِثْبَاتِ فِي وَحَذْفِهِ فَاسْتَوَى فِيهِ الْحَذْفُ وَالْإِثْبَاتُ فَأَمَّا قَوْلُهُ كُلَّ يَوْمٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا وَاحِدًا نَظَرًا إلَى لَفْظِ كُلٍّ فَإِنَّهُ هُوَ الْمُنْتَصِبُ بِالظَّرْفِيَّةِ وَهُوَ لَفْظٌ وَاحِدٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظُرُوفًا مُتَعَدِّدَةً نَظَرًا إلَى مَا أُضِيفَ إلَيْهِ كُلٌّ فَإِنَّهُ مُتَعَدِّدٌ وَإِنَّهُ أَبَدًا يَأْخُذُ حُكْمَ الْمُضَافِ إلَيْهِ فَإِذَا لَمْ يُذْكَرْ حَرْفُ فِي أَوْ ظَرْفٌ آخَرُ وَوَقَعَ عَلَيْهِ الْفِعْلُ جُعِلَ ظَرْفًا وَاحِدًا كَالْأَبَدِ وَإِذَا ذُكِرَ حَرْفُ فِي أَوْ ظَرْفٌ آخَرُ وَانْتَقَلَ عَمَلُ الْفِعْلِ عَنْهُ إلَيْهِ ثُمَّ أُضِيفَ ذَلِكَ الظَّرْفُ إلَى كُلٍّ جُعِلَ ظُرُوفًا مُتَعَدِّدَةً عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ. [حُرُوفُ الِاسْتِثْنَاءِ] قَوْلُهُ (وَمِنْ هَذَا الْبَابِ) أَيْ مِنْ بَابِ حُرُوفِ الْمَعَانِي حُرُوفُ الِاسْتِثْنَاءِ. سَمَّاهَا حُرُوفًا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا كَلِمَةُ إلَّا وَهِيَ حَرْفٌ فَيَكُونُ الْبَوَاقِي جَارِيَةً مَجْرَى التَّبَعِ لَهَا وَهِيَ عَشْرَةٌ: إلَّا، وَغَيْرُ، وَسِوَى، وَسَوَاءٌ، وَلَا يَكُونُ، وَلَيْسَ، وَخَلَا، وَعَدَا، وَمَا خَلَا، وَمَا عَدَا، وَحَاشَا. وَزَادَ أَبُو بَكْرِ بْنُ السَّرَّاجِ لَا سِيَّمَا، وَضَمَّ بَعْضُهُمْ إلَيْهَا بَيْدَ بِمَعْنَى غَيْرَ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ بَلْهَ بِمَعْنَى دَعْ. وَإِنَّمَا يَدْخُلُ لَيْسَ وَلَا يَكُونُ فِي هَذَا الْبَابِ إذَا تَقَدَّمَهَا كَلَامٌ فِيهِ

وَأَصْلُ ذَلِكَ إلَّا وَمَسَائِلُ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ جِنْسِ الْبَيَانِ فَنَذْكُرُهُ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمِنْ ذَلِكَ غَيْرُ وَهُوَ مِنْ الْأَسْمَاءِ يُسْتَعْمَلُ صِفَةً لِلنَّكِرَةِ وَيُسْتَعْمَلُ اسْتِثْنَاءً تَقُولُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دِرْهَمٌ غَيْرُ دَانِقٍ بِالرَّفْعِ صِفَةٌ لِلدِّرْهَمِ فَيَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ تَامٌّ وَلَوْ قَالَ غَيْرَ دَانِقٍ بِالنَّصْبِ كَانَ اسْتِثْنَاءً يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ إلَّا دَانِقًا. وَكَذَلِكَ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دِينَارٌ غَيْرُ عَشْرَةٍ بِالرَّفْعِ لَزِمَهُ دِينَارٌ وَلَوْ نَصَبَهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَلْزَمُهُ دِينَارٌ إلَّا قَدْرَ قِيمَةِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ مِنْهُ وَمَا يَقَعُ مِنْ الْفَصْلِ بَيْنَ الْبَيَانِ وَالْمُعَارَضَةِ نَذْكُرُهُ فِي بَابِ الْبَيَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَسِوَى مِثْلُ غَيْرِ وَذَلِكَ فِي الْجَامِعِ إنْ كَانَ فِي يَدِي دَرَاهِمُ إلَّا ثَلَاثَةً أَوْ غَيْرَ ثَلَاثَةٍ أَوْ سِوَى ثَلَاثَةٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. ـــــــــــــــــــــــــــــQعُمُومٌ كَمَا يَكُونُ فِيمَا قَبْلُ إلَّا لِمَا فِيهِمَا مِنْ مَعْنَى النَّفْيِ عَلَى اخْتِلَافِهِمَا فِي الْأَصْلِ فَإِنَّ لَيْسَ وَلَا دَخَلَتَا عَلَى مَا هُوَ مُثْبَتٌ فَصَيَّرَتَاهُ نَفْيًا. فَإِذَا قَالَ أَعْتَقْت عَبِيدِي لَيْسَ سَالِمًا أَوْ لَا يَكُونُ سَالِمًا لَا يُعْتَقُ سَالِمٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ إلَّا سَالِمًا وَالتَّقْدِيرُ لَيْسَ بَعْضُهُمْ سَالِمًا أَوْ لَا يَكُونُ بَعْضُهُمْ سَالِمًا كَذَا ذَكَرَ فِي كِتَابِ بَيَانِ حَقَائِقِ الْحُرُوفِ. وَأَصْلُ ذَلِكَ إلَّا أَيْ الْأَصْلُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ وَالْحَقِيقَةُ فِيهِ كَلِمَةُ إلَّا لِأَنَّهَا لَازِمَةٌ لِلِاسْتِثْنَاءِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ وَمَا عَدَاهَا قَدْ يَكُونُ اسْتِثْنَاءً وَغَيْرَ اسْتِثْنَاءٍ. وَلِأَنَّ الْمَوْضُوعَ لِنَقْلِ الْكَلَامِ مِنْ مَعْنًى إلَى مَعْنًى فِي سَائِرِ الْأَبْوَابِ هُوَ الْحُرُوفُ لَا الْأَسْمَاءُ وَالْأَفْعَالُ كَحُرُوفِ الِاسْتِفْهَامِ وَحُرُوفِ النَّفْيِ وَحُرُوفِ الشَّرْطِ فَكَذَا فِي هَذَا الْبَابِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَيْ وَمِمَّا يُسْتَثْنَى بِهِ غَيْرُ. وَهُوَ مِنْ الْأَسْمَاءِ لِلُحُوقِ عَلَامَاتِ الِاسْمِ بِهِ مِنْ التَّنْوِينِ وَالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَالْإِضَافَةِ. يُسْتَعْمَلُ صِفَةً لِلنَّكِرَةِ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ بِحَيْثُ لَا تَتَعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ وَإِنْ أُضِيفَ إلَى الْمَعَارِفِ. وَإِنَّمَا وَقَعَ صِفَةً لِلَّذِينَ أَنْعَمَتْ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] . عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ لِأَنَّ الَّذِينَ أَنْعَمْت عَلَيْهِمْ فِي مَعْنَى النَّكِرَةِ إذْ هُوَ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى مَعْنَيَيْنِ وَمِثْلُهُ بِمَنْزِلَةِ النَّكِرَةِ كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي وَيُسْتَعْمَلُ اسْتِثْنَاءً لِمُشَابِهَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إلَّا مِنْ حَيْثُ إنَّ بَعْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُغَايِرٌ لِمَا قَبْلَهُ. وَلِهَذِهِ الْمُشَابَهَةِ تَقَعُ إلَّا مَقَامَ غَيْرِ أَيْضًا قَلِيلًا وَتَسْتَحِقُّ إعْرَابَ الْمَتْبُوعِ مَعَ امْتِنَاعِهَا عَنْهُ فَيُعْطِي مَا بَعْدَهَا وَعَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] . وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «النَّاسُ كُلُّهُمْ مَوْتَى إلَّا الْعَالِمُونَ» . وَقَوْلُ الشَّاعِرُ: وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ ... لَعَمْرُ أَبِيك إلَّا الْفَرْقَدَانِ أَيْ غَيْرُهُمَا. وَلِهَذَا قَالُوا إذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ إلَّا دِرْهَمَانِ بِالرَّفْعِ يَلْزَمُهُ مِائَةٌ لِأَنَّ إلَّا هَاهُنَا بِمَعْنَى غَيْرِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ عَلَيَّ مِائَةٌ هِيَ غَيْرُ دِرْهَمَيْنِ. وَعِنْدَ مَنْ لَا يَعْتَبِرُ الْإِعْرَابَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعَوَامَّ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ صَحِيحِ الْإِعْرَابِ وَفَاسِدِهِ يَلْزَمُهُ ثَمَانِيَةٌ وَتِسْعُونَ كَمَا لَوْ قَالَ إلَّا دِرْهَمَيْنِ بِالنَّصْبِ. وَلَمَّا اُسْتُعْمِلَ اسْتِثْنَاءً وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ إعْرَابٍ لِأَنَّهُ اسْمٌ جُعِلَ إعْرَابُهُ كَإِعْرَابِ الِاسْمِ الْوَاقِعِ بَعْدَ إلَّا لِيُعْلَمَ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ كَوْنِهِ صِفَةً وَاسْتِثْنَاءً أَنَّهُ لَوْ قَالَ جَاءَنِي رَجُلٌ غَيْرُ زَيْدٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ أَنَّ زَيْدًا جَاءَ وَلَمْ يَجِئْ بَلْ كَانَ خَبَرًا أَنَّ غَيْرَهُ جَاءَ وَلَوْ قَالَ جَاءَنِي الْقَوْمُ غَيْرَ زَيْدٍ كَانَ اللَّفْظُ دَالًّا أَنَّ زَيْدًا لَمْ يَجِئْ. وَالثَّانِي أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ صِفَةً يَخْتَصُّ بِالنَّكِرَةِ عَلَى مَا قُلْنَا وَاسْتِعْمَالُهُ اسْتِثْنَاءً لَا يَخْتَصُّ بِالنَّكِرَةِ. وَقَدْ يَقَعُ بِمَعْنَى لَا أَيْضًا فَيَنْتَصِبُ عَلَى الْحَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى. {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة: 173] . أَيْ فَمَنْ اُضْطُرَّ جَائِعًا لَا بَاغِيًا وَلَا عَادِيًا. وَكَذَا {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب: 53] {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} [المائدة: 1] . لِفُلَانٍ عَلَيَّ دِرْهَمٌ غَيْرَ دَانِقٍ أَيْ دِرْهَمٌ مُغَايِرٌ لِلدَّانَقِ وَقَدْ كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ دِرْهَمٌ عَلَى وَزْنِ دَانِقٍ فَأَكَّدَ الْمُقِرُّ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيَّ لَيْسَ ذَلِكَ الدِّرْهَمُ وَإِنَّمَا هُوَ دِرْهَمٌ مُطْلَقٌ فَيَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ تَامٌّ وَهُوَ الَّذِي وَزْنُهُ وَزْنُ سَبْعَةٍ. وَالدَّانِقُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ قِيرَاطَانِ وَالْجَمْعُ دَوَانِقُ وَدَوَانِيقُ. وَمَا يَقَعُ مِنْ الْفَصْلِ إلَى آخِرِهِ يَعْنِي جَعَلَ مُحَمَّدٌ اسْتِثْنَاءَ الدَّرَاهِمِ مِنْ الدَّنَانِيرِ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ وَهُوَ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ كَاسْتِثْنَاءِ الثَّوْبِ مِنْهَا. وَجَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ وَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْبَيَانِ وَتَبَيَّنَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعَارَضَةِ وَالْبَيَانِ فِي ذَلِكَ الْبَابِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ بَيَانَ هَذَا الْفَصْلِ يَأْتِي فِي بَابِ الْبَيَانِ قَوْلُهُ (وَسِوَى) (مِثْلُ غَيْرٍ) يَعْنِي فِي أَنَّهُ يُسْتَثْنَى بِهِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ كُلُّ مَوْضِعٍ جَازَ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ بِإِلَّا جَازَ بِسِوَى وَلِذَلِكَ لَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءً إذَا وَقَعَ

[حروف الشرط]

وَمِنْ ذَلِكَ حُرُوفِ الشَّرْطِ وَهِيَ إنْ وَإِذَا وَإِذَا مَا وَمَتَى وَمَتَى مَا وَكُلُّ وَكُلَّمَا وَمَنْ وَمَا وَإِنَّمَا نَذْكُرُ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ هَذِهِ الْجُمَلِ مَا يَبْتَنِي عَلَيْهِ مَسَائِلُ أَصْحَابِنَا عَلَى الْإِشَارَةِ وَأَمَّا حَرْفُ إنْ فَهُوَ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ وُضِعَ لِلشَّرْطِ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ عَلَى كُلِّ أَمْرٍ مَعْدُومٍ عَلَى خَطَرٍ لَيْسَ بِكَائِنٍ لَا مَحَالَةَ ـــــــــــــــــــــــــــــQبَعْدَ اسْمٍ مُفْرَدٍ نَحْوَ مَرَرْت بِرَجُلٍ سِوَاك لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ بِإِلَّا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ غَيْرِ وَسِوَى أَنَّ غَيْرًا لَا يَكُونُ ظَرْفًا وَأَصْلُهُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً بِمَنْزِلَةِ مِثْلِ لِأَنَّهُ نَقِيضُهُ تَقُولُ مَرَرْت بِرَجُلٍ غَيْرِك كَمَا تَقُولُ بِرَجُلٍ مِثْلِك وَسِوَى ظَرْفُ مَكَان مَنْصُوبًا أَبَدًا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَلَا يَكُونُ صِفَةً تَابِعَةً لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الظَّرْفِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَعْنَى غَيْرٍ. وَبَيَانُ ظَرْفِيَّتِهِ أَنَّ الْعَرَبَ تُجْرِي الظُّرُوفَ الْمَعْنَوِيَّةَ مَجْرَى الظُّرُوفِ الْحَقِيقَةِ فَيَقُولُونَ جَلَسَ فُلَانٌ مَكَانَ فُلَانٍ وَلَا يَعْنُونَ إلَّا مَنْزِلَةً فِي الذِّهْنِ مَقْدِرَةً فَيَنْصِبُونَهُ نَصْبَ الظَّرْفِ الْحَقِيقَةِ وَيَسْتَعْمِلُونَ سِوَى أَيْضًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَيَقُولُونَ مَرَرْت بِرَجُلٍ سِوَاك وَيَعْنُونَ مَكَانَك وَعِوَضًا مِنْك مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَلَزِمَ أَنْ يَنْتَصِبَ انْتِصَابَ الْمَكَانِ لِلظَّرْفِيَّةِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ظَرْفِيَّتِهِ وُقُوعُهُ صِلَةً نَحْوَ جَاءَنِي الَّذِي سِوَاك بِخِلَافِ غَيْرٍ. قَالَ الْإِمَامُ عَبْدُ الْقَاهِرِ وَمِمَّا لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا ظَرْفًا سِوَى لَا تَقُولُ فِي السَّعَةِ هَذَا لِسِوَاك وَلَا عَلَى سِوَاك وَإِنَّمَا تَقُولُ بِمَنْ سِوَاك وَبِرَجُلٍ سِوَاك فَتُجْرِيهِ مَجْرَى قَوْلِك مَرَرْت بِرَجُلٍ مَكَانَك فَيَكُونُ مَنْصُوبًا فِي تَقْدِيرِ فِي مَكَانِك قُلْت قَامَ مَقَامَك وَنَزَلَ مَكَانَك كَمَا تَقُولُ أَخَذْت هَذَا بَدَلَ ذَلِكَ. هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَمِنْ تَابَعَهُ مِنْ الْبَصْرِيِّينَ. وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إلَى أَنَّهُ كَمَا يُسْتَعْمَلُ ظَرْفًا يُسْتَعْمَلُ اسْمًا بِمَعْنَى غَيْرٍ فَيُعْرَبُ كَغَيْرٍ مُتَمَسِّكِينَ بِالْبَيْتِ الْحَمَاسِيِّ: وَلَمْ يَبْقَ سِوَى الْعِدْوَانُ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا وَبِقَوْلِ الْآخَرِ: وَلَا يَنْطِقُ الْمَكْرُوهَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ ... إذَا جَلَسُوا مِنَّا وَلَا مِنْ سَوَائِنَا فَلَوْ لَزِمَ ظَرْفِيَّةُ سِوَى وَسَوَاءٍ لَمَا ارْتَفَعَ الْأَوَّلُ وَلَمَّا انْجَرَّ الثَّانِي. وَالْجَوَابُ أَنَّ إخْرَاجَهُ عَنْ الظَّرْفِيَّةِ لِضَرُورَةِ الشَّعْرِ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَالْكَلَامُ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَعْمِلُوهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إلَّا ظَرْفًا. فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ سِوَى صِفَةً مِثْلَ غَيْرٍ. قَالَ الْأَخْفَشُ إذَا كَانَ سِوَى بِمَعْنَى غَيْرٍ فَفِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ كَسْرُ السِّينِ وَضَمُّهَا مَعَ الْقَصْرِ وَفَتْحُهَا مَعَ الْمَدِّ تَقُولُ مَرَرْت بِرَجُلٍ سِوَاك وَسِوَاك وَسَوَاءَك أَيْ غَيْرِك كَذَا فِي الصِّحَاحِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مَسَائِلَ الْجَامِعِ فِي فَصْلِ مِنْ فَلَا نُعِيدُهَا. [حُرُوفِ الشَّرْطِ] قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ مِنْ بَابِ حُرُوفِ الْمَعَانِي حُرُوفُ الشَّرْطِ أَيْ كَلِمَاتُ الشَّرْطِ أَوْ أَلْفَاظُ الشَّرْطُ وَتَسْمِيَتُهَا حُرُوفًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا كَلِمَةٌ، إنْ وَهُوَ حَرْفٌ فَهُوَ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ لِأَنَّهُ اخْتَصَّ بِمَعْنَى الشَّرْطِ لَيْسَ لَهُ مَعْنًى آخَرُ سِوَاهُ بِخِلَافِ سَائِرِ أَلْفَاظِ الشَّرْطِ فَإِنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي مَعَانٍ أُخَرَ سِوَى الشَّرْطِ. وُضِعَ لِلشَّرْطِ أَيْ هُوَ مَوْضُوعٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى كَيْنُونَةِ مَا بَعْدَهُ شَرْطًا. قَالُوا مَعْنَى كَلِمَةِ (إنْ) رَبْطُ أَحَدِ الْجُمْلَتَيْنِ بِالْأُخْرَى عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأُولَى شَرْطًا وَالثَّانِيَةُ جَزَاءً يَتَعَلَّقُ وُقُوعُهَا بِوُقُوعِ الْأُولَى كَقَوْلِك إنْ تَأْتِنِي أُكْرِمْك يَتَعَلَّقُ الْإِكْرَامُ بِالْإِتْيَانِ. وَإِنَّمَا تَدْخُلُ أَيْ حَرْفُ إنْ عَلَى كُلِّ أَمْرٍ أَيْ شَأْنٍ مَعْدُومٍ لِأَنَّهُ لِلْمَنْعِ أَوْ لِلْحَمْلِ وَمَنْعُ الْمَوْجُودِ وَالْحَمْلُ عَلَيْهِ لَا يَتَحَقَّقُ. عَلَى خَطَرٍ أَيْ تَرَدُّدٍ بَيْنَ أَنْ يُوجَدَ وَبَيْنَ أَنْ لَا يُوجَدَ وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ الْمُسْتَحِيلِ وَعَنْ الْفِعْلِ الْمُتَحَقِّقِ لَا مَحَالَةَ كَمَجِيءِ الْغَدِ بِالنَّظَرِ إلَى الْعَادَةِ قَالَ الْإِمَامُ عَبْدُ الْقَاهِرِ مَا كَانَ مُتَحَقِّقَ الْوُجُودِ لَا يَجُوزُ فِيهِ إنْ وَلَا الْأَسْمَاءُ الْجَازِمَةُ لَا يُقَالُ إنْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ خَرَجْت وَمَتَى تَطْلُعْ الشَّمْسُ أَخْرُجْ لِأَنَّهَا طَالِعَةٌ خَرَجْت أَوْ لَمْ تَخْرُجْ وَالْجَزَاءُ بِإِنْ مَوْضُوعٌ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ مُفْتَقِرٌ إلَى صَاحِبِهِ فِي وُجُودِهِ، وَانْتِفَاءَ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْآخَرِ. وَقَوْلُهُ لَيْسَ

تَقُولُ إنْ زُرْتنِي أَكْرَمْتُك وَلَا يَجُوزُ إنْ جَاءَ غَدٌ أَكْرَمْتُك وَأَثَرُهُ أَنْ يَمْنَعَ الْعِلَّةَ عَنْ الْحُكْمِ أَصْلًا حَتَّى يَبْطُلَ التَّعْلِيقُ وَهَذَا يَكْثُرُ أَمْثِلَتُهُ وَعَلَى هَذَا قُلْنَا إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ إنْ لَمْ أُطَلِّقْك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ حَتَّى يَمُوتَ الزَّوْجُ فَتَطْلُقُ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِقُرْبِ مَوْتِهِ وَكَذَلِكَ إذَا مَاتَتْ الْمَرْأَةُ طَلُقَتْ ثَلَاثًا قَبْلَ مَوْتِهَا فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ وَأَمَّا إذَا فَإِنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ مِنْ الْكُوفِيِّينَ فِيهَا إنَّهَا تَصْلُحُ لِلْوَقْتِ وَلِلشَّرْطِ عَلَى السَّوَاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِكَائِنٍ لَا مُحَالَ تَأْكِيدٌ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الشَّرْطُ فِعْلٌ مُنْتَظَرٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ هُوَ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ بِقَصْدِ نَفْيِهِ أَوْ إثْبَاتِهِ وَلَا يَتَعَقَّبُ الْكَلِمَةَ اسْمٌ لِأَنَّ مَعْنَى الْخَطَرِ فِي الْأَسْمَاءِ لَا يَتَحَقَّقُ وَدُخُولُ هَذَا الْحَرْفِ فِي الِاسْمِ فِي نَحْوِ قَوْله تَعَالَى {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} [النساء: 176] {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ} [النساء: 128] . مِنْ قَبِيلِ الْإِضْمَارِ عَلَى شَرْطِيَّةِ التَّفْسِيرِ أَوْ مِنْ بَابِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَتَعَقَّبُ حَرْفَ الشَّرْطِ هُوَ الْفِعْلُ دُونَ الِاسْمِ. وَأَثَرُهُ أَيْ أَثَرُ حَرْفِ إنْ أَنْ يَمْنَعَ الْعِلَّةَ عَنْ الْحُكْمِ أَيْ يَمْنَعُهَا عَنْ انْعِقَادِهَا عِلَّةً لِلْحُكْمِ. حَتَّى يَبْطُلَ التَّعْلِيقُ أَيْ إلَى أَنْ يَبْطُلَ التَّعْلِيقُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ مَا لَيْسَ بِعِلَّةٍ عِلَّةً. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَثَرُهُ أَنْ يَمْنَعَ الْحُكْمَ عَنْ الْعِلَّةِ وَلَا يَمْنَعُ الْعِلَّةَ عَنْ الِانْعِقَادِ وَسَيَأْتِيك الْكَلَامُ فِيهِ مَشْرُوحًا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَعَلَى هَذَا أَيْ عَلَى أَنْ إنْ لِلشَّرْطِ الْمَحْضِ قُلْنَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ لَمْ أُطَلِّقْك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُلُثًا لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يَمُوتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِأَنَّ إنْ لِلشَّرْطِ وَأَنَّهُ جَعَلَ عَدَمَ إيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا شَرْطًا وَلَا يُتَيَقَّنُ بِوُجُودِ هَذَا الشَّرْطِ مَا بَقِيَا حَيَّيْنِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ إنْ لَمْ آتِ الْبَصْرَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ إنْ مَاتَ الزَّوْجُ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا قَبْلَ مَوْتِهِ بِقَلِيلٍ وَلَيْسَ لِذَلِكَ الْقَلِيلِ حَدٌّ مَعْرُوفٌ وَلَكِنْ قُبَيْلَ مَوْتِهِ يَتَحَقَّقُ عَجْزُهُ عَنْ إيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا فَيَتَحَقَّقُ شَرْطُ الْحِنْثِ. فَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا مِيرَاثَ لَهَا وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمِيرَاثُ بِحُكْمِ الْفِرَارِ. وَلَا يُقَالُ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ لَدَى الشَّرْطِ وَقَدْ تَحَقَّقَ الْعَجْزُ عَنْ التَّكَلُّمِ قَبْلَ الْمَوْتِ حِينَ حَكَمْنَا بِوُجُودِ الشَّرْطِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ أَنْ يُجْعَلَ مُتَكَلِّمًا بِالطَّلَاقِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ لِحَقِيقَةِ التَّطْلِيقِ مِنْ الْقُدْرَةِ وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ عِنْدَ التَّعْلِيقِ أَلَا تَرَى الْعَاقِلُ إذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ أَوْ الْعِتْقَ ثُمَّ وُجِدَ الشَّرْطَ وَهُوَ مَجْنُونٌ فَإِنَّهُ يَنْزِلُ الْجَزَاءُ وَإِنْ لَمْ يُتَصَوَّرْ مِنْهُ حَقِيقَةُ التَّطْلِيقِ وَالْإِعْتَاقِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ شَرْعًا. وَإِنْ مَاتَتْ الْمَرْأَةُ وَقَعَ الطَّلَاقُ أَيْضًا قَبْلَ مَوْتِهَا. وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ لِأَنَّهَا مَا لَمْ تَمُتْ فَفَعَلَ التَّطْلِيقَ فَيَتَحَقَّقُ مِنْ الزَّوْجِ وَإِنَّمَا عَجَزَ بِمَوْتِهَا فَلَوْ وَقَعَ الطَّلَاقُ لَوَقَعَ بَعْدَ الْمَوْتِ بِخِلَافِ جَانِبِ الزَّوْجِ فَإِنَّهُ كَمَا أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ فَقَدْ وَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ فِعْلِ التَّطْلِيقِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْإِيقَاعَ مِنْ حُكْمِهِ الْوُقُوعُ وَقَدْ تَحَقَّقَ الْعَجْزُ عَنْ الْإِيقَاعِ قُبَيْلَ مَوْتِهَا لِأَنَّهُ لَا يُعْقِبُهُ الْوُقُوعُ كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ مَوْتِك فَيَقَعُ الطَّلَاقُ قُبَيْلَ مَوْتِهَا بِلَا فَصْلٍ. وَلَا مِيرَاثَ لِلزَّوْجِ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بَيْنَهُمَا قَبْلَ مَوْتِهَا بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. وَاعْلَمْ أَنَّ إذَا مِنْ الظُّرُوفِ اللَّازِمَةِ ظَرْفِيَّتَهَا وَهُوَ مُضَافٌ أَبَدًا إلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ وَفِيهِ مَعْنَى الْمُجَازَاةِ لِأَنَّهُ لِلِاسْتِقْبَالِ وَفِيهِ إبْهَامٌ فَنَاسَبَ الْمُجَازَاةَ إذْ الشَّرْطُ لَا يَكُونُ إلَّا مُسْتَقْبَلًا مَجْهُولَ الشَّأْنِ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَكُونَ وَلِهَذَا اخْتَصَّ إذَا بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ. وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ ظَرْفًا غَيْرَ مُتَضَمَّنٍ لِلشَّرْطِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] . وَذَكَرَ الْإِمَامُ عَبْدُ الْقَاهِرِ أَنَّ إذَا لَا يُجَازَى بِهَا إلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ: كَبَيْتِ الْكِتَابِ تَرَفَّعَ لِي خِنْدِفٌ وَاَللَّهُ يَرْفَعُ لِي ... نَارًا إذَا خَمَدَتْ نِيرَانُهُمْ تَقِدُ قَالَ وَالِاخْتِيَارُ أَنْ لَا يُجْزَمَ بِهَا لِأَنَّهُمْ وَضَعُوهَا عَلَى مَا يُنَاسِبُ التَّخْصِيصَ وَيَبْعُدُ مِنْ الْإِبْهَامِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ إنْ الْأَتْرَاك تَقُولُ آتِيك إذَا احْمَرَّ الْبُسْرُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِك آتِيك الْوَقْتَ الَّذِي يَحْمَرُّ فِيهِ الْبُسْرُ وَلَوْ قُلْت آتِيك إنْ احْمَرَّ

فَيُجَازَى بِهَا مَرَّةً وَلَا يُجَازَى بِهَا أُخْرَى فَإِذَا جُوزِيَ بِهَا فَإِنَّمَا يُجَازَى بِهَا عَلَى سُقُوطِ الْوَقْتِ عَنْهَا كَأَنَّهَا حَرْفُ شَرْطٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَمَّا الْبَصْرِيُّونَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ فَقَدْ قَالُوا إنَّهَا لِلْوَقْتِ وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلشَّرْطِ مِنْ غَيْرِ سُقُوطِ الْوَقْتِ عَنْهَا مِثْلَ مَتَى فَإِنَّهَا لِلْوَقْتِ لَا يَسْقُطُ عَنْهَا ذَلِكَ بِحَالٍ وَالْمُجَازَةُ بِهَا لَازِمَةٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاسْتِفْهَامِ وَالْمُجَازَاةُ بِإِذَا غَيْرُ لَازِمَةٍ بَلْ هِيَ فِي حَيِّزِ الْجَوَازِ وَإِلَى هَذَا الطَّرِيقِ ذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بَيَانُهُ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا لَمْ أُطَلِّقْك فَأَنْتِ طَالِقٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ حَتَّى يَمُوتَ أَحَدُهُمَا مِثْلَ قَوْلِهِ إنْ لَمْ أُطَلِّقْك وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَقَعُ كَمَا فَرَغَ مِنْ الْيَمِينِ مِثْلَ مَتَى لَمْ أُطَلِّقْك لِأَنَّ إذَا اسْمٌ لِلْوَقْتِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الظُّرُوفِ وَهُوَ لِلْوَقْتِ الْمُسْتَقْبَلِ وَقَدْ اُسْتُعْمِلَتْ لِلْوَقْتِ خَالِصًا فَقِيلَ كَيْفَ الرُّطَبُ إذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ أَيْ حِينَئِذٍ. وَلَا يَصْلُحُ إنْ هُنَا وَيُقَالُ آتِيك إذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ وَلَا يَجُوزُ إنْ اشْتَدَّ الْحَرُّ لِأَنَّ الشَّرْطَ يَقْتَضِي خَطَرًا أَوْ تَرَدُّدًا هُوَ أَصْلُهُ وَإِذَا تَدْخُلُ لِلْوَقْتِ عَلَى أَمْرٍ كَائِنٍ أَوْ مُنْتَظَرٍ لَا مَحَالَةَ كَقَوْلِهِ {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] وَتُسْتَعْمَلُ لِلْمُفَاجَأَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مُفَسَّرًا مِنْ وَجْهٍ وَلَمْ يَكُنْ مُبْهَمًا فَلَمْ يَكُنْ شَرْطًا ـــــــــــــــــــــــــــــQالْبُسْرُ لَمْ يَسْتَقِمْ لِأَنَّ احْمِرَارَ الْبُسْرِ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِلْإِتْيَانِ وَإِذَا قُلْت أَخْرُجُ إذَا خَرَجْت كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِك أَخْرُجُ الْوَقْتَ الَّذِي تَخْرُجُ فِيهِ وَلَا تَكُونُ مَوْضُوعَةً عَلَى تَعْلِيقِ خُرُوجِ هَذَا بِخُرُوجِ ذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِك أَخْرُجْ إنْ خَرَجْت. قَالَ وَمَنْ جَازَى بِهَا فَالْحَمْلُ عَلَى ظَاهِرِ الْحَالِ وَهُوَ أَنَّ خُرُوجَك لَمَّا تَعَلَّقَ بِوَقْتِ خُرُوجِ الْآخَرِ صَارَ كَأَنَّ هَذَا سَبَبٌ لَهُ فَدَخَلَهُ مَعْنَى الْجَزَاءِ. وَنَظِيرُ إذَا فِي أَنَّ مَعْنَى الْمُجَازَاةِ دَخَلَهُ وَلَا يُجْزَمُ بِهِ الَّذِي فَإِنَّك تَقُولُ الَّذِي يَفْعَلُ كَذَا فَلَهُ دِرْهَمٌ بِمَعْنَى أَنْ يَفْعَلَ إنْسَانٌ فَلَهُ دِرْهَمٌ ثُمَّ لَا تَجْزِمُ بِهِ (قَوْلُهُ فَيُجَازِي بِهَا) أَيْ بِكَلِمَةِ إذَا مَرَّةً وَلَا يُجَازِي بِهَا أُخْرَى أَيْ تُسْتَعْمَلُ مَرَّةً لِلشَّرْطِ وَيُرَتَّبُ عَلَيْهَا الْجَزَاءُ وَتُسْتَعْمَلُ لِلْوَقْتِ مَرَّةً. وَالْحَاصِلُ أَنَّ كَلِمَةَ إذَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْوَقْتِ وَالشَّرْطِ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ فَإِذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي الشَّرْطِ لَمْ يَبْقَ فِيهَا مَعْنَى الْوَقْتِ وَصَارَتْ بِمَعْنَى إنْ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي أَحَدِ الْمَعَانِي لَمْ يَبْقَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى غَيْرِهِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ هِيَ مَوْضُوعَةٌ لِلْوَقْتِ وَتُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرْطِ مِنْ غَيْرِ سُقُوطِ مَعْنَى الْوَقْتِ كَمَتَى وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَالْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ إذَا لَمْ أُطَلِّقْك فَأَنْتِ طَالِقٌ فِيمَا إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَأَمَّا إذَا نَوَى الشَّرْطَ أَوْ الْوَقْتَ فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى بِالِاتِّفَاقِ. وَالْمُجَازَاةُ بِهَا أَيْ بِكَلِمَةِ مَتَى لَازِمَةٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاسْتِفْهَامِ. وَمَوْضِعُ الِاسْتِفْهَامِ مِثْلُ قَوْلِك مَتَى الْقِتَالُ أَوْ مَتَى خَرَجَ زَيْدٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجَزَاءَ فِي مُقَابَلَةِ الشَّرْطِ وَالِاسْتِفْهَامُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِأَنَّهُ طَلَبُ الْفَهْمِ عَنْ وُجُودِ شَيْءٍ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ اسْتِعْمَالَ إذَا لِلشَّرْطِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ مَعْنَى الْوَقْتِ عَنْهُ لِأَنَّ الْمُجَازَاةَ فِي مَتَى أَلْزَمُ مِنْهَا فِي إذَا لِأَنَّهَا فِي مَتَى لَازِمَةٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاسْتِفْهَامِ وَفِي إذَا جَائِزَةٌ ثُمَّ لَمْ يَسْقُطْ مَعْنَى الْوَقْتِ عَنْ مَتَى فِي الْمُجَازَاةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَسْقُطَ عَنْ إذَا فِيهَا. وَإِذَا تَدْخُلُ لِلْوَقْتِ أَيْ لِإِفَادَةِ الْوَقْتِ الْخَالِصِ. عَلَى أَمْرٍ كَائِنٍ أَيْ مَوْجُودٍ فِي الْحَالِ كَقَوْلِهِ: وَإِذَا تَكُونُ كَرِيهَةٌ أُدْعَى لَهَا ... وَإِذَا يُحَاسُ الْحَيْسُ يُدْعَى جُنْدُبُ أَوْ مُنْتَظَرٍ. لَا مَحَالَةَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] . لِأَنَّ ذَلِكَ سَيُوجَدُ قَطْعًا. وَتُسْتَعْمَلُ لِلْمُفَاجَأَةِ. إذَا الْمُفَاجَأَةُ هِيَ الْكَائِنَةُ بِمَعْنَى الْوَقْتِ الطَّالِبَةِ نَاصِبًا لَهَا وَجُمْلَةً تُضَافُ إلَيْهَا وَتِلْكَ الْجُمْلَةُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ وَالْعَامِلُ فِي إذَا هَذِهِ مَعْنَى الْمُفَاجَأَةِ وَهُوَ عَامِلٌ لَا يَظْهَرُ لِاسْتِغْنَائِهِمْ عَنْ إظْهَارِهِ بِقُوَّةِ مَا فِيهِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ. وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُك خَرَجْت فَإِذَا زَيْدٌ بِالْبَابِ إذْ لَوْ كَانَ الْعَامِلُ خَرَجْت يَلْزَمُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْعَامِلِ وَمَعْمُولِهِ بِالْفَاءِ وَهُوَ بَاطِلٌ. وَغَرَضُ الشَّيْخُ أَنَّهَا اُسْتُعْمِلَتْ لِلْمُفَاجَأَةِ وَالْمُفَاجَأَةُ لَا يَحْتَمِلُ مَعْنَى الشَّرْطِ بِوَجْهٍ. قَالَ الْإِمَامُ عَبْدُ الْقَاهِرِ وَمِمَّا يُجَابُ بِهِ الشَّرْطُ إذَا فِي قَوْلِهِ {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36] . فَهُمْ مُبْتَدَأٌ وَيَقْنَطُونَ خَبَرُهُ وَإِذَا بِمَنْزِلَةِ الْفَاءِ فِي تَعْلِيقِهِ الْجُمْلَةَ بِالشَّرْطِ وَذَلِكَ أَنَّ إذَا الْمُفَاجَأَةِ دَالَّةٌ عَلَى التَّعْقِيبِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفَاءُ فَإِنَّك إذَا قُلْت مَرَرْت بِهِ إذَا هُوَ عَبْدٌ مَعْنَاهُ مَرَرْت فَبِحَضْرَتِي هُوَ عَبْدٌ فَإِذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِك فَبِحَضْرَتِي وَمُتَضَمَّنٍ لِمَعْنَى التَّعْقِيبِ الَّذِي هُوَ فِي الْفَاءِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36] . فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ لِوُقُوعِهِ مَوْقِعَ يَقْنَطُوا إذَا قِيلَ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقْنَطُوا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ وَإِذَا كَانَ إذَا مُسْتَعْمَلًا فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعَانِي كَانَ مُفَسَّرًا أَيْ مَعْلُومًا مِنْ وَجْهٍ مِنْ حَيْثُ إنَّ وُجُودَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ

إلَّا أَنَّهُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِيهِ مُسْتَعَارًا مَعَ قِيَامِ مَعْنَى الْوَقْتِ مِثْلُ مَتَى الْزَمْ وَمَعَ هَذَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ حَقِيقَتُهُ وَهُوَ الْوَقْتُ فَهَذَا أَوْلَى فَصَارَ الطَّلَاقُ مُضَافًا إلَى زَمَانٍ خَالٍ عَنْ إيقَاعِ الطَّلَاقِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْت لَمْ يَتَقَدَّرْ بِالْمَجْلِسِ مِثْلَ مَتَى بِخِلَافِ إنْ وَلَا يَصِحُّ طَرِيقُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ أَنَّ إذَا قَدْ يَكُونُ حَرْفًا بِمَعْنَى الشَّرْطِ مِثْلَ إنْ وَقَدْ ادَّعَى ذَلِكَ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَاحْتَجَّ الْفَرَّاءُ لِذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: اسْتَغْنِ مَا أَغْنَاك رَبُّك بِالْغِنَى ... وَإِذَا تُصِبْك خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلْ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ وَإِنْ تُصِبْك خَصَاصَةٌ بِلَا شُبْهَةٍ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ فِي إذَا عَلَى التَّعَارُضِ أَعْنِي مَعْنَى الشَّرْطِ الْخَالِصِ وَمَعْنَى الْوَقْتِ وَقَعَ الشَّكُّ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ فَلَمْ يَقَعْ بِالشَّكِّ وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي انْقِطَاعِ الْمَشِيئَةِ بَعْدَ الثُّبُوتِ فِيمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ فَلَا تَبْطُلُ بِالشَّكِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَعْلُومٌ لِلْمُتَكَلِّمِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ وَقْتَ وُجُودِهِ عَيْنًا فَلَا يَصْلُحُ شَرْطًا لِأَنَّ الشَّرْطَ مَا هُوَ مُتَرَدِّدُ الْوُجُودِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى مَا مَرَّ إلَّا أَنَّهُ أَيْ لَكِنَّهُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرْطِ. مُسْتَعَارًا أَيْ مَجَازًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمُنَاسَبَةِ مَعَ قِيَامِ مَعْنَى الْوَقْتُ. وَلَا يُقَالُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. لِأَنَّا نَقُولُ لَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِأَنَّ الْوَقْتَ يَصْلُحُ شَرْطًا وَعَدَمُ جَوَازِ الْجَمْعِ بِاعْتِبَارِ التَّنَافِي. وَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا كَانَ الطَّلَاقُ مُضَافًا إلَى زَمَانٍ خَالٍ عَنْ الْإِيقَاعِ وَكَمَا سَكَتَ وَجَدَ ذَلِكَ الْوَقْتَ فَتَطْلُقُ. ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِالْحُكْمِ فَقَالَ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْت لَمْ يَتَقَدَّرْ بِالْمَجْلِسِ كَمَا لَوْ قَالَ مَتَى فَلَوْ كَانَ إذَا لِلشَّرْطِ لَبَطَلَتْ الْمَشِيئَةُ إذَا قَامَتْ عَنْ الْمَجْلِسِ كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت بَطَلَتْ مَشِيئَتُهَا بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لِلْوَقْتِ حَقِيقَةً. قَدْ يَكُونُ حَرْفًا بِمَعْنَى الشَّرْطِ لِأَنَّ كَوْنَهُ اسْمًا بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْوَقْتِ فَإِذَا سَقَطَ عَنْهُ مَعْنَى الْوَقْتِ عِنْدَهُمْ بِإِرَادَةِ مَعْنَى الشَّرْطِ كَانَ حَرْفًا كَإِنْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ اسْمًا وَحَرْفًا كَعَنْ وَعَلَى وَالْكَافِ وَنَحْوِهَا وَاحْتَجَّ الْفَرَّاءُ وَهُوَ أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الْفَرَّاءُ لِذَلِكَ أَيْ لِكَوْنِهِ لِلشَّرْطِ الْمَحْضِ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ وَالشِّعْرُ لِوَاحِدٍ مِنْ الْفُضَلَاءِ يُوصَى ابْنَهُ وَأَوَّلَهُ: أَجَمِيلُ إنِّي كُنْتُ كَارِمَ قَوْمِهِ ... فَإِذَا دُعِيتُ إلَى الْمَكَارِمِ فَاعْجَلْ أُوصِيكَ يَا ابْنِي إنَّنِي لَكَ نَاصِحُ ... طَبِنٌ بِرَيْبِ الدَّهْرِ غَيْرُ مُغَفَّلِ اللَّهَ فَاتَّقِهِ وَأَوْفِ بِنَذْرِهِ ... وَإِذَا حَلَفْتَ مُمَارِيًا فَتَحَلَّلْ وَاسْتَغْنِ مَا أَغْنَاكَ رَبُّك بِالْغِنَى ... وَإِذَا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلْ وَإِذَا تَجَاسَرَ عِنْدَ عَقْلِكَ مَرَّةً ... أَمْرَانِ فَاعْمِدْ لِلْأَعْسَفِ الْأَجْمَلِ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ. أَبُنَيَّ إنَّ أَبَاكَ كَارِبُ يَوْمِهِ مِنْ كَرِبَ الشَّيْءُ إذَا دَنَا أُوصِيك إيصَاءَ امْرِئٍ لَك نَاصِحِ ... طَبِنٍ بِرَيْبِ الدَّهْرِ غَيْرِ مُعَقَّلِ مِنْ عَقَلْتُ الْإِبِلَ أَيْ شَدَدْتُ عِقَالَهَا وَالطَّبِنُ الْحَاذِقُ يَقُولُ إنَّ أَبَاك قَرِيبُ يَوْمِ مَوْتِهِ أَوْ كَرِيمُ قَوْمِهِ فَاعْمَلْ بِنَصِيحَتِي فَإِنِّي بِصُرُوفِ الدَّهْرِ عَالَمٌ غَيْرُ عَاقِلٍ أَوْ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ الْعِلْمِ بِهَا. فَمِنْ نَصَائِحِي أَنْ تَعُدَّ نَفْسَك غَنِيًّا بِالْغِنَى وَتُظْهِرَ ذَلِكَ مَا أَغْنَاك اللَّهُ وَإِذَا أَصَابَتْك مَسْكَنَةٌ وَفَقْرٌ فَتَكَلَّفْ بِالصَّبْرِ عَلَى الْفِعْلِ الْجَمِيلِ أَيْ اصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا مِنْ غَيْرِ جَزَعٍ وَشَكْوَى. أَوْ مَعْنَى تَجَمَّلْ أَظْهِرْ الْغِنَى مِنْ نَفْسِك بِالتَّجَمُّلِ وَالتَّزَيُّنِ كَيْ لَا يَقِفَ النَّاسُ عَلَى حَالِك. أَوْ مَعْنَاهُ كُلْ الْجَمِيلَ وَهُوَ الشَّحْمُ الْمُذَابُ تَعَفُّفًا. إنَّمَا مَعْنَاهُ إنْ تُصِبْك خَصَاصَةٌ بِلَا شُبْهَةٍ لِأَنَّ إصَابَةَ الْخَصَاصَةِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُتَرَدِّدَةِ وَكَلِمَةُ إذَا إذَا كَانَتْ بِمَعْنَى الْوَقْتِ إنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْأَمْرِ الْكَائِنِ أَوْ الْمُنْتَظَرِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ عَادَةً أَوْ شَرْعًا نَحْوَ مَجِيءِ الْغَدِ وَالْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ فَلَوْ لَمْ تَصِرْ كَلِمَةُ إذَا هَاهُنَا بِمَعْنَى الشَّرْطِ وَبَقِيَ مَعْنَى الْوَقْتِ فِيهَا لَمَا جَازَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْأَمْرِ الْمُتَرَدِّدِ بِخِلَافِ مَتَى لِأَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْأُمُورِ الْكَائِنَةِ لَا مَحَالَةَ فَاسْتِعْمَالُهَا لِلشَّرْطِ لَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ مَعْنَى الْوَقْتِ عَنْهَا. فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ عَلَى مَتَى حَتَّى يَبْقَى الْوَقْتُ فِيهَا مُعْتَبَرًا أَوْ إنْ جُوزِيَ بِهَا كَمَا فِي مَتَى. قُلْنَا لَوْ فَعَلْنَا ذَلِكَ يَلْزَمُ مِنْهُ تَرْكُ خَاصِّيَّتِهِ وَهِيَ الدُّخُولُ فِي الْأُمُورِ الْكَائِنَةِ إذَا كَانَ بِمَعْنَى الْوَقْتِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي أَنَّ الْجَزْمَ بِهِ وَدُخُولَ الْفَاءِ فِي جَوَابِهِ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى إنْ لَكِنْ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ أَنَا أُسَلِّمُ أَنَّهُ قَدْ يَجِيءُ بِمَعْنَى الشَّرْطِ إلَّا أَنَّ النِّزَاعَ فِي سُقُوطِ مَعْنَى الْوَقْتِ عَنْهُ وَلَيْسَ فِي الْبَيْتِ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قِيلَ وَمَتَى تُصِبْك خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلْ لَاسْتَقَامَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى أَيْضًا مِنْ غَيْرِ سُقُوطِ مَعْنَى

وَكَذَلِكَ إذْ. فَأَمَّا مَتَى فَاسْمٌ لِلْوَقْتِ الْمُبْهَمِ بِلَا اخْتِصَاصٍ فَكَانَ مُشَارِكًا لِأَنَّ فِي الْإِبْهَامِ فَلَزِمَ فِي بَابِ الْمُجَازَاةِ وَجَزَمَ بِهَا مِثْلَ إنْ لَكِنْ مَعَ قِيَامِ الْوَقْتِ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَتُهَا فَوَقَعَ الطَّلَاقُ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ مَتَى لَمْ أُطَلِّقْك عَقِيبَ الْيَمِينِ وَقَوْلُهُ مَتَى شِئْت لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْمَجْلِسِ وَكَذَلِكَ مَتَى مَا وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُ كُلَّمَا وَكَذَلِكَ مَنْ وَمَا يَدْخُلَانِ فِي هَذَا الْبَابِ لِإِبْهَامِهِمَا وَالْمَسَائِلُ فِيهِمَا كَثِيرَةٌ خُصُوصًا فِي مَنْ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْوَقْتِ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ إذَا مَا) يَعْنِي لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ دُخُولِ مَا عَلَى إذَا وَبَيْنَ عَدَمِهِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحْكَامِ. إلَّا أَنَّ دُخُولَ مَا تَحَقَّقَ مَعْنَى الْمُجَازَاةِ بِاتِّفَاقٍ بَيْنَ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ. وَمَا هَذِهِ تُسَمَّى الْمُسَلَّطَةُ وَمَعْنَى الْمُسَلَّطَةِ أَنْ تَجْعَلَ الْكَلِمَةَ الَّتِي لَا تَعْمَلُ فِيمَا بَعْدَهَا عَامِلَةً فِيهِ تَقُولُ إذَا مَا تَأْتِنِي أَكْرَمِك فَمَا هِيَ الَّتِي سَلَّطَتْ إذَا عَلَى الْجَزْمِ لِأَنَّهُ كَانَ اسْمًا يُضَافُ إلَى الْجُمَلِ غَيْرَ عَامِلٍ فَجَعَلَتْهُ مَا حَرْفًا مِنْ حُرُوفِ الْمُجَازَاةِ عَامِلَةً بِمَنْزِلَةِ مَتَى وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ مَا فِي إذَا صِلَةٌ كَذَا فِي كِتَابِ بَيَانِ حَقَائِقِ الْحُرُوفِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا مَتَى) إلَى آخِرِهِ مَتَى مِنْ الظُّرُوفِ أَيْضًا وَهُوَ اسْمٌ لِلْوَقْتِ الْمُبْهَمِ وَأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ وَالشَّرْطِ وَكَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ فِي الِاسْتِفْهَامِ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ أَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ يَوْمَ السَّبْتِ أَوْ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا إلَى مَا يَطُولُ ذِكْرُهُ فَأَتَى بِمَتَى لِلْإِيجَازِ فَاشْتَمَلَ عَلَى الْأَزْمِنَةِ كُلِّهَا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ هُوَ اسْمٌ لِلْوَقْتِ الْمُبْهَمِ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى جُعِلَ نَائِبًا عَنْ إنْ فِي الشَّرْطِ إذَا كَانَ اللَّازِمُ فِي قَوْلِك مَتَى تَأْتِنِي أُكْرِمْك أَنْ تَقُولَ إنْ تَأْتِنِي يَوْمَ الْجُمُعَةِ أُكْرِمْك وَإِنْ تَأْتِنِي يَوْمَ السَّبْتِ أُكْرِمْك إلَى حَدٍّ يُوجِبُ الْإِطَالَةَ فَجِئْت بِمَتَى فَحَصَلَ الْمَقْصُودُ وَالْفَصْلُ. بَيْنَ إذَا وَمَتَى أَنَّ إذَا لِلْأُمُورِ الْوَاجِبِ وُجُودُهَا وَمَتَى لَمْ يَتَوَقَّعْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَكُونَ تَقُولُ إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ خَرَجْت وَإِذَا أُذِّنَ لِلصَّلَاةِ قُمْت وَلَا يَصْلُحُ فِي مِثْلِ هَذَا مَتَى وَتَقُولُ مَتَى تَخْرُجْ أَخْرُجْ مَعَ مَنْ لَا يَتَيَقَّنُ بِخُرُوجِهِ فَتَبَيَّنَ بِمَا قُلْنَا إنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ بِلَا اخْتِصَاصٍ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ وَقْتًا دُونَ وَقْتٍ فَلِذَلِكَ كَانَ مُشَارِكًا لِأَنَّ فِي الْإِبْهَامِ لِتَرَدُّدِ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ مَتَى بَيْنَ أَنْ يُوجَدَ وَبَيْنَ أَنْ لَا يُوجَدَ كَمَا فِي كَلِمَةِ إنْ. فَلَزِمَ فِي بَابِ الْمُجَازَاةِ يَعْنِي فَلِهَذِهِ الْمُشَارَكَةِ لَزِمَ مَتَى فِي بَابِ الْمُجَازَاةِ أَيْ الْمُجَازَاةِ بِهِ لَازِمَةٌ يَعْنِي فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاسْتِفْهَامِ مِثْلَ إنْ إلَّا أَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا فِي قِيَامِ مَعْنَى الْوَقْتِ وَانْتِفَائِهِ. وَأَمَّا فِي مَوْضِعِ الِاسْتِفْهَامِ فَإِنَّمَا لَا يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الشَّرْطِ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ عِبَارَةٌ عَنْ طَلَبِ الْفَهْمِ عَنْ وُجُودِ الْفِعْلِ فَلَا يَسْتَقِيمُ إضْمَارُ حَرْفِ إنْ فَوَقَعَ الطَّلَاقُ عَقِيبَ الْيَمِينِ بِلَا فَصْلٍ لِوُجُودِ شَرْطِ الْحِنْثِ وَهُوَ الْوَقْتُ الْخَالِي عَنْ الْإِيقَاعِ. وَقَوْلُهُ مَتَى شِئْت لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ إبْهَامِهِ يَعُمُّ الْأَزْمِنَةَ وَكَذَلِكَ مَتَى مَا يَعْنِي كَمَا عَرَفْت حُكْمَ مَتَى فِي الشَّرْطِ فَكَذَلِكَ حُكْمُ مَتَى مَا بَلْ أَوْلَى لِأَنَّهُ إذَا دَخَلَ مَا عَلَيْهِ يُصَيَّرُهُ لِلْجَزَاءِ الْمَحْضِ وَلَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِفْهَامِ. وَمَنْ وَمَا يَدْخُلَانِ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْ بَابِ الشَّرْطِ لِإِبْهَامِهِمَا فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَتَنَاوَلُ عَيْنًا. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ مَنْ وَمَا لِإِبْهَامِهِمَا دَخَلَا فِي بَابِ الْعُمُومِ عَلَى مَا مَرَّ فَلَمَّا كَانَ الْعُمُومُ فِي الشَّرْطِ مَقْصُودًا لِلْمُتَكَلِّمِ وَتَخْصِيصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَفْرَادِ بِالذِّكْرِ مُتَعَسِّرٌ أَوْ مُتَعَذِّرٌ أَوْ مَنْ وَمَا يُؤَدِّيَانِ هَذَا الْمَعْنَى مَعَ الْإِيجَازِ وَحُصُولِ الْمَقْصُودِ نَابَا مَنَابَ إنْ فَقِيلَ مَنْ تَأْتِنِي أُكْرِمْهُ وَمَا تَصْنَعْ أَصْنَعْ. وَالْمَسَائِلُ فِيهِمَا كَثِيرَةٌ مِثْلُ قَوْلِهِ مَنْ شَاءَ مِنْ عَبِيدِي عِتْقَهُ فَهُوَ حُرٌّ. مَنْ دَخَلَ هَذَا الْحِصْنَ فَلَهُ رَأْسٌ. وَمَنْ دَخَلَ مِنْكُمْ الدَّارَ فَهُوَ حُرٌّ. وَأَمَّا إذَا كَانَ لِلشَّرْطِ فَهُوَ اسْمٌ بِمَعْنَى أَيٍّ تَقُولُ مَا تَصْنَعْ اصْنَعْ وَفِي التَّنْزِيلِ {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر: 2] . وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ شَيْءٌ وَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْفِقْهِ كَذَا فِي كِتَابِ بَيَانِ حَقَائِقِ الْحُرُوفِ قَوْلُهُ (وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ) إلَى آخِرِهِ. اعْلَمْ أَنَّ لَوْ فِيهِ مَعْنَى

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ لَوْ دَخَلْت الدَّارَ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى التَّرَقُّبِ فَعَمِلَ عَمَلَ الشَّرْطِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ الرَّجُلِ أَنْتِ طَالِقٌ لَوْلَا صُحْبَتُك وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاقِعٍ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالشَّرْطِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ تَعْلِيقُ إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَبَايِنَتَيْنِ بِالْأُخْرَى عَلَى أَنْ يَكُونَ الثَّانِيَةُ جَوَابًا لِلْأُولَى كَانَ وَلِهَذَا يَتَعَقَّبُهُ الْفِعْلُ تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا. إلَّا أَنَّ لَوْ لِلْمَاضِي تَقُولُ جِئْتنِي لَأَكْرَمْتُك وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ لَوْ لِامْتِنَاعِ الشَّيْءِ لِعَدَمِ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْفِعْلَ الثَّانِيَ لَمَّا تَعَلَّقَ وُقُوعُهُ بِوُجُودِ الْأَوَّلِ وَامْتَنَعَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي إذَا عُدِمَ اسْتَحَالَ إيجَادُهُ فِيهِ بَعْدُ كَانَ الثَّانِي أَيْضًا مُمْتَنِعًا ضَرُورَةَ تَعَلُّقِهِ بِهِ فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ لَوْ دَخَلْت الدَّارَ لَعَتَقْت وَلَمْ يَدْخُلْ الْعَبْدُ الدَّارَ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي وَدَخَلَهَا بَعْدُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْتَقَ لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَوْ كُنْت دَخَلَتْ الدَّارَ أَمْسِ لَصِرْت حُرًّا وَلَا تَعَلُّقَ لِهَذَا الْكَلَامِ بِالْمُسْتَقْبَلِ كَمَا تَرَى إلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ عَلَّقُوا الْعِتْقَ بِالدُّخُولِ الَّذِي يُوجَدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّ لَوْ لِمُوَاخَاتِهَا كَلِمَةَ إنْ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ يُسْتَعْمَلُ فِي الِاسْتِقْبَالِ كَأَنْ يُقَالَ لَوْ اسْتَقْبَلْت أَمْرَك بِالتَّوْبَةِ لَكَانَ خَيْرًا لَك أَيْ إنْ اسْتَقْبَلْت. وَقَالَ تَعَالَى {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة: 221] . أَيْ وَإِنْ أَعْجَبَكُمْ {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32] {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] . كَمَا أَنَّ إنْ اُسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى لَوْ قَالَ تَعَالَى إخْبَارًا {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116] . وَعَلَيْهِ يُخَرَّجُ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ أَنْتِ طَالِقٌ لَوْ دَخَلْت الدَّارَ فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ حَتَّى تَدْخُلَ الدَّارَ رَوَاهُ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ وَلَوْ بِمَنْزِلَةِ إنْ كَذَا فِي كِتَابِ بَيَانِ حَقَائِقِ الْحُرُوفِ وَلَيْسَ فِيهِ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ وَكَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَإِلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ النَّوَادِرِ أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ وَقَدْ رُوِيَ. وَقَوْلُهُ لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى التَّرَقُّبِ أَيْ الِانْتِظَارِ مَعْنَاهُ إذَا كَانَ الْفِعْلُ الَّذِي بَعْدَهُ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ مُتَرَدِّدًا فَيُتَصَوَّرُ فِيهِ التَّرَقُّبُ. ثُمَّ اللَّامُ تَدْخُلُ فِي جَوَابِ لَوْ لِتَأْكِيدِ ارْتِبَاطِ إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ بِالْأُخْرَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] . وَيَجُوزُ حَذْفُهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى. {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} [الواقعة: 70] . وَلَا تَدْخُلُ الْفَاءُ فِي جَوَابِهِ لِأَنَّ الْفَاءَ إنَّمَا تَدْخُلُ فِي جُمْلَةٍ لَوْ كَانَ مَكَانَهَا الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ انْجَزَمَ وَكَلِمَةُ لَوْلَا تَعْمَلُ فِي الْجَزْمِ أَصْلًا لِأَنَّهَا لِلْمَاضِي وَالْجَزْمُ يَخْتَصُّ بِالْمُضَارِعِ عَلَى مَا عُرِفَ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو الْحَسَنُ الْأَهْوَازِيُّ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ لَوْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ كَمَا لَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَأَنْتِ طَالِقٌ لِأَنَّ الْفَاءَ لَا تَدْخُلُ فِي جَوَابِ لَوْ كَمَا أَنَّ الْوَاوَ لَا تَدْخُلُ فِي جَوَابِ إنْ قَالَ صَاحِبُ كِتَابِ بَيَانِ حَقَائِقِ الْحُرُوفِ هُوَ كَمَا قَالَ الْأَهْوَازِيُّ أَنَّ الْفَاءَ لَا تَدْخُلُ فِي جَوَابِ لَوْ عِنْدَ النَّجَاةِ بِلَا خِلَافٍ فَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنِّي سَأَلْت الْقَاضِيَ الْإِمَامَ أَبَا عَاصِمٍ الْعَامِرِيَّ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقُلْت لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِامْرَأَتِهِ لَوْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَ لَا تَطْلُقُ مَا لَمْ تَدْخُلْ الدَّارَ وَمَا سَأَلَتْهُ عَنْ الْعِلَّةِ وَالْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّ لَوْ شَرْطٌ صَحِيحٌ كَانَ وَقَدْ جَاءَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَعْنَى الْآخَرِ كَمَا ذَكَرْنَا فَيَجُوزُ أَنْ يَقَعَ مَوْقِعَ أَنَّ فِي جَوَازِ دُخُولِ الْفَاءِ فِي جَوَابِهِ. قَالَ وَلِأَنَّ الْفُقَهَاءَ لَا يَعْتَبِرُونَ الْإِعْرَابَ لِأَنَّ الْعَامَّةَ تُخْطِئُ وَتُصِيبُ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ زَنَيْتِ بِكَسْرِ التَّاءِ أَوْ لِامْرَأَتِهِ زَنَيْتَ بِفَتْحِ التَّاءِ يَجِبُ حَدُّ الْقَذْفِ فِي الصُّورَتَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ قَوْلُ الرَّجُلِ أَنْتِ طَالِقٌ لَوْ صَحِبْتُك) . لَوْلَا لِامْتِنَاعِ الشَّيْءِ لِوُجُودِ غَيْرِهِ زِيدَتْ عَلَى لَوْ كَلِمَةُ لَا لِتَخْرُجَهُ مِنْ امْتِنَاعِ الشَّيْءِ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ. وَتُسَمَّى لَا هَذِهِ الْمُغَيِّرَةُ لِمَعْنَى الْحَرْفِ. وَلَا يَقَعُ بَعْدَهَا إلَّا

وَذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ بَابًا بَنَاهُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْحُرُوفِ الَّتِي ذَكَرْنَا آمِنُونِي عَلَى عَشْرَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحِصْنِ قَالَ ذَلِكَ رَأْسُ الْحِصْنِ فَفَعَلْنَا وَقَعَ عَلَيْهِ وَعَلَى عَشَرَةٍ غَيْرِهِ وَالْخِيَارُ إلَيْهِ وَلَوْ قَالَ آمِنُونِي وَعَشَرَةً فَكَذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْخِيَارَ إلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ قَالَ بِعَشَرَةٍ فَمِثْلُ قَوْلِهِ وَعَشَرَةً وَلَوْ قَالَ فِي عَشَرَةٍ وَقَعَ عَلَى تِسْعَةٍ سِوَاهُ وَالْخِيَارُ إلَى الْإِمَامِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالِاسْمُ الْمُتَبَدَّأُ فَإِذَا قُلْت لَوْلَا زَيْدٌ كَانَ مَرْفُوعًا بِالِابْتِدَاءِ أَوْ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ لَوْلَا زَيْدٌ مَوْجُودٌ لَكَانَ كَذَا وَحُذِفَ هَذَا الْخَبَرُ حَذْفًا لَازِمًا لِطُولِ الْكَلَامِ بِالْجَوَابِ الَّذِي هُوَ قَوْلُك لَكَانَ كَذَا وَلِأَنَّ الْحَالَ يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَيَدْخُلُ فِي جَوَابِهَا اللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ أَيْضًا فَإِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ لَوْلَا صُحْبَتُكِ أَوْ لَوْلَا حُسْنُك أَوْ لَوْلَا حُبُّك إيَّايَ لَا يَقَعُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ وَهُوَ رَبْطُ إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَبَايِنَتَيْنِ بِالْأُخْرَى وَامْتِنَاعُ الْجَزَاءُ وَأَثَرُ الشَّرْطُ هُوَ الرَّبْطُ وَالْمَنْعُ إلَّا أَنَّ فِي الشَّرْطِ الْحَقِيقِيِّ يُتَوَقَّعُ وُقُوعُ الْجَزَاءِ بِوُجُودِ الشَّرْطِ وَفِي لَوْلَا لَا تَوَقُّعَ لِلْجَزَاءِ أَصْلًا لِأَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَلِهَذَا قَالُوا إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ نَصَّ عَلَيْهِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَهُوَ قَوْلُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ يُخْرِجُ الْكَلَامَ عَنْ الْإِيجَابِ وَالِاعْتِبَارِ حَتَّى لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْكَلِمَةُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ زَالَ حُسْنُهَا أَوْ مَاتَ زَيْدٌ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لَوْلَا حُسْنُك أَوْ لَوْلَا زَيْدٌ لَا تَطْلُقُ. وَقَدْ رَوَى إبْرَاهِيمُ بْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لَوْلَا أَبُوك أَوْ أَخُوك أَوْ لَوْلَا حُسْنُك أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ. وَكَذَا ذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرَهِ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لَوْلَا دُخُولُك الدَّارَ أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ وَيَجْعَلُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ قَوْلُهُ (وَذَكَرَ) أَيْ مُحَمَّدٌ. فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ بَابًا. إلَى آخِرِهِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ إذَا حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ حِصْنًا فَأَشْرَفَ عَلَيْهِمْ رَأْسُ الْحِصْنِ فَقَالَ آمِنُونِي عَلَى عَشَرَةٍ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْحِصْنِ عَلَى أَنْ أَفْتَحَهُ لَكُمْ فَقَالُوا لَك ذَلِكَ فَفَتَحَ الْحِصْنَ فَهُوَ آمِنٌ وَعَشْرَةٌ مَعَهُ لِأَنَّهُ اسْتَأْمَنَ لِنَفْسِهِ نَصًّا بِقَوْلِ آمِنُونِي وَالنُّونُ وَالْيَاءُ يُكْنِي بِهِمَا الْمُتَكَلِّمُ عَنْ نَفْسِهِ وَكَلِمَةُ عَلَى لِلشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ عَلَى عَشْرَةٍ وَقَدْ شَرَطَ أَمَانَ عَشَرَةٍ مُنَكَّرَةٍ مَعَ أَمَانِ نَفْسِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعَشَرَةَ سِوَاهُ. ثُمَّ الْخِيَارُ فِي تَعْيِينِ الْعَشَرَةِ إلَى رَأْسِ الْحِصْنِ لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَا حَظٍّ مِنْ أَمَانِهِمْ لِأَنَّ عَلَى لِلِاسْتِعْلَاءِ وَهُوَ لَيْسَ بِذِي حَظٍّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي أَمَانِهِمْ فَقَدْ اسْتَأْمَنَ لِنَفْسِهِ بِلَفْظٍ عَلَى حِدَةٍ وَلَيْسَ بِذِي حَظٍّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُبَاشِرٌ لِأَمَانِهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ ذُو حَظٍّ عَلَى أَنْ يَكُونَ مُعَيِّنًا لِمَنْ تَنَاوَلَهُ الْأَمَانُ مِنْهُمْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ التَّعْيِينَ فِي الْمَجْهُولِ كَالْإِيجَابِ الْمُتَبَدَّأِ مِنْ وَجْهٍ. وَلَوْ قَالَ أَمِّنُونِي وَعَشَرَةً عَلَى أَنْ أَفْتَحَ لَكُمْ فَالْأَمَانُ لَهُ وَلَوْ عَشْرَةٌ سِوَاهُ لِأَنَّ حَرْفَ الْوَاوِ لِلْعَطْفِ وَإِنَّمَا يُعْطَفُ الشَّيْءُ عَلَى غَيْرِهِ لَا عَلَى نَفْسِهِ فَفِي كَلَامِهِ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْعَشَرَةَ سِوَاهُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحِصْنِ إلَّا ذَلِكَ الْعَدَدُ أَوْ أَقَلُّ فَهُمْ آمِنُونَ كُلُّهُمْ لِأَنَّ الْأَمَانَ بِذِكْرِ الْعَدَدِ بِمَنْزِلَةِ الْأَمَانِ لَهُمْ بِالْإِشَارَةِ إلَى أَعْيَانِهِمْ. وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْحِصْنِ كَثِيرًا فَالْخِيَارُ فِي تَعْيِينِ الْعَشَرَةِ إلَى الْإِمَامِ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَا جَعَلَ نَفْسَهُ ذَا حَظٍّ فِي أَمَانِ الْعَشَرَةِ وَإِنَّمَا عَطَفَ أَمَانَهُمْ عَلَى أَمَانِ نَفْسِهِ فَكَانَ الْإِمَامُ هُوَ الْمُوجِبُ لَهُمْ لِلْأَمَانِ فَإِلَيْهِ التَّعْيِينُ. وَإِنْ رَأَى أَنْ يَجْعَلَ الْعَشَرَةَ مِنْ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ فَلَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحِصْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُتَكَلِّمُ اشْتَرَطَ ذَلِكَ مِنْ الرِّجَالِ وَلَوْ قَالَ أَمِّنُونِي بِعَشَرَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحِصْنِ كَانَ هَذَا. وَقَوْلُهُ وَعَشَرَةٌ سِوَاهُ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ فَقَدْ أَلْصَقَ أَمَانَ الْعَشَرَةِ بِأَمَانِهِ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْعَشَرَةُ سِوَاهُ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَكِنَّ هَذَا غَلَطٌ زَلَّ بِهِ قَلَمُ الْكَاتِبِ وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْعَتِيقَةِ أَمِّنُونِي فَعَشَرَةً لِأَنَّ الْفَاءَ مِنْ حُرُوفِ

وَلَوْ قَالَ آمِنُوا لِي عَشَرَةً عَلَى عَشَرَةٍ لَا غَيْرُ وَلِرَأْسِ الْحِصْنِ أَنْ يُدْخِلَ نَفْسَهُ فِيهِمْ وَالْخِيَارُ فِيهِمْ إلَيْهِ وَذَلِكَ يَخْرُجُ عَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعَطْفِ وَهُوَ يَقْتَضِي الْوَصْلَ وَالتَّعْقِيبَ فَيَسْتَقِيمُ عَطْفُهُ عَلَى قَوْلِهِ أَمِّنُونِي فَعَشَرَةً فَأَمَّا الْبَاءُ فَيَصْحَبُ الْأَعْوَاضَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ أَمِّنُونِي بِعَشَرَةٍ بِمَعْنَى عَشَرَةٍ أُعْطِيكُمْ مِنْ أَهْلِ الْحِصْنِ عِوَضًا عَنْ أَمَانِي وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ فِي هَذَا الْجِنْسِ مِنْ الْمَسَائِلِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ قَوْلُهُ أَمِّنُونِي فَعَشَرَةً وَلَوْ قَالَ أَمِّنُونِي ثُمَّ عَشَرَةً كَانَ هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءً وَالْعَشَرَةُ سِوَاهُ لِأَنَّ كَلِمَةَ ثُمَّ لِلتَّعْقِيبِ مَعَ التَّرَاخِي وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَيْضًا أَنَّ الصَّحِيحَ فِي الْأَوَّلِ قَوْلُهُ فَعَشَرَةً لِأَنَّهُ بَدَأَ بِمَا هُوَ لِلْعَطْفِ مُطْلَقًا ثُمَّ بِمَا هُوَ لِلْعَطْفِ عَلَى وَجْهِ التَّعْقِيبِ بِلَا مُهْلَةٍ ثُمَّ بِمَا هُوَ لِلتَّعْقِيبِ مَعَ التَّرَاخِي. وَرَأَيْت مَكْتُوبًا عَلَى حَاشِيَةِ شَرْحِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ عِنْدَ تَقْرِيرِ هَذَا الْغَلَطِ قِيلَ وَلَا يَتَمَخَّضُ هَذَا غَلَطًا لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إلَيْهِ مَقَامَهُ عِنْدَ عَدَمِ الِالْتِبَاسِ وَالتَّقْدِيرُ أَمِّنُونِي بِأَمَانِ عَشْرَةٍ وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ الْأَمَانِ مَفْهُومًا بِقَوْلِهِ أَمِّنُونِي اسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ ثَانِيًا وَالْبَاءُ حِينَئِذٍ تُفِيدُ مَعْنَى الِالْتِبَاسِ وَالِامْتِزَاجِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20] . وَكَقَوْلِهِمْ خَرَجَ زَيْدٌ بِسِلَاحِهِ. وَمِثْلُ هَذَا الْحَذْفِ فِي قَوْلِهِمْ اضْرِبْ السَّارِقَ كَالْحَدَّادِ أَيْ كَضَرْبِ الْحَدَّادِ وَلَمَّا كَانَ مَعْنَى الضَّرْبِ مَفْهُومًا بِقَوْلِهِمْ اضْرِبُوا اسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ وَالْبَاءُ غَيْرُ مَقْصُورَةٍ عَلَى مَعْنَى الْعِوَضِ بَلْ هِيَ لِمَعَانِي جَمَّةٍ فَافْهَمْ. وَلَكِنَّ الْمُوجِبَ لِلْقَوْلِ بِالْغَلَطِ مَا ذَكَرَ أَنَّ تَخَلُّلَ الْبَاءِ بَيْنَ حُرُوفِ الْعَطْفِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِأَنَّ الظَّاهِرَ نَسْقُ الْمُتَجَانِسَاتِ أَمَّا الْمَعْنَى بِالنَّظَرِ إلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَحْدَهَا فَغَيْرُ فَاسِدٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ قَالَ أَفْتَحُ لَكُمْ عَلَى أَنِّي آمِنٌ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحِصْنِ أَوْ عَلَى أَنْ يُؤَمِّنُونِي فِي عَشَرَةٍ فَهُوَ آمِنٌ وَتِسْعَةٌ مَعَهُ لِأَنَّ حَرْفَ فِي لِلظَّرْفِ وَقَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ فِي جُمْلَةِ الْعَشَرَةِ الَّذِينَ الْتَمِسْ الْأَمَانَ لَهُمْ فَلَا يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ إلَّا تِسْعَةً مَعَهُ لِأَنَّهُ لَوْ تَنَاوَلَ عَشَرَةً سِوَاهُ كَانَ هُوَ آمِنًا فِي أَحَدَ عَشَرَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ مَا جَعَلَ نَفْسَهُ فِي جُمْلَةِ الْعَشَرَةِ. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ جَعَلَ الْعَشَرَةَ هُنَا ظَرْفًا لِنَفْسِهِ وَالْمَظْرُوفُ غَيْرُ الظَّرْفِ. قُلْنَا هُوَ كَذَلِكَ فِيمَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الظَّرْفُ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْعَدَدِ إلَّا بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ هُوَ أَحَدُهُمْ وَيُجْعَلَ كَأَنَّهُ قَالَ اجْعَلُونِي أَحَدَ الْعَشَرَةَ الَّذِينَ تُؤَمِّنُونَهُمْ. فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ حَمْلُهُ عَلَى مَعْنَى الظَّرْفِ حَقِيقَةً يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ بِمَعْنَى مَعَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] أَوْ بِمَعْنَى كَقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ. إخْبَارًا {فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] . وَبِاعْتِبَارِ الْوَجْهَيْنِ يَثْبُتُ الْأَمَانُ لِعَشَرَةٍ سِوَاهُ. قُلْنَا الْكَلِمَةُ لِلظَّرْفِ حَقِيقَةً فَيَجِبُ حَمْلُهَا عَلَى ذَلِكَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَذَلِكَ فِي أَنْ يَكُونَ هُوَ أَحَدُهُمْ دَاخِلًا فِي عَدَدِهِمْ فَلِهَذَا لَا تَحْمِلُهَا عَلَى الْمَجَازِ ثُمَّ الْخِيَارُ فِي التِّسْعَةِ إلَى الْإِمَامِ لَا إلَى رَأْسِ الْحِصْنِ لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ أَحَدَ الْعَشَرَةِ فَكَمَا لَا خِيَارَ لِمَنْ سِوَاهُ مِنْ الْعَشَرَةِ فِي التَّعْيِينِ لَا خِيَارَ لَهُ وَهَذَا لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَا حَظٍّ مِنْ أَمَانِ الْعَشَرَةِ عَلَى أَنْ يَتَنَاوَلَهُ حُكْمُ أَمَانِهِمْ لَا عَلَى أَنْ يَكُونَ هُوَ مُعَيِّنًا لَهُمْ وَقَدْ نَالَ مَا سَأَلَ بَقِيَ الْإِمَامُ مُوجِبًا الْأَمَانَ لِتِسْعَةٍ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمْ فَإِلَيْهِ بَيَانُهُمْ. وَلَوْ قَالَ آمِنُوا لِي عَشَرَةً مِنْ أَهْلِ الْحِصْنِ فَلَهُ عَشَرَةٌ يَخْتَارُ أَيْ عَشَرَةً شَاءَ فَإِنْ اخْتَارَ عَشَرَةً هُوَ أَحَدُهُمْ فَذَلِكَ لَهُ جَائِزٌ وَإِنْ اخْتَارَ عَشَرَةً سِوَاهُ فَالْعَشَرَةُ آمِنُونَ وَهُوَ فَيْءٌ لِأَنَّهُ مَا اسْتَأْمَنَ لِنَفْسِهِ عَيْنًا وَإِنَّمَا اسْتَأْمَنَ مِنْ لِعَشَرَةٍ مُنَكَّرَةٍ وَلَكِنْ بِقَوْلِهِ لِي شَرْطٌ لِنَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ ذَا حَظٍّ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ ذَا حَظٍّ عَلَى وَجْهِ مُبَاشَرَةِ الْأَمَانِ لَهُمْ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ ذُو حَظٍّ عَلَى أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُعَيِّنُ لِلْعَشَرَةِ وَنَفْسُهُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ كَنَفْسِ غَيْرِهِ إذَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْأَمَانُ

وَمِنْ ذَلِكَ كَيْفَ وَهُوَ سُؤَالٌ عَنْ الْحَالِ وَهُوَ اسْمٌ لِلْحَالِ فَإِنْ اسْتَقَامَ، وَإِلَّا بَطَلَ وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَوْلِ الرَّجُلِ: أَنْتَ حُرٌّ كَيْفَ شِئْت أَنَّهُ إيقَاعٌ وَفِي الطَّلَاقِ أَنَّهُ يَقَعُ الْوَاحِدَةَ وَيَبْقَى الْفَضْلُ فِي الْوَصْفِ وَالْقَدْرِ وَهُوَ الْحَالُ مُفَوَّضًا بِشَرْطِ نِيَّةِ الزَّوْجِ، وَقَالَا مَا لَا يَقْبَلُ الْإِشَارَةَ فَحَالُهُ وَوَصْفُهُ بِمَنْزِلَةِ أَصْلِهِ فَتَعَلَّقَ الْأَصْلُ بِتَعَلُّقِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQنَصًّا فَإِنْ عَيَّنَ نَفْسَهُ فِي جُمْلَةِ الْعَشَرَةِ صَارَ آمِنًا بِمَنْزِلَةِ التِّسْعَةِ الَّذِينَ عَيَّنَهُمْ مَعَ نَفْسِهِ وَإِنْ عَيَّنَ عَشَرَةً سِوَاهُ فَقَدْ تَعَيَّنَ حُكْمُ الْأَمَانِ فِيهِمْ وَصَارَ هُوَ فَيْئًا كَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْحِصْنِ وَكَانَ مَعْنَى كَلَامِهِ أَمِّنُوا لِأَجْلِي عَشَرَةً وَأَوْجِبُوا لِي حَقَّ تَعْيِينِ عَشَرَةٍ تُؤَمِّنُونَهُمْ. وَرُوِيَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا وَقَعَ فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ وَكَانَ الَّذِي يَسْعَى فِي طَلَبِ الْأَمَانِ لِلْجَمَاعَةِ قَدْ آذَى الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ اللَّهُمَّ أَغْفِلْهُ عَنْ نَفْسِهِ فَطَلَبَ الْأَمَانَ لِقَوْمِهِ وَأَهْلِهِ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فَأُخِذَ وَقُتِلَ. وَقِيلَ صَاحِبُ الْقِصَّةِ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَذَلِكَ زَمَنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - اسْتَأْمَنَ إلَيْهِ سَابُورُ مَلِكُ السُّوسِيِّ لِعَشَرَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَنَسِيَ نَفْسَهُ فَقَدَّمَهُ أَبُو مُوسَى وَضَرَبَ عُنُقَهُ. هَذَا كُلُّهُ مِنْ لَطَائِفِ تَقْرِيرِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَذَلِكَ أَيْ ذَلِكَ الْبَابُ يُخَرَّجُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي بَيَانِ الْحُرُوفِ فِي هَذَا الْبَابِ. قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ مِنْ بَابِ حُرُوفِ الْمَعَانِي كَلِمَةُ كَيْفَ كَيْفَ اسْمٌ مُبْهَمٌ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ وَحُرِّكَ آخِرُهُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَهِيَ عَلَى الْفَتْحِ دُونَ الْكَسْرِ لِمَكَانِ الْيَاءِ، وَهُوَ لِلِاسْتِفْهَامِ عَنْ الْأَحْوَالِ وَأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ظَرْفًا حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى فِي وَلَكِنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الظُّرُوفِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى عَلَى، فَإِذَا قُلْت: كَيْفَ زَيْدٌ؟ كَانَ مَعْنَاهُ عَلَى أَيِّ حَالٍ هُوَ أَصَحِيحٌ أَمْ سَقِيمٌ قَاعِدٌ أَمْ قَائِمٌ إلَى آخِرِ مَالَهُ مِنْ الْأَوْصَافِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّقْدِيرِ جَارٍ مَجْرَى الظَّرْفِ؛ لِأَنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِلْحَالِ، وَالْحَالُ جَارِيَةٌ مَجْرَى الظَّرْفِ لِأَنَّهَا مَفْعُولٌ فِيهَا عَلَى مَا عُرِفَ. قَالَ سِيبَوَيْهِ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْحَالِ وَالْأَحْوَالُ شُرُوطٌ، إلَّا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَحْوَالٍ وَصِفَاتٍ لَيْسَتْ فِي يَدِ الْعَبْدِ كَالصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ وَالشَّيْخُوخَةِ وَالْكُهُولَةِ فَلَمْ يَسْتَقِمْ أَنْ تَقُولَ فِيهِ كَيْفَ تَكُنْ أَكُنْ؛ لِأَنَّك بِهَذَا اللَّفْظِ تَضْمَنُ أَنْ تَكُونَ عَلَى أَحْوَالِ الْمُخَاطَبِ وَهُوَ مُتَعَذِّرُ الْوُقُوعِ مِنْك، بِخِلَافِ مَتَى تَجْلِسْ اجْلِسْ وَأَيْنَ تَكُنْ أَكُنْ؛ لِأَنَّك شَرَطْت عَلَى نَفْسِك أَنْ تُسَاوِيَهُ فِي الْجُلُوسِ وَالْحُلُولِ فِي الْمَكَانِ وَهَذَا مَعْنًى يُتَصَوَّرُ وُقُوعُ الشَّرْطِ عَلَيْهِ. وَذُكِرَ فِي الصِّحَاحِ إذَا ضُمَّتْ إلَيْهِ مَا صَحَّ أَنْ يُجَازَى بِهِ كَقَوْلِك كَيْفَمَا تَفْعَلْ أَفْعَلْ.، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لِلسُّؤَالِ عَنْ الْحَالِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْت أَنَّهَا تَطْلُقُ قَبْلَ الْمَشِيئَةِ تَطْلِيقَةً، ثُمَّ إنْ لَمْ تَكُنْ مَدْخُولًا بِهَا فَقَدْ بَانَتْ لَا إلَى عِدَّةٍ وَلَا مَشِيئَةَ لَهَا، وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا فَالتَّطْلِيقَةُ الْوَاقِعَةُ رَجْعَةٌ وَالْمَشِيئَةُ إلَيْهَا فِي الْمَجْلِسِ بَعْدَ ذَلِكَ. فَإِنْ شَاءَتْ الْبَائِنَةَ، وَقَدْ نَوَاهَا الزَّوْجُ كَانَتْ بَائِنَةً، أَوْ إنْ شَاءَتْ ثَلَاثًا، وَقَدْ نَوَاهَا الزَّوْجُ تَطْلُقُ ثَلَاثًا، وَإِنْ شَاءَتْ وَاحِدَةً بَائِنَةً، وَقَدْ نَوَى الزَّوْجُ ثَلَاثًا فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَإِنْ شَاءَتْ ثَلَاثًا، وَقَدْ نَوَى الزَّوْجُ وَاحِدَةً بَائِنَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ لِأَنَّهَا شَاءَتْ غَيْرَ مَا نَوَى وَوَقَعَتْ غَيْرَ مَا فَوَّضَ إلَيْهَا فَلَا يُعْتَبَرُ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ مَا لَمْ تَشَأْ فَإِذَا شَاءَتْ فَالتَّفْرِيعُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ كَيْفَ شِئْت عَتَقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا مَشِيئَةَ لَهُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ، وَإِلَّا بَطَلَ وَلَا يَقَعُ عِنْدَهُمَا مَا لَمْ يَشَأْ فِي الْمَجْلِسِ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. فَلَوْ شَاءَ عِتْقًا عَلَى مَالٍ أَوْ إلَى أَجَلٍ أَوْ بِشَرْطٍ أَوْ شَاءَ التَّدْبِيرَ فَذَلِكَ بَاطِلٌ عِنْدَهُ وَهُوَ حُرٌّ. وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ مَا شَاءَ بِشَرْطِ إرَادَةِ الْمَوْلَى ذَلِكَ وَمَا رَأَيْته فِي كِتَابٍ. هُمَا يَقُولَانِ: إنَّهُ جَعَلَ الطَّلَاقَ مُفَوَّضًا إلَى مَشِيئَتِهَا فَلَا يَقَعُ بِدُونِ مَشِيئَتِهَا كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت أَوْ كَمْ شِئْت أَوْ حَيْثُ شِئْت لَا يَقَعُ شَيْءٌ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا لَمْ تَشَأْ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا فَوَّضَ وَصْفَ الطَّلَاقِ إلَيْهَا يَكُونُ ذَلِكَ تَفْوِيضًا لِنَفْسِ الطَّلَاقِ إلَيْهَا ضَرُورَةَ أَنَّ الْوَصْفَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْأَصْلِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ مِنْ أَوْصَافِ الطَّلَاقِ فَتَكُونُ مُتَعَلِّقَةً بِالْمَشِيئَةِ كَالْبَيْنُونَةِ وَالْعَدَدِ، وَإِذَا تَعَلَّقَتْ بِالْمَشِيئَةِ فَمِنْ ضَرُورَتِهِ تَعَلُّقُ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِدُونِ وَصْفٍ لَا يُوجَدُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ فَيَتَعَلَّقُ الْأَصْلُ بِتَعَلُّقِهِ فَصَارَ الطَّلَاقُ عَلَى أَيِّ وَصْفٍ شَاءَتْ مُفَوَّضًا إلَيْهَا. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إنَّمَا يَتَأَخَّرُ إلَى مَشِيئَتِهَا مَا عَلَّقَهُ الزَّوْجُ بِمَشِيئَتِهَا دُونَ مَا لَمْ يُعَلَّقْ وَكَلِمَةُ كَيْفَ لَا تَرْجِعُ إلَى أَصْلِ الطَّلَاقِ فَيَكُونُ هُوَ مُنْجِزًا أَصْلَ الطَّلَاقِ وَمُفَوِّضًا لِلصِّفَةِ إلَى مَشِيئَتِهَا بِقَوْلِهِ كَيْفَ شِئْت، إلَّا أَنَّ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَفِي الْعِتْقِ لَا مَشِيئَةَ لَهُ فِي الصِّفَةِ بَعْدَ إيقَاعِ الْأَصْلِ فَيَلْغُو تَفْوِيضُهُ الصِّفَةَ إلَى مَشِيئَتِهَا بَعْدَ إيقَاعِ الْأَصْلِ وَفِي الْمَدْخُولِ بِهَا لَهَا الْمَشِيئَةُ فِي الصِّفَةِ بَعْدَ وُقُوعِ الْأَصْلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنْ يَجْعَلَهُ بَائِنًا أَوْ ثَلَاثًا عَلَى مَا عُرِفَ فَيَصِحُّ تَفْوِيضُهُ إلَيْهَا. فَإِنْ قِيلَ: الطَّلَاقُ بَعْدَ الْوُقُوعِ يَحْتَمِلُ وَصْفَ الْبَيْنُونَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَ فِي تَصَرُّفِ الْمَرْأَةِ بِتَفْوِيضِ الزَّوْجِ، لَكِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَصِيرَ الْوَاحِدُ ثَلَاثًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَدْخُلَ فِي تَصَرُّفِ الْمَرْأَةِ بِقَوْلِهِ كَيْفَ شِئْت قُلْنَا: يَحْتَمِلُ أَنْ يَصِيرَ ثَلَاثًا بِضَمِّ الثِّنْتَيْنِ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الْوَاحِدُ لَا يَتَبَدَّلُ فِي نَفْسِهِ حَقِيقَةً، ثُمَّ بِانْضِمَامِ الثِّنْتَيْنِ إلَيْهِ بِتَغَيُّرِ حُكْمِهِ بِأَنْ لَا يَبْقَى مُوجِبًا لِلرَّجْعَةِ وَصَارَ مُؤَثِّرًا فِي الْحُرْمَةِ الْغَلِيظَةِ فَصَارَ فِي مَعْنَى الصِّفَةِ لَهُ فَيَصِحُّ تَفْوِيضُ الزَّوْجِ إلَيْهَا بِلَفْظِ كَيْفَ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الِاسْتِخْبَارَ عَنْ وَصْفِ الشَّيْءِ وَحَالِهِ لَمَّا كَانَ مِنْ ضَرُورَتِهِ وُجُودُ أَصْلِهِ يُقَدَّمُ وُقُوعُ أَصْلِ الطَّلَاقِ فِي ضِمْنِ تَفْوِيضِهِ الْمَشِيئَةَ إلَيْهَا فَإِنَّ الِاسْتِخْبَارَ عَنْ وَصْفِ الشَّيْءِ قَبْلَ وُجُودِ أَصْلِهِ مُحَالٌ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: يَقُولُ خَلِيلِي كَيْفَ صَبْرُك بَعْدَنَا ... فَقُلْت وَهَلْ صَبْرٌ فَيُسْأَلَ عَنْ كَيْفَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: كَمْ شِئْت؛ لِأَنَّ الْكَمِّيَّةَ اسْتِخْبَارٌ عَنْ الْعَدَدِ فَتَقْتَضِي تَفْوِيضَ الْعَدَدِ إلَى مَشِيئَتِهَا، وَأَصْلُ الْعَدَدِ فِي الْمَعْدُودَاتِ الْوَاحِدُ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِآخَرَ: كَمْ مَعَك اسْتَقَامَ الْجَوَابُ عَنْهُ بِالْوَاحِدِ. وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ حَيْثُ شِئْت أَوْ إنْ شِئْت؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَكَانِ وَالطَّلَاقُ إذَا وَقَعَ فِي مَكَان يَكُونُ وَاقِعًا فِي الْأَمْكِنَةِ كُلِّهَا فَكَانَ ذَلِكَ تَعْلِيقُ أَصْلِ الطَّلَاقِ بِمَشِيئَتِهَا كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي أَيِّ مَكَان شِئْت الطَّلَاقَ. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قَدْ تُضَافُ إلَى مَوْجُودٍ فَيَصِيرُ اسْتِيضَافًا، وَقَدْ يُضَافُ إلَى مَعْدُومٍ فَيَكُونُ لِتَعْلِيقِ الْأَصْلِ بِأَوْصَافِهِ بِالْمَشِيئَةِ كَمَا فِي قَوْلِك افْعَلْ كَيْفَ شِئْت، وَطَلِّقِي كَيْفَ نَفْسَكِ شِئْتِ فَيَكُونُ كَيْفَ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْت دَالًّا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الطَّلَاقَ بِحَيْثُ يُوجَدُ بِمَشِيئَتِهِ كَمَا أَنَّهُ فِي قَوْلِهِ افْعَلْ كَيْفَ شِئْت يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ يَتَكَوَّنُ مِنْهُ بِمَشِيئَتِهِ. قُلْنَا: إنَّا لَا نُنْكِرُ دُخُولَ كَيْفَ عَلَى مَعْدُومٍ سَيُوجَدُ وَلَكِنْ نَقُولُ: إنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لِأَصْلِ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَتَعَرَّضُ لِوَصْفِهِ فَقَوْلُهُ افْعَلْ وَطَلِّقِي لِطَلَبِ الْفِعْلِ، وَالتَّفْوِيضُ قَبْلَ دُخُولِ كَيْفَ عَلَيْهِ وَلَا يُوجِبُ وُجُودَ الْفِعْلِ وَالطَّلَاقُ فِي الْحَالِ فَكَذَا بَعْدَ دُخُولِهِ، وَقَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ يُوجِبُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي الْحَالِ قَبْلَ دُخُولِ كَيْفَ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ دُخُولِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لِلْأَصْلِ. فَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَقِيقَةُ الْكَلَامِ وَمَا قَالَاهُ مَعَانِي كَلَامِ النَّاسِ عُرْفًا وَاسْتِعْمَالًا، كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَالْمَبْسُوطِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ قَدْ يُسْلَبُ عَنْ كَيْفَ فَيَبْقَى دَالًّا عَلَى نَفْسِ الْحَالِ كَمَا حَكَى قُطْرُبُ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ اُنْظُرْ إلَى

وَأَمَّا كَمْ فَاسْمٌ لِلْعَدَدِ الَّذِي هُوَ الْوَاقِعُ ـــــــــــــــــــــــــــــQكَيْفَ يَصْنَعُ أَيْ إلَى الْحَالِ صَنْعَتَهُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ وَهُوَ اسْمٌ لِلْحَالِ بَعْدَ قَوْلِهِ وَهُوَ سُؤَالٌ عَنْ الْحَالِ، أَيْ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ اسْمًا لِلْحَالِ مِنْ غَيْرِ مَعْنَى السُّؤَالِ فِيهِ كَمَا فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْحَالِ مِنْ غَيْرِ مَعْنَى السُّؤَالِ حَتَّى لَمْ يَصِحَّ تَقْدِيرُ السُّؤَالِ فِيهِ وَصَحَّ التَّعْلِيقُ بِالْمَشِيئَةِ، وَلَوْ بَقِيَ فِيهِ مَعْنَى السُّؤَالِ لَوَقَعَ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيقِ الْوَصْفِ بِمَشِيئَتِهَا أَنَّهُ إيقَاعٌ لِأَنَّهُ لَا وَصْفَ لِلْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْوُقُوعِ لِيَتَعَلَّقَ بِالْمَشِيئَةِ وَيَبْقَى الْفَضْلُ عَلَى أَصْلِ الطَّلَاقِ فِي الْوَصْفِ أَيْ الْبَيْنُونَةِ، وَالْقَدْرُ أَيْ الْعَدَدُ وَهُوَ الْحَالُ أَيْ الْفَضْلُ هُوَ الْحَالُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهَا كَيْفَ مُفَوَّضًا إلَى الْمَرْأَةِ. بِشَرْطِ نِيَّةِ الزَّوْجِ يَعْنِي فِي حَقِّ الْمَدْخُولِ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى فَضْلٌ بَعْدَ الْوُقُوعِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا لِيَتَعَلَّقَ بِالْمَشِيئَةِ كَمَا فِي الْحُرِّيَّةِ. وَلَا يُقَالُ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يُحْتَاجَ إلَى نِيَّةِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَيْهَا يَجِبُ أَنْ تَسْتَقِلَّ بِإِثْبَاتِ مَا فَوَّضَ إلَيْهَا اعْتِبَارًا بِعَامَّةِ التَّفْوِيضَاتِ. لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّمَا فَوَّضَ إلَيْهَا حَالَ الطَّلَاقِ بِكَلِمَةِ كَيْفَ وَالْحَالُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْبَيْنُونَةِ وَالْعَدَدِ فَيُحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ لِتَعْيِينِ أَحَدِ الْمُحْتَمَلَيْنِ. وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيّ أَنَّ نِيَّةَ الزَّوْجِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّ لَهَا أَنْ يَجْعَلَ الطَّلَاقَ بَائِنًا وَثَلَاثًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَدْ جَعَلَ الطَّحَاوِيُّ الْمَشِيئَةَ إلَيْهَا فِي إثْبَاتِ وَصْفِ الْبَيْنُونَةِ وَالثَّلَاثِ حَتَّى قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّهُ إذَا لَمْ يَنْوِ الزَّوْجُ شَيْئًا وَشَاءَتْ الْمَرْأَةُ ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً بَائِنَةً يَقَعُ مَا أَوْقَعَتْ بِالِاتِّفَاقِ. أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ الزَّوْجَ أَقَامَ امْرَأَتَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي إثْبَاتِ الْوَصْفِ. وَالزَّوْجُ مَتَى أَوْقَعَ طَلَاقًا رَجْعِيًّا يَمْلِكُ أَنْ يَجْعَلَهُ بَائِنًا وَثَلَاثًا عِنْدَهُ فَكَذَا الْمَرْأَةُ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا، فَكَذَلِكَ تَمْلِكُ إيقَاعَ الْبَائِنِ وَإِيقَاعَ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الطَّلَاقَ إلَيْهَا عَلَى أَيِّ وَصْفٍ شَاءَتْ، كَذَا فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ. وَقَالَا مَا لَا يَقْبَلُ الْإِشَارَةَ أَيْ مَا لَا يَكُونُ مَحْسُوسًا يُشَارُ إلَيْهِ مِثْلُ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهَا. فَحَالُهُ مِثْلُ كَوْنِ الطَّلَاقِ مَثَلًا بَائِنًا وَرَجْعِيًّا. وَوَصْفُهُ مِثْلُ كَوْنِهِ سُنِّيًّا وَبِدْعِيًّا، وَإِلَّا ظَهَرَ أَنَّهُ تَرَادُفٌ بِمَنْزِلَةِ أَصْلِهِ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُعَايَنًا مَحْسُوسًا كَانَ مَعْرِفَةُ وُجُودِهِ بِآثَارِهِ وَأَوْصَافِهِ كَوُجُودِ النِّكَاحِ يُعْرَفُ بِأَثَرِهِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْحِلِّ وَوُجُودُ الْبَيْعِ بِأَثَرِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَعْرِفَةُ وُجُودِهِ مُفْتَقِرًا إلَى وَصْفِهِ كَافْتِقَارِ وَصْفِهِ فِي وُجُودِهِ إلَيْهِ فَكَانَ وَصْفُهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَصْلِ مِنْ هَذَا لِوَجْهٍ فَإِذَا تَعَلَّقَ الْوَصْفُ تَعَلَّقَ الْأَصْلُ الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّبَعِ مِنْ وَجْهٍ يَتَعَلَّقُهُ أَيْضًا. قَوْلُهُ (وَأَمَّا كَمْ فَاسْمٌ) لِكَذَا كَمْ اسْمٌ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مَوْضُوعٌ لِلْكِنَايَةِ عَنْ الْأَعْدَادِ وَفِي الصِّحَاحِ كَمْ اسْمٌ نَاقِصٌ مُبْهَمٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكُونِ وَإِنْ جَعَلْته اسْمًا تَامًّا شَدَّدْت آخِرَهُ وَصَرَفْته فَقُلْت أَكْثَرْت مِنْ الْكَمِّ وَالْكَمِّيَّةِ. فَإِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ كَمْ شِئْتِ لَمْ تَطْلُقْ قَبْلَ الْمَشِيئَةِ وَيَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ وَكَانَ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا بِشَرْطِ مُطَابَقَةِ إرَادَةِ الزَّوْجِ كَذَا رَأَيْت بِخَطِّ شَيْخِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُعَلَّمًا بِعَلَامَةِ الْبَزْدَوِيِّ. وَذَلِكَ لِأَنَّ كَلِمَةَ كَمْ اسْمٌ لِلْعَدَدِ الْمُبْهَمِ كَمَا ذَكَرْنَا وَالْعَدَدُ هُوَ الْوَاقِعُ فِي الطَّلَاقِ إمَّا مُقْتَضًى كَمَا فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا التَّقْدِيرُ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً أَوْ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً وَإِمَّا مَذْكُورًا كَمَا فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا أَوْ ثِنْتَيْنِ أَوْ وَاحِدَةً وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ كَمْ اسْمٌ لِلْعَدَدِ الَّذِي هُوَ الْوَاقِعُ وَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ، وَقَدْ دَخَلَتْ الْمَشِيئَةُ عَلَى نَفْسِ الْوَاقِعِ الَّذِي هُوَ الْعَدَدُ تَعَلَّقَ أَصْلُهُ بِالْمَشِيئَةِ بِخِلَافِ كَيْفَ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ

[باب الصريح والكناية]

وَحَيْثُ اسْمٌ لِمَكَانٍ مُبْهَمٍ دَخَلَ عَلَى الْمَشِيئَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (بَابُ الصَّرِيحِ) (وَالْكِنَايَةِ) مِثْلُ قَوْلِ الرَّجُلِ بِعْت وَاشْتَرَيْت وَوَهَبْت؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْمُرَادِ وَحُكْمُهُ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِعَيْنِ الْكَلَامِ وَقِيَامُهُ مَقَامَ مَعْنَاهُ حَتَّى اُسْتُغْنِيَ عَنْ الْعَزِيمَةِ، وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَحُكْمُ الْكِنَايَةِ أَنْ لَا يَجِبَ الْعَمَلُ بِهِ إلَّا بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَتِرُ الْمُرَادِ وَذَلِكَ مِثْلُ الْمَجَازِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مُتَعَارَفًا وَلِذَلِكَ سَمَّى أَسْمَاءَ الضَّمِيرِ كِنَايَةً مِثْلُ أَنَا وَأَنْتَ وَنَحْنُ ـــــــــــــــــــــــــــــQطَالِقٌ أَيَّ عَدَدٍ شِئْت. وَلَمَّا كَانَ هَذِهِ الْكَلِمَةُ لِلْعَدَدِ الْمُبْهَمِ صَارَتْ عَامَّةً فَكَانَ لَهَا أَنْ تَشَاءَ الْوَاحِدَةَ وَالثِّنْتَيْنِ وَالثَّلَاثَ. وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي كَلَامِهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْوَقْتِ تَقَيَّدَتْ الْمَشِيئَةُ بِالْمَجْلِسِ إلَى مَا ذَكَرْنَا أَشَارَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا حَيْثُ، فَاسْمٌ لِمَكَانٍ مُبْهَمٍ) حَيْثُ اسْمٌ مَبْنِيٌّ مِنْ ظُرُوفِ الْمَكَانِ كَأَيْنَ وَحُرِّكَ آخِرُهُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَبُنِيَ عَلَى الضَّمِّ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْغَايَاتِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَجِئْ الْإِضَافَةُ إلَى جُمْلَةِ كَذَا قَبْلُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْنِيهَا عَلَى الْفَتْحِ اسْتِثْقَالًا لِلْكَثْرَةِ مَعَ الْيَاءِ. وَمِنْهُمْ مَنْ كَسَرَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَحَيْثُ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ لُغَةٌ فِيهِ أَيْضًا وَلَا يَصِحُّ إضَافَتُهُ إلَى الْمُفْرَدِ وَأَمَّا مَا يَقُولُهُ النَّاسُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ بِالْكَسْرِ فَخَطَأٌ وَإِنَّمَا الصَّوَابُ هُوَ الرَّفْعُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَالْخَبَرُ مُضْمَرٌ أَوْ هُوَ ثَابِتٌ أَوْ نَحْوُهُ. فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ حَيْثُ شِئْت لَا تَطْلُقُ قَبْلَ الْمَشِيئَةِ وَيَتَوَقَّفُ بِالْمَجْلِسِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مِنْ ظُرُوفِ الْمَكَانِ وَلَا اتِّصَالَ لِلطَّلَاقِ بِالْمَكَانِ فَيَلْغُو ذِكْرُهُ وَيَبْقَى ذِكْرُ الْمَشِيئَةِ فِي الطَّلَاقِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَغَا ذِكْرُ الْمَكَانِ بَقِيَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ لِلْحَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَالْمَسْأَلَةُ فِي التَّجْرِيدِ وَالْكِفَايَةِ. قُلْنَا: لَمَّا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِالظَّرْفِيَّةِ جَعَلْنَاهُ مَجَازًا لِحَرْفِ الشَّرْطِ لِمُشَارَكَتِهِمَا فِي الْإِبْهَامِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إنْ شِئْت وَالِاسْتِعَارَةُ أَوْلَى مِنْ الْإِلْغَاءِ. فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَمْ يُجْعَلْ بِمَنْزِلَةِ إذَا وَمَتَى حَتَّى لَا يَبْطُلَ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ وَفِيهِ رِعَايَةُ مَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ. قُلْنَا: جَعْلُهُ مَجَازًا لِحَرْفِ إنْ أَوْلَى إذْ هُوَ الْأَصْلُ فِي بَابِ الشَّرْطِ وَمَا وَرَاءَهُ مُلْحَقٌ بِهِ، كَذَا فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ] إنَّمَا أَعَادَ ذِكْرَ نَظَائِرِ الصَّرِيحِ بَعْدَمَا ذَكَرَ بَعْضَهَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ بَيَانَ الْحُكْمِ إذْ هُوَ مَقْصُودُ الْبَابِ. وَحُكْمُهُ أَيْ حُكْمُ الصَّرِيحِ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ. تَعَيُّنُ الْكَلَامِ أَيْ بِنَفْسِهِ. وَقِيَامُهُ أَيْ قِيَامُ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ الصَّرِيحُ مَقَامَ مَعْنَاهُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ أَرَادَ ذَلِكَ الْمَعْنَى أَوْ لَمْ يُرِدْ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ حَتَّى اسْتَغْنَى أَيْ الصَّرِيحُ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ عَنْ الْعَزِيمَةِ. فَإِذَا أَضَافَ الطَّلَاقَ أَوْ الْعَتَاقَ مَثَلًا إلَى الْمَحَلِّ فَبِأَيِّ وَجْهٍ أَضَافَهُمَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ حَتَّى لَوْ قَالَ يَا حُرُّ أَوْ يَا طَالِقُ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ حَرَّرْتُك أَوْ طَلَّقْتُك يَكُونُ إيقَاعًا نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ؛ لِأَنَّ عَيْنَهُ أُقِيمَ مَقَامَ مَعْنَاهُ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ لِكَوْنِهِ صَرِيحًا فِيهِ. ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ سُبْحَانَ اللَّهِ فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ أَنْت حُرٌّ أَوْ أَنْت طَالِقٌ ثَبَتَ الْعَتَاقُ وَالطَّلَاقُ لِمَا ذَكَرْنَا. أَمَّا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَصْرِفَ الْكَلَامَ بِالنِّيَّةِ عَنْ مُوجَبِهِ إلَى مُحْتَمِلِهِ فَلَهُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا نَوَى فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ رَفْعَ حَقِيقَةِ الْقَيْدِ يُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً. وَفَصَّلَ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ عَنْ النَّظَائِرِ الْمَذْكُورَةِ بِقَوْلِهِ، وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْإِسْقَاطَاتِ وَتِلْكَ النَّظَائِرُ مِنْ الْعُقُودِ قَوْلُهُ (وَحُكْمُ الْكِنَايَةِ) أَنْ لَا يَجِبَ الْعَمَلُ بِهِ أَيْ بِهَذَا اللَّفْظِ، إلَّا بِالنِّيَّةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ دَلَالَةِ الْحَالِ لِأَنَّهُ أَيْ لَفْظَ الْكِنَايَةِ مُسْتَتِرُ الْمُرَادِ فَكَانَ فِي ثُبُوتِ الْمُرَادِ تَرَدُّدٌ فَلَا يُوجِبُ الْحُكْمَ مَا لَمْ يَزُلْ ذَلِكَ الِاسْتِتَارُ وَالتَّرَدُّدُ. وَذَلِكَ مِثْلُ الْمَجَازِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ

وَسَمَّى الْفُقَهَاءُ أَلْفَاظَ الطَّلَاقِ الَّتِي لَمْ يُتَعَارَفْ كِنَايَاتٌ مِثْلُ الْبَائِنِ وَالْحَرَامِ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ هَذِهِ كَلِمَاتٌ مَعْلُومَةُ الْمَعَانِي غَيْرَ مُسْتَتِرٍ لَكِنَّ الْإِبْهَامَ فِيمَا يَتَّصِلُ بِهِ وَيُعْمَلُ فِيهِ فَلِذَلِكَ شَابَهَتْ الْكِنَايَاتِ فَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ مَجَازًا وَلِهَذَا الْإِبْهَامِ اُحْتِيجَ إلَى النِّيَّةِ فَإِذَا وُجِدَتْ النِّيَّةُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِمُوجِبَاتِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْعَلَ عِبَارَةً عَنْ الصَّرِيحِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمُتَعَارَفًا أَيْ مِنْ نَظَائِرِ الْكِنَايَةِ الْمَجَازُ الَّذِي لَمْ يُتَعَارَفْ بَيْنَ النَّاسِ؛ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِاسْتِعْمَالِهِ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ سَتَرَ الْمُرَادَ عَنْ السَّامِعِ فَصَارَ الْمُرَادُ فِي حَقِّهِ فِي حَيِّزِ التَّرَدُّدِ فَكَانَ كِنَايَةً. فَأَمَّا إذَا صَارَ مُتَعَارَفًا فَقَدْ صَارَ صَرِيحًا مِثْلُ قَوْلِهِ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلَانٍ فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الدُّخُولِ مَجَازًا وَشَاعَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ فَصَارَ صَرِيحًا. وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِاسْتِتَارِ الْمُرَادِ سَمَّى أَسْمَاءَ الضَّمِيرِ كِنَايَةً، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ قَوْلُهُ (وَسَمَّى الْفُقَهَاءُ) يَعْنِي أَنَّهُمْ سَمَّوْا الْأَلْفَاظَ الَّتِي لَمْ يَتَعَارَفْ إيقَاعُ الطَّلَاقِ بِهَا كِنَايَاتٍ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ لَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ الْحَقِيقِيَّةَ هِيَ مُسْتَتِرَةُ الْمُرَادِ، وَالْمَعْنَى وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ مَعْلُومَةُ الْمَعَانِي غَيْرُ مُسْتَتِرَةٍ عَلَى السَّامِعِ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ يَعْلَمُ مَعْنَى الْبَائِنِ وَالْحَرَامِ وَأَلْبَتَّةَ وَنَحْوَهَا فَلَا يَكُونُ كِنَايَاتٍ حَقِيقَةً. ثُمَّ بَيَّنَ وَجْهَ تَسْمِيَتِهَا كِنَايَاتٍ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ بِقَوْلِهِ لَكِنَّ الْإِبْهَامَ فِيمَا يَتَّصِلُ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ بِهِ وَتَعْمَلُ فِيهِ لِأَنَّ الْبَائِنَ مَثَلًا يَدُلُّ عَلَى الْبَيْنُونَةِ وَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَحَلٍّ تَحِلُّهُ، وَتُظْهِرُ أَثَرَهَا فِيهِ وَمَحِلُّهَا الْوَصْلَةُ وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ قَدْ تَكُونُ بِالنِّكَاحِ، وَقَدْ تَكُونُ بِغَيْرِهِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اسْتَتَرَ الْمُرَادُ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِيهِ لِأَنَّا لَا نَدْرِي أَيُّ مَحَلٍّ أَرَادَهُ. فَلِذَلِكَ أَيْ لِهَذَا الْإِبْهَامِ الَّذِي ذَكَرْنَا شَابَهَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ الْكِنَايَاتِ الْحَقِيقِيَّةَ. فَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ بِذَلِكَ أَيْ بِاسْمِ الْكِنَايَةِ مَجَازًا وَلِهَذَا الْإِبْهَامِ الَّذِي ذَكَرْنَا اُحْتِيجَ فِيهَا إلَى النِّيَّةِ لِيَتَعَيَّنَ الْبَيْنُونَةُ عَنْ وَصْلَةِ النِّكَاحِ عَنْ غَيْرِهَا. فَإِذَا وُجِدَتْ النِّيَّةُ أَيْ نَوَى وَصْلَةَ النِّكَاحِ وَزَالَ الْإِبْهَامُ ظَهَرَ أَثَرُ الْبَيْنُونَةِ فِيهَا وَكَانَ اللَّفْظُ عَامِلًا بِنَفْسِهِ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِمُوجِبَاتِهَا أَيْ بِمُقْتَضَيَاتِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ نَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْعَلَ عِبَارَةً عَنْ صَرِيحِ الطَّلَاقِ وَكِنَايَةً عَنْهُ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ إنَّمَا سُمِّيَتْ كِنَايَاتٌ مَجَازًا بَلْ هِيَ كِنَايَاتٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ مَا هُوَ مُسْتَتِرٌ الْمُرَادُ عَلَى مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَإِذَا قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَالْمُرَادُ مُسْتَتِرٌ عَلَى السَّامِعِ بِدُونِ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ فَكَانَ دَاخِلًا فِي حَدِّ الْكِنَايَةِ بَلْ الِاسْتِتَارُ فِيهِ أَقْوَى مِنْهُ فِي قَوْلِهِ طَوِيلُ النِّجَادِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُتَوَصَّلَ إلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ وَهُوَ طُولُ الْقَامَةِ بِالتَّأَمُّلِ فِي قَرَائِنِ الْكَلَامِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَوَصَّلَ إلَى الْمُرَادِ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، إلَّا بِبَيَانٍ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ بِمَنْزِلَةِ الْمُجْمَلِ. وَقَوْلُهُ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ مَعْلُومَةُ الْمَعَانِي لَا يَجِدُ بِهِ نَفْعًا؛ لِأَنَّهَا مَعَ كَوْنِهَا مَعْلُومَةَ الْمَعَانِي مُسْتَتِرَةُ الْمُرَادِ وَكُلُّ كِنَايَةٍ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَإِنَّ قَوْلَهُ طَوِيلُ النِّجَادِ كَثِيرُ الرَّمَادِ مَعْلُومُ الْمَعْنَى لُغَةً وَلَكِنَّهُ مُسْتَتِرُ الْمُرَادِ. قُلْنَا: قَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَنَّ مَبْنَى الْكِنَايَةِ عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْ اللَّازِمِ إلَى الْمَلْزُومِ فَإِنَّك فِي قَوْلِك طَوِيلُ النِّجَادِ تَتَنَقَّلُ مِنْ طُولِ النِّجَادِ مَعَ أَنَّكَ تُرِيدُهُ إلَى طُولِ الْقَامَةِ وَمِنْ كَثْرَةِ الرَّمَادِ إلَى مَلْزُومِهِ وَهُوَ الْجُودِ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْكِنَايَاتِ، وَفِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لَا انْتِقَالَ مِنْ مَعَانِيهَا إلَى شَيْءٍ آخَرَ فَإِنَّك فِي قَوْلِك أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ أَنْتِ حَرَامٌ لَا تَتَنَقَّلُ مِنْ الْبَيْنُونَةِ وَالْحُرْمَةِ إلَى شَيْءٍ آخَرَ بَلْ تَقْتَصِرُ عَلَيْهِمَا إذْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ آخَرَ هُوَ الْمُرَادُ سِوَاهُمَا فَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ فِيهَا مَا هُوَ الْأَصْلُ فِيهَا وَهُوَ الِانْتِقَالُ إلَى شَيْءٍ آخَرَ لَا تَكُونُ كِنَايَاتٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَلَا نُسَلِّمُ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْهَا مُسْتَتِرٌ عَلَى السَّامِعِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا الْبَيْنُونَةُ وَالْحُرْمَةُ وَالْقَطْعُ وَنَحْوُهَا وَهُوَ مَعْلُومٌ لِلسَّامِعِ، إلَّا أَنَّ مَحَلَّ عَمَلِهَا مُسْتَتِرٌ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَا فَلَا يَكُونُ مَا هُوَ

وَلِذَلِكَ جَعَلْنَاهَا بَوَائِنَ وَانْقَطَعَتْ بِهَا الرَّجْعَةُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُرَادُ مُسْتَتِرًا مُطْلَقًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ طَوِيلُ النِّجَادِ فَإِنَّ طُولَهُ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ أَصْلِيٍّ بَلْ الْمَقْصُودُ الْكُلِّيُّ طُولُ الْقَامَةِ وَذَلِكَ مُسْتَتِرٌ. وَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ هَذِهِ كَلِمَاتٌ مَعْلُومَةُ الْمَعَانِي غَيْرُ مُسْتَتِرِ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ الْمُرَادُ لِلْمُتَكَلِّمِ يَعْنِي أَنَّهَا مَعْلُومَةَ الْمُرَادِ وَالِاسْتِتَارِ فِي مَحَلِّ عَمَلِهَا فَتَخْرُجُ بِهِ عَنْ حَدِّ الْكِنَايَةِ الَّذِي ذَكَرَهُ. قَوْلُهُ (وَلِذَلِكَ) أَيْ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ عَامِلَةٌ بِنَفْسِهَا جَعَلْنَاهَا بَوَائِنَ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهَا يَدُلُّ عَلَى الْبَيْنُونَةِ وَالْقَطْعِ وَالْحُرْمَةِ عَلَى مَا عُرِفَ. وَقَوْلُهُ وَانْقَطَعَتْ بِهَا الرَّجْعَةُ تَفْسِيرٌ لِكَوْنِهَا بَوَائِنَ. وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَذَهَبَ عَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إلَى أَنَّ الْوَاقِعَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ بَوَائِنُ وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا وَذَهَبَ عُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إلَى أَنَّ الْوَاقِعَ بِهَا رَوَاجِعُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ. وَلِقَلْبِ الْمَسْأَلَةِ الْكِنَايَاتُ بَوَائِنُ أَمْ لَا وَهَذَا اللَّقَبُ عَلَى أَصْلِهِ مُسْتَقِيمٌ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ كِنَايَاتٌ عَنْ لَفْظِ الطَّلَاقِ حَقِيقَةً مِثْلُ كِنَايَاتِ الْعَتَاقِ وَكِنَايَاتِ النِّكَاحِ عَلَى أَصْلِنَا كَالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ وَالتَّمْلِيكِ وَعِنْدَنَا هَذَا اللَّقَبُ مَجَازٌ كَمَا بَيَّنَّا. وَالِاخْتِلَافُ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ مَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ إيقَاعَهُ نَوْعٌ وَاحِدٌ عِنْدَهُ وَهُوَ الطَّلَاقُ فَأَمَّا إيقَاعُ الْبَيْنُونَةِ فَلَيْسَ فِي وِلَايَتِهِ وَإِنَّمَا تَقَعُ حُكْمًا لِسُقُوطِ الْعِدَّةِ أَوْ لِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ الْغَلِيظَةِ وَلِوُجُوبِ الْعِوَضِ. وَعِنْدَنَا الطَّلَاقُ نَوْعَانِ: رَجْعِيٌّ وَبَائِنٌ، فَكَمَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ إيقَاعَ الرَّجْعِيِّ يَمْلِكُ إيقَاعَ الْبَائِنِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ كِنَايَاتٍ عَنْ الطَّلَاقِ حَقِيقَةً عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ عَامِلَةً بِنَفْسِهَا إذْ لَيْسَ فِي وِلَايَتِهِ إيقَاعُ الْبَائِنِ وَعِنْدَنَا لَمَّا كَانَ فِي وِلَايَتِهِ ذَلِكَ جَعَلْنَاهَا عَامِلَةً بِنَفْسِهَا وَحَقِيقَتِهَا إذْ لَا ضَرُورَةَ فِي الْعُدُولِ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى غَيْرِهَا. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ قَوْله تَعَالَى. {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] . الْآيَةَ ذَكَرَ الطَّلَاقَ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَشَرَعَ بَعْدَهُ الرَّجْعَةَ وَذَكَرَ الطَّلَاقَ بِبَدَلٍ وَلَمْ يَذْكُرْ الرَّجْعَةَ وَذَكَرَ الثَّلَاثَ وَبَيَّنَ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ فَمَنْ قَالَ: إنَّ الطَّلَاقَ الْقَاطِعَ لِلرَّجْعَةِ بِغَيْرِ بَدَلٍ مَشْرُوعٍ فَقَدْ خَالَفَ النَّصَّ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ أَنَّ السَّبَبَ الْقَاطِعَ لِلرَّجْعَةِ فِي الشَّرْعِ لَمْ يُجْعَلْ قَاطِعًا إلَّا بِالْعِوَضِ أَوْ بِمَعْنَى الْعِدَّةِ أَوْ بِإِثْبَاتِ الْحُرْمَةِ لَمْ يَمْلِكْ الزَّوْجُ تَغْيِيرَ ذَلِكَ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْقَطْعِ كَالْهِبَةِ لَمَّا شُرِعَتْ مُوجِبَةً لِلْمِلْكِ مَعَ الْقَرِينَةِ وَهِيَ الْقَبْضُ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا مُوجِبَةً بِنَفْسِهَا بِالتَّنْصِيصِ بِأَنْ قَالَ وَهَبْت لَك هِبَةً تُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهَا قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ تَغْيِيرَ حُكْمِ الشَّرْعِ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِكُمْ: إنَّ الطَّلَاقَ وَقَعَ فِي ضِمْنِ قَوْلِهِ: بَائِنٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْغُوَ صَرِيحُهُ؛ لِأَنَّا لَا نُوقِعُ الطَّلَاقَ فِي ضِمْنِهِ بَلْ نَجْعَلُ قَوْلَهُ بَائِنٌ عِبَارَةً عَنْ الطَّلَاقِ مَجَازًا وَمَتَى صَارَ مَجَازًا فِي غَيْرِهِ سَقَطَ حَقِيقَةً فِي نَفْسِهِ وَكَانَ الرَّجُلُ فِي هَذِهِ بِمَنْزِلَةِ امْرَأَةٍ قَالَ لَهَا زَوْجُهَا طَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ: أَبَنْت نَفْسِي أَوْ أَنَا بَائِنٌ فَإِنَّهَا تَطْلُقُ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُمَلَّكْ إلَّا طَلَاقًا وَبَائِنٌ إنَّمَا يَعْمَلُ عَلَى سَبِيلِ الْعِبَارَةِ عَنْهُ لَا عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَكَذَلِكَ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا مَلَّكَهُ، إلَّا بِأَنَّهُ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَمَا شَرَعَهَا لَهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ الدُّخُولِ ثَبَتَ لَهُ خِيَارُ الرَّجْعَةِ وَلَوْ قَالَ أَسْقَطْت الْخِيَارَ أَوْ قَالَ طَلَّقْت عَلَى أَنْ لَا رَجْعَةَ لِي عَلَيْك لَمْ يَسْقُطْ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ إلَيْهِ إسْقَاطَهُ، فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ أَبَنْت أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ لَا يُثْبِتُ الْبَيْنُونَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِهِ، إلَّا إسْقَاطَ خِيَارِ الرَّجْعَةِ. وَحُجَّتُنَا الْإِبَانَةُ تَصَرُّفٌ مِنْ الزَّوْجِ فِي مِلْكِهِ فَيَصِحُّ كَإِيقَاعِ أَصْلِ الطَّلَاقِ. وَبَيَانُهُ أَنَّ الطَّلَاقَ

إلَّا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ اعْتَدِّي؛ لِأَنَّ حَقِيقَتَهَا الْحِسَابُ وَلَا أَثَرَ لِذَلِكَ فِي النِّكَاحِ وَالِاعْتِدَادُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا يُعَدُّ مِنْ غَيْرِ الْأَقْرَاءِ فَإِذَا نَوَى الْأَقْرَاءَ فَزَالَ الْإِبْهَامُ وَجَبَ بِهِ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ اقْتِضَاءً ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالنِّكَاحِ مَمْلُوكٌ لِلزَّوْجِ وَمَا صَارَ مَمْلُوكًا إلَّا لِلْحَاجَةِ إلَى التَّقَصِّي عَنْ عُهْدَةِ الْمِلْكِ وَذَلِكَ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ وَالْإِبَانَةِ، وَكَذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ الْإِبَانَةُ مَمْلُوكَةٌ لِلزَّوْجِ بِمِلْكِ النِّكَاحِ وَبِالدُّخُولِ يَتَأَكَّدُ مِلْكُهُ فَلَا يَبْطُلُ مَا كَانَ ثَابِتًا لَهُ مِنْ وِلَايَةِ الْإِزَالَةِ، وَكَذَلِكَ يَمْلِكُ الِاعْتِيَاضَ عَنْ إزَالَةِ الْمِلْكِ وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الِاعْتِيَاضَ عَمَّا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِبَانَةَ مَمْلُوكَةٌ لَهُ فَكَانَ إيقَاعُ الْبَيْنُونَةِ تَصَرُّفًا مِنْهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَيَجِبُ إعْمَالُهُ مَا أَمْكَنَ. وَكَانَ يَنْبَغِي عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنْ يَزُولَ الْمِلْكُ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ، إلَّا أَنَّ حُكْمَ الرَّجْعَةِ بَعْدَ صَرِيحِ الطَّلَاقِ ثَبَتَ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ وَمَا ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لَا يَلْحَقُ بِهِ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ وَالْبَائِنُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجَامِعُ النِّكَاحَ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ يُجَامِعُهُ فَإِنَّ مَنْ تَزَوَّجَ الْمُطَلَّقَةَ صَارَتْ مَنْكُوحَةً وَلَمْ يَرْتَفِعْ الطَّلَاقُ الْأَوَّلُ وَلَا انْقَطَعَ أَصْلُ حُكْمِهِ حَتَّى لَوْ طَلُقَتْ ثِنْتَيْنِ حَرُمَتْ حُرْمَةً غَلِيظَةً فَكَانَتْ مُطَلَّقَةً مَنْكُوحَةً، فَكَذَلِكَ مَعَ خِيَارِ الرَّجْعَةِ بَقِيَتْ مُطَلَّقَةً مَنْكُوحَةً وَمَعَ صِفَةِ الْإِبَانَةِ وَالتَّحْرِيمِ لَا يُتَصَوَّرُ قِيَامُ النِّكَاحِ لَا يُقَالُ حَرَامٌ حَلَالٌ مُبَادَلَةً عَنْ زَوْجِهَا مَنْكُوحَةً فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ يُؤْخَذُ فِيهِ بِأَصْلِ الْقِيَاسِ وَكَانَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ مُحْتَمِلًا لِلطَّلَاقِ الْمُبِينِ وَغَيْرِ الْمُبِينِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: بَائِنٌ، تَعْيِينًا لِأَحَدِ الْمُحْتَمَلَيْنِ، كَمَا إذَا قَالَ: بِعْت، يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ بِخِيَارٍ وَالْبَيْعَ الْبَاتَّ فَإِذَا قَالَ: بَيْعًا بَاتًّا، يَزُولُ هَذَا الِاحْتِمَالُ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْهِبَةِ فَإِنَّهَا لَا تُوجِبُ الْمِلْكَ لِضَعْفِهَا فِي نَفْسِهَا حَتَّى يَتَأَيَّدَ بِمَا يُقَوِّيهَا وَهُوَ الْقَبْضُ وَبِشَرْطِهِ لَا يَتَقَوَّى، وَهَهُنَا قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ لَا لِضَعْفِهِ فَإِنَّهُ قَوِيٌّ لَازِمٌ بَلْ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنَافٍ لِلنِّكَاحِ فَإِذَا قَالَ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ فَقَدْ زَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى حِينَ صَرَّحَ بِمَا هُوَ مُنَافٍ لِلنِّكَاحِ. وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْخَصْمُ رَاجِعٌ إلَى أَنْ لَا دَلِيلَ عَلَى كَوْنِ الْإِبَانَةِ مَشْرُوعَةً وَالِاحْتِجَاجُ بِلَا دَلِيلٍ سَاقِطٌ، وَقَدْ أَقَمْنَا الدَّلَالَةَ عَلَى ذَلِكَ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْخَصْمَ إنْ لَمْ يَقِسْ فَقَدْ احْتَجَّ بِلَا دَلِيلٍ وَإِنْ قَاسَ قَاسَ عَلَى الْمَعْدُولِ عَنْ الْقِيَاسِ وَإِنَّ الِاسْتِدْلَالَ الصَّحِيحَ مَعَنَا، كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَالْمَبْسُوطِ قَوْلُهُ (إلَّا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ: اعْتَدِّي) اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ سُمِّيَتْ كِنَايَاتٌ مَجَازًا أَوْ مِنْ قَوْلِهِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِمُوجِبَاتِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تُجْعَلَ عِبَارَةً عَنْ الصَّرِيحِ أَيْ إلَّا فِي قَوْلِهِ: اعْتَدِّي، فَإِنَّهُ يُجْعَلُ عِبَارَةً عَنْ الصَّرِيحِ وَكِنَايَةً عَنْهُ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ إعْمَالُ اللَّفْظِ بِحَقِيقَتِهِ يُجْعَلُ كِنَايَةً عَنْ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِدَادَ مِنْ لَوَازِمِهِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فَيَكُونُ " اعْتَدِّي " ذِكْرَ اللَّازِمِ وَإِرَادَةَ الْمَلْزُومِ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي سَائِرِ الْأَلْفَاظِ وَلِهَذَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهِ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتِ وَاحِدَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ، وَلِهَذَا جَعَلْنَاهَا بَوَائِنَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ يَعْنِي الْوَاقِعَ بِهَذَا اللَّفْظِ عِنْدَ النِّيَّةِ تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ لَا بَائِنَةٌ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الْبَيْنُونَةِ بِاعْتِبَارِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهَا بِحَقِيقَتِهِ هَذَا اللَّفْظُ لِلْحِسَابِ يُقَالُ اعْتَدِدْ مَالَك أَيْ احْتَسِبْ عَدَدَ مَالِك وَلَا أَثَرَ لِلْحِسَابِ فِي قَطْعِ النِّكَاحِ وَإِزَالَةِ الْمِلْكِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ عَامِلًا بِنَفْسِهِ. إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ اعْتَدِّي مُحْتَمِلٌ فِي نَفْسِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ اعْتَدِّي نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْك أَوْ اعْتَدِّي نِعَمِي عَلَيْك أَوْ اعْتَدِّي الدَّرَاهِمَ أَوْ اعْتَدِّي مِنْ النِّكَاحِ أَيْ اُحْسُبِي الْأَقْرَاءَ فَإِذَا نَوَى الْأَقْرَاءَ. وَجَبَ أَيْ ثَبَتَ بِهَذِهِ النِّيَّةِ أَوْ بِهَذِهِ النِّيَّةِ بَعْدَ النِّيَّةِ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهَا بِالِاعْتِدَادِ أَوْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهَا قَبْلُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ مَا يُوجِبُهُ لِيَصِحَّ الْأَمْرُ بِهِ فَقَدَّمَ الطَّلَاقَ عَلَيْهِ

وَقَبْلَ الدُّخُولِ جُعِلَ مُسْتَعَارًا مَحْضًا عَنْ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُهُ فَاسْتُعِيرَ الْحُكْمُ لِسَبَبِهِ فَلِذَلِكَ كَانَ رَجْعِيًّا ـــــــــــــــــــــــــــــQضَرُورَةُ صِحَّةِ الْأَمْرِ وَالضَّرُورَةُ يَرْتَفِعُ بِإِثْبَاتِ أَصْلِ الطَّلَاقِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ وَصْفٍ زَائِدٍ وَهُوَ الْبَيْنُونَةُ. فَلِذَلِكَ أَيْ لِكَوْنِهِ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ كَانَ رَجْعِيًّا وَلَا تَقَعُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ وَإِنْ نَوَى قَوْلُهُ (وَقَبْلَ الدُّخُولِ جُعِلَ مُسْتَعَارًا مَحْضًا عَنْ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ) لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ إذْ لَا بُدَّ لِلْمُقْتَضِي مِنْ ثُبُوتِ الْمُقْتَضَى وَلَا وُجُودَ لِلْمُقْتَضِي هَهُنَا وَهُوَ الِاعْتِدَادُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ قَبْلَ الدُّخُولِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فَجُعِلَ مُسْتَعَارًا مَحْضًا عَنْ الطَّلَاقِ أَيْ لِلطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ سَبَبٌ لِوُجُودِ الِاعْتِدَادِ فَجَازَ أَنْ يُسْتَعَارَ الْحُكْمُ لِسَبَبِهِ. وَفِي قَوْلِهِ مَحْضًا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ فِي إثْبَاتِ الطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ جِهَةٌ مِنْ الْمَجَازِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ فِيهِ جِهَةُ الْحَقِيقَةِ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْطُوقِ، فَأَمَّا إثْبَاتُهُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَمَجَازٌ مَحْضٌ لَيْسَ فِيهِ جِهَةُ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْطُوقٍ تَحْقِيقًا وَلَا تَقْدِيرًا. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ صَحَّتْ اسْتِعَارَةُ الْمُسَبِّبِ لِلسَّبَبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ أَحْكَامِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ أَنَّهَا لَا يَجُوزُ. قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَّا فِي ذَلِكَ الْبَابِ أَنَّ الْمُسَبِّبَ إذَا كَانَ مُخْتَصًّا بِالسَّبَبِ جَازَتْ الِاسْتِعَارَةُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ. يُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الطَّلَاقَ يُوجِبُ الْعِدَّةَ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْأَصْلُ لَا يَنْفَكُّ الْعِدَّةُ عَنْ الطَّلَاقِ وَلَا الطَّلَاقُ عَنْ الْعِدَّةِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي النِّكَاحِ، إذْ النِّكَاحُ لِلدُّخُولِ لَا لِعَدَمِ الدُّخُولِ فَكَانَ الدُّخُولُ فِيهِ أَصْلًا لَا عَارِضًا وَالسَّبَبُ إذَا كَانَ مُتَّصِلًا بِالْمُسَبِّبِ كَاتِّصَالِ الْمُسَبِّبِ بِالسَّبَبِ يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ أَحَدُهُمَا كِنَايَةً مِنْ الْآخَرِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى إخْبَارًا {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] . وَكَمَا فِي الْعِلَّةِ مَعَ الْمَعْلُولِ. وَلَا يُقَالُ الْعِدَّةُ لَا تَخْتَصُّ بِهِ فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ. لِأَنَّا نَقُولُ لَمَّا صَارَتْ هِيَ فِرَاشًا أَخَذَتْ حُكْمَ الْمَنْكُوحَةِ وَأَخَذَ زَوَالُ هَذَا الْفِرَاشِ شَبَهًا بِالطَّلَاقِ فَأَوْجَبَ الْعِدَّةَ؛ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ. أَوْ نَقُولُ: الْمُرَادُ مِنْ السَّبَبِ الْعِلَّةُ كَمَا يُقَالُ النِّكَاحُ سَبَبُ الْحِلِّ وَالْبَيْعُ سَبَبُ الْمِلْكِ، وَالْمُرَادُ الْعِلَّةُ وَهَذَا لِأَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ اسْمَ السَّبَبِ عَلَى مَا وَضَعَهُ الشَّرْعُ عِلَّةً لِحُكْمٍ وَاسْمَ الْعِلَّةِ عَلَى مَا يُسْتَنْبَطُ بِالرَّأْيِ وَكَوْنُ الطَّلَاقِ عِلَّةً لِوُجُوبِ الْعِدَّةِ مِنْ أَوْضَاعِ الشَّرْعِ فَسُمِّيَ سَبَبًا وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ عِلَّةٌ. وَفِي كَلَامِ الشَّيْخِ إشَارَةٌ إلَيْهِ حَيْثُ قَالَ فَاسْتُعِيرَ الْحُكْمُ لِسَبَبِهِ وَلَمْ يَقُلْ فَاسْتُعِيرَ الْمُسَبِّبُ لِسَبَبِهِ إذْ الْحُكْمُ يُذْكَرُ فِي مُقَابَلَةِ الْعِلَّةِ وَالْمُسَبِّبُ فِي مُقَابَلَةِ السَّبَبِ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْهُ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ وَهُوَ الدُّخُولُ. وَقَبْلَ الطَّلَاقِ وَإِنْ كَانَ سَبَبًا فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ عَلَى التَّحْقِيقِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ لَهُ لَكِنَّهُ فِي حَقِّ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ جَوَازُ الِاسْتِعَارَةِ وَهُوَ الِاتِّصَالُ بِمَنْزِلَةِ الْعِلَّةِ فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَا يَعْمَلُ عَمَلَهُ، إلَّا بِشَرْطِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَالْمَشْرُوطُ مُتَّصِلٌ بِالشَّرْطِ لَا مَحَالَةَ. وَفِيهِ ضَعْفٌ؛ لِأَنَّ كَلَامَنَا فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَلَيْسَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ شَرْطًا فِيهَا. وَفِي الْجُمْلَةِ الْقَوْلُ بِعَدَمِ جَوَازِ اسْتِعَارَةِ الْمُسَبِّبِ لِلسَّبَبِ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ مُخْتَارِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَعَامَّةِ الْأُصُولِيِّينَ. وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ " اعْتَدِّي " مُسْتَعَارًا لِلطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُجْعَلَ عِبَارَةً عَنْ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ مُطَلَّقَةٌ أَوْ طَلَّقْتُك أَوْ طَلِّقِي نَفْسَك. لَا يَجُوزُ الثَّلَاثَةُ الْأُولَى لِلِاخْتِلَافِ فِي الصِّيغَةِ؛ لِأَنَّ اعْتَدِّي أَمْرٌ وَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي لَيْسَا بِفِعْلَيْنِ فَضْلًا عَنْ الْأَمْرِ وَالثَّالِثُ إنْشَاءٌ أَوْ إخْبَارٌ وَلَيْسَ بِأَمْرٍ وَلَا بُدَّ لِلِاسْتِعَارَةِ مِنْ

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ اسْتَبْرِئِي رَحِمَك، وَقَدْ جَاءَتْ السُّنَّةُ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لِسَوْدَةِ بِنْتِ زَمْعَةَ اعْتَدِّي، ثُمَّ رَاجَعَهَا» ، وَكَذَلِكَ أَنْتِ وَاحِدَةٌ يُحْتَمَلُ نَعْتًا لِلطَّلْقَةِ وَيُحْتَمَلُ صِفَةً لِلْمَرْأَةِ فَإِذَا زَالَ الْإِبْهَامُ بِالنِّيَّةِ كَانَ دَلَالَةً عَلَى الصَّرِيحِ لَا عَامٌّ لَا بِمُوجِبِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّوَافُقِ فِي الصِّيغَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ وَهَبْت ابْنَتِي مِنْك وَقَوْلُهُ زَوَّجْت ابْنَتِي مِنْك مُتَوَافِقَانِ صِيغَةً. وَكَذَا الرَّابِعُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهَذَا اللَّفْظِ وَإِنْ نَوَى. وَأُجِيبَ بِأَنَّا نَجْعَلُهُ مُسْتَعَارًا وَعِبَارَةً عَنْ قَوْلِهِ كُونِي طَالِقًا، وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْخُلَاصَةِ بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا تو طَلَاق باش أَوْ طَلَاق شو تَطْلُقُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ اعْتَدِّي؛ لِأَنِّي طَلَّقْتُك فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْحُكْمِ عَنْ ذِكْرِ السَّبَبِ فَكَانَ مِنْ بَابِ الْإِضْمَارِ وَأَنَّهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ. يُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْإِمَامُ الْبُرْغَرِيُّ فِي طَرِيقَتِهِ أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِطَرِيقِ الْإِضْمَارِ فِي كَلَامِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: طَلَّقْتُك فَاعْتَدِّي، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّهُ وَإِنْ تَكَلَّمَ بِهَذَا اللَّفْظِ قَبْلَ الدُّخُولِ يُعْمِلُ نِيَّتَهُ فِي الطَّلَاقِ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَعَرَفْنَا أَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ عَامِلٍ فِيهِ وَلَكِنَّ الطَّلَاقَ مُضْمَرٌ فِيهِ عِنْدَ نِيَّتِهِ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَكَقَوْلِهِ اعْتَدِّي قَوْلُهُ اسْتَبْرِئِي رَحِمَك؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: اعْتَدِّي إذْ هُوَ تَصْرِيحٌ بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْعِدَّةِ، إلَّا أَنَّ طَلَبَ الِاسْتِبْرَاءِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلْوَطْءِ وَطَلَبِ الْوَلَدِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ فَاحْتَاجَ إلَى النِّيَّةِ، فَإِذَا وُجِدَتْ النِّيَّةُ يَثْبُتُ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ اقْتِضَاءً وَقَبْلَهُ اسْتِعَارَةً كَمَا بَيَّنَّا. وَقَدْ جَاءَتْ السُّنَّةُ يَعْنِي مَا ذَكَرْنَا مُؤَيَّدٌ بِالسُّنَّةِ وَمُسْتَفَادٌ مِنْهَا فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لِسَوْدَةِ بِنْتِ زَمْعَةَ بِفَتْحَتَيْنِ اعْتَدِّي ثُمَّ رَاجَعَهَا وَذَلِكَ حِينَ دَخَلَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَيْهَا وَهِيَ تَبْكِي عَلَى مَنْ قُتِلَ مِنْ أَقَارِبِهَا يَوْمَ بَدْرٍ وَتَرْثِيهِمْ بِإِشْعَارِ أَهْلِ مَكَّةَ فَكَرِهَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذَلِكَ مِنْهَا فَقَالَ لَهَا اعْتَدِّي فَنَدِمَتْ عَلَى ذَلِكَ وَاسْتَشْفَعَتْ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَهَبَتْ نَوْبَتَهَا لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَقَالَتْ إنِّي أَكْتَفِي بِأَنْ أُبْعَثَ مِنْ أَزْوَاجِك يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرَاجَعَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلُهُ (وَكَذَا أَنْتِ وَاحِدَةٌ) يَعْنِي وَكَقَوْلِهِ اعْتَدِّي قَوْلُهُ أَنْتِ وَاحِدَةٌ فِي أَنَّهُ يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ رَجْعِيٌّ عِنْدَ النِّيَّةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَقَعُ بِهَذَا اللَّفْظِ شَيْءٌ وَإِنْ نَوَى؛ لِأَنَّ وَاحِدَةً صِفَةٌ لَهَا وَهِيَ لَا يَحْتَمِلُ طَلَاقًا فَلَغَتْ النِّيَّةُ كَمَا إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ قَاعِدَةٌ وَنَوَى طَلَاقًا. إلَّا أَنَّا نَقُولُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَاحِدَةٌ نَعْتًا لَهَا أَيْ وَاحِدَةٌ عِنْدَ قَوْمِك أَوْ مُنْفَرِدَةً عِنْدِي لَيْسَ لِي مَعَك غَيْرُك أَوْ وَاحِدَةُ نِسَاءِ الْبَلَدِ فِي الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِتَطْلِيقَةٍ بِطَرِيقِ حَذْفِ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةِ الْوَصْفِ مَقَامَهُ كَقَوْلِك أَعْطَيْته جَزِيلًا أَيْ عَطَاءً جَزِيلًا فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِدُونِ النِّيَّةِ فَإِذَا نَوَى صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ قَالَ هَكَذَا وَنَوَى طَلَاقًا صَحَّ فَإِنَّهَا بِنَفْسِهَا لَا يَكُونُ تَطْلِيقَةً وَلَكِنْ يَكُونُ طَالِقًا تَطْلِيقَةً فَيَصِيرُ تَطْلِيقَةٌ قَائِمَةً مَقَامَ طَالِقٍ فَتُنْعَتُ نَعْتَهُ، كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَالْمَبْسُوطِ. وَرَأَيْت فِي التَّهْذِيبِ لِمُحِبِّي السُّنَّةِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ وَاحِدَةٌ وَنَوَى الطَّلَاقَ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا لَا يَقَعُ، إلَّا وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ مَنْوِيَّهُ خِلَافُ مَلْفُوظِهِ وَالطَّلَاقُ يَقَعُ بِاللَّفْظِ وَمُرَاعَاةُ اللَّفْظِ أَوْلَى. وَالثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ يَقَعُ مَا نَوَى وَمَعْنَى وَاحِدَةً أَيْ تَتَوَحَّدِينَ مِنِّي بِهَذَا الْعَدَدِ فَكَانَ مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا غَيْرَ مَأْخُوذٍ عِنْدَهُمْ. وَعَنْ بَعْضِ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا رَفَعَ الْوَاحِدَةَ لَا تَطْلُقُ وَإِنْ نَوَى؛ لِأَنَّهَا وَلَا تَصْلُحُ نَعْتًا لِلطَّلْقَةِ فَيَصِيرُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَإِنْ نَصَبَهَا تَطْلُقُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ لَا يَصْلُحُ نَعْتًا، إلَّا لِلطَّلْقَةِ وَإِنْ أَسْكَنَ الْهَاءَ فَحِينَئِذٍ يُحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ.

وَالْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ هُوَ الصَّرِيحُ وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَفِيهَا قُصُورٌ مِنْ حَيْثُ يَقْصُرُ عَنْ الْبَيَانِ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَالْبَيَانِ بِالْكَلَامِ هُوَ الْمُرَادُ فَظَهَرَ هَذَا التَّفَاوُتُ فِيمَا يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وَصَارَ جِنْسُ الْكِنَايَاتِ بِمَنْزِلَةِ الضَّرُورَاتِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يَجِبُ، إلَّا بِتَصْرِيحِ الزِّنَا حَتَّى أَنَّ مَنْ قَذَفَ رَجُلًا بِالزِّنَا فَقَالَ لَهُ آخَرُ صَدَقْت لَمْ يُحَدَّ الْمُصَدِّقُ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: لَسْتَ بِزَانٍ يُرِيدُ التَّعْرِيضَ بِالْمُخَاطَبِ لَمْ يُحَدَّ، وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ تَعْرِيضٍ لِمَا قُلْنَا بِخِلَافِ مَنْ قَذَفَ رَجُلًا بِالزِّنَا فَقَالَ آخَرُ: هُوَ كَمَا قُلْت حُدَّ هَذَا الرَّجُلُ وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الصَّرِيحِ لِمَا عُرِفَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْمُخْتَارُ أَنَّ حُكْمَ الْكُلِّ وَاحِدٌ فِي الِاحْتِيَاجِ إلَى النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْعَوَامَّ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ وُجُوهِ الْإِعْرَابِ كَانَ دَلَالَةً يَعْنِي إذَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ دَالًّا عَلَى صَرِيحِ الطَّلَاقِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي ذَكَرْنَا فَكَانَ مُعَقِّبًا لِلرَّجْعَةِ لَا عَامِلًا بِمُوجِبِهِ إذْ مُوجِبُهُ التَّوْحِيدُ، وَلَا أَثَرَ لِذَلِكَ فِي الْبَيْنُونَةِ وَقَطْعُ النِّكَاحِ بِخِلَافِ الْبَائِنِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ مُؤَثِّرٌ بِمُوجِبِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. قَوْلُهُ (وَالْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ هُوَ الصَّرِيحُ) لِأَنَّ الْكَلَامَ مَوْضُوعٌ لِلْإِفْهَامِ وَالصَّرِيحُ هُوَ التَّامُّ فِي هَذَا الْمَقْصُودِ وَصَارَ جِنْسُ الْكِنَايَةِ بِمَنْزِلَةِ الضَّرُورَاتِ يَعْنِي لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْإِفْهَامُ مِنْ الْكَلَامِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالصَّرِيحِ لَا يُلْتَفَتُ إلَى غَيْرِهِ لِقُصُورِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَهِيَ عَدَمُ الصَّرِيحِ. وَلِهَذَا أَيْ وَلِأَنَّ فِي الْكِنَايَةِ قُصُورًا عَنْ الْبَيَانِ قُلْنَا: إنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يَجِبُ إلَّا بِتَصْرِيحِ النِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا بِأَنْ قَالَ: زَنَيْتَ أَوْ أَنْتَ زَانٍ. وَكَذَا فِي الْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ بِبَعْضِ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْحَدِّ لَا يَسْتَوْجِبُ الْعُقُوبَةَ مَا لَمْ يَذْكُرْ اللَّفْظَ الصَّرِيحَ فَإِذَا قَالَ جَامَعْت فُلَانَةَ أَوْ وَاقَعْتُهَا أَوْ وَطِئْتُهَا لَا يُحَدُّ مَا لَمْ يَقُلْ نِكْتُهَا. وَكَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ جَامَعَك فُلَانٌ جِمَاعًا حَرَامًا، أَوْ قَالَ لِرَجُلٍ فَجَرْت لِفُلَانَةَ أَوْ جَامَعْتُهَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ مَا صَرَّحَ بِالْقَذْفِ بِالزِّنَا. لَمْ يُحَدَّ الْمُصَدِّقُ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُحَدُّ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ صَدَقْت أَنَّهُ زَانٍ فَيَكُونُ قَاذِفًا لَهُ كَمَا إذَا قَالَ لَهُ هُوَ كَمَا قُلْت. وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّهُ مَا صَرَّحَ بِنِسْبَتِهِ إلَى الزِّنَا فَلَا يُحَدُّ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْفِظُ بِمَا هُوَ شَبِيهٌ بِالْكِنَايَةِ عَنْ الْقَذْفِ لِاحْتِمَالِ التَّصْدِيقِ وُجُوهًا مُخْتَلِفَةً أَيْ كُنْت صَادِقًا فِيمَا مَضَى فَكَيْفَ تَكَلَّمْت بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ الْقَبِيحَةِ أَوْ صَدَقْت فِي إنْجَازِ وَعْدِك بِنِسْبَتِهِ إلَى الزِّنَا، وَيَحْتَمِلُ السُّخْرِيَةَ وَالِاسْتِهْزَاءَ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ يُفْهَمُ مِنْهُ تَصْدِيقُهُ فِي نِسْبَتِهِ إلَى الزِّنَا وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ لَا يَكْفِي لِإِيجَابِ الْحَدِّ. بِخِلَافِ قَوْلِهِ هُوَ كَمَا قُلْت لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّرِيحِ فِي النِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ. وَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ صَدَقْت كَصَرِيحِ الْقَذْفِ بِالزِّنَا، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتَّصِلْ بِالْمَقْذُوفِ؛ لِأَنَّهُ خِطَابٌ لِلرَّامِي لَا لِلْمَقْذُوفِ، وَإِذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا لَهُ وَإِنَّمَا يَتَّصِلُ بِهِ اقْتِضَاءُ صِدْقِ الْأَوَّلِ فِيمَا رَمَاهُ وَالْحَدُّ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ فَلَا يَثْبُتُ بِالْمُقْتَضَى؛ لِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ. بِخِلَافِ قَوْلِهِ هُوَ كَمَا قُلْت؛ لِأَنَّهُ اتَّصَلَ بِهِ؛ لِأَنَّ هُوَ إخْبَارٌ عَنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَايَبَةِ كَقَوْلِك أَنْتَ فِي الْمُخَاطَبَةِ، كَذَا فِي الْأَسْرَارِ. وَالتَّعْوِيضُ نَوْعٌ مِنْ الْكِنَايَةِ يَكُونُ مَسُوقًا لِمَوْصُوفٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ كَمَا نَقُولُ فِي عَرَضِ مَنْ يُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ الْمُؤْمِنُ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي وَيُزَكِّي وَلَا يُؤْذِي أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، وَيُتَوَصَّلُ بِذَلِكَ إلَى نَفْيِ الْإِيمَانِ عَنْ الْمُؤْذِي، كَذَا فِي الْمِفْتَاحِ. وَفِي الْكَشَّافِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ هُوَ أَنَّ الْكِنَايَةَ أَنْ تَذْكُرَ الشَّيْءَ بِغَيْرِ لَفْظِهِ الْمَوْضُوعِ وَالتَّعْرِيضَ أَنْ تَذْكُرَ شَيْئًا يَدُلُّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ لَمْ تَذْكُرْهُ كَمَا يَقُولُ الْمُحْتَاجُ لِلْمُحْتَاجِ إلَيْهِ جِئْتُك لِأُسَلِّمَ عَلَيْك وَلِأَنْظُرَ إلَى وَجْهِك الْكَرِيمِ فَكَأَنَّ إمَالَةَ الْكَلَامِ إلَى عَرَضٍ يَدُلُّ عَلَى الْغَرَضِ وَيُسَمَّى التَّلْوِيحُ؛ لِأَنَّهُ يُلَوِّحُ مِنْهُ مَا تُرِيدُهُ فَإِذَا عَرَّضَ بِالزِّنَا قَالَ: أَمَّا أَنَا فَلَسْت بِزَانٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُحَدُّ وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ فِي مِثْلِ هَذَا وَيَقُولُ: الْمَقْصُودُ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي حَالَةِ الْمُخَاصَمَةِ مَعَ الْغَيْرِ نِسْبَةُ صَاحِبِهِ إلَى شَيْنٍ وَتَزْكِيَةِ نَفْسِهِ لَا أَنْ يَكُونَ قَذْفًا لِلْغَيْرِ وَأَخَذْنَا بِقَوْلِهِ لَا لِأَنَّهُ إنْ تَصَوَّرَ مَعْنَى الْقَذْفِ بِهَذَا اللَّفْظِ فَهُوَ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ وَالْمَفْهُومُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. قَوْلُهُ (فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الصَّرِيحِ لِمَا عُرِفَ) قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي قَوْلِهِ هُوَ كَمَا قُلْت أَنَّ كَافَ التَّشْبِيهِ يُوجِبُ الْعُمُومَ عِنْدَنَا

[باب وجوه الوقوف على أحكام النظم]

بَابُ وُجُوهِ) (الْوُقُوفِ عَلَى) (أَحْكَامِ النَّظْمِ) وَهُوَ الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: الْوُقُوفُ بِعِبَارَتِهِ وَإِشَارَتِهِ وَدَلَالَتِهِ وَاقْتِضَائِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ وَأُرِيدَ بِهِ الْقَصْدُ أَوْ الْإِشَارَةُ مَا ثَبَتَ بِنَظْمِهِ مِثْلُ الْأَوَّلِ، إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ وَلَا سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ وَهُمَا سَوَاءٌ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ، إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَحَقُّ عِنْدَ التَّعَارُضِ مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة: 233] سِيقَ الْكَلَامُ لِإِيجَابِ النَّفَقَةِ عَلَى الْوَالِدِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي الْمَحِلِّ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ وَلِهَذَا قُلْنَا فِي قَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّمَا أَعْطَيْنَاهُمْ الذِّمَّةَ وَبَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِيَكُونَ أَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا وَدِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا أَنَّهُ مُجْرَى عَلَى الْعُمُومِ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ وَمَا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْأَمْوَالِ فَهَذَا الْكَافُ أَيْضًا مُوجِبُهُ الْعُمُومُ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي مَحَلٍّ يَحْتَمِلُهُ فَيَكُونُ نِسْبَةً لَهُ إلَى الزِّنَا قَطْعًا بِمَنْزِلَةِ كَلَامِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا هُوَ مُوجِبُ الْعَامِّ عِنْدَنَا. وَإِنَّمَا لَمْ يُعْتَقْ الْعَبْدُ فِي قَوْلِهِ أَنْتَ كَالْحُرِّ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِحَقِيقَةِ الْأَخْبَارِ مُمْكِنٌ فِي حُرْمَةِ الدَّمِ وَوُجُوبِ الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا نَصِيرَ إلَى الْمَجَازِ وَهُوَ الْإِنْشَاءُ وَلَوْ قُلْنَا بِالْعُمُومِ يَلْزَمُ مِنْهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ وُجُوهِ الْوُقُوفِ عَلَى أَحْكَامِ النَّظْمِ] [مَا سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ وَأُرِيدَ بِهِ الْقَصْدُ أَوْ الْإِشَارَةُ] (بَابُ وُجُوهِ الْوُقُوفِ عَلَى أَحْكَامِ النَّظْمِ) قَوْلُهُ (أَمَّا الْأَوَّلُ) أَيْ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فِيمَا سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ وَأُرِيدَ بِهِ الضَّمِيرُ فِي لَهُ، وَأُرِيدَ رَاجِعٌ إلَى مَا، وَفِي بِهِ رَاجِعٌ إلَى الْكَلَامِ. وَقَوْلُهُ مَا سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ تَعَرَّضَ لِجَانِبِ اللَّفْظِ وَأُرِيدَ بِهِ قَصْدُ الْعَرَضِ لِلْمَعْنَى وَالْإِشَارَةُ أَيْ الثَّابِتُ بِالْإِشَارَةِ مَا ثَبَتَ بِنَظْمِ الْكَلَامِ أَيْ بِتَرْكِيبِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. إلَّا أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إلَى مَا أَيْ لَكِنَّ ذَلِكَ الثَّابِتَ غَيْرَ مَقْصُودٍ مِنْ الْكَلَامِ وَلَا سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ. وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْإِشَارَةِ: هِيَ دَلَالَةُ نَظْمِ الْكَلَامِ لُغَةً عَلَى مَا ضُمِّنَ فِيهِ مِنْ الْمَعْنَى غَيْرُ مَقْصُودٍ وَهُمَا أَيْ الْعِبَارَةُ وَالْإِشَارَةُ سَوَاءٌ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ أَيْ فِي إثْبَاتِهِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتٌ بِنَفْسِ النَّظْمِ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ فِي غَيْرِهِ مِثْلُ كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَطْعِيًّا وَغَيْرَ قَطْعِيٍّ؛ لِأَنَّ الْعِبَارَةَ قَطْعِيَّةٌ وَالْإِشَارَةُ قَدْ تَكُونُ قَطْعِيَّةً وَغَيْرَ قَطْعِيَّةٍ. قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ: ثُمَّ الْإِشَارَةُ مِنْ النَّصِّ بِمَنْزِلَةِ التَّعْرِيضِ وَالْكِنَايَةُ مِنْ الصَّرِيحِ وَالْمُشْكِلُ مِنْ الْوَاضِحِ إذْ لَا يُنَالُ الْمُرَادُ بِهَا إلَّا بِضَرْبِ تَأْوِيلٍ وَتَبَيُّنٍ، ثُمَّ قَدْ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمُوجِبِهَا بَعْدَ الْبَيَانِ، وَقَدْ لَا يُوجِبُ. وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ أَيْ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِهِمَا قَطْعًا. ، إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَيْ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ وَهُوَ الثَّابِتُ بِالْعِبَارَةِ أَحَقُّ عِنْدَ التَّعَارُضِ لِكَوْنِهِ مَقْصُودًا مِنْ الثَّابِتِ بِالْإِشَارَةِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَقْصُودٍ. مِثَالُهُ مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يُصَلَّى عَلَى الشَّهِيدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى. {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 169] . سِيقَتْ الْآيَةُ لِبَيَانِ مَنْزِلَةِ الشُّهَدَاءِ وَعُلُوِّ دَرَجَاتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُمْ أَحْيَاءً وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ عَلَى الْحَيِّ وَلَكِنْ قَوْله تَعَالَى. {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] . عِبَارَةٌ فِي إيجَابِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ الْأَمْوَاتِ عَلَى الْعُمُومِ وَالشُّهَدَاءُ أَمْوَاتٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا بِدَلِيلِ جَوَازِ قِسْمَةِ أَمْوَالِهِمْ وَتَزَوُّجِ نِسَائِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَتُرَجَّحُ الْعِبَارَةُ عَلَى الْإِشَارَةِ. هَكَذَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْإِشَارَةُ لَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْحَيَاةِ فِي قَوْلِهِ أَحْيَاءٌ لَيْسَ الْحَيَاةُ الَّتِي يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ وَهِيَ الْحِسِّيَّةُ بِلَا شُبْهَةٍ وَكَذَا الْعِبَارَةُ غَيْرُ ثَابِتَةٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الصَّلَاةِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] . الدُّعَاءُ لَا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ أَيْ تَعَطُّفٌ وَتَرَحُّمٌ عَلَيْهِمْ بِالدُّعَاءِ عِنْدَ أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ يَسْكُنُونَ إلَيْهِ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ تَابَ عَلَيْهِمْ وَقَبِلَ مِنْهُمْ، كَذَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ فَلَا يَثْبُتُ التَّعَارُضُ إذْ لَا دَلَالَةَ لِلْآيَتَيْنِ عَلَى صَلَاةِ الْجِنَازَةِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا. وَالنَّظِيرُ الْمُلَائِمُ «قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي النِّسَاءِ. أَنَّهُنَّ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ. فَقِيلَ مَا نُقْصَانُ دِينِهِنَّ قَالَ. تَقْعُدُ إحْدَاهُنَّ فِي قَعْرِ بَيْتِهَا شَطْرَ دَهْرِهَا. أَيْ نِصْفَ عُمُرِهَا لَا تَصُومُ وَلَا تُصَلِّي» سِيقَ الْكَلَامُ لِبَيَانِ نُقْصَانِ دِينِهِنَّ وَفِيهِ

وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ النَّسَبَ إلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَ إلَيْهِ فَاللَّامُ الْمِلْكِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ لِلْأَبِ وِلَايَةَ التَّمْلِيكِ فِي مَالِ وَلَدِهِ وَأَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ بِسَبَبِهِ كَالْمَالِكِ بِمَمْلُوكِهِ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَ إلَيْهِ فَاللَّامُ الْمِلْكِ وَعَلَيْهِ تُبْنَى مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى انْفِرَادِ الْأَبِ بِتَحَمُّلِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَهَا عَلَيْهِ بِهَذِهِ النِّسْبَةِ وَلَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِيهَا، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِهَا، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْوَلَدَ إذَا كَانَ غَنِيًّا وَالْوَالِدُ مُحْتَاجًا لَمْ يُشَارِكْ الْوَلَدَ أَحَدٌ فِي تَحَمُّلِ نَفَقَةِ الْوَالِدِ لِمَا قُلْنَا مِنْ النِّسْبَةِ فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ ـــــــــــــــــــــــــــــQإشَارَةٌ إلَى أَنَّ أَكْثَرَ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ. وَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ. «أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَأَكْثَرُهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ» . وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «أَقَلُّ الْحَيْضِ لِلْجَارِيَةِ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ ثَلَاثُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ» وَهُوَ عِبَارَةٌ فَتَرَجَّحَ عَلَى الْإِشَارَةِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَرَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالًا فَقَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي إلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ إلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ، ثُمَّ قَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ، ثُمَّ قَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ أَلَا فَأَنْتُمْ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ أَلَا لَكُمْ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ. فَغَضِبَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ عَطَاءً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَإِنَّهُ فَضْلِي أَعْطَيْته مَنْ شِئْتُ» . سِيقَ لِبَيَانِ فَضِيلَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ أَكْثَرُ مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَبْقَى وَقْتُ الظُّهْرِ أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ الشَّيْءِ مِثْلَيْهِ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْتَهَى بِصَيْرُورَةِ ظِلِّ الشَّيْءِ مِثْلِهِ لَكَانَ وَقْتُ الْعَصْرِ أَكْثَرَ مِنْ وَقْتِ الظُّهْرِ. وَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ إمَامَةِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُ ظِلِّهِ، وَقَالَ بَعْدَمَا صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ. وَهُوَ عِبَارَةٌ فَرَجَّحَهَا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْإِشَارَةِ وَجَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ قَوْلُهُ (فَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ مِنْ الثَّابِتِ بِالْإِشَارَةِ أَوْ مِمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ الْعِبَارَةُ وَالْإِشَارَةُ نُسِبَ إلَيْهِ فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ وَأَنَّهُ يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ فَدَلَّ عَلَى كَوْنِهِ أَحَقَّ بِالْوَلَدِ بِالْإِجْمَاعِ لَا يَصِيرُ أَحَقَّ بِهِ مِلْكًا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَصِيرُ مِلْكًا لِأَبِيهِ بِحَالٍ فَدَلَّ أَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِهِ نَسَبًا فَإِنْ قِيلَ الْوَلَدُ يُنْسَبُ إلَى الْأُمِّ كَمَا يُنْسَبُ إلَى الْأَبِ وَيَرِثُ مِنْهَا كَمَا يَرِثُ مِنْ الْأَبِ فَمَا فَائِدَةُ تَخْصِيصِهِ بِالْأَبِ قُلْنَا: فَائِدَتُهُ تَظْهَرُ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يُمَيَّزُ لَهَا بَيْنَ نَسَبٍ وَنَسَبٍ كَالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى وَالْكَفَاءَةِ وَاعْتِبَارِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَيُعْتَبَرُ فِيهَا جَانِبُ الْأَبِ دُونَ الْأُمِّ. أَنَّ لِلْأَبِ وِلَايَةَ التَّمَلُّكِ أَيْ لَهُ حَقٌّ أَنْ يَتَمَلَّكَ مَالَ الِابْنِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ حَقُّ مِلْكٍ فِي الْحَالِ حَتَّى جَازَ لِلِابْنِ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ وَحَلَّ لَهُ وَطْءُ جَارِيَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الشَّفِيعِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ الدَّارَ الْمَبِيعَةَ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقُّ مِلْكٍ بِوَجْهٍ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّ لَهُ حَقَّ الْمِلْكِ فِي اكْتِسَابِهِ بِاعْتِبَارِ الْيَدِ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ التَّمَلُّكِ حَتَّى لَمْ يَحِلَّ وَطْءُ جَارِيَتِهِ فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ حَقِّ التَّمَلُّكِ وَحَقِّ الْمِلْكِ. وَأَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ بِوَلَدِهِ أَيْ بِسَبَبِ وَلَدِهِ حَتَّى لَوْ قَتَلَ ابْنَهُ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ وَلَوْ قَذَفَهُ بِأَنْ قَالَ زَنَيْتَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ وَلَا يُحْبَسُ فِي دَيْنِهِ كَالْمَالِكِ بِمَمْلُوكِهِ أَيْ كَمَا لَا يُعَاقَبُ الْمَالِكُ بِسَبَبِ مَمْلُوكِهِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ نُسِبَ إلَيْهِ فَاللَّامُ الْمِلْكِ كَالْعَبْدِ. 1 - وَعَلَيْهِ أَيْ عَلَى ثُبُوتِ حَقِّ التَّمَلُّكِ لِلْأَبِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ. مِنْهَا أَنَّهُ لَا يُحَدُّ بِوَطْءِ جَارِيَةِ ابْنِهِ وَإِنْ قَالَ عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ. وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَقْرُ بِوَطْئِهَا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْوَطْءِ بِنَاءً عَلَى حَقِّ التَّمَلُّكِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةَ الِابْنِ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ قِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الِابْنِ لِمَا قُلْنَا. وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا أَنْفَقَ مَالَهُ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ ضَرُورَةٍ لَا يُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ. وَفِيهِ أَيْ وَفِي قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} [البقرة: 233] إشَارَةٌ إلَى انْفِرَادِ الْأَبِ بِتَحَمُّلِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ النَّفَقَةَ عَلَى الْأَبِ، بِنَاءً عَلَى هَذِهِ

وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ النَّفَقَةَ تُسْتَحَقُّ بِغَيْرِ الْوِلَادَةِ وَهِيَ نَفَقُهُ ذَوِي الْأَرْحَامِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] وَذَلِكَ بِعُمُومِهِ يَتَنَاوَلُ الْأَخَ وَالْعَمَّ وَغَيْرَهُمَا وَيَتَنَاوَلُهُمْ بِمَعْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ اسْمُ مُشْتَقٍّ مِنْ الْإِرْثِ مِثْلُ الزَّانِي وَالسَّارِقِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مَنْ عَدَا الْوَالِدِ يَتَحَمَّلُونَ النَّفَقَةَ عَلَى قَدْرِ الْمَوَارِيثِ حَتَّى أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ عَلَى الْأُمِّ وَالْجَدِّ أَثْلَاثًا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] وَهُوَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ مَعْنًى فَيَجِبُ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَى مَعْنَاهُ وَفِي قَوْلِهِ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ أَجْرَ الرَّضَاعِ يَسْتَغْنِي عَنْ التَّقْدِيرِ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَسْأَلَةِ النِّسْبَةُ أَيْ كَوْنُ الْوَلَدِ مَنْسُوبًا إلَيْهِ وَلَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي هَذِهِ النِّسْبَةِ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِهَا بِمَنْزِلَةِ نَفَقَةِ الْعَبْدِ فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ مُشَارَكَةِ أَحَدٍ فِيهَا لِاخْتِصَاصِهِ بِنِسْبَتِهِ الْمِلْكَ إلَيْهِ. وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْوَلَدِ الْكَبِيرِ مِثْلَ الِابْنِ الزَّمِنِ وَالْبِنْتِ الْبَالِغَةِ أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ عَلَى الْأَبِ وَالْأُمِّ أَثْلَاثًا بِحَسَبِ مِيرَاثِهِمَا مِنْ الْوَلَدِ بِخِلَافِ الْوَلَدِ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَتْ لِلْأَبِ فِي الصَّغِيرِ وِلَايَةٌ وَمُؤْنَةٌ حَتَّى وَجَبَتْ عَلَيْهِ صَدَقَةُ فِطْرِهِ فَاخْتَصَّ بِنَفَقَتِهِ وَلَا كَذَلِكَ الْكَبِيرُ لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ فَتُشَارِكُهُ الْأُمُّ قَوْلُهُ وَفِيهِ أَيْ فِي هَذَا النَّصِّ فَإِنَّهُ جَعَلَ مَجْمُوعَ الْآيَةِ بِمَنْزِلَةِ نَصٍّ وَاحِدٍ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفِي قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] دَلِيلٌ مِنْهُ عَلَى كَذَا إشَارَةٌ أَنَّ النَّفَقَةَ يُسْتَحَقُّ بِغَيْرِ الْوِلَادَةِ حَتَّى يُجْبَرَ الرَّجُلُ عَلَى نَفَقَةِ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ مِنْ الصِّغَارِ وَالنِّسَاءِ وَأَهْلِ الزَّمَانَةِ مِنْ الرِّجَالِ إذَا كَانُوا ذَوِي حَاجَةٍ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى كُلِّ وَارِثٍ مَحْرَمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَحْرَمٍ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى. {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] . وَلَكِنْ قَدْ ثَبَتَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَلَى الْوَارِثِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِثْلُ ذَلِكَ. وَالشَّافِعِيُّ يَبْنِي عَلَى أَصْلِهِ فَإِنَّ عِنْدَهُ اسْتِحْقَاقَ الصِّلَةِ بِاعْتِبَارِ الْوِلَادَةِ دُونَ الْقَرَابَةِ حَتَّى لَا يُعْتَقَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، إلَّا الْوَالِدَانِ وَالْمَوْلُودُونَ عِنْدَهُ وَجَعَلَ قَرَابَةَ الْأُخُوَّةِ فِي ذَلِكَ كَقَرَابَةِ بَنِي الْأَعْمَامِ، فَكَذَلِكَ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ وَفِيمَا بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ الِاسْتِحْقَاقُ بِعِلَّةِ الْجُزْئِيَّةِ دُونَ الْقَرَابَةِ. وَحُمِلَ قَوْلُهُ وَعَلَى الْوَارِثِ عَلَى هِيَ الْمُضَارَّةُ دُونَ النَّفَقَةِ وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِ عُمَرَ وَزَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَإِنَّهُمَا قَالَا: وَعَلَى الْوَارِثِ أَيْ وَارِثِ الْوَلَدِ. مِثْلُ ذَلِكَ أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الْوَاجِبِ الَّذِي عَلَى الْأَبِ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ. ثُمَّ نَفْيُ الْمُضَارَّةِ لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْوُرَّاثُ بَلْ يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْوَارِثِ كَمَا تَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ. وَلِأَنَّ الْمُرَادَ لَوْ كَانَ نَفْيُ الْمُضَارَّةِ لَقِيلَ وَلَا الْوَارِثُ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ أَوْ قِيلَ وَالْوَارِثُ مِثْلُ ذَلِكَ فَلَمَّا قَالَ وَعَلَى الْوَارِثِ دَلَّ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} [البقرة: 233] . وَكَذَا قَوْلُهُ ذَلِكَ دَلَّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لِلْإِشَارَةِ إلَى الْأَبْعَدِ. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْقَرَابَةَ الْقَرِيبَةَ يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا وَقَطْعُهَا لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ وَمَنْعِ النَّفَقَةِ مَعَ يَسَارِ الْمُنْفِقِ وَصِدْقُ حَاجَةِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ يُؤَدِّي إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَلِهَذَا اخْتَصَّ لَهُ ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ إذَا بَعُدَتْ لَا يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا وَلِهَذَا لَا تَثْبُتُ الْمَحْرَمِيَّةُ بِهَا وَذَلِكَ أَيْ لَفْظُ الْوَارِثِ بِعُمُومِهِ يَتَنَاوَلُ كَذَا لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ مُحَلًّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فَكَانَ عَامًّا فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ يُسَمَّى وَارِثًا وَيَتَنَاوَلُهُمْ بِمَعْنَاهُ وَهُوَ الْإِرْثُ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ الْإِرْثِ وَمَوْضِعُ الِاشْتِقَاقِ عِلَّةٌ فِي كُلِّ مُسَاقٍ لِوُجُوبِ الْحُكْمِ الْمُضَافِ إلَى الِاسْمِ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ لِلِاشْتِقَاقِ أَثَرٌ إلَى الْإِيجَابِ كَمَا فِي السَّارِقِ وَالزَّانِي فَيَكُونُ الْإِرْثُ عِلَّةً لِوُجُوبِ هَذِهِ النَّفَقَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِعِلَّةِ الْإِرْثِ أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ بِقَدْرِ الْمِيرَاثِ فَإِنْ قِيلَ يُفْهَمُ بِسَوْقِ الْكَلَامِ وُجُوبُ النَّفَقَةِ عَلَى الْوَارِثِ فَكَانَ مِنْ بَابِ الْعِبَارَةِ فَكَيْفَ سَمَّاهُ إشَارَةً. قُلْنَا: نَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ سَوْقَهُ لَا يُجَابُ النَّفَقَةُ وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ سَوْقَهُ لِبَيَانِ أَنَّ مَأْخَذَ الِاشْتِقَاقِ عِلَّةٌ لِهَذَا الْحُكْمِ فَيَكُونُ بِهَذِهِ النِّسْبَةِ إشَارَةً. وَفِيهِ أَيْ وَفِي قَوْلِهِ {وَعَلَى الْوَارِثِ} [البقرة: 233] . فَيَجِبُ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَى مَعْنَاهُ وَهُوَ الْإِرْثُ وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ بِقَدْرِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْغُرْمَ بِإِزَاءِ الْغُنْمِ قَوْلُهُ (وَفِي قَوْله تَعَالَى رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ. إشَارَةٌ إلَى) كَذَا قِيلَ الْمُرَادُ مِنْ الْآيَةِ الْمَنْكُوحَاتُ بِدَلِيلِ ذِكْرِ الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ وَأَنَّهُمَا مِنْ مُوجِبَاتِ النِّكَاحِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْأَجْرَ فِي حَقِّ الْمُطَلَّقَاتِ فَقَالَ {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] . وَالْمُرَادُ مِنْ الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ فَضْلُ طَعَامٍ وَكِسْوَةٍ تَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي حَالَةِ الْإِرْضَاعِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ النَّفَقَةِ وَاجِبٌ بِالنِّكَاحِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ الْوَالِدَاتُ الْمُطَلَّقَاتُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَوْجَبَ ذَلِكَ

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] سِيَاقُ الْكَلَامِ لِإِبَاحَةِ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي اللَّيْلِ وَنَسْخِ مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنْ التَّحْرِيمِ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى اسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي الْحَظْرِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ} [البقرة: 187] أَيْ الْكَفَّ عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَكَانَ بِطَرِيقٍ وَاحِدٍ فَلَمْ يَكُنْ لِلْجِمَاعِ اخْتِصَاصٌ وَلَا مَزِيَّةَ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ النِّيَّةَ فِي النَّهَارِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ} [البقرة: 187] بَعْدَ إبَاحَةِ الْجِمَاعِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَحَرْفُ " ثُمَّ " لِلتَّرَاخِي فَتَصِيرُ الْعَزِيمَةُ بَعْدَ الْفَجْرِ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ اللَّيْلَ لَا يَنْقَضِي، إلَّا بِجُزْءٍ مِنْ النَّهَارِ، إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَا تَقْدِيمَ النِّيَّةِ عَلَى الْفَجْرِ بِالسُّنَّةِ فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّيْلُ أَصْلًا فَلَا وَفِي إبَاحَةِ أَسْبَابِ الْجَنَابَةِ إلَى آخِرِ اللَّيْلِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْجَنَابَةَ لَا تُنَافِي الصَّوْمَ فِيمَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى الْوَارِثِ وَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ أُجْرَةُ الرَّضَاعِ لَا نَفَقَةُ النِّكَاحِ فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ فِي الْآيَةِ إشَارَةٌ إلَى جَوَازِ اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ بِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا مِنْ غَيْرِ وَصْفٍ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ لِبَيَانِ وُجُوبِ أَجْرِ الْإِرْضَاعِ عَلَى الْأَبِ وَفِيهَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ أُجْرَةَ الرَّضَاعِ إذَا كَانَتْ طَعَامًا وَكِسْوَةً لَا يُحْتَاجُ إلَى بَيَانِ التَّقْدِيرِ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ أُجْرَةَ الرَّضَاعِ مَعَ الْجَهَالَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنَّمَا يُقَالُ هَذَا فِيمَا إذَا كَانَ مَجْهُولَ الصِّفَةِ وَالنَّوْعِ كَمَا «قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِهِنْدَ خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» . وَمَا يَكُونُ مَعْلُومَ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ لَهُ بِالْمَعْرُوفِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الطَّعَامَ وَالْكِسْوَةَ مَعَ الْجَهَالَةِ يَصْلُحَانِ أُجْرَةً وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِأَنَّهُمْ لَا يَمْنَعُونَ الظِّئْرَ فِي الْعَادَةِ كِفَايَتَهَا مِنْ الطَّعَامِ لِعَوْدِ مَنْفَعَتِهِ إلَى وَلَدِهِمْ، وَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُونَهَا كِفَايَتَهَا مِنْ الْكِسْوَةِ لِكَوْنِ وَلَدِهِمْ فِي حِجْرِهَا فَصَارَ كَبَيْعِ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ. وَذُكِرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ جِنْسِ الثِّيَابِ وَفِي الطَّعَامِ يَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ؛ لِأَنَّ الظِّئْرَ لَا تُكْسَى كِسْوَةَ الْأَصْلِ وَتُطْعَمُ طَعَامَهُمْ فَكَانَتْ الْكِسْوَةُ مَجْهُولَةً جَهَالَةً تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ بِخِلَافِ الطَّعَامِ عَادَةً. 1 - قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِنْ الثَّابِتِ بِالْإِشَارَةِ أَوْ وَمِمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ الْعِبَارَةُ وَالْإِشَارَةُ قَوْله تَعَالَى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة: 187] الْآيَةَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ طَرَفُ بَيَاضِ النَّهَارِ، وَالْخَيْطُ الْأَسْوَدُ طَرَفُ سَوَادِ اللَّيْلِ شَبَّهَ دِقَّتَهُمَا بِالْخَيْطِ. وَمِنْ الْفَجْرِ مُتَعَلِّقٌ بِالْخَيْطِ الْأَبْيَضِ. وَالْمُرَادُ تَبَيُّنُ ضَوْءِ النَّهَارِ مِنْ ظَلَامِ اللَّيْلِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ وَهُوَ الضَّوْءُ الْمُعْتَرِضُ فِي الْأُفُقِ. وَنُسِخَ مَا كَانَ قَبْلَهُ أَيْ قَبْلَ الْإِبَاحَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْإِحْلَالِ مِنْ التَّحْرِيمِ فَإِنَّ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ كَانَ الرَّجُلُ إذَا صَلَّى الْعِشَاءَ الْأَخِيرَةَ أَوْ رَقَدَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالْجِمَاعُ إلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ مِنْ الْغَدِ وَكَانَ ذَلِكَ صَوْمًا فَنُسِخَ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى اسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي الْحَظْرِ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ مُتَعَمِّدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَإِنَّمَا الْوُجُوبُ مُخْتَصٌّ بِالْجِمَاعِ عَامِدًا؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِيهِ وَلَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الصَّوْمِ لِوُجُوهٍ تُذْكَرُ بَعْدُ فَلَا يُمْكِنُ إلْحَاقُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِهِ قِيَاسًا وَلَا دَلَالَةَ لِأَنَّهُمَا دُونَهُ فَبَقِيَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ مُخْتَصًّا بِالْجِمَاعِ فَقَالَ الشَّيْخُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إشَارَةٌ إلَى اسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي الْحَظْرِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْمُبَاشَرَةَ وَالْأَكْلَ وَالشُّرْبَ لِيُلَائِمَ الْأَمْرَ بِالْكَفِّ عَنْهُمَا جُمْلَةً بِقَوْلِهِ {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] . أَيْ الْكَفُّ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَكَانَ حَظْرُ الْكُلِّ بِطَرِيقٍ وَاحِدٍ لِثُبُوتِهِ بِخِطَابٍ وَاحِدٍ فَصَارَ الرُّكْنُ هُوَ الْكَفُّ عَنْهَا جُمْلَةً وَصَارَتْ الْجُمْلَةُ تُقَايِضُ هَذَا الْكَفَّ، كَذَا فِي الْأَسْرَارِ فَلَمْ يَكُنْ لِلْجِمَاعِ مَزِيَّةٌ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَلَا اخْتِصَاصٌ بِالْكَفَّارَةِ، وَإِذَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ بِالْجِمَاعِ وَجَبَتْ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ دَلَالَةً لِاسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي الْحَظْرِ وَالْجِنَايَةِ عَلَى الصَّوْمِ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ فَإِنَّهَا وَجَبَتْ بِخِطَابٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] ثُمَّ تَفَاوَتَتْ أَرْكَانُهَا فِي الْقُوَّةِ وَالْمَزِيَّةِ حَتَّى كَانَ السُّجُودُ أَقْوَى مِنْ الرُّكُوعِ وَالْقِيَامِ وَلِهَذَا قَالُوا بِسُقُوطِ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ عَنْ الْقَادِرِ عَلَيْهِمَا الْعَاجِزِ عَنْ السُّجُودِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ» . «وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِثَوْبَانَ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ عَمَلٍ يُدْخِلُهُ اللَّهُ بِهِ الْجَنَّةَ عَلَيْك بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» «وَلِمَنْ سَأَلَ مُرَافَقَتَهُ فِي الْجَنَّةِ أَعِنِّي عَلَى

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] الْآيَةَ سِيَاقُهَا الْإِيجَابُ نَوْعٌ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي جِهَةِ الْإِطْعَامِ الْإِبَاحَةُ وَالتَّمْلِيكُ مُلْحَقٌ بِهِ؛ لِأَنَّ الْإِطْعَامَ فِعْلُ مُتَعَدٍّ مُطَاوِعُهُ طَعِمَ يَطْعَمُ وَهُوَ الْأَكْلُ فَالْإِطْعَامُ جَعْلُهُ أَكْلًا كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ إذَا تَعَدَّتْ بِزِيَادَةِ الْهَمْزَةِ لَمْ تَبْطُلْ وَضْعُهَا وَحَقِيقَتُهَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُطَاوِعُهُ مِلْكًا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيهِ تَمْلِيكًا هَذَا وَاضِحٌ جِدًّا ـــــــــــــــــــــــــــــQنَفْسِك بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» وَبِأَنَّ مَبْنَى الْعِبَادَةِ عَلَى التَّوَاضُعِ وَالتَّذَلُّلِ، وَالسُّجُودُ هُوَ النِّهَايَةُ فِي ذَلِكَ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَمْ يُوجَدْ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ دَلِيلٌ يُوجِبُ مَزِيَّةَ الْجِمَاعِ عَلَى غَيْرِهِ فَكَانَ مُسَاوِيًا لِلْأَكْلِ مَعَ أَنَّ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى ذَلِكَ الْخِطَابِ وَهُوَ الْوُجُوبُ مُتَسَاوِيَةٌ أَيْضًا. عَلَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَرْكَانَهَا تَثْبُتُ بِذَلِكَ الْخِطَابِ بَلْ ثَبَتَ كُلُّ رُكْنٍ بَعْدَ وُجُوبِ أَصْلِ الصَّلَاةِ مُجْمَلًا بِخِطَابٍ عَلَى حِدَةٍ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] . وَنَحْوُهَا. وَفِيهِ أَيْ وَفِي هَذَا النَّصِّ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ النِّيَّةَ مِنْ النَّهَارِ هِيَ الَّتِي ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ فَإِنَّهُ تَعَالَى أَبَاحَ الْأَفْعَالَ الْمَذْكُورَةَ إلَى الِانْفِجَارِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالصِّيَامِ بَعْدَ الِانْفِجَارِ بِقَوْلِهِ {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وَحَرْفُ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي فَإِذَا ابْتَدَأَ الصِّيَامَ بَعْدَهُ حَصَلَتْ النِّيَّةُ بَعْدَمَا مَضَى جُزْءٌ مِنْ النَّهَارِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ اقْتِرَانُ النِّيَّةِ بِالْعِبَادَةِ فَبِالنَّظَرِ إلَى مُوجِبِ هَذَا النَّصِّ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَجُوزَ النِّيَّةُ مِنْ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ نِيَّةِ الْأَدَاءِ قَبْلَ وَقْتِ الْأَدَاءِ حَقِيقَةً وَاللَّيْلُ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِلْأَدَاءِ لَكِنَّا جَوَّزْنَاهَا بِالسُّنَّةِ وَهِيَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» . وَهُوَ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ يُوجِبُ الْعَمَلَ وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِهِ، فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا مِنْ اللَّيْلِ أَدَّى إلَى نَسْخِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَقُلْنَا بِالْجَوَازِ فِيهِمَا عَمَلًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ جَمِيعًا. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا وَالنِّيَّةُ مِنْ اللَّيْلِ أَفْضَلُ بِالِاتِّفَاقِ؟ قُلْنَا: إنَّمَا صَارَتْ أَفْضَلَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمُسَارَعَةِ إلَى الْأَدَاءِ وَالتَّأَهُّبِ لَهُ لَا لِإِكْمَالِ الصَّوْمِ كَمَا أَنَّ الِابْتِكَارَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْلَى لِلْمُسَارَعَةِ لَا لِتَعَلُّقِ كَمَالِ الصَّلَاةِ نَفْسِهَا بِهِ، وَكَذَا الْمُبَادَرَةُ إلَى سَائِرِ الصَّلَاةِ أَوْ لِلْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ لِيَخْرُجَ عَنْ حَدِّ الْخِلَافِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّ أَبَا جَعْفَرٍ الْخَبَّازَ السَّمَرْقَنْدِيَّ هُوَ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَلَكِنْ لِلْخُصُومِ أَنْ يَقُولُوا: إنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالصِّيَامِ بَعْدَ الِانْفِجَارِ وَهُوَ اسْمٌ لِلرُّكْنِ لَا لِلشَّرْطِ وَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِتَحْصِيلِ الشَّرْطِ بَعْدَ الِانْفِجَارِ فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى مَا قُلْتُمْ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى مَا قُلْنَا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالصَّوْمِ بَعْدَ انْفِجَارِ الصُّبْحِ يَنْبَغِي أَنْ يُوجَدَ الْإِمْسَاكُ الَّذِي هُوَ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ عَقِيبَ آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ مُتَّصِلًا بِهِ بِلَا فَصْلٍ لِيَصِيرَ الْمَأْمُورُ مُمْتَثِلًا وَأَنْ يَكُونَ الْإِمْسَاكُ صَوْمًا شَرْعِيًّا بِدُونِ النِّيَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلْإِمْسَاكِ الْمَوْجُودِ فِي أَوَّلِ أَجْزَاءِ الْيَوْمِ لِيَكُونَ صَوْمًا وَأَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، إلَّا بِأَحَدِ طَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا وُجُودُهَا لِلْحَالِ مُقَارِنَةً لَهُ وَالْآخَرُ وُجُودُهَا فِي اللَّيْلِ لِتُجْعَلَ بَاقِيَةً حُكْمًا إلَى وَقْتِ انْفِجَارِ الصُّبْحِ فَتَصِيرَ مُقَارِنَةً فِي أَوَّلِ أَجْزَاءِ النَّهَارِ فَإِذَنْ كَانَتْ الْآيَةُ دَلِيلًا لَنَا هَكَذَا ذَكَرَ فِي طَرِيقَتِهِ. وَفِي كَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْجَنَابَةَ لَا تُنَافِي الصَّوْمَ؛ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ لَمَّا كَانَتْ مُبَاحَةً إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ فَالِاغْتِسَالُ يَكُونُ بَعْدَ الْفَجْرِ يَكُونُ ضَرُورَةً، وَإِلَّا وَجَبَ أَنْ تَحْرُمَ الْمُبَاشَرَةُ قَبْلَ آخِرِ اللَّيْلِ بِمِقْدَارِ مَا يَسَعُ لِلْغُسْلِ فَيَكُونُ رَدًّا لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْجَنَابَةَ تَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّوْمِ مُعْتَمِدِينَ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ قَالَهُ مُحَمَّدٌ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ» مَعَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ، ثُمَّ يُتِمُّ صَوْمَهُ وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ» . وَمُؤَوَّلٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ مَنْ أَصْبَحَ بِصِفَةٍ تُوجِبُ الْجَنَابَةَ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مُخَالِطًا لِأَهْلِهِ فَلَا صَوْمَ لَهُ قَوْلُهُ قَوْله تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إلَى مَا فِي " بِمَا عَقَدْتُمْ " أَيْ فَكَفَّارَةُ نَكْثِ مَا عَقَدْتُمْ. وَالْكَفَّارَةُ الْفَعْلَةُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُكَفِّرَ الْخَطِيئَةَ ثُمَّ أَنَّهَا تَتَأَدَّى بِطَعَامِ الْإِبَاحَةِ غَدَاءً وَعَشَاءً مِنْ غَيْرِ تَمْلِيكٍ عِنْدَنَا وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ غَدَاؤُهُ وَعَشَاؤُهُ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالْقَاسِمُ وَسَالِمٌ وَالشَّعْبِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ

فَمَنْ جَعَلَ التَّمْلِيكَ أَصْلًا كَانَ تَارِكًا حَقِيقَةَ الْكَلَامِ وَمَعْنَى إلْحَاقُ التَّمْلِيكِ بِهِ خِلَافًا لِبَعْضِ النَّاسِ أَنَّ الْإِبَاحَةَ جُزْءٌ مِنْ التَّمْلِيكِ فِي التَّقْدِيرِ وَالتَّمْلِيكِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ حَوَائِجَ الْمَسَاكِينِ كَثِيرَةٌ يَصْلُحُ الطَّعَامُ لِقَضَاءِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا، إلَّا أَنَّ الْمِلْكَ سَبَبٌ لِقَضَائِهَا فَأُقِيمَ الْمِلْكُ مَقَامَهَا فَصَارَ التَّمْلِيكُ بِمَنْزِلَةِ قَضَائِهَا كُلِّهَا بِاعْتِبَارِ الْخِلَافَةِ عَنْهَا، وَمِنْ هَذِهِ الْحَوَائِجِ الْأَكْلُ فَصَارَ النَّصُّ وَاقِعًا عَلَى الَّذِي هُوَ جُزْءٌ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَلَيْهِ لَا يَتَأَدَّى، إلَّا بِالتَّمْلِيكِ وَهُوَ مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. فَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ الْإِطْعَامُ يُذْكَرُ لِلتَّمْلِيكِ عُرْفًا فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِآخَرَ أَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ وَهَبْته لَك حَتَّى إذَا سَلَّمَهُ إلَيْهِ صَارَ مِلْكًا لَهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ إبَاحَةً إذَا قَالَ أَطْعَمْتُك هَذَا الْأَرْضَ لِأَنَّ عَيْنَهَا لَا تُطْعَمُ فَيَنْصَرِفُ إلَى مَنَافِعِهَا الَّتِي تُطْعَمُ مَعْنًى بِالزِّرَاعَةِ مَجَازًا. وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ سَدُّ خُلَّةِ الْمِسْكِينِ وَإِغْنَاؤُهُ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالتَّمْلِيكِ دُونَ التَّمْكِينِ فَلَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِهِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْكِسْوَةِ الَّتِي هِيَ أَحَدُ أَنْوَاعِ التَّكْفِيرِ لَا تَتَأَدَّى بِالتَّمْكِينِ وَالْإِبَاحَةِ حَتَّى لَوْ أَعَارَ الْمَسَاكِينَ ثِيَابًا بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ فَلَبِسُوا لَا يَجُوزُ فَكَذَا الطَّعَامُ. وَعُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا: إنَّهَا تُشِيرُ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِطْعَامِ الْإِبَاحَةُ؛ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ لِلتَّمْكِينِ لَا لِلتَّمْلِيكِ فَإِنَّ الْإِطْعَامَ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ أَيْ إلَى مَفْعُولَيْنِ مُطَاوِعُهُ أَيْ لَازِمُهُ طَعِمَ يَطْعَمُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ إلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ اللَّازِمِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي بَابِ مُوجِبِ الْأَمْرِ وَالطُّعْمِ الْأَكْلُ فَبِإِدْخَالِ الْهَمْزَةِ فِيهِ يَصِيرُ مُتَعَدِّيًا إلَى مَفْعُولٍ آخَرَ وَلَكِنَّهُ لَا يَصِيرُ شَيْئًا آخَرَ بِمَنْزِلَةِ الْإِجْلَاسِ مِنْ الْجُلُوسِ وَالْإِدْخَالِ مِنْ الدُّخُولِ فَكَانَ مَعْنَى الْإِطْعَامِ جَعْلَ الْغَيْرِ طَاعِمًا أَيْ آكِلًا؛ فَعَرَفْنَا أَنَّ صِحَّةَ التَّكْفِيرِ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلٍ يَصِيرُ هُوَ بِهِ مَطْعَمًا وَيَصِيرُ الْغَيْرُ بِهِ طَاعِمًا وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْإِبَاحَةِ وَالتَّسْلِيطِ عَلَى الطَّعَامِ وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُطْعِمَ الْمِسْكِينَ لِيَتِمَّ فِعْلُهُ إطْعَامًا وَيَحْصُلُ بِهِ إتْلَافُ الطَّعَامِ عَيْنِهِ وَيَتِمُّ زَوَالُهُ عَنْ مِلْكِهِ. وَأَنَّ التَّمْلِيكَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْكِتَابِ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَضَرُورَةٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَدَّمَ الطَّعَامَ إلَى غَيْرِهِ وَاسْتَوْفَى الْغَيْرُ مِنْهُ صَحَّ أَنْ يُقَالَ أَطْعِمْهُ وَلَا يُشْتَرَطُ الزِّيَادَةُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] . وَالْمُتَعَارَفُ مِنْ إطْعَامِ الْأَهْلِ طَعَامُ الْإِبَاحَةِ دُونَ التَّمْلِيكِ. وَأَنَّهُ حَلَّ ذِكْرُهُ أَضَافَ الْإِطْعَامَ إلَى الْمَسَاكِينِ وَالْمَسْكَنَةُ هِيَ الْحَاجَةُ وَحَاجَةُ الْمِسْكِينِ إلَى الطَّعَامِ فِي أَكْلِهِ دُونَ تَمَلُّكِهِ فَكَانَ إضَافَةُ الْإِطْعَامِ إلَى الْمَسَاكِينِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي يَصِيرُ الْمِسْكِينُ بِهِ طَاعِمًا دُونَ التَّمْلِيكِ وَكَذَا التَّمْلِيكُ أَقْرَبُ إلَى دَفْعِ الْجُوعِ وَسَدِّ الْمَسْكَنَةِ مِنْ تَمْلِيكِ حِنْطَةٍ لَا يَصِلُ إلَيْهَا، إلَّا بَعْدَ طُولِ الْمُدَّةِ وَتَحَمُّلِ الْمُؤْنَةِ. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ التَّمْلِيكُ كَمَا ذَهَبَ حَمْدَانُ بْنُ سَهْلٍ وَدَاوُد بْنُ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيُّ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِطْعَامَ لَازَمَهُ الطُّعْمُ وَهُوَ الْأَكْلُ دُونَ الْمِلْكِ وَفِي التَّمْلِيكِ لَا يُوجَدُ حَقِيقَةُ الْإِطْعَامِ لِجَوَازِ أَنْ لَا يُطْعِمَهُ الْمِسْكِينُ وَإِنَّمَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي التَّمْكِينِ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ، إلَّا بِأَنْ يُطْعِمَ الْمِسْكِينَ وَالْكَلَامُ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ. إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَا التَّمْلِيكَ لِمَا قُلْنَا: إنَّ الْمَقْصُودَ سَدُّ خُلَّةِ الْمِسْكِينِ وَالْإِطْعَامُ قَضَاءُ حَاجَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ حَاجَةُ الْأَكْلِ وَلَهُ حَوَائِجُ كَثِيرَةٌ وَالْمِلْكُ سَبَبٌ لِقَضَاءِ الْحَوَائِجِ وَهِيَ أَمْرٌ بَاطِنٌ فَأُقِيمَ الْمِلْكُ مَقَامَ قَضَاءِ الْحَوَائِجِ فَكَانَ التَّمْلِيكُ بِمَنْزِلَةِ قَضَاءِ الْحَوَائِجِ كُلِّهَا تَقْدِيرًا. أَلَا تَرَى أَنَّ التَّمْلِيكَ إلَى الْفَقِيرِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ قَامَ مَقَامَ دَفْعِ حَوَائِجِهِ لِمَا عُرِفَ فِي مَسْأَلَةِ دَفْعِ الْقِيَمِ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِبَاحَةَ بِمَنْزِلَةِ الْجُزْءِ مِنْ التَّمْلِيكِ فَكَانَ الْجَوَازُ فِيهِ ثَابِتًا بِالطَّرِيقِ الْأَوَّلِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: التَّمْلِيكُ سَبَبٌ لِقَضَاءِ الْحَوَائِجِ جُمْلَةً أَمْ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ. فَإِنْ أَرَدْت الْأَوَّلَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَمْلِيكَ مَنَوَيْنِ مِنْ الْبُرِّ سَبَبٌ لِقَضَاءِ جَمِيعِ الْحَوَائِجِ. وَإِنْ أَرَدْت الثَّانِيَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِبَاحَةَ جُزْءٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى حَاجَةٍ لَا يُمْكِنُ صَرْفُهُ إلَى غَيْرِهَا فَكَيْفَ يَكُونُ شَامِلًا لِدَفْعِ حَاجَةِ الْأَكْلِ. وَذُكِرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّ التَّمْلِيكَ إنَّمَا جَازَ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى التَّطَعُّمِ وَالْأَكْلِ

فَاسْتَقَامَ تَعْدِيَتُهُ إلَى الْكُلِّ الَّذِي هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذَا الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ فَيَكُونُ عَمَلًا بِعَيْنِهِ فِي الْمَعْنَى وَهَذَا بِخِلَافِ الْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ هُنَاكَ تَنَاوَلَ التَّمْلِيكَ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْفِعْلَ فِي الْأَوَّلِ كَفَّارَةً وَهُوَ الْإِطْعَامُ وَجَعَلَ الْعَيْنَ فِي الثَّانِي كَفَّارَةً وَهُوَ الثَّوْبُ؛ لِأَنَّ الْكِسْوَةَ بِكَسْرِ الْكَافِ اسْمٌ لِلثَّوْبِ وَبِفَتْحِ الْكَافِ اسْمٌ لِلْفِعْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَصِيرَ الْعَيْنَ كَفَّارَةً لَا الْمَنْفَعَةُ وَإِنَّمَا يَصِيرُ كَذَلِكَ بِالتَّمْلِيكِ دُونَ الْإِعَارَةِ فَصَارَ النَّصُّ هُنَا وَاقِعًا عَلَى التَّمْلِيكِ الَّذِي هُوَ قَضَاءٌ لِكُلِّ الْحَوَائِجِ فِي الْمَعْنَى فَلَمْ يَسْتَقِمْ التَّعْدِيَةُ إلَى مَا هُوَ جُزْءٌ مِنْهَا وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قَاصِرٌ؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ فِي الثِّيَابِ مُنْقَضِيَةٌ قَبْلَ الْكَمَالِ وَالْإِبَاحَةُ فِي الطَّعَامِ لَازِمَةٌ لَا مَرَدَّ لِفِعْلِ الْأَكْلِ فِيهَا فَهُمَا فِي طَرَفَيْ نَقِيضٍ مَعَ التَّفَاوُتِ الَّذِي بَيَّنَّا وَكَانَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قِيَاسِ الطَّعَامِ بِالْكِسْوَةِ فِي الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ مَعًا غَلَطًا ـــــــــــــــــــــــــــــQوَتَمْكِينٌ لِذَلِكَ فَأُقِيمَ مَقَامَهُ بِطَرِيقِ التَّيْسِيرِ. وَالضَّمِيرُ فِي مَقَامِهَا وَعَنْهَا رَاجِعٌ إلَى قَضَاءِ الْحَوَائِجِ وَالتَّأْنِيثُ لِتَأْنِيثِ الْمُضَافِ إلَيْهِ فَاسْتَقَامَ تَعْدِيَتُهُ أَيْ تَعْدِيَةُ حُكْمِ النَّصِّ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذَا الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْإِطْعَامُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَغَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِنْ قَضَاءِ حَاجَةِ الدَّيْنِ وَأُجْرَةِ الْمَسْكَنِ وَشِرَاءِ الثَّوْبِ وَغَيْرِهَا، فَإِنْ قِيلَ: التَّمْلِيكُ مُرَادٌ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ مَجَازٌ فَيَنْبَغِي أَنْ تَتَنَحَّى الْحَقِيقَةُ. قُلْنَا: إنَّمَا جَوَّزْنَا التَّمْلِيكَ بِدَلِيلِ النَّصِّ لَا بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْإِطْعَامِ رَدُّ الْجَوْعَةِ وَهُوَ بِالتَّمْلِيكِ أَتَمُّ؛ لِأَنَّهُ بِرَدِّهَا مَتَى شَاءَ وَالْعَمَلُ بِدَلِيلِ النَّصِّ لَا يَمْنَعُ حَقِيقَتَهُ كَحُرْمَةِ الشَّتْمِ الثَّابِتَةِ بِدَلِيلِ النَّصِّ لَا يَمْنَعُ التَّأْفِيفَ. قَوْلُهُ (الْكِسْوَةُ كَذَا) ذُكِرَ فِي الْمُغْرِبِ الْكِسْوَةُ اللِّبَاسُ. وَفِي الصِّحَاحِ الْكِسْوَةُ وَاحِدَةُ الْكُسَى. وَإِذَا كَانَ الْكِسْوَةُ اسْمًا لِلثَّوْبِ وَنَفْسُ الثَّوْبِ لَا يَكُونُ كَفَّارَةً لِأَنَّهَا اسْمٌ لِنَوْعِ عِبَادَةٍ وَهِيَ اسْمٌ لِفِعْلِ الْعَبْدِ احْتَجْنَا إلَى زِيَادَةِ فِعْلٍ يَصِيرُ الثَّوْبُ بِهِ كَفَّارَةً كَمَا فِي الزَّكَاةِ فَإِنَّ الشَّاةَ لَا تَكُونُ عِبَادَةً بِنَفْسِهَا فَزِدْنَا فِعْلًا صَارَتْ الشَّاةُ بِهِ عِبَادَةً وَصَدَقَةً وَهُوَ الْإِيتَاءُ، ثُمَّ الْفِعْلُ قَدْ يَكُونُ تَمْلِيكًا، وَقَدْ يَكُونُ إتْلَافًا بِلَا تَمْلِيكٍ كَالتَّحْرِيرِ وَالْكِسْوَةِ لَا تَصِيرُ كَفَّارَةً بِالْإِتْلَافِ لِأَنَّهَا لَا تَبْقَى بَعْدَهُ كِسْوَةً وَاَللَّهُ تَعَالَى سَمَّى الْكِسْوَةَ وَهِيَ ثِيَابٌ يُكْتَسَى فَلَمْ يَبْقَ، إلَّا التَّمْلِيكُ. وَإِذَا أَعَارَهُمْ الثَّوْبَ فَمَا فِيهَا تَمْلِيكُ ثَوْبٍ وَلَا إتْلَافُهُ فَلَا يَصِيرُ الْمَحَلُّ كَفَّارَةً بَلْ فِيهَا تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ الْمَنَافِعَ كَفَّارَةً إنَّمَا جَعَلَ الثَّوْبَ كَفَّارَةً فَأَمَّا الْإِطْعَامُ فَإِتْلَافٌ لِلطَّعَامِ بِالْأَكْلِ فَيَصِيرُ الطَّعَامُ بِالْإِطْعَامِ خَارِجًا عَنْ مِلْكِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّلَفِ بِالْفَقِيرِ وَذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ الْفِعْلِ يَصْلُحُ فِعْلَ تَكْفِيرٍ كَالتَّحْرِيرِ فَلَمْ يُضْطَرَّ إلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَأَمَّا إذَا قَالَ: أَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ فَإِنَّمَا يَجْعَلُهُ هِبَةً مَجَازًا بِدَلَالَةِ الْحَالِ؛ لِأَنَّا مَتَى جَعَلْنَاهُ حَقِيقَةً كَانَ كَاذِبًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى مَطْعَمًا، إلَّا بِأَنْ يَصِيرَ الطَّعَامُ مَأْكُولًا وَأَنَّهُ جَعَلَ الطَّعَامَ مَفْعُولَ إطْعَامِهِ فَمَتَى كَانَ الطَّعَامُ قَائِمًا لَا يَكُونُ مَفْعُولَ الْأَكْلِ وَيَصْلُحُ مَفْعُولَ التَّمْلِيكِ مَعَ قِيَامِهِ فَجُعِلَ كِنَايَةً عَنْهُ. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْإِطْعَامَ مُتَعَدٍّ إلَى مَفْعُولَيْنِ وَتَأْثِيرُهُ فِي الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ يَجْعَلُهُ طَاعِمَا كَمَا بَيَّنَّا وَفِي الْمَفْعُولِ الثَّانِي إذَا كَانَ يُطْعِمُ عَيْنَهُ يَجْعَلُهُ مَمْلُوكًا لِلطَّاعِمِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي الْعَيْنِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ تَصَرُّفًا فِيهَا يَجْعَلُهَا مَطْعُومَةً لِلطَّاعِمِ؛ لِأَنَّ الطَّعْمَ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ مِنْهُ فَلَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَثْبُتَ بِالْإِطْعَامِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ فَيُجْعَلَ تَصَرُّفًا فِيهَا بِالتَّمْلِيكِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الطُّعْمِ وَمُفْضٍ إلَيْهِ وَلَمْ تُجْعَلْ إبَاحَةً وَإِنْ صَلُحَتْ سَبَبًا لِلطَّعْمِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِتَصَرُّفٍ فِي الْعَيْنِ وَلِأَنَّهَا قَدْ حَصَلَتْ بِجَعْلِ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ طَاعِمًا إذْ أَدْنَى طُرُقُهُ الْإِبَاحَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةِ تَأْثِيرٍ لَهُ فِي الثَّانِي وَذَلِكَ بِالتَّمْلِيكِ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ إذَا ذُكِرَ كِلَا مَفْعُولَيْهِ كَانَ دَالًّا عَلَى التَّمْلِيكِ فَأَمَّا إذَا حُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي مِنْهُ فَقَدْ انْقَطَعَ عَمَلُهُ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَصَارَ كَأَنْ لَيْسَ لَهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَسْأَلَةِ: فُلَانٌ يُعْطِي وَيَمْنَعُ، فِي عِلْمِ الْمَعَانِي فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يُجْعَلَ تَمْلِيكًا لِعَدَمِ مَحِلِّهِ بَلْ يَكُونُ مَعْنَاهُ جَعْلُ الْغَيْرِ طَاعِمًا لَا غَيْرَ لِاقْتِصَارِ عَمَلِهِ عَلَى الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْإِبَاحَةِ فَفِي النُّصُوصِ حَذْفُ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِأَنَّ فِيهَا ذِكْرَ الْمَسَاكِينِ لَا ذِكْرَ مَا يُدْفَعُ إلَيْهِمْ فَلَا يَدُلُّ الْإِطْعَامُ فِيهَا عَلَى التَّمْلِيكِ فَجُعِلَ إبَاحَةً فَأَمَّا فِي قَوْلِك أَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ فَكِلَا مَفْعُولَيْهِ مَذْكُورٌ فَيَصِحُّ أَنْ يَجْعَلَ بِمَعْنَى التَّمْلِيكِ فَلِذَلِكَ جَعَلْنَاهُ هِبَةً. فَإِنْ قِيلَ: الْكِسْوَةُ بِالْكَسْرِ مَصْدَرٌ أَيْضًا يُقَالُ كَسَاهُ كِسْوَةً بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ، كَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQالْكَشَّافِ وَالنَّظِيرِيِّ. وَفِي تَاجِ الْمَصَادِرِ الْكِسْوَةُ بوشانيدن. وَذُكِرَ فِي التَّيْسِيرِ فِي قَوْله تَعَالَى {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] أَنَّ مَعْنَاهُ الْإِلْبَاسُ وَهِيَ مَصْدَرٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْفِعْلُ هَهُنَا مَنْصُوصًا عَلَيْهِ أَيْضًا وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَتَأَدَّ بِالْإِعَارَةِ فَكَذَا فِي الطَّعَامِ لَا يَتَأَدَّى بِالْإِبَاحَةِ. قُلْنَا: إنْ ثَبَتَ هَذَا كَانَ هَذَا اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْإِلْبَاسِ وَاللِّبَاسِ وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ اللِّبَاسِ مُرَادًا مِنْهُ لَا يَجُوزُ فِيهِ إلَّا التَّمْلِيكُ وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مَصْدَرًا، فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ دَفْعُ الْحَاجَةِ وَزَوَالُ مِلْكِ الْمُكَفِّرِ لَا يَحْصُلُ بِالْإِعَارَةِ بِخِلَافِ الْإِطْعَامِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَهَذَا أَيْ الْإِطْعَامُ يُخَالِفُ الْكِسْوَةَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إلَى مَا مَعَ ذَلِكَ أَيْ مَعَ كَوْنِهِ جُزْءًا مِنْ الْجُمْلَةِ قَاصِرٌ عَنْ دَفْعِ حَاجَةِ الْمِسْكِينِ؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ مُنْقَضِيَةٌ أَيْ مُنْتَهِيَةٌ تَامَّةٌ قَبْلَ الْكَمَالِ أَيْ قَبْلَ كَمَالِ دَفْعِ الْحَاجَةِ وَحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْ دَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَرَدَّهُ بَعْدَمَا لَبِسَهُ الْمِسْكِينُ يَوْمًا مَثَلًا كَانَتْ الْإِعَارَةُ مُنْتَهِيَةً مَعَ بَقَاءِ الْحَاجَةِ فَلَا يَجُوزُ تَعْدِيَةُ الْجَوَازَ مِنْ التَّمْلِيكِ إلَيْهَا فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَامِلَةً فِي دَفْعِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ التَّعْدِيَةُ لِكَوْنِهَا جُزْءًا مِنْ الْكُلِّ فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ قَاصِرَةً. بِخِلَافِ الْإِبَاحَةِ فِي الطَّعَامِ لِأَنَّهَا لَا تَتِمُّ، إلَّا بِالْأَكْلِ الَّذِي بِهِ يَتِمُّ دَفْعُ الْحَاجَةِ وَلَا يُمْكِنُ رَدُّهُ بِوَجْهٍ. فَهُمَا فِي طَرَفَيْ نَقِيضٍ، أَيْ الْإِعَارَةُ فِي الثَّوْبِ وَالْإِبَاحَةُ فِي الطَّعَامِ لَوْ كَانَتَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ لَكَانَتَا مُتَنَاقِضَتَيْنِ أَيْ مُخَالِفَتَيْنِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْإِبَاحَةَ فِي الطَّعَامِ كُلُّ الْمَنْصُوصِ وَالْإِعَارَةَ فِي الثَّوْبِ جُزْءُ الْمَنْصُوصِ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ عَدَمِ الْجَوَازِ فِي أَحَدِهِمَا عَدَمُهُ فِي الْآخَرِ فَكَيْفَ إذَا كَانَتَا مُتَفَاوِتَتَيْنِ بِاعْتِبَارِ كَمَالِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ فِي الْإِبَاحَةِ وَقُصُورِهِ فِي الْإِعَارَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إلَى الْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ أَيْ الْكِسْوَةِ تُخَالِفُ الْإِطْعَامَ مِنْ حَيْثُ أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فِي الْكِسْوَةِ الْعَيْنُ وَفِي الْإِطْعَامِ الْفِعْلُ أَوْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُمْكِنُ إلْحَاقُ التَّمْلِيكِ بِالْإِبَاحَةِ فِي الْإِطْعَامِ وَلَا يُمْكِنُ عَكْسُهُ فِي الْكِسْوَةِ مَعَ التَّفَاوُتِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ الْإِبَاحَةَ لَا يُؤَدِّي مَعْنَى التَّمْلِيكِ هَهُنَا وَالتَّمْلِيكُ يُؤَدِّي مَعْنَى الْإِبَاحَةِ هُنَاكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَى الْإِبَاحَةِ وَالتَّمْلِيكِ فِي الْكِسْوَةِ أَيْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخَالِفٌ لِلْآخَرِ لَا مُوَافِقٌ؛ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ كُلٌّ وَالْآخَرُ جُزْءٌ مَعَ التَّفَاوُتِ الَّذِي بَيَّنَّا مِنْ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالتَّمْلِيكِ دُونَ الْإِعَارَةِ بِخِلَافِ الطَّعَامِ لِأَنَّهُمَا فِيهِ مُتَوَافِقَانِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ مَعًا غَلَطًا. أَمَّا فِي الْفَرْعِ فَلِأَنَّهُ قَاسَ فِي الْمَحَلِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عَلَى خِلَافِ مَا اقْتَضَاهُ النَّصُّ وَمِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَكُونَ الْفَرْعُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، وَأَمَّا فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْكِسْوَةُ فَلِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فِيهِ الْعَيْنُ دُونَ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ تَمْلِيكٌ وَإِنَّمَا ثَبَتَ التَّمْلِيكُ ضَرُورَةَ صَيْرُورَةِ الْعَيْنِ كَفَّارَةً وَتَعْدِيَةَ مَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ التَّمْلِيكُ إلَى الْفَرْعِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ غَيْرَ مُسْتَقِيمٍ فَكَانَ غَلَطًا، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ فِي الْإِبَاحَةِ أَكْلَتَانِ مُشْبِعَتَانِ مِمَّا يَكُونُ مُعْتَادًا فِي كُلِّ مَوْضِعِ الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ أَوْ الْغَدَاءَانِ أَوْ الْعَشَاءَانِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَاجَةُ الْيَوْمِ وَذَلِكَ بِالْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ عَادَةً. وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] . وَالْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ هُوَ

وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمَسَاكِينَ صَارُوا مَصَارِفَ بِحَوَائِجِهِمْ فَكَانَ الْوَاجِبُ قَضَاءَ الْحَوَائِجِ لِأَعْيَانِ الْمَسَاكِينِ ثَبَتَتْ هَذِهِ الْإِشَارَةُ بِالْفِعْلِ وَهُوَ الْإِطْعَامُ؛ لِأَنَّ إطْعَامَ الطَّاعِمِ الْغَنِيَّ لَا يَتَحَقَّقُ كَتَمْلِيكِ الْمَالِكِ لَا يَتَحَقَّقُ وَمِنْ قَضِيَّةِ الْإِطْعَامِ الْحَاجَةُ إلَى الطُّعْمِ وَثَبَتَتْ أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَسَاكِينِ؛ لِأَنَّ اسْمَهُمْ يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ إطْعَامَ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ فِي عَشَرَةِ أَيَّامَ مِثْلُ إطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ فِي سَاعَةٍ لِوُجُودِ عَدَدِ الْحَوَائِجِ كَامِلَةً فَإِنْ قِيلَ: هَذَا لَا يُوجَدُ فِي كِسْوَةِ مِسْكِينٍ عَشَرَةُ أَثْوَابَ فِي عَشَرَةِ أَيَّامَ، وَقَدْ جَوَّزْتُمْ ذَلِكَ وَلَا حَاجَةَ إلَّا بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، قِيلَ لَهُ: هَذَا الَّذِي تَقُولُ حَاجَةُ اللَّبُوسِ وَهُوَ غَلَطٌ؛ لِأَنَّ النَّصَّ تَنَاوَلَ التَّمْلِيكَ عَلَى مَا قُلْنَا، وَقَدْ أَقَمْنَا التَّمْلِيكَ مَقَامَ قَضَاءِ الْحَوَائِجِ كُلِّهَا وَالثَّوْبُ قَائِمٌ إذَا اُعْتُبِرَتْ اللَّبُوسُ، وَإِذَا اُعْتُبِرَتْ جُمْلَةُ الْحَوَائِجِ صَارَ مَالِكًا فِي التَّقْدِيرِ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَصِحَّ الْأَدَاءُ عَلَى هَذَا مُتَوَاتِرًا، غَيْرَ أَنَّ الْحَاجَاتِ إذَا قُضِيَتْ لَمْ تَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَجَدُّدِهَا وَلَا تَجَدُّدَ إلَّا بِالزَّمَانِ وَادُنَى ذَلِكَ يَوْمٌ لِجُمْلَةِ الْحَوَائِجِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْوَسَطُ مِنْ حَيْثُ الْمَرَّةُ؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ هُوَ الْمَرَّةُ الَّتِي تُسَمَّى وَجْبَةً وَهِيَ فِي ذَلِكَ وَقْتُ الزَّوَالِ إلَى الْيَوْمِ الثَّانِي وَالْأَكْثَرُ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ غَدَاءً وَعَشَاءً وَنِصْفَ النَّهَارِ فَكَانَ الْوَسَطُ مَا ذَكَرْنَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ طَعَامَ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِذَلِكَ فَقَالَ {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] قَوْلُهُ (وَفِيهِ) أَيْ وَفِي هَذَا النَّصِّ إشَارَةٌ إلَى كَذَا إذَا صُرِفَ الطَّعَامُ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ جَازَ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، وَالْمِسْكِينُ الْوَاحِدُ بِتَجَدُّدِ الْأَيَّامِ وَالْحَاجَةِ لَا يَصِيرُ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ كَالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ لَا يَصِيرُ شَاهِدَيْنِ بِتَكْرَارِ الْأَدَاءِ. وَقُلْنَا نَحْنُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَازِ كَمَا قَرَّرَ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ صَارُوا مَصَارِفَ بِحَوَائِجِهِمْ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ حَقٌّ خَالِصٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَجَبَتْ بِهَتْكِ حُرْمَتِهِ خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَكُنْ الْفَقِيرُ مُسْتَحِقًّا لَهَا بِحَالٍ وَإِنَّمَا يَأْخُذُهَا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى بِرِزْقِهِ لِحَاجَتِهِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُمْ صَارُوا مَصَارِفَ صَالِحَةً لِأَدَاءِ الْكَفَّارَةِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ. ثَبَتَتْ هَذِهِ الْإِشَارَةُ بِالْفِعْلِ أَيْ بِإِيجَابِ الْفِعْلِ وَهُوَ الْإِطْعَامُ؛ لِأَنَّ إطْعَامَ الطَّاعِمِ الْغَنِيَّ أَيْ إطْعَامَ مَنْ قَدْ طَعِمَ وَاسْتَغْنَى عَنْ الْأَكْلِ لَا يَتَحَقَّقُ إذْ لَا بُدَّ لِلْإِطْعَامِ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى الْأَكْلِ فَثَبَتَ أَنَّ الْوَاجِبَ إطْعَامُ الْجَائِعِ لَمَّا كَانَ إطْعَامُ الشَّبْعَانِ مُتَعَذِّرًا وَإِنْ صُرِفَ الطَّعَامُ إلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ لَا لِأَعْيَانِهِمْ وَإِنْ ذُكِرَ الْعَدَدُ لِبَيَانِ عَدَدِ الْحَوَائِجِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْحَقِيقَةِ قَضَاءُ عَشْرِ حَاجَاتٍ. وَثَبَتَ أَيْضًا أَيْ وَثَبَتَ أَنَّهُمْ صَارُوا مَصَارِفَ لِحَوَائِجِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَسَاكِينِ أَيْ بِإِضَافَةِ الْوَاجِبِ وَهُوَ الْإِطْعَامُ إلَى الْمَسَاكِينِ؛ لِأَنَّهُ نَصٌّ عَلَى صِفَةٍ تُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ فِي الْمَصْرُوفِ إلَيْهِ وَهِيَ الْمَسْكَنَةُ. فَدَلَّ ذَلِكَ أَيْ دَلَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْمَقْصُودَ قَضَاءُ الْحَوَائِجِ لَا أَعْيَانُ الْمَسَاكِينِ عَلَى كَذَا. وَذُكِرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالدَّفْعِ إلَى عَشَرَةِ مَسَاكِينَ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ الَّذِي ارْتَكَبَ بِأَسْرَعِ الْأَوْقَاتِ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزْ التَّفْرِيقُ عَلَى الْمَسَاكِينِ فِي يَوْمٍ رُبَّمَا عَجَلَتُهُ مُنْيَتُهُ فَيَبْقَى ذَنْبُهُ غَيْرَ مُكَفَّرٍ لَا أَنَّ ذَلِكَ يُفَوِّتُ الْمَعْنَى الَّذِي يَقَعُ بِهِ التَّكْفِيرُ أَوْ يُوجِبُ خَلَلًا فِيهِ فَلَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ إلَى مِسْكِينٍ عَشَرَةَ أَيَّامٍ عَلَى أَنَّ هَذَا دَفَعَ إلَى عَشَرَةِ مَسَاكِينَ؛ لِأَنَّهُ مِسْكِينٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِتَجَدُّدِ الْحَاجَةِ كَالرَّأْسِ الْوَاحِدِ وَالنِّصَابُ الْوَاحِدُ يَصِيرُ مُتَعَدِّدًا بِتَجَدُّدِ الْمُؤْنَةِ وَالنَّمَاءِ. وَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مُفَارِقٌ لِلشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يَحْصُلُ بِالْعَدَدِ وَهُوَ طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ وَتَقْلِيلُ تُهْمَةِ الْكَذِبِ لَا يَحْصُلُ بِتَكْرَارِ الْوَاحِدِ شَهَادَتَهُ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ. يُوَضَّحُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ أَرْبَعَةَ أُمَنَاءَ مِنْ شَعِيرٍ لَمَا صَلُحَتْ أَنْ يَصِيرَ أَرْبَعِينَ مَنًّا تَقْدِيرًا بِأَنْ يُؤَدِّيَهَا إلَى الْفَقِيرِ، ثُمَّ يَسْتَرِدُّهَا مِنْهُ بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ، ثُمَّ يُؤَدِّيهَا إلَى فَقِيرٍ آخَرَ، ثُمَّ هَكَذَا إلَى أَنْ تَتِمَّ الْكَفَّارَةُ جَازَ أَيْضًا أَنْ يَصِيرَ الْمِسْكِينُ الْوَاحِدُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِسْكِينًا آخَرَ حُكْمًا لِمَا عُرِفَ أَنَّ لِتَجَدُّدِ الْوَصْفِ تَأْثِيرًا فِي تَبَدُّلِ الْعَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا أَيْ عَدَدُ الْحَوَائِجِ كَامِلَةً فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ لَا يُوجَدُ فِي كِسْوَةِ مِسْكِينٍ عَشَرَةَ أَثْوَابٍ إلَى آخِرِهِ. أَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِأَنَّ حَقِيقَةَ الْحَاجَةِ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا فَسَقَطَ

[دلالة النص]

حَتَّى قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: يَجُوزُ الْأَدَاءُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ الْعَشَرَةَ كُلَّهَا فِي عَشْرَةِ سَاعَاتٍ لِمَا قُلْنَا إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَكَانَ الْيَوْمُ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ الطَّعَامُ فِي حُكْمِ التَّمْلِيكِ مِثْلُ الثَّوْبِ وَالْإِبَاحَةِ لَا يَصِحُّ، إلَّا فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَلَا يَلْزَمُ إذَا قَبَضَ الْمِسْكِينُ كِسْوَتَيْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ فَصَاعِدًا جُمْلَةً أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ كُلِّ وَاحِدٍ فِي غَيْرِهِ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ فَلَمْ يُؤْخَذْ بِالتَّفْرِيقِ. وَأَمَّا دَلَالَةُ النَّصِّ فَمَا ثَبَتَ بِمَعْنَى النَّظَرِ لُغَةً ـــــــــــــــــــــــــــــQاعْتِبَارُهَا وَوَجَبَ إقَامَةُ سَبَبٍ ظَاهِرٍ مَقَامَهَا، وَقَدْ وَجَدْنَا فِي الطَّعَامِ سَبَبًا ظَاهِرًا لِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ وَهُوَ تَجَدُّدُ الْيَوْمِ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِتَجَدُّدِ الْحَاجَةِ إلَى الطَّعَامِ غَالِبًا فَأَقَمْنَاهُ مَقَامَهُ وَفِي الْكِسْوَةِ لَا يَتَجَدَّدُ الْحَاجَةُ بِمُضِيِّ الْيَوْمِ وَنَحْوِهِ، إلَّا أَنَّ قَدْرَ مَا يَتَجَدَّدُ بِهِ الْحَاجَةُ إلَيْهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَتَفَاوَتُ فِيهِ النَّاسُ وَلَا بُدَّ مِنْ سَبَبٍ ظَاهِرٍ يُقَامُ مَقَامَ تَجَدُّدِ الْحَاجَةِ فَأَقَمْنَا تَجَدُّدَ الْيَوْمِ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّهُ أُقِيمَ فِي نَظِيرِهِ وَهُوَ الطَّعَامُ مَقَامَ تَجَدُّدِ الْحَاجَةِ فَيُقَامُ مَقَامَهُ فِي الْكِسْوَةِ أَيْضًا وَأَنْ يُوجَدْ فِي الْكِسْوَةِ مَا يُوجَدُ فِي الطَّعَامِ. قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مُدَّةُ تَجَدُّدِ الْحَاجَةِ إلَى الْكِسْوَةِ مَعْلُومَةً شُرِطَ نَفْسُ التَّفْرِيقِ بِأَقَلَّ مَا تُيَسِّرُ الْعِبَادَةُ عَنْهُ وَذَلِكَ بِالْأَيَّامِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهَا سَاعَاتٌ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ. حَتَّى قَالَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ صَارَ هَالِكًا وَكَذَا قَوْلُهُ لِمَا قُلْنَا رَاجِعٌ إلَيْهِ أَيْضًا لِلْعَشَرَةِ أَيْ لِلْأَثْوَابِ الْعَشَرَةِ، إلَّا أَنَّهُ أَيْ الزَّمَانَ الَّذِي اعْتَبَرُوهُ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَنَّهَا أَيْ السَّاعَاتِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ أَيْ غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ، وَكَذَلِكَ الطَّعَامُ فِي حُكْمِ التَّمْلِيكِ مِثْلُ الثَّوْبِ فَيَجُوزُ التَّفْرِيقُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فِي عَشْرِ سَاعَاتٍ عِنْدَ ذَلِكَ الْبَعْضِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ: وَلَمْ يَذْكُرْ أَيْ مُحَمَّدٌ مَا لَوْ فَرَّقَ الْفِعْلَ أَيْ الْإِطْعَامَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَلَا إشْكَالَ فِي طَعَامِ الْإِبَاحَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، إلَّا بِتَجَدُّدِ الْأَيَّامِ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يُسْتَوْفَى فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ طَعَامُ عَشَرَةٍ فَأَمَّا فِي التَّمْلِيكِ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ أُقِيمَ مَقَامَ حَقِيقَةِ الْإِطْعَامِ وَالْحَاجَةُ بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ لَيْسَ لَهَا نِهَايَةٌ فَإِذَا فَرَّقَ الدَّفَعَاتِ جَازَ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ كَمَا يَجُوزُ فِي الْأَيَّامِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا بِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ أَنَّهُ لَوْ كَسَا مِسْكِينًا وَاحِدًا فِي عَشْرَةِ أَيَّامٍ كِسْوَةَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَجْزَأَهُ لِتَفَرُّقِ الْفِعْلِ وَإِنْ انْعَدَمَ تَجَدُّدُ الْحَاجَةِ فِي كُلِّ يَوْمٍ. وَأَكْثَرُهُمْ قَالُوا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ سَدُّ الْخُلَّةِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَى الْغَنِيِّ لِأَنَّهُ طَاعِمٌ يَمْلِكُهُ وَإِطْعَامُ الطَّاعِمِ لَا يَتَحَقَّقُ. وَبَعْدَمَا اسْتَوْفَى فِي وَظِيفَتِهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ لَا يَحْصُلُ سَدُّ خُلَّتِهِ بِصَرْفِ وَظِيفَةٍ أُخْرَى فِي هَذَا الْيَوْمِ إلَيْهِ بِخِلَافِ كَفَّارَةٍ أُخْرَى لِمَا سَنَذْكُرُ. وَبِخِلَافِ الثَّوْبِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ تَجَدُّدَ الْأَيَّامِ فِيهِ أُقِيمَ مَقَامَ تَجَدُّدِ الْحَاجَةِ تَيْسِيرًا. وَلَا يَلْزَمُ إلَى آخَرَ تَقْرِيرُ السُّؤَالِ أَنَّهُ إذَا قَبَضَ كِسْوَتَيْنِ مِنْ وَاحِدٍ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَجُوزُ عَنْ الْكِسْوَتَيْنِ؛ لِأَنَّ تَمَلُّكَ أَحَدِهِمَا حَصَلَ قَضَاءُ حَوَائِجِهِ فَلَمْ يَجُزْ الْآخَرُ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيمَا إذَا قَبَضَ كِسْوَتَيْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ وَمَعَ ذَلِكَ يَجُوزُ. فَقَالَ أَوْ آكِلٌ وَاحِدٌ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ؛ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ فِي حَقِّهِ فَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الْمُؤَدِّي، إلَّا كِسْوَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ كُلًّا مُكَلَّفٌ بِفِعْلِهِ لَا بِفِعْلِ غَيْرِهِ. فَلَمْ يُؤْخَذْ بِالتَّفْرِيقِ أَيْ لَمْ يُكَلَّفْ الْمُؤَدِّي بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ بِأَنْ يُعْطِيَهُ فِي حَالٍ لَا يُعْطِيَهُ غَيْرَهُ بِخِلَافِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ فِعْلُهُ فَيُكَلَّفُ بِالتَّفْرِيقِ. [دَلَالَةُ النَّصِّ] قَوْلُهُ (وَأَمَّا دَلَالَةُ النَّصِّ) أَيْ الثَّابِتِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فَمَا ثَبَتَ بِمَعْنَى النَّصِّ لُغَةً. قَالَ الشَّيْخُ فِي نُسْخَةٍ أُخْرَى: وَلَا نَعْنِي بِهِ الْمَعْنَى الَّذِي يُوجِبُهُ ظَاهِرُ النَّظْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْعِبَارَةِ وَإِنَّمَا نَعْنِي بِهِ الْمَعْنَى الَّذِي أَدَّى إلَيْهِ الْكَلَامُ كَالْإِيلَامِ مِنْ الضَّرْبِ فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ اسْمِ الضَّرْبِ لُغَةً لَا شَرْعًا بِدَلِيلِ

وَإِنَّمَا نَعْنِي بِهَذَا مَا ظَهَرَ وَمِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ لُغَةً وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِظَاهِرِ اللُّغَةِ مِثْلُ الضَّرْبِ اسْمٌ لِفِعْلٍ بِصُورَةٍ مَعْقُولَةٍ وَمَعْنَى مَقْصُودٍ وَهُوَ الْإِيلَامُ وَالتَّأْفِيفُ اسْمٌ لِفِعْلٍ بِصُورَةٍ مَعْقُولَةٍ وَمَعْنَى مَقْصُودٍ وَهُوَ الْأَذَى وَالثَّابِتُ بِهَذَا الْقِسْمِ مِثْلُ الثَّابِتِ بِالْإِشَارَةِ وَالْعِبَارَةِ، إلَّا أَنَّهُ عِنْدَ التَّعَارُضِ دُونَ الْإِشَارَةِ حَتَّى صَحَّ إثْبَاتُ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ بِدَلَالَاتِ النُّصُوصِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّ كُلَّ لُغَوِيٍّ يَعْرِفُ ذَلِكَ الْمَعْنَى ثَابِتًا بِالضَّرْبِ لُغَةً. وَذَكَرَ أَيْضًا فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ دَلَالَةُ النَّصِّ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ بِالتَّأَمُّلِ فِي مَعَانِي اللُّغَةِ مَجَازِهَا وَحَقِيقَتِهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَعْرِيفَ دَلَالَةِ النَّصِّ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فَلَا نُعِيدُهُ. وَإِنَّمَا نَعْنِي بِهَذَا أَيْ بِمَعْنَى النَّظْمِ مَا ظَهَرَ مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ كَلِمَةُ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ لَا لِلْبَيَانِ أَيْ تَبَيَّنَ وَفَهِمَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لِلْكَلَامِ لَا مِنْ اللَّفْظِ نَفْسِهِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى مَا وَلُغَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَقْصُودِ لَا بِظَاهِرِهِ أَيْ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَفْهُومِ مِنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ يَكُونُ مَقْصُودًا لُغَةً بِظَاهِرِ الْكَلَامِ وَإِنْ لَمْ يُوضَعْ لَهُ الْكَلَامُ مِثْلُ الضَّرْبِ اسْمٌ لِفِعْلٍ بِصُورَةٍ مَعْقُولَةٍ أَيْ مَعْلُومَةٍ وَهُوَ اسْتِعْمَالُ آلَةِ التَّأْدِيبِ فِي مَحَلٍّ صَالِحٍ لِلتَّأْدِيبِ وَمَعْنَى مَقْصُودٌ وَهُوَ الْإِيلَامُ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ لَيْسَ إلَّا الْإِيلَامُ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ فُلَانًا فَضَرَبَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يَحْنَثُ لِفَوَاتِ مَعْنَى الْإِيلَامِ هُوَ الْمَقْصُودُ، ثُمَّ اسْتِعْمَالُ آلَةِ التَّأْدِيبِ هُوَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ بِالْوَضْعِ وَمَعْنَى الْإِيلَامِ هُوَ الْمَفْهُومُ لُغَةً مِنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لَا مِنْ اللَّفْظِ فَإِنَّهُ لَمْ يُوضَعْ لِلْإِيلَامِ فَالثَّابِتُ بِمَعْنَى الْإِيلَامِ ثَابِتٌ بِدَلَالَةِ النَّصِّ، وَكَذَا التَّأْفِيفُ اسْمٌ لِفِعْلٍ بِصُورَةٍ مَعْلُومَةٍ وَهُوَ إظْهَارُ التَّبَرُّمِ وَالسَّآمَةِ بِالتَّلَفُّظِ بِكَلِمَةِ أُفٍّ. وَمَعْنَى مَقْصُودٍ وَهُوَ الْإِيذَاءُ فَإِظْهَارُ التَّبَرُّمِ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي وُضِعَ لَهُ اللَّفْظُ وَالْإِيذَاءُ هُوَ الْمَعْنَى الْمَفْهُومُ مِنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَوْضُوعِ لَهُ فَالثَّابِتُ بِهِ هُوَ الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ، ثُمَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْحُرْمَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْإِيذَاءِ لَا بِصُورَةِ التَّأْفِيفِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَالْإِيذَاءُ فِي الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ وَالْقَتْلِ فَوْقَ الْإِيذَاءِ فِي التَّأْفِيفِ فَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ فِيهَا بِمَعْنَى النَّصِّ لُغَةً وَكَانَ النَّصُّ بِمَعْنَاهُ دَالًّا عَلَى تَحْرِيمِهَا وَلِذَلِكَ سُمِّيَ دَلَالَةَ النَّصِّ لَا عَيْنَ النَّصِّ؛ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا لَفْظًا لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ ثَابِتًا بِالنَّصِّ لُغَةً كَانَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِهِ مُضَافًا إلَى النَّصِّ كَأَنَّ النَّصَّ تَنَاوَلَهُ، إلَّا أَنَّهُ أَيْ هَذَا الْقِسْمَ وَهُوَ الدَّلَالَةُ عِنْدَ التَّعَارُضِ دُونَ الْإِشَارَةِ؛ لِأَنَّ فِي الْإِشَارَةِ وُجِدَ النَّظْمُ وَالْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ وَفِي الدَّلَالَةِ لَمْ يُوجَدْ، إلَّا الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ فَتَقَابَلَ الْمَعْنَيَانِ وَبَقِيَ النَّظْمُ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارَضَةِ فِي الْإِشَارَةِ فَتَرَجَّحَتْ بِذَلِكَ. 1 - وَمِثَالُ تَعَارُضِ الدَّلَالَةِ وَالْإِشَارَةِ مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا وَجَبَتْ فِي الْقَتْلِ الْخَطَإِ لِلْجِنَايَةِ مَعَ قِيَامِ الْعُذْرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] الْآيَةَ؛ لَأَنْ تَجِبُ بِالْعَمْدِ وَلَا عُذْرَ فِيهِ كَانَ أَوْلَى وَيُعَارِضُهَا قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93] فَإِنَّهُ يُشِيرُ إلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ كُلَّ جَزَائِهِ جَهَنَّمَ إذْ الْجَزَاءُ اسْمٌ لِلْكَامِلِ التَّامِّ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فَلَوْ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ مَعَهُ كَانَ الْمَذْكُورُ بَعْضَ الْجَزَاءِ فَلَمْ يَكُنْ كَامِلًا تَامًّا أَلَا تَرَى أَنَّ فِي جَانِبِ الْخَطَأِ لَمَّا وَجَبَتْ الدِّيَةُ مَعَ الْكَفَّارَةِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] فَعَرَفْنَا بِلَفْظِ الْجَزَاءِ أَنَّ مِنْ مُوجِبِ النَّصِّ انْتِفَاءَ الْكَفَّارَةِ فَرَجَّحْنَا الْإِشَارَةَ عَلَى الدَّلَالَةِ، حَتَّى صَحَّ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ مِثْلُ النَّابِتِ بِالْإِشَارَةِ وَالْعِبَارَةُ الِاسْتِثْنَاءُ مُعْتَرِضٌ. وَمِثَالُ إثْبَاتِ الْحُدُودِ بِهَا إيجَابُ حَدِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ عَلَى الرَّدْءِ؛ لِأَنَّ

وَلَمْ يَجُزْ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِمَعْنًى مُسْتَنْبَطٍ بِالرَّأْيِ نَظَرًا لَا لُغَةً حَتَّى اخْتَصَّ بِالْقِيَاسِ الْفُقَهَاءُ وَاسْتَوَى أَهْلُ اللُّغَةِ كُلُّهُمْ فِي دَلَالَاتِ الْكَلَامِ مِثَالُهُ أَنَّا أَوْجَبْنَا الْكَفَّارَةَ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ دُونَ الْقِيَاسِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ سُؤَالَ السَّائِلِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَاقَعْت امْرَأَتِي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَقَعَ عَنْ الْجِنَايَةِ وَالْمُوَاقَعَةُ عَيْنُهَا لَيْسَتْ بِجِنَايَةٍ بَلْ هُوَ اسْمٌ لِفِعْلٍ وَاقِعٍ عَلَى مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ، إلَّا أَنَّ مَعْنَى هَذَا الِاسْمِ لُغَةً مِنْ هَذَا الْمَسَائِلِ هُوَ الْفِطْرُ الَّذِي هُوَ جِنَايَةٌ وَإِنَّمَا أَجَابَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ حُكْمِ الْجِنَايَةِ فَكَانَ بِنَاءً عَلَى مَعْنَى الْجِنَايَةِ مِنْ ذَلِكَ الِاسْمِ وَالْمُوَاقَعَةُ آلَةُ الْجِنَايَةِ فَأَثْبَتْنَا الْحُكْمَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ فِي الْأَكْلِ؛ لِأَنَّهُ فَوْقَهُ فِي الْجِنَايَةِ لِأَنَّ الصَّبْرَ عَنْهُ أَشَدُّ وَالدَّعْوَةُ إلَيْهِ أَكْثَرُ فَكَانَ أَقْوَى فِي الْجِنَايَةِ عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا فِي الشَّتْمِ مَعَ التَّأْفِيفِ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ ثَابِتٌ بِمَعْنَى النَّصِّ لَا بِظَاهِرِهِ لَمْ نُسَمِّهِ عِبَارَةً وَلَا إشَارَةً وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ ثَابِتٌ بِمَعْنَى النَّصِّ لُغَةً لَا رَأْيًا سَمَّيْنَاهُ دَلَالَةً لَا قِيَاسًا ـــــــــــــــــــــــــــــQعِبَارَةَ النَّصِّ الْمُحَارَبَةُ وَصُورَةُ ذَلِكَ بِمُبَاشَرَةِ الْقِتَالِ وَمَعْنَاهَا لُغَةً قَهْرُ الْعَدُوِّ وَالتَّخْوِيفُ عَلَى وَجْهٍ يَنْقَطِعُ بِهِ الطَّرِيقُ وَهَذَا مَعْنًى مَعْلُومٌ بِالْمُحَارَبَةِ لُغَةً وَالرَّدْءُ مُبَاشِرٌ لِذَلِكَ كَالْمُقَاتِلِ وَلِهَذَا اشْتَرَكُوا فِي الْغَنِيمَةِ فَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الرِّدْءِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ. وَإِيجَابُ الرَّجْمِ عَلَى غَيْرِ مَاعِزٍ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ مَاعِزًا زَنَى وَهُوَ مُحْصَنٌ فَرُجِمَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرْجَمْ لِأَنَّهُ مَاعِزٌ وَصَحَابِيٌّ بَلْ لِأَنَّهُ زَنَى فِي حَالَةِ الْإِحْصَانِ فَيَثْبُتُ هَذَا الْحُكْمُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ. قَوْلُهُ (وَلَمْ يَجُزْ بِالْقِيَاسِ) إثْبَاتُ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ مِنْ دَلَائِلِ الشَّرْعِ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ الْحُدُودُ وَالْكَفَّارَاتُ كَمَا يَثْبُتُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَلِأَنَّ الدَّلَائِلَ الَّتِي قَامَتْ عَلَى صِحَّةِ الْقِيَاسِ لَا تَفْصِلُ بَيْنَ مَوْضِعٍ وَمَوْضِعٍ فَصَحَّ اسْتِعْمَالُهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إلَى أَنْ يَمْنَعَ مَانِعٌ وَلَمْ يُوجَدْ. وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَاتِ شُرِعَتْ مَاحِيَةً لِلْآثَامِ الْحَاصِلَةِ بِارْتِكَابِ أَسْبَابِهَا وَفِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَالزَّجْرِ أَيْضًا لِمَا عُرِفَ، وَكَذَا الْحُدُودُ شُرِعَتْ عُقُوبَةً وَجَزَاءً عَلَى الْجِنَايَاتِ الَّتِي هِيَ أَسْبَابُهَا وَفِيهَا مَعْنَى الطُّهْرَةِ أَيْضًا بِشَهَادَةِ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَلَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي مَعْرِفَةِ مَقَادِيرِ الْأَجْرَامِ وَآثَامِهَا وَمَعْرِفَةُ مَا يَحْصُلُ بِهِ إزَالَةُ آثَامِهَا وَمَعْرِفَةُ مَا يَصْلُحُ جَزَاءً لَهَا وَزَاجِرًا عَنْهَا وَمَقَادِيرُ ذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا بِالْقِيَاسِ الَّذِي مَبْنَاهُ عَلَى الرَّأْيِ. بِخِلَافِ الِاسْتِدْلَالِ فَإِنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَهُ النَّصُّ لُغَةً فَيَكُونُ مُضَافًا إلَى الشَّرْعِ. وَلِأَنَّ الْحُدُودَ مِمَّا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا بِالْقِيَاسِ الَّذِي فِيهِ شُبْهَةٌ بِخِلَافِ الِاسْتِدْلَالِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ لَمَّا صَارَ مُضَافًا إلَى الشَّرْعِ انْتَفَتْ عَنْهُ الشُّبْهَةُ فَيَجُوزُ إثْبَاتُهَا بِهِ. وَإِنَّمَا نَعْنِي بِالشُّبْهَةِ الْمَانِعَةِ اخْتِلَالُ الْمَعْنَى الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُدُودُ وَالْكَفَّارَاتُ فِي نَفْسِهِ لَا الشُّبْهَةُ الْوَاقِعَةُ فِي طَرِيقِ دَلِيلِ الثُّبُوتِ لِأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ لِاتِّفَاقِ أَكْثَرِ النَّاسِ عَلَى التَّعَلُّقِ بِإِخْبَارِ الْأُحَادِ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ وَلِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى صِحَّةِ إثْبَاتِ أَسْبَابِ الْحُدُودِ فِي مَجَالِسِ الْحُكَّامِ بِالْبَيِّنَاتِ وَإِنْ صَدَرَتْ عَمَّنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ عَنْ الْكَذِبِ وَالْغَلَطِ وَالْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ. قَوْلُهُ (مِثَالُهُ) أَيْ مِثَالُ الثَّابِتِ بِالدَّلَالَةِ. وَقَوْلُهُ دُونَ الْقِيَاسِ رَدٌّ لِمَا ادَّعَى أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَيْنَا وَقَالُوا: إنَّكُمْ أَنْكَرْتُمْ صِحَّةَ الْمُقَايَسَةِ فِي الْكَفَّارَاتِ، ثُمَّ أَثْبَتُّمْ الْكَفَّارَةَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْوَاقِعِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْكُمْ مُنَاقَضَةً قَالَ مَا أَثْبَتْنَاهُ بِالْقِيَاسِ بَلْ بِدَلَالَةِ النَّصِّ. وَحَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ مَا رُوِيَ أَنَّ «أَعْرَابِيًّا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَنْتِفُ شَعْرَهُ وَيَقُولُ: هَلَكْت وَأَهْلَكْت. فَقَالَ: مَاذَا صَنَعْت؟ فَقَالَ: وَاقَعْت أَهْلِي فِي نَهَارِ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا، فَقَالَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً؛ فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى صَفْحَةِ عُنُقِهِ وَقَالَ: لَا أَمْلِكُ، إلَّا رَقَبَتِي هَذِهِ؛ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؛ فَقَالَ هَلْ أَتَيْت مَا أَتَيْت، إلَّا مِنْ الصَّوْمِ، فَقَالَ: أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا، فَقَالَ: لَا أَجِدُ فَقَالَ: اجْلِسْ، فَجَلَسَ فَأُتِيَ بِصَدَقَاتِ بَنِي زُرَيْقٍ فَقَالَ: خُذْ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا فَتَصَدَّقْ بِهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَقَالَ: أَعْلَى أَهْلِ بَيْتٍ أَحْوَجُ إلَيْهَا مِنِّي وَمِنْ عِيَالِي، وَاَللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْ الْمَدِينَةِ أَحْوَجُ إلَيْهَا مِنِّي وَمِنْ عِيَالِي فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كُلْهَا أَنْتَ وَعِيَالُك» . وَزِيدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «يُجْزِيك وَلَا يَجْزِي أَحَدًا بَعْدَك» . بَيَانُهُ أَيْ بَيَانُ أَنَّهَا ثَابِتَةٌ بِالدَّلَالَةِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا بِالْقِيَاسِ أَنَّ سُؤَالَ الْأَعْرَابِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ وَاقَعْت امْرَأَتِي فِي نَهَارِ رَمَضَانَ وَقَعَ عَنْ الْجِنَايَةِ عَلَى الصَّوْمِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: هَلَكْت وَأَهْلَكْت، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُوَاقَعَةَ عَيْنًا لَمْ تَكُنْ جِنَايَةً؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ فَإِنَّهُ قَدْ نَصَّ عَلَى مُوَاقَعَةِ امْرَأَتِهِ لَكِنَّهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ تُؤَدِّي إلَى مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ الْجِنَايَةُ عَلَى الصَّوْمِ يُفْهَمُ هَذَا مِنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ لُغَةً؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اُشْتُهِرَ فَرِيضَةُ الصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ وَاشْتُهِرَ أَنَّ مَعْنَاهُ الْإِمْسَاكُ عَنْ اقْتِضَاءِ الشَّهْوَتَيْنِ عَرَفَ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ أَنَّ الْمُوَاقَعَةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ جِنَايَةٌ عَلَى الصَّوْمِ وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ السُّؤَالِ حُكْمُ الْجِنَايَةِ فَكَانَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ وَاقَعْت فِي نَهَارِ رَمَضَانَ لُغَةً الْإِفْطَارُ كَمَا أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] الْمَنْعُ عَنْ الْإِيذَاءِ، ثُمَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَابَ عَنْ السُّؤَالِ فَكَانَ جَوَابُهُ بَيَانًا لِحُكْمِ الْجِنَايَةِ الَّذِي هُوَ الْغَرَضُ مِنْ السُّؤَالِ؛ لِأَنَّ الْجَوَابَ يَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى السُّؤَالِ خُصُوصًا عَنْ أَفْصَحِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ لَا بَيَانِ نَفْسِ الْوِقَاعِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ بَلْ هُوَ آلَةٌ لِلْجِنَايَةِ. ، ثُمَّ مَعْنَى الْجِنَايَةِ عَلَى الصَّوْمِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْوِقَاعِ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِمَا بِذَلِكَ الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّوْمَ اسْمٌ لِفِعْلٍ لَهُ صُورَةٌ وَمَعْنًى. أَمَّا الصُّورَةُ فَهِيَ الْإِمْسَاكُ عَنْ اقْتِضَاءِ الشَّهْوَتَيْنِ. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَقَهْرُ عَدُوِّ اللَّهِ تَعَالَى بِمَنْعِهِ عَنْ الشَّهَوَاتِ وَمَنْعِهِ مِنْ شَهْوَةِ الْبَطْنِ أَشَدُّ قَهْرًا لَهُ مِنْ مَنْعِهِ عَنْ شَهْوَةِ الْفَرْجِ؛ لِأَنَّ دُعَاءَهُ إلَيْهَا أَكْثَرُ وَشَهْوَةُ الْفَرْجِ تَابِعَةٌ لَهَا، وَلِهَذَا شُرِعَ الصَّوْمُ فِي النَّهَارِ الَّتِي هِيَ وَقْتُ اقْتِضَاءِ هَذِهِ الشَّهْوَةِ غَالِبًا فَكَانَ الِامْتِنَاعُ عَنْ هَذِهِ الشَّهْوَةِ هُوَ الْأَصْلُ فِي الصَّوْمِ وَالِامْتِنَاعُ عَنْ الْأُخْرَى بِمَنْزِلَةِ التَّبَعِ وَكَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى الصَّوْمِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ أَفْحَشُ لِوُرُودِهَا عَلَى مَعْنًى هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ فِي الْبَابِ مِنْ الْجِنَايَةِ بِالْوِقَاعِ لِوُرُودِهَا عَلَى مَعْنًى هُوَ جَارٍ مَجْرَى التَّبَعِ، وَلَمَّا كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى التَّبَعِ مُوجِبَةً لِلْكَفَّارَةِ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ أَوْلَى لِكَوْنِهَا أَقْوَى بِمَنْزِلَةِ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ مِنْ التَّأْفِيفِ فَتَبَيَّنَ أَنَّا أَثْبَتْنَا الْكَفَّارَةَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِالدَّلَالَةِ لَا بِالْقِيَاسِ. فَإِنْ قِيلَ: الثَّابِتُ بِالدَّلَالَةِ هُوَ الَّذِي يَصِيرُ مَعْلُومًا بِمَعْنَى اللُّغَةِ بِمُجَرَّدِ السَّمَاعِ فَيَكُونُ الْفَقِيهُ فِي إصَابَتِهِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ، ثُمَّ هَهُنَا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِالْأَكْلِ مِمَّا يَشْتَبِهُ عَلَى الْفَقِيهِ الْمُبَرَّزِ الْعَالِمِ بِطُرُقِ الْفِقْهِ بَعْدَ أَنْ بَلَغَهُ حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ الدَّلَالَةِ؟ قُلْنَا: الشَّرْطُ فِي الدَّلَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ ثَابِتًا لُغَةً بِحَيْثُ يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللِّسَانِ فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الثَّابِتُ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ مَوْضِعِ النَّصِّ مِمَّا يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللِّسَانِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى الْجِنَايَةِ فِي سُؤَالِ الْأَعْرَابِيِّ ثَابِتٌ لُغَةً مَفْهُومٌ لِأَهْلِ اللِّسَانِ بِلَا شَكٍّ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الدَّلَالَةِ، إلَّا أَنَّ الثَّابِتَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى فِي غَيْرِ مَوْضِعِ النَّصِّ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، وَقَدْ اشْتَبَهَ عَلَى الْبَعْضِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَعَلُّقَ الْحُكْمِ بِنَفْسِ مَعْنَى الْجِنَايَةِ أَمْ بِالْجِنَايَةِ الْمُقَيَّدَةِ بِالْآلَةِ الْمُعَيَّنَةِ وَهِيَ الْوِقَاعُ لَا لِخَفَاءِ مَعْنَى الْجِنَايَةِ فَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ مِنْ بَابِ الدَّلَالَةِ. فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ الثَّابِتَ بِالدَّلَالَةِ قَدْ يَكُونُ ظَاهِرًا كَحُرْمَةِ الضَّرْبِ الثَّابِتَةِ بِنَصِّ التَّأْفِيفِ، وَقَدْ يَكُونُ خَفِيًّا كَثُبُوتِ الْكَفَّارَةِ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ بِالْإِشَارَةِ، وَقَدْ يَكُونُ ظَاهِرًا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQوَخَفِيًّا فَأَمَّا الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللِّسَانِ، وَإِلَّا كَانَ قِيَاسًا لَا دَلَالَةً. فَإِنْ قِيلَ: لَا يُمْكِنُ إلْحَاقُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِالْجِمَاعِ بِالدَّلَالَةِ إلَّا بِإِثْبَاتِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْبَابَيْنِ إذْ لَا بُدَّ فِيهَا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ فِي غَيْرِ الْمَنْصُوصِ مِثْلُهُ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَوْ فَوْقَهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَهُنَا؛ لِأَنَّ لِلْوِقَاعِ مَزِيَّةً فِي مَعْنَى الْجِنَايَةِ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ حُرْمَةَ الْفِعْلِ تَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ احْتِرَامِ الْمَحَلِّ فَإِنَّ إتْلَافَ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ أَشَدُّ حُرْمَةً مِنْ إتْلَافِ الْمَالِ الْمَعْصُومِ لِكَوْنِ الْآدَمِيِّ أَشَدَّ احْتِرَامًا مِنْ الْمَالِ وَلِمَنَافِعِ الْبُضْعِ حُرْمَةُ الْآدَمِيِّ لِكَوْنِهَا سَبَبًا لِحُصُولِهِ وَلِهَذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَيْهَا مُوجِبَةً قَتْلَ النَّفْسِ لِذِي الْإِحْصَانِ وَالْأَلَمَ الشَّدِيدَ عِنْدَ عَدَمِهِ فَكَانَتْ الْجِنَايَةُ بِالْوِقَاعِ أَشَدَّ حُرْمَةً مِنْ الْجِنَايَةِ بِالْأَكْلِ فَلَا يُمْكِنُ إلْحَاقُهُ بِهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْجِنَايَةَ بِالْجِمَاعِ وَارِدَةٌ عَلَى الصَّوْمِ وَالْجِنَايَةُ بِالْأَكْلِ غَيْرُ وَارِدَةٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ مَحْظُورُ الصَّوْمِ وَالْأَكْلُ نَقِيضُهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الصَّوْمِ هُوَ الِامْتِنَاعُ عَنْ مُعْتَادِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَأَمَّا الِامْتِنَاعُ عَنْ الْجِمَاعِ فَتَابِعٌ عَلَى مَا مَرَّ فَصَارَ الرُّكْنُ فِي الْبَابِ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَصَارَ ذَلِكَ نَقِيضًا لَهُ فَأَمَّا الِامْتِنَاعُ عَنْ الْجِمَاعِ فَمَحْظُورٌ إذْ الصَّوْمُ لَيْسَ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ مَعْنًى كَمَا فِي الِاعْتِكَافِ الْخُرُوجُ عَنْ الْمَسْجِدِ نَقِيضُهُ لِأَنَّهُ مُنَافٍ لِلُّبْثِ وَالْجِمَاعُ مَحْظُورُهُ غَيْرَ أَنَّ الصَّوْمَ يَفْسُدُ بِالْمَحْظُورِ كَمَا يَفْسُدُ بِالْمُنَاقِضِ، ثُمَّ الْجِنَايَةُ عَلَى الْعِبَادَةِ بِالْمَحْظُورِ فَوْقَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ بِالنَّقِيضِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ بِالْمَحْظُورِ تُرَدُّ عَلَى الْعِبَادَةِ فَإِنَّهَا تَبْقَى عِنْدَ وُرُودِ الْمَحْظُورِ عَلَيْهَا لِعَدَمِ الْمُضَادَّةِ فَيُرَدُّ عَلَيْهَا الْجِنَايَةُ، ثُمَّ تَبْطُلُ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَمَّا وُرُودُ الْجِنَايَةِ عَلَيْهَا بِالنَّقِيضِ فَغَيْرُ مُتَصَوَّرٍ؛ لِأَنَّ النَّقِيضَ لَا يُرَدُّ عَلَى الْعِبَادَةِ فَإِنَّ وُجُودَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الْآخَرِ فَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهَا عِنْدَ وُجُودِ النَّقِيضِ فَتَنْعَدِمُ الْعِبَادَةُ سَابِقَةً عَلَى وُجُودِ النَّقِيضِ، ثُمَّ يُوجَدُ النَّقِيضُ وَلِهَذَا قُلْت مَنْ أَصْبَحَ مُجَامِعًا لِأَهْلِهِ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ لَا يَمْنَعُ مِنْ انْعِقَادِ الصَّوْمِ لِكَوْنِهِ مَحْظُورًا فِيهِ لَا نَقِيضًا فَيَنْعَقِدُ، ثُمَّ يَنْعَدِمُ بَعْدَ وُجُودِهِ كَمَا لَوْ أَحْرَمَ مُجَامِعًا لِأَهْلِهِ فَصَارَ فِي التَّحْقِيقِ طَارِيًا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُقَارِنًا لَهُ فِي الصُّورَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجِنَايَةَ الْوَارِدَةَ عَلَى الْعِبَادَةِ الْمُوجِبَةِ لِإِبْطَالِهَا فَوْقَ الْجِنَايَةِ الَّتِي لَمْ تُصَادِفْ الْعِبَادَةَ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْجِمَاعَ فِعْلٌ يُوجِبُ فَسَادَ صَوْمَيْنِ صَوْمِ الرَّجُلِ وَصَوْمِ الْمَرْأَةِ لَوْ كَانَتْ صَائِمَةً؛ وَلِهَذَا قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: هَلَكْت وَأَهْلَكْت وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ لَا يُوجِبُ إلَّا فَسَادَ صَوْمِ وَاحِدٍ فَكَانَ الْجِمَاعُ أَقْوَى وَرَابِعًا: أَنَّ فِي الْجِمَاعِ دَاعِيَيْنِ طَبْعُ الرَّجُلِ وَطَبْعُ الْمَرْأَةِ وَفِي الْأَكْلِ دَاعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ طَبْعُ الْأَكْلِ فَشَرْعُ الزَّاجِرِ فِيمَا لَهُ دَاعِيَانِ لَا يَكُونُ شَرْعًا فِيمَا لَهُ دَاعٍ وَاحِدٍ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فِي اللِّوَاطَةِ مَعَ الزِّنَا. وَخَامِسُهَا: أَنَّ غَلَبَةَ الْجُوعِ مَتَى تَنَاهَتْ أَبَاحَتْ الْإِفْطَارَ فَبِوُجُودِ بَعْضِهَا وُجِدَ بَعْضُ الْمُبِيحِ فَيُورِثُ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ فَلَا يَصْلُحُ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ وَفِي الْجِمَاعِ لَوْ تَنَاهَى الشَّبَقُ لَا يُوجِبُ الْإِبَاحَةَ فَوُجُودُ بَعْضِهِ لَا يُورِثُ شُبْهَةً فَصَلُحَ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ. أُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ أَشَدُّ احْتِرَامًا مِنْ الطَّعَامِ وَلَكِنَّ الْحُرْمَةَ الَّتِي شُرِعَتْ الْكَفَّارَةُ لَهَا هِيَ حُرْمَةُ إفْسَادِ الصَّوْمِ لَا حُرْمَةُ

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ النَّصَّ فِي عُذْرِ النَّاسِي وَرَدَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَيَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي الْوَطْءِ دَلَالَةً؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ فِعْلٌ مَعْلُومٌ بِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ إمَّا صُورَتُهُ فَظَاهِرَةٌ وَأَمَّا مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَدْفُوعٌ إلَيْهِ خِلْقَةً وَطَبِيعَةً وَكَانَ ذَلِكَ سَمَاوِيًّا مَحْضًا فَأُضِيفَ إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ فَصَارَ عَفْوًا، هَذَا مَعْنَى النِّسْيَانِ لُغَةً وَهُوَ كَوْنُهُ مَطْبُوعًا عَلَيْهِ فَعَلِمْنَا بِهَذَا الْمَعْنَى فِي نَظِيرِهِ فَإِنْ قِيلَ هُمَا مُتَفَاوِتَانِ؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ يَغْلِبُ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ يُحْوِجُهُ إلَى ذَلِكَ وَلَا يُحْوِجُهُ إلَى الْوَاقِعَةِ بَلْ يُضَعِّفُهُ عَنْهَا فَصَارَ كَالنِّسْيَانِ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يُجْعَلْ عُذْرًا؛ لِأَنَّهُ نَادِرٌ قُلْنَا لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مَزِيَّةٌ فِي أَسْبَابِ الدَّعْوَةِ وَفِيهِ قُصُورٌ فِي حَالَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَغْلِبُ الْبَشَرَ وَأَمَّا الْمُوَاقَعَةُ فَقَاصِرَةٌ فِي أَسْبَابِ الدَّعْوَةِ وَلَكِنَّهَا كَامِلَةٌ فِي حَالِهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الشَّهْوَةَ تَغْلِبُ الْبَشَرَ فَصَارَ سَوَاءً فَصَحَّ الِاسْتِدْلَال، وَمِنْ ذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ـــــــــــــــــــــــــــــQإتْلَافِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ مَنَافِعِ بُضْعِ مَمْلُوكَةٍ لِلرَّجُلِ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ هُوَ إفْسَادُ الصَّوْمِ وَلَوْ كَانَتْ الْمَنَافِعُ غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ بِأَنْ زَنَى لَا يَنْمَحِي حُرْمَةُ إتْلَافِهَا بِالْكَفَّارَةِ وَلَوْ زَنَى نَاسِيًا لِلصَّوْمِ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ الْمَنَافِعِ وَإِنْ وُجِدَ فَإِفْسَادُ الصَّوْمِ لَمْ يُوجَدْ وَفِي الطَّعَامِ إيجَابُهَا عِنْدَنَا لِهَذِهِ الْجِنَايَةِ أَيْضًا لَا لِحُرْمَةِ إتْلَافِ الطَّعَامِ فَإِنَّهُ لَوْ أَكَلَ طَعَامَ نَفْسِهِ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ حُرْمَةُ التَّنَاوُلِ وَلَوْ أَكَلَ طَعَامَ غَيْرِهِ نَاسِيًا لِلصَّوْمِ لَا يَجِبُ الْكَفَّارَةُ مَعَ حُرْمَةِ التَّنَاوُلِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي مَعْنَى الْجِنَايَةِ. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ ذَلِكَ دَعْوَى مَمْنُوعَةٌ بَلْ الْجِمَاعُ نَقِيضُ الصَّوْمِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الصَّوْمَ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ اقْتِضَاءِ الشَّهْوَتَيْنِ جَمِيعًا لِإِبَاحَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْكُلَّ بِاللَّيْلِ وَأَمْرُهُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ الْكُلِّ فِي النَّهَارِ فَيَفُوتُ الصَّوْمُ بِوُجُودِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْكَمَالِ وَكَوْنِ الِامْتِنَاعِ عَنْ قَضَاءِ شَهْوَةِ الْبَطْنِ أَصْلًا لَا يَمْنَعُ مِنْ اسْتِوَائِهِمَا فِي تَفْوِيتِ الصَّوْمِ وَإِفْسَادِهِ لِمَا بَيَّنَّا وَالْمَأْثَمُ إفْسَادِ الصَّوْم، وَقَدْ اسْتَوَيَا فِي الْإِفْسَادِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الْمَأْثَمِ. وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ عَلَيْهِ بِالْجِمَاعِ بِفِعْلِهِ وَفِعْلُهُ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ إلَّا فَسَادُ صَوْمِهِ وَإِنَّمَا فَسَدَ صَوْمُهَا بِفِعْلِهَا وَهُوَ قَضَاءُ شَهْوَتِهَا وَلِهَذَا وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ أَيْضًا كَمَا وَجَبَ عَلَيْهَا الْحَدُّ بِالتَّمْكِينِ فِي بَابِ الزِّنَى أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ صَائِمَةً أَوْ كَانَتْ نَاسِيَةً لِلصَّوْمِ فَجَامَعَهَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَالْجِمَاعُ هَهُنَا لَمْ يُوجِبْ إلَّا فَسَادَ صَوْمِ وَاحِدٍ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِإِفْسَادِ صَوْمِ وَاحِدٍ لَا بِإِفْسَادِ صَوْمَيْنِ. وَعَنْ الرَّابِعِ بِأَنَّ التَّرْجِيحَ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ تَكُونُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ كَمَا فَعَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فِي مَسْأَلَةِ اللِّوَاطَةِ مَعَ الزِّنَا فَأَمَّا جِهَةُ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَمُخْتَلِفَةٌ وَهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ فَلَا عِبْرَةَ فِيهِ لِلْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ فِيهِ لِلْغَلَبَةِ أَوْ الْقُوَّةِ وَهُمَا جَمِيعًا لِقَضَاءِ شَهْوَةِ الْبَطْنِ دُونَ قَضَاءِ شَهْوَةِ الْفَرْجِ فَإِنَّهَا تَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ عَادَةً وَبَقِيَتْ مَا دَامَ الرُّوحُ فِي الْبَدَنِ وَشَهْوَةُ الْفَرْجِ لَا تَتَجَدَّدُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُدَّةِ وَتَنْقَطِعُ بِاسْتِيلَاءِ الْكِبْرِ، وَكَذَا الْإِنْسَانُ يَصْبِرُ عَنْ الْوِقَاعِ دَهْرًا طَوِيلًا وَلَا يَصْبِرُ عَنْ الْأَكْلِ، إلَّا قَلِيلًا فَكَانَتْ شَهْوَةُ الْبَطْنِ أَغْلَبُ وَأَقْوَى فَكَانَتْ أَوْلَى بِشَرْعِ الزَّاجِرِ، عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ إذَا كَانَ قِيَامُهُ بِاثْنَيْنِ كَانَ حُصُولُهُ أَقَلَّ مِمَّا إذَا كَانَ قِيَامُهُ بِوَاحِدٍ خُصُوصًا إذَا كَانَ الْفِعْلُ مَعْصِيَةً فَإِنَّ أَحَدَهُمَا إنْ قَصَدَ الْعِصْيَانَ فَالْآخَرُ لَا يُسَاعِدُهُ عَلَى ذَلِكَ وَكَذَا هَيَجَانُ الشَّهْوَةِ الَّذِي لَا يَقَعُ الْجِمَاعُ إلَّا بِهِ مِنْ الشَّخْصَيْنِ فِي وَقْتٍ مَعَ وُجُودِ الْحُرْمَةِ شَرْعًا قَلَّ مَا يَتَّفِقُ. 1 - وَعَنْ الْخَامِسِ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَنَاهِيَ الْجُوعِ مُبِيحٌ بَلْ الْمُبِيحُ خَوْفُ التَّلَفِ وَكَيْفَ يَكُونَ الْجُوعُ مُبِيحًا لِلْإِفْطَارِ وَالصَّوْمُ مَا شُرِعَ، إلَّا لِحِكْمَةِ الْجُوعِ بَقِيَ أَنَّ خَوْفَ التَّلَفِ شَرْطُهُ تَنَاهِي الْجُوعِ وَلَكِنْ بَعْضُ الْعِلَّةِ لَا عِبْرَةَ بِهِ أَصْلًا فَبَعْضُ الشَّرْطِ مَعَ عَدَمِ الْعِلَّةِ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عِبْرَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. كَذَا فِي طَرِيقَةِ الشَّيْخِ أَبِي الْمُعِينِ وَغَيْرِهَا قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِنْ الثَّابِتِ بِالدَّلَالَةِ أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي كَذَا يَعْنِي مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنِّي أَكَلْت وَشَرِبْت فِي نَهَارِ رَمَضَانَ نَاسِيًا وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ أَطْعَمَك وَسَقَاك فَتِمَّ عَلَى صَوْمِك» . لِأَنَّ النِّسْيَانَ فِعْلٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ اخْتِيَارِيًّا كَالسُّقُوطِ وَنَحْوِهِ وَلِهَذَا يُقَالُ نَسِيَ يَنْسَى. مَعْلُومٌ بِصُورَتِهِ وَهِيَ الْغَفْلَةُ

«لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ» وَأَرَادَ بِهِ الضَّرْبَ بِالسَّيْفِ وَلِهَذَا الْفِعْلِ مَعْنًى مَقْصُودٌ وَهُوَ الْجِنَايَةُ بِالْجُرْحِ وَمَا يُشْبِهُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَنْ الشَّيْءِ بَعْدَمَا كَانَ حَاضِرًا فِي الذِّهْنِ، وَصُورَةُ كُلِّ شَيْءٍ تَنَاسُبُهُ. وَمَعْنَاهُ وَهُوَ أَنَّهُ أَيْ النَّاسِيَ مَدْفُوعٌ إلَيْهِ خِلْقَةً أَيْ وَاقِعٌ فِيهِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ. وَلَمْ يَذْكُرْ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ لَفْظَ الصُّورَةِ. فَقَالَ: النِّسْيَانُ مَعْنًى مَعْلُومٌ لُغَةً وَهُوَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ طَبْعًا عَلَى وَجْهٍ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ الْعِبَادِ. فَكَانَ ذَلِكَ أَيْ عُذْرُ النِّسْيَانِ، فَأُضِيفَ أَيْ الْفِعْلُ وَهُوَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ بِسَبَبِ هَذَا الْعُذْرِ إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ فَصَارَ عَفْوًا. هَذَا مَعْنَى النِّسْيَانِ لُغَةً وَهُوَ كَوْنُهُ مَطْبُوعًا عَلَيْهِ يَعْنِي كَوْنَ النَّاسِي مَطْبُوعًا عَلَى النِّسْيَانِ يُفْهَمُ لُغَةً مِنْ النِّسْيَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْضُوعًا لَهُ كَالْإِيذَاءِ مِنْ التَّأْفِيفِ إذْ لَا حَاجَةَ فِي فَهْمِهِ إلَى اجْتِهَادٍ وَاسْتِنْبَاطٍ بَلْ يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ فَعَمِلْنَا بِهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّهُ مَدْفُوعٌ إلَيْهِ طَبْعًا فِي نَظِيرِهِ أَيْ نَظِيرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْجِمَاعُ فَكَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا فِيهِ بِالدَّلَالَةِ لَا بِالْقِيَاسِ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْمَعْدُولَ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْجِمَاعُ بِمَنْزِلَةِ الْأَكْلِ فِي مُنَافَاةِ رُكْنِ الصَّوْمِ أَوْ دُونِهِ فَلَا يَبْقَى مُنَافِيًا مَعَ النِّسْيَانِ اسْتِدْلَالًا بِالْأَكْلِ. فَإِنْ قِيلَ هُمَا مُتَفَاوِتَانِ أَيْ الْمَنْصُوصُ وَالْجِمَاعُ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ يُحْوِجُهُ إلَى ذَلِكَ أَيْ إلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ شُرِعَ فِي وَقْتِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَوَقْتُ الْأَسْبَابِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْأَكْلِ وَالصَّوْمُ يَزِيدُ فِي شَهْوَتِهِ فَيُبْتَلَى الْإِنْسَانُ فِيهِ بِالنِّسْيَانِ غَالِبًا وَلَا يَحُوجُهُ إلَى الْمُوَاقَعَةِ؛ لِأَنَّ النَّهَارَ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِلْجِمَاعِ عَادَةً وَلِلصَّوْمِ أَثَرٌ فِي إزَالَةِ هَذِهِ الشَّهْوَةِ فَإِنَّ الصَّوْمَ وِجَاءٌ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» . فَكَانَ النِّسْيَانُ فِيهِ مِنْ النَّوَادِرِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَلْحَقَ بِالْمَنْصُوصِ؛ لِأَنَّهُ دُونَهُ. وَصَارَ أَيْ الْجِمَاعُ نَاسِيًا فِي الصَّوْمِ كَالنِّسْيَانِ فِي الصَّلَاةِ أَيْ مِثْلُ الْأَكْلِ نَاسِيًا فِي الصَّلَاةِ حَيْثُ لَمْ يُجْعَلْ عَفْوًا؛ لِأَنَّهُ نَادِرٌ فَكَذَا هَذَا. وَبِمَا ذَكَرْنَا تَمَسَّكَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَجَعَلَ النِّسْيَانَ عُذْرًا فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِالنَّصِّ وَلَمْ يَجْعَلْهُ عُذْرًا فِي الْجِمَاعِ. وَالْجَوَابُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ. وَأَجَابَ الشَّيْخُ فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ هَذِهِ الْعِبَارَةَ وَهِيَ أَنَّ لِلْأَكْلِ غَلَبَةَ الْوُجُودِ مِنْ حَيْثُ عُمُومُ السَّبَبِ وَلِلْجِمَاعِ غَلَبَةَ الْوُجُودِ مِنْ حَيْثُ ذَاتُ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الشَّهْوَةَ إذَا غَلَبَتْ لَا يَقْدِرُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ عَنْ الْجِمَاعِ لِوُجُودِ الدَّاعِي فِي الْفَاعِلِ وَالْمَحَلِّ فَثَبَتَ أَنَّ لِلْجِمَاعِ غَلَبَةَ الْوُجُودِ مِنْ حَيْثُ ذَاتِهِ وَلِلْأَكْلِ مِنْ حَيْثُ أَسْبَابِهِ فَلَا يَكُونُ عَيْنُ الْأَكْلِ غَالِبًا فِي ذَاتِهِ فَالْغَلَبَةُ الَّتِي تَنْشَأُ مِنْ الذَّاتِ فَوْقَ مَا تَنْشَأُ مِنْ السَّبَبِ فَلَمَّا عُفِيَ عَنْهُ فَلَأَنْ يُعْفَى عَنْ الْجِمَاعِ كَانَ أَوْلَى. وَذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ فِي حُكْمِ الصَّوْمِ فَإِذَا وَرَدَ نَصٌّ فِي أَحَدِهِمَا كَانَ وَارِدًا فِي الْآخَرِ كَمِنْ يَقُولُ لِغَيْرِهِ: اجْعَلْ زَيْدًا وَعَمْرًا فِي الْعَطِيَّةِ سَوَاءً، ثُمَّ يَقُولُ: أَعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا كَانَ ذَلِكَ تَنْصِيصًا عَلَى أَنَّهُ يُعْطِي عَمْرًا أَيْضًا دِرْهَمًا وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. «لَا قَوَدَ، إلَّا بِالسَّيْفِ» . يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا لَا قَوَدَ يُسْتَوْفَى إلَّا بِالسَّيْفِ. وَالثَّانِي: لَا قَوَدَ يَجِبُ إلَّا بِالْقَتْلِ بِالسَّيْفِ؛ لِأَنَّ لِلْقِصَاصِ طَرَفَيْنِ طَرَفُ الِاسْتِيفَاءِ وَطَرَفُ

وَالْحُكْمُ جَزَاءٌ يَبْتَنِي عَلَى الْمُمَاثَلَةِ فِي الْجِنَايَةِ وَكَانَ ثَابِتًا بِذَلِكَ الْمَعْنَى وَاخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْجُرْحُ الَّذِي يَنْقُضُ الْبِنْيَةَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: مَعْنَاهُ مَا لَا تُطِيقُ الْبِنْيَةُ احْتِمَالَهُ فَتَهْلِكُ جُرْحًا كَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ حَتَّى قَالَا: يَجِبُ الْقَوَدُ بِالْقَتْلِ بِالْحَجَرِ الْعَظِيمِ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْقِصَاصَ وَجَبَ عُقُوبَةً وَزَجْرًا عَنْ انْتِهَاكِ حُرْمَةِ النَّفْسِ وَصِيَانَةَ حَيَاتِهَا وَانْتِهَاكَ حُرْمَتِهَا بِمَا لَا تُطِيقُ حَمْلَهُ وَلَا تَبْقَى ـــــــــــــــــــــــــــــQالْوُجُوبِ. فَإِنْ أُرِيدَ نَفْيُ الِاسْتِيفَاءِ يَكُونُ حُجَّةً لَنَا عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّهُ لَا يُفْعَلُ بِالْقَاتِلِ مِثْلُ مَا فَعَلَ بِالْمَقْتُولِ مِنْ الْخَرْقِ وَالْغَرَقِ وَالرَّضْحِ بِالْحِجَارَةِ وَنَحْوِهَا. وَإِنْ أُرِيدَ نَفْيُ الْوُجُوبِ يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ أَيْضًا فِي مَسْأَلَةِ الْمُوَالَاةِ. وَرَجَّحَ الْإِمَامُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ فَقَالَ: الْقَوَدُ اسْمٌ لِقَتْلٍ هُوَ جَزَاءُ الْقَتْلِ كَالْقِصَاصِ، إلَّا أَنَّ الْقَوَدَ خَاصٌّ فِي جَزَاءِ الْقَتْلِ وَالْقِصَاصُ عَامٌّ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَا قَتْلَ قِصَاصًا، إلَّا بِالسَّيْفِ. فَإِنْ قِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ لَا قَوَدَ يَجِبُ، إلَّا بِالسَّيْفِ. قُلْنَا: الْقَوَدُ عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلِ الْقَتْلِ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَازَاةِ دُونَ مَا يَجِبُ شَرْعًا وَإِنْ حُمِلَ عَلَيْهِ كَانَ مَجَازًا كَنَفْسِ الْقَتْلِ عِبَارَةٌ عَنْ الْفِعْلِ حَقِيقَةً لَا عَنْ الْوَاجِبِ. وَلِأَنَّ الْقَوَدَ قَدْ يَجِبُ بِغَيْرِ السَّيْفِ وَإِنَّمَا السَّيْفُ مَخْصُوصُ الِاسْتِيفَاءِ، كَذَا فِي الْأَسْرَارِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَخِيرِ خَرَّجَ الشَّيْخُ مَسْأَلَةَ الْمُثَقَّلِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فَقَالَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ «لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ» هُوَ الضَّرْبُ بِالسَّيْفِ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ إذَا دَخَلَتْ فِي الْآلَةِ اقْتَضَتْ فِعْلًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَوَدَ لَا يَجِبُ بِأَخْذِ السَّيْفِ وَقَبْضِهِ فَكَانَ الضَّرْبُ هُوَ الْمُرَادُ. وَلِهَذَا الْفِعْلِ وَهُوَ الضَّرْبُ بِالسَّيْفِ مَعْنًى مَقْصُودٌ يُفْهَمُ مِنْهُ لُغَةً وَهُوَ الْجِنَايَةُ بِالْجُرْحِ وَمَا يُشْبِهُهُ كَالتَّأْفِيفِ لَهُ مَعْنًى مَقْصُودٌ وَهُوَ الْإِيذَاءُ بِإِظْهَارِ التَّضَجُّرِ وَمَا يُشْبِهُهُ مِنْ الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ، ثُمَّ مَا يُشْبِهُ الْجُرْحَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتِعْمَالُ آلَةِ الْجُرْحِ مِثْلُ سِنْجَاتِ الْمِيزَانِ عَلَى أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ لَهُ فِي مَسْأَلَةِ الثِّقَلِ وَعِنْدَهُمَا اسْتِعْمَالُ مَا لَا يُطِيقُ الْبَدَنُ احْتِمَالَهُ مِثْلُ الْحَجَرِ الْعَظِيمِ وَالْعَصَا الْكَبِيرَةِ. وَالْحُكْمُ وَهُوَ الْقَوَدُ جَزَاءٌ يَبْتَنِي عَلَى الْمُمَاثَلَةِ فِي الْجِنَايَةِ يَعْنِي شُرِعَ الْحُكْمُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مُمَاثِلًا لِلْجِنَايَةِ فَإِنَّ الْقِصَاصَ يُنْبِئُ عَنْ الْمُسَاوَاةِ. وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ عَزَّ ذِكْرُهُ {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] الْآيَةَ يُشِيرَانِ إلَى الْمُسَاوَاةِ أَيْضًا وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَأْسِيسُ الْجَوَابِ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ كَلَامِهِمَا كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. فَكَانَ أَيْ الْحُكْمُ وَهُوَ وُجُوبُ الْقَوَدِ ثَابِتًا بِهَذَا الْمَعْنَى أَيْ مُتَعَلِّقًا بِهِ دُونَ صُورَةِ الضَّرْبِ بِالسَّيْفِ كَتَعَلُّقِ حُرْمَةِ التَّأْفِيفِ بِمَعْنَاهُ لَا بِصُورَتِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَفْهُومُ بِذِكْرِ السَّيْفِ لُغَةً هُوَ الْجُرْحُ الَّذِي يَنْقُضُ الْبِنْيَةَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مَعْنَاهُ أَيْ الْمَعْنَى الْمَفْهُومُ مِنْ الضَّرْبِ بِالسَّيْفِ لُغَةً مَا لَا تُطِيقُ الْبِنْيَةُ احْتِمَالَهُ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ وَيَكُونُ ثَابِتًا بِدَلَالَةِ النَّصِّ. فَإِنْ قِيلَ: الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ مَا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِمَعْنًى مُخْتَلِفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ كَيْفَ يُعَدُّ هَذَا مِنْ بَابِ الدَّلَالَةِ. قُلْنَا: لَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِي أَنَّ الْقَوَدَ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. «لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ» ثَابِتٌ بِمَعْنَى الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ وَإِنَّ هَذَا مَعْنًى فُهِمَ مِنْهُ لُغَةً إنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مُجَرَّدُ مَعْنَى الْجِنَايَةِ أَوْ الْجِنَايَةُ الْمُنْتَهِيَةُ فِي الْكَمَالِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مِنْ بَابِ الْفِقْهِ لَكِنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِ الْحُكْمِ ثَابِتًا بِالدَّلَالَةِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ مَفْهُومٌ لُغَةً، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا قُتِلَ إنْسَانًا مَعْصُومًا بِالْحَجَرِ الْعَظِيمِ أَوْ الْخَشَبِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا تُطِيقُ الْبِنْيَةُ احْتِمَالَهُ لَا يَجِبُ

مَعَهُ. فَأَمَّا الْجُرْحُ عَلَى الْبَدَنِ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ إنَّمَا الْبَدَنُ وَسِيلَةٌ فَمَا يَقُومُ بِغَيْرِ الْوَسِيلَةِ كَانَ أَكْمَلَ وَالْجَوَابُ لِأَبِي حَنِيفَةَ عَنْ هَذَا أَنَّ مَعْنَى الْجِنَايَةِ هُوَ مَا لَا تُطِيقُ النَّفْسُ احْتِمَالَهُ لَكِنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ فِعْلٍ الْكَمَالُ وَالنُّقْصَانُ بِالْعَوَارِضِ فَلَا يَجِبُ النَّاقِصُ أَصْلًا بَلْ الْكَامِلُ يُجْعَلُ أَصْلًا، ثُمَّ تَعَدَّى حُكْمُهُ إلَى النَّاقِصِ إنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ، فَأَمَّا أَنْ يُجْعَلَ النَّاقِصُ أَصْلًا خُصُوصًا فِيمَا يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَا ـــــــــــــــــــــــــــــQالْقِصَاصُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يَجِبُ الْقِصَاصُ وَهَذَا إذَا لَمْ يَجْرَحْ فَإِنْ جَرَحَ الْحَجَرُ أَوْ الْخَشَبُ فَإِنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ بِالِاتِّفَاقِ. وَفِي الْحَدِيدِ يَجِبُ الْقَوَدُ جَرَحَ أَوْ لَمْ يَجْرَحْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا قَتَلَهُ جَرْحًا يَجِبُ الْقَوَدُ بِأَيِّ آلَةٍ كَانَتْ وَإِنْ لَمْ يَجْرَحْ لَا يَجِبُ الْقَوَدُ بِأَيِّ آلَةٍ كَانَتْ. قَالُوا: إنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْقِصَاصَ وَجَبَ عُقُوبَةً يَعْنِي بَعْدَمَا ارْتَكَبَ الْجِنَايَةَ وَزَجْرًا عَنْ انْتِهَاكِ حُرْمَةِ النَّفْسِ وَصِيَانَةَ حَيَاتِهَا يَعْنِي قَبْلَ ارْتِكَابِ الْجِنَايَةِ فَإِنَّ شَرْعَهُ زَاجِرٌ عَنْ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وَانْتِهَاكُ الْحُرْمَةِ تَنَاوُلُهَا بِمَا لَا يَحِلُّ، كَذَا فِي الصِّحَاحِ. وَانْتِهَاكُ حُرْمَتِهَا إنَّمَا يَحْصُلُ بِمَا لَا تُطِيقُ النَّفْسُ احْتِمَالَهُ وَلَا تَبْقَى مَعَهُ؛ لِأَنَّهَا إذَا تَلِفَتْ بِذَلِكَ فَقَدْ اُنْتُهِكَتْ حُرْمَتُهَا. فَأَمَّا الْجُرْحُ عَلَى الْبَدَنِ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ يَعْنِي فِي تَعَلُّقِ الْعُقُوبَةِ، إنَّمَا الْبَدَنُ أَيْ الْجُرْحُ عَلَى الْبَدَنِ وَسِيلَةٌ إلَى الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ وَانْتِهَاكِ حُرْمَتِهَا بِاعْتِبَارِ السِّرَايَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُشِرْ إلَى النَّفْسِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيمَا يَكُونُ بِغَيْرِ وَسِيلَةٍ كَانَ أَكْمَلَ فَمَا يَكُونُ جِنَايَةً عَلَى النَّفْسِ بِغَيْرِ وَسِيلَةٍ وَهُوَ الْقَتْلُ بِحَجَرِ الرَّحَى وَالْأُسْطُوَانَة الْعَظِيمَةِ مَثَلًا كَانَ أَكْمَلَ فِي الْجِنَايَةِ مِنْ الْجُرْحِ لِأَنَّ مَا لَا يَلْبَثُ وَلَا تُطِيقُ النَّفْسُ احْتِمَالَهُ مُزْهِقٌ لِلرُّوحِ بِنَفْسِهِ وَالْفِعْلُ الْجَارِحُ مُزْهِقٌ لَهُ بِوَاسِطَةِ الْجِرَاحَةِ فَالْجُرْحُ وَسِيلَةٌ يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى إزْهَاقِ الرُّوحِ وَمَا يَكُونُ عَامِلًا بِنَفْسِهِ أَبْلَغُ مِمَّا يَكُونُ عَامِلًا بِوَاسِطَةِ السِّرَايَةِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا أَتَمَّ فِي الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرِ وَهُوَ عَدَمُ احْتِمَالِ الْبِنْيَةِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِ بِالدَّلَالَةِ كَمَا فِي الضَّرْبِ مَعَ التَّأْفِيفِ وَكَمَا يَثْبُتُ فِي الْقَتْلِ بِالرُّمْحِ وَالسِّكِّينِ وَالنُّشَّابَةِ بِالدَّلَالَةِ. يُوَضِّحُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ هُنَاكَ قَدْ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِفِعْلٍ لَا يَكُونُ قَتْلًا لَا مَحَالَةَ، كَقَطْعِ الْأُصْبُعِ وَالْغَرْزِ بِالْإِبْرَةِ وَالضَّرْبِ بِسِنْجَاتِ الْمِيزَانِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ فَلَمَّا وَجَبَ الْقِصَاصُ بِهَذَا الْفِعْلِ وَأَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ بِهِ الْقَتْلُ، وَقَدْ لَا يَحْصُلُ فَلَأَنْ يَجِبَ بِإِلْقَاءِ حَجَرِ الرَّحَى أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُرْجَى مَعَهُ الْحَيَاةُ أَصْلًا. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ لَوْ قَتَلُوا بِالْحَدِيدِ وَبِالْحَجَرِ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ وَلَا شَكَّ أَنَّ وُجُوبَ الْقَتْلِ عَلَى قَاطِعِ الطَّرِيقِ يَتَعَلَّقُ بِالْقَتْلِ كَالْقِصَاصِ، ثُمَّ لَمْ يَقَعْ الْفَرْقُ فِيهِ بَيْنَ الْحَدِيدِ وَغَيْرِهِ وَبَيْنَ الْجُرْحِ وَالدَّقِّ، فَكَذَلِكَ هَهُنَا، كَذَا فِي طَرِيقَةِ الْإِمَامِ الْبُرْغَرِيِّ. وَالْجَوَابُ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَاهُ أَنَّا قَدْ سَلَّمْنَا أَنَّ مَعْنَى الْجِنَايَةِ هُوَ مَا لَا تُطِيقُ النَّفْسُ احْتِمَالَهُ. لَكِنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ فِعْلٍ الْكَمَالُ يَعْنِي إذَا صَارَ الْحُكْمُ مُرَتَّبًا عَلَى شَيْءٍ فَالِاعْتِبَارُ فِيهِ لِلْكَامِلِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ لِلنَّاقِصِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ، ثُمَّ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ مِنْ جِنْسِ مَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ يَلْحَقُ النَّاقِصُ بِالْكَامِلِ وَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِ كَمَا يَثْبُتُ فِي الْكَامِلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَا يَلْحَقُ النَّاقِصُ بِالْكَامِلِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ لَهُ شُبْهَةَ الْعَدَمِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ مَا لَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ. فَالْأَصْلُ فِي الزِّنَا وُقُوعُهُ فِي مَحَلٍّ مُحْتَرَمٍ خَالٍ عَنْ الْمِلْكِ وَعَنْ شُبْهَةِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْكَامِلُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى ذَلِكَ الْمَحِلِّ، ثُمَّ تَعَدَّى أَحَدُ حُكْمَيْهِ وَهُوَ الْحُرْمَةُ إلَى مَا هُوَ نَاقِصٌ فِي مَعْنَى الْجِنَايَةِ وَهُوَ مَوَاضِعُ الشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ تَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ وَلَمْ يَتَعَدَّ الْحُكْمُ الْآخَرُ وَهُوَ وُجُوبُ الْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ مَعَ الشَّبَهِ. وَكَذَا الْأَصْلُ فِي ثُبُوتِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ مَعْنَى الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ

وَهُنَا الْكَامِلُ فِيمَا قُلْنَا مَا يَنْقُضُ الْبِنْيَةَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا هُوَ الْكَامِلُ فِي النَّقْضِ عَلَى مُقَابَلَةِ كَمَالِ الْوُجُودِ قَوْلُهُمَا: إنَّ الْبَدَنَ وَسِيلَةٌ وَهْمٌ وَغَلَطٌ؛ لِأَنَّا نَعْنِي بِهَذَا الْجِنَايَةَ عَلَى الْجِسْمِ لَكِنَّا نَعْنِي بِهِ الْجِنَايَةَ عَلَى النَّفْسِ الَّتِي هِيَ مَعْنَى الْإِنْسَانِ خِلْقَةً فَالْقِصَاصُ مُقَابِلٌ بِذَلِكَ أَمَّا الْجِسْمُ فَفَرْعٌ وَأَمَّا الرُّوحُ فَلَا يَقْبَلُ الْجِنَايَةَ وَمَعْنَى الْإِنْسَانُ خِلْقَةٌ بِدَمِهِ وَطَبَائِعِهِ فَلَا يَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ، إلَّا بِجُرْحٍ يُرِيقُ دَمًا وَيَقَعُ عَلَى مَعْنَاهُ قَصْدًا فَصَارَ هَذَا أَوْلَى خُصُوصًا فِي الْعُقُوبَاتِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِأَنَّهُ هُوَ الْكَامِلُ فِي الْبَابِ، ثُمَّ تَعَدَّى إلَى النَّاقِصِ وَهُوَ التَّقْبِيلُ وَالْمَسُّ لِمَا ذَكَرْنَا. وَكَذَا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ وَالدِّيَةِ فِي الْقَتْلِ ثَبَتَ فِي الْكَامِلِ مِنْهُ وَهُوَ مَا يَنْقُضُ الْبِنْيَةَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بِدَلِيلِ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ. تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} [النساء: 92] عَلَى مَا عُرِفَ فِي التَّفْسِيرِ فَجُعِلَ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِيهِ، ثُمَّ تَعَدَّى إلَى النَّاقِصِ مِنْهُ وَهُوَ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْخَطَأِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ وَالدِّيَةَ مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ. وَهُنَا الْكَامِلُ مِمَّا قُلْنَا أَيْ مِنْ مَعْنَى الْجِنَايَةِ مَا يَنْقُضُ الْبِنْيَةَ ظَاهِرًا بِتَخْرِيبِ الْجُثَّةِ وَبَاطِنًا بِإِرَاقَةِ الدَّمِ وَإِفْسَادِ طَبَائِعِهِ الْأَرْبَعِ. هَذَا هُوَ الْكَامِلُ فِي النَّقْضِ؛ لِأَنَّ حَيَاةَ الْآدَمِيِّ بِاعْتِدَالِ الْبِنْيَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَكَانَ التَّفْوِيتُ الْكَامِلُ بِإِفْسَادِ الْبِنْيَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَيُجْعَلُ هَذَا الْكَامِلُ أَصْلًا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ» ؛ لِأَنَّ الْقَوَدَ مِمَّا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ فِي الِاسْتِيفَاءِ بِالنَّصِّ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ صِفَةِ الْكَمَالِ فِيهِ، فَأَمَّا اعْتِبَارُ مُجَرَّدِ عَدَمِ احْتِمَالِ الْبِنْيَةِ إيَّاهُ مَعَ سَلَامَةِ الْبِنْيَةِ ظَاهِرًا وَجَعْلُهُ أَصْلًا فَغَيْرُ مُسْتَقِيمٍ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ؛ لِأَنَّهُ نَاقِضٌ لِكَوْنِهِ قَتْلًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ. وَدَلِيلُ النُّقْصَانِ حُكْمُ الذَّكْوَةِ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِمَا يَنْقُضُ الْبِنْيَةَ ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ مُجَرَّدُ عَدَمِ احْتِمَالِ الْبِنْيَةِ حَتَّى لَوْ قَتَلَ الصَّيْدَ بِالْمُثَقَّلِ لَا يَحِلُّ وَلَوْ جَرَحَهُ يَحِلُّ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْمَذْبَحِ. وَقَوْلُهُمَا الْبَدَنُ وَسِيلَةٌ وَهْمٌ وَغَلَطٌ؛ لِأَنَّا لَا نَعْنِي بِهَذَا أَيْ بِفِعْلِ الْقَتْلِ أَوْ بِاشْتِرَاطِ الْجُرْحِ الْجِنَايَةَ عَلَى الْجِسْمِ أَيْ عَلَى الْبَدَنِ لِيَنْدَفِعَ بِقَوْلِكُمْ: الْجُرْحُ وَسِيلَةٌ وَتَبَعٌ، وَالْمَقْصُودُ هُوَ الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى الْوَسِيلَةِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِغَيْرِهَا، بَلْ نَعْنِي الْجِنَايَةَ عَلَى النَّفْسِ الَّتِي هِيَ مَعْنَى الْإِنْسَانِ وَهِيَ دَمُهُ وَطَبَائِعُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَالْقِصَاصُ مُقَابَلٌ بِذَلِكَ أَيْ بِالْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] أَمَّا الْجِسْمُ فَفَرْعٌ يَعْنِي بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَعْنَى لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَلَا نُرِيدُ أَنَّ الْبَدَنَ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي مَعْنَى الْإِنْسَانِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْبَعْضِ. وَأَمَّا الرُّوحُ فَلَا يَقْبَلُ الْجِنَايَةَ يَعْنِي مِنْ الْعِبَادِ لَكِنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْمَعْنَى وَهُوَ الطَّبَائِعُ الْأَرْبَعُ لَا يَتَكَامَلُ، إلَّا بِجُرْحٍ يُخَرِّبُ الْبِنْيَةَ وَيُرِيقُ الدَّمَ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَرَاقَ الدَّمَ فَقَدْ اتَّصَلَ أَثَرُ فِعْلِهِ بِهِ قَصْدٌ أَوْ الْمَجْمُوعُ يَبْطُلُ بِبُطْلَانِ بَعْضِهِ فَيَكُونُ مُبْطِلًا مَعْنَى الْإِنْسَانِ بِالْإِرَاقَةِ قَصْدًا فَيَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ. وَلِهَذَا كَانَ الْغَرْزُ بِالْإِبْرَةِ فِي الْمَقْتَلِ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ مُسِيلٌ لِلدَّمِ مُؤَثِّرٌ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُوجِبًا الْحِلَّ فِي الذَّكَاةِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَاكَ تَسْيِيلُ جَمِيعِ الدَّمِ لِيَتَمَيَّزَ بِهِ الطَّاهِرُ مِنْ النَّجَسِ وَلِهَذَا اُخْتُصَّ بِقَطْعِ الْأَوْدَاجِ وَالْحُلْقُومِ عِنْدَ التَّيَسُّرِ. فَصَارَ هَذَا أَيْ اعْتِبَارُ الْكَمَالِ فِي مَعْنَى الْجِنَايَةِ. أَوْلَى مِمَّا قَالَاهُ. خُصُوصًا فِي الْعُقُوبَاتِ؛ لِأَنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْنَا مَا ذَكَرُوا مِنْ مَسْأَلَةِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ فِي ذَلِكَ الْبَابِ مَا وَجَبَ قِصَاصًا وَإِنَّمَا وَجَبَ جَزَاءً عَلَى قَطْعِ الطَّرِيقِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِأَيِّ قَتْلٍ كَانَ وَلِهَذَا لَوْ قَتَلُوا بِالسَّوْطِ يَجِبُ أَيْضًا فَأَمَّا الْقَتْلُ قِصَاصًا فَقَدْ وَجَبَ جَزَاءً عَلَى فِعْلٍ كَامِلٍ بِصِفَةِ الْعَمْدِيَّةِ وَفِي الْعَمْدِيَّةِ خَلَلٌ وَقُصُورٌ. قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ جَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ سَلَامَةَ الظَّاهِرِ شُبْهَةً

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا أَوْجَبَا حَدَّ الزِّنَا بِاللِّوَاطَةِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ؛ لِأَنَّ الزِّنَا اسْمٌ لِفِعْلٍ مَعْلُومٍ وَمَعْنَاهُ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ بِسَفْحِ الْمَاءِ فِي مَحَلٍّ مُحَرَّمٍ مُشْتَهًى وَهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي اللِّوَاطَةِ وَزِيَادَةٌ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحُرْمَةِ فَوْقَهُ وَفِي سَفْحِ الْمَاءِ فَوْقَهُ وَفِي الشَّهْوَةِ مِثْلُهُ وَهَذَا مَعْنَى الزِّنَا لُغَةً. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ الْكَامِلَ أَصْلٌ فِي كُلِّ بَابٍ خُصُوصًا فِي الْحُدُودِ وَالْكَامِلُ فِي سَفْحِ الْمَاءِ مَا يُهْلِكُ الْبَشَرَ حُكْمًا وَهُوَ الزِّنَا؛ لِأَنَّ وَلَدَ الزِّنَا هَالِكٌ حُكْمًا لِعَدَمِ مَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَلَمْ يُوجِبْ مَعَهَا الْقِصَاصَ وَهَذَا مِنْهُ اسْتِقْصَاءٌ فِي الِاحْتِيَالِ لِلدَّرْءِ أَوْ مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ هُوَ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ فِي تَفْسِيرِ عَمْدِ الْقَتْلِ عِنْدَ النَّاسِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِمَّا ثَبَتَ بِالدَّلَالَةِ وُجُوبُ حَدِّ الزِّنَا فِي اللِّوَاطَةِ عَلَى قَوْلِهِمَا. وَالْبَاءُ الْأُولَى لِلسَّبَبِيَّةِ وَالثَّانِيَةُ لِلِاسْتِعَانَةِ يَعْنِي أَوْجَبَا بِدَلَالَةِ النَّصِّ حَدَّ الزِّنَا بِسَبَبِ اللِّوَاطَةِ فَقَالَا اللِّوَاطَةُ وَإِتْيَانُ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ مِنْهَا يُوجِبُ حَدَّ الزِّنَا عَلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ فَيُرْجَمَانِ إنْ كَانَا مُحْصَنَيْنِ وَيُجْلَدَانِ إنْ لَمْ يَكُونَا مُحْصَنَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَجِبُ فِيهَا الْحَدُّ وَلَكِنْ يَجِبُ فِيهَا أَشَدُّ التَّعْزِيرِ وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ إنْ اعْتَادَ ذَلِكَ، كَذَا فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ ظَهِيرُ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي فَتَاوَاهُ نَاقِلًا عَنْ الرَّوْضَةِ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْغُلَامِ أَمَّا فِي وَطْءِ الْمَرْأَةِ فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ فَيُوجِبُ الْحَدَّ بِلَا خِلَافٍ وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِعَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ وَمَنْكُوحَتِهِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مُقْتَضٍ إطْلَاقَ الِانْتِفَاعِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً فِي الْفِعْلِ. تَمَسَّكَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الزِّنَا شَرْعًا وَلُغَةً اسْمٌ لِفِعْلٍ مَعْلُومٍ وَهُوَ إيلَاجُ الْفَرْجِ فِي مَحَلٍّ مُشْتَهًى يُسَمَّى قُبُلًا عَلَى سَبِيلِ الْحُرْمَةِ. وَمَعْنَاهُ أَيْ الْمَقْصُودُ مِنْهُ اقْتِضَاءُ شَهْوَةِ الْفَرْجِ بِسَفْحِ الْمَاءِ فِي ذَلِكَ الْمَحِلِّ لَا لِقَصْدِ الْوَلَدِ؛ وَلِذَلِكَ يُسَمَّى سِفَاحًا. وَهَذَا الْمَعْنَى أَيْ مَعْنَى الزِّنَا بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي اللِّوَاطَةِ وَزِيَادَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَيْ لِأَنَّ فِعْلَ اللِّوَاطَةِ فِي الْحُرْمَةِ فَوْقَ الزِّنَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْكَشِفُ بِحَالٍ فَصَارَ نَظِيرَ الزِّنَا بِالْأُمِّ فَإِنَّهُ أَفْحَشُ مِنْ الزِّنَا بِالْأَجْنَبِيَّةِ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهَا لَا تَنْكَشِفُ بِوَجْهٍ. وَفِي سَفْحِ الْمَاءِ فَوْقَهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى النَّسْلِ فِي الزِّنَا مَعْدُومٌ قَصْدًا وَفِي اللِّوَاطَةِ مَعْدُومٌ قَصْدًا أَوْ زِيَادَةً؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا يَصْلُحُ لِلنَّسْلِ فَيَكُونُ أَشَدَّ تَضْيِيعًا لِلْمَاءِ فَإِنَّهُ بَذْرٌ وَإِلْقَاءُ الْبَذْرِ فِي مَحَلٍّ لَا يَنْبُتُ يَكُونُ أَشَدَّ تَضْيِيعًا لَهُ مِنْ إلْقَائِهِ فِي مَحَلٍّ يَنْبُتُ عَلَى قَصْدِ أَنْ لَا يَنْبُتَ لِمَانِعٍ مِنْ الْوَقْتِ وَغَيْرِهِ. وَفِي الشَّهْوَةِ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّ مَعَانِيَ الِاشْتِهَاءِ مِنْ الْحَرَارَةِ وَاللِّينِ وَغَيْرِهِمَا مَحْسُوسَةٌ فِي هَذَا الْمَحِلِّ كَمَا هِيَ مَحْسُوسَةٌ فِي مَحَلِّ الْحَرْثِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِالطَّبْعِ دُونَ الشَّرْعِ لَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَ الْمَحَلَّيْنِ وَأَنَّ كَفَّارَةَ الْفِطْرِ يَجِبُ فِيهَا بِنَفْسِ الْإِيلَاجِ فِي الْجِمَاعِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تَبْتَنِي عَلَى الْفِطْرِ بِاقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ وَهُمَا سَوَاءٌ فِيهِ. وَفِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لَا يَتَحَقَّقُ الْفِطْرُ حَتَّى يُنْزِلَ؛ لِأَنَّهُ دُونَ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ وُجُوبُ الِاغْتِسَالِ فِي اللِّوَاطَةِ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْإِيلَاجِ كَمَا فِي الْجِمَاعِ؛ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي اسْتِجْلَابِ الْمَنِيِّ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْغُسْلِ وَفِي جِمَاعِ الْبَهِيمَةِ لَا يَجِبُ إلَّا بِالْإِنْزَالِ فَثَبَتَ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي اقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ، إلَّا أَنَّهُ تَبَدَّلَ الِاسْمُ مِنْ الزِّنَا إلَى اللِّوَاطَةِ بِاعْتِبَارِ تَبَدُّلِ الْمَحِلِّ وَذَلِكَ لَا يَضُرُّ كَتَبَدُّلِ اسْمِ الطِّرَارِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ حُكْمِ السَّارِقِ فِي حَقِّهِ بَعْدَ وُجُودِ كَمَالِ الْعِلَّةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ حُكْمَ الرَّجْمِ تَعَدَّى مِنْ مَاعِزٍ إلَى غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ يُفَارِقُهُ بِاسْمِهِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. وَهَذَا مَعْنَى الزِّنَا لُغَةً أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَعْنَى الزِّنَا ثَابِتٌ لُغَةً لَا اجْتِهَادًا إذْ يَعْرِفُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ فَكَانَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِهِ ثَابِتًا بِالدَّلَالَةِ لَا بِالْقِيَاسِ. وَالْجَوَابُ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْ هَذَا أَيْ عَمَّا ذَكَرْنَا فِي جَانِبِهِمَا أَنَّا لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ الِاسْتِدْلَالِ فَإِنَّ مِنْ شَرْطِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ

فَأَمَّا تَضْيِيعُ الْمَاءِ فَقَاصِرٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ بِالْعَزْلِ وَلَا تَفْسُدُ الْفِرَاشُ، وَكَذَلِكَ الزِّنَا كَامِلٌ بِحَالِهِ؛ لِأَنَّهُ غَالِبُ الْوُجُودِ بِالشَّهْوَةِ الدَّاعِيَةِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ وَأَمَّا هَذَا الْفِعْلُ فَقَاصِرٌ بِحَالِهِ؛ لِأَنَّ الدَّاعِيَ إلَيْهِ شَهْوَةُ الْفَاعِلِ فَأَمَّا صَاحِبُهُ فَلَيْسَ فِي طَبْعِهِ دَاعٍ إلَيْهِ بَلْ الطَّبْعُ مَانِعٌ فَفَسَدَ الِاسْتِدْلَال بِالْكَامِلِ عَلَى الْقَاصِرِ فِي حُكْمٍ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وَالتَّرْجِيحُ بِالْحُرْمَةِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ الْمُجَرَّدَةَ بِدُونِ هَذِهِ الْمَعَانِي غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِإِيجَابِ الْحَدِّ أَلَا تَرَى أَنَّ شُرْبَ الْبَوْلِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ مَعَ كَمَالِ الْحُرْمَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَحِلَّيْنِ فِي الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ وَهِيَ مَعْدُومَةٌ هَهُنَا؛ لِأَنَّ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ قَاصِرٌ عَنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحُكْمَ فِي الزِّنَا إنَّمَا تَعَلَّقَ بِسَفْحِ الْمَاءِ عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى فَسَادِ الْفِرَاشِ وَإِهْلَاكِ الْبَشَرِ حُكْمًا لَا بِمُجَرَّدِ السَّفْحِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يُخْلَقُ مِنْ مَاءِ الزِّنَا وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ تَرْبِيَتِهِ عَلَى الزَّانِي لِعَدَمِ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ وَلَا عَلَى الْأُمِّ لِعَجْزِهَا عَنْ الْكَسْبِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ، فَيَهْلِكُ؛ وَلِذَا سَمَّى تَرْبِيَتَهُ إحْيَاءً قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ أَخَذَ لَقِيطًا فَقَدْ أَحْيَاهُ» وَلِهَذَا لَوْ أَكْرَهَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ بِالْقَتْلِ عَلَى الزِّنَاءِ لَا يُرَخَّصُ لَهُ الْإِقْدَامُ حَتَّى لَوْ أَقْدَمَ يَأْثَمُ كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ إنْسَانٍ، وَفِي اللِّوَاطَةِ لَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى وَإِنَّمَا وُجِدَ مُجَرَّدُ تَضْيِيعِ الْمَاءِ وَأَنَّهُ قَدْ يَحِلُّ بِالْعَزْلِ فِي الْأَمَةِ بِغَيْرِ إذْنِهَا وَفِي الْمَنْكُوحَةِ الْحُرَّةِ بِإِذْنِهَا وَالْمَنْكُوحَةِ الْأَمَةِ بِإِذْنِهَا أَوْ بِإِذْنِ مَوْلَاهَا. وَلَيْسَ فِيهِ إفْسَادُ الْفِرَاشِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِاشْتِبَاهِ النَّسَبِ وَلَا تَصَوُّرَ لِذَلِكَ فِي الرَّجُلِ إذْ الرَّجُلُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ فِرَاشًا فَكَانَ قَاصِرًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْبَرَ هَذَا النُّقْصَانُ بِزِيَادَةِ الْحُرْمَةِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قَالَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مُقَايَسَةً وَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْحُدُودِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحُكْمَ تَعَلَّقَ بِمَا ذَكَرْتُمْ فَإِنَّهُ لَوْ زَنَى بِعَجُوزٍ أَوْ بِعَقِيمٍ لَا زَوْجَ لَهَا يَجِبُ الْحَدُّ وَلَمْ يُوجَدْ إفْسَادُ الْفِرَاشِ وَلَا إهْلَاكُ الْوَلَدِ. وَكَذَا زِنَاءُ الْخَصِيِّ يُوجِبُ الْحَدَّ وَلَا مَاءَ لَهُ لِيُؤَدِّيَ إلَى فَسَادِ الْفِرَاشِ وَإِهْلَاكِ الْوَلَدِ. قُلْنَا: الْمُعْتَبَرُ وَالْمَنْظُورُ إلَيْهِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ الْجِنْسُ لَا الْإِفْرَادُ وَجِنْسُ الزِّنَا لَا يَخْلُو عَنْ إفْسَادِ الْفِرَاشِ وَإِهْلَاكِ الْوَلَدِ بَلْ هُوَ الْغَالِبُ فِيهِ عَلَى أَنَّ مَحَلِّيَّةَ الْمَاءِ لَا يَنْعَدِمُ أَصْلًا فِي الْعَجُوزِ وَالْعَقِيمِ فَإِنَّ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ تَثْبُتُ بِوَطْئِهِمَا وَكَذَا الْخَصِيُّ لَا يَنْعَدِمُ فِيهِ أَهْلِيَّةُ الْمَاءِ وَلِهَذَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ وَلَوْ انْعَدَمَ الْمَاءُ أَصْلًا لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ كَمَا فِي الصَّبِيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّ الزِّنَا كَامِلٌ بِحَالٍ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ. وَتَقْرِيرُهُ بِعِبَارَةِ الْإِمَامِ الْبُرْغَرِيِّ أَنَّ الْحُدُودَ شُرِعَتْ زَوَاجِرُ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْجِنَايَاتِ وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى الزَّاجِرِ الشَّرْعِيِّ فِيمَا يَمِيلُ الطَّبْعُ إلَيْهِ، فَأَمَّا فِيمَا يَنْزَجِرُ الْإِنْسَانُ عَنْهُ بِطَبْعِهِ فَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الزَّاجِرِ الشَّرْعِيِّ كَشُرْبِ الْبَوْلِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ لِمَا ذَكَرْنَا وَالْحَاجَةُ إلَى الزَّاجِرِ فِي اللِّوَاطَةِ لَيْسَتْ كَالْحَاجَةِ إلَى الزَّاجِرِ فِي الزِّنَا. أَمَّا فِي جَانِبِ الْمَفْعُولِ فَلِأَنَّ الْحَدَّ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ إنَّمَا يَجِبُ اسْتِدْلَالًا بِالزِّنَا وَالزَّانِيَةُ إنَّمَا تَحْمِلُهَا الشَّهْوَةُ عَلَى الزِّنَا فَأَمَّا الْمَفْعُولُ بِهِ هَهُنَا فَيَمْتَنِعُ بِطَبْعِهِ عَنْ هَذَا الْفِعْلِ أَشَدُّ الِامْتِنَاعِ عَلَى مَا عَلَيْهِ أَصْلُ الْجِبِلَّةِ السَّلِيمَةِ فَلَا يُحْتَاجُ إلَى الزَّاجِرِ الشَّرْعِيِّ فَشَرْعُ الْحَدِّ عَلَى الزَّانِيَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى شَرْعِ الْحَدِّ عَلَى هَذَا، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي جَانِبِ الْفَاعِلِ لِأَنَّ طَبْعَهُ وَإِنْ كَانَ يَمِيلُ إلَى هَذَا الْفِعْلِ وَلَكِنَّ الْفِعْلَ لَا يَقُومُ بِهِ وَحْدَهُ وَإِنَّمَا يَقُومُ بِهِ وَبِآخَرَ لَا يَمِيلُ طَبْعُهُ إلَيْهِ وَفِي الزِّنَا يَقُومُ بِاثْنَيْنِ طَبْعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَائِلٌ إلَيْهِ فَكَانَ أَغْلَبَ وُجُودًا أَوْ أَسْرَعَ حُصُولًا فَكَانَ أَحْوَجَ إلَى الزَّاجِرِ فَشَرْعُ الزَّاجِرِ فِيهِ لَا يَدُلُّ عَلَى شَرْعِهِ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ الْمُجَرَّدَةَ يَعْنِي فِي الزِّنَا بِدُونِ هَذِهِ الْمَعَانِي وَهِيَ أَنْ يَكُونَ غَالِبُ الْوُجُودِ وَأَنْ يَكُونَ فِيهِ إهْلَاكُ الْبَشَرِ حُكْمًا

قَالَ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ بِالنَّصِّ فِي الْخَطَأِ مِنْ الْقَتْلِ مَعَ قِيَامِ الْعُذْرِ وَهُوَ الْخَطَأُ فَكَانَ دَلَالَةً عَلَى وُجُوبِهَا بِالْعَمْدِ لِعَدَمِ الْعُذْرِ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ عُذْرٌ مُسْقِطٌ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ فِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ إذَا صَارَتْ كَاذِبَةً فَلَأَنْ يَجِبَ فِي الْغَمُوسِ وَهِيَ كَاذِبَةٌ مِنْ الْأَصْلِ أَوْلَى فَصَارَتْ دَلَالَةً عَلَيْهِ لِقِيَامِ مَعْنَى النَّصِّ لَكِنْ قُلْنَا: هَذَا الِاسْتِدْلَال غَلَطٌ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ عِبَادَةٌ فِيهَا شَبَهٌ بِالْعُقُوبَاتِ لَا تَخْلُو الْكَفَّارَةُ عَنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ فَلَا يَجِبُ إلَّا بِسَبَبٍ دَائِرٍ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ. وَالْقَتْلُ الْعَمْدُ كَبِيرَةٌ بِمَنْزِلَةِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ فَلَمْ يَصِحَّ سَبَبًا كَالْمُبَاحِ الْمَحْضِ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا مَعَ رُجْحَانِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَكَذَلِكَ الْكَذِبُ حَرَامٌ مَحْضٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَأَنْ يَكُونَ فِيهِ إفْسَادُ الْفِرَاشِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ لِإِيجَابِ حَدِّ الزِّنَا. يَعْنِي هِيَ لَيْسَتْ بِمُوجِبَةٍ لِلْحَدِّ حَتَّى تُرَجِّحُوا اللِّوَاطَةَ عَلَيْهِ بِالْحُرْمَةِ فَتُوجِبُوا فِيهِ الْحَدَّ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى بَلْ الْمُعْتَبَرَةُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعَانِي وَهِيَ فِي اللِّوَاطَةِ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ الْمُجَرَّدَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ أَنَّ شُرْبَ الْبَوْلِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ مَعَ كَمَالِ الْحُرْمَةِ أَيْ مَعَ كَوْنِهِ آكَدُ فِي الْحُرْمَةِ مِنْ الْخَمْرِ فَإِنَّ حُرْمَتَهُ لَا يَنْكَشِفُ بِحَالٍ وَشُرْبُ الْخَمْرِ يُوجِبُهُ مَعَ أَنَّ حُرْمَتَهَا تَزُولُ بِالتَّخْلِيلِ وَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً فِي الْمِلَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِوُجُودِ دُعَاءِ الطَّبْعِ فِي الْخَمْرِ وَعَدَمِهِ فِي الْبَوْلِ قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِنْ الثَّابِتِ بِالدَّلَالَةِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ وَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ اسْتِدْلَالًا بِالْقَتْلِ الْخَطَإِ وَالْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ فَقَالَ: الْكَفَّارَةُ إنَّمَا تَجِبُ فِي الْخَطَإِ لِارْتِكَابِ الْجِنَايَةِ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَتْ كَفَّارَةً أَيْ سِتَارَةٌ لِلذَّنْبِ لَا لِلْخَطَأِ فَإِنَّهُ عُذْرٌ مُسْقِطٌ لِلْحُقُوقِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِلْوُجُوبِ وَلَمَّا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَإِ مَعَ قِيَامِ الْعُذْرِ الْمُسْقِطِ بِمَعْنَى الْجِنَايَةِ وَهُوَ قَتْلُ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ فَلَأَنْ يَجِبَ فِي الْعَمْدِ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْجِنَايَةِ أَقْوَى كَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ ازْدِيَادَ سَبَبِ الْوُجُوبِ لَا يُسْقِطُ الْوَاجِبَ بَلْ يُؤَكِّدُهُ أَلَا تَرَى أَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ خَطَأً فِي الْإِحْرَامِ لَمَّا أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ أَوْجَبَهَا الْعَمْدُ لِازْدِيَادِ مَعْنَى الْجِنَايَةِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَمَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ بِالْجِنَايَةِ وَجَبَتْ فِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ وَهِيَ الَّتِي عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِمَعْنَى الْجِنَايَةِ وَهُوَ صَيْرُورَتُهَا كَاذِبَةً بِاعْتِبَارِ الْحِنْثِ، وَإِذَا وَجَبَتْ بِاعْتِبَارِ صَيْرُورَتِهَا كَذْبَةً مَعَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي الْأَصْلِ كَذَلِكَ فَلَأَنْ تَجِبَ فِي الْغَمُوسِ وَهِيَ كَاذِبَةٌ مِنْ الْأَصْلِ كَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ حَظْرَ الْغَمُوسِ مِنْ جِنْسِ حَظْرِ الْمَعْقُودَةِ إذَا حَنِثَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ حَظْرٌ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِشْهَادِ بِاَللَّهِ كَاذِبًا، إلَّا أَنَّهُ فِي الْغَمُوسِ آكَدُ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْيَمِينَ نَوْعَانِ يَمِينٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَيَمِينٌ بِالطَّلَاقِ وَنَحْوُهُ، ثُمَّ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ بِشَرْطٍ مَاضٍ عَلَى الْكَذِبِ تُوجِبُ مَا تُوجِبُهُ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ بِشَرْطٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَوُجِدَ الشَّرْطُ فَكَذَا الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى تُوجِبُ مَا تُوجِبُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إذَا تَحَقَّقَ الْكَذِبُ فِيهَا. وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى ثَابِتٌ لُغَةً؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ يَعْرِفُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْجِنَايَةِ فَإِنَّهَا شُرِعَتْ لِدَفْعِ الْإِثْمِ وَهُوَ يَحْصُلُ بِالْجِنَايَةِ. وَعِنْدَنَا لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي الْعَمْدِ سَوَاءٌ وَجَبَ الْقَوَدُ بِهِ أَوْ لَمْ يَجِبْ كَقَتْلِ الْأَبِ وَلَدَهُ عَمْدًا وَقَتْلِ الْمَوْلَى عَبْدَهُ عَمْدًا وَقَتْلِ الْمُسْلِمِ مُسْلِمًا لَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا فِي دَارِ الْحَرْبِ عَمْدًا وَكَذَا فِي الْغَمُوسِ؛ لِأَنَّ الْعَمْدَ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ وَكَذَا الْغَمُوسُ مَحْظُورٌ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: عِبَادَاتٌ مَحْضَةٌ: وَأَنَّهَا لَا تَتَعَلَّقُ بِأَسْبَابٍ مَحْظُورَةٍ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ حُكْمُهَا الثَّوَابُ وَنَيْلُ الدَّرَجَاتِ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَصِيرَ الْجَنَابَةُ سَبَبًا لِذَلِكَ وَأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِأَسْبَابٍ مُبَاحَةٍ كَالنِّصَابِ لِلزَّكَاةِ وَالْوَقْتِ لِلصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ. وَعُقُوبَاتٌ مَحْضَةٌ: وَأَنَّهُمَا تَتَعَلَّقُ بِمَحْظُورَاتٍ مَحْضَةٍ؛ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ شُرِعَتْ زَاجِرَةً مَحْضَةً وَإِنَّمَا يَجِبُ الزَّجْرُ عَنْ الْمَعَاصِي لَا عَنْ الْمُبَاحِ. وَكَفَّارَاتٌ وَهِيَ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ عِبَادَةٍ وَعُقُوبَةٍ. أَمَّا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِيهَا فَلِأَنَّهَا لَا تَجِبُ الْإِجْزَاءُ كَالْحُدُودِ وَالْعِبَادَاتُ تَجِبُ

وَأَمَّا الْخَطَأُ فَدَائِرٌ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ وَالْيَمِينُ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ وَالْكَذِبُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQابْتِدَاءً تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى أَمَّا مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهَا فَلِأَنَّهَا تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَمَا شُرِعَ الصَّوْمُ خَالِيًا عَنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَلِأَنَّهَا تُكَفِّرُ الذَّنْبَ وَتَمْحُوهُ وَلَنْ يَقَعَ التَّكْفِيرُ إلَّا بِمَا هُوَ طَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ وَلِهَذَا كَانَتْ النِّيَّةُ فِيهَا شَرْطًا وَفُوِّضَ أَدَاؤُهَا إلَى مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لِيُؤَدِّيَهَا بِاخْتِيَارِهِ وَالْعُقُوبَاتُ تُقَامُ كُرْهًا وَجَبْرًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهَا مُشْتَمِلًا عَلَى صِفَتَيْ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ لِيَكُونَ مَعْنَى الْعِبَادَةِ مُضَافًا إلَى صِفَةِ الْإِبَاحَةِ وَمَعْنَى الْعُقُوبَةِ مُضَافًا إلَى صِفَةِ الْحَظْرِ؛ لِأَنَّ الْأَثَرَ أَبَدًا يَكُونُ عَلَى وَفْقِ الْمُؤَثِّرِ وَالْقَتْلُ الْعَمْدُ مَحْظُورٌ مَحْضٌ. وَكَذَا الْغَمُوسُ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ بِدُونِ الِاسْتِشْهَادِ بِاَللَّهِ حَرَامٌ لَيْسَ فِيهِ إبَاحَةٌ فَمَعَ الِاسْتِشْهَادِ بِاَللَّهِ أَوْلَى فَكَانَ الْعَمْدُ وَالْغَمُوسُ بِمَنْزِلَةِ السَّرِقَةِ وَالزِّنَا فَلَا يَصْلُحَانِ سَبَبَيْنِ لِلْكَفَّارَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُبَاحَ الْمَحْضَ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ مِثْلُ الْقَتْلِ بِحَقٍّ وَالْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ قَبْلَ الْحِنْثِ مَعَ أَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهَا رَاجِحٌ سِوَى كَفَّارَةِ الْفِطْرِ فَلَأَنْ لَا يَصْلُحَ الْمَحْظُورُ الْمَحْضُ كَانَ أَوْلَى. وَأَمَّا الْخَطَأُ فَدَائِرٌ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ أَيْ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ رَمْيٌ إلَى الصَّيْدِ أَوْ إلَى كَافِرٍ وَهُوَ مُبَاحٌ. وَبِاعْتِبَارِ تَرْكِ التَّثَبُّتِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْمَحِلِّ هُوَ مَحْظُورٌ؛ لِأَنَّهُ أَصَابَ آدَمِيًّا مُحْتَرَمًا مَعْصُومًا فَيَصْلُحُ سَبَبًا لَهَا. وَكَذَا اجْتَمَعَ فِي الْمَعْقُودَةِ صِفَتَا الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَلِهَذَا شُرِعَتْ فِي بَيْعَةِ نُصْرَةِ الْحَقِّ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَحْلِفُونَ فِي الْبَيْعَةِ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ وَلَا يُؤْثِرُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ. وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَحْلِفُ فِي الْمُبَايَعَةِ لِلْبَعْضِ وَهِيَ أَيْضًا مَنْهِيٌّ عَنْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224] أَيْ بَذْلُهُ فِي كُلِّ حَقٍّ وَبَاطِلٍ وَقَوْلُهُ {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] أَيْ امْتَنِعُوا عَنْ الْيَمِينِ وَاحْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ عَنْهَا وَالثَّانِي أَنَّ الْيَمِينَ الصَّادِقَةَ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ يُحْلَفُ بِهَا فِي الْخُصُومَاتِ وَتَلْزَمُنَا شَرْعًا فَكَانَتْ مُبَاحَةً، إلَّا أَنَّهَا تَأْخُذُ مَعْنَى الْحَظْرِ بِاعْتِبَارِ الْحِنْثِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَالْكَذِبُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ أَيْ الْحِنْثُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَكَانَتْ دَائِرَةً بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فَتَصْلُحُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ وَهَذَا الْوَجْهُ يُشِيرُ إلَى الْيَمِينِ مَعَ الْحِنْثِ سَبَبٌ وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ نَفْسَ الْيَمِينِ سَبَبٌ وَالْحِنْثُ شَرْطٌ وَإِلَى كُلِّ وَاحِدٍ ذَهَبَ فَرِيقٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ تَعْلِيقَ الْكَفَّارَةِ بِوَصْفِ الْجِنَايَةِ مُنْفَرِدًا غَلَطٌ وَأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ الْمَذْكُورَ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا الْإِفْطَارُ سَبَبٌ فِي رَمَضَانَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ بِالزِّنَا؛ لِأَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ وَالزِّنَا لَيْسَا بِسَبَبَيْنِ لِلْكَفَّارَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَاسِيًا لِصَوْمِهِ لَا يَجِبُ الْكَفَّارَةُ وَإِنَّمَا الْمُوجِبُ لِلْكَفَّارَةِ الْفِطْرُ وَأَنَّهُ جِنَايَةٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَنَاوُلُ شَيْءٍ يَحْصُلُ بِهِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ مَشْرُوعٌ وَمِنْ حَيْثُ إنَّ الصَّوْمَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالْفِطْرِ مَحْظُورٌ فَيَصْلُحُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ عَلَى أَنَّ فِي كَفَّارَةِ الْفِطْرِ شَبَهُ الْعُقُوبَةِ رَاجِحٌ عَلَى مَا عُرِفَ فَجَازَ إيجَابُهَا بِمَا يَتَرَجَّحُ مَعْنَى الْحَظْرِ فِيهِ، كَذَا فِي طَرِيقَةِ الْإِمَامِ الْبُرْغَرِيِّ. وَرَأَيْت فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَمَّا الْفِطْرُ فَإِنَّهُ دَائِرٌ بَيْنَهُمَا أَمَّا الْإِبَاحَةُ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ

وَلَا يَلْزَمُ إذَا قَتَلَ بِالْحَجَرِ الْعَظِيمِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ؛ لِأَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الْخَطَأِ وَهِيَ مِمَّا يُحْتَاطُ فِيهَا فَتَثْبُتُ بِشُبْهَةِ السَّبَبِ كَمَا ثَبَتَ بِحَقِيقَتِهِ وَذَكَرَهُ الْجَصَّاصُ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ جَعَلَهُ فِي الْكِتَابِ شِبْهَ الْعَمْدِ فِي إيجَابِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَكَانَ نَصًّا عَلَى الْكَفَّارَةِ، وَإِذَا قَتَلَ مُسْلِمٌ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا عَمْدًا لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ مَعَ قِيَامِ الشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِي مَحَلِّ الْفِعْلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQيُلَاقِي فِعْلَ نَفْسِهِ الَّذِي هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ، وَأَمَّا الْحَظْرُ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى الْعِبَادَةِ وَبِهِ تَرْتَفِعُ النُّقُوضُ مِنْ أَنَّهُ إذَا أَفْطَرَ بِالْخَمْرِ أَوْ بِالزِّنَا عَمْدًا فَإِنَّهُ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ. وَفِي الْأَسْرَارِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ وَلَا تَلْزَمُ كَفَّارَةُ الْإِفْطَارِ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ مَعَ شُبْهَةِ الْإِبَاحَةِ؛ لِأَنَّ كَفَّارَةَ الْفِطْرِ إنَّمَا تَجِبُ بِفِعْلٍ مُبَاحٍ فِي نَفْسِهِ مَحْظُورٍ بِصَوْمِهِ كَجِمَاعِ الْأَهْلِ وَأَكْلِ خُبْزِهِ وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ تَمَحُّضُ الْحَظْرِ لِحَقِّ الْفِطْرِ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ شُبْهَةُ إبَاحَةِ الْفِطْرِ لَا شُبْهَةُ إبَاحَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي نَفْسِهِ حَتَّى إذَا زَنَى فِي رَمَضَانَ وَذَلِكَ الزِّنَا حَرَامٌ فِي نَفْسِهِ لَا لِحَقِّ الصَّوْمِ وَحَرَامٌ بِغَيْرِهِ وَهُوَ الصَّوْمُ وَجَبَ بِكَوْنِهِ حَرَامًا فِي نَفْسِهِ الْحَدُّ الَّذِي هُوَ عُقُوبَةٌ وَبِسَبَبِ الْمَعْنَى الْآخَرِ كَفَّارَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ إلْغَاءِ حُرْمَةِ الْفِعْلِ فِي نَفْسِهِ لِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ وَإِلْحَاقِهِ بِالْحَلَالِ فِي نَفْسِهِ لَوْلَا الصَّوْمُ. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بِالْإِفْطَارِ لَا بِالْجِمَاعِ نَفْسِهِ وَالْإِفْطَارُ بِاقْتِضَاءِ شَهْوَةِ بَطْنِهِ وَفَرْجِهِ وَالِاقْتِضَاءُ فِي نَفْسِهِ حَلَالٌ وَإِنَّمَا حُرِّمَ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الصَّوْمُ فِي مَسْأَلَتِنَا فَلَمْ يَصِرْ حَرَامًا مُحْصَنًا لِمَا حَلَّ فِي نَفْسِهِ لِوُجُودِهِ فِي مَحَلِّهِ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وُجُوبُ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ فَإِنَّهَا طَاعَةٌ مَحْضَةٌ، وَقَدْ وَجَبَتْ بِسَبَبِ الْكَبِيرَةِ الْمَحْضَةِ فَمَا هُوَ طَاعَةٌ مِنْ وَجْهٍ أَوْلَى؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا وَجَبَتْ بِالْجِنَايَةِ لِأَنَّهَا رُجُوعٌ عَنْ الْجِنَايَةِ وَنَقْضٌ لَهَا وَنَقْضُ الشَّيْءِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حُكْمِهِ فَلَا يُضَافُ إلَيْهِ وَإِنَّمَا يُضَافُ وُجُوبُهَا إلَى دِيَانَتِهِ وَاعْتِقَادِهِ حُرْمَةَ مَا ارْتَكَبَهُ قَوْلُهُ (وَلَا يَلْزَمُ إذَا قَتَلَ بِالْحَجَرِ الْعَظِيمِ) يَعْنِي وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا قُلْنَا الْقَتْلُ بِالْمُثَقَّلِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا مَحْضًا؛ لِأَنَّ فِيهِ أَيْ فِي الْقَتْلِ بِالْحَجَرِ الْعَظِيمِ شُبْهَةُ الْخَطَإِ فَإِنَّهُ مِنْ خَطَإِ الْعَمْدِ عِنْدَهُ، وَقَدْ دَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَلَا إنَّ قَتِيلَ الْخَطَإِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا» عَلَى مَا عُرِفَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُثَقَّلَ لَيْسَ بِآلَةِ الْقَتْلِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ وَإِنَّمَا هُوَ آلَةُ التَّأْدِيبِ أَلَا تَرَى أَنَّ إجْرَاءَهُ لِلتَّأْدِيبِ بِهَا وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلتَّأْدِيبِ مُبَاحًا فَتَمَكَّنَتْ فِيهِ شُبْهَةٌ بِاعْتِبَارِ الْآلَةِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا خَطَأَ الْعَمْدِ أَيْ شِبْهُ الْعَمْدِ كَانَ مَحْظُورًا مِنْ حَيْثُ الْعَمْدِيَّةُ وَمِنْ حَيْثُ الْخَطَأُ لَا يَخْلُو عَنْ شُبْهَةِ إبَاحَةِ وَلِهَذَا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ. وَالْكَفَّارَةُ مِمَّا يُحْتَاطُ فِي إيجَابِهَا لِرُجْحَانِ جِهَةِ الْعِبَادَةِ فِيهَا فَيَثْبُتُ بِشُبْهَةِ الْخَطَأِ كَمَا يَثْبُتُ بِحَقِيقَتِهِ، وَقَدْ جَعَلَهُ أَيْ جَعَلَ مُحَمَّدٌ الْقَتْلَ بِالْمُثَقَّلِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْكِتَابِ أَيْ فِي الْمَبْسُوطِ شُبْهَةُ الْعَمْدِ حَيْثُ أَوْجَبَ الدِّيَةَ فِيهِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَكَانَ هَذَا تَنْصِيصًا عَلَى إيجَابِ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ شَبَهَ الْعَمْدِ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ. وَإِنَّمَا أَكَّدَ الشَّيْخُ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِالرِّوَايَةِ عَنْ الطَّحَاوِيِّ وَالْجَصَّاصِ وَبِدَلَالَةِ رِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهِ لَا تَجِبُ فَقَدْ قَالَ أَبُو الْفَضْلِ الْكَرْمَانِيُّ فِي الْإِيضَاحِ وُجِدَتْ فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا لَا كَفَّارَةَ فِي شَبَهِ الْعَمْدِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّ الْإِثْمَ كَامِلٌ مُتَنَاهٍ وَتَنَاهِيهِ يَمْنَعُ شَرْعَ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّخْفِيفِ. 1 - قَوْلُهُ (وَإِذَا قَتَلَ مُسْلِمٌ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا عَمْدًا لَمْ يَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ) يَعْنِي إذَا قَتَلَهُ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَكُونَ عَمْدًا بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُ لَوْ قَتَلَهُ بِالْمُثَقَّلِ يَجِبُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -

فَاعْتُبِرَتْ فِي الْقَوَدِ؛ لِأَنَّهُ يُقَابَلُ بِالْمَحَلِّ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى نَافَى الدِّيَةَ فَأَمَّا الْفِعْلُ فَعَمْدٌ مَحْضٌ خَالِصٌ لَا تَرَدُّدَ فِيهِ وَالْعُقُوبَةُ جَزَاءٌ لِلْفِعْلِ الْمَحْضِ وَفِي مَسْأَلَةِ الْحَجَرِ الشُّبْهَةُ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ فَعَمَّ الْقَوَدَ وَالْكَفَّارَةَ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ سُجُودَ السَّهْوِ لَا يَجِبُ بِالْعَمْدِ وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ السَّهْوُ دَلِيلًا عَلَى الْعَمْدِ لِمَا قُلْنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ أَيْضًا ـــــــــــــــــــــــــــــQوَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَرُدُّ إشْكَالًا عَلَى الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْ الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا قَتَلَ مُسْتَأْمَنًا عَمْدًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ يَلْزَمُهُ وَهُوَ رِوَايَةُ أَحْمَدَ بْنِ عِمْرَانَ أُسْتَاذِ الطَّحَاوِيِّ عَنْ أَصْحَابِنَا وَرِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ الْمُبِيحَةَ تَنْتَفِي عَنْ الدَّمِ بِعَقْدِ الْأَمَانِ فَلَا جَرَمَ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ وَالْمُسْلِمِ جَمِيعًا. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الشُّبْهَةَ الْمُبِيحَةَ بَقِيَتْ فِي ذِمَّةٍ فَإِنَّهُ حَرْبِيٌّ مُمَكَّنٌ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَجُعِلَ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلِهَذَا يَرِثُ الْحَرْبِيُّ وَلَا يَرِثُ الذِّمِّيُّ وَإِنْ كَانَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا فِي الْعِصْمَةِ، وَالْقِصَاصُ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُسْلِمِ بِقَتْلِهِ وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ دِيَةُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعِصْمَةِ يَثْبُتُ التَّقَوُّمَ فِي نَفْسِهِ حِينَ اسْتَأْمَنَ كَمَا يُثْبِتُ التَّقَوُّمَ فِي مَالِهِ حَتَّى يَضْمَنَ بِالْإِتْلَافِ فَصَارَ حَالُهُ فِي قِيمَةِ نَفْسِهِ كَحَالِ الذِّمِّيِّ فَكَمَا يُسَوَّى بَيْنَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ عِنْدَنَا، فَكَذَلِكَ يُسَوَّى بَيْنَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَالْمُسْتَأْمَنِ، ثُمَّ الشُّبْهَةُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَعْنِي مَسْأَلَةَ الْمُثَقَّلِ أَثَّرَتْ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ كَمَا أَثَّرَتْ فِي إسْقَاطِ الْقِصَاصِ وَالشُّبْهَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَثَّرَتْ فِي إسْقَاطِ الْقِصَاصِ وَلَمْ تُؤَثِّرُ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ. فَأَجَابَ وَقَالَ: الشُّبْهَةُ هَاهُنَا فِي مَحَلِّ الْفِعْلِ لَا فِي الْفِعْلِ فَإِنَّ دَمَ الْمُسْتَأْمَنِ لَا يُمَاثِلُ دَمَ الْمُسْلِمِ فِي الْعِصْمَةِ حَتَّى لَوْ ثَبَتَ الْمُمَاثَلَةُ بِأَنْ قَتَلَ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِنَا مُسْتَأْمَنًا آخَرَ أَوْ قَطَعَ طَرَفَهُ وَجَبَ الْقِصَاصُ، كَذَا فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ. فَاعْتُبِرَتْ فِي الْقَوَدِ أَيْ أَثَّرَتْ فِي إسْقَاطِهِ؛ لِأَنَّ الْقَوَدَ مُقَابَلٌ بِالْمَحَلِّ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى امْتَنَعَ وُجُوبُ الدِّيَةِ الَّتِي هِيَ بَدَلُ الْمَحَلِّ مَعَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ الْمَحِلِّ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ بَدَلَيْنِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْقِصَاصُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَحِلِّ لَمَا امْتَنَعَ وُجُوبُ الدِّيَةِ مَعَهُ كَمَا لَمْ يَمْتَنِعْ مَعَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحْرِمَ لَوْ قَتَلَ صَيْدًا مَمْلُوكًا لِإِنْسَانٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَقِيمَةُ الْمَقْتُولِ لِمَالِكِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا إذْ الْكَفَّارَةُ جَزَاءُ الْفِعْلِ وَالْقِيمَةُ بَدَلُ الْمَحِلِّ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْقِصَاصُ مُقَابَلًا بِالْمَحَلِّ بِوَجْهٍ لَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدِّيَةِ أَيْضًا. وَإِنَّمَا قَالَ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الْقَوَدَ عِنْدَنَا جَزَاءُ الْفِعْلِ حَتَّى يَثْبُتَ لِلْمَقْتُولِ حُكْمُ الشَّهَادَةِ وَيُقْتَلُ جَمَاعَةٌ بِوَاحِدٍ وَلَكِنْ فِيهِ شُبْهَةُ كَوْنِهِ بَدَلَ الْمَحَلِّ لِمَا ذَكَرْنَا وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ الشُّبْهَةِ كَافٍ لِانْتِفَاءِ الْقِصَاصِ. فَأَمَّا الْفِعْلُ فَعَمْدٌ مَحْضٌ خَالِصٌ لَا تَرَدُّدَ فِيهِ أَيْ لَا يَدُورُ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَلَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ بِوَجْهٍ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ إذْ الْكَفَّارَةُ جَزَاءُ الْفِعْلِ الْمَحْضِ لَيْسَ فِيهَا شُبْهَةُ الْبَدَلِيَّةِ عَنْ الْمَحِلِّ بِوَجْهٍ حَتَّى يُؤَثِّرَ فِيهَا الشُّبْهَةُ الْوَاقِعَةُ فِي الْمَحَلِّ. وَفِي مَسْأَلَةِ الْحَجَرِ أَيْ الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ الشُّبْهَةُ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْآلَةَ لَيْسَتْ بِآلَةِ الْقَتْلِ خِلْقَةً عَلَى مَا بَيَّنَّا وَوَضْعُ الْآلَةِ لِتَتْمِيمِ الْقُدْرَةِ النَّاقِصَةِ فَكَانَتْ دَاخِلَةً فِي فِعْلِ الْعَبْدِ فَتَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فِي الْفِعْلِ. فَعَمَّتْ الْقَوَدَ وَالْكَفَّارَةَ أَيْ أَثَّرَتْ فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ وَإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ جَمِيعًا. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ الْمَشْرُوعَةَ فِي الْخَطَإِ وَالْمَعْقُودَةَ لَا يَجِبُ فِي الْعَمْدِ وَالْغَمُوسِ قُلْنَا: السُّجُودُ الْمَشْرُوعُ فِي السَّهْوِ لَا يَجِبُ بِالْعَمْدِ أَيْ

[دلالة المقتضي]

وَقُلْنَا نَحْنُ: إنَّ كَفَّارَةَ الْفِطْرِ وَجَبَتْ عَلَى الرَّجُلِ بِالْمُوَاقَعَةِ نَصًّا وَمَعْنَى الْفِطْرِ فِيهِ مَعْقُولٌ لُغَةً فَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَيْضًا اسْتِدْلَالًا بِهِ. وَأَمَّا الْمُقْتَضِي فَزِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ ثَبَتَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لَمَّا لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْهُ وَجَبَ تَقْدِيمُهُ لِتَصْحِيحِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَقَدْ اقْتَضَاهُ النَّصُّ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِتَرْكِ الْوَاجِبِ عَمْدًا. وَالْعَمْدُ لُغَةً مَا حَصَلَ مِنْ الْفِعْلِ عَنْ قَصْدٍ صَحِيحٍ مِنْ الْفَاعِلِ إلَيْهِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَجِبُ بِالْعَمْدِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا وَجَبَ فِي السَّهْوِ لِتَمَكُّنِ النُّقْصَانِ فِي صَلَاتِهِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْعَمْدِ وَزِيَادَةٌ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ بِالدَّلَالَةِ. وَلَكِنَّا نَقُولُ السَّبَبُ الْمُوجِبُ بِالنَّصِّ شَرْعًا هُوَ السَّهْوُ عَلَى مَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ وَالسَّهْوُ يَنْعَدِمُ إذَا كَانَ عَامِدًا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ السَّهْوُ دَلِيلَ الْعَمْدِ أَيْ الْوُجُوبُ فِي السَّهْوِ دَلِيلَ الْوُجُوبِ فِي الْعَمْدِ؛ لِمَا قُلْنَا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ أَنَّ وُجُوبَهَا فِي الْخَطَإِ وَالْمَعْقُودَةِ لَا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهَا فِي الْعَمْدِ وَالْغَمُوسِ وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّجْدَةَ عِبَادَةٌ شُرِعَتْ لِلَّهِ تَعَالَى جَبْرًا لِلْفَائِتِ فَلَا يَصْلُحُ الْمَحْظُورُ سَبَبًا لَهُ وَهُوَ تَأْخِيرُ وَاجِبٍ أَوْ تَرْكُهُ عَمْدًا قَوْلُهُ (وَقُلْنَا نَحْنُ) إشَارَةٌ إلَى خِلَافِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّ عِنْدَهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْكَفَّارَةُ فِي قَوْلٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ حُكْمَ الْكَفَّارَةِ فِي جَانِبِهِ لَا فِي جَانِبِهَا فَلَوْ لَزِمَتْهَا لَبَيَّنَ كَمَا بَيَّنَ الْحَدَّ فِي جَانِبِهَا فِي حَدِيثِ الْعَسِيفِ. وَلِأَنَّ سَبَبَ الْكَفَّارَةِ الْمُوَاقَعَةُ الْمُعْدِمَةُ لِلصَّوْمِ وَالرَّجُلُ هُوَ الْمُبَاشِرُ لِذَلِكَ دُونَهَا إذْ هِيَ مَحَلُّ الْمُوَاقَعَةِ وَلَيْسَتْ بِمُبَاشِرَةٍ لَهَا فَكَانَ فِعْلُهَا دُونَ فِعْلِ الرَّجُلِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ بِخِلَافِ الْحَدِّ فَإِنَّ سَبَبَهُ الزِّنَا وَهِيَ مُبَاشِرَةٌ لَهُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهَا زَانِيَةً. وَفِي قَوْلٍ آخَرَ يَجِبُ عَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ وَيَتَحَمَّلُ الزَّوْجُ عَنْهَا إذَا كَانَتْ مَالِيَّةً؛ لِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِالْمُوَاقَعَةِ إذَا كَانَ بَدَنِيًّا اشْتَرَكَا فِيهِ كَالِاغْتِسَالِ، وَإِذَا كَانَ مَالِيًّا تَحَمَّلَ الزَّوْجُ عَنْهَا كَثَمَنِ مَاءِ الِاغْتِسَالِ. فَقَالَ الشَّيْخُ: إنَّمَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى الرَّجُلِ بِالْمُوَاقَعَةِ وَمَعْنَى الْفِطْرِ الَّذِي هُوَ جِنَايَةٌ كَامِلَةٌ مَفْهُومٌ مِنْهُ أَيْ مِنْ الْوِقَاعِ لُغَةً كَالْإِيذَاءِ مِنْ التَّأْفِيفِ وَهَذَا الْمَعْنَى يَتَحَقَّقُ فِي جَانِبِهَا كَمَا يَتَحَقَّقُ فِي جَانِبِهِ فَتَلْزَمُهَا الْكَفَّارَةُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ كَمَا لَا يَلْزَمُهَا الْحَدُّ بِسَبَبِ الزِّنَا إذْ تَمْكِينُهَا فِعْلٌ كَامِلٌ فَإِنَّ الْحَدَّ مَعَ النُّقْصَانِ وَبَيَانُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي جَانِبِهِ بَيَانٌ فِي جَانِبِهَا؛ لِأَنَّ كَفَّارَتَهُمَا وَاحِدَةٌ بِخِلَافِ حَدِيثِ الْعَسِيفِ فَإِنَّ الْحَدَّ فِي جَانِبِهِ كَانَ الْجَلْدَ وَفِي جَانِبِهَا الرَّجْمَ وَلَا مَعْنَى لِلتَّحَمُّلِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ عُقُوبَةً أَوْ عِبَادَةً وَبِسَبَبِ النِّكَاحِ لَا تَجْرِي التَّحَمُّلُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ إنَّمَا ذَلِكَ فِي مُؤَنِ الزَّوْجِيَّةِ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. [دَلَالَة الْمُقْتَضِي] قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْمُقْتَضِي فَزِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ ثَبَتَ) أَيْ الْمُقْتَضِي أَوْ الزِّيَادَةُ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَزِيدِ فَكَانَتْ الْجُمْلَةُ صِفَةً لَهَا. وَانْتَصَبَ شَرْطًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ أَيْ يَثْبُتُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ شَرْعًا. وَقَوْلُهُ لَمَّا لَمْ يَسْتَغْنِ أَيْ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ عَنْهُ مُتَعَلِّقٌ يَثْبُتُ شَرْطًا. وَقَوْلُهُ وَجَبَ تَقْدِيمُهُ مُسْتَأْنَفٌ. وَقَوْلُهُ فَقَدْ اقْتَضَاهُ النَّصُّ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ لَهُ أَيْ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْمُقْتَضَى أَوْ تَقْدِيمُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ لِأَجْلِ تَصْحِيحِ الْمَنْصُوصِ شَرْعًا؛ لِأَنَّ النَّصَّ اقْتَضَاهُ أَيْ طَلَبَهُ. أَوْ لَمَّا لَمْ يَسْتَغْنِ مُسْتَأْنَفٌ وَوَجَبَ تَقْدِيمُ جَوَابِهِ وَقَوْلُهُ فَقَدْ اقْتَضَاهُ النَّصُّ بَيَانُ تَسْمِيَتِهِ بِهَذَا الِاسْمِ يَعْنِي لَمَّا لَمْ يَسْتَغْنِ النَّصُّ عَنْ تِلْكَ الزِّيَادَةِ وَجَبَ تَقْدِيمُهَا لِيَصِحَّ فَكَانَ النَّصُّ مُقْتَضِيًا إيَّاهَا فَسُمِّيَتْ بِهَذَا الِاسْمِ وَهُوَ الْمُقْتَضَى. ، وَقَدْ صَرَّحَ الشَّيْخُ بِهِ فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ

فَصَارَ الْمُقْتَضِي بِحُكْمِهِ حُكْمًا لِلنَّصِّ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ أَوْجَبَ الْمِلْكَ وَالْمِلْكُ أَوْجَبَ الْعِتْقَ فِي الْقَرِيبِ فَصَارَ الْمِلْكُ بِحُكْمِهِ حُكْمًا لِلشِّرَاءِ فَصَارَ الثَّابِتُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ بِنَفْسِ النَّظْمِ دُونَ الْقِيَاسِ حَتَّى أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يُعَارِضُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ وَالثَّابِتُ بِهَذَا يَعْدِلُ الثَّابِتَ بِالنَّصِّ، إلَّا عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ بِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَقَالَ الِاقْتِضَاءُ الطَّلَبُ تَقُولُ اقْتَضَيْت الدَّيْنَ أَيْ طَلَبْته وَسُمِّيَ الْمُقْتَضَى مُقْتَضًى؛ لِأَنَّ النَّصَّ طَلَبَهُ. فَصَارَ الْمُقْتَضِي بِحُكْمِهِ أَيْ مَعَ حُكْمِهِ حُكْمَيْنِ لِلنَّصِّ أَيْ مُضَافَيْنِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُقْتَضِي تَابِعٌ لَهُ وَهُوَ تَابِعٌ لِلْمُقْتَضِي فَيَكُونُ الْمُقْتَضَى مُضَافًا إلَيْهِ بِنَفْسِهِ وَحُكْمُهُ بِوَسَاطَتِهِ كَمَا إذَا وَقَعَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ جُمْلَةً مُرَكَّبَةً مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ كَانَ الْمُبْتَدَأُ الثَّانِي مَعَ خَبَرِهِ خَبَرًا لِلْأَوَّلِ كَقَوْلِك زَيْدٌ أَبُوهُ مُنْطَلِقٌ. وَلَا يُقَالُ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضِي هُوَ الْأَصْلُ وَتَوَقُّفُهُ عَلَى الْمُقْتَضِي وَافْتِقَارُهُ إلَيْهِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هُوَ تَبَعًا لِلْمُقْتَضِي وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصْلًا لِشَيْءٍ وَتَبَعًا لَهُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ الْمُقْتَضِي أَصْلًا أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي ضِمْنِ الْمُقْتَضِي وَإِنَّمَا يَثْبُتُ ابْتِدَاءً قَصْدًا وَمِنْ تَبَعِيَّةِ الْمُقْتَضِي أَنَّهُ يَثْبُتُ ضِمْنًا وَتَبَعًا لَهُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَوَقُّفِهِ عَلَيْهِ تَبَعِيَّتُهُ لَهُ كَالصَّلَاةِ تَوَقَّفَتْ عَلَى الْوُضُوءِ وَهِيَ أَصْلٌ لَهُ وَلَيْسَتْ بِتَبَعٍ. فَإِنْ قِيلَ شَرْطِيَّةُ الْمُقْتَضِي لِصِحَّةِ النَّصِّ تُوجِبُ تَقَدُّمَ ثُبُوتِهِ عَلَيْهِ وَكَوْنُهُ حُكْمًا لَهُ يُوجِبُ تَأَخَّرَهُ عَنْهُ وَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ. قُلْنَا: قَدْ قِيلَ فِي جَوَابِهِ: إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا تَقْدِيرًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ شَرْطٌ وَمُتَأَخِّرًا تَقْدِيرًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ حُكْمٌ فَيُمْكِنُ الْقَوْلُ بِاجْتِمَاعِهِمَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ إذْ لَا بُدَّ مِنْ تَقَدُّمِ الشَّرْطِ عَلَى الْمَشْرُوطِ تَحْقِيقًا فَمَتَى كَانَ مُتَأَخِّرًا تَحْقِيقًا لَا يَصْلُحُ شَرْطًا لِمَا تَقَدَّمَهُ بِوَجْهٍ بَلْ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ لِلنَّصِّ حَقِيقَةً بَلْ هُوَ بِحُكْمِ اقْتِضَاءِ النَّصِّ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِهِ وَإِنَّمَا يُضَافُ إلَى النَّصِّ لِإِضَافَةِ الِاقْتِضَاءِ إلَيْهِ وَلَكِنَّهُ شَرْطٌ صِحَّةِ النَّصِّ أَيْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لِتَوَقُّفِهَا عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ فِي قَوْلِك أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِأَلْفٍ ثَبَتَ بِاقْتِضَاءِ هَذَا الْكَلَامِ فَكَانَ حُكْمًا لَهُ وَلَكِنَّهُ يَثْبُتُ لِأَجْلِ صِحَّةِ الْإِعْتَاقِ الْمَطْلُوبِ بِهَذَا الْكَلَامِ فَكَانَ شَرْطًا لَهُ لَا لِلِاقْتِضَاءِ الَّذِي أَوْجَبَهُ وَالِاقْتِضَاءُ غَيْرُ النَّصِّ فَكَانَ اجْتِمَاعُ الشَّرْطِيَّةِ وَالْحُكْمِيَّةِ فِيهِ بِاعْتِبَارِ أَمْرَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ فَيَجُوزُ، فَصَارَ الثَّابِتُ بِهِ أَيْ بِالْمُقْتَضِي بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ بِهَا أَيْ بِالصِّيغَةِ أَوْ بِالْعِبَارَةِ بِنَفْسِ النَّظْمِ يَدُلُّ تَكْرِيرُ الْعَامِلِ وَلَمْ يَذْكُرْ كَلِمَةَ بِهَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَهُوَ الْأَصَحُّ أَيْ الثَّابِتُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ بِنَفْسِ نَظْمِ النَّصِّ دُونَ مَعْنَاهُ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْهُ حَتَّى أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يُعَارِضُهُ وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ. وَالثَّابِتُ بِهَذَا أَيْ بِالْمُقْتَضِي يَعْدِلُ أَيْ يُسَاوِي الثَّابِتَ بِالنَّصِّ، إلَّا عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ فَإِنَّ الثَّابِتَ بِالنَّصِّ أَوْ إشَارَتُهُ أَوْ دَلَالَتُهُ يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الثَّابِتِ بِالْمُقْتَضِي؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِالنَّظْمِ أَوْ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فَكَانَ ثَابِتًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالْمُقْتَضِي لَيْسَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْكَلَامِ لُغَةً وَإِنَّمَا يَثْبُتُ شَرْعًا لِلْحَاجَةِ إلَى إثْبَاتِ الْحُكْمِ بِهِ فَكَانَ ضَرُورِيًّا ثَابِتًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ إذْ هُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ فِيمَا وَرَاءَ ضَرُورَةِ تَصْحِيحِ الْكَلَامِ فَيَكُونُ الْأَوَّلُ أَقْوَى. وَمَا جَدَّتْ لِمُعَارَضَةِ الْمُقْتَضِي مَعَ الْأَقْسَامِ الَّتِي تَقَدَّمَتْهُ نَظِيرًا، وَقَدْ تَحَمَّلَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ فِي إيرَادِ الْمِثَالِ فَقَالَ إذَا بَاعَ مِنْ آخَرَ عَبْدًا بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَالَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي هَذَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَعْتَقَهُ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ لِأَنَّ دَلَالَةَ النَّصِّ الَّذِي وَرَدَ فِي حَقِّ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ بِفَسَادِ شِرَاءِ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ

وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْقِسْمِ قَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: لَا عُمُومَ لَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهِ بِالْعُمُومِ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ فَكَانَ مِثْلَهُ، وَقُلْنَا: إنَّ الْعُمُومَ مِنْ صِفَاتِ النَّظْمِ وَالصِّيغَةِ وَهَذَا أَمْرٌ لَا نَظْمَ لَهُ لَكِنَّا أَنْزَلْنَاهُ مَنْظُومًا شَرْطًا لِغَيْرِهِ فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِهِ فِيمَا وَرَاءَ صِحَّةِ الْمَذْكُورِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالثَّمَنِ تُوجِبُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَالِاقْتِضَاءُ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ فَتُرَجَّحُ الدَّلَالَةُ عَلَى الِاقْتِضَاءِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ دَلَالَةٌ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي حَقِّ غَيْرِ زَيْدٍ كَانَ بِمَعْنَى النَّصِّ لَا بِالنَّظْمِ كَثُبُوتِ الرَّجْمِ فِي حَقِّ غَيْرِ مَاعِزٍ. وَلَكِنْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ الْمُعَارَضَةَ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهَا تَسَاوِي الْحُجَّتَيْنِ وَلَا تَسَاوِي؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ الَّذِي قَامَ الْمُقْتَضَى بِهِ كَلَامُ الْآمِرِ وَالدَّلَالَةُ ثَابِتَةٌ بِالنِّسْبَةِ فَأَنَّى يَتَعَارَضَانِ. وَلِأَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ الصُّورَةِ إنْ ثَبَتَ لَيْسَ لِتَرَجُّحِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُقْتَضِي فَإِنَّهُمَا لَوْ صَرَّحَا بِالْبَيْعِ بِأَنْ قَالَ الْمُشْتَرِي بِعْت هَذَا الْعَبْدَ مِنْك بِأَلْفٍ وَقَالَ الْبَائِعُ قَبِلْت، لَا يَجُوزُ أَيْضًا بَلْ لِأَنَّ مُوجِبَ ذَلِكَ النَّصِّ عَدَمُ الْجَوَازِ مِنْ غَيْرِ مُعَارَضَةِ نَصٍّ آخَرَ إيَّاهُ فَلَا يَكُونُ هَذَا نَظِيرَ مُعَارَضَةِ الدَّلَالَةِ الْمُقْتَضَى قَوْلُهُ (وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْقِسْمِ) يَعْنِي فِي عُمُومِهِ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لَا عُمُومَ لَهُ أَيْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ صِفَةُ الْعُمُومِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَهُ عُمُومٌ أَيْ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ فِيهِ الْعُمُومُ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضِي بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ حَتَّى كَانَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ لَا بِالْقِيَاسِ فَيَجُوزُ فِيهِ الْعُمُومُ كَمَا يَجُوزُ فِي النَّصِّ. وَقُلْنَا: الْعُمُومُ مِنْ عَوَارِضِ النَّظْمِ وَهُوَ غَيْرُ مَنْظُومٍ حَقِيقَةً فَلَا يَجُوزُ فِيهِ الْعُمُومُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْمُقْتَضَى لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ حَتَّى إذَا كَانَ الْمَنْصُوصُ مُفِيدًا لِلْحُكْمِ بِدُونِهِ لَا يَثْبُتُ الْمُقْتَضِي لُغَةً وَلَا شَرْعًا وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا وَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ صِفَةِ الْعُمُومِ لِلْمُقْتَضِي فَإِنَّ الْكَلَامَ مُفِيدٌ بِدُونِهِ فَبَقِيَ فِيمَا وَرَاءَ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَهُوَ صِحَّةُ الْكَلَامِ عَلَى أَصْلِهِ وَهُوَ الْعَدَمُ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ الْعُمُومُ. وَهُوَ نَظِيرُ تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ لَمَّا أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا وَهُوَ سَدُّ الرَّمَقِ وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْحَمْلِ وَالتَّمَوُّلِ وَالتَّنَاوُلِ إلَى الشِّبَعِ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِبَاحَةِ بِخِلَافِ النَّصِّ فَإِنَّهُ عَامِلٌ بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ حِلِّ الزَّكِيَّةِ يَظْهَرُ فِي حُكْمِ التَّنَاوُلِ وَغَيْرِهِ مُطْلَقًا كَذَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ. وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى لَا عُمُومَ لِلْمُقْتَضِي وَإِنَّمَا الْعُمُومُ لِلْأَلْفَاظِ لَا لِلْمَعَانِي الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا ضَرُورَةُ الْأَلْفَاظِ. بَيَانُهُ أَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ ظَاهِرُهُ لِنَفْيِ صُورَةِ الصَّوْمِ حِسًّا لَكِنْ وَجَبَ رَدُّهُ إلَى الْحُكْمِ وَهُوَ نَفْيُ الْإِجْزَاءِ وَالْكَمَالِ، وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَهُمَا وَهُوَ مُجْمَلٌ. وَقِيلَ: إنَّهُ عَامٌّ لِنَفْيِ الْإِجْزَاءِ وَالْكَمَالِ وَهُوَ غَلَطٌ نَعَمْ لَوْ قَالَ: لَا حُكْمَ لِصَوْمٍ بِغَيْرِ تَبْيِيتٍ لَكَانَ الْحُكْمُ لَفْظًا عَامًّا فِي الْإِجْزَاءِ وَالْكَمَالِ أَمَّا إذَا قَالَ لَا صِيَامَ فَالْحُكْمُ غَيْرُ مَنْطُوقٍ بِهِ وَإِنَّمَا أَثْبَتَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» مَعْنَاهُ حُكْمُ الْخَطَأِ وَلَا عُمُومَ لَهُ وَلَوْ قَالَ لَا حُكْمَ لِلْخَطَأِ لَأَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ الْإِثْمِ وَالْعَزْمُ وَغَيْرُهُ عَلَى الْعُمُومِ. وَرَأَيْت فِي بَعْضِ كُتُبِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَتَى دَلَّ الْعَقْلُ أَوْ الشَّرْعُ عَلَى إضْمَارِ شَيْءٍ فِي كَلَامٍ صِيَانَةً لَهُ عَنْ التَّكْذِيبِ وَنَحْوِهَا وَثَمَّةَ تَقْدِيرَاتٍ يَسْتَقِيمُ الْكَلَامُ بِأَيِّهَا كَانَ لَا يَجُوزُ إضْمَارُ الْكُلِّ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِنَا الْمُقْتَضِي لَا عُمُومَ لَهُ أَمَّا إذَا تَعَيَّنَ أَحَدُ تِلْكَ التَّقْدِيرَاتِ بِدَلِيلٍ كَانَ كَظُهُورِهِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ حَتَّى لَوْ كَانَ مَظْهَرُهُ عَامًّا كَانَ مُقَدَّرُهُ كَذَلِكَ

وَمِثَالُ هَذَا الْأَصْلِ اعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْبَيْعُ مُقْتَضَى الْعِتْقِ وَشَرْطٌ لَهُ حَتَّى يَثْبُتَ بِشُرُوطِ الْعِتْقِ لَمَّا كَانَ تَابِعًا لَهُ وَلَوْ جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ الْمَذْكُورِ كَمَا قَالَ الْخَصْمُ لَثَبَتَ بِشُرُوطِ نَفْسِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَكَذَا لَوْ كَانَ خَاصًّا. قَوْلُهُ (وَمِثَالُ الْأَصْلِ) أَيْ نَظِيرُ هَذَا الْأَصْلِ وَهُوَ الْمُقْتَضَى. وَكَأَنَّهُ ذَكَرَ لَفْظَ الْأَصْلِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ مِثَالُ الْعُمُومِ. أَوْ مَعْنَاهُ مِثَالُ الْمُقْتَضَى إذْ هُوَ الْأَصْلُ لِلْمُقْتَضَى قَوْلُ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ كَذَا. أَنَّهُ أَيْ هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي هُوَ طَلَبُ الْإِعْتَاقِ، يَتَضَمَّنُ الْبَيْعُ مُقْتَضَى الْعِتْقِ أَيْ ضَرُورَةُ صِحَّةِ الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ عَلَى الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِتَعَيُّنِهِ سَبَبًا لَهُ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ عَلَى أَلْفٍ. وَشَرْطًا لَهُ يَعْنِي يَثْبُتُ الْبَيْعُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ لِتَوَقُّفِ صِحَّةِ الْإِعْتَاقِ عَلَيْهِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَهَذَا الْمُقْتَضَى ثَبَتَ مُتَقَدِّمًا وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ وَصْفٌ فِي الْمَحِلِّ وَالْمَحَلُّ لِلتَّصَرُّفِ كَالشَّرْطِ فَكَذَا إمَّا يَكُونُ وَصْفًا لِلْمَحَلِّ وَلَمَّا كَانَ شَرْطًا كَانَ تَبَعًا إذْ الشُّرُوطُ اتِّبَاعٌ فَيَثْبُتُ بِشُرُوطِ الْعِتْقِ لَا بِشُرُوطِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ إذَا ثَبَتَ تَبَعًا يُعْتَبَرُ فِيهِ شَرَائِطُ الْمَتْبُوعِ إظْهَارًا لِلتَّبَعِيَّةِ كَالْعَبْدِ يَصِيرُ مُقِيمًا وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ مِنْ الْمَوْلَى وَكَذَا الْجُنْدِيُّ بِنِيَّةِ السُّلْطَانِ وَالْمَرْأَةُ بِنِيَّةِ الزَّوْجِ فَيُعْتَبَرُ فِي الْآمِرِ أَهْلِيَّةُ الْإِعْتَاقِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَهُ بِأَنْ كَانَ صَبَبًا عَاقِلًا قَدْ أَذِنَ لَهُ وَلِيُّهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ لَمْ يَثْبُتْ الْبَيْعُ بِهَذَا الْكَلَامِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبُولُ وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الْعَيْبِ وَالرُّؤْيَةِ. وَلَوْ جُعِلَ أَيْ الْمُقْتَضَى بِمَنْزِلَةِ الْمَذْكُورِ صَرِيحًا كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ لَثَبَتَ بِشُرُوطِ نَفْسِهِ أَيْ اُعْتُبِرَ فِيهِ أَهْلِيَّةُ الْبَيْعِ لَا غَيْرَ وَشُرِطَ فِيهِ الْقَبُولُ وَثَبَتَتْ فِيهِ الْخِيَارَانِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ الْمَأْمُورُ بِالْبَيْعِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِأَنْ قَالَ بِعْته مِنْك بِالْأَلْفِ وَأَعْتَقْته لَمْ يَجُزْ عَنْ الْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ مَا أَمَرَهُ بِبَيْعِهِ مَقْصُودًا وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِبَيْعٍ ثَابِتٍ ضَرُورَةَ الْعِتْقِ، فَإِذَا أَتَى بِهِ مَقْصُودًا لَمْ يَأْتِ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ فَتَوَقَّفَ عَلَى الْقَبُولِ فَإِذَا أَعْتَقَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَلَمْ يَقَعْ عَنْ الْأَمْرِ فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُقْتَضَى لَيْسَ كَالْمَنْصُوصِ فِيمَا وَرَاءَ مَوْضِعِ الْحَاجَةِ. وَفِي هَذَا الْمِثَالِ خِلَافُ زُفَرَ فَإِنَّهُ قَالَ: يَقَعُ الْعِتْقُ فِي قَوْلِهِ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَنْ الْمَأْمُورِ فَيَكُونُ الْوَلَاءُ لَهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ بِالْإِعْتَاقِ عَنْهُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَهُ إلَى عَبْدِ غَيْرِهِ وَعَبْدُ غَيْرِهِ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ بِحَالٍ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ» وَلَا يَجُوزُ إضْمَارُ التَّمْلِيكِ هَهُنَا؛ لِأَنَّ الْإِضْمَارَ لِتَصْحِيحِ الْمُصَرَّحِ بِهِ لَا لِإِبْطَالِهِ، وَإِذَا أَضْمَرَ التَّمْلِيكَ صَارَ مُعْتِقًا عَبْدَ الْآمِرِ لَا عَبْدَ نَفْسِهِ. وَلِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ عَنْ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ لَمْ يَنْفُذْ فَلَأَنْ لَا يَنْفُذَ بِأَمْرِهِ أَوْلَى وَكَانَ هَذَا كَمَا لَوْ قَالَ لِآخَرَ: بِعْ عَبْدَك عَنِّي مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ آجِرْهُ عَنِّي مِنْ فُلَانٍ بِكَذَا أَوْ كَاتِبْهُ بِكَذَا فَفَعَلَ لَا يَصِحُّ وَلَا يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ فَكَذَا هَهُنَا. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ صَحَّ هَذَا الْأَمْرُ؛ لِأَنَّهُ صَدَرَ مِنْ أَهْلِ الْإِعْتَاقِ إلَى مَنْ هُوَ أَهْلُهُ أَيْضًا وَأَمْكَنَ إثْبَاتُ الْمَطْلُوبِ بِإِثْبَاتِ شَرْطِهِ فَوَجَبَ إثْبَاتُهُ تَصْحِيحًا لِكَلَامِهِ كَمَا إذَا بَاعَ الْمُكَاتَبَ بِرِضَاهُ أَوْ بَاعَ شَيْئًا بِأَلْفٍ، ثُمَّ بَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ مِنْ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي أَوْ بِخَمْسِمِائَةٍ يَنْفَسِخُ الْكِتَابَةُ وَالْبَيْعُ الْأَوَّلُ تَصْحِيحًا لِلتَّصَرُّفِ الثَّانِي. وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَحَلٌّ لِحُلُولِ الْعِتْقِ وَالْمِلْكُ الَّذِي هُوَ شَرْطُ النَّفَاذِ وَصْفٌ لَهُ وَالْمُحَالُ بِصِفَاتِهَا شُرُوطٌ وَالشُّرُوطُ اتِّبَاعٌ وَكُلُّ مَتْبُوعٍ يَقْتَضِي تَبِعَةً لَا مَحَالَةَ كَالْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ وَالنَّذْرِ بِهَا أَمْرٌ بِالطَّهَارَةِ وَنَذْرُهَا لِأَنَّهَا شَرْطٌ، وَكَذَا النَّذْرُ بِالِاعْتِكَافِ نَذْرٌ بِالصَّوْمِ وَكَذَا اسْتِئْجَارُ

وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّهُ لَوْ قَالَ اعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِغَيْرِ شَيْءٍ أَنَّهُ يَصِحُّ عَنْ الْآمِرِ وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ بِالْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ مُقْتَضًى بِالْعِتْقِ فَيَثْبُتُ بِشُرُوطِهِ فَيَسْتَغْنِي عَنْ التَّسْلِيمِ كَمَا اسْتَغْنَى الْبَيْعُ عَنْ الْقَبُولِ وَهُوَ الرُّكْنُ فِيهِ فَالِاسْتِغْنَاءُ عَنْ الْقَبْضِ وَهُوَ شَرْطٌ أَوْلَى، وَهَذَا كَمَا قَالَ: اعْتِقْ عَبْدَك هَذَا عَنِّي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَرِطْلٍ مِنْ خَمْرٍ أَنَّهُ يَصِحُّ وَيُعْتَقُ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ التَّسْلِيمُ وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ مِثْلُ الْهِبَةِ لِمَا قُلْنَا. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْأَرْضِ لِلزَّارِعَةِ يَقْتَضِي شُرْبَهَا؛ لِأَنَّهُ شَرْطُ إمْكَانِ الزِّرَاعَةِ فَكَانَ طَلَبُ الْإِعْتَاقِ عَنْهُ طَلَبًا لِلتَّمْلِيكِ أَوْ لَا بِأَلْفٍ، ثُمَّ الْإِعْتَاقُ عَنْهُ وَكَانَتْ الْإِجَابَةُ مِنْ الْمَأْمُورِ تَمْلِيكًا مِنْهُ أَوْ لَأَثِمَ إعْتَاقًا مِنْهُ فَيَثْبُتُ تَمْلِيكٌ بِأَلْفٍ فِي ضِمْنِ الْإِعْتَاقِ كَأَنَّهُمَا عَقَدَا الْبَيْعَ، ثُمَّ حَصَلَ الْإِعْتَاقُ بَعْدَهُ كَمَنْ يَقُولُ لِغَيْرِهِ: أَدِّ عَنِّي زَكَاةَ مَالِي أَوْ كَفِّرْ عَنِّي فَفَعَلَ أَجْزَأَهُ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ أَدَاءُ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ، إلَّا بِمَالِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ تَمْلِيكٌ أَوْ إقْرَاضٌ مِنْهُ أَوْ لَا اقْتِضَاءَ، ثُمَّ تَوَكَّلَ عَنْهُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْفَقِيرِ فَكَذَا هَذَا. وَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَمَرَ بِإِعْتَاقِ مِلْكِ نَفْسِهِ لَا مِلْكِ غَيْرِهِ وَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ عَبْدَك الْعَبْدُ الَّذِي هُوَ لَك لِلْحَالِ لَا عِنْدَ مُصَادَفَةِ الْعِتْقِ إيَّاهُ فَمَقْصُودُهُ مِنْ هَذَا تَعْرِيفُ الْعَبْدِ لَا إضَافَتُهُ إلَيْهِ بِالْمِلْكِ وَالْخِلَافُ ثَابِتٌ فِيمَا لَوْ قَالَ أَعْتِقْ هَذَا الْعَبْدَ عَنِّي. وَقَوْلُهُ لَوْ أَعْتَقَهُ بِنَفْسِهِ لَا يَصِحُّ قُلْنَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا لَوْ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ يَصِحُّ بِأَنْ يَشْتَرِيَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ يُعْتِقُهُ. وَلَيْسَ هَذَا كَالْأَمْرِ بِالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ مَا أَمَرَ بِهِ بِتَقْدِيمِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّا إذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ وَجَعَلْنَا الْعَبْدَ مَمْلُوكًا لَهُ صَارَ هَذَا بَيْعَ الْعَبْدِ وَإِجَارَتَهُ وَكِتَابَتَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَكُلُّ ذَلِكَ فَاسِدٌ فَأَمَّا الْإِعْتَاقُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَجَائِزٌ فَأَمْكَنَ التَّصْحِيحُ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: تَزَوَّجِي، فَإِنَّهُ لَا يَقْتَضِي طَلَاقًا إلَّا بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّا إنَّمَا أَثْبَتْنَا الْمُقْتَضَى لِتَصْحِيحِ الْمَلْفُوظِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ هَهُنَا؛ لِأَنَّا إذَا حَكَمْنَا بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ لَا يَصِحُّ الْأَمْرُ بِالتَّزَوُّجِ فَإِنَّهَا تَتَزَوَّجُ بِمَالِكِيَّتِهَا أَمْرَ نَفْسِهَا لَا بِأَمْرِ الزَّوْجِ فَإِنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهَا، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الْأَمْرُ بِهِ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ اقْتِضَاءً؛ وَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِ تَزَوُّجِهَا الْفَرَاغُ عَنْ الْأَوَّلِ لَا الطَّلَاقُ فَلَمْ يَصِرْ مُقْتَضِيًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الِاقْتِضَاءُ، إلَّا ضَرُورَةً قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ الْبَيْعَ يَثْبُتُ بِشُرُوطِ الْعِتْقِ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ لَا بِشُرُوطِ نَفْسِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا قَالَ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِغَيْرِ شَيْءٍ فَأَعْتَقَهُ أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ الْأَمْرِ وَتَثْبُتُ الْهِبَةُ اقْتِضَاءً كَمَا يَثْبُتُ الْبَيْعُ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْقَبْضُ؛ لِأَنَّهُ أَيْ لِأَنَّ عَقْدَ الْهِبَةِ أَوْ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ ثَابِتٌ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ بِالْإِعْتَاقِ فَيَثْبُتُ بِشُرُوطِ الْإِعْتَاقِ وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ شَرْطِهِ وَهُوَ الْقَبْضُ مَقْصُودًا كَمَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْقَبُولَ رُكْنٌ فِي الْبَيْعِ وَالْقَبْضُ شَرْطٌ فِي الْهِبَةِ فَلَمَّا سَقَطَ اعْتِبَارُ مَا هُوَ الرُّكْنُ لِكَوْنِهِ ثَابِتًا بِاقْتِضَاءِ الْعِتْقِ فَلَأَنْ يَسْقُطَ اعْتِبَارُ مَا هُوَ شَرْطٌ أَوْلَى، كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَهُوَ أَوْضَحُ مِنْ تَرْكِيبِ الْكِتَابِ. وَلَمَّا ثَبَتَ بِشُرُوطِ الْعِتْقِ وَالْعِتْقُ يَثْبُتُ بِلَا قَبْضٍ فَكَذَا الْهِبَةُ الَّتِي فِي ضِمْنِهِ. وَهَذَا أَيْ ثُبُوتُ الْهِبَةِ بِلَا اشْتِرَاطِ قَبْضٍ مُقْتَضًى مِثْلُ ثُبُوتِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِلَا اشْتِرَاطِ قَبْضٍ مُقْتَضًى فِيمَا إذَا قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِأَلْفٍ وَرِطْلٍ مِنْ خَمْرٍ. وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: الْقَبْضُ فِعْلٌ حِسِّيٌّ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ اعْتِبَارُهُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضَى قَوْلٌ وَهُوَ دُونَ الْفِعْلِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْطُلَ لِأَجْلِهِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ بِخِلَافِ الْقَبُولِ فَإِنَّهُ قَوْلٌ اُعْتُبِرَ شَرْعًا فَيَصِحُّ أَنْ يَسْقُطَ شَرْعًا تَصْحِيحًا لِكَلَامٍ آخَرَ فَقَالَ: قَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُهُ أَيْضًا اقْتِضَاءً كَمَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ مِثْلُ الْهِبَةِ أَيْ فِي تَوَقُّفِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ عَلَى الْقَبْضِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. لِمَا قُلْنَا

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يَقَعُ الْعِتْقُ عَنْ الْمَأْمُورِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ وَالتَّسْلِيمَ بِحُكْمِ الْهِبَةِ لَمْ يُوجَدْ لِأَنَّ رَقَبَةَ الْعَبْدِ بِحُكْمِ الْعِتْقِ يُتْلِفُ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى فِي يَدِ نَفْسِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَقْبُوضٍ لِلطَّالِبِ وَلَا لِلْعَبْدِ وَلَا هُوَ مُحْتَمِلٌ لَهُ وَقَوْلُهُ: إنَّ الْقَبْضَ يَسْقُطُ، بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْمُقْتَضِي بِهَذَا الطَّرِيقِ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ وَإِنَّمَا يَسْقُطُ بِهِ مَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ وَالْقَبْضُ وَالتَّسْلِيمُ فِي الْهِبَةِ شَرْطٌ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِحَالٍ وَدَلِيلُ السُّقُوطِ يَعْمَلُ فِي مَحِلِّهِ، وَأَمَّا الْقَبُولُ فِي الْبَيْعِ فَيَحْتَمِلُ السُّقُوطَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْكُلَّ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ فَيَنْعَقِدُ بِالتَّعَاطِي فَالشَّطْرُ أَوْلَى، وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ بِعْتُك هَذَا الثَّوْبَ بِكَذَا فَاقْطَعْهُ فَقَطَعَهُ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ صَحَّ، وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ الْفَاسِدُ مَشْرُوعٌ مِثْلُ الصَّحِيحِ فَاحْتَمَلَ سُقُوطَ الْقَبْضِ عَنْهُ فَصَحَّ إسْقَاطُهُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّ مَا يَثْبُتُ مُقْتَضًى يَثْبُتُ بِشُرُوطِ الْمُقْتَضِي لَا بِشُرُوطِ نَفْسِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: يَقَعُ الْعِتْقُ عَنْ الْمَأْمُورِ وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا طَلَبَ الْعِتْقَ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَلَا صِحَّةَ لِلْعِتْقِ، إلَّا بِالْمِلْكِ صَارَ طَالِبًا لِلْهِبَةِ وَالْهِبَةُ لَا تُوجِبُ الْمِلْكَ، إلَّا بِالْقَبْضِ وَلَمْ يُوجَدْ إمَّا حَقِيقَةً فَظَاهِرٌ وَإِمَّا تَقْدِيرًا فَلِأَنَّ رَقَبَةَ الْعَبْدِ أَيْ مَالِيَّتَهُ بِحُكْمِ الْإِعْتَاقِ تَتْلَفُ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ فِي حَالَةِ الْعِتْقِ مِلْكَهُ وَالْإِعْتَاقُ إبْطَالٌ لِلْمِلْكِ وَالْمَالِيَّةُ فِي يَدِ نَفْسِهِ أَيْ فِي يَدِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ أَوْ فِي يَدِ الْعَبْد؛ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ فِي ذَاتِهِ حَقِيقَةً وَلَهُ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا حَتَّى صَحَّ اشْتِرَاطُ الْعَمَلِ عَلَى عَبْدِ رَبِّ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى وَلِأَنَّهُ اسْتِرْدَادُ مَا أَوْدَعَهُ الْعَبْدُ مِنْ الْمُودِعِ وَذَلِكَ أَيْ الْمُتْلَفُ وَهُوَ الْمَالِيَّةُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا لِلطَّالِبِ وَلَا لِلْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ وَلَا هُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْقَبْضِ لِأَنَّهُ هَالِكٌ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ مَا هُوَ شَرْطُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْآمِرِ لَمْ يَثْبُتْ الْعِتْقُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا عِتْقَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فَوَقَعَ عَنْ الْمَأْمُورِ لِأَنَّهُ لَا مَرَدَّ لَهُ. وَانْدَرَجَ فِي كَلَامِ الشَّيْخِ الْجَوَابُ عَمَّا يُقَالُ الْقَبْضُ قَدْ وُجِدَ تَقْدِيرًا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ إلَيْهِ الْمَالِيَّةُ وَالْهِبَةُ تَقَعُ فِي تِلْكَ الْمَالِيَّةِ وَالْعَبْدُ فِي يَدِ نَفْسِهِ فَيَقَعُ الْمِلْكُ مُسَلَّمًا إلَيْهِ لِقِيَامِ يَدِهِ فَصَارَ كَهِبَةِ الشَّيْءِ مِمَّنْ هُوَ فِي يَدِهِ حَيْثُ يُكْتَفَى بِذَلِكَ الْقَبْضِ وَلَا يَجِبُ قَبْضُ جَدِيدٍ وَكَقَوْلِهِ لِآخَرَ أَطْعِمْ عَنِّي كَفَّارَتِي عَشَرَةَ مَسَاكِينَ حَيْثُ يَجُوزُ وَيُجْعَلُ الْفَقِيرُ قَابِضًا نِيَابَةً عَنْ الْآمِرِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْبَائِعَ لَا يَمْلِكُ جِنْسَ الْمَبِيعِ بِالثَّمَنِ فِيمَا إذَا قَالَ لِعَبْدٍ اشْتَرِ لِي نَفْسَك مِنْ مَوْلَاك فَفَعَلَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي يَدِ نَفْسِهِ فَلَمَّا بَاعَ صَارَ مُسَلَّمًا بِنَفْسِ الْبَيْعِ لِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ يَدُ الطَّالِبِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ فَكَذَا هَهُنَا. فَقَالَ: الْمَالِيَّةُ لَمْ تَصِلْ إلَى الْعَبْدِ بَلْ تَلِفَ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدٌ قَابِضًا لَهَا. بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الطَّعَامِ فَإِنَّ الْمِسْكِينَ يَقْبِضُ عَيْنَ الطَّعَامِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ قَابِضًا لِلْآمِرِ أَوَّلًا، ثُمَّ لِنَفْسِهِ. وَكَذَا فِي مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ لَمْ يَتْلَفْ الْمِلْكُ وَالْمَالِيَّةُ بَلْ انْتَقَلَا إلَى الْمُشْتَرِي فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْعَبْدُ نَائِبًا عَنْهُ فِي الْقَبْضِ. وَقَوْلُهُ إنَّ الْقَبْضَ يَسْقُطُ بِالِاقْتِضَاءِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْمُقْتَضَى بِهَذَا الطَّرِيقِ وَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ بِشُرُوطِ الْمُقْتَضِي وَيَسْقُطَ اعْتِبَارُ شُرُوطِهِ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ فَيُؤَثِّرُ فِي إسْقَاطِ مَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ دُونَ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ وَالْقَبْضُ وَالتَّسْلِيمُ شَرْطٌ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ فِي الْهِبَةِ بِحَالٍ إذْ لَمْ يُوجَدْ صُورَةٌ أَوْجَبَتْ الْهِبَةَ الْمِلْكَ بِدُونِ الْقَبْضِ وَدَلِيلُ السُّقُوطِ وَهُوَ الِاقْتِضَاءُ يَعْمَلُ فِي مَحَلٍّ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ دُونَ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ. وَأَمَّا الْقَبُولُ فِي الْبَيْعِ فَيَحْتَمِلُ السُّقُوطَ لِمَا ذُكِرَ فَيَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ بِالِاقْتِضَاءِ عَلَى أَنَّا لَا نَجْعَلُ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ بِعْهُ مِنِّي، ثُمَّ أَعْتِقْهُ لِأَنَّهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَحْتَاجُ إلَى الْقَبُولِ بَلْ نَجْعَلُ تَقْدِيرَهُ كَأَنَّهُ قَالَ اشْتَرَيْته مِنْك فَأَعْتِقْهُ عَنِّي وَكَانَ الْمَأْمُورُ إذَا أَعْتَقَهُ قَالَ بِعْته مِنْك، ثُمَّ أُعْتِقُهُ عَنْك، كَذَا فِي طَرِيقَةِ الْإِمَامِ الْبُرْغَرِيِّ. وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَالْبَيْعِ الصَّحِيحِ الْبَيْعُ الْفَاسِدُ مَشْرُوعٌ بِأَصْلِهِ فَيُعْتَبَرُ بِهِ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ أَصْلًا لِيُعْرَفَ حُكْمُهُ مِنْ نَفْسِهِ. فَاحْتَمَلَ أَيْ الْفَاسِدُ سُقُوطَ الْقَبْضِ عَنْهُ نَظَرًا إلَى أَصْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْ بِالنَّظَرِ إلَى وَصْفِهِ فَصَحَّ إسْقَاطُهُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلُ السُّقُوطِ فَيَعْمَلُ

وَمِثَالُهُ مَا قُلْنَا إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ بَعْدَ الدُّخُولِ: اعْتَدِّي وَنَوَى الطَّلَاقَ وَقَعَ مُقْتَضَى الْأَمْرِ بِالِاعْتِدَادِ وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ وَلِهَذَا كَانَ رَجْعِيًّا وَمِثَالُ خِلَافِ الشَّافِعِيِّ إنْ أَكَلْت فَعَبْدِي حُرٌّ أَوْ إنْ شَرِبْت وَنَوَى خُصُوصَ الطَّعَامِ أَوْ الشَّرَابِ لَمْ يُصَدَّقْ عِنْدَنَا، وَمَنْ قَالَ إنْ خَرَجْت فَعَبْدِي حُرٌّ وَنَوَى مَكَانًا دُونَ مَكَان لَمْ يُصَدَّقْ عِنْدَنَا وَمَنْ قَالَ: إنْ اغْتَسَلْت فَعَبْدِي حُرٌّ وَنَوَى تَخْصِيصَ الْأَسْبَابِ لَمْ يُصَدَّقْ عِنْدَنَا لِمَا قُلْنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQفِيمَا يَحْتَمِلُهُ، وَقَدْ وَقَعَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ وَهُمَا كَذَلِكَ وَمِثْلُ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ زَائِدًا. وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْبُرْغَرِيُّ وَأَمَّا الْبَيْعُ الْفَاسِدُ فَلَيْسَ الْقَبْضُ فِيهِ بِشَرْطٍ أَصْلِيٍّ فَإِنَّ الْجَائِزَ يَعْمَلُ بِدُونِ الْقَبْضِ وَالْفَاسِدَ لَيْسَ بِأَصْلٍ بِنَفْسِهِ بَلْ هُوَ مُلْحَقٌ بِالْجَائِزِ لَكِنَّهُ لِضَعْفِهِ احْتَاجَ إلَى قَبْضٍ مُقَوٍّ، وَإِذَا ثَبَتَ فِي ضِمْنِ الْعِتْقِ تَقَوَّى بِهِ فَصَارَ مِثْلَ الْجَائِزِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَاسْتَغْنَى عَنْ الْقَبْضِ فَعَمِلَ عَمَلَهُ عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ سَاقِطٌ لَا عَلَى أَنَّهُ حَاصِلٌ فَأَمَّا الْهِبَةُ فَلَا يُمْكِنُ إسْقَاطُ الْقَبْضِ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ أَصْلِيٌّ فِيهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْهِبَةَ الْجَائِزَةَ لَا تَعْمَلُ، إلَّا بِهِ. وَذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ أَنَّ مَالِيَّةَ الْعَبْدِ وَإِنْ تَلِفَتْ بِالْإِعْتَاقِ وَلَمْ يَحْصُلْ فِي يَدِ الْعَبْدِ شَيْءٌ مِنْهَا وَلَكِنْ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَبْدَ يَنْتَفِعُ بِهَذَا الْإِعْتَاقِ يَنْدَرِجُ فِيهِ أَدْنَى قَبْضٍ وَذَلِكَ يَكْفِي فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ دُونَ الْهِبَةِ كَالْقَبْضِ مَعَ الشُّيُوعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَمَعَ الِاتِّصَالِ فِي الثِّمَارِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْجَارِ يَكْفِي لِوُقُوعِ الْمِلْكِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ دُونَ الْهِبَةِ، عَلَى أَنَّ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ يَقَعُ الْعِتْقُ عَنْ الْمَأْمُورِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَقَعُ، إلَّا بِالْقَبْضِ وَلَمَّا يُوجَدْ كَمَا فِي الْهِبَةِ. 1 - قَوْلُهُ (وَمِثَالُهُ) أَيْ مِثَالُهُ الْآخَرُ قَوْلُهُ لِامْرَأَتِهِ الَّتِي دَخَلَ بِهَا اعْتَدِّي نَاوِيًا لِلطَّلَاقِ فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ مُقْتَضِي الْأَمْرِ بِالِاعْتِدَادِ؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ الِاعْتِدَادِ عَنْ النِّكَاحِ تَقَدُّمُ الطَّلَاقِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْك الطَّلَاقُ فَاعْتَدِّي. وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ لَهَا فِي الْعِدَّةِ اعْتَدِّي نَاوِيًا لِلطَّلَاقِ حَيْثُ يَقَعُ مَعَ أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ؛ لِأَنَّ لِلْأَمْرِ صِحَّةٌ بِدُونِ تَقْدِيمِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِ لِقِيَامِ وُجُوبِ الْعِدَّةِ. لِأَنَّا نَقُولُ: لَا أَثَرَ لِقِيَامِ الْعِدَّةِ فِي تَصْحِيحِهِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهَا اعْتِدَادٌ لِهَذَا الْكَلَامِ أَثَرٌ فِي إيجَابِهِ وَوُجُوبُ هَذِهِ الْعِدَّةِ قَدْ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَهُ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ، ثُمَّ لِتَصْحِيحِ هَذَا الْكَلَامِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَدِّمَ الطَّلَاقَ عَلَيْهِ وَالْآخَرُ أَنْ يُجْعَلَ مُسْتَعَارًا لِلطَّلَاقِ عَلَى مَا مَرَّ وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِتَقْدِيمِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ لَوْ قُدِّمَ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا شَيْءٌ سِوَى تَتْمِيمِ تِلْكَ الْعِدَّةِ كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا صَرِيحًا فَيُجْعَلُ مُسْتَعَارًا لِلطَّلَاقِ تَصْحِيحًا لَهُ وَاحْتِرَازًا عَنْ الْغَايَةِ. وَلِهَذَا أَيْ وَلِكَوْنِ الطَّلَاقِ ثَابِتًا اقْتِضَاءً لَمْ يَصِحَّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ بَائِنًا؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَنْدَفِعُ بِالْوَاحِدَةِ الرَّجْعِيَّةِ فَلَا يُصَارُ إلَى الثَّلَاثِ وَالْبَائِنِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ قَوْلُهُ (وَمِثَالُ خِلَافِ الشَّافِعِيِّ) أَيْ مِثَالُ الْمُقْتَضِي الَّذِي يَجْرِي الْعُمُومُ فِيهِ عِنْدَهُ وَلَا يَجْرِي عِنْدَنَا قَوْلُهُ إنْ أَكَلْت فَعَبْدِي حُرٌّ أَوْ أَنْ شَرِبْت. وَنَوَى خُصُوصَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ أَيْ نَوَى طَعَامًا دُونَ طَعَامٍ أَوْ شَرَابًا دُونَ شَرَابٍ لَمْ يُصَدَّقْ أَصْلًا عِنْدَنَا لَا قَضَاءً وَلَا دِيَانَةً؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ اسْمٌ لِلْفِعْلِ وَالْمَأْكُولَ مَحَلُّ الْفِعْلِ وَاسْمُ الْفِعْلِ لَا يَكُونُ اسْمًا لِلْمَحَلِّ وَلَا دَلِيلًا عَلَيْهِ لُغَةً، إلَّا أَنَّ الْفِعْلَ لَا يَكُونُ بِدُونِ الْمَحَلِّ فَيَثْبُتُ الْمَحَلُّ مُقْتَضًى فَكَانَ ثَابِتًا فِي حَقِّ مَا يَلْفِظُ بِهِ مِنْ الْأَكْلِ دُونَ صِحَّةِ النِّيَّةِ إذْ هُوَ فِيمَا وَرَاءَ الْمَلْفُوظِ غَيْرُ ثَابِتٍ فَكَانَتْ النِّيَّةُ وَاقِعَةً فِي غَيْرِ الْمَلْفُوظِ فَتَلْغُو. ، وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْخُرُوجِ إذَا نَوَى مَكَانًا دُونَ مَكَان بِأَنْ نَوَى الْخُرُوجَ إلَى بَغْدَادَ مَثَلًا لَمْ يُصَدَّقْ قَضَاءً وَلَا دِيَانَةً؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ إنْ خَرَجْت وَإِنْ دَلَّ عَلَى الْمَصْدَرِ لُغَةً لَا يَتَنَاوَلُ مَكَانًا مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ ذَلِكَ مُقْتَضًى؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ

وَلَوْ قَالَ: إنْ اغْتَسَلَ اللَّيْلَةَ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَعَبْدِي حُرٌّ فَلَمْ يُسَمِّ الْفَاعِلَ وَنَوَى تَخْصِيصَ الْفَاعِلِ لَمْ يُصَدَّقْ عِنْدَنَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ إنْ اغْتَسَلَ أَحَدٌ أَوْ إنْ اغْتَسَلْت غُسْلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــQمَكَانًا لَا مَحَالَةَ فَلَا يَصِحُّ تَخْصِيصُهُ بِالنِّيَّةِ. وَكَذَا فِي مَسْأَلَةِ الِاغْتِسَالِ إذَا نَوَى تَخْصِيصَ الْأَسْبَابِ بِأَنْ قَالَ: عَنَيْت الِاغْتِسَالَ عَنْ الْجَنَابَةِ لَمْ يُصَدَّقْ قَضَاءً وَلَا دِيَانَةً. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهُ يُصَدَّقُ دِيَانَةً؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي الْمَصْدَرِ. وَلَنَا أَنَّهُ ذَكَرَ الْفِعْلَ وَلَمْ يَذْكُرْ السَّبَبَ وَإِنَّمَا ثَبَتَ السَّبَبُ مُقْتَضًى؛ لِأَنَّ الِاغْتِسَالَ يَقْتَضِي سَبَبًا وَلَا عُمُومَ لَهُ فَبَطَلَ. فَإِنْ قِيلَ: الْمَصْدَرُ فِي ذِكْرِ الْفِعْلِ مَذْكُورٌ لُغَةً فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ فَيَصِيرُ عَامًّا فَيَصِحُّ الْخُصُوصُ كَمَا لَوْ قَالَ إنْ خَرَجْت خُرُوجًا وَنَوَى خُرُوجًا دُونَ خُرُوجٍ أَنَّهُ يَصْدُقُ دِيَانَةً وَكَمَا لَوْ قَالَ: إنْ اغْتَسَلْت غُسْلًا اللَّيْلَةَ فَعَبْدِي حُرٌّ، ثُمَّ قَالَ عَنَيْت بِهِ الْجَنَابَةَ خَاصَّةً يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى قُلْنَا: نَعَمْ الْمَصْدَرُ وَهُوَ اغْتِسَالٌ مَذْكُورٌ لُغَةً لَا اقْتِضَاءً وَلَكِنَّهُ اسْمٌ يَرْجِعُ إلَى صِفَةِ الْفِعْلِ وَحَالِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ عُمُومٌ مِنْ قِبَلِ الْأَسْبَابِ وَالِاسْمُ الْمَوْضُوعُ لِلسَّبَبِ هُوَ الْغُسْلُ فَأَوْجَبَ الْعُمُومَ فِي الْأَسْبَابِ فَصَحَّ الْخُصُوصُ فِي ذَلِكَ وَفِي مَسْأَلَةِ الْخُرُوجِ نَوَى خُصُوصَ صِفَةِ الْفِعْلِ وَحَالَهُ فَلِذَلِكَ صَحَّ كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: إنْ اغْتَسَلْت اغْتِسَالًا وَنَوَى الِاغْتِسَالَ عَنْ جَنَابَةٍ يَجِبُ أَنْ لَا يُصَدَّقَ أَيْضًا وَلَوْ نَوَى اغْتِسَالًا فَرْضًا أَوْ نَفْلًا يَجِبُ أَنْ يُصَدَّقَ، إلَّا أَنَّهُ ذُكِرَ فِي بَعْضِ شُرُوحِ الْجَامِعِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ فَقِيلَ: وَلَا يُقَالُ: إنْ لَمْ يَصِحَّ يَعْنِي مَا نَوَى حَيْثُ إنَّهُ تَخْصِيصٌ يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُتَنَوِّعٌ إلَى نَقْلٍ وَفَرْضٍ وَتَبَرُّدٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّهُ غَيْرُهُ مُتَنَوِّعٌ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ غُسْلُ جَمِيعِ الْبَدَنِ لُغَةً وَتِلْكَ أَوْصَافٌ زَائِدَةٌ لَا يَتَنَاوَلُهَا اللَّفْظُ وَالنِّيَّةُ تَعْمَلُ فِيمَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ لُغَةً لَا فِي غَيْرِهِ. وَذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الْبُرْهَانِيِّ إذَا قَالَ: إنْ اغْتَسَلْت اغْتِسَالًا صَحَّتْ نِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ يَقُومُ مَقَامَ الِاسْمِ وَلِلِاسْمِ عُمُومٌ فَقَدْ نَوَى الْخُصُوصَ مِنْ الْعُمُومِ فَيَصِحُّ نِيَّتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ إنْ اغْتَسَلْت؛ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ فِيهِ غَيْرُ مَذْكُورٍ فَلَا يَقُومُ مَقَامَ الِاسْمِ. وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ مَذْكُورٌ مَعْنًى إنْ لَمْ يُذْكَرْ صَرِيحًا؛ لِأَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْفِعْلِ لَا فِي إقَامَتِهِ مَقَامَ الِاسْمِ فَصَارَ فِي حَقِّ إقَامَتِهِ مَقَامَ الِاسْمِ كَأَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ. وَلَوْ قَالَ: إنْ اغْتَسَلَ اللَّيْلَةَ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَكَذَا أَوْ نَوَى تَخْصِيصَ الْفَاعِلِ بِأَنْ قَالَ عَنَيْت فُلَانًا دُونَ غَيْرِهِ لَمْ يَصْدُقْ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْفَاعِلَ مَذْكُورٌ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ لَا مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ؛ لِأَنَّ الصِّيغَةَ مَبْنِيَّةٌ لِلْمَفْعُولِ لَا دَلَالَةَ لَهَا عَلَى الْفَاعِلِ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ أَصْلًا فَبَطَلَ نِيَّةُ التَّخْصِيصِ. وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا خِلَافُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ لِلْمُقْتَضِي عُمُومًا عِنْدَهُ فَيَقْبَلُ التَّخْصِيصَ. بِخِلَافِ قَوْلِهِ إنْ اغْتَسَلَ أَحَدٌ فَإِنَّهُ إذَا نَوَى فِيهِ تَخْصِيصَ الْفَاعِلِ يَصْدُقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً؛ لِأَنَّ الْفَاعِلَ مَذْكُورٌ وَهُوَ نَكِرَةٌ وَقَعَتْ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ فِي مَعْنَى النَّفْيِ فَعَمَّتْ فَقَبِلَتْ التَّخْصِيصَ. وَكَذَا إذَا قَالَ اغْتَسَلْت غُسْلًا وَنَوَى غُسْلَ الْجَنَابَةِ يَصْدُقُ دِيَانَةً؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ اسْمٌ لِلْفِعْلِ وُضِعَ لَهُ مِنْ قِبَلِ أَسْبَابِهِ وَلَيْسَ بِمَصْدَرٍ، وَقَدْ وَقَعَ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ

وَقَدْ يُشْكِلُ عَلَى السَّامِعِ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمُقْتَضِي وَبَيْنَ الْمَحْذُوفِ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَارِ وَهُوَ ثَابِتٌ لُغَةً وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَا اقْتَضَى غَيْرَهُ ثَبَتَ عِنْدَ صِحَّةِ الِاقْتِضَاءِ وَإِذَا كَانَ مَحْذُوفًا فَقُدِّرَ مَذْكُورًا انْقَطَعَ عَنْ الْمَذْكُورِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمُنْكَرًا فَصَحَّ الْقَوْلُ بِتَخْصِيصٍ لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ إذْ الظَّاهِرُ لِلْعُمُومِ فَلَا يَصْدُقُ قَضَاءً. فَصَارَ أَصْلُ هَذَا الْفَصْلِ مَا أُشِيرَ إلَيْهِ فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ أَنَّ نِيَّةَ التَّخْصِيصِ فِي غَيْرِ الْمَلْفُوظِ لَغْوٌ فَإِذَا ذَكَرَ الْفِعْلَ وَنَوَى التَّخْصِيصَ فِي الْمَفْعُولِ بِهِ كَمَا ذَكَرْنَا أَوْ الْوَقْتَ كَمَا إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَأَرَادَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. أَوْ الْحَالَ كَمَا إذَا قَالَ لِرَجُلٍ قَائِمٍ لَا أُكَلِّمُ هَذَا الرَّجُلَ وَأَرَادَ حَالَ قِيَامِهِ. أَوْ الصِّفَةَ كَمَا إذَا قَالَ لَا أَتَزَوَّجُ امْرَأَةً وَأَرَادَ امْرَأَةً كُوفِيَّةً أَوْ بَصْرِيَّةً كَانَتْ نِيَّتُهُ لَغْوًا. وَلَا يُقَالُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ: يَحْنَثُ بِكُلِّ طَعَامٍ وَكُلِّ شَرَابٍ وَكُلِّ مَكَان وَلَوْ كَانَ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ حَصَلَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ بِالْجَمْعِ وَهَذَا آيَةُ الْعُمُومِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لَيْسَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْعُمُومِ بَلْ لِحُصُولِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَوْ تَصَوَّرَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ بِدُونِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْمَكَانِ لَحَصَلَ الْحِنْثُ أَيْضًا وَهُوَ كَالْوَقْتِ وَالْحَالِ فَإِنَّهُ لَوْ أَكَلَ وَهُوَ خَارِجُ الدَّارِ أَوْ دَاخِلُهَا أَوْ رَاكِبٌ أَوْ رَاجِلٌ يَحْنَثُ لَا لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَكِنْ لِحُصُولِ الْمَلْفُوظِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا فَكَذَا هَذَا. وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ مَسْأَلَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْخُرُوجِ مِنْ قَبِيلِ الْمُقْتَضَى عَلَى قَوْلِ مَنْ شَرَطَ فِي الْمُقْتَضَى أَنْ يَكُونَ أَمْرًا شَرْعِيًّا كَمَا أَشَارَ الشَّيْخُ إلَيْهِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَحْذُوفِ فَقَالَ: فَأَمَّا الِاقْتِضَاءُ فَأَمْرٌ شَرْعِيٌّ ضَرُورِيٌّ وَكَمَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَثُبُوتُ الْمُقْتَضَى شَرْعًا لَا لُغَةً مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ لِافْتِقَارِ الْأَكْلِ إلَى الطَّعَامِ وَالشُّرْبِ إلَى الشَّرَابِ وَالْخُرُوجُ إلَى الْمَكَانِ لَا يُسْتَفَادُ مِنْ الشَّرْعِ بَلْ يَعْرِفُهُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الشَّرْعَ أَصْلًا، إلَّا أَنْ يُقَالَ الْمُقْتَضَى هُوَ الَّذِي ثَبَتَ ضَرُورَةً تَصْحِيحُ الْكَلَامِ شَرْعًا أَوْ عَقْلًا لَا لُغَةً كَمَا ذَكَرَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ فِي مُصَنَّفِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْمُقْتَضَى هُوَ الَّذِي لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَلَا يَكُونُ مَنْطُوقًا بِهِ لَكِنْ يَكُونُ مِنْ ضَرُورَةِ اللَّفْظِ. أَمَّا مِنْ حَيْثُ يَمْتَنِعُ وُجُودُ الْمَلْفُوظِ شَرْعًا، إلَّا بِهِ كَقَوْلِهِ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي. أَوْ يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ عَقْلًا بِدُونِهِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] فَإِنَّهُ يَقْتَضِي إضْمَارَ الْفِعْلِ وَهُوَ الْوَطْءُ أَوْ النِّكَاحُ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْأَعْيَانِ بَلْ لَا يُعْقَلُ تَعَلُّقُهَا، إلَّا بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ. أَوْ يَمْتَنِعُ كَوْنُ الْمُتَكَلِّمِ صَادِقًا، إلَّا بِهِ مِثْلُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» فَحِينَئِذٍ يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ مِنْ بَابِ الِاقْتِضَاءِ لَكِنْ لَا يَتَحَقَّقُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُقْتَضَى وَالْمَحْذُوفِ إذْ ذَاكَ؛ لِأَنَّ الْمُقَدَّرَ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ نَظَائِرِ الْمَحْذُوفِ ثَابِتٌ بِدَلَالَةِ الْعَقْلِ أَيْضًا فَيَصِيرُ الْمُقْتَضَى وَالْمَحْذُوفُ قِسْمًا وَاحِدًا وَهُوَ خِلَافُ مَا اخْتَارَهُ الشَّيْخُ عَلَى أَنَّ كَوْنَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مِنْ الِاقْتِضَاءِ مَمْنُوعٌ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ أَيْضًا فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي تِلْكَ النُّسْخَةِ أَنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ لَيْسَتْ مِنْ قَبِيلِ الْمُقْتَضَى؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُتَعَدِّي يَدُلُّ عَلَى الْمَفْعُولِ بِصِيغَتِهِ وَوَضْعِهِ لُغَةً فَأَمَّا الْمُقْتَضِي فَإِنَّمَا يُثْبِتُ ضَرُورَةَ صِدْقِ الْكَلَامِ أَوْ ضَرُورَةَ وُجُودِ الْمَذْكُورِ. قَوْلُهُ (وَقَدْ يُشْكِلُ عَلَى السَّامِعِ) إلَى آخِرِهِ اعْلَمْ أَنَّ عَامَّةَ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ

مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أَنَّ الْأَهْلَ مَحْذُوفٌ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ لُغَةً لِعَدَمِ الشُّبْهَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَتَى ذَكَرَ الْأَهْلَ انْتَقَلَتْ الْإِضَافَةُ عَنْ الْقَرْيَةِ إلَى الْأَهْلِ وَالْمُقْتَضِي لِتَحْقِيقِ الْمُقْتَضَى لَا لِنَقْلِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ جَعَلُوا الْمَحْذُوفَ مِنْ بَابِ الْمُقْتَضِي وَلَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَهُمَا فَقَالُوا: هُوَ جَعْلُ غَيْرِ الْمَنْطُوقِ مَنْطُوقًا لِتَصْحِيحِ الْمَنْطُوقِ وَأَنَّهُ يَشْمَلُ الْجَمِيعَ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي عُمُومِهِ فَذَهَبَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا إلَى انْتِفَاءِ الْعُمُومِ عَنْهُ وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَعَامَّةُ أَصْحَابِهِ إلَى الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ وَالْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَابَعَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَجَعَلَ الْكُلَّ قِسْمًا وَاحِدًا فَقَالَ: الْمُقْتَضَى زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ لَمْ يَتَحَقَّقْ مَعْنَى النَّصِّ بِدُونِهَا فَاقْتَضَاهَا النَّصُّ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَاهُ وَلَا يَلْغُو فَفِي تَعْرِيفِهِ هَذَا دَخَلَ الْمَحْذُوفُ أَيْضًا ثُمَّ قَالَ وَمِثَالُهُ قَوْله تَعَالَى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أَيْ أَهْلَهَا اقْتِضَاءً لِأَنَّ السُّؤَالَ لِلتَّبْيِينِ فَاقْتَضَى مُوجِبُ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ يَكُونَ الْمَسْئُولُ مِنْ أَهْلِ الْبَيَانِ لِيُفِيدَ فَثَبَتَ الْأَهْلُ اقْتِضَاءً لِيُفِيدَ قَالَ: وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَعَيْنُهَا غَيْرُ مَرْفُوعٍ فَاقْتَضَى ضَرُورَةَ زِيَادَةٍ وَهُوَ الْحُكْمُ لِيَصِيرَ مُفِيدًا وَصَارَ الْمَرْفُوعُ حُكْمَهَا وَثَبَتَ رَفْعُ الْحُكْمِ عَامًّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْمُؤَاخَذَةُ فِي الْآخِرَةِ وَالصِّحَّةُ فِي الدُّنْيَا وَعِنْدَنَا إنَّمَا يَرْتَفِعُ حُكْمُ الْآخِرَةِ لَا غَيْرُ لِأَنَّ بِذَا الْقَدْرِ يَصِيرُ مُفِيدًا فَتَزُولُ الضَّرُورَةُ. قَالَ: وَقَالَ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَالْمُرَادُ حُكْمُ الْأَعْمَالِ فَإِنْ عَيَّنَهَا تَثْبُتُ بِلَا نِيَّةٍ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَتَعَلَّقُ كُلُّ حُكْمٍ بِالنِّيَّةِ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ وَعِنْدَنَا لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا حُكْمُ الْآخِرَةِ مِنْ الثَّوَابِ فَإِنَّهُ مُرَادٌ بِالْإِجْمَاعِ وَلَمَّا ثَبَتَ هَذَا مُرَادًا وَصَارَ الْكَلَامُ مُفِيدًا لَمْ يَتَعَدَّ إلَى مَا وَرَائِهِ كَأَنَّهُ قَالَ: ثَوَابُ الْأَعْمَالِ بِالنِّيَّاتِ ثُمَّ الشَّيْخُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا رَأَى أَنَّ الْعُمُومَ مُتَحَقِّقٌ فِي بَعْضِ أَفْرَادِ هَذَا النَّوْعِ مِثْلُ قَوْلِهِ: طَلِّقِي نَفْسَك وَإِنْ خَرَجْت فَعَبْدِي حُرٌّ عَلَى مَا ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا سَلَكَ طَرِيقَةً أُخْرَى وَفَصَلَ بَيْنَ مَا يَقْبَلُ الْعُمُومَ وَمَا لَا يَقْبَلُهُ وَجَعَلَ مَا يَقْبَلُ الْعُمُومَ قِسْمًا آخَرَ غَيْرَ الْمُقْتَضَى وَسَمَّاهُ مَحْذُوفًا وَوَضَعَ عَلَامَةً تَمَيَّزَ بِهَا الْمَحْذُوفُ عَنْ الْمُقْتَضَى فَقَالَ وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى السَّامِعِ الْفَصْلُ أَيْ يَتَحَقَّقُ الِاشْتِبَاهُ عَلَيْهِ فِي الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُقْتَضَى وَبَيْنَ الْمَحْذُوفِ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَارِ أَيْ الشَّيْءِ الَّذِي حُذِفَ لِأَجْلِ الِاخْتِصَارِ وَلَكِنَّهُ ثَابِتٌ لُغَةً وَآيَةُ ذَلِكَ أَيْ عَلَامَةُ الْفَصْلِ وَالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الَّذِي اقْتَضَى غَيْرَهُ وَهُوَ الَّذِي نُسَمِّيهِ مُقْتَضِيًا ثَبَتَ عِنْدَ صِحَّةِ الِاقْتِضَاءِ أَيْ تَقَرَّرَ عِنْدَ التَّصْرِيحِ بِالْمُقْتَضَى وَإِذَا كَانَ مَحْذُوفًا أَيْ إذَا كَانَ الشَّيْءُ مَحْذُوفًا فَقُدِّرَ مَذْكُورًا انْقَطَعَ عَنْ الْمَذْكُورِ أَيْ انْقَطَعَ مَا أُضِيفَ إلَى الْمَذْكُورِ وَتَعَلَّقَ بِهِ عَنْهُ وَانْتَقَلَ أَيْ الْمُقَدَّرُ لِعَدَمِ الشُّبْهَةِ أَيْ لِعَدَمِ الِاشْتِبَاهِ وَالِالْتِبَاسِ يَعْنِي الْحَذْفُ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كَانَ فِي الْبَاقِي دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ مُلْبِسًا وَلَيْسَ هُنَا الْتِبَاسٌ فَجَازَ الْحَذْفُ. ثُمَّ اسْتَوْضَحَ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمَحْذُوفِ لَا مِنْ قَبِيلِ الْمُقْتَضِي وَأُدْرِجَ فِيهِ الدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فَقَالَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ مَتَى ذُكِرَ الْأَهْلُ أَيْ صُرِّحَ بِهِ انْتَقَلَتْ الْإِضَافَةُ أَيْ إضَافَةُ السُّؤَالِ إلَى الْقَرْيَةِ عَنْهَا إلَى الْأَهْلِ فَكَانَ مِنْ قَبِيلِ الْمَحْذُوفِ دُونَ الْمُقْتَضِي لِأَنَّ الْمُقْتَضِي لِتَحْقِيقِ الْمُقْتَضَى وَتَقْرِيرِهِ لَا لِنَقْلِهِ أَيْ نَقْلِ الْمُقْتَضِي عَنْ الْمَذْكُورِ إلَى الْمَحْذُوفِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ يَتَقَرَّرُ الْكَلَامُ بَعْدَ إظْهَارِ الْمَحْذُوفِ أَيْضًا مِثْلُ تَقَرُّرِهِ فِي الِاقْتِضَاءِ كَمَا فِي

وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «رُفِعَ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» لَمَّا اسْتَحَالَ ظَاهِرُهُ كَانَ الْحُكْمُ مُضْمَرًا مَحْذُوفًا حَتَّى إذَا ظَهَرَ الْمُضْمَرُ انْتَقَلَ الْفِعْلُ عَنْ الظَّاهِرِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» فَلَمْ يَسْقُطْ عُمُومُ الْحَدِيثِ مِنْ قِبَلِ الِاقْتِضَاءِ لَكِنْ لِأَنَّ الْمَحْذُوفَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ عَلَى مَا مَرَّ ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْله تَعَالَى {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} [البقرة: 60] أَيْ فَضَرَبَ فَانْشَقَّ الْحَجَرُ فَانْفَجَرَتْ. وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى} [يوسف: 19] أَيْ فَنَزَعَ فَرَأَى غُلَامًا مُتَعَلِّقًا بِالْحَبْلِ فَقَالَ: يَا بُشْرَى وَفِي نَظَائِرِهِ كَثْرَةٌ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا مِنْ بَابِ الِاقْتِضَاءِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَمْرٍ شَرْعِيٍّ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِهَذِهِ الْعَلَامَةِ قُلْنَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْعَلَامَةِ فِي جَانِبِ الْمُقْتَضِي وَهُوَ التَّقَرُّرُ عِنْدَ التَّصْرِيحِ بِهِ لَازِمٌ وَذَلِكَ فِي جَانِبِ الْمَحْذُوفِ غَيْرُ لَازِمٍ فَإِنَّ الْكَلَامَ عِنْدَ التَّصْرِيحِ بِهِ وَقَدْ يَتَقَرَّرُ وَقَدْ لَا يَتَقَرَّرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] فَبِلُزُومِهِ فِي الْمُقْتَضِي وَعَدَمِ لُزُومِهِ فِي الْمَحْذُوفِ يَتَحَقَّقُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَفِيهِ ضَعْفٌ سَنُبَيِّنُهُ وَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمَحْذُوفَ أَمْرٌ لُغَوِيٌّ وَالْمُقْتَضِي أَمْرٌ شَرْعِيٌّ قَوْلُهُ (وَمِثْلُهُ) أَيْ مِثْلُ الْمَحْذُوفِ يَعْنِي مِنْ نَظَائِرِهِ أَوْ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] . قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» لَمَّا اسْتَحَالَ ظَاهِرُهُ أَيْ الْعَمَلُ بِظَاهِرِهِ وَإِجْرَاؤُهُ عَلَيْهِ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي رَفْعَهَا بِالْكُلِّيَّةِ عَنْ جَمِيعِ الْأُمَّةِ لِكَوْنِ الْأُمَّةِ عِبَارَةً عَنْ جَمِيعِ مَنْ آمَنَ بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكَوْنِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ لِلْمَاهِيَّةِ أَوْ لِلِاسْتِغْرَاقِ إذْ لَا عَهْدَ بِالْإِجْمَاعِ وَالْعَمَلُ بِهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِإِفْضَائِهِ إلَى الْكَذِبِ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ ضَرُورَةَ تَحَقُّقِهَا فِي حَقِّ الْأُمَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ شَيْءٍ يُمْكِنُ إضَافَةُ الرَّفْعِ إلَيْهِ تَصْحِيحًا لِلْكَلَامِ وَهُوَ الْحُكْمُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ هَذَا الْكَلَامُ لِأَنَّ تَصَرُّفَ صَاحِبِ الشَّرْعِ فِي الْأَحْكَامِ وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ وَهُوَ الْمُقَدَّرُ كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْمَحْذُوفِ لَا مِنْ قَبِيلِ الْمُقْتَضِي لِتَغَيُّرِ ظَاهِرِ الْكَلَامِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّصْرِيحِ بِهِ مِنْ انْتِقَالِ الْفِعْلِ وَهُوَ الرَّفْعُ عَنْ الظَّاهِرِ وَهُوَ الْخَطَأُ وَاخْتَارَهُ إلَيْهِ وَمَعْنَى جَمْعِ الشَّيْخِ بَيْنَ الْمُضْمَرِ وَالْمَحْذُوفِ فِي قَوْلِهِ كَانَ الْحُكْمُ مُضْمَرًا مَحْذُوفًا مَعَ تَحَقُّقِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ أَنَّ الْمُضْمَرَ مَا لَهُ أَثَرٌ فِي الْكَلَامِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ} [يس: 39] وَالْمَحْذُوفُ لَا أَثَرَ لَهُ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] هُوَ أَنَّ بَعْضَ الْأُصُولِيِّينَ سَمَّوْا هَذَا النَّوْعَ مُضْمَرًا وَقَدْ سَمَّاهُ الشَّيْخُ مَحْذُوفًا فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا إشَارَةً إلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ ذَلِكَ النَّوْعَ لَا غَيْرَهُ وَإِلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِيمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَيْ وَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أَوْ وَمِثْلُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» فِي أَنَّ الْمُقَدَّرَ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الْمَحْذُوفِ لَا مِنْ قَبِيلِ الْمُقْتَضِي وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِظَاهِرِهِ لَمَّا اقْتَضَى أَنْ لَا يُوجَدَ عَمَلٌ بِلَا نِيَّةٍ لِدُخُولِ اللَّامِ الْمُسْتَغْرِقِ لِلْجِنْسِ فِي الْأَعْمَالِ ثُمَّ الْحُكْمُ بِأَنَّهَا تَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ وَقَدْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهِ لِتَأْدِيَتِهِ إلَى الْكَذِبِ الَّذِي هُوَ مُسْتَحِيلٌ فِي كَلَامِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِتَحَقُّقِ كَثِيرٍ مِنْ الْأَعْمَالِ بِدُونِ النِّيَّةِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إدْرَاجِ شَيْءٍ يَصِحُّ بِهِ الْكَلَامُ وَيُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ وَهُوَ الْحُكْمُ أَوْ الِاعْتِبَارُ وَعَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ يَتَغَيَّرُ الْكَلَامُ لِأَنَّ الْحُكْمَ حِينَئِذٍ يَصِيرُ هُوَ الْمُبْتَدَأُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ وَيَرْتَفِعُ بِالِابْتِدَاءِ وَيَنْجَرُّ لَفْظُ الْأَعْمَالِ الَّذِي كَانَ مَرْفُوعًا بِالِابْتِدَاءِ وَمَحْكُومًا عَلَيْهِ بِالْإِضَافَةِ فَكَانَ مِنْ قَبِيلِ الْمَحْذُوفِ لَا مِنْ

وَمَا حُذِفَ اخْتِصَارًا وَهُوَ ثَابِتٌ لُغَةً كَانَ عَامًّا بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ الِاخْتِصَارَ أَحَدُ طَرِيقَيْ اللُّغَةِ فَأَمَّا الِاقْتِضَاءُ فَأَمْرٌ شَرْعِيٌّ ضَرُورِيٌّ مِثْلُ تَحْلِيلِ الْمَيْتَةِ بِالضَّرُورَةِ فَلَا يَزِيدُ عَلَيْهَا ـــــــــــــــــــــــــــــQقَبِيلِ الْمُقْتَضِي. وَلَمَّا سَلَكَ الشَّيْخُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ لَزِمَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ بِعُمُومِ الْمُقَدَّرِ وَهُوَ الْحُكْمُ فِي الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّهُ ثَابِتٌ لُغَةً لَا اقْتِضَاءً فَكَانَ مِثْلَ الْمُصَرَّحِ بِهِ وَلَوْ صُرِّحَ بِهِ لَوَجَبَ الْقَوْلُ بِعُمُومِهِ أَوْ بِإِطْلَاقِهِ فَكَذَا هَذَا ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَقُلْ بِهِ وَقَدْ اتَّفَقَ مَشَايِخُنَا أَنَّ الْقَوْلَ بِعُمُومِهِ لَا يَجُوزُ فَثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الِاقْتِضَاءِ إذْ لَيْسَ مَانِعٌ مِنْ الْعُمُومِ غَيْرَهُ فَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: سُقُوطُ عُمُومِهِ لَيْسَ مِنْ قِبَلِ الِاقْتِضَاءِ وَلَكِنَّهُ مِنْ قِبَلِ الِاشْتِرَاكِ فَإِنَّ الِاشْتِرَاكَ لَا يَقْبَلُ الْعُمُومَ أَيْضًا كَالْمُقْتَضِي عِنْدَنَا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ عُمُومِهِ كَوْنُهُ مِنْ بَابِ الِاقْتِضَاءِ وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ الِاشْتِرَاكِ فِيهِ فِي بَابِ مَا يُتْرَكُ بِهِ الْحَقِيقَةُ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُقْتَضِي وَالْمَحْذُوفِ وَأَمَّا مَا حُذِفَ اخْتِصَارًا كَانَ عَامًّا أَيْ يَقْبَلُ الْعُمُومَ لِأَنَّ الِاخْتِصَارَ أَحَدُ طَرِيقَيْ اللُّغَةِ فَكَانَ الْمُخْتَصَرُ ثَابِتًا لَفْظًا وَالْعُمُومُ مِنْ أَوْصَافِ اللَّفْظِ بِخِلَافِ الْمُقْتَضِي فَإِنَّهُ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ ثَبَتَ ضَرُورَةً وَإِنَّهَا تَنْدَفِعُ بِالْخَاصِّ فَلَا يُصَارُ إلَى الْعُمُومِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ الشَّيْءِ بِلَا دَلِيلٍ هَذَا بَيَانُ الطَّرِيقَةِ الَّتِي اخْتَارَهَا الشَّيْخُ هَاهُنَا وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَعَامَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَقَدْ اخْتَارَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ طَرِيقَةَ الْمُتَقَدِّمِينَ كَمَا هُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي فِي التَّقْوِيمِ. وَمَنْ سَلَكَ تِلْكَ الطَّرِيقَةَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُجِيبَ عَنْ كَلَامِ الْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنْ يَقُولَ: الْعَلَامَةُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا لَا يَصْلُحُ فَارِقَةً بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُقْتَضِي قَدْ يَتَغَيَّرُ أَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي يَتَغَيَّرُ بِالتَّصْرِيحِ بِالْمُقْتَضِي وَهُوَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ الْعَبْدُ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ مِلْكًا لِلْمَأْمُورِ بَلْ يَصِيرُ مِلْكًا لِلْأَمْرِ وَصَارَ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدِي عَنِّي وَهَذَا تَغْيِيرٌ وَكَذَا فِي قَوْلِهِ إنْ اغْتَسَلَ اللَّيْلَةَ فِي الدَّارِ فَكَذَا يَتَغَيَّرُ الْفِعْلُ وَالْمُسْنَدُ إلَيْهِ بِتَصْرِيحِ الْمُقْتَضِي وَهُوَ الْفَاعِلُ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ اقْتِضَاءً عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّيْخُ. وَفِي الْمَحْذُوفِ قَدْ لَا يَتَغَيَّرُ الْكَلَامُ بَعْدَ إظْهَارِهِ كَمَا بَيَّنَّا فِي قَوْله تَعَالَى {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} [البقرة: 60] وَأَمْثَالِهِ وَكَمَا فِي قَوْلِهِ إنْ خَرَجْت فَعَبْدِي حُرٌّ فَإِنَّ الْمَصْدَرَ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الْمَحْذُوفِ حَتَّى صَحَّ فِيهِ نِيَّةُ التَّخْصِيصِ لِوُقُوعِهِ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ الْكَلَامُ بِتَصْرِيحِهِ وَمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْجَوَابِ لَا يُغْنِي شَيْئًا لِأَنَّهُ لَوْ وُجِدَ كَلَامٌ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى إضْمَارٍ وَلَا يَتَغَيَّرُ الْكَلَامُ بِتَصْرِيحِهِ لَا يُعْرَفُ بِلُزُومِ تَقَرُّرِ الْكَلَامِ فِي الْمُقْتَضِي وَعَدَمِ لُزُومِهِ فِي الْمَحْذُوفِ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْ أَيِّ الْقِسْمَيْنِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي التَّقَرُّرِ وَإِنْ امْتَازَ أَحَدُهُمَا لِجَوَازِ التَّغَيُّرِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يُجْعَلُ الْكُلُّ بَابًا وَاحِدًا وَكَذَا الْمُقَدَّرُ فِي الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْحَذْفِ الَّذِي بَيَّنْتُمُوهُ لِأَنَّ الْكَلَامَ بِدُونِهِ مُفِيدٌ لِلْمَعْنَى لُغَةً وَلِهَذَا لَوْ صَدَرَ مِثْلُهُ عَنْ غَيْرِ الرَّسُولِ لَمَا قُدِّرَ فِيهِ شَيْءٌ بَلْ يُحْمَلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا فَعَلَى الْكَذِبِ وَإِنَّمَا قَدَّرَ فِيهِمَا مَا ذَكَرْنَا ضَرُورَةَ صِدْقِ الرَّسُولِ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ اللُّغَةِ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الِاقْتِضَاءِ مَعَ ذَلِكَ التَّغَيُّرِ. وَقَوْلُكُمْ الْمُقْتَضِي لِتَصْحِيحِ الْمُقْتَضَى وَتَقْرِيرِهِ فَلَا يَصْلُحُ مُغَيِّرًا لَهُ مُسَلَّمًا وَلَكِنَّ الْمُقْتَضِي لِتَصْحِيحِ

وَلِهَذَا قُلْنَا فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى بِهِ الثَّلَاثَ: إنَّ نِيَّتَهُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ نَعْتُ الْمَرْأَةِ وَالطَّلَاقَ الْوَاقِعَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ اقْتِضَاءً لَكِنَّهُ ضَرُورِيٌّ لَا عُمُومَ لَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَجْمُوعِ الْكَلَامِ وَتَقْوِيمِ مَعْنَاهُ لَا لِإِفْرَادِ كَلِمَاتِهِ وَذَلِكَ حَاصِلٌ مَعَ التَّغَيُّرِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ فَلَا يَكُونُ مُبْطِلًا لَهُ بَلْ يَكُونُ مُقَرِّرًا وَمُصَحِّحًا وَأَمَّا الْمَسَائِلُ الَّتِي صَحَّتْ فِيهَا نِيَّةُ الْعُمُومِ وَهِيَ الَّتِي حَمَلَتْكُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ فَلَيْسَتْ مِنْ بَابِ الِاقْتِضَاءِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَيْضًا لِأَنَّ الْمَصْدَرَ فِي قَوْلِهِ: طَلِّقِي نَفْسَك مَثَلًا لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ وَلَا غَيْرَ مَذْكُورٍ بَلْ مَعْنَاهُ افْعَلِي فِعْلَ التَّطْلِيقِ وَالْكَلَامَانِ يُنْبِئَانِ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَوْجَزُ مِثْلُ الْأَسَدِ وَالْغَضَنْفَرِ فَكَانَ الْمَصْدَرُ مَذْكُورًا فَيَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ التَّعْمِيمِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَحْذُوفَ عِنْدَ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْمُقْتَضِي عُرِّفَ الْمُقْتَضَى بِتَعْرِيفٍ دَخَلَ فِيهِ الْمَحْذُوفُ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَوَافَقَهُ الشَّيْخُ فِي التَّعْرِيفِ وَلَكِنْ لَمَّا خَالَفَهُ فِي الْمَحْذُوفِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَزِيدَ فِي التَّعْرِيفِ قَيْدًا يَنْفَصِلُ بِهِ الْمُقْتَضِي مِنْ الْمَحْذُوفِ لِيَصِيرَ بِهِ الْحَدُّ مَانِعًا بِأَنْ يَقُولَ: وَأَمَّا الْمُقْتَضَى فَزِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ ثَبَتَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ شَرْعًا أَوْ نَحْوِهِ وَإِلَّا فَلَمْ يَسْتَقِمْ الْحَدُّ وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ الْمُقْتَضَى عِبَارَةٌ عَنْ زِيَادَةٍ ثَبَتَتْ شَرْطًا لِصِحَّةِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ وَلِأَنَّ الْمُقْتَضَى أَمْرٌ شَرْعِيٌّ ضَرُورِيٌّ قُلْنَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ طَلَّقْتُك وَنَوَى بِهِ الثَّلَاثَ بَطَلَتْ نِيَّتُهُ وَلَمْ يَقَعْ إلَّا وَاحِدَةٌ كَمَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُعْمِلُ نِيَّتَهُ وَيَقَعُ مَا نَوَى لِأَنَّ قَوْلَهُ طَالِقٌ يَقْتَضِي طَلَاقًا وَالْمُقْتَضَى بِمَنْزِلَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلتَّعْمِيمِ فَيَعْمَلُ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِيهِ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ وَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا أَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك أَوْ أَنْتِ بَائِنٌ وَنَوَى الثَّلَاثَ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّعْمِيمَ أَنَّهُ لَوْ أَلْحَقَ الثَّلَاثَ بِهِ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا صَحَّ ذَلِكَ وَكَانَ ثَلَاثًا مُنْتَصِبًا عَلَى التَّفْسِيرِ وَالتَّفْسِيرُ إنَّمَا يَقَعُ بِبَيَانٍ مُحْتَمَلِ اللَّفْظِ لَا بِغَيْرِهِ. وَكَذَا إذَا قِيلَ: فُلَانٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ صَحَّ الِاسْتِفْسَارُ عَنْ الْعَدَدِ فَيُقَالُ: كَمْ طَلَّقَهَا وَلَوْ لَمْ يَحْتَمِلْ الْعَدَدَ لَمَا اسْتَقَامَ الِاسْتِفْسَارُ وَلَنَا أَنَّهُ نَوَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ فَلَغَتْ نِيَّتُهُ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: زُورِي أَبَاك أَوْ حُجِّي وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَذْكُورَ وَهُوَ طَالِقٌ نَعْتُ الْمَرْأَةِ لَا اسْمُ الطَّلَاقِ وَهُوَ بِنَفْسِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ وَالتَّعْمِيمَ لِأَنَّهُ نَعْتُ فَرْدٍ وَالْفَرْدُ لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ بِوَجْهٍ لَا يُقَالُ لِلْمَثْنَى وَلِلثَّلَاثِ طَالِقٌ بَلْ يُقَالُ طَالِقَانِ وَطَوَالِقُ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ فَإِنَّ عِنْدَ الْخَصْمِ عَمَلَ النِّيَّةِ فِي الطَّلَاقِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ طَالِقٌ لَا فِي طَالِقٍ وَلَكِنَّ ذَلِكَ الطَّلَاقَ ثَبَتَ مُقْتَضًى لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ صَادِقًا فِي هَذَا الْوَصْفِ إلَّا بِوُقُوعِ طَلَاقٍ عَلَيْهَا سَابِقٍ لِيَصِحَّ الْوَصْفُ بِنَاءً عَلَيْهِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي إيقَاعًا مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ وَفِي تَصَرُّفِهِ ذَلِكَ فَأَثْبَتْنَاهُ لِيَتَحَقَّقَ هَذَا الْوَصْفُ مِنْهُ صِدْقًا وَإِذَا كَانَ ثَابِتًا اقْتِضَاءً كَانَ فِيمَا وَرَاءَهُ تَصْحِيحُ الْكَلَامِ فِي حُكْمِ غَيْرِ الْمَلْفُوظِ فَلَا تَعْمَلُ نِيَّةُ التَّعْمِيمِ فِيهِ لِأَنَّهَا لَا تَعْمَلُ إلَّا فِي الْمَلْفُوظِ. وَقَوْلُهُ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ نَعْتُ الْمَرْأَةِ أَيْ الْمَذْكُورَ وَصْفُهَا الَّذِي هُوَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلنِّيَّةِ لَا الطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ

لِأَنَّ الْمَذْكُورَ هِيَ الْمَرْأَةُ بِأَوْصَافِهَا وَقَدْ نَوَى عُمُومَ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ وَالْعِلْمُ مِنْ أَوْصَافِ النَّظْمِ وَلَمْ يَكُنْ الْمَصْدَرُ هَهُنَا ثَابِتًا لُغَةً لِأَنَّ النَّعْتَ يَدُلُّ عَلَى الْمَصْدَرِ الثَّابِتِ بِالْمَوْصُوفِ لُغَةً لِيَصِيرَ الْوَصْفُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِنَاءً عَلَيْهِ فَأَمَّا أَنْ يَصِيرَ الْوَصْفُ ثَابِتًا بِالْوَاصِفِ بِحَقِيقَتِهِ تَصْحِيحًا لِوَصْفِهِ فَأَمْرٌ شَرْعِيٌّ لَيْسَ بِلُغَوِيٍّ وَكَذَلِكَ ضَرَبْت بِنَاءً عَلَى مَصْدَرٍ مَاضٍ وَطَلَّقْتُك يُوجِبُ مَصْدَرًا مِنْ قِبَلِ الْمُتَكَلِّمِ فَكَانَ شَرْعِيًّا ـــــــــــــــــــــــــــــQالنِّيَّةِ وَالطَّلَاقُ الْوَاقِعُ بِهَذَا الْكَلَامِ ثَابِتٌ شَرْعًا مُقَدَّمًا عَلَى الْمَذْكُورِ اقْتِضَاءً لَا لُغَةً لِأَنَّ الْمَذْكُورَ هِيَ الْمَرْأَةُ بِأَوْصَافِهَا أَيْ بِوَصْفِهَا لَا الطَّلَاقُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَرْأَةِ وَطَالِقٌ عِبَارَةٌ عَنْ الْوَصْفِ وَالْمَرْأَةُ بِجَمِيعِ أَوْصَافِهَا لَيْسَتْ بِاسْمٍ لِلطَّلَاقِ وَلَا لِفِعْلِ الْإِيقَاعِ الَّذِي يَصْدُرُ مِنْ الزَّوْجِ وَلَا لِأَثَرِ الْفِعْلِ وَهُوَ الْوُقُوعُ فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهَا ثَابِتًا لُغَةً لَكِنَّهُ أَيْ لَكِنَّ الِاقْتِضَاءَ يَعْنِي الْمُقْتَضَى أَوْ لَكِنَّ الطَّلَاقَ الْوَاقِعَ ضَرُورِيٌّ لَا عُمُومَ لَهُ لِمَا مَرَّ فَلَمْ يَكُنْ الطَّلَاقُ ثَابِتًا فِي حَقِّ نِيَّةِ الثَّلَاثِ فَكَانَ نَاوِيًا عُمُومَ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ فَلَمْ يَصِحَّ وَقَدْ عَرَفْت بِهَذَا أَنَّ فِي كَلَامِ الشَّيْخِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا وَتَرْتِيبُهُ وَالطَّلَاقُ الْوَاقِعُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ الِاقْتِضَاءُ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ هِيَ الْمَرْأَةُ بِأَوْصَافِهَا لَا الطَّلَاقُ لَكِنَّ الِاقْتِضَاءَ ضَرُورِيٌّ لَا عُمُومَ لَهُ وَأَنَّهُ قَدْ نَوَى عُمُومَ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ فَلَمْ يَصِحَّ. وَقَوْلُهُ وَلَمْ يَكُنْ الْمَصْدَرُ هَاهُنَا أَيْ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَابِتًا لُغَةً جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الطَّلَاقَ ثَابِتٌ اقْتِضَاءً بَلْ هُوَ ثَابِتٌ لُغَةً كَمَا فِي قَوْلِهِ: طَلِّقِي نَفْسَك لِأَنَّ كُلَّ مُشْتَقٍّ اسْمًا كَانَ أَوْ فِعْلًا دَالٌّ عَلَى الْمَصْدَرِ لُغَةً فَكَانَ ثُبُوتُ الطَّلَاقِ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ فَيَصِحُّ نِيَّةُ التَّعْمِيمِ فِيهِ فَأَجَابَ وَقَالَ: نَعَمْ الْأَمْرُ كَمَا قُلْت إلَّا أَنَّ دَلَالَتَهُ لُغَةً عَلَى مَصْدَرٍ قَائِمٍ بِالْمَوْصُوفِ لِيَصِحَّ بِنَاءُ الْوَصْفِ عَلَيْهِ كَضَارِبٍ وَقَائِمٍ وَجَالِسٍ يَدُلُّ عَلَى الضَّرْبِ وَالْقِيَامِ وَالْجُلُوسِ فِي الذَّوَاتِ الْمَوْصُوفَةِ بِهَا لَا عَلَى الْمَصْدَرِ قَائِمٍ بِالْوَاصِفِ وَهَاهُنَا وَصَفَ الْمَرْأَةَ بِالطَّالِقِيَّةِ فَتَدُلُّ لُغَةً عَلَى طَلَاقٍ قَائِمٍ بِهَا هُوَ مَصْدَرٌ كَقَوْلِك طَلَّقْت الْمَرْأَةَ طَلَاقًا لَا عَلَى طَلَاقٍ قَائِمٍ بِالزَّوْجِ هُوَ بِمَعْنَى التَّطْلِيقِ وَإِنَّمَا ثَبَّتَ ذَلِكَ ضَرُورَةُ ثُبُوتِ الطَّلَاقِ فِي الْمَرْأَةِ فَكَانَ أَمْرًا شَرْعِيًّا لَا لُغَوِيًّا وَلِأَنَّ النَّعْتَ لُغَةً يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْوَصْفِ وَلَكِنْ لَا أَثَرَ لَهُ فِي إيجَادِهِ فَإِنَّ قَوْلَك ضَارِبٌ أَوْ جَالِسٌ مَثَلًا يَدُلُّ عَلَى قِيَامِ الضَّرْبِ وَالْجُلُوسِ بِالْمَوْصُوفِ وَلَكِنْ لَا أَثَرَ لَهُ فِي إثْبَاتِ الضَّرْبِ وَالْجُلُوسِ أَصْلًا بَلْ كَانَا ثَابِتَيْنِ كَانَ الْكَلَامُ صِدْقًا وَإِلَّا وَقَعَ كَذِبًا وَلَغْوًا وَهَاهُنَا يَثْبُتُ بِهَذَا الْكَلَامِ الطَّلَاقُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا أَصْلًا تَصْحِيحًا لَهُ فَكَانَ شَرْعِيًّا لَا لُغَوِيًّا. وَلَا يُقَالُ: أَنْتِ طَالِقٌ جُعِلَ إنْشَاءً فِي الشَّرْعِ وَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ إخْبَارًا وَصَارَ مَعْنَاهُ أُنْشِئُ الطَّلَاقَ فَلَمْ يَكُنْ ثُبُوتُ الطَّلَاقِ بِهِ مِنْ بَابِ الِاقْتِضَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ الْإِخْبَارِ لِأَنَّا نَقُولُ مَعْنَى صَيْرُورَتِهِ إنْشَاءً هُوَ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ ثُبُوتِ الطَّلَاقِ اقْتِضَاءً لَا غَيْرُ فَمِنْ حَيْثُ إنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا وَثَبَتَ بِهِ سُمِّيَ إنْشَاءً وَلَكِنَّ طَرِيقَ ثُبُوتِهِ مَا ذَكَرْنَا فَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ مَعْنَى الْإِخْبَارِ بِالْكُلِّيَّةِ وَلِهَذَا كَانَ جَعْلُهُ إنْشَاءً ضَرُورِيًّا حَتَّى لَوْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِكَوْنِهِ إخْبَارًا لَمْ يُجْعَلْ إنْشَاءً بِأَنْ قَالَ لِلْمُطَلَّقَةِ وَالْمَنْكُوحَةِ: أَحَدَيْكُمَا طَالِقٌ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فَعَرَفْنَا أَنَّ كَوْنَهُ إنْشَاءً مَبْنِيٌّ عَلَى الِاقْتِضَاءِ. وَكَذَلِكَ ضَرَبْت بِنَاءً عَلَى مَصْدَرٍ مَاضٍ يَعْنِي وَكَمَا أَنَّ النَّعْتَ يَدُلُّ عَلَى مَصْدَرٍ قَائِمٍ بِالْمَوْصُوفِ لَا بِالْوَاصِفِ كَذَا قَوْلُك ضَرَبْت يَدُلُّ عَلَى مَصْدَرٍ مَاضٍ لَا عَلَى مَصْدَرٍ ثَابِتٍ فِي الْحَالِ. وَقَوْلُهُ طَلَّقْتُك مَوْضُوعٌ عَلَى

وَأَمَّا الْبَائِنُ وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ فَمِثْلُ طَالِقٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نَعْتٌ مُقْتَضٍ لِلْوَاقِعِ غَيْرَ أَنَّ الْبَيْنُونَةَ يَتَّصِلُ بِالْمَرْأَةِ لِلْحَالِ وَلِاتِّصَالِهَا وَجْهَانِ انْقِطَاعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمِلْكِ وَانْقِطَاعٌ يَرْجِعُ إلَى الْحِلِّ فَتَعَدُّدُ الْمُقْتَضَى بِتَعَدُّدِ الْمُقْتَضِي عَلَى الِاحْتِمَالِ فَصَحَّ تَعْيِينُهُ وَأَمَّا طَالِقٌ لَا يَتَّصِلُ بِالْمَرْأَةِ لِلْحَالِ لِأَنَّ حُكْمَهُ فِي الْمِلْكِ مُعَلَّقٌ بِالشَّرْطِ وَحُكْمَهُ فِي الْحِلِّ مُعَلَّقٌ بِكَمَالِ الْعَدَدِ وَإِنَّمَا حُكْمُهُ لِلْحَالِ انْعِقَادُ الْعِلَّةِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَنَوِّعٍ فَلَمْ يَتَنَوَّعْ الْمُقْتَضَى إلَّا بِوَاسِطَةِ الْعَدَدِ فَيَصِيرُ الْعَدَدُ أَصْلًا ـــــــــــــــــــــــــــــQمِثَالِهِ فَبُدِّلَ عَلَى مَصْدَرٍ مَاضٍ لُغَةً لَا عَلَى مَصْدَرٍ فِي الْحَالِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْغُوَ لِأَنَّ التَّطْلِيقَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي لِيَصِحَّ بِنَاؤُهُ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ جُعِلَ إنْشَاءً شَرْعًا تَصْحِيحًا لَهُ وَأَوْجَبَ مَصْدَرًا مِنْ قِبَلِ الْمُتَكَلِّمِ فِي الْحَالِ فَكَانَ الْمَصْدَرُ الثَّابِتُ شَرْعِيًّا لَا لُغَوِيًّا فَلَمْ تَصِحَّ فِيهِ نِيَّةُ التَّعْمِيمِ لِثُبُوتِهِ اقْتِضَاءً 1 - قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْبَائِنُ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: إنَّ الْبَائِنَ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ بَائِنٌ نَعْتٌ مِثْلُ طَالِقٍ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ فَيَدُلُّ لُغَةً عَلَى قِيَامِ الْبَيْنُونَةِ بِالْمَوْصُوفِ لِيَصِحَّ بِنَاؤُهُ عَلَيْهِ وَهِيَ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً قَبْلَ التَّكَلُّمِ وَإِنَّمَا ثَبَتَتْ شَرْعًا بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ تَصْحِيحًا لَهُ ثُمَّ صَحَّتْ نِيَّةُ التَّعْمِيمِ فِيهَا عِنْدَكُمْ حَتَّى لَوْ نَوَى الثَّلَاثَ يَقَعُ فَلْيَكُنْ كَذَلِكَ فِي طَالِقٍ أَيْضًا لِأَنَّ الصَّرِيحَ أَقْوَى مِنْ الْكِنَايَةِ فَقَالَ: قَدْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْبَائِنَ وَمَا؛ يُشْبِهُهُ مِنْ الْكِنَايَاتِ كَالْخَلِيَّةِ وَالْبَرِّيَّةِ مِثْلُ طَالِقٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نَعْتٌ فَرْدٌ وَلَا دَلَالَةَ عَلَى الْعَدَدِ وَإِنَّ ثُبُوتَ الْبَيْنُونَةِ بِهِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ مِثْلُ ثُبُوتِ الطَّلَاقِ فِي طَالِقٍ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ مُقْتَضٍ لِلْوَاقِعِ. إلَّا أَنَّهُمَا افْتَرَقَا مِنْ حَيْثُ الْبَيْنُونَةُ الثَّابِتَةُ بِهِ وَإِنْ كَانَتْ ثَابِتَةً بِالِاقْتِضَاءِ تَتَّصِلُ بِالْمَرْأَةِ لِلْحَالِ أَيْ يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِي الْحَالِ حَتَّى حُرِّمَ الْوَطْءُ وَالدَّوَاعِي عَلَى الزَّوْجِ وَلِاتِّصَالِهَا وَجْهَانِ أَيْ وَلِثُبُوتِ الْبَيْنُونَةِ فِي الْمَحَلِّ اقْتِضَاءً طَرِيقَانِ ثُبُوتُ بَيْنُونَةٍ تَقْطَعُ الْمِلْكَ أَيْ الْحِلَّ الثَّابِتَ لِلزَّوْجِ فِي الْحَالِ وَثُبُوتُ بَيْنُونَةٍ تَقْطَعُ الْحِلَّ أَيْ حِلَّ الْمَحَلِّيَّةِ بِأَنْ لَا تَبْقَى الْمَرْأَةُ مَحَلًّا لِلنِّكَاحِ فِي حَقِّهِ فَكَانَ الثَّابِتُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ مُتَنَوِّعًا فِي نَفْسِهِ فَتَعَدَّدَ الْمُقْتَضِي حُكْمًا وَهُوَ قَوْلُهُ أَنْتِ بَائِنٌ بِوَاسِطَةِ تَعَدُّدِ الْمُقْتَضَى وَهُوَ الْبَيْنُونَةُ يَعْنِي صَارَ قَوْلُهُ أَنْتِ بَائِنٌ مُحْتَمِلًا لِلْبَيْنُونَتَيْنِ بِسَبَبِ انْقِسَامِ الْبَيْنُونَةِ إلَى كَامِلَةٍ وَنَاقِصَةٍ فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْكَامِلَةُ كَانَتْ هِيَ الثَّابِتَةُ اقْتِضَاءً دُونَ الثَّانِيَةِ وَمِنْ شَرْطِهَا وُقُوعُ الثَّلَاثِ وَإِلَيْهِ إثْبَاتُهُ فَتَضَمَّنَتْ شَرْطَهَا فَوَقَعَ الثَّلَاثُ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ النَّاقِصَةُ فَهِيَ تَثْبُتُ اقْتِضَاءً دُونَ الْأُولَى وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَى الِاحْتِمَالِ فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُثْبِتُ مُقْتَضًى لِلَّفْظِ وَمُحْتَمَلًا لَهُ فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ عَيَّنَ أَحَدَ مُحْتَمَلَيْهِ فَصَحَّ تَعْيِينُهُ وَإِذَا نَوَى مُطْلَقَ الْبَيْنُونَةِ تَعَيَّنَ الْأَدْنَى لِأَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ بِهِ وَأَمَّا طَالِقٌ فَلَا يَتَّصِلُ بِالْمَرْأَةِ لِلْحَالِ أَيْ فِي الْحَالِ وَاللَّامُ لِلْوَقْتِ أَيْ لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ وَأَثَرُهُ فِي الْحَالِ لِبَقَاءِ جَمِيعِ أَحْكَامِ النِّكَاحِ مِنْ حِلِّ الْوَطْءِ وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى. لِأَنَّ حُكْمَهُ فِي الْمِلْكِ أَيْ فِي إزَالَتِهِ مُعَلَّقٌ بِالشَّرْطِ وَهُوَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ أَوْ جَعْلُهُ بَائِنًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَحُكْمُهُ فِي الْحِلِّ أَيْ فِي إزَالَةِ حِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ مُعَلَّقٌ بِكَمَالِ الْعَدَدِ وَهُوَ إيقَاعُ الطَّلْقَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ وَإِنَّمَا حُكْمُهُ لِلْحَالِ أَيْ الثَّابِتِ فِي الْحَالِ وَلَفْظُ الْحُكْمِ تَوَسَّعَ انْعِقَادَ الْعِلَّةِ أَيْ انْعِقَادَ عِلَّةٍ تُوجِبُ الْحُكْمَ فِي أَوَانِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَثَرُهَا زَوَالُ الْمِلْكِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ زَوَالُ الْحِلِّ بِانْضِمَامِ مِثْلَيْهَا إلَيْهَا وَهَذَا الِانْعِقَادُ فِي ذَاتِهِ غَيْرُ مُتَنَوِّعٍ فَلَا تَعْمَلُ فِيهِ النِّيَّةُ وَلَوْ تَنَوَّعَ إنَّمَا يَتَنَوَّعُ بِوَاسِطَةِ الْعَدَدِ أَيْ إذَا أَرَدْت أَنْ تُقَسِّمَهُ عَلَى نَوْعَيْنِ لَا يُمْكِنُك ذَلِكَ إلَّا بِالْتِحَاقِ

إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: طَلِّقِي نَفْسَك صَحَّتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ هَهُنَا ثَابِتٌ لُغَةً لِأَنَّ الْأَمْرَ فِعْلٌ مُسْتَقْبَلٌ وُضِعَ لِطَلَبِ الْفِعْلِ فَكَانَ مُخْتَصَرًا مِنْ الْكَلَامِ عَلَى سَائِرِ الْأَفْعَالِ فَصَارَ مَذْكُورًا لُغَةً فَاحْتَمَلَ الْكُلَّ وَالْأَقَلَّ كَسَائِرِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ وَأَمَّا طَلَّقْت فَنَفْسُ الْفِعْلِ وَنَفْسُ الْفِعْلِ فِي حَالِ وُجُودِهِ لَا يَتَعَدَّدُ بِالْعَزِيمَةِ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ الرَّجُلِ إنْ خَرَجْت فَعَبْدِي حُرٌّ أَنَّهُ تَصِحُّ نِيَّةُ السَّفَرِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْفِعْلِ لُغَةً ذِكْرُ الْمَصْدَرِ فَأَمَّا الْمَكَانُ فَثَابِتٌ اقْتِضَاءً فَفَسَدَتْ نِيَّةُ مَكَان دُونَ مَكَان ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعَدَدِ بِهِ فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ نَفْسُ الطَّلَاقِ مُؤَثِّرًا فِي إزَالَةِ الْمِلْكِ وَالطَّلَاقُ الثَّلَاثُ مُؤَثِّرًا فِي إزَالَةِ الْحِلِّ مِثْلُ الْبَيْنُونَةِ الْخَفِيفَةِ وَالْغَلِيظَةِ وَإِذَا لَمْ يَنْقَسِمْ إلَّا بِوَاسِطَةٍ الْعَدَدِ صَارَ الْعَدَدُ فِي التَّنْوِيعِ وَإِزَالَةِ الْحِلِّ فَلَمْ يَثْبُتْ مُقْتَضًى لِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إذْ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى الْعَدَدِ بِخِلَافِ الْبَيْنُونَةِ لِأَنَّهَا مُتَنَوِّعَةٌ بِنَفْسِهَا فَيَصْلُحُ كُلُّ نَوْعٍ مُقْتَضًى لِقَوْلِهِ أَنْتِ بَائِنٌ. وَذَكَرَ فِي الطَّرِيقَةِ الْبُرْغَرِيَّةِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ وَلَا يَلْزَمُ إذَا قَالَ: أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ أَنْتِ حَرَامٌ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ نَعْتًا وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ الْبَيْنُونَةُ مُتَنَوِّعَةً إلَى خَفِيفَةٍ وَغَلِيظَةٍ وَهَذَا النَّعْتُ يَثْبُتُ بِإِحْدَى الْبَيْنُونَتَيْنِ كَانَ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ أَحَدَيْهِمَا فَإِذَا عَيَّنَ ثَبَتَ ذَلِكَ الْوَجْهُ اقْتِضَاءً وَصَارَ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبَيْنُونَةَ الْغَلِيظَةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِسَبَبِهَا وَهُوَ التَّطْلِيقَاتُ الثَّلَاثُ فَثَبَتَ الثَّلَاثُ اقْتِضَاءً أَيْضًا فَأَمَّا النَّعْتُ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِالطَّلَاقِ وَالطَّلَاقُ الْوَاحِدُ يُثْبِتُ هَذَا الْوَصْفَ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ ضَمُّ عَدَدٍ آخَرَ إلَيْهِ فَيَكُونُ تَعْمِيمُ الْمُقْتَضَى وَفِي الْبَائِنِ مَا أَثْبَتْنَا عُمُومَ الْبَيْنُونَةِ لِأَنَّا لَا نَجْمَعُ بَيْنَ الْبَيْنُونَةِ الْخَفِيفَةِ وَالْغَلِيظَةِ بَلْ تَثَبُّتُ أَحَدَيْهِمَا لِإِثْبَاتِ النَّعْتِ اقْتِضَاءً إلَّا أَنَّ ذَلِكَ الْمُقْتَضَى لَا يَثْبُتُ إلَّا بِسَبَبِهِ فَيَثْبُتُ بِسَبَبِهِ اقْتِضَاءً قَوْلُهُ (وَلِذَا قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ مِثَالًا لِعُمُومِ الْمَحْذُوفِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَتِمَّةِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بَيَانًا لِلْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ طَلَّقْتُك وَالْمَسَائِلُ الْمَذْكُورَةُ يَعْنِي قَوْلَهُ طَلِّقِي نَفْسَك يُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسَائِلِ حَيْثُ صَحَّتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِيهِ دُونَهَا لِأَنَّ الْمَصْدَرَ هَاهُنَا ثَابِتٌ لُغَةً لَا اقْتِضَاءً لِأَنَّ الْأَمْرَ فِعْلٌ مُسْتَقْبَلٌ وُضِعَ لِطَلَبِ الْفِعْلِ أَيْ الْمَصْدَرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى وُجُودِ الْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَصَوُّرِ وُجُودِهِ فِيهِ وَهُوَ ثَابِتٌ فَصَحَّ الْأَمْرُ لُغَةً وَإِذَا صَحَّ كَانَ الْمَصْدَرُ ثَابِتًا لُغَةً لِأَنَّهُ مُخْتَصَرٌ مِنْ قَوْلِهِ افْعَلِي التَّطْلِيقَ عَلَى مِثَالِ سَائِرِ الْأَفْعَالِ أَيْ الْأَمْرِ بِهَا فَإِنَّ قَوْلَهُمْ اُكْتُبْ وَاضْرِبْ وَاجْلِسْ وَنَحْوَهَا مُخْتَصَرٌ مِنْ قَوْلِهِمْ افْعَلْ الْكِتَابَةَ وَافْعَلْ الضَّرْبَ وَافْعَلْ الْجُلُوسَ. وَكَذَا ضَرَبْت وَيَضْرِبُ مُخْتَصَرٌ مِنْ قَوْلِهِمْ فَعَلَ الضَّرْبَ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي وَيَفْعَلُ الضَّرْبَ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ وَإِذَا كَانَ الْمَصْدَرُ ثَابِتًا لُغَةً احْتَمَلَ الْكُلَّ وَالْأَقَلَّ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك طَلَاقًا وَكَسَائِرِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ فَإِنَّهَا تَحْتَمِلُ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ وَأَمَّا طَلَّقْت فَنَفْسُ الْفِعْلِ أَيْ إخْبَارٌ عَنْ نَفْسِ الْفِعْلِ وَوُجُودِهِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي وَنَفْسُ الْفِعْلِ فِي حَالِ وُجُودِهِ لَا يَتَعَدَّدُ بِالْعَزِيمَةِ أَوْ مَعْنَاهُ طَلَّقْتُ ذَاتُهُ نَفْسَ الْفِعْلِ فَإِنَّهُ جُعِلَ إنْشَاءً وَتَطْلِيقًا فِي الشَّرْعِ لَا أَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ طَلَاقٍ مَوْجُودٍ قَبْلَهُ فَصَارَ قَوْلُهُ طَلَّقْت كَسَائِرِ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ وَالْفِعْلُ حَالَ وُجُودِهِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَعَدَّدَ بِالْعَزِيمَةِ كَالْخُطْوَةِ لَا يَصِيرُ خُطْوَتَيْنِ بِالْعَزِيمَةِ فَلِهَذَا لَا يَعْمَلُ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِيهِ. وَذَلِكَ أَيْ قَوْلُهُ طَلِّقِي نَفْسَك فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَصْدَرِ

وَلَا يَلْزَمُ إذَا حَلَفَ لَا يُسَاكِنُ فُلَانًا وَنَوَى السُّكْنَى فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ يَصِحُّ وَالْمَكَانُ ثَابِتٌ اقْتَضَاهُ لِأَنَّ تَعْيِينَ الْمَكَانِ لَغْوٌ حَتَّى لَا تَصِحَّ نِيَّتُهُ لَوْ نَوَى بَيْتًا بِعَيْنِهِ لَكِنَّ نِيَّةَ جَمْلِ الْبُيُوتِ تَصِحُّ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى تَكْمِيلِ فِعْلِ الْمُسَاكَنَةِ لِأَنَّهَا مُفَاعَلَةٌ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَلَى الْكَمَالِ إذَا جَمَعَهُمَا بَيْتٌ وَاحِدٌ لَكِنَّ الْيَمِينَ وَقَعَتْ عَلَى الدَّارِ وَهَذَا قَاصِرٌ عَادَةً فَصَحَّ نِيَّةُ الْكَامِلِ وَالْمُسَاكَنَةُ ثَابِتَةٌ لُغَةً فَصَحَّ تَكْمِيلٌ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ رَجُلٌ قَالَ لِصَغِيرٍ: هَذَا وَلَدِي فَجَاءَتْ أُمُّ الصَّغِيرِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُقِرِّ وَصَدَّقَتْهُ وَهِيَ أُمٌّ مَعْرُوفَةٌ أَنَّهَا تَأْخُذُ الْمِيرَاثَ وَمَا ثَبَتَ الْفِرَاشُ إلَّا مُقْتَضَى لِأَنَّ النِّكَاحَ ثَبَّتَ بَيْنَهُمَا مُقْتَضَى النَّسَبِ فَكَانَ مِثْلَ ثُبُوتِ الْبَيْعِ فِي قَوْلِهِ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَكِنَّ الْمُقْتَضَى غَيْرُ مُتَنَوِّعٍ فَيَصِيرُ فِي حَالِ بَقَائِهِ مِثْلَ النِّكَاحِ الْمَقْعُودِ قَصْدًا. ـــــــــــــــــــــــــــــQلُغَةً مِثْلُ قَوْلِهِ إنْ خَرَجْت فَعَبْدِي حُرٌّ فِي دَلَالَتِهِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ: إنْ خَرَجْت فَعَبْدِي حُرٌّ وَعَنَى بِهِ السَّفَرَ خَاصَّةً صُدِّقَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يُصَدَّقْ فِي الْحُكْمِ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو هَيْثَمٍ مِنْ الْقُضَاةِ الْأَرْبَعَةِ: لَا يُصَدَّقُ دِيَانَةً أَيْضًا لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْفِعْلَ وَأَنَّهُ لَا عُمُومَ لَهُ فَلَا يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ كَمَا فِي الِاغْتِسَالِ قَالَ: وَجَوَابُ الْكِتَابِ أَيْ الْجَامِعِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا قَالَ: إنْ خَرَجْت خُرُوجًا وَهَكَذَا كَانَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْعَتِيقَةِ. وَلَكِنَّ جَوَابَ الظَّاهِرِ مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ ذِكْرَ الْفِعْلِ ذِكْرٌ لِلْمَصْدَرِ لُغَةً وَالْمَصْدَرُ نَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ فَصَارَ عَامًّا بِصِفَاتِهِ وَمِنْ صِفَاتِهِ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مَدِيدًا وَمِثْلُ الْخُرُوجِ إلَى السَّفَرِ وَقَدْ يَكُونُ قَصِيرًا مِثْلَ الْخُرُوجِ إلَى السُّوقِ وَالْمَسْجِدِ وَيُعْرَفُ اخْتِلَافُهُمَا بِاخْتِلَافِ أَحْكَامِهِمَا فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالسَّفَرِ أَحْكَامٌ لَا تَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ فَصَحَّ التَّخْصِيصُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يُصَدِّقْهُ الْقَاضِي لِأَنَّ فِيهِ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ طَلَّقْتُك لِأَنَّ صِيغَتَهُ تَدُلُّ عَلَى مَصْدَرٍ مَاضٍ وَلَا مَصْدَرَ فِي الْمَاضِي إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا وَهَذَا مُسْتَقْبَلٌ لِدُخُولِ حَرْفِ الشَّرْطِ فِيهِ فَكَانَ مِثْلَ قَوْلِهِ طَلِّقِي نَفْسَك فَيَقْبَلُ التَّعْمِيمَ فَيَصِحُّ تَخْصِيصُهُ. قَوْلُهُ (وَلَا يَلْزَمُ) إلَى آخِرِهِ إذَا حَلَفَ لَا يُسَاكِنُ فُلَانًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَالْيَمِينُ وَاقِعَةٌ عَلَى الدَّارِ وَالْبَيْتِ لِأَنَّ الْمُسَاكَنَةَ مُفَاعَلَةٌ مِنْ السُّكْنَى وَهِيَ الْمُكْثُ فِي مَكَان عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْرَارِ وَالدَّوَامِ فَيَكُونُ الْمُسَاكَنَةُ بِوُجُودِ هَذَا الْفِعْلِ مِنْهُمَا عَلَى سَبِيلِ الْمُخَالَطَةِ وَالْمُقَارَنَةِ وَذَلِكَ إذَا سَكَنَا بَيْتًا أَوْ سَكَنَا فِي دَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي بَيْتٍ مِنْهَا لِأَنَّ جَمِيعَ الدَّارِ مَسْكَنٌ وَاحِدٌ فَإِنْ نَوَى حِينَ حَلَفَ أَنْ لَا يُسَاكِنَهُ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ صَحَّتْ نِيَّتُهُ وَلَمْ يَحْنَثْ بِالْمُسَاكَنَةِ فِي الدَّارِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَلْغُوَ نِيَّتَهُ لِأَنَّ الْمَسْكَنَ غَيْرُ مَلْفُوظٍ وَإِنَّمَا ثَبَتَ اقْتِضَاءً وَنِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِيمَا لَا لَفْظَ لَهُ بَاطِلَةٌ إلَّا أَنَّهَا صَحَّتْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نَوَى مُحْتَمَلَ كَلَامِهِ بِأَنَّ الْمُسَاكَنَةَ فِعْلٌ يَقُومُ بِهِمَا وَذَلِكَ فِي أَنْ يَتَّصِلَ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِفِعْلِ صَاحِبِهِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ عَلَى الْكَمَالِ وَأَمَّا فِي الدَّارِ فَيَحْصُلُ الِاتِّصَالُ فِي تَوَابِعِ السُّكْنَى مِنْ إرَاقَةِ الْمَاءِ وَغُسْلِ الثَّوْبِ وَنَحْوِهِمَا لَا أَصْلِ السُّكْنَى فَإِذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا يَحْنَثُ بِمَجَازِ السُّكْنَى لِأَنَّ السُّكْنَى فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ تُسَمَّى مُسَاكَنَةً عُرْفًا وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ سَاكِنًا فِي بَيْتٍ وَفِي الْبَيْتِ الْوَاحِدِ يَحْنَثُ حِينَئِذٍ بِعُمُومِ الْمَجَازِ وَإِذَا نَوَى الْبَيْتَ الْوَاحِدَ فَقَدْ نَوَى نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْمُسَاكَنَةِ فَيَصِحُّ لَكِنَّ نِيَّةَ جَمْلِ الْبُيُوتِ يَصِحُّ يَعْنِي نِيَّةَ جُمْلَةِ الْبُيُوتِ أَيْ مُطْلَقِ الْبُيُوتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَيَّنَ وَاحِدٌ مِنْهَا تَصِحُّ مَنْ أَجْمَلَ فِي الْكَلَامِ إذَا أَبْهَمَ عَادَةً مُتَّصِلٌ بِالدَّارِ وَقَوْلُهُ وَهُوَ قَاصِرٌ مُعْتَرَضٌ يَعْنِي الْيَمِينَ وَاقِعَةً عَلَى الْمُسَاكَنَةِ فِي الدَّارِ وَإِنْ كَانَ مَعْنَى الْمُسَاكَنَةِ فِيهَا قَاصِرًا بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ فَإِنَّ الْمُسَاكَنَةَ فِيهَا تُسَمَّى مُسَاكَنَةً فِي الْعُرْفِ. قَوْلُهُ (وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ)

[الثابت بدلالة النص لا يحتمل الخصوص]

وَالثَّابِتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لَا يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ أَيْضًا لِأَنَّ مَعْنَى النَّصِّ إذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ عِلَّةً لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عِلَّةٍ وَأَمَّا الثَّابِتُ بِإِشَارَةِ النَّصِّ فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا يَخُصُّ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَيْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لَا يَقْبَلُ الْعُمُومَ وَأَنَّهُ فِيمَا وَرَاءَ تَصْحِيحِ الْكَلَامِ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ الْمَسْأَلَةُ الْمَذْكُورَةُ فَإِنَّ الْفِرَاشَ فِيهَا ثَبَتَ مُقْتَضًى لِلنَّسَبِ وَقَدْ ظَهَرَ ثُبُوتُهُ فِيمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْإِرْثُ فَقَالَ قَدْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ ثَبَتَ مُقْتَضًى إلَّا أَنَّ النِّكَاحَ غَيْرُ مُتَنَوِّعٍ لَا يُقَالُ نِكَاحٌ يُوجِبُ الْإِرْثَ وَنِكَاحٌ لَا يُوجِبُهُ بَلْ الْإِرْثُ مِنْ لَوَازِمِ النِّكَاحِ وَأَحْكَامُهُ كَالْمِلْكِ فِي الْبَيْعِ فَإِذَا ثَبَتَ النِّكَاحُ مُقْتَضًى ثَبَتَ حُكْمُهُ وَهُوَ الْإِرْثُ مِثْلُ النِّكَاحِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَصْدًا. أَلَا تَرَى أَنَّ بُطْلَانَ النِّكَاحِ لَمَّا كَانَ مِنْ لَوَازِمِ الْمِلْكِ يَثْبُتُ بِالْبَيْعِ الثَّابِتِ مُقْتَضًى أَيْضًا كَالْمَالِكِ مِثْلُ مَا إذَا قَالَتْ امْرَأَةٌ لِمَوْلَى زَوْجِهَا: أَعْتِقْ عَبْدَك هَذَا عَنِّي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ قَالَ رَجُلٌ لِمَوْلَى مَنْكُوحَتِهِ: أَعْتِقْ أَمَتَك هَذِهِ عَنِّي بِأَلْفٍ فَفَعَلَ يَثْبُتُ الْبَيْعُ وَيَبْطُلُ النِّكَاحُ أَيْضًا لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِهِ فَكَذَا هَذَا. وَلَا يُقَالُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِرْثَ مِنْ لَوَازِمِ النِّكَاحِ وَأَحْكَامِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يُوجَدُ بِدُونِهِ كَنِكَاحِ الْكَافِرَةِ وَالْأَمَةِ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّمَا امْتَنَعَ الْإِرْثُ هُنَاكَ بِعَارِضِ الْكُفْرِ وَالرِّقِّ كَمَا يَمْتَنِعُ الْحِلُّ بِعَارِضِ الظِّهَارِ وَالِاعْتِكَافِ وَالْحَيْضِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ زَالَ الْمَانِعُ بِأَنْ أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ أَوْ عَتَقَتْ الْأَمَةُ كَانَ الْإِرْثُ ثَابِتًا بِذَلِكَ النِّكَاحِ مِثْلَ ثُبُوتِ الْحِلِّ بِزَوَالِ تِلْكَ الْعَوَارِضِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْإِرْثِ فِي الْأَصْلِ لَمْ يَثْبُتْ الْإِرْثُ بِهِ عِنْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ ثُبُوتَ النِّكَاحِ هَاهُنَا بِدَلَالَةِ النَّصِّ لَا بِمُقْتَضَاهُ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ وَلَدٌ فِينَا إلَّا بِوَالِدٍ وَوَالِدَةٍ فَكَانَ التَّنْصِيصُ عَلَى الْوَلَدِ تَنْصِيصًا عَلَى الْوَالِدِ وَالْوَالِدَةِ دَلَالَةً كَالتَّنْصِيصِ عَلَى الْأَخِ يَكُونُ تَنْصِيصًا عَلَى أَخٍ آخَرَ إذْ الْأُخُوَّةُ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بَيْنَ شَخْصَيْنِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الثَّابِتَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ يَكُونُ ثَابِتًا بِمَعْنَى النَّصِّ لُغَةً لَا أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ مَعَ أَنَّ اقْتِضَاءَ النِّكَاحِ هَاهُنَا كَاقْتِضَاءِ الْمِلْكِ فِي قَوْلِهِ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى أَلْفٍ وَبَعْدَمَا ثَبَتَ الْعَقْدُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ يَكُونُ بَاقِيًا لَا بِاعْتِبَارِ دَلِيلٍ مُسْبَقٍ بَلْ لِانْعِدَامِ دَلِيلٍ مُزَيَّلٍ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مُنْتَهٍ بَيْنَهُمَا بِالْوَفَاةِ وَانْتِهَاءُ النِّكَاحِ بِالْمَوْتِ سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ فَيَصِيرُ فِي حَالِ بَقَائِهِ مِثْلَ النِّكَاحِ الْمَعْقُودِ قَصْدًا. [الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لَا يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ] قَوْلُهُ (وَالثَّابِتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لَا يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ أَيْضًا) يَعْنِي كَمَا أَنَّ الْمُقْتَضَى لَا يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ الْعُمُومَ فَكَذَا الثَّابِتُ بِالدَّلَالَةِ لَا يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ أَيْضًا لِأَنَّ مَعْنَى التَّخْصِيصِ بَيَانٌ أَنَّ أَصْلَ الْكَلَامِ غَيْرُ مُتَنَاوِلٍ لَهُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ بِالدَّلَالَةِ ثَابِتٌ بِمَعْنَى النَّصِّ لُغَةً وَبَعْدَمَا كَانَ مَعْنَى النَّصِّ مُتَنَاوِلًا لَهُ لُغَةً لَا يَبْقَى احْتِمَالُ كَوْنِهِ غَيْرَ مُتَنَاوِلٍ وَإِنَّمَا يَحْتَمِلُ إخْرَاجَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ فِيهِ بِدَلِيلٍ يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ يَكُونُ نَسْخًا لَا تَخْصِيصًا وَأَمَّا الثَّابِتُ بِإِشَارَةِ النَّفْسِ فَعِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لَا يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ أَيْضًا لِأَنَّ مَعْنَى الْعُمُومِ مِمَّا يَكُونُ سِيَاقُ الْكَلَامِ لِأَجْلِهِ فَأَمَّا مَا يَقَعُ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ سِيَاقُ الْكَلَامِ لَهُ فَهُوَ زِيَادَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِالنَّصِّ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَسَعُ فِيهِ

وَمِنْ النَّاسِ مَنْ عَمِلَ بِالنُّصُوصِ بِوُجُوهٍ أُخَرَ هِيَ فَاسِدَةٌ عِنْدَنَا مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ النَّصَّ عَلَى الشَّيْءِ بِاسْمِهِ الْعَلَمَ يَدُلُّ عَلَى الْخُصُوصِ قَالُوا: وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» فَهِمَ الْأَنْصَارُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْغُسْلَ لَا يَجِبُ بِالْإِكْسَالِ لِعَدَمِ الْمَاءِ وَقُلْنَا نَحْنُ: هَذَا بَاطِلٌ وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36] وَالظُّلْمُ حَرَامٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَعْنَى الْعُمُومِ حَتَّى يَكُونَ مُحْتَمِلًا لِلتَّخْصِيصِ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: الْإِشَارَةُ زِيَادَةُ مَعْنًى عَلَى مَعْنَى النَّصِّ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِإِيجَابِ النَّصِّ إيَّاهُ لَا مَحَالَةَ فَلَا يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ وَبَيَانُ أَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِإِشَارَةِ النَّصِّ كَالثَّابِتِ بِالْعِبَارَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ ثَابِتٌ بِصِيغَةِ الْكَلَامِ فَكَمَا أَنَّ الثَّابِتَ بِعِبَارَةِ النَّصِّ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ فَكَذَا الثَّابِتُ بِإِشَارَتِهِ وَذَكَرَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ أَنَّ صُورَتَهُ مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُصَلَّى عَلَى الشَّهِيدِ لِأَنَّهُ حَيٌّ حُكْمًا ثَبَتَ ذَلِكَ بِإِشَارَةِ قَوْله تَعَالَى {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 169] وَالْآيَةُ مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ عُلُوِّ دَرَجَاتِهِمْ فَأَوْرَدَ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَلَّى عَلَى حَمْزَةَ سَبْعِينَ صَلَاةً» . فَأَجَابَ بِأَنَّ تِلْكَ الْإِشَارَةَ خُصَّتْ فِي حَقِّهِ أَوْ هُوَ خُصَّ مِنْ عُمُومِ تِلْكَ الْإِشَارَةِ فَبَقِيَتْ فِي حَقِّ غَيْرِهِ عَلَى الْعُمُومِ وَقَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَ هَذَا فِيمَا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ عَمِلَ فِي النُّصُوصِ) أَيْ اسْتَدَلَّ بِهَا بِوُجُوهٍ أُخَرَ غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا وَهِيَ فَاسِدَةٌ عِنْدَنَا وَاعْلَمْ أَنَّ عَامَّةَ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ قَسَّمُوا دَلَالَةَ اللَّفْظِ إلَى مَنْطُوقٍ وَمَفْهُومٍ وَقَالُوا: دَلَالَةُ الْمَنْطُوقِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ وَجَعَلُوا مَا سَمَّيْنَاهُ عِبَارَةً وَإِشَارَةً وَاقْتِضَاءً مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَقَالُوا: دَلَالَةُ الْمَفْهُومِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ لَا فِي مَحَلِّ النُّطْقِ ثُمَّ قَسَّمُوا الْمَفْهُومَ إلَى مَفْهُومِ مُوَافَقَةٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ مُوَافِقًا فِي الْحُكْمِ لِلْمَنْطُوقِ بِهِ وَيُسَمُّونَهُ فَحْوَى الْخِطَابِ وَلَحْنَ الْخِطَابِ أَيْضًا وَهُوَ الَّذِي سَمَّيْنَاهُ دَلَالَةَ النَّصِّ وَإِلَى مَفْهُومِ مُخَالَفَةٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ مُخَالِفًا لِلْمَنْطُوقِ بِهِ فِي الْحُكْمِ وَيُسَمُّونَهُ دَلِيلَ الْخِطَابِ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عِنْدَنَا بِتَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ ثُمَّ قَسَّمُوا هَذَا الْقِسْمَ مِنْ الْمَفْهُومِ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ فَمِنْهَا مَا بَدَأَ الشَّيْخُ بِذِكْرِهِ فِي التَّمَسُّكَاتِ الْفَاسِدَةِ أَنَّ النَّصَّ عَلَى الشَّيْءِ بِاسْمِهِ الْعَلَمِ أَيْ بِالِاسْمِ الَّذِي لَيْسَ بِصِفَةٍ سَوَاءٌ كَانَ اسْمَ جِنْسٍ كَالْمَاءِ فِي حَدِيثِ الْغُسْلِ وَالْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ فِي حَدِيثِ الرِّبَا أَوْ اسْمًا عَلَمًا كَقَوْلِك زَيْدٌ قَامَ أَوْ قَائِمٌ. يَدُلُّ عَلَى الْخُصُوصِ أَيْ عَلَى تَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَقَطْعِ الْمُشَارَكَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ جِنْسِهِ عِنْدَ قَوْمٍ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الدَّقَّاقُ وَأَبُو حَامِدٍ الْمَرُّوذِيُّ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَيُسَمَّى هَذَا مَفْهُومُ اللَّقَبِ وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ وَنَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ تَمَسَّكَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ مَفْهُومَ اللَّقَبِ لَوْ لَمْ يُوجِبْ التَّخْصِيصَ لَمْ يَظْهَرْ لِلتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ إذْ لَا فَائِدَةَ لَهُ سَوَاءٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُ صَاحِبِ الشَّرْعِ غَيْرَ مُفِيدٍ وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِمَنْ يُخَاصِمُهُ لَيْسَتْ أُمِّي بِزَانِيَةٍ وَلَا أُخْتِي زَنَتْ تَبَادَرَ إلَى الْفَهْمِ نِسْبَةُ الزِّنَا إلَى أُمِّ خَصْمِهِ وَأُخْتِهِ وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَجِبُ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى الْقَائِلِ بَعْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا لَمَا تَبَادَرَ إلَى الْفَهْمِ ذَلِكَ إذْ لَا مُوجِبَ لِلتَّبَادُرِ إلَى الْفَهْمِ إلَّا الدَّلَالَةُ يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» فَإِنَّ الْأَنْصَارَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَهِمُوا التَّخْصِيصَ مِنْهُ حَتَّى اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى نَفْيِ وُجُوبِ

وَلِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: إنْ أَرَدْت أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي غَيْرِ الْمُسَمَّى بِالنَّصِّ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا لِأَنَّ حُكْمَ النَّصِّ فِي غَيْرِهِ لَا يَثْبُتُ بِهِ بَلْ بِعِلَّةِ النَّصِّ وَإِنْ عَنَى لَا يَثْبُتُ فِيهِ يَكُونُ النَّصُّ مَانِعًا فَهَذَا غَلَطٌ ظَاهِرٌ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ فَكَيْفَ يُمْنَعُ وَلِأَنَّهُ لَا يُجَابُ الْحُكْمُ فِي الْمُسَمَّى فَكَيْفَ يُوجِبُ النَّفْيَ وَهُوَ ضِدُّهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالِاغْتِسَالِ بِالْإِكْسَالِ لِعَدَمِ الْمَاءِ وَأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ وَفُصَحَاءِ الْعَرَبِ وَمَنْ أَوْجَبَ الْغُسْلَ بِالْإِكْسَالِ لَمْ يَمْنَعُوا الْفَرِيقَ الْأَوَّلَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِمَفْهُومِ هَذَا الْحَدِيثِ وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا بِنَسْخِ مَفْهُومِهِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَجَبَ الْغُسْلُ» فَكَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى اتِّفَاقِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ وَالْمُرَادُ بِالْمَاءِ الْأَوَّلِ فِي الْحَدِيثِ الْمَاءُ الطَّهُورُ وَبِالثَّانِي الْمَنِيُّ وَكَلِمَةُ مَنْ لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ لِأَجْلِ الِاغْتِسَالِ وَاجِبٌ بِسَبَبِ الْمَنِيِّ. وَالْإِكْسَالُ أَنْ يُجَامِعَ الرَّجُلُ ثُمَّ يَفْتُرُ ذَكَرُهُ بَعْدَ الْإِيلَاجِ بِلَا إنْزَالٍ يُقَالُ أَكْسَلَ الْفَحْلُ أَيْ صَارَ ذَا كَسَلٍ كَذَا فِي الْفَائِقِ وَتَمَسَّكَ الْجُمْهُورُ فِي ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36] أَيْ فِي الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ الْحُرُمِ وَهِيَ رَجَبٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحَجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى إبَاحَةِ الظُّلْمِ فِي غَيْرِهَا وَقَالَ تَعَالَى {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف: 23] {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 24] أَيْ إلَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى تَخْصِيصِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْغَدِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَوْقَاتِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَا يَغْتَسِلَنَّ فِيهِ مِنْ الْجَنَابَةِ» ثُمَّ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى التَّخْصِيصِ بِالْجَنَابَةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ أَسْبَابِ الِاغْتِسَالِ وَقَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ وَقُلْنَا نَحْنُ هَذَا أَيْ مَا قَالُوا: إنَّ التَّنْصِيصَ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ بَاطِلٌ لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْ التَّنْصِيصَ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ بِدُونِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْخُصُوصِ كَثِيرٌ وَلِأَنَّهُ يُقَالُ إلَى آخِرِهِ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ قَالَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ النَّصُّ مَتَى أَوْجَبَ حُكْمًا مُقَيَّدًا بِاسْمٍ يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى ثُبُوتِهِ فِي ذَلِكَ الْمُسَمَّى وَلَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ فَلَا يَصِيرُ النَّصُّ بِذَلِكَ الِاسْمِ مَانِعًا ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي سَائِرِ الْمَحَالِّ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْ سَائِرَ الْمَحَالِّ فِي إيجَابِ ذَلِكَ الْحُكْمِ مَعَ أَنَّهُ وُضِعَ لِلْإِيجَابِ فَلَأَنْ لَا يَتَنَاوَلُ سَائِرَ الْمَحَالِّ لِنَفْيِ الْحُكْمِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ لِلنَّفْيِ أَوْلَى فَكَيْفَ يُوجِبُ النَّفْيَ وَهُوَ ضِدُّهُ وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ الثُّبُوتَ مَعَ الِانْتِفَاءِ ضِدَّانِ وَلِهَذَا يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ كَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ فَمَا يُوجِبُ السَّوَادَ لَا يُوجِبُ الْبَيَاضَ وَإِنْ كَانَا فِي مَحَلَّيْنِ فَكَذَلِكَ الثُّبُوتُ وَالِانْتِفَاءُ لَا يَصْلُحَانِ مُوجِبَيْنِ لِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ اخْتَلَفَ الْمَحَلُّ كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَحَلِّ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِأَنَّ مِنْ شَرَائِطِ التَّنَافِي اتِّحَادُ الْمَحَلِّ أَلَا تَرَى أَنَّ النِّكَاحَ يُوجِبُ الْحِلَّ فِي حَقِّ الزَّوْجِ وَالْحُرْمَةَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ. وَكَذَا الِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْمُبَاحِ يُوجِبُ الْحِلَّ فِي حَقِّ الْمُسْتَوْلِي وَالْحُرْمَةَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَكَذَا الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ إيجَابٌ فِي حَقِّهِ وَنَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ فَكَذَا النَّصُّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُثْبِتًا لِلْحُكْمِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَنَافِيًا عَنْ غَيْرِهِ وَأُجِيبَ بِأَنَّا لَمْ نَدَّعِ اسْتِحَالَةَ اجْتِمَاعِهِمَا بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ مَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي إثْبَاتِ شَيْءٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا فِي إثْبَاتِ ضِدِّهِ وَالْحُرْمَةُ عَلَى الْغَيْرِ فِيمَا ذَكَرْتُمْ لَمْ يَثْبُتْ بِالنِّكَاحِ

وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّعْلِيلِ وَلَوْ كَانَ لِخُصُوصِ الِاسْمِ أَثَرٌ بِالْمَنْعِ فِي غَيْرِهِ لَصَارَ التَّعْلِيلُ عَلَى مُضَادَّةِ النَّصِّ وَهُوَ بَاطِلٌ وَأَمَّا «الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» فَإِنَّ الِاسْتِدْلَالَ مِنْهُمْ كَانَ فَاللَّامُ الْمَعْرِفَةِ وَهِيَ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ وَتَعْرِيفِهِ وَعِنْدَنَا هُوَ كَذَلِكَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الْمَاءِ غَيْرَ أَنَّ الْمَاءَ يَثْبُتُ عِيَانًا مَرَّةً وَتَارَةً دَلَالَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــQنَفْسِهِ وَلَا بِالِاسْتِيلَاءِ وَلَكِنْ لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا يَقْبَلُ إلَّا حِلًّا وَاحِدًا فَإِذَا ثَبَتَ فِي حَقِّ الزَّوْجِ وَالْمُسْتَوْلِي انْتَفَى عَنْ غَيْرِهِمَا ضَرُورَةً فَكَانَ الْمُثْبِتُ لِلْحُرْمَةِ عَلَى الْغَيْرِ ثُبُوتَ الْحِلِّ. وَكَذَا الْأَمْرُ لَمَّا وَجَبَ الْمَأْمُورُ بِهِ وَمِنْ ضَرُورَةِ الْإِتْيَانِ بِهِ تَرْكُ ضِدِّهِ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِضِدِّهِ يُؤَدِّي إلَى تَفْوِيتِهِ ثَبَتَ حُرْمَةُ الضِّدِّ أَوْ كَرَاهَتُهُ بِوُجُوبِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا بِالْأَمْرِ نَفْسِهِ وَلَكِنَّ الْحُرْمَةَ عَلَى الْغَيْرِ وَحُرْمَةَ الضِّدِّ أُضِيفَتْ إلَى النِّكَاحِ وَالْأَمْرُ لِإِضَافَتِهِمَا إلَيْهَا فَأَمَّا ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي مَحَلٍّ فَقَدْ يَسْتَغْنِي عَنْ النَّفْيِ عَنْ غَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ النَّفْيُ بِلَا ضَرُورَةٍ إلَى الْمُثْبِتِ وَهُوَ النَّصُّ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّعْلِيلِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّخْصِيصِ بَاطِلٌ إذْ لَوْ كَانَ لِخُصُوصِ الِاسْمِ أَثَرٌ فِي نَفْيِ الْحُكْمِ عَنْ غَيْرِهِ لَامْتَنَعَ الْقِيَاسُ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْعِلَّةِ لَا يَتَعَدَّى مَعَ قِيَامِ الْمَانِعِ وَلَا مَانِعَ أَقْوَى مِنْ النَّصِّ إذْ التَّعْلِيلُ فِي مُقَابَلَتِهِ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِهِ وَهُوَ بَاطِلٌ وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا النَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْأَصْلِ وَإِنْ دَلَّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ وَهُوَ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ لَكِنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِمَفْهُومِهِ لَا بِصَرِيحِهِ وَالْمَفْهُومُ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْقِيَاسِ فَلَا يُفْضِي الْقَوْلُ بِهِ إلَى إبْطَالِ الْقِيَاسِ بَلْ إلَى التَّعَارُضِ وَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ مُسَاوَاةَ الْفَرْعِ الْأَصْلَ فِي الْمَصْلَحَةِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْحُكْمِ وَمِنْ شَرْطِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ عَدَمُ مُسَاوَاةِ الْمَسْكُوتِ الْمَنْطُوقَ فِي تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ إذْ لَوْ كَانَ مُسَاوِيًا لَهُ لَكَانَ مَفْهُومَ مُوَافَقَةٍ فَإِذَا أَمْكَنَ قِيَاسُ الْمَسْكُوتِ عَلَى الْمَنْطُوقِ ثَبَتَ أَنْ لَا مَفْهُومَ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ وَهُوَ عَدَمُ الْمُسَاوَاةِ وَتَخْصِيصُ الشَّيْخِ الْفُقَهَاءَ بِالذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ لَا يُوهِمَنَّكَ أَنَّ الْقَوْلَ بِعَدَمِ جَوَازِ الْقِيَاسِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ نُفَاتُهُ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ التَّخْصِيصِ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الشَّيْءِ بِالِاسْمِ وَأَنَّ عَدَمَ جَوَازِ الْقِيَاسِ بِنَاءٌ عَلَيْهِ فَإِنَّهُمْ إنَّمَا لَمْ يُجَوِّزُوهُ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ صَوَابًا وَخَطَأً لَا لِنَصٍّ يَمْنَعُ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْفَاسِقِ فَإِنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِخَبَرِهِ لِضَعْفٍ فِي سَنَدِهِ لَا لِنَصٍّ مَانِعٍ مِنْ الْعَمَلِ بِهِ وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ لِأَنَّ الِاحْتِجَاجَ عَلَى الْخَصْمِ يَثْبُتُ بِقَوْلِهِمْ لَا بِقَوْلِ نُفَاةِ الْقِيَاسِ وَرَأَيْت فِي بَعْضِ النُّسَخِ لَوْ كَانَ مَفْهُومُ اللَّقَبِ حُجَّةً لَكَانَ يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ زَيْدٌ مَوْجُودٌ وَمُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ كُفْرُ الْقَائِلِ ظَاهِرًا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي بِظَاهِرِهِ إلَى أَنَّ غَيْرَ زَيْدٍ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ وَفِيهِ إنْكَارُ وُجُودِ الصَّانِعِ جَلَّ جَلَالُهُ وَأَنَّ غَيْرَ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَيْسَ بِرَسُولٍ وَفِيهِ إنْكَارُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ فَكَذَا مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ. ثُمَّ أَجَابَ الشَّيْخُ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» بِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ مِنْ الْأَنْصَارِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى انْحِصَارِ الْحُكْمِ عَلَى الْمَاءِ لَمْ يَكُنْ لِمَا تَوَهَّمَ الْخَصْمُ مِنْ دَلَالَةِ التَّنْصِيصِ عَلَى التَّخْصِيصِ بَلْ فَاللَّامُ الْمَعْرِفَةِ الْمُسْتَغْرِقَةِ لِلْجِنْسِ الْمُعَرِّفَةِ لَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَعْهُودِ الْمُوجِبَةِ لِلِانْحِصَارِ أَوْ مَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «لَا مَاءَ إلَّا مِنْ الْمَاءِ» وَفِي بَعْضِهَا «إنَّمَا الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْحَصْرَ وَالتَّخْصِيصَ بِالِاتِّفَاقِ وَعِنْدَنَا هُوَ كَذَلِكَ أَيْ هَذَا الْكَلَامُ مُوجِبٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَالِانْحِصَارِ كَمَا قَالَتْ الْأَنْصَارُ وَمَعْنَاهُ وُجُوبُ جَمِيعِ الِاغْتِسَالَاتِ مِنْ الْمَنِيِّ أَيْ بِسَبَبِهِ لَكِنْ لَمَّا دَلَّ

[الحكم إذا أضيف إلى مسمى بوصف خاص كان دليلا على نفيه عند عدم ذلك الوصف]

وَمِنْ ذَلِكَ مَا حُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْحُكْمَ إذَا أُضِيفَ إلَى مُسَمًّى بِوَصْفٍ خَاصٍّ كَانَ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِهِ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الْوَصْفِ وَعِنْدَنَا هَذَا بَاطِلٌ أَيْضًا ـــــــــــــــــــــــــــــQالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الِاغْتِسَالِ مِنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ أَيْضًا نُفِيَ الِانْحِصَارُ فِيمَا وَرَاء ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْمَنِيِّ وَصَارَ مَعْنَاهُ جَمِيعُ الِاغْتِسَالَاتِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ مُنْحَصِرٌ فِي الْمَنِيِّ لَا يَثْبُتُ بِغَيْرِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَاءِ فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الِاغْتِسَالُ بِالْإِكْسَالِ لِعَدَمِ الْمَاءِ لَكِنَّ الْمَاءَ فِيهِ ثَابِتٌ تَقْدِيرًا لِأَنَّ الْمَاءَ يَثْبُتُ عِيَانًا مَرَّةً وَهُوَ ظَاهِرٌ وَمَرَّةً دَلَالَةً فَإِنَّ الْتِقَاءَ الْخِتَانَيْنِ وَتَوَارِي الْحَشَفَةِ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لِنُزُولِ الْمَاءِ كَانَ دَلِيلًا عَلَيْهِ فَأُقِيمَ مَقَامَهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ كَالنَّوْمِ أُقِيمَ مَقَامَ الْحَدَثِ وَالسَّفَرِ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ فَثَبَتَ أَنَّ وُجُوبَ الْغُسْلِ فِي الْإِكْسَالِ مُضَافٌ إلَى الْمَاءِ أَيْضًا فَكَانَ هَذَا مِنَّا قَوْلًا بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ وَأَمَّا فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ عِنْدَنَا فَهِيَ أَنْ يَتَأَمَّلَ الْمُسْتَنْبِطُونَ فِي عِلَّةِ النَّصِّ فَيُثْبِتُونَ الْحُكْمَ بِهَا فِي غَيْرِ الْمَنْصُوصِ مِنْ الْمَوَاضِعِ لِيَنَالُوا دَرَجَةَ الْمُسْتَنْبِطِينَ وَثَوَابَهُمْ وَهَذَا لَا يَحْصُلُ إذَا وَرَدَ النَّصُّ عَامًّا مَتْنًا وَلَا لِلْجِنْسِ. [الْحُكْمَ إذَا أُضِيفَ إلَى مُسَمًّى بِوَصْفٍ خَاصٍّ كَانَ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِهِ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الْوَصْفِ] كَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِنْ الْعَمَلِ بِالْوُجُوهِ الْفَاسِدَةِ أَنَّ الْحُكْمَ إذَا أُضِيفَ إلَى مُسَمًّى بِوَصْفٍ خَاصٍّ يَعْنِي إذَا تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِاسْمٍ عَامٍّ مُقَيَّدٍ بِوَصْفٍ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ» فَإِنَّ اسْمَ الْغَنَمِ عَامٌّ فِي جِنْسِهِ وَوَصْفَ السَّوْمِ مُخْتَصٌّ بِبَعْضِهِ لَا بِكُلِّهِ بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة: 44] فَإِنَّهُ وَصْفٌ يَعُمُّ النَّبِيِّينَ أَجْمَعَ وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» فَإِنَّ وَصْفَ رُطُوبَةِ الْكَبِدِ يَعُمُّ جَمِيعَ الْحَيَوَانَاتِ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِهِ أَيْ نَفْيِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الْوَصْفِ كَمَا لَوْ نَصَّ عَلَيْهِ وَيُسَمَّى هَذَا مَفْهُومَ الصِّفَةِ. وَحَقِيقَتُهُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ صِفَتَانِ فَتَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِإِحْدَى الصِّفَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عَمَّا يُخَالِفُهُ فِي الصِّفَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ. مَنْ بَاعَ نَخْلًا مُؤَبَّرَةً فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ» فَتَخْصِيصُ الْعَمْدِ وَالسَّوْمِ وَالتَّأْبِيرِ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهَا عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِمَا وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد وَأَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَعِنْدَنَا لَا يَدُلُّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ شُرَيْحٍ وَأَبُو بَكْرٍ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَالْغَزَالِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ وَجُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَاحْتَجَّ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ بِمَا رُوِيَ أَنْ أَبَا عُبَيْدِ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَامٍ وَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ حَكَى عَنْ الْعَرَبِ اسْتِعْمَالَهُمْ الْمَفْهُومَ وَقَالَ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عُقُوبَتَهُ وَعِرْضَهُ» أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَيَّ مَنْ لَيْسَ بِوَاجِدٍ أَيْ مَطْلَ مَنْ لَيْسَ يَعْنِي لَا يُحِلُّ عُقُوبَتَهُ أَيْ مِنْ جِنْسِهِ وَعِرْضَهُ أَيْ مُطَالَبَتَهُ وَبِأَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: اشْتَرِ لِي عَبْدًا أَسْوَدَ يُفْهَمُ مِنْهُ نَفْيُ الْأَبْيَضِ وَإِذَا قَالَ: اضْرِبْهُ إذَا قَامَ يُفْهَمُ مِنْهُ الْمَنْعُ إذَا لَمْ يَقُمْ وَبِأَنَّ تَخْصِيصَ الْوَصْفِ لَوْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِهِ فَائِدَةٌ فَإِنَّهُ لَوْ اسْتَوَتْ الْعَلُوفَةُ وَالسَّائِمَةُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ لَمْ تَبْقَ لِذِكْرِ السَّائِمَةِ فَائِدَةٌ وَتَخْصِيصُ آحَادِ الْفُقَهَاءِ وَالْبُلَغَاءِ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ مُمْتَنِعٌ فَتَخْصِيصُ الشَّارِعِ أَوْلَى وَاحْتَجَّ الْفَرِيقُ الثَّانِي بِأَنَّ نَفْيَ الْحُكْمِ عَنْ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ لَا يُفْهَمُ مِنْ مُجَرَّدِ الْإِثْبَاتِ إلَّا بِنَقْلٍ مُتَوَاتِرٍ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَوْ جَارٍ مَجْرَى التَّوَاتُرِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQكَعِلْمِنَا بِأَنَّ قَوْلَهُمْ ضَرُوبٌ وَقَتُولٌ وَأَمْثَالُهُمَا لِلتَّكْثِيرِ وَأَنَّ قَوْلَهُمْ عَلِيمٌ وَأَعْلَمُ وَقَدِيرٌ وَأَقْدَرُ لِلْمُبَالَغَةِ وَنَقْلُ الْآحَادِ لَا يَكْفِي إذْ الْحُكْمُ عَلَى لُغَةٍ يَنْزِلُ عَلَيْهَا كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِ الْآحَادِ مَعَ جَوَازِ الْغَلَطِ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ. وَلَا يَحْسُنُ الِاسْتِفْهَامُ فَإِنَّ مَنْ قَالَ: إنْ ضَرَبَك زَيْدٌ عَامِدًا فَاضْرِبْهُ حَسَنٌ أَنْ يُقَالَ إنْ ضَرَبَنِي خَاطِئًا هَلْ أَضْرِبُهُ وَإِذَا قَالَ: أَخْرِجْ الزَّكَاةَ مِنْ مَاشِيَتِك السَّائِمَةِ حَسَنٌ أَنْ يُقَالَ: هَلْ أَخْرَجَهَا مِنْ الْعَلُوفَةِ فَحُسْنُ الِاسْتِفْهَامِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَفْهُومٍ فَإِنَّهُ لَا يَحْسُنُ ذَلِكَ فِي الْمَنْطُوقِ وَلَا يُقَالُ: إنَّمَا حَسُنَ لِأَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهِ النَّفْيُ مَجَازًا لِأَنَّا نَقُولُ: الْأَصْلُ أَنَّهُ إذَا احْتَمَلَ ذَلِكَ كَانَ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا يُرَدُّ إلَى الْمَجَازِ لِضَرُورَةِ دَلِيلٍ وَلَا دَلِيلَ وَبِأَنَّ الْخَبَرَ عَنْ ذِي الصِّفَةِ لَا يَبْقَى غَيْرُ الْمَوْصُوفِ فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ: قَامَ أَسْوَدُ أَوْ خَرَجَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى نَفْيِهِ عَنْ الْأَبْيَضِ بَلْ هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْ الْأَبْيَضِ فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ. وَبِمَفْهُومِ الِاسْمِ وَاللَّقَبِ فَإِنَّ الْأَسْمَاءَ مَوْضُوعَةٌ لِتَمْيِيزِ الْأَجْنَاسِ وَالْأَشْخَاصِ كَالْإِنْسَانِ فَرِيدٌ وَالصِّفَاتُ مَوْضُوعَةٌ لِتَمْيِيزِ النُّعُوتِ وَالْأَحْوَالِ كَطَوِيلٍ وَقَصِيرٍ وَقَائِمٍ وَقَاعِدٍ فَإِذَا كَانَ تَقْيِيدُ الْخِطَابِ بِالِاسْمِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ فِي الْإِبِلِ الزَّكَاةُ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى نَفْيِهَا عَنْ الْبَقَرِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّقْيِيدُ بِالصِّفَاتِ بِمَثَابَتِهِ وَبِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ فَرَّقُوا بَيْنَ الْعَطْفِ وَبَيْنَ النَّقْضِ وَقَدْ قَالُوا: اضْرِبْ الرِّجَالَ الطِّوَالَ وَالْقِصَارَ عَطْفٌ وَلَيْسَ بِنَقْضٍ وَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ اضْرِبْ الرِّجَالَ الطِّوَالَ بَدَلًا عَلَى نَفْيِ ضَرْبِ الْقُصَّرِ لَكَانَ قَوْلُهُ وَالْقِصَارَ نَقْضًا لَا عَطْفًا وَقَوْلُهُمْ لَوْ لَمْ يَدُلَّ تَخْصِيصُ الْوَصْفِ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ فَائِدَةٌ غَيْرُ مُسَلَّمٍ إذْ الْبَاعِثُ عَلَى التَّخْصِيصِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ لِأَنَّ فِي الْبَوَاعِثِ عَلَيْهِ كَثْرَةً فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ بَاعِثٌ سِوَى اخْتِصَاصِ الْحُكْمِ لَعَرَفْنَاهُ مَعَ كَثْرَةِ خَوْضِنَا فِي طَلَبِهِ وَتَوَفُّرِ دَوَاعِينَا عَلَى طَلَبِ الْحَقِّ قُلْنَا: وَلَوْ قُلْتُمْ إنَّ كُلَّ فَائِدَةٌ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً لَكُمْ فَلَعَلَّهَا حَاصِلَةٌ وَلَمْ تَعْثِرُوا عَلَيْهَا فَكَأَنَّكُمْ جَعَلْتُمْ عَدَمَ الْعِلْمِ بِالْفَائِدَةِ عِلْمًا بِعَدَمِ الْفَائِدَةِ وَهُوَ خَطَأٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالِاسْمِ لَمْ يَدُلَّ عَلَى النَّفْيِ حَتَّى عَمَّ الْحُكْمُ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَطْعُومَاتِ فِي حَدِيثِ الرِّبَا وَقَدْ اخْتَصَّ بِالْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ مَعَ أَنَّ كَلَامَ الشَّارِعِ لَا يَخْلُو عَنْ الْفَائِدَةِ وَإِذَا طُلِبَتْ الْفَائِدَةُ قِيلَ: لَعَلَّ الدَّاعِيَ إلَيْهِ سُؤَالٌ أَوْ حَاجَةٌ أَوْ سَبَبٌ لَمْ نَعْرِفْهُ فَلْيَكُنْ فِي التَّخْصِيصِ بِالْوَصْفِ كَذَلِكَ ثُمَّ نَقُولُ لِلتَّخْصِيصِ فَوَائِدُ الْأَوَّلُ مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ اسْتَوْعَبَ جَمِيعَ مَحَلِّ الْحُكْمِ لَمْ يَبْقَ لِلِاجْتِهَادِ مَجَالٌ فَفِي التَّخْصِيصِ بِبَعْضِ الْأَلْقَابِ وَالْأَوْصَافِ بِالذِّكْرِ تَعْرِيضٌ لِلْمُجْتَهِدِينَ لِلثَّوَابِ الْجَزِيلِ الَّذِي فِي الِاجْتِهَادِ لِيَتَوَفَّرَ دَوَاعِيهِمْ عَلَى الْعِلْمِ وَيَدُومُ الْعِلْمُ مَحْفُوظًا بِإِقْبَالِهِمْ وَنَشَاطِهِمْ فِي الْفِكْرِ وَالِاسْتِنْبَاطِ وَلَوْلَا هَذَا لَذُكِرَ لِكُلِّ حُكْمٍ رَابِطَةٌ عَامَّةٌ جَامِعَةٌ لِجَمِيعِ مَجَازِي الْحُكْمِ لَا يَبْقَى لِلْقِيَاسِ مَجَالٌ الثَّانِيَةُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: فِي الْغَنَمِ زَكَاةٌ وَلَمْ تُخَصَّصْ السَّائِمَةُ لَجَازَ لِلْمُجْتَهِدِ إخْرَاجُ

وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] أَنَّ وَصْفَ كَوْنِ الْمَرْأَةِ مِنْ نِسَائِنَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَثْبُتَ عِنْدَ عَدَمِهِ وَذَلِكَ فِي الزِّنَا وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ» وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ عَلَى مَذْهَبِهِ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ عِنْدَهُ يُوجِبُ الْوُجُودَ عِنْدَ وُجُودِهِ وَالْعَدَمَ عِنْدَ عَدَمِهِ وَالْوَصْفُ بِمَعْنَى الشَّرْطِ بَيَانُهُ أَنَّ الشَّرْطَ لَمَّا دَخَلَ عَلَى مَا هُوَ مُوجِبٌ لَوْلَا هُوَ صَارَ الشَّرْطُ مُؤَخَّرًا وَنَافِيًا حُكْمَ الْإِيجَابِ وَالْوَصْفُ لَوْلَا هُوَ لَكَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِمُطْلَقِ الِاسْمِ أَيْضًا فَصَارَ لِلْوَصْفِ أَثَرُ الِاعْتِرَاضِ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ فَأُلْحِقَ بِهِ بِخِلَافِ الْعِلَّةِ لِأَنَّهَا لِابْتِدَاءِ الْإِيجَابِ لَا لِلِاعْتِرَاضِ عَلَى مَا يُوجِبُ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ الْعَلَمِ فَيَتَعَلَّقُ بِهَا الْوُجُودُ وَلَمْ يُوجَبْ الْعَدَمُ عِنْدَ عَدَمِهَا ـــــــــــــــــــــــــــــQالسَّائِمَةِ عَنْ الْعُمُومِ بِالِاجْتِهَادِ فَخَصَّ السَّائِمَةَ لِقِيَاسِ الْعَلُوفَةِ عَلَيْهَا إنْ رَأَى أَنَّهَا فِي مَعْنَاهَا أَوْ لَا يَلْحَقُ بِهَا فَيَبْقَى السَّائِمَةُ بِمَعْزِلٍ عَنْ مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ الثَّالِثَةُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَاعِثُ عَلَى التَّخْصِيصِ عُمُومُ وُقُوعٍ أَوْ اتِّفَاقُ مُعَامَلَةٍ خَاصَّةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابٍ لَا نَطَّلِعُ عَلَيْهَا فَعَدَمُ عِلْمِنَا بِذَلِكَ لَا يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ عِلْمِنَا بِعَدَمِ ذَلِكَ بَلْ نَقُولُ لَعَلَّ إلَيْهِ دَاعِيًا لَمْ نَعْرِفْهُ وَمَا يَسْتَدِلُّونَ بِهِ مِنْ تَخْصِيصَاتٍ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ خَالَفَ الْمَوْصُوفُ فِيهَا غَيْرَ الْمَوْصُوفِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ فَالْجَوَابُ عَنْهَا أَنَّ ذَلِكَ إمَّا لِبَقَائِهَا عَلَى الْأَصْلِ أَوْ مَعْرِفَتِهَا بِدَلِيلٍ آخَرَ أَوْ بِقَرِينَةٍ مَعَ أَنَّهَا مُعَارَضَةٌ بِتَخْصِيصَاتٍ لَا أَثَرَ لَهَا فِي نَقِيضِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ إذْ يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْخَاطِئِ وقَوْله تَعَالَى {وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب: 50] وَالْحِلُّ ثَابِتٌ فِي اللَّاتِي لَمْ يُهَاجِرْنَ مَعَهُ بِالِاتِّفَاقِ. وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا} [النساء: 6] {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} [يس: 11] {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} [النساء: 35] لِي أَمْثَالٌ لَهَا لَا تُحْصَى وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الْفِقْهِ وَلِلْفَرِيقَيْنِ كَلَامٌ طَوِيلٌ يُؤَدِّي ذِكْرُهُ إلَى الْإِطْنَابِ فَلْنَقْتَصِرْ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ (وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى) أَيْ نَظِيرُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَصْلِ قَوْله تَعَالَى {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] عَلَّقَ حُرْمَةَ الرَّبِيبَةِ بِالدُّخُولِ بِامْرَأَةٍ مَوْصُوفَةٍ بِأَنْ تَكُونَ مُضَافَةً إلَيْنَا فَوَجَبَ أَنْ لَا تَثْبُتَ هَذِهِ الْحُرْمَةُ عِنْدَ عَدَمِ هَذَا الْوَصْفِ وَذَلِكَ فِي الزِّنَا أَيْ عَدَمُ الْوَصْفِ يَتَحَقَّقُ فِي الزِّنَا فَلَا تَثْبُتُ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِهِ. وَقَوْلُهُ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الْمُدَّعِي أَيْ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِثْلُ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَقَدْ دَلَّ عَدَمُ الْوَصْفِ وَهُوَ السَّوْمُ فِيهِ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ إذْ لَوْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى النَّفْيِ لَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِي الْعَوَامِلِ بِالْخَبَرِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ» فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ثُمَّ أَلْحَقَ الشَّيْخُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ وَجَعَلَهَا مَبْنِيَّةً عَلَيْهِ وَبَيَّنَ وَجْهَ الْبِنَاءِ فَقَالَ: الْوَصْفُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الشَّرْطَ إنَّمَا يَدْخُلُ عَلَى مَا هُوَ مُوجِبٌ لِلْحُكْمِ فِي الْحَالِ لَوْلَا دُخُولُهُ عَلَيْهِ فَكَانَ الشَّرْطُ مُؤَخِّرًا حُكْمَ الْإِيجَابِ إلَى زَمَانِ وُجُودِ الشَّرْطِ وَنَافِيًا لَهُ فِي الْحَالِ فَكَذَا النَّصُّ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ لَوْلَا الْوَصْفُ فَإِذَا قَيَّدَ بِهِ تَأَخَّرَ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ الْمُسَمَّى إلَى زَمَانِ وُجُودِهِ فَكَانَا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ يُوَضِّحُهُ أَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ لَا يَكُونُ مُوجِبًا وُقُوعَ الطَّلَاقِ مَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ وَبِدُونِهِ كَانَ مُوجِبًا فِي الْحَالِ فَكَذَا قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ رَاكِبَةً لَا يَكُونُ مُوجِبًا مَا لَمْ يُوجَدْ الرُّكُوبُ مَعَ الدُّخُولِ وَقَدْ تَقَرَّرَ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ يُوجِبُ النَّفْيَ عِنْدَ عَدَمِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مُؤَخِّرٌ فَكَذَا التَّقْيِيدُ بِالْوَصْفِ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْعِلَّةِ أَيْ الشَّرْطِ

وَلَنَا أَنَّ أَقْصَى دَرَجَاتِ الْوَصْفِ إذَا كَانَ مُوَثِّرًا أَنْ يَكُونَ عِلَّةُ الْحُكْمِ مِثْلَ السَّارِقِ وَالزَّانِي وَلَا أَثَرَ لِلْعِلَّةِ فِي النَّفْيِ وَمِثَالُ هَذَا أَيْضًا قَوْله تَعَالَى {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] فَهَذَا لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ عِنْدَنَا لِمَا قُلْنَا وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى فِي أَمَةٍ وَلَدَتْ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ فِي بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ فَادَّعَى الْمَوْلَى نَسَبَ الْأَكْبَرِ أَنَّ نَسَبَ مَنْ بَعْدَهُ لَا يَثْبُتُ فَجَعَلَ تَخْصِيصَهُ نَفْيًا لَوْلَا ذَلِكَ لَثَبَتَ لِأَنَّهُمَا وَلَدُ أُمِّ وَلَدِهِ وَقَالَ فِي الشَّهَادَاتِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَوْ الْوَصْفِ يُخَالِفُ الْعِلَّةَ فِي أَنَّهَا لَا تُوجِبُ الْعَدَمَ عِنْدَ الْعَدَمِ لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْحُكْمَ ابْتِدَاءً لَا أَنَّهُ وُجِدَ مُوجِبٌ قَبْلَهَا ثُمَّ صَارَتْ هِيَ مُؤَخِّرَةً حُكْمَ ذَلِكَ الْمُوجِبِ إلَى حِينِ وُجُودِهَا فَتُوجِبُ الْوُجُودَ عِنْدَ الْمَوْجُودِ وَالْعَدَمَ عِنْدَ الْعَدَمِ بَلْ هِيَ بِمَنْزِلَةِ التَّخْصِيصِ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجِبْ النَّفْيَ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ الْحُكْمَ ابْتِدَاءً إذْ لَمْ يَسْبِقْهُ مُوجِبٌ قَبْلَهُ حَتَّى صَارَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ مُؤَخَّرًا إلَى حِينِ وُجُودِهِ فَلِذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْعَدَمَ عِنْدَ الْعَدَمِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ التَّخْصِيصَ إنَّمَا يُوجِبُ النَّفْيَ إذَا تَمَّ الْكَلَامُ بِدُونِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ» إذْ لَوْ سَقَطَتْ السَّائِمَةُ لَمَا اخْتَلَّ الْكَلَامُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْغَنَمِ زَكَاةٌ فَإِنَّهُ لَوْ أَسْقَطَ الْغَنَمَ لَاخْتَلَّ الْكَلَامُ وَلَمْ يَبْقَ فِيهِ مَا يُوجِبُ الْحُكْمَ بِدُونِهِ فَلَا يَكُونُ التَّخْصِيصُ بِهِ مُؤَخَّرًا نَافِيًا وَلَنَا أَنَّ أَقْصَى دَرَجَاتِ الْوَصْفِ أَيْ أَعْلَاهَا إذَا كَانَ مُؤَثِّرًا احْتِرَازٌ عَنْ مِثْلِ قَوْلِ الرَّاوِي «نَهَى النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ نَسِيئَةً» فَإِنَّ وَصْفَ الْحَيَاةِ لَيْسَ بِمُؤَثِّرٍ فِي حُرْمَةِ الْبَيْعِ وَإِنَّمَا الْمُؤَثِّرُ وَصْفُ النَّسِيئَةِ وَمِثَالُ هَذَا أَيْضًا فِي قَوْلِهِ أَيْضًا رَفْعُ إبْهَامٍ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ هَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إشَارَةً إلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا أَثَرَ لِلْعِلَّةِ فِي النَّفْيِ فَرَفَعَ ذَلِكَ الْإِبْهَامَ بِقَوْلِهِ أَيْضًا وَبَيَّنَ أَنَّهُ نَظِيرُ التَّعْلِيقِ بِالْوَصْفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ إذَا كَانَ بِمَعْنَى الشَّرْطِ مَا حُكْمُهُ مَعَ أَنَّ النِّزَاعَ فِيهِ لِأَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ حُكْمُ الشَّرْطِ بَعْدَ هَذَا أَنَّهُ لَا أَثَرَ لَهُ فِي النَّفْيِ فَيُفْهَمُ مِنْهُ حُكْمُ مَا أُلْحِقَ بِهِ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَهَذَا بَاطِلٌ. قَوْلُهُ (وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ) وَهُوَ أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالْوَصْفِ لَا يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَمَةٌ وَلَدَتْ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ فِي بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ بِأَنْ كَانَ بَيْنَ الْوَلَدَيْنِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَقَالَ الْمَوْلَى الْأَكْبَرُ وَلَدِي لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ الْآخَرِينَ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَمَّا خَصَّ الْأَكْبَرَ بِالدَّعْوَى صَارَ كَأَنَّهُ نَفَى نَسَبَ الْآخَرِينَ وَقَالَ: هُوَ وَلَدِي دُونَهُمَا وَلَوْلَا التَّخْصِيصُ لَثَبَتَ نَسَبُهُمَا أَيْضًا لِأَنَّهُمَا وَلَدَا أُمِّ الْوَلَدِ وَلِهَذَا قَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَثْبُتُ نَسَبُهُمَا لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلتَّخْصِيصِ فِي النَّفْيِ وَقَدْ تَبَيَّنَ بِثُبُوتِ نَسَبِ الْأَكْبَرِ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ أَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَأَنَّهَا وَلَدَتْهُمَا عَلَى فِرَاشِهِ وَنَسَبُ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ يَثْبُتُ مِنْ الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ إلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ وَلَمْ يُوجَدْ وَقَالَ فِي الشَّهَادَاتِ عَطْفٌ عَلَى قَالَ الْأَوَّلُ أَيْ وَلَا يَلْزَمُ أَيْضًا مَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي كَذَا أَمَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَهِيَ مَسْأَلَةُ الدَّعْوَى فَلَمْ يَثْبُتْ النَّفْيُ بِالْخُصُوصِ أَيْ بِالتَّقْيِيدِ بِالْوَصْفِ فَإِنَّهُ لَوْ أَشَارَ إلَى الْأَكْبَرِ وَسَمَّاهُ بِاسْمِهِ فَقَالَ: هَذَا وَلَدِي أَوْ فُلَانٌ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ الْآخَرِينَ أَيْضًا مَعَ أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالْعَيْنِ أَوْ الِاسْمِ الْعَلَمِ لَا يُوجِبُ نَفْيَ الْحُكْمِ عَنْ غَيْرِ الْمُشَارِ وَالْمُسَمَّى بِاتِّفَاقٍ بَيْنَ الْعَامَّةِ وَلَكِنْ

وَالدَّعْوَى إذَا قَالَ شُهُودُ الْمِيرَاثِ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا فِي أَرْضِ كَذَا أَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَجَعْلُ النَّفْيِ فِي مَكَانِ كَذَا إثْبَاتًا فِي غَيْرِهِ أَمَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَلَمْ يَثْبُتْ النَّفْيُ بِالْخُصُوصِ لَكِنْ لِأَنَّ الْتِزَامَ النَّسَبِ عِنْدَ ظُهُورِ دَلِيلِهِ وَاجِبٌ شَرْعًا وَالتَّبَرِّي عِنْدَ ظُهُورِ دَلِيلِهِ وَاجِبٌ أَيْضًا وَالِالْتِزَامُ بِالْبَيَانِ فَرْضُ صِيَانَةً عَنْ النَّفْيِ فَصَارَ السُّكُوتُ عِنْدَ لُزُومِ الْبَيَانِ لَوْ كَانَ ثَابِتًا نَفْيًا حَمْلًا لِأَمْرِهِ عَلَى الصَّلَاحِ حَتَّى لَا يَصِيرَ تَارِكًا لِلْفَرْضِ وَفِي مَسْأَلَةِ الشَّهَادَاتِ زَادَ الشُّهُودُ مَا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ وَفِيهِ شُبْهَةٌ وَبِالشُّبْهَةِ تُرَدُّ الشَّهَادَاتُ وَبِمِثْلِهَا لَا يَصِحُّ إثْبَاتُ الْأَحْكَامِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا سُكُوتٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْحَاجَةِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمَكَانِ غَيْرُ وَاجِبٍ وَذِكْرَ الْمَكَانِ يَحْتَمِلُ الِاحْتِرَازَ عَنْ الْمُجَازَفَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQإنَّمَا لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُمَا لِأَنَّ السُّكُوتَ عَنْ الْبَيَانِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ بَيَانٌ وَهَذَا لِأَنَّ السُّكُوتَ مُحْتَمَلٌ وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَجُوزُ إهْدَارُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّرْجِيحِ إلَّا أَنَّهُ يُرَجَّحُ بِقَدْرِ الدَّلِيلِ أَلَا تَرَى أَنَّ سُكُوتَ الشَّفِيعِ وَالْبِكْرِ حُمِلَ عَلَى الرِّضَاءِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا وَجَبَ أَنْ يُرَجَّحَ وَتَرْجِيحُهُ أَنْ يَثْبُتَ نَسَبُ الْأَوَّلِ لَا غَيْرُ لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ الِامْتِنَاعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِنَسَبِهِ بَلْ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ دَعْوَةُ النَّسَبِ فَلَوْ لَمْ يَجْعَلْهُ نَفْيًا لَبَقِيَ فِي عُهْدَةِ الْفَرْضِ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ نَفْيًا لِسُكُوتٍ مُحْتَمِلٍ تَضَرَّرَ الصَّبِيُّ بِهِ وَضَرَرُ الْمَوْلَى فَوْقَ ضَرَرِ الصَّبِيِّ فَرَجَّحْنَا جَانِبَهُ لِئَلَّا يَبْقَى تَحْتَ عُهْدَةِ الْخِطَابِ وَإِنَّمَا لَا يَبْقَى تَحْتَ عُهْدَتِهِ بِانْتِفَاءِ نَسَبِ الْآخَرِينَ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ كَلَامِنَا أَنَّهُ مَحَلُّ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ فَإِنَّ الْمَوْلَى مُحْتَاجٌ إلَى إسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنْ ذِمَّتِهِ وَمُحْتَاجٌ إلَى أَنْ لَا يَلْتَحِقَ بِهِ مَنْ لَيْسَ لَهُ مِنْهُ وَالْوَلَدَ مُحْتَاجٌ إلَى النَّسَبِ إلَّا أَنَّ حَاجَةَ الْمَوْلَى فَوْقَ حَاجَةِ الصَّبِيِّ فَتَرَجَّحَتْ عَلَيْهَا. وَإِذَا تَقَرَّرَ بِمَا ذَكَرْنَا تَحَقُّقُ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ كَانَ سُكُوتُهُ عَنْ دَعْوَةِ نَسَبِ الْآخَرِينَ دَلِيلَ النَّفْيِ لَا تَخْصِيصَهُ الْأَكْبَرَ بِالدَّعْوَةِ وَدَلِيلُ النَّفْيِ كَصَرِيحِ النَّفْيِ وَنَسَبُ أُمِّ الْوَلَدِ يَنْتَفِي بِالنَّفْيِ فَكَذَا بِدَلِيلِ النَّفْيِ وَهَذَا نَظِيرُ مَا قِيلَ إنَّ سُكُوتَ صَاحِبِ الشَّرْعِ عَنْ الْبَيَانِ بَعْدَ وُقُوعِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ بِالسُّؤَالِ دَلِيلُ النَّفْيِ لِأَنَّ الْبَيَانَ وَجَبَ عِنْدَ السُّؤَالِ فَكَانَ تَرْكُهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ دَلِيلَ النَّفْيِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ وَلَا يُقَالُ لَا حَاجَةَ إلَى الدَّعْوَةِ لِأَنَّهُمَا وَلَدَا أُمِّ وَلَدِهِ لِأَنَّ أُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ يَثْبُتُ بِدَعْوَةِ الْأَكْبَرِ فَيَكُونُ مَا هُوَ دَلِيلُ النَّفْيِ مُقَارِنًا لِأُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ فَلَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ وَذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَيْضًا أَنَّ الْفِرَاشَ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهَا مِنْ وَقْتِ الدَّعْوَةِ فَكَانَ انْفِصَالُ الْوَلَدَيْنِ الْآخَرَيْنِ قَبْلَ ظُهُورِ الْفِرَاشِ فِيهِمَا فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُمَا إلَّا بِالدَّعْوَةِ وَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَإِنَّمَا تُرَدُّ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ التَّخْصِيصَ وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ الْحُكْمَ فِي مُخَالِفِهِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُوَرِّثَ تُهْمَةً وَشُبْهَةً فَكَانَ فِي تَخْصِيصِ الشُّهُودِ مَكَانَ إبْهَامٍ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَتَحَرَّزُوا بِهَذَا التَّخْصِيصِ عَنْ الْكَذِبِ فَيُوَرِّثُ تُهْمَةً وَالشَّهَادَةُ تُرَدُّ بِالتُّهْمَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا: لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا سِوَاهُ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ لَا يُقْضَى بِشَهَادَتِهِمْ فَكَذَا هَذَا فَأَمَّا الْأَحْكَامُ فَلَا يَصِحُّ إثْبَاتُهَا وَنَفْيُهَا بِالشُّبْهَةِ بَلْ بِالْحُجَّةِ الْمَعْلُومَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا أَيْ تَخْصِيصُهُمْ مَكَانًا وَسُكُوتُهُمْ عَنْ سَائِرِ الْأَمْكِنَةِ لَيْسَ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمَكَانِ غَيْرُ وَاجِبٍ فَإِنَّهُمْ لَوْ سَكَتُوا عَنْهُ وَاكْتَفَوْا بِقَوْلِهِمْ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا يَرِثُهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ بِالِاتِّفَاقِ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى وُجُودِ وَارِثٍ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ لِأَنَّ السُّكُوتَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْحَاجَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَكَمَا يَحْتَمِلُ تَخْصِيصُهُمْ الْمَكَانَ عِلْمَهُمْ بِالْوَارِثِ يَحْتَمِلُ الْمُبَالَغَةَ فِي نَفْيِ الْوَارِثِ وَمَعْنَاهُ أَنْ يَلِدَهُ كَذَا مَوْلِدُهُ وَمَسْقَطُ رَأْسِهِ وَلَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ

[القران في النظم يوجب القران في الحكم]

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ مِثْلُ قَوْلِ بَعْضِهِمْ فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] : إنَّ الْقُرْآنَ يُوجِبُ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الصَّبِيِّ الزَّكَاةُ وَقَالُوا: لِأَنَّ الْعَطْفَ يُوجِبُ الشَّرِكَةَ وَاعْتَبَرُوا بِالْجُمْلَةِ النَّاقِصَةِ وَقُلْنَا نَحْنُ: إنَّ عَطْفَ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ فِي اللُّغَةِ لَا يُوجِبُ الشَّرِكَةَ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ بَيْنَهُمَا لِافْتِقَارِ الْجُمْلَةِ النَّاقِصَةِ إلَى مَا تَتِمُّ بِهِ فَإِذَا تَمَّ بِنَفْسِهِ لَمْ تَجِبْ الشَّرِكَةُ إلَّا فِيمَا يُفْتَقَرُ إلَيْهِ وَهَذَا أَكْثَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَنْ يُحْصَى ـــــــــــــــــــــــــــــQفِيهَا بَعْدَ تَفَحُّصٍ وَإِتْقَانٍ فَأَحْرَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وَارِثٌ آخَرُ فِي مَكَان آخَرَ وَيَحْتَمِلُ التَّحَرُّزَ وَالتَّوَرُّعَ عَنْ الْمُجَازَفَةِ أَيْ أَنَّا تَفَحَّصْنَا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ دُونَ سَائِرِ الْمَوَاضِعِ فَنُخْبِرُ عَمَّا تَحَقَّقْنَا وَلَا نُخْبِرُ مُجَازَفَةً عَنْ سَائِرِ الْأَمْكِنَةِ لِأَنَّا لَمْ نَتَفَحَّصْ فِيهَا فَعَارَضَ هَذَانِ الِاحْتِمَالَانِ ذَلِكَ الِاحْتِمَالَ فَلَا يُمْنَعُ الْعَمَلُ بِشَهَادَتِهِمْ بِمِثْلِ هَذِهِ التُّهْمَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ الثَّابِتَ بْنَ الدَّحْدَاحِ لَمَّا مَاتَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ قَبِيلَتِهِ هَلْ يَعْرِفُونَ لَهُ فِيكُمْ نَسَبًا قَالُوا: لَا إلَّا ابْنَ أُخْتٍ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِيرَاثَهُ لِابْنِ أُخْتِهِ إلَى لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ» فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ فِيهِمْ نَسَبًا وَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَعَمِلَ بِشَهَادَتِهِمْ كَذَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ. [الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ] قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِنْ الْعَمَلِ بِالْوُجُوهِ الْفَاسِدَةِ مَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ النَّظَرِ إنَّ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ وَصُورَتَهُ أَنَّ حَرْفَ الْوَاوِ مَتَى دَخَلَ بَيْنَ جُمْلَتَيْنِ تَامَّتَيْنِ فَالْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ تُشَارِكُ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهَا فِي الْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِهَا عِنْدَهُمْ خِلَافًا لِعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَأَجْمَعُوا أَنَّ الْمَعْطُوفَ إذَا كَانَ نَاقِصًا يُشَارِكُ الْجُمْلَةَ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهَا فِي خَبَرِهِ وَحُكْمِهِ جَمِيعًا وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ الْقِرَانَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ بِوَاوِ النَّظْمِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] يُوجِبُ سُقُوطَ الزَّكَاةِ عَنْ الصَّبِيِّ كَسُقُوطِ الصَّلَاةِ عَنْهُ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ فِي الْحُكْمِ وَشُبْهَتُهُمْ أَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ فِي اللُّغَةِ وَلِهَذَا يُسَمَّى وَاوُ الْعَطْفِ عِنْدَهُمْ وَمُوجِبُ الْعَطْفِ هُوَ الِاشْتِرَاكُ وَمُطْلَقُ الِاشْتِرَاكِ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ وَلِهَذَا إذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ مُتَعَرِّيًا عَنْ الْخَبَرِ فَإِنَّهُ يُشَارِكُ الْأَوَّلَ فِي خَبَرِهِ وَحُكْمِهِ فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِالشَّرِكَةِ فِي الْحُكْمِ إذَا كَانَا كَلَامَيْنِ تَامَّيْنِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَاعْتَبِرُوا بِالْجُمْلَةِ النَّاقِصَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي كَلَامِ النَّاسِ يُوجِبُ الْقِرَانُ الِاشْتِرَاكَ فَإِنَّ قَوْلَهُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ يُوجِبُ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ وَالْحُرِّيَّةِ جَمِيعًا بِالشَّرْطِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَلَامَيْنِ تَامًّا مُفِيدًا بِنَفْسِهِ فَكَذَا فِي كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَقُلْنَا نَحْنُ إنَّ عَطْفَ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ فِي اللُّغَةِ لَا يُوجِبُ الشَّرِكَةَ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ كَلَامٍ أَنْ يَسْتَبِدَّ بِنَفْسِهِ وَيَنْفَرِدَ بِحُكْمِهِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ كَلَامٌ آخَرُ كَقَوْلِك جَاءَنِي زَيْدٌ وَذَهَبَ عَمْرٌو لِأَنَّ فِي إثْبَاتِ الشَّرِكَةِ جَعْلَ الْكَلَامَيْنِ كَلَامًا وَاحِدًا وَهُوَ خِلَافُ الْحَقِيقَةِ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَهِيَ فِي الْجُمْلَةِ النَّاقِصَةِ فَإِنَّهَا لَمَّا احْتَاجَتْ إلَى الْخَبَرِ أَوْجَبَ عَطْفُهَا عَلَى الْكَامِلَةِ الشَّرِكَةَ فِي الْخَبَرِ ضَرُورَةَ الْإِفَادَةِ وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ عُدِمَتْ فِي عَطْفِ الْجُمْلَةِ التَّامَّةِ عَلَى مِثْلِهَا فَلَمْ يَثْبُتْ الشَّرِكَةُ. وَهَذَا أَيْ عَطْفُ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ بِدُونِ الشَّرِكَةِ كَثِيرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى

وَلِهَذَا قُلْنَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَعَبْدِي هَذَا حُرٌّ: إنَّ الْعِتْقَ بِالشَّرْطِ وَإِنْ كَانَ تَامًّا لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ التَّعْلِيقِ قَاصِرٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِثْلُ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} [الشورى: 24] . وَقَوْلُهُ تَبَارَكَ اسْمُهُ {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ} [الحج: 5] وَقَوْلُهُ عَزَّ ذِكْرُهُ {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة: 15] وَقَوْلُهُ جَلَّ جَلَالُهُ {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى} [الأعراف: 26] وَغَيْرُ ذَلِكَ فَهَذِهِ جُمَلٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لَمْ تُشَارِكْ مَا تَقَدَّمَهَا فِي الْإِعْرَابِ فَأَنَّى تُشَارِكُهَا فِي الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ وَلِهَذَا أَيْ وَلِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَثْبُتُ لِلِافْتِقَارِ قُلْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ إنَّ الْعِتْقَ يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ كَالطَّلَاقِ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَبْدِي حُرٌّ وَإِنْ كَانَ تَامًّا إيقَاعًا لَكِنَّهُ قَاصِرٌ تَعْلِيقًا أَيْ نَاقِصٌ لِأَنَّهُ عُرِفَ بِدَلَالَةِ الْحَالِ أَنَّ غَرَضَهُ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ لَا التَّنْجِيزُ وَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ شَرْطًا عَلَى حِدَةٍ فَصَارَ نَاقِصًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَالْغَرَضُ وَقَدْ عَطَفَهُ عَلَى الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ فَيَثْبُتُ الشَّرِكَةُ لِلِافْتِقَارِ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَعَمْرَةُ طَالِقٌ لَا يَتَعَلَّقُ طَلَاقُ عَمْرَةَ بِالشَّرْطِ بَلْ يُتَنَجَّزُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ غَرَضُهُ التَّعْلِيقَ لَاقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ وَعَمْرَةُ لِأَنَّ خَبَرَ الْأَوَّلِ يَصْلُحُ خَبَرًا لَهُ فَيَثْبُتُ الشَّرِكَةُ بِالْعَطْفِ وَحَيْثُ لَمْ يَقْتَصِرْ دَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ التَّنْجِيزُ بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا لِأَنَّ خَبَرَ الْأَوَّلِ لَا يَصْلُحُ خَبَرًا لِلثَّانِي وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَزَيْنَبُ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَعَمْرَةُ طَالِقٌ أَنَّ طَلَاقَ عَمْرَةَ يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ أَيْضًا لِأَنَّ غَرَضَهُ تَعْلِيقُ الثَّلَاثِ فِي حَقِّ زَيْنَبَ وَتَعْلِيقُ نَفْسِ الطَّلَاقِ فِي حَقِّ عَمْرَةَ وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ إلَّا بِإِعَادَةِ الْخَبَرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ عَبْدِي حُرٌّ فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ثَبَتَ فِي قَوَانِينِ عِلْمِ الْمَعَانِي أَنَّ رِعَايَةَ التَّنَاسُبِ شَرْطٌ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ حَتَّى لَوْ قَالَ قَائِلٌ: زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ وَدَرَجَاتُ الْحَمْلِ ثَلَثُونِ وَكُمُّ الْخَلِيفَةِ فِي غَايَةِ الطُّولِ وَفِي عَيْنِ الذُّبَابِ جُحُوظٌ وَكَانَ جَالِينُوسُ مَاهِرًا فِي الطِّبِّ وَالْخَتْمُ فِي التَّرَاوِيحِ سُنَّةٌ وَالْقِرْدُ شَبِيهٌ بِالْآدَمِيِّ سُجِّلَ عَلَيْهِ بِكَمَالِ السَّخَافَةِ أَوْ عُدَّ مَسْخَرَةً مِنْ الْمَسَاخِرِ فَدَلَّ أَنَّ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ. قُلْنَا لَا نُنْكِرُ أَنَّ التَّنَاسُبَ مِنْ مُحَسِّنَاتِ الْكَلَامِ وَلَكِنَّا نُنْكِرُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِهِ فَإِنَّهُ مُحْتَمَلٌ وَبِالْمُحْتَمَلِ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ وَهَذَا كَالْمَفْهُومِ فَإِنَّا لَا نُنْكِرُ أَنَّهُ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ الْكَلَامِ وَعَلَيْهِ بُنِيَ عِلْمُ الْمَعَانِي وَلَكِنَّهُ لَا يَصْلُحُ مُثْبِتًا لِلْحُكْمِ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى أَنَّ افْتِقَارَ الثَّانِي إلَى الْأَوَّلِ فِي أَمْرٍ يُوجِبُ الشَّرِكَةَ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي تَامًّا بِنَفْسِهِ قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى إلَى آخِرِهِ الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ قَبْلَ التَّوْبَةِ بِالِاتِّفَاقِ وَاخْتُلِفَ فِي طَرِيقِ الرَّدِّ فَعِنْدَنَا لَا يَقْبَلُ شَهَادَتَهُ تَتْمِيمًا لِلْحَدِّ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَقْبَلُ لِلْفِسْقِ فَإِنَّهُ بِالْقَذْفِ بِلَا شُهُودٍ هَتَكَ سِتْرَ الْعِفَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَصَارَ بِهِ فَاسِقًا وَلِهَذَا لَزِمَهُ الْحَدُّ وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا بِارْتِكَابِ جَرِيمَةٍ مُوجِبَةٍ لِلْفِسْقِ وَإِذَا ثَبَتَ فِسْقُهُ بِالْقَذْفِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ قَبْلَ الْحَدِّ أَيْضًا لِوُجُودِ الْفِسْقِ وَيَقْبَلُ إذَا تَابَ قَبْلَ الْحَدِّ أَوْ بَعْدَهُ لِزَوَالِ الْفِسْقِ بِالتَّوْبَةِ كَسَائِرِ الْفَسَقَةِ إذَا تَابُوا وَعِنْدَنَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ تَتْمِيمًا لِلْحَدِّ وَسَبَبُهُ الْقَذْفُ مَعَ الْعَجْزِ عَنْ إتْيَانِ أَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ لَا نَفْسَ

وَعَلَى هَذَا قُلْنَا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] : إنَّ قَوْلَهُ {فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] جَزَاءٌ وَقَوْلَهُ لَا تَقْبَلُوا وَإِنْ كَانَ تَامًّا وَلَكِنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَصْلُحُ جَزَاءً وَاحِدًا مُفْتَقِرًا إلَى الشَّرْطِ فَجُعِلَ مُلْحَقًا بِالْأَوَّلِ أَلَا تَرَى أَنَّ جُرْحَ الشَّهَادَةِ إيلَامٌ كَالضَّرْبِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْقَذْفِ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُتَمَيِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ. وَرُبَّمَا يَكُونُ حِسْبَةً مِنْ الْقَاذِفِ إذْ عَلِمَ إصْرَارَهُ وَوَجَدَ أَرْبَعَةً مِنْ الشُّهُودِ فَإِذَا عَجَزَ لَمْ يَكُنْ قَذْفُهُ حِسْبَةً وَإِقَامَةً لِحَقِّ الشَّرْعِ بَلْ كَانَ هَتْكًا لِلسِّتْرِ لَا غَيْرَ وَأَنَّهُ حَرَامٌ شَرْعًا فَصَارَ سَبَبًا لِلْحَدِّ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّا نَسْمَعُ بَيِّنَةَ الْقَاذِفِ عَلَى إثْبَاتِ مَا قَذَفَ وَلَوْ كَانَ قَذْفُهُ كَبِيرَةً بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ مَسْمُوعًا وَلَا مَعْمُولًا بِحُكْمِهِ بِالْبَيِّنَةِ فَثَبَتَ أَنَّهُ إنَّمَا صَارَ كَبِيرَةً بِالْعَجْزِ فَإِذَا عَجَزَ وَصَارَ الْقَذْفُ حِينَئِذٍ فِسْقًا لَزِمَ الْقَاضِي إقَامَةُ الْحَدِّ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِظُهُورِ فِسْقِهِ وَلَكِنَّهَا بَعْدَ الْقَذْفِ فِي مُدَّةِ الْمُهْلَةِ مَقْبُولَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْسُقْ بَعْدُ وَإِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَا يُقْبَلُ بَعْدُ وَإِنْ تَابَ لِأَنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ مِنْ تَمَامِ حَدِّهِ وَأَصْلَ الْحَدِّ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ فَمَا هُوَ بِمَنْزِلَتِهِ لَا يَسْقُطُ أَيْضًا وَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ تَمَسَّكُوا فِي إثْبَاتِ مَذْهَبِهِمْ بِظَاهِرِ الْآيَةِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنَّ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ. وَقَوْلُهُ {فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] جَزَاءٌ لَهُ وَلِهَذَا دَخَلَ فِيهِ الْفَاءُ أَيْ مَنْ رَمَى مُحْصَنَةً فَاجْلِدُوهُ وقَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] جُمْلَةٌ تَامَّةٌ مُنْقَطِعَةٌ عَنْ الْأُولَى لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ كَلَامٍ تَامٍّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنِدًا بِنَفْسِهِ وَالْوَاوُ لِلنَّظْمِ فَلَا يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ وَقَوْلَهُ عَزَّ اسْمُهُ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] جُمْلَةٌ تَامَّةٌ أَيْضًا وَلَكِنَّهَا فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْهَا أَيْ وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا لِأَنَّهُمْ فَاسِقُونَ بِذَلِكَ الرَّمْيِ فَكَانَتْ مُتَّصِلَةً بِمَا تَقَدَّمَهَا بِالِاسْتِثْنَاءِ اللَّاحِقِ بِهَا يَكُونُ مُنْصَرِفًا إلَيْهِمَا فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: إلَّا الَّذِينَ تَابُوا فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا بِفَاسِقِينَ بَعْدَ التَّوْبَةِ فَاقْبَلُوا شَهَادَتَهُمْ وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَعْدَ الْجَمْلِ الْمَعْطُوفَةِ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِالْوَاوِ مُنْصَرِفٌ إلَى الْكُلِّ عَلَى مَا عُرِفَ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُسْقِطَ الْكُلَّ بِالتَّوْبَةِ رَدَّ الشَّهَادَةِ لِزَوَالِ الْفِسْقِ وَالْجَلْدَ لِزَوَالِ الْقَذْفِ بِإِكْذَابِ النَّفْسِ إلَّا أَنَّ الْجَلْدَ حَقُّ الْمَقْذُوفِ فَتَوْبَتُهُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَسْتَعْفِيَهُ فَلَا جُرْمَ إذَا اسْتَعْفَاهُ فَعَفَا عَنْهُ سَقَطَ الْحَدُّ أَيْضًا. وَأَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَالُوا: إنَّ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ كَمَا قَالَ: وَلَكِنَّ نَفْسَ الرَّمْيِ لَا يَصْلُحُ لِإِيجَابِ الْحَدِّ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْحِسْبَةِ وَالْجِنَايَةِ وَلَا يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الْجِنَايَةِ إلَّا بِالْعَجْزِ عَنْ الْإِتْيَانِ بِالشُّهُودِ فَعَطَفَ عَلَيْهِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا لِتَرَجُّحِ جَانِبِهَا وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الشَّرْطِ فَكَانَ الْكُلُّ شَرْطًا لِلْجَزَاءِ الْمَذْكُورِ كَمَا لَوْ قَالَ لِنِسَائِهِ الَّتِي تَدْخُلُ مِنْكُنَّ: الدَّارَ ثُمَّ تُكَلِّمُ زَيْدًا فَهِيَ طَالِقٌ كَانَ دُخُولُ الدَّارِ مَعَ كَلَامِ زَيْدٍ شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ. وَإِنَّمَا عَطَفَ بِكَلِمَةِ ثُمَّ لِأَنَّ إقَامَةَ الشُّهُودِ تَتَرَاخَى عَنْ الْقَذْفِ فِي الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ وَلَا تُقَامُ عَقِيبَ الرَّمْيِ مُتَّصِلًا بِهِ ثُمَّ رَتَّبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ بِقَوْلِهِ {فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] فَتَعَلَّقَ الْجَلْدُ بِهِ وَصَارَ مِنْ حُكْمِهِ مِثْلَهُ فِي قَوْله تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] فَشَارَكَهُ فِي كَوْنِهِ جَزَاءً وَاحِدًا لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ تَامًّا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْخَصْمُ

وَأَلَا تَرَى أَنَّهُ فُوِّضَ إلَى الْأَئِمَّةِ فَأَمَّا قَوْلُهُ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] فَلَا يَصْلُحُ جَزَاءً لِأَنَّ الْجَزَاءَ مَا يُقَامُ ابْتِدَاءً بِوِلَايَةِ الْإِمَامِ فَأَمَّا الْحِكَايَةُ عَنْ حَالٍ قَائِمَةٍ فَلَا فَاعْتُبِرَ تَمَامُهَا بِصِيغَتِهَا فَكَانَتْ فِي حَقِّ الْجَزَاءِ فِي حُكْمِ الْجُمْلَةِ الْمُبْتَدَأَةِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} [الشورى: 24] وَمِثْلُ قَوْلِهِ {وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} [الحج: 5] {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة: 15] وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَطَعَ قَوْلَهُ وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ مَعَ قِيَامِ دَلِيلِ الِاتِّصَالِ وَكُلُّ ذَلِكَ غَلَطٌ وَقُلْنَا نَحْنُ بِصِيغَةِ الْكَلَامِ أَنَّ الْقَذْفَ سَبَبٌ وَالْعَجْزَ عَنْ الْبَيِّنَةِ شَرْطٌ بِصِفَةِ التَّرَاخِي وَالرَّدَّ حَدٌّ مُشَارِكٌ لِلْجَلْدِ لِأَنَّهُ عَطْفٌ بِالْوَاوِ وَالْعَجْزَ عَطْفٌ بِثُمَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــQوَلَكِنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَصْلُحُ جَزَاءً وَاحِدًا مُفْتَقِرٌ إلَى الشَّرْطِ كَمَا بَيَّنَّا فِي قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَعَبْدِي هَذَا حُرٌّ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَلْحَقُ بِالْأَوَّلِ وَيَصِيرُ الْكُلُّ حَدًّا لِلْقَذْفِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَتَغْرِيبُ عَامٍ أَنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْبِكْرِ لِلْعَطْفِ وَلَكِنَّا لَمْ نَجْعَلْ التَّقْرِيبَ حَدًّا لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ وَلِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَدًّا لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِغْرَاءِ عَلَى ارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ دُونَ الزَّجْرِ فَأَمَّا رَدُّ الشَّهَادَةِ فَثَابِتٌ بِالْكِتَابِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْجَلْدِ وَأَنَّهُ صَالِحٌ لِتَتْمِيمِ الْحَدِّ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ تُقَامُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَلِلْمَقْذُوفِ عَلَى مَا عُرِفَ وَحَقُّهُ فِي زَوَالِ مَا لِحَقِّهِ مِنْ الْعَارِ بِتُهْمَةِ الزِّنَا وَذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِأَنْ يَصِيرَ الْقَاذِفُ مُكَذِّبُ الشَّهَادَةِ مَرْدُودَ الْكَلَامِ وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَأَلَّمُ بِرَدِّ الشَّهَادَةِ وَإِبْطَالِ كَلَامِهِ فَوْقَ مَا يَتَأَلَّمُ بِالضَّرْبِ فَيَصْلُحُ عُقُوبَةً فَيَحْصُلُ بِهِ الزَّجْرُ ثُمَّ جَرِيمَةُ الْقَاذِفِ بِاللِّسَانِ وَرَدُّ الشَّهَادَةِ حَدٌّ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي حَصَلَ بِهِ الْجَرِيمَةُ فَكَانَ جَزَاءً وِفَاقًا كَشَرْعِيَّةِ حَدِّ السَّرِقَةِ فِي الْيَدِ الَّتِي هِيَ آلَةُ الْأَخْذِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْحَدِّ وَهُوَ دَفْعُ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ فِي إهْدَارِ قَوْلِهِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي إقَامَةِ الْجَلْدِ فَلِذَلِكَ جَعَلْنَا رَدَّ الشَّهَادَةِ مُتَمِّمًا لِلْحَدِّ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ لِأَنَّهُ إيلَامٌ بَاطِنًا كَالْقَذْفِ إلَّا أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَتَأَلَّمُ بِهِ وَلَا يَنْزَجِرُ بِهِ عَنْ الْقَذْفِ فَضَمَّ إلَيْهِ الْإِيلَامَ الْحِسِّيَّ لِيَشْمَلَ الزَّاجِرُ الْجَمِيعَ وَيَحْصُلَ الِانْزِجَارُ عَامًّا وَجُعِلَ الرَّدُّ تَتْمِيمًا لَهُ لِيَكُونَ جَزَاءً وِفَاقًا. فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] شَهَادَةٌ يُقِيمُهَا الْقَاذِفُ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ بِدَلِيلِ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ لَهُمْ يَعْنِي إذَا أُقِيمَ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ لَا تَقْبَلُوا لِأَجْلِهِمْ شَهَادَةً عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِمْ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ فَإِنَّ الْقَاذِفَ صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرْتُمْ لَقِيلَ وَلَا تَقْبَلُوا شَهَادَتَهُمْ قُلْنَا: الْمُرَادُ شَهَادَتُهُ فِي الْحَوَادِثِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لِمَنْ حُدَّ حَدَّ الْقَذْفِ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَيْفَ وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا أَنَّهُ إذَا قَامَ أَرْبَعَةٌ مِنْ الشُّهُودِ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ تُقْبَلُ وَيَصِيرُ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ وقَوْله تَعَالَى لَهُمْ شَهَادَةٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ شَهَادَتُهُمْ كَمَا يُقَالُ هَذِهِ دَارُك وَهَذِهِ دَارٌ لَك وَالدَّالُّ عَلَيْهِ أَنَّ شَهَادَةً نَكِرَةٌ وَقَعَتْ فِي النَّفْيِ فَيُوجِبُ الْعُمُومَ وَلَوْ حُمِلَ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ لَا يُمْكِنُ تَعْمِيمُهَا لِأَنَّ شَهَادَةً تُقِيمُهَا عَلَى سَائِرِ حُقُوقِهِ مَقْبُولَةٌ بِالْإِجْمَاعِ فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أَوْلَى فَإِنْ قِيلَ: وَلَا تَقْبَلُوا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ لِأَنَّهُ تَحْرِيمُ الْقَبُولِ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ حَدًّا لِأَنَّ الْحَدَّ فِعْلٌ يَلْزَمُ لِلْإِمَامِ إقَامَتُهُ لَا حُرْمَةُ فِعْلٍ وَلَيْسَ فِيهَا فِعْلٌ وَلِأَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَتَصَوُّرِهِ وَأَنْتُمْ أَبْطَلْتُمْ وَالْإِبْطَالُ فَوْقَ النَّهْيِ. قُلْنَا قَوْلُكُمْ النَّهْيُ لَا يَصْلُحُ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ مُسَلَّمٌ غَيْرَ أَنَّ النَّهْيَ الْمُحَرِّمَ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ دَلَّنَا عَلَى بُطْلَانِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ بِالْحَدِّ الَّذِي أُمْضِيَ عَلَى الْقَاذِفِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQكَمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْجَلْدِ دَلَّنَا عَلَى الْوُجُوبِ بِسَبَبٍ سَابِقٍ عَلَى الْأَمْرِ وَهُوَ الْقَذْفُ إذْ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لِإِقَامَةِ مَا وَجَبَ مِنْ فِعْلٍ أَوْ كَفٍّ بِسَبَبٍ وَإِذَا دَلَّ النَّهْيُ عَنْ الْقَبُولِ عَلَى سَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ أَبْطَلَتْهَا وَقَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْقَذْفَ غَيْرُ مُبْطِلٍ بِنَفْسِهِ عُلِمَ أَنَّهُ بَطَلَ حَدًّا كَأَنَّهُ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] مُؤْلِمَةً مُحَرِّمَةً لِقَبُولِ شَهَادَتِهِمْ أَوْ مُبْطِلَةً لِأَدَاءِ شَهَادَتِهِمْ وَقَوْلُكُمْ النَّهْيُ يَدُلُّ عَلَى تَصَوُّرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. قُلْنَا: الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ شَهَادَةٌ تَحَرَّمَ قَبُولُهَا حَتَّى انْعَقَدَ النِّكَاحُ بِحُضُورِهِ وَلَا يَنْعَقِدُ بِحُضُورِ الْعَبْدِ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] فَجُمْلَةٌ تَامَّةٌ بِنَفْسِهَا مُنْقَطِعَةٌ عَمَّا تَقَدَّمَهَا لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَهَا جُمْلَتَانِ فِعْلِيَّتَانِ أَمْرٌ بِفِعْلٍ وَنَهْيٌ عَنْ آخَرَ خُوطِبَ بِهِمَا الْأَئِمَّةُ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ إخْبَارٌ عَنْ حَالَةٍ قَائِمَةٍ بِالْقَاذِفِينَ وَبَيَانٌ لِجَرِيمَتِهِمْ فَلَا يَصْلُحُ جَزَاءً عَلَى الْقَذْفِ حَتَّى يَكُونَ مُتَمِّمًا لِلْحَدِّ بَلْ الْمَقْصُودُ بِهِ إزَالَةُ إشْكَالٍ عَسَى يَقَعُ وَهُوَ أَنَّ الْقَذْفَ خَبَرٌ مُتَمَيِّلٌ وَرُبَّمَا يَكُونُ حِسْبَةً إذَا كَانَ الرَّامِي صَادِقًا لَهُ أَرْبَعَةٌ مِنْ الشُّهُودِ وَالزَّانِي مُصِرًّا فَكَانَ يَقَعُ الْإِشْكَالُ أَنَّهُ لِمَاذَا كَانَ سَبَبًا لِوُجُوبِ عُقُوبَةٍ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَأَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْإِشْكَالَ بِقَوْلِهِ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] أَيْ الْعَاصُونَ بِهَتْكِ سِتْرِ الْعِفَّةِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ حِينَ عَجَزُوا عَنْ إقَامَةِ أَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ عَطْفُهُ عَلَى الْأَوَّلِ بَقِيَ كَلَامًا مُبْتَدَأً وَكَانَتْ الْوَاوُ لِلنَّظْمِ وَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْصَرِفًا إلَيْهِ لَا غَيْرَ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إنَّمَا يَرْجِعُ إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ إذَا كَانَ الْكَلَامُ مُتَّصِلًا بَعْضُهُ بِبَعْضِ صُورَةً وَمَعْنًى وَهَاهُنَا قَدْ انْقَطَعَ هَذَا الْكَلَامُ عَمَّا تَقَدَّمَهُ فَاقْتَصَرَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَيْهِ فَإِذَا تَابَ لَا يَقْبَلُ شَهَادَتَهُ عَمَلًا بِقَوْلِهِ أَبَدًا وَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَ: إنَّهُ مَذْكُورٌ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيلِ لِرَدِّ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 82] بِالْفَاءِ فَلَمَّا قِيلَ بِالْوَاوِ عُلِمَ أَنَّهُ إخْبَارٌ لَا تَعْلِيلٌ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ وَلَوْ كَانَ رَدُّ الشَّهَادَةِ بِسَبَبِ الْفِسْقِ لَكَانَ فِي الْآيَةِ عَطْفُ الْعِلَّةِ عَلَى الْحُكْمِ وَذَلِكَ لَا يَحْسُنُ فِي الْبَيَانِ وَلِهَذَا الْأَصْلِ قُلْنَا بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ حَدِّهِ وَأَوَانُهُ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ وَذُكِرَ فِي طَرِيقَةِ الْإِمَامِ الْبُرْغَرِيِّ وَغَيْرِهَا أَنَّ شَهَادَتَهُ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ إتْيَانِ الشُّهُودِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ مَرْدُودَةٌ وَلَكِنْ بِسَبَبِ الْفِسْقِ لَا بِطَرِيقِ الْحَدِّ إذَا تَابَ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ يَقْبَلُ لِأَنَّ تَحَقُّقَ الْعَجْزِ تَحَقُّقُ فِسْقِهِ وَلَكِنْ تَوَقَّفَ بُطْلَانُهَا حَدًّا عَلَى الْجَلْدِ لِأَنَّ الْحَدَّ وَرَدَّ الشَّهَادَةِ وَإِنْ وَجَبَا بَعْدَ الْعَجْزِ وَلَكِنَّ بُطْلَانَ الشَّهَادَةِ حُكْمُ الْإِبْطَالِ لَا حُكْمُ وُجُوبِ الْإِبْطَالِ كَمَا أَنَّ الْأَلَمَ الَّذِي يَلْحَقُهُ حُكْمُ الْجَلْدِ لَا حُكْمُ وُجُوبِ إيقَاعِهِ لِأَنَّ الْجَزَاءَ مَا يُقَامُ ابْتِدَاءً بِوِلَايَةِ الْإِمَامِ أَيْ الْجَزَاءُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِفِعْلٍ يَحْدُثُ بِوِلَايَةِ الْإِمَامِ لَا بِالْإِخْبَارِ عَنْ حَالَةٍ قَائِمَةٍ بِالْجَانِي أَحْدَثَهَا بِنَفْسِهِ. فَاعْتُبِرَ تَمَامُهَا أَيْ تَمَامُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِصِيغَتِهَا أَيْ بِنَفْسِهَا فَإِنَّهَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّقٍ لَهَا بِالْأُولَى فَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي حَقِّ الْجَزَاءِ أَيْ فِي كَوْنِهَا جَزَاءً فِي حُكْمِ الْمُبْتَدَأِ أَيْ الْكَلَامِ الْمُسْتَأْنَفِ الْمُنْقَطِعِ عَمَّا سَبَقَ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ اسْمَ الْإِشَارَةِ وَالضَّمِيرَ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَوَّلِ الْكَلَامِ إذْ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُتَعَلِّقٍ سَابِقٍ فَلَا يُجْعَلُ فِي هَذَا مُبْتَدَأً وَالشَّافِعِيُّ قَطَعَ قَوْله تَعَالَى وَلَا تَقْبَلُوا عَمَّا سَبَقَ مَعَ قِيَامِ دَلِيلِ الِاتِّصَالِ وَهُوَ كَوْنُهُ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً صَالِحَةً لِلْجَزَاءِ مُفَوَّضَةً إلَى الْأَئِمَّةِ مِثْلُ الْأُولَى بِمَا قَبْلَهُ

[العام يختص بسببه]

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ إنَّ الْعَامَّ يَخْتَصُّ بِسَبَبِهِ وَهَذَا عِنْدَنَا بَاطِلٌ لِأَنَّ النَّصَّ سَاكِتٌ عَنْ سَبَبِهِ وَالسُّكُوتَ لَا يَكُونُ حُجَّةً أَلَا تَرَى أَنَّ عَامَّةَ الْحَوَادِثِ مِثْلُ الظِّهَارِ وَاللِّعَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَرَدَتْ مُقَيَّدَةً بِأَسْبَابٍ وَلَمْ تَخْتَصَّ بِهَا وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ عِنْدَنَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْجَزَاءِ فَيَخْتَصُّ بِسَبَبِهِ وَالثَّانِي مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ وَالثَّالِثُ مَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْجَوَابِ وَاحْتَمَلَ الِابْتِدَاءَ وَالرَّابِعُ مَا زِيدَ عَلَى قَدْرِ الْجَوَابِ فَكَانَ ابْتِدَاءً يَحْتَمِلُ الْبِنَاءَ أَمَّا الْأَوَّلُ فَمِثْلُ مَا رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ سَهَا فَسَجَدَ» وَرُوِيَ أَنَّ مَاعِزًا زَنَى فَرُجِمَ وَالْفَاءُ لِلْجَزَاءِ فَتَعَلَّقَ الْأَوَّلُ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَهُوَ قَوْله تَعَالَى وَلَا تَقْبَلُوا مَعَ قِيَامِ دَلِيلِ الِانْفِصَالِ وَهُوَ كَوْنُهُ جُمْلَةً اسْمِيَّةً غَيْرَ صَالِحَةٍ لِلْجَزَاءِ أَوْ غَيْرَ صَالِحَةٍ لِلتَّعْلِيلِ وَقُلْنَا نَحْنُ بِصِيغَةِ الْكَلَامِ أَيْ عَمِلْنَا بِمَا هُوَ مُوجَبُ الْكَلَامِ وَهُوَ أَنَّ الْقَذْفَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْحَدِّ وَالْعَجْزَ عَنْ الْبَيِّنَةِ شَرْطٌ لَهُ بِصِفَةِ التَّرَاخِي يَعْنِي لَيْسَ الشَّرْطُ هُوَ الْعَجْزُ الْمُتَّصِلُ بِالْقَذْفِ فِي الْحَالِ لَكِنَّ الشَّرْطَ هُوَ الْعَجْزُ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْمُهْلَةِ الْمُؤَقَّتَةِ إلَى آخِرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ أَوْ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ إلَى مَا يَرَاهُ الْقَاضِي كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى فَإِنْ عَجَزَ بَعْدَ ذَلِكَ تَحَقَّقَ الشَّرْطُ وَصَارَ الْقَذْفُ حِينَئِذٍ فِسْقًا مُقْتَصِرًا عَلَى الْحَالِ لَا أَنَّهُ ظَهَرَ كَوْنُهُ جِنَايَةً مِنْ الْأَصْلِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ قَذْفُ حِسْبَةٍ بِأَنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ وَلَكِنَّهُ عَجَزَ عَنْ إقَامَتِهَا لِمَوْتِهِمْ فِي مُدَّةِ الْمُهْلَةِ أَوْ لِغَيْبَتِهِمْ أَوْ لِامْتِنَاعِهِمْ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَلِذَلِكَ يَقْتَصِرُ عَلَى حَالَةِ الْعَجْزِ وَالرَّدُّ حَدٌّ مُشَارِكٌ لِلْجَلْدِ فَيَثْبُتُ الرَّدُّ مُقَارِنًا لِلْجَلْدِ لِأَنَّهُ عَطْفٌ بِالْوَاوِ عَلَى الْجَلْدِ فَلَا يَثْبُتُ قَبْلَهُ لَكِنَّهُ يَثْبُتُ مُقَارِنًا لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تُوجِبُ التَّرَاخِي وَالْعَجْزَ عَطْفٌ بِثُمَّ وَهِيَ تُوجِبُ التَّرَاخِي. [الْعَامَّ يَخْتَصُّ بِسَبَبِهِ] قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ) إلَى آخِرِهِ اللَّفْظُ الْعَامُّ إذَا وَرَدَ بِنَاءً عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ يَجْرِي عَلَى عُمُومِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ سَوَاءٌ كَانَ السَّبَبُ سُؤَالَ سَائِلٍ أَوْ وُقُوعَ حَادِثَةٍ وَمَعْنَى الْوُرُودِ عَلَى سَبَبِ صُدُورِهِ عِنْدَ أَمْرٍ دَعَاهُ إلَى ذِكْرِهِ وَمَعْنَى الِاخْتِصَاصِ بِالسَّبَبِ اقْتِصَارُهُ عَلَيْهِ وَعَدَمُ تَعَدِّيهِ عَنْهُ وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَخْتَصُّ بِسَبَبِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيّ وَالْقَفَّالِ وَأَبِي بَكْرٍ الدَّقَّاقِ وَأَبِي ثَوْرٍ وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ أَبُو الْفَرَجِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ إلَى أَنَّ السَّبَبَ إنْ كَانَ سُؤَالَ سَائِلٍ يَخْتَصُّ بِهِ وَإِنْ كَانَ وُقُوعَ حَادِثَةٍ لَا يَخْتَصُّ بِهِ احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِالتَّخْصِيصِ مُطْلَقًا بِأَنَّ السَّبَبَ لَمَّا كَانَ هُوَ الَّذِي أَثَارَ الْحُكْمَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا قَبْلَهُ تَعَلَّقَ بِهِ تَعَلُّقَ الْمَعْلُولِ بِالْعِلَّةِ فَيَخْتَصُّ بِهِ وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَامًّا لَمْ يَكُنْ فِي نَقْلِ السَّبَبِ فَائِدَةٌ إذْ لَا فَائِدَةَ لَهُ إلَّا اقْتِصَارُ الْخِطَابِ عَلَيْهِ وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى نَقْلِهِ وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَامًّا لَجَازَ تَخْصِيصُ السَّبَبِ وَإِخْرَاجُهُ عَنْ الْعُمُومِ بِالِاجْتِهَادِ كَمَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ غَيْرِهِ لِأَنَّ نِسْبَةَ الْعُمُومِ إلَى جَمِيعِ الصُّوَرِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَهُ مُتَسَاوِيَةٌ وَبِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْجَوَابِ أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ وَإِنَّمَا يَكُونُ مُطَابِقًا بِالْمُسَاوَاةِ وَإِذَا أَجْرَيْنَاهُ عَلَى عُمُومِهِ لَمْ يَبْقَ مُطَابِقًا بَلْ يَصِيرُ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ وَاحْتَجَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وُرُودِهِ بِنَاءً عَلَى وُقُوعِ حَادِثَةٍ وَبَيْنَ وُرُودِهِ بِنَاءً عَلَى سُؤَالِ سَائِلٍ بِأَنَّ الشَّارِعَ إذَا ابْتَدَأَ بَيَانَ الْحُكْمِ فِي حَادِثَةٍ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ مُقْتَضَى اللَّفْظِ إذْ لَا مَانِعَ مِنْهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا سُئِلَ عَنْهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَمْ يُورِدْ الْكَلَامَ ابْتِدَاءً وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ لِيَكُونَ جَوَابًا عَنْ السُّؤَالِ وَكَوْنُهُ جَوَابًا عَنْهُ يَقْتَضِي قَصْرَهُ عَلَيْهِ وَحُجَّةُ الْعَامَّةِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلَّفْظِ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ لِأَنَّ التَّمَسُّكَ بِهِ دُونَ السَّبَبِ وَاللَّفْظَ يَقْتَضِي الْعُمُومَ بِإِطْلَاقِهِ فَيَجِبُ إجْرَاؤُهُ عَلَى عُمُومِهِ إذَا لَمْ يَمْنَعْ عَنْهُ مَانِعٌ وَالسَّبَبُ لَا يَصْلُحُ مَانِعًا لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي عُمُومَهُ وَالْمَانِعُ هُوَ الْمُنَافِي يُبَيِّنُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَانِعًا لَكَانَ تَصْرِيحُ الشَّارِعِ بِإِجْرَائِهِ عَلَى الْعُمُومِ إثْبَاتَ الْعُمُومِ مَعَ انْتِفَاءِ الْعُمُومِ وَهُوَ فَاسِدًا وَإِبْطَالَ الدَّلِيلِ الْمُخَصِّصِ وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ. وَلِأَنَّ النَّصَّ وَهُوَ الْعَامُّ سَاكِتٌ عَنْ سَبَبِهِ أَيْ عَنْ اقْتِصَارِهِ عَلَى سَبَبِهِ وَالسُّكُوتَ لَا يَكُونُ حُجَّةً يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى إجْرَاءِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQالنُّصُوصِ الْعَامَّةِ الْوَارِدَةِ مُقَيَّدَةً بِأَسْبَابٍ عَلَى عُمُومِهَا فَإِنَّ آيَةَ الظِّهَارِ نَزَلَتْ فِي خَوْلَةَ امْرَأَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ وَآيَةَ اللِّعَانِ نَزَلَتْ فِي هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ لِشَرِيكٍ ابْنِ سَحْمَاءَ أَوْ فِي عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيُّ وَآيَةَ الْقَذْفِ نَزَلَتْ فِي قَذَفَةِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَآيَةَ السَّرِقَةِ فِي سَرِقَةِ رِدَاءِ صَفْوَانَ أَوْ سَرِقَةِ الْمِجَنِّ وَقَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ وَلَمْ يَخُصُّوا هَذِهِ الْعُمُومَاتِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعَامَّ لَا يَخْتَصُّ بِسَبَبِهِ أَمَّا قَوْلُهُمْ السَّبَبُ مُؤَثِّرٌ لِلْحُكْمِ فَصَارَ كَالْمَعْلُولِ مَعَ الْعِلَّةِ فَنَقُولُ: لَيْسَ الْكَلَامُ فِي مِثْلِ هَذَا السَّبَبِ حَتَّى لَوْ كَانَ السَّبَبُ الْمَنْقُولُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ كَانَ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِهِ أَيْضًا. وَقَوْلُهُمْ إنَّ مِنْ شَرْطِ الْجَوَابِ أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ قُلْنَا: إنْ أَرَدْتُمْ بِاشْتِرَاطِ الْمُطَابَقَةِ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ مُسَاوِيًا لِلسُّؤَالِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ عَادَةً وَشَرِيعَةً أَمَّا عَادَةً فَلِأَنَّ الْمُجِيبَ قَدْ يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الْجَوَابِ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ يُرَدُّ عَلَيْهِ. وَأَمَّا شَرِيعَةً فَلِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا سَأَلَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَمَّا فِي يَمِينِهِ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17] زَادَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى قَدْرِ الْجَوَابِ فَقَالَ {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 18] «وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سُئِلَ عَنْ التَّوَضُّؤِ بِمَاءِ الْبَحْرِ قَالَ هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ وَالْحِلُّ مَيْتَتُهُ» فَأَجَابَ وَزَادَ وَإِنْ زَادَ بِاشْتِرَاطِهَا الْكَشْفَ عَنْ السُّؤَالِ وَبَيَانَ حُكْمِهِ فَلَا نُسَلِّمُ عَدَمَ الْمُطَابَقَةِ لِأَنَّهُ طَابَقَ وَزَادَ فَإِنْ قِيلَ الْأَوْلَى تَرْكُ الزِّيَادَةِ فِي الْجَوَابِ رِعَايَةً لِلتَّنَاسُبِ بَيْنَهُمَا قُلْنَا: بِأَنَّ إفَادَةَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْلَى مِنْ رِعَايَةِ الْأَحْكَامِ اللَّفْظِيَّةِ وَقَوْلَهُمْ لَوْ كَانَ عَامًّا لَجَازَ تَخْصِيصُ السَّبَبِ بِالِاجْتِهَادِ قُلْنَا: إنَّمَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْخِطَابِ قَطْعًا إذْ الْكَلَامُ فِي أَنَّهُ بَيَانٌ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَمْ بَيَانٌ لَهُ خَاصَّةً فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَيُجِيبَ عَنْ غَيْرِهِ وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ. وَقَوْلُهُمْ لَوْ كَانَ عَامًّا لَمْ يَكُنْ فِي نَقْلِ السَّبَبِ فَائِدَةٌ قُلْنَا: فَائِدَتُهُ مَعْرِفَةُ أَسْبَابِ التَّنْزِيلِ وَالسِّيَرِ وَالْقَصَصِ وَاتِّسَاعِ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ وَأَيْضًا امْتِنَاعِ إخْرَاجِ السَّبَبِ بِحُكْمِ التَّخْصِيصِ بِالِاجْتِهَادِ قَوْلُهُ (وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ) وَلَمَّا بَيَّنَ الشَّيْخُ الْخِلَافَ فِي تَخْصِيصِ الْعَامِّ بِالسَّبَبِ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبَبِ سَبَبُ الْوُجُوبِ أَوْ سَبَبُ الْوُرُودِ وَأَنَّ الْمُرَادَ لَوْ كَانَ سَبَبُ الْوُرُودِ أُرِيدَ بِهِ السَّبَبُ الْخَاصُّ أَوْ الْعَامُّ وَلَا بُدَّ مِنْ تَفْصِيلِ ذَلِكَ لِيَتَّضِحَ صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ شَرَعَ فِيهِ فَقَالَ: وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ أَيْ جُمْلَةُ مَا يَخْتَصُّ بِالسَّبَبِ وَمَا لَا يَخْتَصُّ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ سَبَبَ وُجُوبٍ أَوْ سَبَبَ وُرُودٍ وَسَوَاءٌ كَانَ اللَّفْظُ عَامًّا أَوْ خَاصًّا أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ مَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْجَزَاءِ لِمَا تَقَدَّمَهُ فَيَخْتَصُّ بِهِ لِأَنَّهُ جُعِلَ جَزَاءً لِمَا تَقَدَّمَهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ سَبَبُ وُجُوبِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وَقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] لَمَّا أُخْرِجَا مَخْرَجَ الْجَزَاءِ لِقَوْلِهِ {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] . وَقَوْلِهِ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] كَانَ الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ سَبَبَيْ وُجُوبِهِمَا وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ مَا تَقَدَّمَهُ سَبَبُ وُجُوبِهِ يَخْتَصُّ بِهِ أَيْ يَرْتَبِطُ بِهِ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَخْتَصُّ بِسَبَبِهِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ الْحُكْمَ كَمَا لَا يَثْبُتُ بِدُونِ عِلَّتِهِ لَا يَبْقَى بِدُونِ الْعِلَّةِ مُضَافًا إلَيْهَا بَلْ الْبَقَاءُ بِدُونِهَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى إلَيْهِ أَشَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالثَّانِي مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ أَيْ لَا يُفْهَمُ بِدُونِ مَا تَقَدَّمَهُ مِنْ السَّبَبِ فَيَخْتَصُّ بِهِ أَيْ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ مَا لَمْ يَرْتَبِطْ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ السَّبَبِ صَارَ كَبَعْضِ الْكَلَامِ مِنْ جُمْلَتِهِ فَلَا يَجُوزُ فَضْلَةٌ لِلْعَمَلِ بِهِ وَالثَّالِثُ مَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْجَوَابِ وَهُوَ غَيْرُ

وَأَمَّا الثَّانِي فَمِثْلُ الرَّجُلِ يَقُولُ لِآخَرَ: لَيْسَ لِي عَلَيْك كَذَا فَيَقُولُ: بَلَى أَوْ يَقُولُ: كَانَ كَذَا فَيَقُولُ: نَعَمْ يُجْعَلُ إقْرَارًا وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: أَجَلْ هَذَا أَصْلُ بَلَى وَنَعَمْ أَنْ يَكُونَ بَلَى بِنَاءً عَلَى النَّفْيِ فِي الِابْتِدَاءِ مَعَ الِاسْتِفْهَامِ وَنَعَمْ لِمَحْضِ الِاسْتِفْهَامِ وَأَجَلْ يَجْمَعُهُمَا وَقَدْ يُسْتَعْمَلَانِ فِي غَيْرِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى إدْرَاجِ الِاسْتِفْهَامِ أَوْ مُسْتَعَارٌ لِذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ فِي نَعَمْ مِنْ غَيْرِ الِاسْتِفْهَامِ أَيْضًا ـــــــــــــــــــــــــــــQزَائِدٍ عَلَى مِقْدَارِ الْجَوَابِ فَهَذَا يَتَقَيَّدُ بِمَا سَبَقَ وَيَصِيرُ مَا ذَكَرَ فِي السُّؤَالِ كَالْمُعَادِ فِي الْجَوَابِ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ الِابْتِدَاءَ لِاسْتِقْلَالِهِ فَإِذَا نَوَاهُ يُصَدَّقُ دِيَانَةً وَقَضَاءً وَالرَّابِعُ مَا يَكُونُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ زَائِدًا عَلَى قَدْرِ الْجَوَابِ فَهَذَا مِنْ صُوَرِ الْخِلَافِ وَذُكِرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْأُصُولِ بِهَذَا التَّرْتِيبِ وَهُوَ أَنَّ الْخِطَابَ الْوَارِدَ جَوَابًا لِسُؤَالِ سَائِلٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ دُونَ السُّؤَالِ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَالثَّانِي تَابِعٌ لِلسُّؤَالِ فِي عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ أَمَّا فِي عُمُومِهِ فَمِثْلُ مَا رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ فَقَالَ أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذَا يَبِسَ فَقَالُوا نَعَمْ قَالَ فَلَا إذَنْ» فَالسُّؤَالُ لَمَّا كَانَ غَيْرَ مُخْتَصٍّ بِأَحَدٍ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ وَهُوَ عَدَمُ الْجَوَازِ عَمَّ الْكُلَّ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ وَأَمَّا فِي خُصُوصِهِ فَكَمَا لَوْ سَأَلَهُ سَائِلٌ أَيُجْزِئُنِي التَّوَضُّؤُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْمِيمِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ. وَالْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِلًّا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلسُّؤَالِ أَوْ أَخَصَّ أَوْ أَعَمَّ فَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا فَالْحُكْمُ فِي عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ عِنْدَ كَوْنِ السُّؤَالِ عَامًّا كَمَا «سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّنْ يَرْكَبُ الْبَحْرَ أَيَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْبَحْرُ هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ» أَوْ خَاصًّا كَمَا سَأَلَهُ الْأَعْرَابِيُّ عَنْ وَطْئِهِ امْرَأَتَهُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَقَالَ أَعْتِقْ رَقَبَةً كَالْحُكْمِ فِي غَيْرِ الْمُسْتَقِلِّ حَتَّى عَمَّ جَوَابُ الْأَوَّلِ لِلْكُلِّ وَيَخْتَصُّ جَوَابُ الثَّانِي بِالْأَعْرَابِيِّ وَإِنْ كَانَ أَخَصَّ كَمَا لَوْ سُئِلَ عَنْ التَّوَضُّؤِ بِمَاءِ الْبَحْرِ فَنَقُولُ يَجُوزُ لَك فَالْجَوَابُ يَخْتَصُّ بِالسَّائِلِ وَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ آخَرَ مِنْ دَلَالَةٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ نَحْوِهِمَا إذْ اللَّفْظُ لَا عُمُومَ لَهُ وَإِنْ كَانَ أَعَمَّ مِنْ السُّؤَالِ أَوْ الْحَادِثَةِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ فِي حُكْمٍ آخَرَ أَوْ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَمَا «سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ التَّوَضُّؤِ بِمَاءِ الْبَحْرِ فَقَالَ هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلِّ مَيْتَتُهُ» فَلَا خِلَافَ فِي عُمُومِهِ فِي الْحُكْمِ الْآخَرِ وَهُوَ حِلُّ مَيْتَتِهِ فِي الْمِثَالِ لِأَنَّهُ عَامٌّ مُبْتَدَأٌ بِهِ لَا فِي مَعْرَضِ الْجَوَابِ إذْ هُوَ غَيْرُ مَسْئُولٍ عَنْهُ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ لِمَنْ قَالَ أَيُجْزِئُنِي التَّوَضُّؤُ بِمَاءِ الْبَحْرِ» «وَكَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ كَانَتْ لِمَيْمُونَةَ أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ السَّبَبِ سَبَبُ الْوُرُودِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ أَخَصَّ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَامًّا أَيْضًا عَمَّ الْحُكْمُ بِالِاتِّفَاقِ لَكِنْ لِعُمُومِ اللَّفْظِ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَلِعُمُومِ السَّبَبِ عِنْدَهُمْ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ يَعْنِي فِي مَسْأَلَةِ الْقَذْفِ أَنَّ الْجَزَاءَ مُفْتَقِرٌ إلَى الشَّرْطِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ (قَوْلُهُ وَأَمَّا الثَّانِي) فَكَذَا اعْلَمْ أَنَّ نَعَمْ وَبَلَى وَأَجَلْ مِنْ حُرُوفِ التَّصْدِيقِ فَأَمَّا نَعَمْ فَمُوجَبُهُ تَصْدِيقُ مَا قَبْلَهُ مِنْ كَلَامٍ مَنْفِيٍّ أَوْ مُثْبَتٍ كَمَا إذَا قِيلَ لَك قَامَ زَيْدٌ فَقُلْت نَعَمْ كَانَ الْمَعْنَى قَامَ أَوْ قِيلَ لَك لَمْ يَقُمْ زَيْدٌ فَقُلْت نَعَمْ كَانَ الْمَعْنَى لَمْ يَقُمْ وَكَذَلِكَ إذَا وَقَعَ الْكَلَامَانِ بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ فَإِذَا قِيلَ أَقَامَ زَيْدٌ أَوْ أَلَمْ يَقُمْ زَيْدٌ فَقَدْ حَقَقْت مَا بَعْدَ الْهَمْزَةِ وَأَمَّا بَلَى فَالْإِيجَابُ مَا بَعْدَ النَّفْيِ اسْتِفْهَامًا كَانَ أَوْ خَبَرًا فَإِذَا قِيلَ: لَمْ يَقُمْ زَيْدٌ أَوْ أَلَمْ يَقُمْ زَيْدٌ فَقُلْت بَلَى كَانَ مَعْنَاهُ قَدْ قَامَ وَأَمَّا أَجَلْ فَلَا يُصَدَّقُ بِهِ إلَّا فِي الْخَبَرِ خَاصَّةً نَفْيًا كَانَ أَوْ إثْبَاتًا يَقُولُ الْقَائِلُ: قَدْ أَتَاك زَيْدٌ أَوْ لَمْ يَأْتِك فَتَقُولُ أَجَلْ وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ هَذَا هُوَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَذْكُورُ فِي كُتُبِ النَّحْوِ وَاخْتَارَ الشَّيْخُ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَازِمٌ فِيمَا وَقَعَ بَلَى أَوْ نَعَمْ جَوَابًا لَهُ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْوَضْعِ وَأَنَّ أَجَلْ يُسْتَعْمَلُ فِي الِاسْتِفْهَامِ أَيْضًا فَإِذَا قَالَ: أَلَيْسَ لِي عَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ؟ فَقَالَ: بَلَى يَكُونُ إقْرَارًا لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَصْدِيقًا لِمَا بَعْدَ النَّفْيِ كَانَ مَعْنَاهُ لَك عَلَيَّ أَلْفٌ وَلَوْ قَالَ: نَعَمْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ إقْرَارًا لِأَنَّهُ تَصْدِيقٌ لِمَا بَعْدَ الْهَمْزَةِ فِي الِاسْتِفْهَامِ فَكَانَ مَعْنَاهُ لَيْسَ لَك عَلَيَّ أَلْفٌ وَلَوْ قَالَ: أَكَانَ لِي عَلَيْك كَذَا فَقَالَ: نَعَمْ يَكُونُ إقْرَارًا لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ قَالَ: بَلَى يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ إقْرَارًا لِأَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي النَّفْيِ وَذَكَرَ صَاحِبُ كِتَابِ بَيَانِ حَقَائِقِ الْحُرُوفِ إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِآخَرَ: اقْضِ الدِّرْهَمَ الَّذِي لِي عَلَيْك فَقَالَ: نَعَمْ فَقَدْ أَقَرَّ بِهِ لِأَنَّهُ صَدَّقَهُ فِيمَا قَالَ وَإِذَا قَالَ: بَلَى لَا يَكُونُ إقْرَارًا لِأَنَّ بَلَى لَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إلَّا بَعْدَ نَفْيٍ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ هَاهُنَا نَفْيٌ وَإِنْ قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ أَقْرَضْتَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ فَقَالَ الطَّالِبُ بَلَى فَجَحَدَ الْمُقِرُّ لَزِمَهُ الْمَالُ لِأَنَّ هَذَا اسْتِفْهَامٌ فِيهِ مَعْنَى التَّقْرِيرِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] . وَمَعْنَى التَّقْرِيرِ أَنَّك قَدْ أَقْرَضْتَنِي وَقَوْلِ الطَّالِبِ بَلَى تَصْدِيقٌ لَهُ فِي الْإِقْرَارِ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ لَا يَكُونُ إقْرَارًا لِأَنَّهُ صَدَّقَهُ فِي النَّفْيِ وَكَذَا إذَا قَالَ: مَالَكَ عَلَيَّ شَيْءٌ فَقَالَ: نَعَمْ يَكُونُ تَصْدِيقًا وَلَوْ قَالَ: بَلَى يَكُونُ رَدًّا قَالَ: وَهَذَا حَقِيقَةُ الْعَرَبِيَّةِ إلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ يُجَوِّزُونَ أَنْ يُسْتَعْمَلَ بَلَى فِي مَوْضِعِ نَعَمْ وَنَعَمْ فِي مَوْضِعِ بَلَى وَلَا يُفَرِّقُونَ فِي الْجَوَابِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ بَيْنَهُمَا قَالَ وَذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي الْمُنْتَقَى فِي رَجُلٍ قَالَ لِآخَرَ: أَطَلَّقْت امْرَأَتَك فَقَالَ (ن ع م) أَوْ قَالَ (ب ل ى) قَالَ: هِيَ طَالِقٌ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ نَعَمْ وَبَلَى وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ جَوَابُهَا نَعَمْ أَوْ لَا، لَا بَلَى لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهَا نَفْيٌ هَذَا أَصْلُ بَلَى وَنَعَمْ أَيْ مَا ذَكَرْنَا هُوَ الْمُوجَبُ الْأَصْلِيُّ لِهَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَلَى جَوَابًا لِلنَّفْيِ مَعَ الِاسْتِفْهَامِ وَنَعَمْ لِمَحْضِ الِاسْتِفْهَامِ نَفْيًا كَانَ أَوْ إثْبَاتًا بِشَرْطِ الِاسْتِفْهَامِ فِيهِمَا وَهَكَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَيْضًا لِأَنَّ أَكْثَرَ اسْتِعْمَالِهَا فِي جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ وَأَجَلْ يَجْمَعُهُمَا أَيْ يَشْمَلُ الْمَعْنَيَيْنِ فَيُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعِ بَلَى وَفِي مَوْضِعِ نَعَمْ وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ هَذَا خِلَافٌ مَوْضُوعُهُ فِي اللُّغَةِ وَلَكِنَّهُمْ اعْتَبَرُوا فِي اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْحُرُوفِ الْعُرْفَ فَبَنَوْا الْأَحْكَامَ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ ذُكِرَ فِي الصِّحَاحِ أَنَّ أَجَلْ جَوَابٌ مِثْلُ نَعَمْ قَالَ الْأَخْفَشُ: إلَّا أَنَّهُ أَحْسَنُ مِنْ نَعَمْ فِي التَّصْدِيقِ وَنَعَمْ أَحْسَنُ مِنْهُ فِي الِاسْتِفْهَامِ فَإِذَا قَالَ: أَنْتَ سَوْفَ تَذْهَبُ؟ قُلْت: أَجَلْ وَكَانَ أَحْسَنَ مِنْ نَعَمْ وَإِذَا قَالَ: أَتَذْهَبُ؟ قُلْت: نَعَمْ وَكَانَ أَحْسَنَ مِنْ أَجَلْ وَذَكَرَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي شَرْحِ الْمُفَصَّلِ أَنَّ أَجَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَعْرُوفٍ. وَقَدْ يُسْتَعْمَلَانِ أَيْ نَعَمْ وَبَلَى فِي غَيْرِ الِاسْتِفْهَامِ أَيْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ اسْتِعْمَالِهِمَا فِي أَصْلِ الْوَضْعِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الشَّيْخُ عَلَى إدْرَاجِ الِاسْتِفْهَامِ أَيْ إضْمَارِ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ فِي الْكَلَامِ أَوْ مُسْتَعَارًا لِذَلِكَ أَيْ يُسْتَعَارُ هَذَا الْكَلَامُ الْخَالِي عَنْ الِاسْتِفْهَامِ لِلِاسْتِفْهَامِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِمَا كَلَامَيْنِ خَبَرِيَّيْنِ لِأَصْلِ الْوَضْعِ أَوْ بِاعْتِبَارِ مُسَاوَاتِهِمَا فِي الصُّورَةِ كَمَا إذَا قَالَ: عَلَيْك لِي أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ: نَعَمْ يُجْعَلُ إقْرَارًا أَوْ يُضْمَرُ حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَعَلَيْكَ لِي أَلْفُ دِرْهَمٍ كَمَا أُضْمِرَ فِي قَوْله تَعَالَى إخْبَارًا وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَيْ أَتِلْكَ أَوْ يُجْعَلُ قَوْلُهُ عَلَيْك لِي أَلْفٌ مُسْتَعَارًا لِقَوْلِك أَعَلَيْكَ لِي أَلْفٌ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَيْ

وَأَمَّا الثَّالِثُ فَمِثْلُ قَوْلِ الرَّجُلِ لِرَجُلٍ تَغَدَّ مَعِي فَيَقُولُ الْآخَرُ: إنْ تَغَدَّيْت فَعَبْدِي حُرٌّ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: إنَّك تَغْتَسِلُ اللَّيْلَةَ فِي هَذِهِ الدَّارِ مِنْ جَنَابَةٍ فَقَالَ: إنْ اغْتَسَلْتُ فَعَبْدِي حُرٌّ هَذَا خَرَجَ جَوَابًا فَتَضَمَّنَ إعَادَةَ السُّؤَالِ الَّذِي سَبَقَ وَقَدْ يَحْتَمِلُ الِابْتِدَاءَ وَلَوْ قَالَ: إنْ اغْتَسَلْتُ اللَّيْلَةَ أَوْ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَعَبْدِي حُرٌّ صَارَ مُبْتَدَأً احْتِرَازًا عَنْ إلْغَاءِ الزِّيَادَةِ فَإِنْ عَنَى بِهِ الْجَوَابَ صَدَقَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَصِيرُ الزِّيَادَةُ تَوْكِيدًا وَأَمْثِلَتُهُ كَثِيرَةٌ. وَمِنْ ذَلِكَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالِاسْتِعْمَالَ فِي غَيْرِ الْمَحَلِّ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ فِي كَلِمَةِ نَعَمْ خَاصَّةً مِنْ غَيْرِ اسْتِفْهَامٍ صَرِيحًا وَمِنْ غَيْرِ احْتِمَالِ الِاسْتِفْهَامِ إدْرَاجًا فَقَالَ: إذَا قَالَ لِآخَرَ: اقْضِ الْأَلْفَ الَّتِي لِي عَلَيْك فَقَالَ: نَعَمْ يُجْعَلُ إقْرَارًا. وَكَذَا إذَا قَالَ الطَّالِبُ لِرَجُلٍ: أَخْبِرْ فُلَانًا أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْك كَذَا أَوْ أَعْلِمْهُ أَوْ بَشِّرْهُ أَوْ قُلْ لَهُ فَقَالَ الْمَطْلُوبُ نَعَمْ يَكُونُ إقْرَارًا وَلَا يُمْكِنُ هَاهُنَا إضْمَارُ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ وَمَحَلُّ الِاسْتِفْهَامِ الْخَبَرُ فَكَانَ هَذَا طَرِيقًا آخَرَ اخْتَارَهُ مُحَمَّدٌ بِنَاءً عَلَى الْعُرْفِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ بَلَى وَنَعَمْ فِي جَوَابِ مَا لَيْسَ بِاسْتِفْهَامٍ عَلَى أَنْ يُقَدَّرَ فِيهِ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ أَوْ يَكُونَ مُسْتَعَارًا هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ اللُّغَةِ فَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ مَسَائِلَ بَنَاهَا عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْهَامٍ فِي السُّؤَالِ أَوْ احْتِمَالِ اسْتِفْهَامٍ وَجَعَلَهَا إقْرَارًا صَحِيحًا بِطَرِيقِ الْجَوَابِ وَكَأَنَّهُ تَرَكَ اعْتِبَارَ حَقِيقَةِ اللُّغَةِ فِيهَا بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالُ. وَوَجْهٌ آخَرُ أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمَا يُسْتَعْمَلَانِ فِي غَيْرِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى إدْرَاجِ الِاسْتِفْهَامِ إنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ أَوْ مُسْتَعَارًا لِلِاسْتِفْهَامِ إنْ لَمْ يُمْكِنْ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَيْ هَذَا الْوَجْهَ الْأَخِيرَ مُحَمَّدٌ فِي كَلِمَةِ نَعَمْ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْهَامٍ صَرِيحًا وَمِنْ غَيْرِ احْتِمَالٍ الِاسْتِفْهَامَ إضْمَارًا فَكَانَ مُسْتَعَارًا كَقَوْلِهِ اقْضِ الْأَلْفَ الَّتِي لِي عَلَيْك لَمَّا لَمْ يَحْتَمِلْ الِاسْتِفْهَامَ يُجْعَلُ مُسْتَعَارًا لِلِاسْتِفْهَامِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْخَبَرِ وَصَلَاحِيَّةُ الْخَبَرِ لِلِاسْتِفْهَامِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ قَالَ: قَضَاءُ الْأَلْفِ وَاجِبٌ لِي عَلَيْك فَاقْضِهَا ثُمَّ يُجْعَلُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَتَقْضِي الْأَلْفَ. وَقَوْلُهُ نَعَمْ لَمَّا تَضَمَّنَ إعَادَةَ مَا سَبَقَ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: اقْضِ الْأَلْفَ الَّتِي لَك عَلَيَّ فَتَصْلُحُ جَوَابًا قَوْلُهُ (وَأَمَّا الثَّالِثُ) وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْجَوَابِ غَيْرَ زَائِدٍ عَلَيْهِ فَمِثْلُ قَوْلِ الرَّجُلِ لِآخَرَ تَغَدَّ مَعِي فَقَالَ: إنْ تَغَدَّيْت فَعَبْدِي حُرٌّ انْصَرَفَ إلَى ذَلِكَ الْغَدَاءِ حَتَّى لَوْ رَجَعَ إلَى أَهْلٍ فَتَغَدَّى أَوْ تَغَدَّى مَعَهُ فِي يَوْمٍ آخَرَ لَمْ يَحْنَثْ وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هُوَ وَاقِعٌ عَلَى كُلِّ غَدَاءٍ عَلَى الْأَبَدِ كَمَا لَوْ ابْتَدَأَ الْيَمِينَ بِهِ لَكِنَّا خَصَصْنَاهُ وَقَيَّدْنَاهُ بِالْفَوْرِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَهِيَ أَنَّهُ أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْجَوَابِ رَدًّا عَلَيْهِ وَهُوَ إنَّمَا دَعَاهُ إلَى ذَلِكَ الْغَدَاءِ فَيَتَقَيَّدُ بِهِ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ تَغَدَّيْت الْغَدَاءَ الَّذِي دَعَوْتنِي إلَيْهِ وَهَذَا كَالشِّرَاءِ بِالدَّرَاهِمِ يَنْصَرِفُ إلَى نَقْدِ الْبَلَدِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ. وَكَذَا إذَا قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: إنَّكَ تَغْتَسِلُ اللَّيْلَةَ فِي هَذِهِ الدَّارِ مِنْ جَنَابَةٍ فَقَالَ: إنْ اغْتَسَلْت فَعَبْدِي حُرٌّ فَإِنَّ يَمِينَهُ يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الِاغْتِسَالِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّ كَلَامَهُ خَرَجَ جَوَابًا لِلْكَلَامِ الْأَوَّلِ فَاخْتَصَّ بِهِ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ وَلَمْ يَزِدْ هُوَ عَلَى قَدْرِ الْجَوَابِ لِأَنَّ جَوَابَ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ: إنْ فَعَلْت فَعَبْدِي حُرٌّ. وَقَوْلُهُ إنْ اغْتَسَلْتُ مِثْلُهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ لَكِنَّهُ مُفَسِّرٌ وَالتَّفْسِيرُ يُؤَكِّدُ وَلَا يُغَيِّرُ قَوْلُهُ (وَلَوْ قَالَ: إنْ اغْتَسَلْت اللَّيْلَةَ أَوْ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَعَبْدِي حُرٌّ صَارَ مُبْتَدَأً) وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الرَّابِعُ الَّذِي هُوَ مِنْ صُوَرِ الْخِلَافِ وَذَلِكَ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ مُتَعَلِّقًا بِهِ كَانَ فِيهِ اعْتِبَارُ الْحَالِ وَإِلْغَاءُ الزِّيَادَةِ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مُبْتَدَأً كَانَ فِيهِ اعْتِبَارُ الزِّيَادَةِ وَإِلْغَاءُ الْحَالِ فَكَانَ هَذَا الْوَجْهُ أَوْلَى لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْكَلَامِ لَا بِالْحَالِ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ وَالْحَالُ أَمْرٌ مُبْطَنٌ فَيَكُونُ الْكَلَامُ صَرِيحًا فِي إفَادَةِ الْعُمُومِ وَالْحَالُ دَلَالَةٌ فِي اخْتِصَاصِهِ بِالسَّبَبِ وَلَا قِوَامَ لَهَا مَعَ الصَّرِيحِ فَلِذَلِكَ رَجَّحْنَا اللَّفْظَ وَجَعَلْنَاهُ ابْتِدَاءً. وَعِنْدَ الْمُخَالِفِ هَذَا يُحْمَلُ عَلَى الْجَوَابِ أَيْضًا اعْتِبَارُ الْحَالِ لَكِنَّهُ عَمَلٌ بِالْمَسْكُوتِ وَتَرْكٌ لِلْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ فَإِنْ عَنَى بِهِ الْجَوَابَ صَدَقَ فِيمَا بَيْنَهُ

[التعليق بالشرط موجب العدم]

أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَعَلَ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ مُوجِبٌ الْعَدَمَ وَعِنْدَنَا الْعَدَمُ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ بَلْ بَقِيَ الْمُعَلَّقُ عَلَى أَصْلِ الْعَدَمِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ عِنْدَنَا لَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبًا وَإِنَّمَا الشَّرْطُ يَمْنَعُ الِانْعِقَادَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هُوَ مُؤَخَّرٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ مَعَ الزِّيَادَةِ يَحْتَمِلُ الْجَوَابَ فَإِنَّهُ قَدْ يُزَادُ عَلَى الْجَوَابِ لِلتَّأْكِيدِ كَمَا مَرَّتْ أَمْثِلَتُهُ وَلَكِنْ لَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَفِيهِ تَخْفِيفٌ عَلَيْهِ وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ الْعُمُومَ فِي الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ ثَابِتٌ فَقَوْلُهُ فَرَجْمٌ عَامٌّ مِنْ حَيْثُ الْأَسْبَابُ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ وَقَعَ لِرِدَّةٍ أَوْ قَتْلٍ بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ أَوْ سِيَاسَةٍ أَوْ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ فَعِنْدَ ذِكْرِ الزِّنَا تَخْصِيصٌ بِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فَسَجَدَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ وَقَعَ لِلتِّلَاوَةِ أَوْ لِقَضَاءِ الْمَتْرُوكَةِ أَوْ لِشَرْعِ زِيَادَةٍ فِي الصَّلَاةِ أَوْ لِلسَّهْوِ فَلَمَّا نُقِلَ السَّبَبُ مَعَهُ تَخَصَّصَ بِهِ وَكَذَلِكَ بَلَى أَوْ نَعَمْ عَامٌّ لِإِبْهَامِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَصْلُحُ جَوَابًا لِأَنْوَاعٍ مِنْ الْكَلَامِ فَعِنْدَ ذِكْرِ السَّبَبِ يَتَعَلَّقُ بِهِ وَعُمُومُ الْقِسْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ نَكِرَةٌ وَاقِعَةٌ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ لِأَنَّ الشَّرْطَ فِي مَعْنَى النَّفْيِ فَتَعُمُّ وَلَكِنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ تَمَحُّلٍ وَتَكَلُّفٍ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا أَظْهَرُ وَأَوْفَقُ لِعَامَّةِ الْكُتُبِ. [التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ مُوجِبٌ الْعَدَمَ] قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِنْ الْعَمَلِ بِالْوُجُوهِ الْفَاسِدَةِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَعَلَ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ يُوجِبُ الْعَدَمَ لَا خِلَافَ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَلَكِنَّ هَذَا الْعَدَمَ عِنْدَنَا هُوَ الْعَدَمُ الْأَصْلِيُّ الَّذِي كَانَ قَبْلَ التَّعْلِيقِ وَعِنْدَهُ هُوَ ثَابِتٌ بِالتَّعْلِيقِ فَفِي قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ عَدَمُ الطَّلَاقِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَلَكِنْ بِالْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي كَانَ قَبْلَ التَّعْلِيقِ وَاسْتَمَرَّ إلَى زَمَانِ وُجُودِ الشَّرْطِ وَعِنْدَهُ هُوَ ثَابِتٌ بِالتَّعْلِيقِ مُضَافٌ إلَى عَدَمِ الشَّرْطِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ وُجُودَ الشَّرْطِ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْمَشْرُوطِ وَعَدَمَهُ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَائِهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ أَجْمَعَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ مَنْ أَنْكَرَ الْمَفْهُومَ مِثْلُ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَابْنِ شُرَيْحٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ مِنْ مُتَكَلِّمِي الْمُعْتَزِلَةِ وَعِنْدَ عَامَّةِ مَنْ أَنْكَرَ الْمَفْهُومَ عَدَمُهُ لَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَشْرُوطِ وَيُسَمَّى هَذَا مَفْهُومَ الشَّرْطِ تَمَسَّكَ الْقَائِلُونَ بِهِ بِأَنَّ قَوْلَهُ إنْ دَخَلَ عَبْدِي الدَّارَ فَأَعْتِقْهُ يُفْهَمُ مِنْهُ لُغَةً وَلَا تَعْتِقْهُ إنْ لَمْ يَدْخُلْ الدَّارَ فَكَمَا أَنَّ الدُّخُولَ يُوجِبُ جَوَازَ الْإِعْتَاقِ فَعَدَمُهُ يَمْنَعُ عَنْهُ فَكَانَ الْعَدَمُ مُضَافًا إلَيْهِ وَبِأَنَّ الشَّرْطَ هُوَ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ فَلَوْ ثَبَتَ الْحُكْمُ مَعَ عَدَمِهِ لَكَانَ كُلُّ شَيْءٍ شَرْطًا فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَكُونَ دُخُولُ زَيْدٍ الدَّارَ شَرْطًا فِي كَوْنِ السَّمَاءِ فَوْقَ الْأَرْضِ وَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ مَعَ عَدَمِ الدُّخُولِ كَذَا ذُكِرَ فِي الْقَوَاطِعِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ قَالَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: مَا بَالُنَا نَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَقَدْ أَمِنَّا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عَجِبْت مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «إنَّمَا هِيَ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» فَلَوْ لَمْ يَعْقَلْ مِنْ التَّعْلِيقِ نَفْيُ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ لَمْ يَكُنْ لِتَعَجُّبِهِمَا مَعْنًى مَعَ أَنَّهُمَا مِنْ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ وَفَرَّقَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ وَمَنْ وَاقَفَهُ مِنْ مُنْكِرِي الْمَفْهُومِ بَيْنَ التَّقْيِيدِ بِالصِّفَةِ وَنَحْوِهَا وَبَيْنَ التَّقْيِيدِ بِالشَّرْطِ فَقَالُوا: التَّقْيِيدُ بِالشَّرْطِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ التَّقْيِيدَاتِ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ يَقْتَضِي إيقَافَ الْحُكْمِ عَلَى وُجُودِ الشَّرْطِ وَإِذَا وُقِفَ عَلَيْهِ انْعَدَمَ بِعَدَمِهِ وَلَيْسَ فِي غَيْرِهِ مِنْ التَّقْيِيدَاتِ إيقَافُ الْحُكْمِ عَلَيْهَا فَيَبْقَى مَا وَرَاءَ الْمَذْكُورِ مَوْقُوفًا عَلَى حَسَبِ مَا يَقُومُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَحُجَّةُ

وَلِذَلِكَ أُبْطِلَ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِالْمِلْكِ وَجُوِّزَ تَعْجِيلُ النَّذْرِ الْمُعَلَّقِ وَجُوِّزَ تَعْجِيلُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَقَالَ فِي قَوْلِ اللَّهِ {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا} [النساء: 25] : إنَّ تَعْلِيقَ الْجَوَازِ بِعَدَمِ طَوْلِ الْحُرَّةِ يُوجِبُ الْفَسَادَ عِنْدَ وُجُودِهِ وَقَالَ: لِأَنَّ الْوُجُودَ يَثْبُتُ بِالْإِيجَابِ لَوْلَا الشَّرْطُ فَيَصِيرُ الشَّرْطُ مُعْدِمًا مَا وَجَبَ وُجُودُهُ لَوْلَا هُوَ فَيَكُونُ الشَّرْطُ مُؤَخِّرًا لَا مَانِعًا وَلَا يَلْزَمُ أَنَّ تَعْجِيلَ الْبُدْنِ فِي الْكَفَّارَاتِ لَا يَجُوزُ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِالسَّبَبِ حَاصِلٌ وَوُجُوبَ الْأَدَاءِ مُتَرَاخٍ بِالشَّرْطِ وَالْمَالُ يَحْتَمِلُ الْفَصْلَ بَيْنَ وُجُوبِهِ وَوُجُوبِ أَدَائِهِ وَأَمَّا الْبَدَنِيُّ فَلَا يَحْتَمِلُ الْفَصْلَ فَلَمَّا تَأَخَّرَ الْأَدَاءُ لَمْ يَبْقَ الْوُجُوبُ وَلَنَا أَنَّ الْإِيجَابَ لَا يُوجَدُ إلَّا بِرُكْنِهِ وَلَا يَثْبُتُ إلَّا فِي مَحَلِّهِ كَشَرْطِ الْبَيْعِ لَا يُوجِبُ شَيْئًا وَبَيْعُ الْحُرِّ بَاطِلٌ أَيْضًا وَهَهُنَا الشَّرْطُ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَحَلِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعَامَّةِ فِي مَفْهُومِ الشَّرْطِ مَا ذَكَرْنَا فِي مَفْهُومِ الصِّفَةِ لِأَنَّ مَرْجِعَ مَفْهُومِ الشَّرْطِ إلَى مَفْهُومِ الصِّفَةِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مُفَصَّلًا فَلَا نَحْتَاجُ إلَى إعَادَتِهِ هَاهُنَا قَالَ الْغَزَالِيُّ: الشَّرْطُ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِهِ فَقَطْ فَيَقْصُرُ عَنْ الدَّلَالَةِ عَلَى الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ بِأَنْ لَا يَدُلَّ عَلَى وُجُودِهِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ فَأَمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى عَدَمِهِ عِنْدَ الْعَدَمِ فَلَا. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِشَرْطَيْنِ كَمَا يَجُوزُ بِعِلَّتَيْنِ فَإِذَا قَالَ: اُحْكُمْ بِالْمَالِ لِلْمُدَّعِي إنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ بِالْإِقْرَارِ هَذَا هُوَ الطَّرِيقُ الْمَشْهُورُ الْمَذْكُورُ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ وَالطَّرِيقُ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ هُوَ مُخْتَارُ الْقَاضِي الْإِمَامِ وَهُوَ أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لَا يَمْنَعُ السَّبَبَ عَنْ الِانْعِقَادِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنَّمَا أَثَرُهُ فِي تَأْخِيرِ الْحُكْمِ إلَى زَمَانِ وُجُودِ الشَّرْطِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ التَّعْلِيقُ مَانِعًا مِنْ الِانْعِقَادِ كَانَ السَّبَبُ مَوْجُودًا مُوجِبًا لِلْحُكْمِ فِي الْحَالِ لَكِنَّ التَّعْلِيقَ مَنَعَ وُجُودَ الْحُكْمِ وَأَخَّرَهُ إلَى زَمَانِ وُجُودِ الشَّرْطِ فَكَانَ عَدَمُهُ مُضَافًا إلَى عَدَمِ الشَّرْطِ وَعِنْدَنَا الْمُعَلَّقُ لَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا وَإِنَّمَا الشَّرْطُ أَيْ التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ يَمْنَعُ عَنْ الِانْعِقَادِ فَلَا يَكُونُ السَّبَبُ مَوْجُودًا مُوجِبًا لِلْحُكْمِ فِي الْحَالِ فَيَكُونُ عَدَمُ الْحُكْمِ بِنَاءً عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي كَانَ قَبْلَ التَّعْلِيقِ لَا عَلَى عَدَمِ الشَّرْطِ هُوَ يَقُولُ: التَّعْلِيقُ يُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ لَا يُؤَثِّرُ التَّعْلِيقُ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَإِنَّمَا يُوَثِّرُ فِي حُكْمِهِ بِمَنْعِهِ مِنْ الثُّبُوتِ فَإِنَّهُ لَوْلَا التَّعْلِيقُ لَكَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا فِي الْحَالِ أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ ثَابِتٌ مَعَ الشَّرْطِ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ بِدُونِ الشَّرْطِ وَهُوَ عِلَّةٌ تَامَّةٌ بِنَفْسِهِ وَلَكِنَّ حُكْمَهُ لَا يَثْبُتُ لِمَكَانِ الشَّرْطِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ أَثَرَ التَّعْلِيقِ فِي مَنْعِ الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ بِمَنْزِلَةِ التَّأْجِيلِ وَالْإِضَافَةِ وَبِمَنْزِلَةِ شَرْطِ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَى الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ فَيُوجِبُ نَفْيَ الْحُكْمِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ نَظِيرُ التَّعْلِيقِ الْحِسِّيِّ فَإِنَّ تَعْلِيقَ الْقِنْدِيلِ لَا يُؤَثِّرُ فِي ثِقَلِهِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ السُّقُوطِ بِالْإِعْدَامِ وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي حُكْمِهِ وَهُوَ السُّقُوطُ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْعِلَّةِ فَإِنَّ عَدَمَهَا لَا يُوجِبُ عَدَمَ الْحُكْمِ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ ابْتِدَاءً لِوُجُودِ الْعِلَّةِ فَلَا يَكُونُ عَدَمُ الْحُكْمِ قَبْلَ وُجُودِ الْعِلَّةِ مُضَافًا إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعِلَّةَ نَفَتْ الْحُكْمَ قَبْلَ وُجُودِهَا بَلْ عُدِمَ لِعَدَمِ سَبَبِهِ فَأَمَّا الشَّرْطُ فَمُغَيِّرٌ لِلْحُكْمِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ فَكَانَ مَانِعًا مِنْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ قَبْلَ وُجُودِهِ مَعَ وُجُودِ الْمُوجِبِ كَمَا كَانَ مُثْبِتًا وُجُودَ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِهِ قَوْلُهُ (وَلِذَلِكَ) أَيْ وَلِأَنَّ أَثَرَ التَّعْلِيقِ فِي تَأْخِيرِ الْحُكْمِ لَا فِي مَنْعِ السَّبَبِ عَنْ الِانْعِقَادِ أَبْطَلَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِالْمِلْكِ بِأَنْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: إنْ تَزَوَّجْتُك أَوْ نَكَحْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ قَالَ: إنْ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً أَوْ كُلَّمَا تَزَوَّجْت امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ أَوْ قَالَ إنْ اشْتَرَيْت عَبْدًا فَهُوَ حُرٌّ وَقَالَ لِعَبْدِ الْغَيْرِ: إنْ مَلَكْتُك أَوْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ كَانَ هَذَا كُلُّهُ بَاطِلًا حَتَّى لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ بِهَذِهِ الْأَيْمَانِ بِحَالٍ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمَّا كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ التَّعْلِيقِ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْمِلْكِ فَيُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ لِيَتَقَرَّرَ السَّبَبُ ثُمَّ يَتَأَخَّرُ الْحُكْمُ إلَى وُجُودِ الشَّرْطِ بِالتَّعْلِيقِ. وَجُوِّزَ تَعْجِيلُ النَّذْرِ الْمُعَلَّقِ أَيْ الْمَنْذُورِ الْمَالِيِّ بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَتَصَدَّقَ بِهَا عَنْ النَّذْرِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQقَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ جَازَ عِنْدَهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِعَشَرَةٍ سَبَبٌ تَامٌّ لِإِيجَابِ الْعَشَرَةِ فِي الْحَالِ غَيْرَ أَنَّ الشَّرْطَ أَخَّرَ وُجُوبَ الْأَدَاءِ إلَى زَمَانِ وُجُودِهِ فَإِذَا أَدَّى قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَانَ الْأَدَاءُ وَاقِعًا بَعْدَ وُجُوبِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ فَيَجُوزُ. وَجُوِّزَ تَعْجِيلُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ يَعْنِي الْكَفَّارَةَ بِالْمَالِ بِأَنْ أَعْتَقَ قَبْلَ الْحِنْثِ رَقَبَةً عَنْ الْكَفَّارَةِ أَوْ أَطْعَمَ أَوْ كَسَا عَشَرَةَ مَسَاكِينَ جَازَ عِنْدَهُ وَيُخْرِجُ عَنْ عُهْدَةِ الْيَمِينِ لِأَنَّ الْيَمِينَ سَبَبٌ لِلْكَفَّارَةِ وَلِهَذَا تُضَافُ الْكَفَّارَةُ إلَيْهَا فَيُقَالُ: كَفَّارَةُ الْيَمِينِ إلَّا أَنَّ الْحِنْثَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ أَدَائِهَا فَكَانَ التَّعْلِيقُ بِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] أَيْ حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ مُؤَخِّرًا لِلْحُكْمِ إلَى حِينِ وُجُودِهِ بِمَنْزِلَةِ التَّأْجِيلِ فَلَا يُمْنَعُ جَوَازُ التَّعْجِيلِ لِأَنَّ الْأَدَاءَ بَعْدَ سَبَبٍ قَبْلَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ جَائِزٌ كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ وَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ وَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] أَيْ وَمَنْ لَمْ يَمْلِكْ زِيَادَةً فِي الْمَالِ يَمْلِكُ بِهَا نِكَاحَ الْحُرَّةِ {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] أَيْ فَلْيَنْكِحْ مَمْلُوكَةً مِنْ الْإِمَاءِ الْمُسْلِمَاتِ وَالطَّوْلُ الْفَضْلُ وَالْفَتَاةُ الْأَمَةُ فَإِنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ عُلِّقَ بِعَدَمِ طَوْلِ الْحُرَّةِ فَتَوَجَّبَ الْجَوَازُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِمَنْظُومِهِ وَالْفَسَادُ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ وَهُوَ وُجُودُ الطَّوْلِ بِمَفْهُومِهِ وَكَذَلِكَ وُصِفَتْ الْفَتَيَاتُ بِالْمُؤْمِنَاتِ فَيُوجَبُ الْجَوَازُ عِنْدَ وُجُودِ هَذِهِ الصِّفَةِ وَالْعَدَمُ عِنْدَ عَدَمِهَا فَعِنْدَ وُجُودِ الطَّوْلِ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ أَصْلًا وَعِنْدَ عَدَمِهِ يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ دُونَ الْكَافِرَةِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ جَوَازَ نِكَاحِ الْأَمَةِ مُعَلَّقٌ بِشَرْطَيْنِ بِعَدَمِ الطَّوْلِ وَبِصِفَةِ الْإِيمَانِ فَيَثْبُتُ عِنْدَ وُجُودِهِمَا وَيَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ أَحَدِهِمَا وَرَأَيْت فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَنَّ جَوَازَ نِكَاحِ الْأَمَةِ عِنْدَهُ مُتَعَلِّقٌ بِشُرُوطٍ أَرْبَعَةٍ سِوَى الشَّرْطِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ عَدَمِ الْحُرَّةِ تَحْتَهُ وَهِيَ عَدَمُ الطَّوْلِ لِلْحُرَّةِ وَكَوْنُ الْأَمَةِ مُؤْمِنَةً. وَخَشْيَةُ الْعَنَتِ وَهُوَ الزِّنَا وَأَنْ لَا يَكُونَ تَحْتَهُ أَمَةٌ أُخْرَى بِنِكَاحٍ أَوْ بِمِلْكِ يَمِينٍ لِأَنَّ جَوَازَ نِكَاحِ الْأَمَةِ عِنْدَهُ ضَرُورِيٌّ وَهِيَ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ هَذِهِ الشَّرَائِطِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ حَيْثُ جَعَلَ طَوْلَ الْحُرَّةِ الْكِتَابِيَّةِ مَانِعًا مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ كَطَوْلِ الْحُرَّةِ الْمُؤْمِنَةِ وَمَفْهُومُهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ طَوْلُ الْكِتَابِيَّةِ مَانِعًا إذْ لَوْ كَانَ مَانِعًا لَمَا كَانَ لِقَيْدِ الْإِيمَانِ فَائِدَةٌ لِأَنَّهُ يَقُولُ الْعَمَلُ بِالْمَفْهُومِ إنَّمَا يَجِبُ إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ دَلِيلٌ آخَرُ وَقَدْ عَارَضَهُ هَاهُنَا فَإِنَّ صِيَانَةَ الْجُزْءِ عَنْ الِاسْتِرْقَاقِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ وَقَدْ أَمْكَنَ ذَلِكَ بِنِكَاحِ الْحُرَّةِ الْكِتَابِيَّةِ مَعَ رِعَايَةِ وَصْفِ الْإِيمَانِ فِي الْوَلَدِ فَإِنَّهُ يَتْبَعُ خَيْرَ الْأَبَوَيْنِ دِينًا فَلَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِالْمَفْهُومِ وَذَكَرَ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْوَاجِدَ لِطَوْلِ حُرَّةٍ ذِمِّيَّةٍ وَاجِدٌ لِطَوْلِ حُرَّةٍ مُؤْمِنَةٍ عِنْدَنَا فَلِذَلِكَ مَنَعْنَاهُ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: إذَا وَجَدَ طَوْلَ ذِمِّيَّةٍ وَلَمْ يَجِدْ مُؤْمِنَةً تَرْضَى مِنْهُ بِذَلِكَ الطَّوْلِ كَانَ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ قَالَ: وَالْجَوَابُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَذَكَرَ فِي التَّهْذِيبِ إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى نِكَاحِ حُرَّةٍ كِتَابِيَّةٍ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يَجُوزُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] وَهَذَا غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى طَوْلِ حُرَّةٍ مُؤْمِنَةٍ وَالثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي نِكَاحِهِ حُرَّةً ذِمِّيَّةً لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ وَذَكَرَ فِي الْإِيمَانِ فِي الْمُحْصَنَاتِ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الشَّرْطِ بَلْ ذَكَرَهُ تَشْرِيفًا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب: 49] الْآيَةُ ثُمَّ الْمُسْلِمَةُ وَالذِّمِّيَّةُ فِي هَذَا الْحُكْمِ سَوَاءٌ وَهُوَ أَنْ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا إذَا طَلُقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَإِنْ أُثْبِتَ الْحُكْمُ فِي الْمُؤْمِنَاتِ وَلَا يَلْزَمُ أَيْ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنْ جَوَازِ تَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ بِالْمَالِ وَالْمَنْذُورِ الْمَالِيِّ بِنَاءً عَلَى وُجُودِ السَّبَبِ عَدَمُ جَوَازِ تَعْجِيلِ الْبَدَنِيِّ فِي الْكَفَّارَةِ أَوْ فِي النَّذْرِ حَتَّى لَوْ كَفَّرَ الْيَمِينَ بِالصَّوْمِ قَبْلَ الْحِنْثِ أَوْ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ انْزِهَاقِ الرُّوحِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ أَوْ نَذْرٍ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ أَوْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَتَى بِالْمَنْذُورِ قَبْلَ الشَّرْطِ لَا يَجُوزُ فِي هَذَا كُلِّهِ بِخِلَافِ تَعْجِيلِ الْمَالِيِّ حَيْثُ يَجُوزُ لِأَنَّ الْحُقُوقَ الْمَالِيَّةَ يَنْفَصِلُ وُجُوبُ أَدَائِهَا عَنْ نَفْسِ الْوُجُوبِ لِأَنَّ الْمَالَ مَعَ الْفَصْلِ يَتَغَايَرَانِ فَجَازَ أَنْ يَتَّصِفَ الْمَالُ بِالْوُجُوبِ وَلَا يَثْبُتُ وُجُوبُ الْأَدَاءِ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا إلَى شَهْرٍ يُثْبِتُ الْوُجُوبَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَلَا يَثْبُتُ وُجُوبُ الْأَدَاءِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ فَلَا يَدُلُّ عَدَمُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ. فَأَمَّا الْبَدَنِيُّ فَلَا يَحْتَمِلُ الْفَصْلَ بَيْنَ وُجُوبِهِ وَوُجُوبِ أَدَائِهِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ إلَّا أَفْعَالًا مَعْلُومَةً وَكَذَا الصَّوْمُ فَوُجُوبُ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ لَا يَكُونُ إلَّا وُجُوبَ الْأَدَاءِ فَعَدَمُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ فِيهِ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ ضَرُورَةً وَلَمَّا تَأَخَّرَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ هَاهُنَا بِالْإِجْمَاعِ انْتَفَى الْوُجُوبُ فَلَا يَجُوزُ الْأَدَاءُ قَبْلَ الْوُجُوبِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الصَّوْمُ قَبْلَ الشَّهْرِ وَيَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ. وَنَحْنُ نَقُولُ: تَأْثِيرُ التَّعْلِيقِ فِي مَنْعِ السَّبَبِ لَا فِي حُكْمِهِ فَكَانَ امْتِنَاعُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ سَبَبِهِ لَا لِمَنْعِ التَّعْلِيقِ إيَّاهُ قَصْدًا وَهَذَا لِأَنَّ التَّعْلِيقَ دَخَلَ فِي السَّبَبِ وَهُوَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ مَثَلًا لِأَنَّهُ هُوَ الْمَذْكُورُ دُونَ غَيْرِهِ فَإِذَا قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَدْ عَلَّقَهُ بِهَذَا الشَّرْطِ وَقَصَدَ التَّطْلِيقَ عِنْدَ دُخُولِ الدَّارِ لَا فِي الْحَالِ فَلَمْ يَكُنْ السَّبَبُ مَوْجُودًا قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ جَزَاءً لِدُخُولِ الدَّارِ وَالْجَزَاءُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ يَتَعَلَّقُ وُجُودُهُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: إنْ تُكْرِمْنِي أُكْرِمْك كَانَ مُعَلِّقًا إكْرَامَهُ بِإِكْرَامِ صَاحِبِهِ إيَّاهُ وَكَانَ إكْرَامُهُ مَعْدُومًا قَبْلَ إكْرَامِ صَاحِبِهِ إيَّاهُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا لَمَّا جَعَلَ التَّطْلِيقَ جَزَاءَ دُخُولِ الدَّارِ كَانَ التَّطْلِيقُ مَعْدُومًا قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَلَا مُعْنِدَ لِقَوْلِهِمْ أَنْتِ طَالِقٌ قَدْ صَارَ مَوْجُودًا فَلَا وَجْهَ إلَى جَعْلِهِ مَعْدُومًا بِالتَّعْلِيقِ فَيُجْعَلُ التَّعَلُّقُ مَانِعًا لِحُكْمِهِ وَهُوَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ كَشَرْطِ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّا لَا نَجْعَلُ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ مَعْدُومًا وَلَكِنْ نَجْعَلُ التَّعْلِيقَ مَانِعًا مِنْ وُصُولِهِ إلَى الْمَحَلِّ وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ انْعِقَادِهِ عِلَّةً لِأَنَّ الْعِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ لَا تَصِيرُ عِلَّةً قَبْلَ وُصُولِهَا إلَى مَحَلِّهَا كَمَا لَا يَصِيرُ عِلَّةً قَبْلَ تَمَامِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ شَطْرَ الْبَيْعِ كَمَا لَا يَكُونُ عِلَّةً لِعَدَمِ تَمَامِ الرُّكْنِ لَا يَكُونُ بَيْعُ الْحُرِّ سَبَبًا أَيْضًا لِعَدَمِ إضَافَتِهِ إلَى الْمَحَلِّ وَكَمَا لَا يَكُونُ قَوْلُهُ أَنْتِ سَبَبًا لِلطَّلَاقِ قَبْلَ قَوْلُهُ طَالِقٌ فَكَذَا إذَا أُضِيفَ أَنْتِ طَالِقٌ إلَى مَيِّتَةٍ أَوْ بَهِيمَةٍ أَوْ أَجْنَبِيَّةٍ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِعَدَمِ الْمَحَلِّ وَكَذَلِكَ بَعْضُ النِّصَابِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فَكَذَلِكَ النِّصَابُ لِكَمَالِهِ فِي مِلْكِ كَافِرٍ لَا يَكُونُ سَبَبًا أَيْضًا. 1 - وَلَمَّا دَخَلَ التَّعْلِيقُ عَلَى قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ مَنَعَهُ مِنْ الْوُصُولِ إلَى الْمَحَلِّ كَالْقِنْدِيلِ الْمُعَلَّقِ لَا يَكُونُ وَاصِلًا إلَى الْأَرْضِ وَلِأَنَّ الِاتِّصَالَ الشَّرْعِيَّ يُعْرَفُ تَأْثِيرُهُ وَلَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ فِيهَا فَكَيْفَ يَكُونُ وَاصِلًا وَاعْتُبِرَ هَذَا بِالِاتِّصَالِ الْحِسِّيِّ فَإِنَّ فِعْلَ النَّجَّارِ

فَبَقِيَ غَيْرَ مُضَافٍ إلَيْهِ وَبِدُونِ الِاتِّصَالِ بِالْمَحَلِّ لَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا أَلَا تَرَى أَنَّ السَّبَبَ مَا يَكُونُ طَرِيقًا وَالسَّبَبَ الْمُعَلَّقَ يَمِينٌ عُقِدَتْ عَلَى الْبِرِّ وَالْعَقْدُ عَلَى الْبِرِّ لَيْسَ بِطَرِيقٍ إلَى الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا بِالْحِنْثِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْمَحَلِّ وَهُوَ الْخَشَبُ لَا يَنْعَقِدُ نَجْرًا. وَكَذَا الْكَسْرُ مَعَ الِانْكِسَارِ وَإِذَا لَمْ يَتَّصِلْ إلَى الْمَحَلِّ لَمْ يَصِرْ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ عِلَّةً وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَلْغُوَ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِالْمَحَلِّ كَقَوْلِهِ لِأَجْنَبِيَّةٍ أَنْتِ طَالِقٌ إلَّا أَنَّ وُصُولَهُ إلَى الْمَحَلِّ لَمَّا كَانَ مَرْجُوًّا بِوُجُودِ الشَّرْطِ وَانْحِلَالِ التَّعْلِيقِ جَعَلْنَاهُ كَلَامًا صَحِيحًا لَهُ عَرَضِيَّةٌ أَنْ يَصِيرَ سَبَبًا كَشَطْرِ الْبَيْعِ لَهُ عَرَضِيَّةٌ أَنْ يَصِيرَ سَبَبًا بِوُجُودِ الشَّطْرِ الْآخَرِ فِي الْمَجْلِسِ حَتَّى لَوْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ لَا يُرْجَى وُجُودُهُ وَلَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ لَغَا أَيْضًا بِأَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ: لَوْ لَمْ يَكُنْ الشَّرْطُ مَانِعًا لِلْعِلَّةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ مَانِعًا لِلْحُكْمِ أَدَّى ذَلِكَ إلَى تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَهُوَ مَذْهَبٌ فَاسِدٌ وَنَظِيرُهُ مِنْ الْحِسِّيَّاتِ الرَّمْيُ فَإِنَّ نَفْسَهُ لَيْسَ بِقَتْلٍ وَلَكِنَّهُ بِعَرَضٍ أَنْ يَصِيرَ قَتْلًا إذَا اتَّصَلَ السَّهْمُ بِالْمَحَلِّ وَإِذَا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّمْيِ تُرْسٌ مَنَعَ الرَّمْيُ مِنْ انْعِقَادِهِ عِلَّةً لِلْعَقْلِ لَا أَنَّهُ مَنَعَ الْقَتْلَ مَعَ وُجُودِ سَبَبِهِ فَكَذَا التَّعْلِيقُ بِالشَّرْعِيَّاتِ وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ يَصِيرُ كَالْمُنْجَزِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لِأَنَّ الشَّرْطَ إذَا وُجِدَ ارْتَفَعَ التَّعْلِيقُ فَصَارَ ذَلِكَ الْكَلَامُ تَنْجِيزًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَإِنْ قِيلَ: الصَّحِيحُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ جُنَّ فَدَخَلَتْ الدَّارَ تَطْلُقُ وَلَوْ نَجَزَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يَقَعْ. قُلْنَا: إنَّمَا يُصَيِّرُ ذَلِكَ الْكَلَامَ الْمُعَلَّقَ تَنْجِيزًا عَقْدُ وُجُودِ الشَّرْطِ وَذَلِكَ الْكَلَامُ كَانَ صَحِيحًا مِنْهُ وَالتَّنْجِيزُ إنَّمَا لَا يَصِحُّ مِنْ الْمَجْنُونِ لِأَنَّ كَلَامَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا فَإِذَا كَانَ هَذَا تَنْجِيزًا بِكَلَامٍ صَحِيحٍ شَرْعًا عَمِلَ فِي حَقِّهِ أَيْضًا وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّنْجِيزِ يُرَاعَى لِلْوُقُوعِ وُجُودُ الْمَحَلِّ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّكَلُّمَ مِنْ الْحَالِفِ يُوجَدُ عِنْدَ التَّعْلِيقِ فَيُرَاعَى أَهْلِيَّةُ التَّكَلُّمِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَالْوُصُولُ إلَى الْمَحَلِّ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَيُرَاعَى وُجُودُ الْمَحَلِّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَذَا فِي جَامِعِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فَإِنْ قِيلَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ طَلَّقْت امْرَأَتِي فَأَنْتِ حُرٌّ ثُمَّ دَخَلَتْ الدَّارَ حَتَّى طَلُقَتْ لَا يَعْتِقُ الْعَبْدُ وَلَوْ صَارَ مُطْلَقًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لَلَزِمَ أَنْ يَعْتِقَ الْعَبْدُ قُلْنَا: إنَّمَا لَا يَعْتِقُ لِأَنَّهُ عُرِفَ بِدَلَالَةِ الْحَالِ أَنَّ غَرَضَهُ مِنْ قَوْلِهِ إنْ طَلَّقْت فَكَذَا مَنْعُ نَفْسِهِ عَنْ تَطْلِيقٍ بِكَلَامٍ مُسْتَأْنَفٍ بَعْدَ الْيَمِينِ يَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ عَنْهُ وَالْإِقْدَامِ عَلَيْهِ فَيَنْصَرِفُ الْيَمِينُ إلَيْهِ كَمَا لَوْ جَرَحَ رَجُلًا ثُمَّ قَالَ إنْ قَتَلْتُهُ فَعَبْدِي حُرٌّ ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ مِنْ جُرْحِهِ لَا يَعْتِقُ الْعَبْدُ وَصَارَ قَتْلًا بَعْدَ الْيَمِينِ لِأَنَّ غَرَضَهُ الْمَنْعُ عَنْ قَتْلٍ يُبَاشِرُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَيَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ عَنْهُ إنْ شَاءَ فَكَذَا هَذَا قَوْلُهُ (فَبَقِيَ غَيْرَ مُضَافٍ إلَيْهِ) أَيْ غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِالْمَحَلِّ. أَلَا تَرَى تَوْضِيحٌ لِقَوْلِهِ لَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا يَعْنِي السَّبَبُ مَا يَكُونُ مُفْضِيًا إلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ وَمُتَقَرِّرًا عِنْدَ ثُبُوتِهِ وَالسَّبَبُ الْمُعَلَّقُ أَيْ الْكَلَامُ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ الَّذِي يَصِيرُ سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لَيْسَ بِمُفْضٍ إلَى الْحُكْمِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ بَلْ الشَّرْطُ مَانِعٌ عَنْهُ فَكَيْفَ يُجْعَلُ سَبَبًا وَهَذَا لِأَنَّهُ جُعِلَ جَزَاءً لِلشَّرْطِ لِيَنْعَقِدَ يَمِينًا إذْ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ يَمِينٌ عَلَى مَا عُرِفَ وَقَصْدُهُ مِنْ هَذَا التَّصَرُّفِ تَحْقِيقُ مُوجَبِهِ وَهُوَ الْبِرُّ إلَّا أَنَّ الْبِرَّ لَا يَتَأَكَّدُ إلَّا بِضَمَانٍ يَلْزَمُهُ عِنْدَ الْهَتْكِ فَجُعِلَ مَضْمُونًا بِالْجَزَاءِ لِيَتَحَرَّزَ عَنْ الْهَتْكِ وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّصَرُّفِ تَحْقِيقَ الْبِرِّ وَفِي تَحْقِيقِهِ إعْدَامُ مُوجَبِ مَا عُلِّقَ بِالشَّرْطِ لَا وُجُودِهِ لَا يَكُونُ الْمُعَلَّقُ مُفْضِيًا إلَى وُجُودِ الْحُكْمِ بَلْ يَكُونُ مُوجِبًا عَدَمَهُ

وَهُوَ نَقْضُ الْعَقْدِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا تَنَافٍ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا وَتَبَيَّنَ أَنَّ الشَّرْطَ لَيْسَ بِمَعْنَى الْأَجَلِ لِأَنَّ هَذَا دَاخِلٌ عَلَى السَّبَبِ الْمُوجِبِ فَمَنَعَهُ عَنْ اتِّصَالِهِ بِمَحَلِّهِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ أَنْتِ مِنِّي لَمْ يَتَّصِلْ بِقَوْلِهِ حُرٌّ لَمْ يَعْمَلْ فَصَارَ الْحُكْمُ مَعْدُومًا بَعْدَ الشَّرْطِ بِالْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْيَمِينِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَلَا يَكُونُ سَبَبًا قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَرُبَّمَا ذَكَرْنَا يَتَبَيَّنُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِضَافَةِ وَالتَّعْلِيقِ فَإِنَّ الْإِضَافَةَ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ بِالْإِيجَابِ فِي وَقْتِهِ فَإِنَّ قَوْلَهُ أَنْتَ حُرٌّ غَدًا لِوُقُوعِ الْحُرِّيَّةِ فِيهِ لَا يَمْنَعُ الْحُرِّيَّةَ فَيَتَحَقَّقُ السَّبَبُ لِوُجُودِهِ حَقِيقَةً وَعَدَمِ مَا يَمْنَعُهُ عَنْ السَّبَبِيَّةِ لِأَنَّ الْغَدَ وَمَا يُشْبِهُهُ تَعْيِينُ زَمَانِ الْوُقُوعِ وَالزَّمَانُ مِنْ لَوَازِمِ الْوُقُوعِ كَمَا إذَا قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ السَّاعَةَ فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ تَحْقِيقًا لِلسَّبَبِيَّةِ وَالتَّعْلِيقُ مَانِعًا عَنْهَا وَلِهَذَا ذَكَرَ فِي نَوَادِرِ الصَّوْمِ مِنْ الْمَبْسُوطِ إذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ غَدًا فَعَجَّلَ يَجُوزُ وَلَوْ قَالَ: إذَا جَاءَ غَدٌ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِهِ قَبْلَ مَجِيءِ الْغَدِ لَا يَجُوزُ لِوُجُودِ السَّبَبِ فِي الْإِضَافَةِ وَعَدَمِهِ فِي التَّعْلِيقِ. وَالْعَقْدُ عَلَى الْبِرِّ لَيْسَ بِطَرِيقٍ إلَى الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا بِالْحِنْثِ أَيْ عِنْدَ الْحِنْثِ وَالْيَمِينِ مَانِعَةٌ مِنْ الْحِنْثِ مُوجِبَةٌ لِضِدِّهِ وَهُوَ الْبِرُّ فَكَيْفَ يَكُونُ مُفْضِيَةً إلَى مَا هِيَ مَانِعَةٌ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ وَهُوَ نَقَضَ الْعَقْدَ أَيْ الْحِنْثُ نَقَضَ الْيَمِينَ دَلِيلٌ آخَرُ يَعْنِي كَمَا أَنَّ الْيَمِينَ لَا تَصْلُحُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ لِأَنَّهَا مَانِعَةٌ مِنْ الْحِنْثِ لَا تَصْلُحُ سَبَبًا لَهَا أَيْضًا لِأَنَّهَا لَا تَبْقَى مَعَ الْحِنْثِ لِأَنَّ الْحِنْثَ يُنَافِي الْيَمِينَ لِأَنَّهُ نَقْضُ الْيَمِينِ وَمَا يَنْقُضُ الْعَقْدَ يُنَافِيهِ لَا مَحَالَةَ وَإِذَا لَمْ يَبْقَ الْيَمِينُ عِنْدَ الْحِنْثِ الَّذِي تَعَلَّقَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِهِ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لَهَا قَبْلَ الْحِنْثِ لِأَنَّ مِنْ أَوْصَافِ السَّبَبِ أَنْ يُتَصَوَّرَ تَقَرُّرُهُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُسَبِّبِ فَإِنْ قِيلَ هَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَالْعُرْفِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ الْكَفَّارَةَ إلَى الْيَمِينِ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ يُقَالُ فِي الْعُرْفِ أَيْضًا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَالْإِضَافَةُ دَلِيلُ السَّبَبِيَّةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّبِيَّ أَوْ الْمَجْنُونَ لَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ أَوْ بِالطَّلَاقِ ثُمَّ بَلَغَ أَوْ أَفَاقَ فَحَنِثَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَلَوْ حَلَفَ مُخَاطِبٌ ثُمَّ جُنَّ فَحَنِثَ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَكَذَا فِي الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ فَلَمَّا شَرَطَتْ أَهْلِيَّتُهُ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الْيَمِينِ لَا عِنْدَ الْحِنْثِ عُلِمَ أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْيَمِينُ وَقَوْلُكُمْ الْيَمِينُ لَا تَصْلُحُ طَرِيقًا إلَى الْكَفَّارَةِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِأَنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْكَفَّارَةِ فَإِنَّهُ لَوْلَا الْيَمِينُ لَمَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يُتَوَصَّلُ بِوَاسِطَةِ الْحِنْثِ لَا بِنَفْسِ الْيَمِينِ وَهَذَا هُوَ حَدُّ السَّبَبِ وَهُوَ أَنْ يُوصَلَ إلَيْهِ بِوَاسِطَةٍ كَالْجُرْحِ سَبَبٌ لِلْكَفَّارَةِ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الْقَتْلِ بِوَاسِطَةِ السِّرَايَةِ. قُلْنَا: نَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ الْيَمِينَ سَبَبٌ لِلْكَفَّارَةِ وَلَكِنْ نَقُولُ هِيَ سَبَبٌ لَهَا بَعْدَ الْحِنْثِ وَفَوَاتُ الْبِرِّ بِطَرِيقِ الِانْقِلَابِ وَالْكَفَّارَةُ مُضَافَةٌ إلَى تِلْكَ الْيَمِينِ لَا إلَى الْيَمِينِ قَبْلَ الْحِنْثِ كَذَا قَالَ الْإِمَامُ الْبُرْغَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَنَظِيرُهُ الصَّوْمُ وَالْإِحْرَامُ فَإِنَّهُمَا يَمْنَعَانِ عَنْ ارْتِكَابِ مَحْظُورِهِمَا وَبَعْدَ الِارْتِكَابِ يَصِيرَانِ سَبَبَيْنِ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِطَرِيقِ الِانْقِلَابِ وَذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ أَنَّا نُسَلِّمُ أَنَّ الْيَمِينَ فِيمَا مَضَى سَبَبٌ لِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ وَلَكِنْ خُلْفًا عَنْ الْبِرِّ لَا أَصْلًا وَالْخُلْفُ يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى بَعْدَ انْقِطَاعِ الْعِلَّةِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ عِلَّةٌ لِإِيجَابِ الْأَصْلِ لَا لِلْبَقَاءِ وَالْخُلْفُ يَخْلُفُهُ فِي الْبَقَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّ مِلْكَ الثَّمَنِ لَا يَثْبُتُ ابْتِدَاءً بِغَيْرِ بَيْعٍ وَيَبْقَى بَعْدَ انْقِطَاعِ الْبَيْعِ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ أَوْ بَيْعِهِ مِنْ إنْسَانٍ آخَرَ وَكَذَا الْمَهْرُ يَبْقَى بَعْدَ انْقِطَاعِ النِّكَاحِ بِالطَّلَاقِ فَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْأَهْلِيَّةِ وَقْتَ الْيَمِينِ فَلَيْسَتْ لِكَوْنِهَا سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ أَوْ الطَّلَاقِ وَلَكِنْ لِكَوْنِهَا سَبَبًا لِلْبِرِّ وَالْأَسْبَابُ الْمُلْزِمَةُ لَا تَصِحُّ إلَّا مِنْ الْأَهْلِ فَأَمَّا الْعَاقِلُ إذَا حَلَفَ ثُمَّ جُنَّ فَقَدْ أَجَبْنَا عَنْهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْكَفَّارَةِ بِوَاسِطَةِ الْحِنْثِ فَلَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّ السَّبَبَ إذَا كَانَ يَصِيرُ سَبَبًا بِوَاسِطَةٍ

وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ لِأَنَّ الْخِيَارَ ثَمَّةَ دَاخِلٌ عَلَى الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَحْتَمِلُ الْخَطَرَ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ نَظَرًا فَلَوْ دَخَلَ عَلَى السَّبَبِ لِتَعَلُّقِهِ بِحُكْمِهِ لَا مَحَالَةَ وَلَوْ دَخَلَ عَلَى الْحُكْمِ لَنَزَلَ سَبَبُهُ وَهُوَ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَيَصْلُحُ التَّدَارُكُ بِهِ بِأَنْ يَصِيرَ غَيْرَ لَازِمٍ بِأَدْنَى الْمُخْطِرَيْنِ فَكَانَ أَوْلَى وَأَمَّا هَذَا فَيَحْتَمِلُ الْخَطَرَ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِكَمَالِ التَّعْلِيقِ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَمَّا الْحُكْمُ فَإِنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ فَبَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ حَنِثَ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُفْضِيًا إلَى تِلْكَ الْوَاسِطَةِ مُوصِلًا إلَى الْحُكْمِ كَالْجُرْحِ يُفْضِي إلَى الْأَلَمِ وَالْأَلَمُ يُفْضِي إلَى تَلَفِ النَّفْسِ وَهَاهُنَا الْحِنْثُ مَمْنُوعٌ بِحُكْمِ الْيَمِينِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَكَيْفَ أَنْ يَكُونَ الْيَمِينُ مُفْضِيَةً إلَى الْحُكْمِ كَذَا فِي طَرِيقَةِ الْإِمَامِ الْبُرْغَرِيِّ. وَتَبَيَّنَ أَنَّ الشَّرْطَ لَيْسَ بِمَعْنَى الْأَجَلِ يَعْنِي تَبَيَّنَ أَنَّ التَّعْلِيقَ لَيْسَ كَالتَّأْجِيلِ فَإِنَّ التَّأْجِيلَ لَا يَمْنَعُ وُصُولَ السَّبَبِ بِالْمَحَلِّ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ فِي الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ جَمِيعًا الْعَقْدُ وَمَحَلَّ الدَّيْنِ الذِّمَّةُ وَالتَّأْجِيلَ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ وَلَا ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْمَبِيعِ وَإِنَّمَا يُؤَخِّرُ الْمُطَالَبَةَ وَالْأَجَلَ مِمَّا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ فَيَسْقُطُ بِالتَّعْجِيلِ وَيَتَحَقَّقُ أَدَاءُ الْوَاجِبِ وَأَمَّا التَّعْلِيقُ فَيَمْنَعُ وُصُولَهُ إلَى الْمَحَلِّ وَقَبْلَ الْوُصُولِ لَا يَتِمُّ السَّبَبُ وَلَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ قَبْلَ تَمَامِ السَّبَبِ دَاخِلٌ عَلَى السَّبَبِ الْمُوجِبِ وَهُوَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ فَصَارَ الْحُكْمُ مَعْدُومًا بَعْدَ الشَّرْطِ أَيْ بَعْدَ ذِكْرِ الشَّرْطِ قَبْلَ وُجُودِهِ بِالْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ أَيْ الْعَدَمِ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ لَا لِمَانِعٍ يَمْنَعُ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْيَمِينِ فَإِنْ وُجِدَ الدَّلِيلُ الْمُوجِبُ لِلْحُكْمِ مَعَ قِيَامِ التَّعْلِيقِ يَجِبُ الْحُكْمُ بِهِ كَمَا قَبْلَ التَّعْلِيقِ وَإِلَّا فَلَا فَفِي قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا} [النساء: 25] الْآيَةُ قَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى الْجَوَازِ بِدُونِ الشَّرْطِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] ، {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] ، {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِهِ إذْ لَمْ يُعَارِضْهُ التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ وَفِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْمُعَلَّقَةِ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ قَبْلَ وُجُودِ هَذِهِ الشُّرُوطِ فَبَقِيَتْ عَلَى مَا كَانَتْ. قَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ وَأَخَوَاتِهِ بِالشَّرْطِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّ الشَّرْطَ فِيهِ دَاخِلٌ عَلَى الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَحْتَمِلُ الْخَطَرَ لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْإِثْبَاتَاتِ وَهِيَ لَا تَحْتَمِلُ الْخَطَرَ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْقِمَارِ الَّذِي هُوَ حَرَامٌ وَفِي جَعْلِهِ مُتَعَلِّقًا بِالشَّرْطِ خَطَرٌ تَامٌّ فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ الْبَيْعُ مَعَ خِيَارِ الشَّرْطِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ جَوَّزَ ذَلِكَ ضَرُورَةَ دَفْعِ الْغَبْنِ فَكَانَ نَظِيرَ أَكْلِ الْمَيِّتَةِ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ تَنْدَفِعُ بِجَعْلِهِ دَاخِلًا عَلَى الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ لِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ دَاخِلًا عَلَى السَّبَبِ لِتَعَلُّقِ حُكْمِهِ أَيْضًا ضَرُورَةَ اسْتِحَالَةِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ قَبْلَ السَّبَبِ وَلَوْ جُعِلَ دَاخِلًا عَلَى الْحُكْمِ لَنَزَلَ سَبَبُهُ أَيْ انْعَقَدَ وَنَفَذَ فِي الْحَالِ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالشَّرْطِ إلَّا أَنَّ حُكْمَهُ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ وَالْحُكْمُ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّأَخُّرَ عَنْ السَّبَبِ فَكَانَ جَعْلُهُ دَاخِلًا عَلَى الْحُكْمِ أَوْلَى تَقْلِيلًا لِلْخَطَرِ وَفِيهِ تَحْصِيلُ الْمَقْصُودِ أَيْضًا وَكَانَ قَوْلُهُ وَهُوَ أَيْ السَّبَبُ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ جَوَابُ سُؤَالٍ يُرَدُّ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ السَّبَبُ لَمَّا نَزَلَ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالشَّرْطِ لَا يُمْكِنُ فَسْخُهُ بِدُونِ رِضَاءِ صَاحِبِهِ لِأَنَّهُ مِنْ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ لِصَاحِبِ الْخِيَارِ فَقَالَ: الْبَيْعُ مِمَّا يَقْبَلُ الْفَسْخَ فَيُمْكِنُ تَدَارُكُ زَوَالِ السَّبَبِ أَوْ تَدَارُكُ دَفْعِ الْغَبْنِ بِأَنْ يُجْعَلَ غَيْرَ لَازِمٍ لِيُمْكِنَهُ فَسْخُهُ بِدُونِ رِضَاءِ صَاحِبِهِ فَيَحْصُلُ مَقْصُودُهُ وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ رَاجِعٌ إلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي. وَقَوْلُهُ بِأَنْ يُجْعَلَ بَدَلَ مَنْ بِهِ وَالْبَاءُ فِي بِأَدْنَى مُتَعَلِّقَةٌ بِيُجْعَلَ أَيْ يُمْكِنُ تَدَارُكُ دَفْعِ الْغَبْنِ بِإِدْخَالِ الشَّرْطِ عَلَى الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ بِأَنْ يُجْعَلَ السَّبَبُ وَهُوَ الْبَيْعُ غَيْرَ لَازِمٍ بِأَدْنَى الْخَطَرَيْنِ وَهُوَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ

وَلَوْ حَلَفَ لَا يُطَلِّقُ فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَمْ يَحْنَثْ وَإِذَا بَطَلَتْ الْعُلْقَةُ صَارَ ذَلِكَ الْإِيجَابُ عِلَّةً كَائِنَةً ابْتِدَاءً وَلِهَذَا صَحَّ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ قَبْلَ الْمِلْكِ بِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQدُونَ السَّبَبِ فَكَانَ هَذَا الطَّرِيقُ مِنْ تَعْلِيقِ السَّبَبِ. فَأَمَّا هَذَا أَيْ مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهِمَا فَيَحْتَمِلُ الْخَطَرَ أَيْ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَالْخَطَرُ الْإِشْرَافُ عَلَى الْهَلَاكِ وَمِنْهُ الْخَطَرُ لِمَا يُتَرَاهَنُ عَلَيْهِ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِكَمَالِ التَّعْلِيقِ فِي هَذَا الْبَابِ بِأَنْ يُجْعَلَ الشَّرْطُ دَاخِلًا عَلَى أَصْلِ السَّبَبِ إذْ لَوْ جُعِلَ دَاخِلًا عَلَى الْحُكْمِ كَانَ تَعْلِيقًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَالْأَصْلُ هُوَ الْكَمَالُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إذْ النُّقْصَانُ بِالْعَوَارِضِ وَقَدْ عَدِمَ الْعَارِضُ هَاهُنَا فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِكَمَالِ التَّعْلِيقِ وَقِيلَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ شَرْطِ الْخِيَارِ وَسَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ إنَّ ثُبُوتَ الشَّرْطِ فِي الْبَيْعِ بِكَلِمَةٍ عَلَى أَنَّ إذْ هِيَ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِيهِ فَيُقَالُ بِعْتُك عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ أَوْ عَلَى أَنَّكَ بِالْخِيَارِ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ وَإِنْ كَانَتْ لِلشَّرْطِ لَكِنَّ عَمَلَهَا عَلَى خِلَافِ عَمَلِ كَلِمَةِ التَّعْلِيقِ فَإِنَّك إذَا قُلْت أَزُورُك إنْ زُرْتنِي كُنْت مُعَلِّقًا زِيَارَتَك بِزِيَارَةِ صَاحِبِك وَإِذَا قُلْت أَزُورُك عَلَى أَنْ تَزُورَنِي كُنْت مُعَلِّقًا زِيَارَةَ صَاحِبِك بِزِيَارَتِك وَيَكُونُ زِيَارَتُك سَابِقَةً عَلَى زِيَارَتِهِ عَلَى هَذَا إجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا تُوجِبُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ تَعْلِيقَ نَفْسِ الْبَيْعِ بِهَذَا الشَّرْطِ بَلْ تُوجِبُ تَعْلِيقَ الْخِيَارِ بِالْبَيْعِ وَثُبُوتَهُ بِهِ فَيَنْعَقِدُ الْبَيْعُ سَابِقًا ثُمَّ يَثْبُتُ الْخِيَارُ وَإِذَا ثَبَتَ الْخِيَارُ امْتَنَعَ اللُّزُومُ وَثُبُوتُ الْحُكْمِ وَهُوَ الْمِلْكُ لِأَنَّ ذَلِكَ خِيَارُ الْحُكْمِ فِي الشَّرْعِ. قَوْلُهُ (وَلَوْ حَلَفَ لَا يُطَلِّقُ فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ) بِأَنْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ يَحْنَثُ يَعْنِي قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْوَجِيزِ وَالتَّهْذِيبِ إذَا قَالَ: إنْ طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ عَلَّقَ طَلَاقَهَا عَلَى صِفَةٍ أَيْ شَرْطٍ وَوُجِدَتْ فَهُوَ تَطْلِيقٌ وَمُجَرَّدُ الصِّفَةِ لَيْسَ إيقَاعًا وَهُوَ وُقُوعٌ وَمُجَرَّدُ التَّعْلِيقِ لَيْسَ بِإِيقَاعٍ وَلَا وُقُوعٍ وَذَكَرَ فِي الْمُلَخَّصِ أَيْضًا وَلَوْ عَلَّقَ بِالتَّطْلِيقِ ثُمَّ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ فَإِذَا دَخَلَتْ وَهِيَ مَمْسُوسَةٌ وَقَعَتْ حِينَئِذٍ تَطْلِيقَتَانِ فَثَبَتَ أَنَّ مَذْهَبَهُ مِثْلُ مَذْهَبِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْبَيْعِ فَلَا أَعْرِفُ مَذْهَبَهُ فِيهَا وَمَا ظَفِرْت بِهَا فِي كُتُبِهِمْ صَرِيحًا فَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِمَذْهَبِنَا فَقَدْ صَحَّ الْفَرْقُ وَتَمَّ الْإِلْزَامُ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِ فَقَدْ ذُكِرَ فِي الْوَسِيطِ لِلْغَزَالِيِّ أَنَّ الثَّابِتَ يَشْتَرِطُ الْخِيَارُ جَوَازَ الْعَقْدِ وَاسْتِحْقَاقَ الْفَسْخِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِي تَأْخِيرِ الْمِلْكِ فِي قَوْلِ بَلْ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْبَيْعَ سَبَبُ الْمِلْكِ وَلَا يُقْطَعُ الْحُكْمُ عَنْ سَبَبِهِ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَلَا ضَرُورَةَ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْخِيَارِ الْمَشْرُوعِ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَبْنِيَّةِ وَأَمْكَنَ تَحْصِيلُ هَذَا الْمَقْصُودِ بِنَفْيِ اللُّزُومِ فَلَا حَاجَةَ إلَى نَفْيِ الْمِلْكِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ إنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا فَالْمِلْكُ لِمَنْ لَهُ الْخِيَارُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَهُ فِي انْعِقَادِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ مِثْلُ مَذْهَبِنَا وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لَمْ يَتِمَّ الْإِلْزَامُ وَكَانَ تَفْرِيعًا عَلَى الْمَذْهَبِ وَإِذَا بَطَلَتْ الْعَلَقَةُ أَيْ التَّعْلِيقُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ صَارَ ذَلِكَ الْإِيجَابُ عِلَّةً كَأَنَّهُ ابْتِدَاءٌ يَعْنِي يَصِيرُ عِلَّةً فِي الْحَالِ مُقْتَصِرَةً عَلَيْهَا وَهُوَ قَوْلُ الْمَشَايِخِ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ لِذَا الشَّرْطِ وَلِهَذَا شَرَطْنَا الْأَهْلِيَّةَ حَالَةَ التَّعْلِيقِ كَمَا بَيَّنَّا لِأَنَّ ذَلِكَ الْإِيجَابَ لَمَّا صَارَ عِلَّةً يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ صَادِرًا مِنْ الْأَهْلِ لِيَصِيرَ كَالْمَلْفُوظِ لِذَا الشَّرْطِ. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُعَلَّقَ لَيْسَ بِسَبَبٍ صَحَّ تَعْلِيقُ

وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ تَعْجِيلٌ لِنَذْرِ الْمُعَلَّقِ وَتَعْجِيلُ الْكَفَّارَةِ وَهُوَ كَالْكَفَّارَةِ بِالصَّوْمِ وَفَرْقُهُ بَاطِلٌ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّ اللَّهِ فِي الْمَالِيِّ فِعْلُ الْأَدَاءِ لَا عَيْنُ الْمَالِ إنَّمَا يَقْصِدُ عَيْنَ الْمَالِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ أَمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا لِأَنَّ الْعِبَادَةَ فِعْلٌ لَا مَالٌ وَإِنَّمَا الْمَالُ آلَتُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِالْمِلْكِ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ يَمِينٌ وَمَحَلُّ الِالْتِزَامِ بِالْيَمِينِ الذِّمَّةُ فَأَمَّا الْمِلْكُ فِي الْمَحَلِّ فَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ لِإِيجَابِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَهَذَا الْكَلَامُ لَيْسَ بِإِيجَابٍ وَلَكِنَّهُ بِغَرَضِ أَنْ يَصِيرَ إيجَابًا فَإِنْ تَيَقَّنَّا بِوُجُودِ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ حِينَ يَصِيرُ إيجَابًا بِوُصُولِهِ إلَى الْمَحَلِّ صَحَّحْنَا التَّعْلِيقَ بِاعْتِبَارِهِ وَإِنْ لَمْ نَتَيَقَّنْ بِذَلِكَ بِأَنْ كَانَ الشَّرْطُ مِمَّا لَا أَثَرَ لَهُ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ شَرَطْنَا الْمِلْكَ فِي الْحَالِ لِيَصِيرَ كَلَامُهُ إيجَابًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَهُوَ أَنَّ مَا عُلِمَ ثُبُوتُهُ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ وَلَكِنَّ هَذَا الظَّاهِرَ دُونَ الْمِلْكِ الَّذِي نَتَيَقَّنُ بِهِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَصِحَّةُ التَّعْلِيقِ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ النَّوْعِ مِنْ الْمِلْكِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّتِهِ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمِلْكِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنْ قِيلَ جَمِيعُ مَا ذَكَرْتُمْ يَبْطُلُ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ خَطَبَ امْرَأَةً فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهَا إلَّا بِزِيَادَةِ صَدَاقٍ فَقَالَ: إنْ تَزَوَّجْتُهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ» فَهَذَا كَلَامٌ مُفَسَّرٌ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ قُلْنَا: إنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ فَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَى الزُّهْرِيِّ وَأَنَّهُ قَدْ عَمِلَ بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُ أَوَّلَ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ» عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ تُعْرَضُ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ فَيَقُولُ: هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا طَلَاقَ فَرَدُّهُ الْحَدِيثَ إلَى الْمُرْسَلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى صِحَّةَ الْمُعَلَّقِ بِالنِّكَاحِ وَمِثْلُهُ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمَكْحُولٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ وَهُوَ مَذْهَبُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَعَامِرٍ الشَّعْبِيِّ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ هَؤُلَاءِ الثِّقَاتُ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ لَا يُحْتَمَلُ التَّأْوِيلُ أَوْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ كَافَّتَهُمْ أَوْ لَمْ يُحْتَجَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مَعَ ظُهُورِ الْفَتْوَى مِنْهُمْ بِخِلَافِهِ كَذَا ذُكِرَ فِي الْأَسْرَارِ. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ التَّعْلِيقَ مَانِعٌ لِلْإِيجَابِ عَنْ الِانْعِقَادِ لَمْ يَجُزْ تَعْجِيلُ النَّذْرِ الْمُعَلَّقِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لَمَّا لَمْ يَصِلْ إلَى ذِمَّةٍ قَابِلَةٍ لِلْحُكْمِ وَالشَّرْطُ مَنْعُ وُصُولِهِ إلَى الْمَحَلِّ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا كَبَعْضِ النَّذْرِ وَالْأَدَاءُ قَبْلَ السَّبَبِ لَا يَجُوزُ. وَكَذَا لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ كَالْكَفَّارَةِ بِالصَّوْمِ لِأَنَّ الْيَمِينَ سَبَبُ الْوُجُوبِ بِشَرْطِ الْحِنْثِ وَالتَّقْدِيرُ إنْ حَنِثْت فَعَلَيَّ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ بِتِلْكَ الْيَمِينِ فَمَنَعَ الْيَمِينَ عَنْ كَوْنِهَا سَبَبًا فِي الْحَالِ وَلَكِنَّهَا بِعَرَضِيَّةٍ أَنْ تَصِيرَ سَبَبًا فَصَحَّتْ إضَافَةُ الْكَفَّارَةِ إلَيْهَا فَقَبْلَ أَنْ تَصِيرَ سَبَبًا بِالْحِنْثِ لَا يُتَصَوَّرُ الْأَدَاءُ كَمَا لَا يُتَصَوَّرُ قَبْلَ الْيَمِينِ وَكَمَا لَا يُتَصَوَّرُ تَعْجِيلُ الصَّوْمِ قَبْلَ الْحِنْثِ وَفَرْقُهُ بَيْنَ الْمَالِيِّ وَالْبَدَنِيِّ بَاطِلٌ فَإِنَّ بَعْدَ تَمَامِ السَّبَبِ وُجُوبَ الْأَدَاءِ قَدْ يَنْفَصِلُ عَنْ نَفْسِ الْوُجُوبِ فِي الْبَدَنِيِّ أَيْضًا فَإِنَّ الْمُسَافِرَ إذَا صَامَ فِي رَمَضَانَ جَازَ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ تَأَخَّرَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ إلَى مَا بَعْدَ الْإِقَامَةِ بِالْإِجْمَاعِ لِحُصُولِ أَصْلِ الْوُجُوبِ بِالسَّبَبِ وَهَذَا لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا يَعْنِي فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْوَاجِبَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ فِعْلٌ هُوَ عِبَادَةٌ وَإِنَّمَا الْمَالُ وَمَنَافِعُ الْبَدَنِ آلَتَانِ يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِهِمَا فَكَمَا أَنَّ فِي الْبَدَنِيِّ مَعَ تَعَلُّقِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ بِالشَّرْطِ لَا يَكُونُ السَّبَبُ تَامًّا فَكَذَلِكَ فِي الْمَالِيِّ بِخِلَافِ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ لِلْعَبْدِ مَالٌ لَا فِعْلٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حُصُولُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْعَبْدُ أَوْ يَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُسْرَانُ بِهِ وَذَلِكَ بِالْمَالِ دُونَ الْفِعْلِ وَلِهَذَا إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ وَأَخَذَهُ تَمَّ الِاسْتِيفَاءُ وَإِنَّمَا يَجِبُ الْفِعْلُ بِطَرِيقِ التَّبَعِ وَفِي الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ وُجُوبُ الْفِعْلِ

قَالَ زُفَرُ: وَلَمَّا بَطَلَ الْإِيجَابُ لَمْ يُشْتَرَطْ قِيَامُ الْمَحَلِّ لِبَقَائِهِ فَإِذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَمْ يَبْطُلْ الْيَمِينُ وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ وَإِنَّمَا شَرْطُ قِيَامِ الْمِلْكِ لِأَنَّ حَالَ وُجُودِ الشَّرْطِ مُتَرَدِّدٌ فَوَجَبَ التَّرْجِيحُ بِالْحَالِ فَإِذَا وَقَعَ التَّرْجِيحُ بِالْمِلْكِ فِي الْحَالِ صَارَ زَوَالُ الْحِلِّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُنَافِي وُجُودَهُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لَا مَحَالَةَ وَزَوَالُ الْمِلْكِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ سَوَاءٌ أَلَا تَرَى أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالنِّكَاحِ يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ الْحِلُّ لِلْحَالِّ مَعْدُومًا فَلَوْ كَانَ التَّعْلِيقُ يَتَّصِلُ بِالْمَحَلِّ لَمَا صَحَّ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ فِي حَقِّ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا بِنِكَاحِهَا ـــــــــــــــــــــــــــــQبِطَرِيقِ التَّبَعِ وَالْمُسْتَحَقُّ هُوَ مَا يَحْصُلُ بِالْفِعْلِ وَهُوَ صَيْرُورَةُ الثَّوْبِ مَخِيطًا أَوْ مَقْصُورًا. فَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَوَاجِبَةٌ بِطَرِيقِ الْعِبَادَةِ وَنَفْسُ الْمَالِ لَيْسَتْ بِعِبَادَةٍ إنَّمَا الْعِبَادَةُ فِعْلٌ يُبَاشِرُهُ الْعَبْدُ بِخِلَافِ هَوَى النَّفْسِ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي هَذَا الْمَالُ وَالْبَدَنُ سَوَاءٌ وَلَا يُقَالُ لَوْ كَانَ الْفِعْلُ هُوَ الْمَطْلُوبُ لَمْ يَتَأَدَّبَا بِالنَّائِبِ كَالصَّلَاةِ لِأَنَّا نَقُولُ: الْمَقْصُودُ وَهُوَ حُصُولُ الْمَشَقَّةِ بِقَطْعِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَالِ يَحْصُلُ بِالنَّائِبِ وَالْإِنَابَةُ فِعْلٌ مِنْهُ فَاكْتُفِيَ بِهِ عِنْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ إتْعَابُ النَّفْسِ بِالْقِيَامِ لِلْخِدْمَةِ لَا يَحْصُلُ بِفِعْلِ النَّائِبِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَأَدَّ بِفِعْلِهِ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلُ وَهُوَ أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لَا يُوجِبُ الْعَدَمَ عِنْدَ الْعَدَمِ جَوَّزْنَا نِكَاحَ الْأَمَةِ حَالَ طَوْلِ الْحُرَّةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَبَاحَ نِكَاحَ الْأَمَةِ حَالَ عَدَمِ الطَّوْلِ بِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا} [النساء: 25] الْآيَةُ وَلَمْ يُحَرِّمْ حَالَ وُجُودِهِ بَلْ لَمْ يَذْكُرْهُ وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ لَا يُوجِبُ نَفْيَ الْحُكْمِ قَبْلَ وُجُودٍ فَيُجْعَلُ الْحِلُّ ثَابِتًا قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِالْآيَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلْحِلِّ وَهَكَذَا نَقُولُ فِي قَوْلِهِ إنْ دَخَلَ عَبْدِي الدَّارَ فَأُعْتِقُهُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ نَفْيَ الْحُكْمِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ حَتَّى لَوْ كَانَ قَالَ لَهُ أَوَّلًا: أَعْتِقْ عَبْدِي ثُمَّ قَالَ: أَعْتِقْهُ إنْ دَخَلَ الدَّارَ جَازَ لَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ وَلَا يُجْعَلُ الثَّانِي نَهْيًا عَنْ الْأَوَّلِ حَتَّى لَوْ عَزَلَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا بَقِيَ لَهُ الْآخَرُ فَإِنْ قِيلَ: لَا خِلَافَ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُتَعَلِّقَ بِالشَّرْطِ يَثْبُتُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا هَاهُنَا قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الْوَاحِدُ ثَابِتًا فِي الْحَالِ وَمُتَعَلِّقًا بِشَرْطٍ مُنْتَظَرٍ. قُلْنَا: حِلُّ الْوَطْءِ لَيْسَ بِثَابِتٍ قَبْلَ النِّكَاحِ وَلَكِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِشَرْطِ النِّكَاحِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا هَذَا الشَّرْطُ الزَّائِدُ وَمُتَعَلِّقٌ بِهِ وَبِهَذَا الشَّرْطِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ مَا ادَّعَى مِنْ التَّضَادِّ فِيمَا هُوَ مَوْجُودٌ فَأَمَّا فِيمَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ فَلَا لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِشَرْطٍ وَذَلِكَ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِشَرْطٍ آخَرَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ 1 - أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إذَا جَاءَ الْخَمِيسُ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ قَالَ: إذَا جَاءَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فَأَنْتَ حُرٌّ كَانَ الثَّانِي صَحِيحًا وَإِنْ كَانَ مَجِيءُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ يَوْمِ الْخَمِيسِ حَتَّى لَوْ أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ فَجَاءَ يَوْمُ الْخَمِيسِ ثُمَّ أَعَادَهُ إلَى مِلْكِهِ فَجَاءَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ يُعْتِقُ بِاعْتِبَارِ التَّعْلِيقِ الثَّانِي فَإِنْ قِيلَ مَعَ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ كَمَالَ الشَّرْطِ لِإِثْبَاتِ حُكْمٍ وَهُوَ بَعْضُ الشَّرْطِ لِإِثْبَاتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ أَيْضًا وَمَا قُلْتُمْ يُؤَدِّي إلَى هَذَا فَإِنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ كَمَالُ الشَّرْطِ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ وَهُوَ بَعْضُ الشَّرْطِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إذَا قُلْتُمْ بِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ ابْتِدَاءً عِنْدَ وُجُودِ هَذَا الشَّرْطِ قُلْنَا: إنَّمَا لَا يَجُوزُ هَذَا بِنَصٍّ وَاحِدٍ فَأَمَّا بِنَصَّيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ إنْ أَكَلْت ثُمَّ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ إنْ أَكَلْت وَشَرِبْت صَحَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَكُونُ الْأَكْلُ كَمَالَ الشَّرْطِ فِي التَّعْلِيقِ الثَّانِي حَتَّى بَاعَهُ فَأَكَلَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَشَرِبَ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ لِتَمَامِ الشَّرْطِ بِالتَّعْلِيقِ الْأَوَّلِ وَبَعْضِ الشَّرْطِ فِي التَّعْلِيقِ الثَّانِي وَهُوَ مِلْكُهُ قَوْلُهُ. (قَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) إلَى آخِرِهِ يَعْنِي بَنَى زُفَرُ مَذْهَبَهُ فِي أَنَّ تَنْجِيزَ الثَّلَاثِ لَا يُبْطِلُ التَّعْلِيقَ سَوَاءٌ كَانَ الثَّلَاثُ مُعَلَّقًا أَوْ دُونَهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَقَالَ: لَمَّا بَطَلَ الْإِيجَابُ أَيْ بِالتَّعْلِيقِ يَعْنِي لَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبًا فِي الْحَالِ لِعَدَمِ وُصُولِهِ إلَى الْمَحَلِّ لَمْ يُشْتَرَطْ قِيَامُ الْمَحَلِّ أَيْ بَقَاؤُهُ

وَطَرِيقُ أَصْحَابِنَا لَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ لِلْمُعَلَّقِ ضَرْبُ اتِّصَالٍ بِمَحَلِّهِ لِيُشْتَرَطَ قِيَامُ مَحَلِّهِ وَأَمَّا قِيَامُ هَذَا الْمِلْكِ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِبَقَائِهِ أَيْ بَقَاءِ الْإِيجَابِ الْمُعَلَّقِ يَعْنِي التَّعْلِيقَ لِأَنَّ اشْتِرَاطَهُ لِتَمَامِ السَّبَبِ وَثُبُوتُ الْحُكْمِ عِنْدَ الْوُصُولِ إلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ الْمِلْكِ فَكَمَا لَا يَبْطُلُ التَّعْلِيقُ بِزَوَالِ الْمِلْكِ بِأَنْ بَاعَ الْعَبْدُ الْمَحْلُوفُ بِعِتْقِهِ أَوْ أَبَانَ الْمَرْأَةَ الْمَحْلُوفَ بِطَلَاقِهَا لِتَوَهُّمِ الْوُجُودِ عِنْدَ الشَّرْطِ لَا يَبْطُلُ بِزَوَالِ الْمَحَلِّيَّةِ أَيْضًا لِتَوَهُّمِ حُدُوثِهَا عِنْدَ الشَّرْطِ بِأَنْ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ عَادَتْ إلَى الْأَوَّلِ وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ أَيْ وَكَالطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ الْعِتْقُ الْمُعَلَّقُ فِي أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِالتَّنْجِيزِ حَتَّى لَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ حُرَّةٌ ثُمَّ أَعْتَقَهَا قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ لَمْ يَبْطُلْ التَّعْلِيقُ حَتَّى لَوْ ارْتَدَّتْ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ سُبِيَتْ وَمَلَكَهَا الْحَالِفُ ثُمَّ دَخَلَتْ الدَّارَ عَتَقَتْ عِنْدَهُ وَلَمْ تَعْتِقْ عِنْدَنَا. وَقَوْلُهُ وَإِنَّمَا شَرْطُ الْمِلْكِ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَمَّا لَمْ يُشْتَرَطْ الْمِلْكُ وَالْمَحَلُّ حَالَ بَقَاءِ التَّعْلِيقِ لِعَدَمِ انْعِقَادِ الْإِيجَابِ سَبَبًا فِيهَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُشْتَرَطَ فِي حَالِ الِابْتِدَاءِ أَيْضًا لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمَذْكُورَ يَشْمَلُ الْحَالَيْنِ فَيَصِحُّ قَوْلُهُ لِأَجْنَبِيَّةٍ أَوْ لِلْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَالْإِجْمَاعُ بِخِلَافِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يُسْتَغْنَى عَنْ الْمَحَلِّ فَبِفَوَاتِهِ يَبْطُلُ فَقَالَ: إنَّمَا شُرِطَ الْمِلْكُ فِي الِابْتِدَاءِ لِانْعِقَادِ هَذَا الْكَلَامِ يَمِينًا لَا لِحَاجَةِ الْإِيجَابِ إلَى الْمَحَلِّ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْيَمِينِ تَأْكِيدُ الْبِرِّ بِإِيجَابِ الْجَزَاءِ فِي مُقَابَلَتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ غَالِبَ الْوُجُودِ أَوْ مُتَحَقِّقَهُ عِنْدَ فَوَاتِ الْبِرِّ لِيَحْمِلَهُ خَوْفُ نُزُولِهِ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْبِرِّ وَذَلِكَ لِقِيَامِ الْمِلْكِ حَالَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَتِلْكَ الْحَالَةُ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ أَنْ يُوجَدَ فِيهَا الْمِلْكُ فَيَتَحَقَّقُ الْجَزَاءُ وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْيَمِينِ وَبَيْنَ أَنْ لَا يُوجَدَ فِيهَا الْمِلْكُ فَلَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ فَتَخْلُوا الْيَمِينُ عَنْ الْفَائِدَةِ فَشَرْطُ الْمِلْكِ فِي الِابْتِدَاءِ لِيَتَرَجَّحَ جَانِبُ وُجُودِ الْمِلْكِ عَلَى عَدَمِهِ حَالَ وُجُودِ الشَّرْطِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ ثَابِتٍ بَقَاؤُهُ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ فَيَنْعَقِدُ الْيَمِينُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْمِلْكِ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ لَا لِحَاجَةِ الْإِيجَابِ إلَى الْمَحَلِّ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمِلْكُ مُتَيَقِّنَ الْوُجُودِ عِنْدَ نُزُولِ الْجَزَاءِ لَا يُشْتَرَطُ الْمِلْكُ وَلَا الْحِلُّ فِي الْحَالِ أَيْضًا بِأَنْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ أَوْ لِلْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا: إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ صَحَّ وَانْعَقَدَ الْيَمِينُ. فَإِنْ وَقَعَ التَّرْجِيحُ أَيْ جُعِلَ بِوُجُودِهِ فِي الْحَالِ حَصَلَ وَثَبَتَ رُجْحَانُ وُجُودِ الْمِلْكِ عَلَى عَدَمِهِ حَالَ فَوَاتِ الْبِرِّ وَانْعَقَدَ الْيَمِينُ صَارَ زَوَالُ الْحِلِّ فِي الْمُسْتَقْبِلِ بِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ وَزَوَالُ الْمِلْكِ بِالْإِبَانَةِ بِمَا دُونَ الثُّلُثِ سَوَاءٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ زَوَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يُنَافِي وُجُودَهُ عِنْدَ الشَّرْطِ لَا مَحَالَةَ إذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَحْدُثَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الزَّوَالِ فَإِذَا بَقِيَتْ الْيَمِينُ بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ تَبْقَى بَعْدَ زَوَالِ الْحِلِّ بِنَاءً عَلَيْهِ أَيْضًا. وَقَوْلُهُ أَلَا تَرَى تَوْضِيحٌ لِتَعْلِيلِ بُطْلَانِ الْإِيجَابِ يَعْنِي بُطْلَانَهُ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ اتِّصَالِهِ بِالْمَحَلِّ فِي الْحَالِ فَلَا يُشْتَرَطُ الْمَحَلُّ لِبَقَائِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ اتِّصَالِهِ بِالْمَحَلِّ صِحَّةُ تَعْلِيقِ طَلَاقِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا بِنِكَاحِهَا وَلَوْ كَانَ لِلتَّعْلِيقِ اتِّصَالٌ بِالْمَحَلِّ لَمَا صَحَّ هَذَا التَّعْلِيقُ لِبُطْلَانِ الْمَحَلِّيَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ قَوْلُهُ (وَطَرِيقُ أَصْحَابِنَا لَا يَصِحُّ) إلَى آخِرِهِ لِعُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَتَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْيَمِينَ تَبْطُلُ بِفَوَاتِ الْجَزَاءِ كَمَا تَبْطُلُ بِفَوَاتِ الشَّرْطِ بِأَنْ جُعِلَتْ الدَّارُ بُسْتَانًا أَوْ حَمَّامًا فِي قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِهِمَا بَلْ افْتِقَارُهَا إلَى الْجَزَاءِ أَكْثَرُ مِنْ افْتِقَارِهَا إلَى الشَّرْطِ لِأَنَّهَا تُعْرَفُ بِالْجَزَاءِ لَا بِالشَّرْطِ وَلَمَّا بَطَلَتْ بِفَوَاتِ الشَّرْطِ فَلَأَنْ تَبْطُلَ بِفَوَاتِ

لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِتَصَرُّفٍ فِي الطَّلَاقِ لِيَصِحَّ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْجَزَاءِ كَانَ أَوْلَى وَهَاهُنَا قَدْ فَاتَ الْجَزَاءُ لِأَنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ إنَّمَا صَحَّتْ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ الْقَائِمِ وَلَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ إلَّا ثَلَاثَةُ تَطْلِيقَاتٍ وَقَدْ اسْتَوْفَاهَا كُلَّهَا فَبَطَلَ الْجَزَاءُ ضَرُورَةً فَبَطَلَتْ الْيَمِينُ وَبِهَذَا عَلَّلَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ: لَمَّا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَقَدْ ذَهَبَ طَلَاقُ ذَلِكَ الْمِلْكِ كُلِّهِ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً أَوْ اثْنَيْنِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا حَيْثُ لَا تَبْطُلُ بِهِ الْيَمِينُ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَسْتَوْفِ الْجَزَاءَ بِتَمَامِهِ كَانَ الْبَاقِي مَمْلُوكًا لَهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَنْفِيذِهِ لِعَدَمِ شَرْطِهِ فَبَقِيَتْ الْيَمِينُ بِبَقَائِهِ وَعَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّنْفِيذِ لَا يَمْنَعُ الْمِلْكَ كَاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ مِنْ الْحَامِلِ وَاسْتِيفَاءِ مَنَافِعِ الْبِضْعِ حَالَةَ الْحَيْضِ وَكَالصَّبِيِّ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَاتِ وَإِنْ كَانَ الْمِلْكُ ثَابِتًا لَهُ وَالثَّانِي أَنَّ الْمَحَلِّيَّةَ بِالتَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ تَبْطُلُ لِأَنَّ مَحَلِّيَّةَ الطَّلَاقِ بِمَحَلِّيَّةِ النِّكَاحِ وَقَدْ فَاتَتْ بِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ الْغَلِيظَةِ وَإِذَا بَطَلَتْ مَحَلِّيَّةُ الطَّلَاقِ لَمْ تَبْقَ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ بِبُطْلَانِ مَحَلِّهَا كَمَا إذَا فَاتَتْ بِرَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ وَهَذَا لِأَنَّ التَّعْلِيقَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا فِي الْحَالِ لَكِنَّهُ يَعْرِضُ أَنْ يَصِيرَ طَلَاقًا وَالْعَرَضِيَّةُ إنَّمَا ثَبَتَتْ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ الْحِلِّ وَالْمِلْكِ فِي الْحَالِ فَإِذَا بَطَلَ الْحِلُّ بَطَلَتْ الْعَرَضِيَّةُ فَلَمْ تَبْقَ الْيَمِينُ فَحَاصِلُ الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ تَعْيِينُ طَلْقَاتِ هَذَا الْمِلْكِ لِلْجَزَاءِ وَبِنَاءُ بُطْلَانِ الْيَمِينِ عَلَى فَوَاتِهَا. وَخُلَاصَةُ الطَّرِيقِ الثَّانِي اشْتِرَاطُ الْمَحَلِّيَّةِ لِلْيَمِينِ انْعِقَادًا وَبَقَاءً وَبِنَاءً بُطْلَانُ الْيَمِينِ عَلَى زَوَالِهَا وَلَمَّا كَانَ الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ مُنْتَقِضًا بِمَا إذَا عَلَّقَ الثَّلَاثَ بِالشَّرْطِ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثِنْتَيْنِ ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ وَوَجَدَتْ الشَّرْطَ تَقَعُ الثَّلَاثُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَلَوْ تَعَيَّنَ طَلَقَاتُ ذَلِكَ الْمِلْكِ يَنْبَغِي أَنْ تَقَعَ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ تَبْقَ مِنْ الْجَزَاءِ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ فَقَالَ: إنْ كَلَّمْت زَيْدًا فَأَنْتُمْ أَحْرَارٌ فَأَعْتَقَ عَبْدَيْنِ مِنْهُمْ وَاشْتَرَى آخَرَيْنِ ثُمَّ وُجِدَ الشَّرْطُ لَا يَعْتِقُ إلَّا الْعَبْدَ الَّذِي كَانَ فِي مِلْكِهِ وَقْتَ الْيَمِينِ وَالطَّرِيقُ الثَّانِي لَا يَتِمُّ إلَّا بِأَنْ يَثْبُتَ لِلْمُعَلَّقِ نَوْعُ اتِّصَالٍ بِالْمَحَلِّ بَنَى الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْكَلَامَ عَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي وَبَيَّنَ وَجْهَ تَصْحِيحِهِ وَرَدَّ الطَّرِيقَ الْأَوَّلَ فَقَالَ: وَطَرِيقُ أَصْحَابِنَا لَا يَصِحُّ يَعْنِي الطَّرِيقَ الْأَوَّلَ وَالثَّانِي جَمِيعًا إلَّا أَنْ يَثْبُتَ لِلْمُعَلَّقِ نَوْعُ اتِّصَالٍ بِمَحَلِّهِ فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ الطَّرِيقُ الثَّانِي وَبَعْدَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمَحَلِّ لِأَنَّ كُلَّ مَا يَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ يَسْتَوِي فِيهِ الِابْتِدَاءُ وَالْبَقَاءُ كَالْمَحْرَمِيَّةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ ثُمَّ أَشَارَ إلَى فَسَادِ الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ وَبَيَّنَ وَجْهَهُ فَقَالَ: فَأَمَّا طَلَاقُ هَذَا الْمِلْكِ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ أَيْ لِلْجَزَاءِ وَصِحَّةِ التَّعْلِيقِ بَلْ الْجَزَاءُ طَلَاقٌ مَمْلُوكٌ لَهُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ سَوَاءٌ كَانَ طَلَاقَ هَذَا الْمِلْكِ أَوْ مِلْكٍ حَادِثٍ بَعْدُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ أَيْ الْمُعَلَّقُ لَيْسَ بِتَصَرُّفٍ فِي الطَّلَاقِ لَا مِنْ حَيْثُ الْإِيقَاعُ وَلَا مِنْ حَيْثُ انْعِقَادُهُ سَبَبًا لِيَصِحَّ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ أَيْ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ هَذِهِ الطَّلْقَاتِ دُونَ غَيْرِهَا وَالتَّعْلِيلُ دَاخِلٌ فِي النَّفْيِ وَلِهَذَا صَحَّ التَّعْلِيقُ بِالْمِلْكِ. وَإِلَى هَذَا الطَّرِيقِ مَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْضًا فَقَالَ: إنَّمَا يَبْطُلُ التَّعْلِيقُ بِانْعِدَامِ الْمَحَلِّ لِأَنَّ صِحَّةَ التَّعْلِيقِ بِاعْتِبَارِ الْمَحْلُوفِ بِهِ وَهُوَ مَا يَصِيرُ طَلَاقًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَلَا تَصَوُّرَ لِذَلِكَ بِدُونِ الْمَحَلِّ وَبِالتَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ تَحَقَّقَ فَوَاتُ الْمَحَلِّ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلطَّلَاقِ إزَالَةُ صِفَةِ الْحِلِّ عَنْ الْمَحَلِّ وَلَا تَصَوُّرَ لِذَلِكَ بَعْدَ حُرْمَةِ الْمَحَلِّ بِالتَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ فَلِانْعِدَامِ الْمَحْلُوفِ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَبْطُلُ التَّعْلِيقُ لَا لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِالشَّرْطِ

وَالطَّرِيقُ فِي ذَلِكَ أَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ لَهُ شَبَهٌ بِالْإِيجَابِ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْيَمِينَ تُعْقَدُ لِلْبِرِّ وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْبِرِّ مَضْمُونًا لِيَصِيرَ وَاجِبَ الرِّعَايَةِ فَإِذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ كَانَ الْبِرُّ هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالطَّلَاقِ كَالْمَغْصُوبِ يَلْزَمُهُ رَدُّهُ وَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ فَيَثْبُتُ شُبْهَةُ وُجُوبِ الْقِيمَةِ فَكَذَلِكَ هَهُنَا تَثْبُتُ شُبْهَةُ وُجُوبِ الطَّلَاقِ وَقَدْرُ مَا يَجِبُ لَا يُسْتَغْنَى عَنْ مَحَلِّهِ فَأَمَّا تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِالنِّكَاحِ فَتَعْلِيقٌ بِمَا هُوَ عِلَّةُ مِلْكِ الطَّلَاقِ ـــــــــــــــــــــــــــــQتَطْلِيقَاتُ ذَلِكَ الْمِلْكِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَأَمَّا قِيَامُ هَذَا الْمِلْكِ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ إلَى آخِرِهِ وَمَعْنَاهُ تَحَقُّقُ الْفَرْقِ بَيْنَ زَوَالِ الْحِلِّ وَبَيْنَ زَوَالِ الْمِلْكِ فَإِنَّ الْيَمِينَ بِالْأَوَّلِ يَبْطُلُ وَلَا يَبْطُلُ بِالثَّانِي لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِلْمُعَلَّقِ ضَرْبُ اتِّصَالٍ وَإِنْ لَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبًا حَقِيقَةً لَا بُدَّ مِنْ بَقَاءِ الْمَحَلِّ وَذَلِكَ بِبَقَاءِ حِلِّ النِّكَاحِ فَأَمَّا قِيَامُ هَذَا الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ أَيْ الْمِلْكِ الْقَائِمِ حَالَةَ التَّعْلِيقِ فِيهِ فَلَمْ يَتَعَيَّنُ أَيْ لَمْ يُشْتَرَطْ لِبَقَاءِ التَّعْلِيقِ صَحِيحًا لِأَنَّ التَّعْلِيقَ لَيْسَ بِتَصَرُّفٍ فِي الطَّلَاقِ بِالْإِيقَاعِ وَلَا الْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ هُوَ الطَّلَاقُ الْمَمْلُوكُ حَتَّى يُشْتَرَطَ الْمِلْكُ لِصِحَّةِ التَّصَرُّفِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُشْتَرَطَ الْمِلْكُ إلَّا حَالَ وُجُودِ الشَّرْطِ إلَّا أَنَّهُ شَرْطٌ فِي الِابْتِدَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَرَدُّدِ حَالِ وُجُودِ الشَّرْطِ إلَى آخِرِهِ وَالطَّرِيقُ فِي ذَلِكَ أَيْ فِي إثْبَاتِ اتِّصَالِ الْإِيجَابِ الْمُعَلَّقِ بِالْمَحَلِّ وَافْتِقَارِهِ إلَيْهِ أَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ لَهُ شُبْهَةُ الْإِيجَابِ أَيْ الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا حَقِيقَةً لَهُ شُبْهَةُ كَوْنِهِ سَبَبًا لِأَنَّ الْيَمِينَ تُعْقَدُ لِلْبِرِّ وَلَا بُدَّ لِلْبِرِّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا بِلُزُومِ الْجَزَاءِ عِنْدَ الْفَوَاتِ تَحْقِيقًا لِلْمَقْصُودِ وَهُوَ تَأْكِيدُ جَانِبِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَإِذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ كَانَ الْبِرُّ هُوَ الْأَصْلُ أَيْ مُوجِبَهُ الْأَصْلِيَّ لِأَنَّهُ هُوَ الْغَرَضُ مِنْ عَقْدِ الْيَمِينِ وَهُوَ مَضْمُونٌ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْفَوَاتِ وَإِذَا كَانَ مَضْمُونًا بِهِ يَثْبُتُ لِلْمُعَلَّقِ فِي الْحَالِ شُبْهَةُ الْإِيجَابِ كَالْمَغْصُوبِ لَمَّا لَزِمَ الْغَاصِبَ رَدُّهُ وَصَارَ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ عِنْدَ الْفَوَاتِ ثَبَتَ شُبْهَةُ وُجُوبِ الْقِيمَةِ حَالَ قِيَامِ الْمَغْصُوبِ حَتَّى صَحَّ الْإِبْرَاءُ وَالرَّهْنُ وَالْكَفَالَةُ بِالْمَغْصُوبِ وَحَتَّى لَمْ يَجِبْ عَلَى الْغَاصِبِ زَكَاةٌ قَدْرَ قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ فِي مَالِهِ حَالَ قِيَامِهِ كَذَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الثِّقَاتِ. وَكَذَا لَوْ أَدَّى الضَّمَانَ بِتَمَلُّكِهِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ وَلَوْ لَمْ يَعْتَبِرْ هَذِهِ الشُّبْهَةَ لَثَبَتَ الْمِلْكُ مِنْ وَقْتِ الضَّمَانِ لَا مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ هَذَا الْأَلْفَ فِي يَدِي غَصْبٌ غَصَبْتُهُ مِنْك يَقُولُ الْمُقَرُّ لَهُ: لَا بَلْ لِي عَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ قَدْ قَبَضْتُهُ فَإِنَّهُ يُقْتَضَى عَلَيْهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى وُجُوبِ الْأَلْفِ دَيْنًا وَاخْتَلَفَا فِي سَبَبِهِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَقَالَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ وَدَلَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الْغَصْبَ يُوجِبُ الضَّمَانَ بِنَفْسِهِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمَا وَجَبَ الْقَضَاءُ بِهِ كَمَا لَوْ قَالَ: هَذَا الْأَلْفُ وَدِيعَةٌ لَك عِنْدِي فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: لَا وَلَكِنْ لِي عَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ فَأَنْكَرَ الْمُقِرُّ ذَلِكَ لَا شَيْءَ لِلْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ ضَمَانِ الدَّيْنِ وَبَيْنَ مِلْكِ الْعَيْنِ مُوَافَقَةٌ بِوَجْهٍ فَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ لِلضَّمَانِ شُبْهَةَ الثُّبُوتِ قَبْلَ فَوَاتِ الْمَضْمُونِ صَارَ لِلْجَزَاءِ هَاهُنَا وَهُوَ الطَّلَاقُ شُبْهَةُ الثُّبُوتِ وَشُبْهَةُ الشَّيْءِ لَا تَسْتَغْنِي عَنْ الْمَحَلِّ كَحَقِيقَتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ شُبْهَةَ النِّكَاحِ لَا تَثْبُتُ فِي غَيْرِ الْمَحَلِّ وَشُبْهَةَ الْبَيْعِ لَا تَثْبُتُ فِي غَيْرِ الْمَالِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ دَلَالَةُ الدَّلِيلِ عَلَى الْمَدْلُولِ مَعَ تَخَلُّفِ الْمَدْلُولِ لِمَانِعٍ وَقَطُّ لَا يَدُلُّ دَلِيلٌ عَلَى مَدْلُولٍ فِي غَيْرِ الْمَحَلِّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ دَلَالَةُ الدَّلِيلِ عَلَى ثُبُوتِ الطَّلَاقِ فِي الْبَهِيمَةِ لِعَدَمِ الْمَحَلِّ فَإِذَا بَطَلَ الْمَحَلُّ بَطَلَ الْيَمِينُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ يَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ فَالِابْتِدَاءُ وَالْبَقَاءُ فِيهِ سَوَاءٌ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ فِي إثْبَاتِ شُبْهَةِ الثُّبُوتِ لِلْجَزَاءِ أَنَّ الْبِرَّ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا لَكِنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا وَجَبَ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الِاحْتِرَازُ عَنْ هَتْكِ حُرْمَةِ الِاسْمِ أَوْ التَّحَرُّزُ عَنْ لُزُومِ الْجَزَاءِ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ وَاجِبٌ

فَيَصِيرُ قَدْرُ مَا ادَّعَيْنَا مِنْ الشُّبْهَةِ مُسْتَحَقًّا بِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الْوُجُودِ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ لِنَفْسِهِ ثَبَتَ لَهُ عَرَضِيَّةُ الْعَدَمِ وَالْجَزَاءُ حُكْمٌ يَلْزَمُ عِنْدَ فَوَاتِ الْبِرِّ فَإِذَا ثَبَتَ لِهَذَا الْبِرِّ عَرَضِيَّةُ الْعَدَمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ ثَبَتَ بِقَدْرِهِ عَرَضِيَّةُ الْوُجُودِ لِلْجَزَاءِ وَإِذَا ثَبَتَتْ عَرَضِيَّةُ الْوُجُودِ لِلْجَزَاءِ ثَبَتَتْ عَرَضِيَّةُ الْوُجُودِ لِسَبَبِهِ حَتَّى يَكُونَ الْمُسَبَّبُ ثَابِتًا عَلَى قَدْرِ السَّبَبِ وَعَرَضِيَّةُ السَّبَبِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَحَلٍّ تَبْقَى فِيهِ كَمَا لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَحَلٍّ تَنْعَقِدُ فِيهِ لِأَنَّ شُبْهَةَ الشَّيْءِ لَا تَثْبُتُ فِيمَا لَا تَثْبُتُ حَقِيقَةُ ذَلِكَ الشَّيْءِ كَشُبْهَةِ النِّكَاحِ لَا تَثْبُتُ فِي الْمَحَارِمِ عِنْدَهُمَا وَإِنَّمَا لَا نَشْتَرِطُ الْمِلْكَ لِلْبَقَاءِ كَمَا شَرَطْنَا الْحِلَّ أَنَّ الْمِلْكَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُدْرَةِ وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا عِنْدَ الْفِعْلِ وَقَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ عَدِمَ الْفِعْلُ فَلِهَذَا لَمْ نَشْتَرِطْ الْمِلْكَ وَفِي الِابْتِدَاءِ شَرَطْنَاهُ لِمَا ذَكَرْنَا. ثُمَّ لَزِمَ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ ثُبُوتِ شُبْهَةِ الْإِيجَابِ فِي التَّعْلِيقِ وَاشْتِرَاطِ الْمَحَلِّيَّةِ لَهَا تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِالنِّكَاحِ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا فَإِنَّهُ صَحِيحٌ وَإِنْ لَمْ تَبْقَ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ فَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: فَأَمَّا تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِالنِّكَاحِ فَتَعْلِيقٌ بِمَا هُوَ عِلَّةُ مِلْكِ الطَّلَاقِ لِأَنَّ مِلْكَ الطَّلَاقِ يُسْتَفَادُ بِمِلْكِ النِّكَاحِ فَكَانَ النِّكَاحُ لِلطَّلَاقِ بِمَنْزِلَةِ عِلَّةِ الْعِلَّةِ فَكَانَ لَهُ شُبْهَةُ الْعِلَّةِ وَالْإِيجَابِ مَتَى عُلِّقَ بِحَقِيقَةِ الْعِلَّةِ يَبْطُلُ التَّعْلِيقُ وَالْإِيجَابُ بِأَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ أَعْتَقْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ فَالْإِيجَابُ إذَا عُلِّقَ بِشُبْهَةِ الْعِلَّةِ يَبْطُلُ بِهِ شُبْهَةُ الْإِيجَابِ اعْتِبَارًا لِلشُّبْهَةِ بِالْحَقِيقَةِ وَلَا يَبْطُلُ بِهِ أَصْلُ التَّعْلِيقِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَبْطُلُ بِالتَّعْلِيقِ بِحَقِيقَةِ الْعِلَّةِ وَالشُّبْهَةُ لَا تُمَاثِلُ الْحَقِيقَةَ وَنَظِيرُهُ ثُبُوتُ حُرْمَةِ حَقِيقَةِ الْفَضْلِ بِحَقِيقَةِ الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ الْكَيْلُ وَالْجِنْسُ وَثُبُوتُ حُرْمَةِ شُبْهَةِ الْفَضْلِ وَهِيَ النَّسِيئَةُ بِشُبْهَةِ الْعِلَّةِ وَهِيَ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ وَعَدَمُ ثُبُوتِ حُرْمَةِ الْفَضْلِ بِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ لِأَنَّ بِالشُّبْهَةِ لَا تَثْبُتُ الْحَقِيقَةُ وَإِذَا بَطَلَتْ شُبْهَةُ الْإِيجَابِ وَلَمْ يَبْطُلْ أَصْلُ التَّعْلِيقِ كَانَ التَّعْلِيقُ يَمِينًا مُجَرَّدَةً فَتَعَلَّقَتْ بِذِمَّةِ الْحَالِفِ وَلَمْ يُشْتَرَطْ لَهَا قِيَامُ مَحَلِّ الطَّلَاقِ وَلَا يُقَالُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَعْلِيقَ الشَّيْءِ بِعِلَّتِهِ يُوجِبُ بُطْلَانَهُ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ: إنْ طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ صَحَّ حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً يَقَعُ ثِنْتَانِ مَعَ أَنَّ التَّطْلِيقَ عِلَّةٌ لِلطَّلَاقِ لِأَنَّا نَقُولُ: الطَّلَاقُ مُتَعَدِّدٌ وَالتَّطْلِيقُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِلْجَمِيعِ وَإِنَّمَا هُوَ عِلَّةٌ لِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالتَّطْلِيقِ تَعْلِيقُ الشَّيْءِ بِعِلَّتِهِ فَيَصِحُّ حَتَّى لَوْ نَوَى بِالتَّعْلِيقِ الطَّلَاقَ الَّذِي هُوَ مُوجِبٌ هَذَا التَّطْلِيقَ كَانَ التَّعْلِيقُ بَاطِلًا أَيْضًا وَلَمْ يَقَعْ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَكِنْ لَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي بِخِلَافِ تَعْلِيقِ الْحُرِّيَّةِ بِالْإِعْتَاقِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِمُتَعَدِّدَةٍ. وَبِخِلَافِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالنِّكَاحِ فَإِنَّ النِّكَاحَ عِلَّةٌ لِمِلْكِ جَمِيعِ الطَّلْقَاتِ فَيَكُونُ تَعْلِيقًا بِالْعِلَّةِ أَوْ بِشُبْهَتِهَا لَا مَحَالَةَ فَيَصِيرُ قَدْرُ مَا ادَّعَيْنَا مِنْ الشُّبْهَةِ أَيْ شُبْهَةِ الثُّبُوتِ مُسْتَحَقًّا بِهِ أَيْ سَاقِطًا بِالتَّعْلِيقِ بِالنِّكَاحِ أَوْ مُعَارِضًا بِهِ وَكَأَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً نَظَرًا إلَى أَصْلِ التَّعْلِيقِ فَاسْتَحَقَّهَا التَّعْلِيقُ بِشُبْهَةِ الْعِلَّةِ فَلَمْ تَبْقَ بِهَذِهِ الْمُعَارَضَةِ أَيْ بِمُعَارَضَةِ كَوْنِ التَّعْلِيقِ تَعْلِيقًا بِشُبْهَةِ الْعِلَّةِ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّا قَدْ سَلَّمْنَا أَنَّ فِي التَّعْلِيقِ شُبْهَةَ الثُّبُوتِ فِي الْحَالِ وَأَنَّ الشُّبْهَةَ لِيُفْتَقَرَ إلَى الْمَحَلِّ كَالْحَقِيقَةِ وَأَنَّ بِفَوَاتِ الْمَحَلِّ يَبْطُلُ هَذِهِ الشُّبْهَةُ وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ فِي بُطْلَانِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ يَبْطُلُ أَصْلُ التَّعْلِيقِ فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَمِينٌ لَهُ تَعْلِيقٌ بِذِمَّةِ الْحَالِفِ وَهِيَ مَحَلُّهُ وَمِنْ حَيْثُ إنَّ لَهُ شُبْهَةَ الْوُقُوعِ عَلَى مَا زَعَمْتُمْ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْمَرْأَةِ فَإِذَا بَطَلَتْ الشُّبْهَةُ بِفَوَاتِ الْمَحَلِّ بَقِيَ أَصْلُ التَّعْلِيقِ لِبَقَاءِ مَحَلِّهِ وَهُوَ ذِمَّةُ الْحَالِفِ كَمَا قُلْتُمْ

فَتَسْقُطُ هَذِهِ الشُّبْهَةُ بِهَذِهِ الْمُعَارَضَةِ وَمَسْأَلَةُ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالنِّكَاحِ بَعْدَ الثُّلُثِ مَنْصُوصَةٌ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَفِي الْجَامِعِ أَيْضًا نَصٌّ فِي نَظِيرِهِ وَهُوَ الْعَتَاقُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي التَّعْلِيقِ بِالنِّكَاحِ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا بَلْ هَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ ابْتِدَاءً بِدُونِ تَعَلُّقٍ لَهُ بِالْمَرْأَةِ لَأَنْ يَبْقَى بِدُونِ ذَلِكَ كَانَ أَوْلَى وَأَجَابَ الْإِمَامُ الْبُرْغَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْهُ فَقَالَ: صِحَّةُ الْيَمِينِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ كَانَتْ بِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ إلَى حِلٍّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّ النِّكَاحَ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي الْمَرْأَةِ الْمُحَلَّلَةِ وَذَلِكَ لَمْ يَفُتْ بَلْ هُوَ بِعَرَضِ الْوُجُودِ فَصَحَّتْ الْيَمِينُ فَأَمَّا هَاهُنَا فَصِحَّةُ الْيَمِينِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحِلِّ الْقَائِمِ فِي الْحَالِّ وَقَدْ بَطَلَ. وَهَذَا لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ لَمَّا لَمْ تُوجِدْ تَعْيِينَ الْحِلِّ الْقَائِمِ لِلْحَالِّ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْيَمِينِ لِأَنَّ الْإِيجَابَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا لِلْحَالِّ وَلَكِنَّهُ بِعَرَضِ أَنْ يَصِيرَ طَلَاقًا وَعَرَضِيَّةُ الطَّلَاقِ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ الْمِلْكِ وَالْحِلِّ فِي الْحَالِّ فَإِذَا بَطَلَ الْحِلُّ بَطَلَتْ الْعَرَضِيَّةُ فَتَبْطُلُ الْيَمِينُ وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّا إنَّمَا أَثْبَتْنَا شُبْهَةَ ثُبُوتِ الْجَزَاءِ فِي الْحَالِّ تَأْكِيدًا لِكَوْنِ الْبِرِّ مَضْمُونًا وَذَلِكَ لِأَنَّ ضَمَانَ الْبِرِّ بِوُقُوعِ الْجَزَاءِ حَالَةَ وُجُودِ الشَّرْطِ لَمَّا كَانَ بِالِاسْتِصْحَابِ لَا بِالتَّيَقُّنِ احْتَاجَ إلَى تَأْكِيدٍ لِيَلْتَحِقَ بِالْمُتَيَقَّنِ بِهِ فَجُعِلَ كَأَنَّهُ وَاقِعٌ فِي الْحَالِّ وَفِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالنِّكَاحِ لَا حَاجَةَ إلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ التَّأْكِيدِ لِلتَّيَقُّنِ بِوُجُودِ الْجَزَاءِ حَالَةَ الشَّرْطِ لِكَوْنِهِ تَعْلِيقًا بِمَا هُوَ عِلَّةُ مِلْكِ الطَّلَاقِ فَيَكُونُ الْجَزَاءُ مَوْجُودًا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَا مَحَالَةَ فَيَصِيرُ قَدْرُ مَا ادَّعَيْنَا مِنْ الشُّبْهَةِ مُسْتَحَقًّا بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ التَّعْلِيقِ أَيْ سَاقِطًا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا فَتَسْقُطُ هَذِهِ الشُّبْهَةُ بِهَذِهِ الْمُعَارَضَةِ أَيْ بِمُعَارَضَةِ كَوْنِ الْبِرِّ مَضْمُونًا بِالْجَزَاءِ يَقِينًا لِكَوْنِهِ تَعْلِيقًا بِمَا لَهُ حُكْمُ الْعِلَّةِ وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ فَأَمَّا تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِالْمِلْكِ فَصَحِيحٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَحَلُّ وَالْمِلْكُ فِي الْحَالِّ مَوْجُودَيْنِ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِعِلَّةِ مِلْكِ الطَّلَاقِ يَحْصُلُ فَائِدَةُ الْيَمِينِ وَهِيَ الْمَنْعُ لِكَوْنِ الْبِرِّ مَضْمُونًا بِالْجَزَاءِ لَا مَحَالَةَ فَصَارَ مِثْلَ التَّعْلِيقِ بِغَيْرِ عِلَّةِ مِلْكِ الطَّلَاقِ حَالَ قِيَامِ الْحِلِّ وَالْمِلْكِ بَلْ هُوَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ لِأَنَّ فِي حَالِ قِيَامِ الْمِلْكِ يَكُونُ الْبِرُّ مَضْمُونًا ظَاهِرًا غَالِبًا وَكَوْنُ الْبِرِّ مَضْمُونًا هَاهُنَا جَزْمِيٌّ فَكَانَ أَحَقَّ بِالصِّحَّةِ فَعَلَى هَذَا تَسْقُطُ الشُّبْهَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي التَّنَازُعِ فِيهِ وَهُوَ شُبْهَةُ ثُبُوتِ الطَّلَاقِ لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِالنِّكَاحِ يَلْزَمُ سُقُوطُ تِلْكَ الشُّبْهَةِ لِاسْتِحَالَةِ حَقِيقَةِ الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ وَالشُّبْهَةُ إنَّمَا تُعْتَبَرُ عِنْدَ إمْكَانِ الْحَقِيقَةِ وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الشُّبْهَةِ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَحَقِيقَةُ التَّطْلِيقِ بِهِ مُمْكِنُ وَعَدِمَتْ الْحَقِيقَةُ بِالدَّلِيلِ فَتُعْتَبَرُ الشُّبْهَةُ وَهُوَ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ فَتَسْقُطُ هَذِهِ الشُّبْهَةُ بِهَذِهِ الْمُعَارَضَةِ يَعْنِي تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِالنِّكَاحِ يُوجِبُ سُقُوطَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ وَهِيَ أَنَّ لِتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ شَبَهًا بِالْإِيجَابِ فَصَارَ هَذَا مُعَارِضًا لِلشُّبْهَةِ السَّابِقَةِ عَلَى الشَّرْطِ فَتَسْقُطُ وَقَوْلُهُ فَيَصِيرُ قَدْر مَا ادَّعَيْنَا مِنْ الشُّبْهَةِ مُسْتَحَقًّا بِهِ يَعْنِي بِهِ أَنَّ الْبِرَّ مَضْمُونٌ جَزْمًا فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ تِلْكَ الشُّبْهَةِ سَابِقَةً عَلَى الشَّرْطِ. وَاعْتُرِضَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا بِأَنَّهُ إذَا حَلَفَ بِالظِّهَارِ أَوْ بِالْإِيلَاءِ فَقَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَا يَبْطُلُ ذَلِكَ التَّعْلِيقُ حَتَّى لَوْ عَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ وَوُجِدَ الشَّرْطُ يُنْجِزُ الظِّهَارَ وَالْإِيلَاءَ فَأَجَابَ أَبُو الْفَضْلِ الْكَرْمَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْهُ بِأَنَّ مَحَلَّ عَمَلِ الظِّهَارِ الرَّجُلُ فِي التَّحْقِيقِ وَهُوَ مَنْعُهُ عَنْ الْوَطْءِ وَالْمَحَلُّ بِحَالِهِ كَمَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْيَمِينِ فَإِذَا كَانَ مَحَلُّ نُزُولِ حُكْمِ الظِّهَارِ قَائِمًا مِنْ غَيْرِ تَجَدُّدٍ نَزَلَ وَأَجَابَ غَيْرُهُ بِأَنَّ الظِّهَارَ لَا يُعْقَدُ لِإِبْطَالِ حِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ حَتَّى إذَا فَاتَ الْمَحَلُّ لَا يَبْقَى الظِّهَارُ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ وَإِنَّمَا أَثَرُهُ فِي مَنْعِ الزَّوْجِ عَنْ الْوَطْءِ

[من حمل المطلق على المقيد في حادثة واحدة بطريق الدلالة]

وَأَبْعَدُهُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَنْ حَمَلَ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا مَعَ ذَلِكَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْحَلَالِ إلَى وَقْتِ التَّكْفِيرِ فَلَمَّا كَانَ حُكْمُهُ الْمَنْعَ وَبَعْدَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ يَثْبُتُ الْمَنْعُ بِاعْتِبَارِ حُرْمَةِ الْمَحَلِّ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ بِذَلِكَ الطَّرِيقِ فَيَبْقَى الظِّهَارُ إلَّا أَنَّ ابْتِدَاءَ الظِّهَارِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يُتَصَوَّرُ وَإِنْ كَانَ الْمَنْعُ مُتَصَوَّرًا لِأَنَّ الظِّهَارَ تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ وَفِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فَأَمَّا الطَّلَاقُ فَعِلْمُهُ فِي إبْطَالِ الْحِلِّ وَقَطْعِ الْمِلْكِ وَبَعْدَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ فَاتَ مَحَلُّ الْحُكْمِ فَلَا تَبْقَى الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ فَأَمَّا الْإِيلَاءُ الْمُعَلَّقُ فَلَا حَاجَةَ لَهُ إلَى أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُحَلَّلَةً فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فَلَا يَبْطُلُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَالْإِيلَاءُ الْمُنَجَّزُ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا وَاعْتُرِضَ أَيْضًا بِأَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ارْتَدَّتْ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَقَدْ عُلِّقَ طَلَاقُهَا بِالشَّرْطِ فَإِنَّ الْيَمِينَ لَا تَبْطُلُ وَقَدْ بَطَلَ حِلُّ الْمَحَلِّيَّةِ وَبِأَنَّ الْأَمَةَ إذَا اُسْتُوْلِدَتْ حَتَّى تَعَلَّقَ عِتْقُهَا بِمَوْتِ السَّيِّدِ فَأَعْتَقَهَا الْمَوْلَى ثُمَّ ارْتَدَّتْ وَسُبِيَتْ وَعَادَتْ إلَى الْمَوْلَى اسْتَحَقَّتْ الْعِتْقَ. وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمَحَلِّيَّةَ لَا تَبْطُلُ بِالرِّدَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ارْتَدَّتْ حَتَّى بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا فِي الْعِدَّةِ وَقَعَ طَلَاقُهَا وَلَوْ ارْتَدَّا جَمِيعًا لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ وَإِنَّمَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ لِانْقِطَاعِ الْعِصْمَةِ بَيْنَهُمَا وَلَمَّا بَقِيَتْ الْمَحَلِّيَّةُ بَقِيَتْ الْيَمِينُ وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْعِتْقَ حِينَ وَقَعَ بَطَلَ التَّعْلِيقُ بِالْمَوْتِ وَبِالْمِلْكِ ثَانِيًا لَا يَعُودُ ذَلِكَ وَلَكِنْ يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْتِ عِتْقٌ آخَرُ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ لَهُ وَهُوَ قِيَامُ نَسَبِ الْوَلَدِ فِي الْحَالِ كَمَا لَوْ اسْتَوْلَدَهَا بِنِكَاحٍ فَإِنَّهَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَإِنْ مَلَكَهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ الْآنَ لِقِيَامِ النَّسَبِ فِي الْحَالِ وَمَسْأَلَةُ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ إلَى آخِرِهِ إنَّمَا ذُكِرَ هَذَا لِأَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا لَمَّا عَجَزُوا عَنْ الْجَوَابِ حِينَ أُورِدَ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ نَقْضًا أَنْكَرُوا صِحَّةَ التَّعْلِيقِ فَقَالَ الشَّيْخُ: لَا وَجْهَ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّهَا مَنْصُوصَةٌ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَفِي إيمَانِ الْجَامِعِ نُصَّ فِي نَظِيرِهِ أَيْ نَظِيرِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ مَا إذَا قَالَ لِحُرَّةٍ إنْ ارْتَدَدْتِ فَسُبِيَتْ فَمَلَكْتُكِ فَأَنْتِ حُرَّةٌ ثُمَّ كَانَ كَذَلِكَ فَمَلَكَهَا عَتَقَتْ قَالَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ: قَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: إنَّ إيجَابَ التَّحْرِيرِ بِالْيَمِينِ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْعِتْقِ وَقَدْ صَحَّ اسْتِئْنَافُهُ هَاهُنَا عِنْدَ عَدَمِهِ وَهَذَا نَصٌّ قَدْ ذَكَرْنَا نَظِيرَهُ قَبْلَ هَذَا فِي الطَّلَاقِ إذَا عَلَّقَهُ بِالنِّكَاحِ وَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ بِالثَّلَاثِ أَنَّهُ يَصِحُّ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَوْضَحُ نَصٍّ فِي هَذَا كَذَا فِي أَيْمَانِ الْجَامِعِ فِي بَابِ الْحِنْثِ فِي مِلْكِ الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ. [مَنْ حَمَلَ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ] قَوْلُهُ (وَأَبْعَدُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ) إلَى آخِرِهِ يَعْنِي حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ أَبْعَدُ مِنْ الصَّوَابِ مِنْ الْجُمْلَةِ الَّتِي سَبَقَ تَقْرِيرُهَا لِأَنَّ فِيهِ إضَافَةَ النَّفْيِ إلَى النَّصِّ الْمُوجِبِ وَإِبْطَالَ الْإِطْلَاقِ بِمَا هُوَ سَاكِتٌ فَكَانَ الْخَطَأُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ وَفِيمَا سَبَقَ الْخَطَأُ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ إضَافَةُ النَّفْيِ إلَى الْمُوجِبِ فَلِهَذَا كَانَ أَبْعَدَ مِنْ الصَّوَابِ وَالْمُطْلَقُ هُوَ اللَّفْظُ الْمُعْتَرِضُ لِلذَّاتِ دُونَ الصِّفَاتِ لَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ وَالْمُقَيَّدُ هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى مَدْلُولِ الْمُطْلَقِ بِصِفَةٍ زَائِدَةٍ وَقِيلَ: الْمُطْلَقُ لَفْظٌ دَلَّ عَلَى شَائِعٍ فِي جِنْسِهِ مِثْلُ رَجُلٍ وَرَقَبَةٍ فَيَخْرُجُ عَنْ التَّعْرِيفِ الْمَعَارِفُ لِكَوْنِهَا غَيْرَ شَائِعَةٍ لِتَعَيُّنِهَا بِحَسَبِ الِاسْتِعْمَالِ فَإِنَّ أَنْتَ مَثَلًا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ الِاسْتِعْمَالِ إلَّا مُعَيَّنٌ بِخِلَافِ رَجُلٍ فَإِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ مُعَيَّنٌ وَيَخْرُجُ مِنْهُ أَيْضًا النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَالنَّكِرَةِ الْمُسْتَغْرِقَةِ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ مِثْلُ كُلِّ رَجُلٍ وَنَحْوِهِ لِاسْتِغْرَاقِهَا إذْ الْمُسْتَغْرَقُ لَا يَكُونُ شَائِعًا فِي جِنْسِهِ وَالْمُقَيَّدُ هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى مَدْلُولٍ مُعَيَّنٍ كَزَيْدٍ وَهَذَا

وَالْمُطْلَقُ سَاكِتٌ وَالْمُقَيَّدُ نَاطِقٌ فَكَانَ أَوْلَى كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ» ـــــــــــــــــــــــــــــQالرَّجُلِ وَأَنْتَ وَذُكِرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لِلْإِمَامِ الرَّازِيّ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَهُ مَاهِيَّةٌ وَحَقِيقَةٌ وَكُلَّ أَمْرٍ لَا يَكُونُ الْمَفْهُومُ مِنْهُ عَيْنَ الْمَفْهُومِ مِنْ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ كَانَ مُغَايِرًا لَهَا سَوَاءٌ كَانَ لَازِمًا لَهَا أَوْ مُفَارِقًا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إنْسَانٌ فَأَمَّا أَنَّهُ لَيْسَ إلَّا الْإِنْسَانَ وَاحِدًا أَوْ لَا وَاحِدًا فَهُمَا قَيْدَانِ مُغَايِرَانِ لِكَوْنِهِ إنْسَانًا وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ كَوْنِهِ إنْسَانًا لَا يَنْفَكُّ عَنْهُمَا فَاللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا هِيَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ قُيُودِ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمُطْلَقُ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ الْمُطْلَقُ هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى وَاحِدٍ لَا بِعَيْنِهِ سَهْوٌ لِأَنَّ الْوَحْدَةَ وَعَدَمَ التَّعَيُّنِ قَيْدَانِ زَائِدَانِ عَلَى الْمَاهِيَّةِ. ثُمَّ وُرُودُ الْمُطْلَقِ مَعَ الْمُقَيَّدِ عَلَى وُجُوهٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ وُرُودُهُمَا فِي سَبَبِ حُكْمٍ فِي حَادِثَةٍ أَوْ شَرْطِهِ مِثْلُ نَصِّي صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى مَا سَيَأْتِي أَوْ فِي حُكْمِ وَاحِدٍ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ إثْبَاتًا كَمَا لَوْ قِيلَ فِي الظِّهَارِ أَعْتَقَ رَقَبَةً ثُمَّ قِيلَ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً أَوْ نَفْيًا كَمَا لَوْ قِيلَ لَا تَعْتِقْ مُدَبَّرًا لَا تَعْتِقْ مُدَبَّرًا كَافِرًا وَفِي حُكْمَيْنِ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلُ تَقَيُّدِ صَوْمِ الظِّهَارِ بِأَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَإِطْلَاقُ إطْعَامِهِ عَنْ ذَلِكَ. أَوْ فِي حُكْمَيْنِ فِي حَادِثَتَيْنِ كَتَقْيِيدِ الصِّيَامِ بِالتَّتَابُعِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَإِطْلَاقِ الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ أَوْ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ فِي حَادِثَتَيْنِ كَإِطْلَاقِ الرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ وَتَقْيِيدِهَا بِالْأَيْمَانِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَهَذِهِ سِتَّةُ أَقْسَامٍ وَاتَّفَقَ الْأُصُولِيُّونَ عَلَى أَنَّهُ لَا حَمْلَ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ وَالْخَامِسِ لِعَدَمِ الْمُنَافَاةِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الْحَمْلَ فِي الْقِسْمِ الرَّابِعِ وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى وُجُوبِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ فَعِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَجَمِيعِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الْحَمْلُ وَاجِبٌ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى قِيَاسٍ وَنَحْوِهِ وَعِنْدَ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا لَا حَمْلَ فِيهِ وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا فِي الْقِسْمِ الْأَخِيرِ عَلَى أَنْ لَا يُحْمَلَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِيهِ وَعِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ الْحَمْلُ لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِمُوجِبِ اللُّغَةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى قِيَاسٍ وَدَلِيلٍ وَجَعَلُوهُ مِنْ بَابِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي سَبَقَ إلَى الْفَهْمِ مَعْنَاهُ كَقَوْلِهِ {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35] وَقَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنْهُمْ: إنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِقِيَاسٍ مُسْتَجْمِعٍ لِشَرَائِطِهِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ. هَذَا حَاصِلُ مَا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ كُتُبِ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ اسْتِبْعَادِ الشَّيْخِ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ مَا إذَا كَانَ الْقَيْدُ وَالْإِطْلَاقُ فِي السَّبَبِ أَوْ الشَّرْطِ لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِيهِمَا دُونَ الْحُكْمِ لِاسْتِحَالَةِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِيهِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ فِي آخِرِ هَذَا الْفَصْلِ وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَ الْحَمْلَ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ سَوَاءٌ كَانَ الْقَيْدُ وَالْإِطْلَاقُ فِي السَّبَبِ وَالشَّرْطِ أَوْ فِي الْحُكْمِ بِأَنَّ الْحَادِثَةَ إذَا كَانَتْ وَاحِدَةً كَانَ الْإِطْلَاقُ وَالْقَيْدُ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ إذَا لَمْ يَكُونَا فِي حُكْمَيْنِ وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا لِلتَّنَافِي فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا أَصْلًا وَيُبْنَى الْآخَرُ عَلَيْهِ وَالْمُطْلَقُ سَاكِتٌ عَنْ الْقَيْدِ أَيْ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَا يَنْفِيهِ وَالْمُقَيَّدُ نَاطِقٌ بِهِ أَيْ يُوجِبُ الْجَوَازَ عِنْدَ وُجُودِهِ وَيَنْفِيهِ عِنْدَ عَدَمِهِ فَكَانَ أَوْلَى بِأَنْ

وَكَمَا قِيلَ فِي نُصُوصِ الْعَدَالَةِ وَإِذَا كَانَا فِي حَادِثَتَيْنِ مِثْلَ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ فَكَذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّ قَيْدَ الْإِيمَانِ زِيَادَةُ وَصْفٍ يَجْرِي مَجْرَى التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ فَيُوجِبُ النَّفْيَ عِنْدَ عَدَمِهِ فِي الْمَنْصُوصِ وَفِي نَظِيرِهِ مِنْ الْكَفَّارَاتِ لِأَنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ بِخِلَافِ زِيَادَةِ الصَّوْمِ فِي الْقَتْلِ فَإِنَّهُ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَالطَّعَامُ فِي الْيَمِينِ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْقَتْلِ وَكَذَلِكَ إعْدَادُ الرَّكَعَاتِ وَوَظَائِفُ الطِّهَارَاتِ وَأَرْكَانُهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ ثَابِتٌ بِاسْمِ الْعِلْمِ وَهُوَ لَا يُوجِبُ إلَّا الْوُجُودَ ـــــــــــــــــــــــــــــQيُجْعَلَ أَصْلًا وَيُبْنَى الْمُطْلَقُ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ الْمُطْلَقَ مُحْتَمَلٌ وَالْمُقَيَّدَ بِمَنْزِلَةِ الْمُحْكَمِ فَيُحْمَلُ الْمُحْتَمَلُ عَلَيْهِ وَيَكُونُ الْمُقَيَّدُ بَيَانًا لِلْمُطْلَقِ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ لَا نَسْخًا فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ مُقَيَّدًا بِهِمَا كَمَا قِيلَ فِي نُصُوصِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ الْمُطْلَقَ عَنْ السَّوْمِ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ» مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِصِفَةِ السَّوْمِ بِالِاتِّفَاقِ مِثْلُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ» . وَكَمَا قِيلَ فِي نُصُوصِ الْعَدَالَةِ فَإِنَّ النُّصُوصَ الْمُطْلَقَةَ عَنْ صِفَةِ الْعَدَالَةِ فِي الشَّهَادَاتِ مِثْلُ قَوْلِهِ {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» مَحْمُولَةٌ عَلَى النُّصُوصِ الْمُقَيَّدَةِ بِهَا بِالِاتِّفَاقِ حَتَّى شُرِطَتْ الْعَدَالَةُ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» وَحَاصِلُ هَذَا الدَّلِيلِ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ الْمَفْهُومَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ وَإِذَا كَانَا أَيْ الْإِطْلَاقُ وَالْقَيْدُ فِي حَادِثَتَيْنِ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ مِثْلُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَإِنَّ الرَّقَبَةَ فِيهَا مُقَيَّدَةٌ بِصِفَةِ الْإِيمَانِ وَسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ فَإِنَّ الرَّقَبَةَ فِيهَا مُطْلَقَةٌ فَكَذَلِكَ أَيْضًا أَيْ يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ فِيهَا عَلَى الْمُقَيَّدِ أَيْضًا لَكِنْ بِقِيَاسٍ صَحِيحٍ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَبِدُونِهِ عِنْدَ آخَرِينَ وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَ الْحَمْلَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى قِيَاسٍ بِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يَتْرُكُونَ التَّقْيِيدَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ اكْتِفَاءً بِذِكْرِهِ فِي مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35] أَيْ وَالْحَافِظَاتِهَا وَالذَّاكِرَاتِهِ كَثِيرًا وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَك رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفٌ أَيْ نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا رَاضُونَ وَبِأَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ فِي وُجُوبِ بِنَاءِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ فَإِذَا نَصَّ عَلَى الْإِيمَانِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ لَزِمَ فِي الظِّهَارِ كَانَ الْقَيْدُ مُتَّصِلًا بِهِ أَيْضًا وَهَذَا كَلَامٌ سَاقِطٌ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ كَلَامٍ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ إلَّا أَنْ يَمْنَعَ عَنْهُ مَانِعٌ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَرْكُ ظَاهِرِ الْإِطْلَاقِ إلَى التَّقْيِيدِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَدَلِيلٍ بِمُجَرَّدِ الظَّنِّ وَالتَّشَهِّي كَمَا لَا يَجُوزُ عَكْسُهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَحَدِهِمَا الْإِطْلَاقَ وَفِي الْآخَرِ التَّقْيِيدَ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ الْقُرْآنُ كُلُّهُ بِمَنْزِلَةِ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَذَلِكَ فِي أَنَّهُ لَا تَنَاقُضَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ وَلَا اخْتِلَافَ فَأَمَّا فِي دَلَالَةِ عِبَارَاتِهِ عَلَى الْمَعْنَى فَلَا لِأَنَّهَا مُتَعَدِّدَةٌ وَدَلَالَاتُهَا مُخْتَلِفَةٌ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ دَلَالَةِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ دَلَالَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ وَثُبُوتُ الْقَيْدِ فِي الْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرَاتِ وَالشِّعْرِ لِلْعَطْفِ وَعَدَمِ الِاسْتِقْلَالِ وَأَمَّا مَنْ جَوَّزَ الْحَمْلَ بِالْقِيَاسِ فَبَنَى كَلَامَهُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمَفْهُومَ حُجَّةٌ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكِتَابِ فَقَالَ: التَّقْيِيدُ بِالْوَصْفِ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ وَإِنَّهُ يُوجِبُ عَدَمَ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِهِ كَمَا يُوجِبُ الْوُجُودَ عِنْدَ الْوُجُودِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فَلَمَّا كَانَ النَّفْيُ حُكْمَ النَّصِّ الْمُقَيَّدِ كَالْإِثْبَاتِ يَتَعَدَّى إلَى نَظِيرِهِ بِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ كَمَا إذَا كَانَ النَّفْيُ مَنْصُوصًا وَكَمَا يَتَعَدَّى الْإِثْبَاتُ وَالرَّقَبَةُ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ مُقَيَّدَةٌ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ فَأَوْجَبَ عَدَمَ الْجَوَازِ عِنْدَ عَدَمِهِ فَيَتَعَدَّى هَذَا الْحُكْمُ إلَى نَظَائِرِهَا مِنْ الْكَفَّارَاتِ كَمَا تَعَدَّى تَقْيِيدُ الْأَيْدِي بِالْمَرَافِقِ فِي الْوُضُوءِ إلَى نَظِيرِهِ وَهُوَ التَّيَمُّمُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَهَارَةٌ وَلَا يُقَالُ هَذَا تَعْدِيَةٌ إلَى مَا فِيهِ نَصٌّ بِالْإِبْطَالِ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُطْلَقَ سَاكِتٌ عَنْ الْقَيْدِ غَيْرُ مُتَعَرِّضٍ

وَعِنْدَنَا لَا يُحْمَلُ مُطْلَقٌ عَلَى مُقَيَّدٍ أَبَدًا ـــــــــــــــــــــــــــــQلَهُ بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ فَصَارَ الْمَحَلُّ فِي حَقِّ الْوَصْفِ خَالِيًا عَنْ النَّصِّ فَيَجُوزُ تَعْدِيَةُ حُكْمِ الْوَصْفِ إلَيْهِ بِالْقِيَاسِ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ حَمْلُ الْمُقَيَّدِ عَلَى الْمُطْلَقِ لِأَنَّ الْمُقَيَّدَ نَاطِقٌ وَفِي حَمْلِهِ عَلَى الْمُطْلَقِ بِالْقِيَاسِ وَبِدُونِهِ إبْطَالُ الْقَيْدِ الْمَنْطُوقِ بِهِ فَلَا يَجُوزُ. ثُمَّ أَجَابَ عَمَّا يَرِدُ نَقْضًا عَلَى الشَّافِعِيِّ فَقَالَ بِخِلَافِ زِيَادَةِ الصَّوْمِ فِي الْقَتْلِ يَعْنِي صَوْمُ الْقَتْلِ زَائِدٌ عَلَى صَوْمِ الْيَمِينِ ثُمَّ لَمْ يُثْبِتْ تِلْكَ الزِّيَادَةَ فِي صَوْمِ الْيَمِينِ حَمْلًا لِهَذَا الصَّوْمِ الْمُطْلَقِ عَنْ تِلْكَ الزِّيَادَةِ عَلَى الصَّوْمِ الْمُقَيَّدِ بِهَا بِالْقِيَاسِ حَتَّى لَمْ يَجِبْ عَلَى الْحَانِثِ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مَعَ أَنَّ الْكُلَّ جِنْسٌ وَاحِدٌ. وَكَذَا الطَّعَامُ الثَّابِتُ فِي الْيَمِينِ لَمْ يَثْبُت فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ حَمْلًا لَهَا عَلَى الْيَمِينِ بِالْقِيَاسِ بِاعْتِبَارِ اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَخَصَّ الشَّيْخُ طَعَامَ الْيَمِينِ لِأَنَّ طَعَامَ الظِّهَارِ ثَابِتٌ فِي الْقَتْلِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ إذَا عَجَزَ عَنْ الصَّوْمِ يُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا بِالْقِيَاسِ عَلَى الظِّهَارِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ: وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمُقَيَّدَ وَالْمُطْلَقَ فِي حَادِثَتَيْنِ يُحْمَلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَكَذَلِكَ أَعْدَادُ الرَّكَعَاتِ يَعْنِي لَمْ نُثْبِتْ زِيَادَةَ الرَّكَعَاتِ الثَّابِتَةِ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ فِي الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ عَنْ تِلْكَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِهَا بِالْقِيَاسِ مَعَ أَنَّ الْكُلَّ صَلَاةُ وَظَائِفِ الطِّهَارَاتِ يَعْنِي وَظِيفَةُ الْوُضُوءِ تَطْهِيرُ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَوَظِيفَةُ الْغُسْلِ تَطْهِيرُ جَمِيعِ الْبَدَنِ ثُمَّ لَمْ تَثْبُتْ الزِّيَادَةُ الثَّابِتَةُ فِي الْغُسْلِ فِي الْوُضُوءِ بِالْحَمْلِ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّ الْكُلَّ طَهَارَةٌ حَتَّى لَمْ يَجِبْ غُسْلُ جَمِيعِ الْبَدَنِ فِي الْحَدَثِ. وَكَذَا لَمْ يَثْبُتْ الزِّيَادَةُ الثَّابِتَةُ فِي الْوُضُوءِ وَهِيَ تَطْهِيرُ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ فِي التَّيَمُّمِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْوُضُوءِ حَتَّى لَمْ يَجِبْ مَسْحُ الرَّأْسِ وَالْقَدَمَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ بِحَمْلِهِ عَلَى الْوُضُوءِ بِاتِّحَادِ الْجِنْسِ وَأَرْكَانُهَا يَعْنِي الْوُضُوءَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْغُسْلِ وَالْمَسْحِ وَالْغُسْلُ زَائِدٌ عَلَى الْمَسْحِ لِأَنَّهُ إسَالَةٌ وَالْمَسْحُ إصَابَةٌ ثُمَّ لَمْ يَثْبُتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ فَبِالْمَسْحِ حَتَّى لَمْ يَجِبْ غَسْلُ الرَّأْسِ مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ نَظَرًا إلَى الرُّكْنِيَّةِ فِي الْوُضُوءِ. وَنَحْوِ ذَلِكَ كَالْحُدُودِ فَإِنْ جَلْدَ الْمِائَةِ الثَّابِتِ فِي الزِّنَا لَمْ يَثْبُتْ فِي الْقَذْفِ بِطَرِيقِ الْحَمْلِ وَكَاشْتِرَاطِ الْأَرْبَعَةِ فِي شُهُودِ الزِّنَا لَا يَثْبُتُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْحُدُودِ بِطَرِيقِ الْحَمْلِ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ ثَابِتٌ بِاسْمِ الْعَلَمِ وَهُوَ لَا يُوجِبُ إلَّا الْوُجُودَ يَعْنِي التَّفَاوُتَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ثَابِتٌ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ وَهُوَ اسْمُ الشَّهْرَيْنِ وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَاسْمُ الرَّكْعَتَيْنِ وَثَلَاثٍ وَأَرْبَعٍ وَاسْمُ الْغُسْلِ وَالْمَسْحِ وَالتَّنْصِيصُ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ يُوجِبُ الْوُجُودَ عِنْدَ الْوُجُودِ وَلَا يُوجِبُ الْعَدَمَ عِنْدَ الْعَدَمِ وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْعَدَمُ بِهِ فِي الْمَحَلِّ الْمَنْصُوصِ لَا يُمْكِنُ تَعْدِيَتُهُ إلَى غَيْرِهِ لِأَنَّ تَعْدِيَةَ الْمَعْدُومِ مُحَالٌ قَوْلُهُ (وَعِنْدَنَا لَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ أَبَدًا) يَعْنِي لَا فِي حَادِثَتَيْنِ وَلَا فِي حَادِثَةٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَا حُكْمَيْنِ وَلَا تَلْتَفِتُ إلَى مَا تَوَهَّمَ الْبَعْضُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ نَفْيُ الْحَمْلِ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنْ كَانَ الْقَيْدُ وَالْإِطْلَاقُ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَاتِ أَجْمَعَ فَقَدْ ذُكِرَ فِي التَّقْوِيمِ وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَنَا فِي الْمُطْلَقِ أَنَّهُ عَلَى إطْلَاقِهِ وَالْمُقَيَّدُ عَلَى تَقْيِيدِهِ فِي الْحَادِثَةِ الْوَاحِدَةِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَا حُكْمَيْنِ. وَذُكِرَ فِي الْأَسْرَارِ فَإِنْ قِيلَ: إنَّك لَا تَحْمِلُ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ قُلْنَا: نَعَمْ إذَا كَانَا غَيْرَيْنِ حُكْمَيْنِ أَوْ شَرْطَيْنِ أَوْ عِلَّتَيْنِ فَأَمَّا الْوَاحِدُ إذَا ثَبَتَ بِوَصْفٍ فَدُونَهُ لَا يَكُونُ ثَابِتًا لَا مَحَالَةَ ضَرُورَةً وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ كِتَابِ الصَّوْمِ إنَّمَا لَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ

لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] فَنَبَّهَ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْإِطْلَاقِ وَاجِبٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى الْمُقَيَّدِ عِنْدَنَا إذَا وُجِدَ الْقَيْدُ وَالْإِطْلَاقُ فِي سَبَبِ الْحُكْمِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ أَوْ فِي نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مِنْ حُكْمِ السَّبَبِ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فَإِنَّهُ ذُكِرَ الْإِعْتَاقُ وَالصَّوْمُ فِيهَا مُقَيَّدَيْنِ بِالْقَبْلِيَّةِ عَلَى الْمَسِيسِ وَالْإِطْعَامِ مُطْلَقًا وَلَمْ يُحْمَلْ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فَأَمَّا إذَا وَرَدَا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ مِنْ حُكْمِ السَّبَبِ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ كَمَا فِي حَدِيثِ «الْأَعْرَابِيِّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ» وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: صُمْ شَهْرَيْنِ وَهَذَا لِأَنَّ الْحُكْمَ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ كِتَابِ الزَّكَاةِ فِي أَثْنَاءِ مَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي هَذَا الْبَابِ لِأَنَّهُمَا فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ وَذَكَرَ فِي شَرْحِ كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي اشْتِرَاطِ التَّتَابُعِ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَهَاهُنَا الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ الصَّوْمُ الْوَاجِبُ كَفَّارَةً وَبَيْنَ التَّتَابُعِ وَالتَّفَرُّقِ مُنَافَاةٌ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ فَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ صِفَةِ التَّتَابُعِ أَنْ لَا يَبْقَى مُطْلَقًا 1 - وَذُكِرَ فِي الْمِيزَانِ وَاخْتَلَفَ عِنْدَنَا يَعْنِي فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ قَالَ بَعْضُهُمْ بِحَمْلٍ إذَا كَانَ السَّبَبُ وَاحِدًا وَالْحَادِثَةُ وَاحِدَةً فَأَمَّا فِي حَادِثَتَيْنِ فَلَا يُحْمَلُ وَقَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ لَا يُحْمَلُ سَوَاءٌ كَانَتْ الْحَادِثَةُ وَاحِدَةً أَوْ لَا إلَّا إذَا كَانَ حُكْمًا وَاحِدًا وَالسَّبَبُ وَاحِدًا وَذُكِرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ فِي تَفْسِيرٍ قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً} [النساء: 92] أَنَّ الْحَادِثَةَ إذَا كَانَتْ وَاحِدَةً وَوَرَدَ فِيهَا نَصَّانِ مُقَيَّدٌ وَمُطْلَقٌ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ مِنْ بَابِ الْوَاجِبِ أَنَّ الْمُطْلَقَ يُقَيَّدُ إذَا كَانَ لَا يُعْرَفُ التَّارِيخُ لِأَنَّ الشَّرْعَ مَتَى أَوْجَبَ الْحُكْمَ بِوَصْفٍ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْوَصْفِ فَيَكُونُ بَيَانًا لِلْمُطْلَقِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمُقَيَّدُ وَأَمَّا إذَا كَانَا مِنْ بَابِ الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ فَإِنَّهُ لَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَلَكِنْ يُعْمَلُ بِهِمَا لِعَدَمِ التَّنَافِي وَرَأَيْت فِي التَّلْخِيصِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ إذَا أُطْلِقَ الْحُكْمُ ثُمَّ وَرَدَ بِعَيْنِهِ مُقَيَّدًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَجِبُ الْحُكْمُ بِتَقْيِيدِهِ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ زِيَادَةٌ لَا يُفِيدُهَا الْإِطْلَاقُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43] وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] وقَوْله تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] . وَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ نُسَخِ أَصْحَابِنَا وَعَامَّةِ نُسَخِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِنْ الْقَوَاطِعِ وَالْمُسْتَصْفَى وَالْمَحْصُولِ وَغَيْرِهَا فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْحَمْلَ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ حَادِثَةً وَاحِدَةً وَاجِبٌ وَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ أَبَدًا مَا ذَكَرْنَا قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101] الْآيَةُ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ وَالْمَعْطُوفَةُ عَلَيْهَا وَهُمَا قَوْلُهُ {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة: 101] صِفَةٌ لِأَشْيَاءَ. وَالْمَعْنَى لَا تُكْثِرُوا مَسْأَلَةَ رَسُولِ اللَّهِ عَنْ تَكَالِيفَ شَاقَّةٍ عَلَيْكُمْ إنْ أَفْتَاكُمْ بِهَا وَكَلَّفَهَا إيَّاكُمْ تَغُمَّكُمْ وَتَشُقُّ عَلَيْكُمْ فَتَنْدَمُوا عَنْ السُّؤَالِ عَنْهَا وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْ هَذِهِ التَّكَالِيفِ الصَّعْبَةِ فِي زَمَانِ الْوَحْيِ وَهُوَ مَا دَامَ الرَّسُولُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ يُوحَى إلَيْهِ تُبْدَ لَكُمْ تِلْكَ التَّكَالِيفُ الَّتِي تَسُؤْكُمْ وَتُؤْمَرُوا بِتَحَمُّلِهَا فَتُعَرِّضُونَ أَنْفُسَكُمْ لِغَضَبِ اللَّهِ بِالتَّفْرِيطِ فِيهَا وَقَالَ إمَامُ الْهُدَى: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا نَهْيًا عَنْ سُؤَالِهِمْ عَنْ أَشْيَاءَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَاجَةٌ إلَيْهَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِبَانَةِ وَالِاسْتِيضَاحِ فَنُهُوا عَنْهُ حَتَّى تَمَسَّ الْحَاجَةُ إذَا مَسَّتْ الْحَاجَةُ فَقَدْ أُطْلِقَ لَهُمْ السُّؤَالُ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَبْهِمُوا مَا أَبْهَمَ اللَّهُ وَاتَّبِعُوا مَا بَيَّنَ اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ وَلِأَنَّ الْمُقَيَّدَ أَوْجَبَ الْحُكْمَ ابْتِدَاءً فَلَمْ يَجُزْ الْمُطْلَقُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لَا لِأَنَّ النَّصَّ نَفَاهُ لِمَا قُلْنَا: إنَّ الْإِثْبَاتَ لَا يُوجِبُ نَفْيًا صِيغَةً وَلَا دَلَالَةً وَلَا اقْتِضَاءً فَيَصِيرُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ احْتِجَاجًا بِلَا دَلِيلٍ وَمَا قُلْنَا عَمَلٌ بِمُقْتَضَى كُلِّ نَصٍّ عَلَى مَا وُضِعَ لَهُ الْإِطْلَاقُ مِنْ الْمُطْلِقِ مَعْنَى مُتَعَيِّنٌ مَعْلُومٌ وَيُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ مِثْلُ التَّقْيِيدِ فَتَرْكُ الدَّلِيلِ إلَى غَيْرِ الدَّلِيلِ بَاطِلٌ مُسْتَحِيلٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِقَوْلِهِ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا الْآيَةُ فَجَعَلَ الثَّانِيَةَ مُسْتَأْنَفَةً لَا صِفَةً لِأَشْيَاءَ ثُمَّ ظَاهِرُ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِالْإِطْلَاقِ وَاجِبٌ لِأَنَّ الْوَصْفَ فِي الْمُطْلَقِ مَسْكُوتٌ عَنْهُ وَالسُّؤَالَ عَنْ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ مَنْهِيٌّ بِهَذَا النَّصِّ فَكَانَ بِالظَّاهِرِ وَهُوَ الْإِطْلَاقُ وَاجِبًا فِي الرُّجُوعِ إلَى الْمُقَيَّدِ لِنَعْرِفَ حُكْمَ الْمُطْلَقِ إقْدَامٌ عَلَى هَذَا الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْإِبْهَامِ فِيمَا أَبْهَمَ اللَّهُ كَمَا أَنَّ فِي السُّؤَالِ ذَلِكَ يُوَضِّحُهُ أَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ عَنْ السُّؤَالِ عَنْ الْمُجْمَلِ وَالْمُشْكِلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ وَلَا يَرِدُ السُّؤَالُ عَمَّا هُوَ مُفَسَّرٌ أَوْ مُحْكَمٌ فَعُلِمَ أَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ عَنْ السُّؤَالِ عَمَّا هُوَ مُمْكِنٌ الْعَمَلُ بِهِ مَعَ نَوْعِ إبْهَامٍ إذْ السُّؤَالُ حِينَئِذٍ يَكُونُ تَعَمُّقًا وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «اُتْرُكُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ مَسْأَلَتِهِمْ عَنْ أَنْبِيَائِهِمْ» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَبْهِمُوا مَا أَبْهَمَ اللَّهُ أَيْ أَطْلِقُوا مَا أَطْلَقَ اللَّهُ وَلَا تُقَيِّدُوا الْحُرْمَةَ فِي أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ بِالدُّخُولِ بِالْبَنَاتِ يُقَالُ فَرَسٌ بَهِيمٌ إذَا كَانَ مُطْلَقَ اللَّوْنِ أَيْ لَهُ لَوْنٌ وَاحِدٌ وَاتَّبِعُوا مَا بَيَّنَ اللَّهُ مِنْ تَقْيِيدِ حُرْمَةِ الرَّبَائِبِ بِالدُّخُولِ بِالْأُمَّهَاتِ وَهُوَ أَيْ الْعَمَلُ بِالْإِطْلَاقِ قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ لِوُرُودِهَا مُطَلَّقَةً فِي قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أُمُّ الْمَرْأَةِ مُبْهَمَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَأَبْهِمُوهَا أَيْ حَالَ تَحْرِيمِهَا عَنْ قَيْدِ الدُّخُولِ الثَّابِتِ فِي الرَّبِيبَةِ فَأَطْلِقُوهَا وَعَلَيْهِ انْعَقَدَ إجْمَاعُ مَنْ بَعْدِهِمْ كَذَا فِي التَّقْوِيمِ وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرِهِ مِنْ شَرْطِ الدُّخُولِ بِالْبِنْتِ لِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ فِي الْأُمِّ فَذَلِكَ لَيْسَ بِطَرِيقِ الْحَمْلِ لَكِنْ بِاعْتِبَارِ الْعَطْفِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الْخَبَرِ وَلِأَنَّ الْمُقَيَّدَ أَوْجَبَ الْحُكْمَ ابْتِدَاءً يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُقَيَّدَ يُوجِبُ النَّفْيَ عِنْدَ عَدَمِ الْقَيْدِ بِدَلِيلِ انْتِفَاءِ الْجَوَازِ لِفَوَاتِهِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ بَلْ الْمُقَيَّدُ أَوْجَبَ الْحُكْمَ فِي مَحَلِّهِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لَهُ بِالنَّفْيِ عِنْدَ الْعَدَمِ. وَأَمَّا عَدَمُ جَوَازِ الْمُطْلَقِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْفِ فَلِكَوْنِهِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ وُرُودِ الْمُقَيَّدِ لَا لِأَنَّ النَّصَّ أَيْ الْمُقَيَّدَ نَفَاهُ فَإِنَّ الرَّقَبَةَ الْكَافِرَةَ إنَّمَا لَمْ تَجُزْ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ لِأَنَّهَا لَمْ تُشْرَعْ كَفَّارَةً كَمَا لَمْ يَجُزْ تَحْرِيمُ النِّصْفِ وَذَبْحُ الشَّاةِ لَا لِأَنَّ الْمُقَيَّدَ نَفْيُ جَوَازِهِ أَوْ الْكَفَّارَةُ فِي نَفْسِهَا وَقَدْرِهَا لَا تُعْرَفُ إلَّا شَرْعًا فَلَا يُحْتَاجُ إلَى الشَّرْعِ لِانْعِدَامِ كَفَّارَةٍ كَذَا فِي التَّقْوِيمِ صِيغَةً يَعْنِي عِبَارَةً وَإِشَارَةً وَلَا دَلَالَةَ لِأَنَّ النَّفْيَ ضِدُّ الْإِثْبَاتِ فَلَا يَثْبُتُ بِالدَّلَالَةِ ضِدُّ مُوجَبِ النَّصِّ وَلَا اقْتِضَاءً لِأَنَّ إثْبَاتَ الْحُكْمِ فِي مَحَلٍّ بِوَصْفٍ مُسْتَغْنٍ عَنْ النَّفْيِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْفِ فَإِنَّهُ لَوْ صُرِّحَ بِالْجَوَازِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْفِ لَا يَخْتَلُّ الْكَلَامُ شَرْعًا وَلَا عُرْفًا فَيَصِيرُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ أَيْ بِأَنَّ الْإِثْبَاتَ مُوجِبٌ لِلنَّفْيِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ احْتِجَاجًا بِلَا دَلِيلٍ لِأَنَّ السُّكُوتَ عَدَمٌ وَالْعَدَمُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ أَوْ لِأَنَّ إثْبَاتَ الْحُكْمِ بِالنَّصِّ مُقْتَصِرٌ عَلَى هَذِهِ الطُّرُقِ الْأَرْبَعَةِ فَمَا وَرَاءَهُ يَكُونُ احْتِجَاجًا بِلَا دَلِيلٍ بِمُقْتَضَى كُلِّ نَصٍّ أَيْ بِمُوجِبِهِ الْإِطْلَاقُ مِنْ الْمُطْلَقِ مَعْنًى مُتَعَيِّنٌ مَعْلُومٌ أَيْ الْإِطْلَاقُ لَيْسَ بِمَعْنَى الْإِجْمَالِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ مَعْلُومٌ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ وَهُوَ نَفْيٌ لِمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُطْلَقُ بِمَنْزِلَةِ الْمُجْمَلِ لِاحْتِمَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَفْرَادِ الدَّاخِلَةِ فِيهِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ غَيْرِ تَرَجُّحٍ لِلْبَعْضِ فَكَانَ كَالْمُشْتَرَكِ الَّذِي انْسَدَّ فِيهِ بَابُ التَّرْجِيحِ فَلَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ لَا بِالْبَيَانِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قِصَّةُ أَصْحَابِ الْبَقَرَةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا بِإِطْلَاقِهَا إلَّا بَعْدَ

وَلَا نُسَلِّمُ لَهُ أَنَّ الْقَيْدَ بِمَعْنَى الشَّرْطِ أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ {مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] مُعَرَّفٌ بِالْإِضَافَةِ فَلَا يَكُونُ الْقَيْدُ مُعَرَّفًا لِيُجْعَلَ شَرْطًا وَلِأَنَّا قُلْنَا: إنَّ الشَّرْطَ لَا يُوجِبُ نَفْيًا بَلْ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالشَّرْعِ ابْتِدَاءً فَأَمَّا الْعَدَمُ فَلَيْسَ بِشَرْعٍ وَلِأَنَّا إنْ سَلَّمْنَا لَهُ النَّفْيَ ثَابِتًا بِهَذَا الْقَيْدِ لَمْ يَسْتَقِمْ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى غَيْرِهِ إلَّا إذَا صَحَّتْ الْمُمَاثَلَةُ وَقَدْ جَاءَتْ الْمُفَارَقَةُ فِي السَّبَبِ وَهُوَ الْقَتْلُ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ الْكَبَائِرِ وَفِي الْحُكْمِ صُورَةٌ وَمَعْنًى حَتَّى وَجَبَ فِي الْيَمِينِ التَّخْيِيرُ وَدَخَلَ الطَّعَامُ فِي الْإِظْهَارِ دُونَ الْقَتْلِ فَبَطَل الِاسْتِدْلَال ـــــــــــــــــــــــــــــQالْبَيَانِ وَارْتِفَاعِ الِاشْتِبَاهِ فَقَالَ: الْإِطْلَاقُ مَعْنًى مَعْلُومٌ وَلَهُ حُكْمٌ مَعْلُومٌ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرِدْ الْمُقَيَّدُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِإِطْلَاقِهِ بِالِاتِّفَاقِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُتْرَكُ الْإِطْلَاقُ الَّذِي هُوَ دَلِيلٌ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ إلَى غَيْرِ الدَّلِيلِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْمَفْهُومِ كَمَا لَا يَجُوزُ تَرْكُ التَّقْيِيدِ لِإِثْبَاتِ حُكْمِ الْإِطْلَاقِ بِالِاتِّفَاقِ. وَقَوْلُهُ وَلَا نُسَلِّمُ لَهُ أَنَّ الْقَيْدَ بِمَعْنَى الشَّرْطِ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ الْقَيْدُ جَارٍ مَجْرَى الشَّرْطِ فَيُوجِبُ النَّفْيَ عِنْدَ الْعَدَمِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي إيجَابِ النَّفْيِ عِنْدَ الْعَدَمِ هُوَ الشَّرْطُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثُمَّ إنَّهُ أَلْحَقَ الْوَصْفَ بِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَجَعَلَهُ نَافِيًا لِلْحُكْمِ عِنْدَ الْعَدَمِ لِكَوْنِهِ بِمَعْنَى الشَّرْطِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فَالشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَنَعَ أَوَّلًا كَوْنَ الْقَيْدِ بِمَعْنَى الشَّرْطِ مُطْلَقًا فَقَالَ: لَا نُسَلِّمُ لَهُ أَيْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْقَيْدَ بِمَعْنَى الشَّرْطِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ فَإِنَّ الْقَيْدَ فِي قَوْله تَعَالَى {مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] لَيْسَ بِمَعْنَى الشَّرْطِ لِأَنَّ النِّسَاءَ مُعَرَّفَةٌ بِالْإِضَافَةِ إلَيْنَا فَلَا يَكُونُ الْقَيْدُ مُعَرَّفًا لِيُجْعَلَ شَرْطًا إذْ الْقَيْدُ إنَّمَا جُعِلَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ إذَا كَانَ مَا قُيِّدَ بِهِ مُنْكَرًا لَفْظًا وَمَعْنًى كَمَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ لِحُصُولِ التَّعْرِيفِ بِهِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ مُعَرَّفًا كَقَوْلِهِ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَلَيْسَ الْقَيْدُ فِيهِ بِمَعْنَى الشَّرْطِ بَلْ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة: 44] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْقَيْدَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ مِثْلُ قَيْدِ الْإِيمَانِ فِي مَسْأَلَتِنَا بِمَعْنَى الشَّرْطِ وَلِأَنَّا قُلْنَا يَعْنِي وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ بِمَعْنَى الشَّرْطِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الشَّرْطَ يُوجِبُ نَفْيًا أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا بَلْ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالشَّرْعِ ابْتِدَاءً يَعْنِي الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ يَثْبُتُ بِالشَّرْعِ ابْتِدَاءً لَا عَدَمُ شَيْءٍ يَتَحَقَّقُ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ شَيْءٍ آخَرَ لِأَنَّ الْعَدَمَ لَيْسَ بِشَرْعٍ لِتَحَقُّقِهِ قَبْلَ الشَّرْعِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْعَدَمُ حُكْمًا شَرْعِيًّا لَمْ يُمْكِنْ تَعْدِيَتِهِ إلَى الْغَيْرِ وَلِأَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ بِمَعْنَى الشَّرْطِ وَأَنَّهُ يُوجِبُ النَّفْيَ فِي مَحَلِّهِ وَأَنَّهُ يُمْكِنُ تَعْدِيَتُهُ لَا نُسَلِّمُ لَهُ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَثْبُتُ النَّفْيُ فِي غَيْرِ الْمَحَلِّ الْمَنْصُوصِ اسْتِدْلَالًا بِهِ إذَا ثَبَتَ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ بَلْ الْمُفَارَقَةُ تَثْبُتُ فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ صُورَةً وَمَعْنًى أَمَّا الْمُفَارَقَةُ فِي السَّبَبِ صُورَةً فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الظِّهَارَ وَالْيَمِينَ غَيْرُ الْقَتْلِ صُورَةً. وَكَذَا مَعْنًى لِأَنَّ الْقَتْلَ بِغَيْرِ حَقٍّ مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْجِنَايَةِ كَالظِّهَارِ وَالْيَمِينِ وَلَا يُقَالُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْقَتْلَ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ الْكَفَّارَةُ وَهُوَ الْقَتْلُ خَطَأً أَعْظَمُ جِنَايَةً مِنْ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ لِأَنَّ عِنْدَ الْخَصْمِ الْكَفَّارَةَ تَتَعَلَّقُ بِالْقَتْلِ بِالْعَمْدِ كَمَا تَتَعَلَّقُ بِالْخَطَأِ وَبِالْيَمِينِ الْغَمُوسِ كَمَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَعْقُودَةِ وَالْقَتْلُ الْعَمْدُ أَعْظَمُ مِنْ الْغَمُوسِ وَلَمَّا ثَبَتَ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا تَثْبُتُ بَيْنَ الْقَتْلِ الْخَطَأِ وَالْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ أَيْضًا. وَأَمَّا الْمُفَارَقَةُ فِي الْحُكْمِ صُورَةً فَلِأَنَّ حُكْمَ الْقَتْلِ وُجُوبُ التَّحْرِيرِ وَالصَّوْمُ عَلَى التَّرْتِيبِ مُقْتَصَرًا عَلَيْهِمَا وَحُكْمُ الظِّهَارِ وُجُوبُ التَّحْرِيرِ وَالصَّوْمُ وَالْإِطْعَامُ وَهَذَا مُفَارِقٌ لِلْأَوَّلِ وَكَذَا حُكْمُ الْيَمِينِ وُجُوبُ الْبِرِّ ثُمَّ الْكَفَّارَةُ بِأَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَهُوَ مُفَارِقٌ لِحُكْمِ الْقَتْلِ أَيْضًا وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ فِي هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ ضَرْبَ تَيْسِيرٍ فَإِنَّ لِلطَّعَامِ مَدْخَلًا فِي الظِّهَارِ عِنْدَ الْعَجْزِ وَالتَّخْيِيرُ ثَابِتٌ فِي الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ فِي الْيَمِينِ مَعَ النَّقْلِ إلَى صَوْمِ الثَّلَاثَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ وَلَيْسَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّيْسِيرِ فِي الْقَتْلِ وَإِذَا ثَبَتَتْ الْمُفَارَقَةُ بَيْنَهُمَا

فَإِنْ قَالَ: أَنَا أُعَدِّي الْقَيْدَ الزَّائِدَ ثُمَّ النَّفْيُ يَثْبُتُ بِهِ قِيلَ لَهُ: إنَّ التَّقْيِيدَ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّحْرِيمِ بِالْكَافِرَةِ لِمَا قُلْنَا لَكِنْ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ وَقَدْ شُرِعَ فِي الْمُطْلَقِ لَمَّا أُطْلِقَ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَال إذْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْمُمَاثَلَةِ وَذُكِرَ فِي الْأَسْرَارِ وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِيهَا يَعْنِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ وُجُوهٍ لِأَنَّ الْحَوَادِثَ كُلَّهَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فَلَا قِيَاسَ لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يُوجِبُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ وَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَلِأَنَّ الْحُكْمَ مِمَّا لَا يُعْرَفُ بِالْقِيَاسِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى إثْبَاتِ قَدْرِ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ الْوَصْفَ زِيَادَةٌ مَعْنًى كَالْقَدْرِ وَكَمَا لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ زِيَادَةِ الْقَدْرِ بِالْقِيَاسِ كَذَلِكَ الْوَصْفُ وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَصَارَتْ الصَّلَوَاتُ كُلُّهَا عَلَى هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَاتُ مِقْدَارًا عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَاتِ وَإِنْ اتَّفَقَتْ اسْمًا فَهِيَ مُخْتَلِفَةُ الْجِنْسِ حُكْمًا لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِأَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةِ الْجِنْسِ مِنْ يَمِينٍ وَظِهَارٍ وَقَتْلٍ وَإِفْطَارٍ وَالْحُكْمُ يَخْتَلِفُ جِنْسُهُ بِاخْتِلَافِ سَبَبِهِ وَإِذَا اخْتَلَفَ لَمْ يَكُنْ الْوَاجِبُ بِهَا سَوَاءً فَلَمْ يَجُزْ رَدُّ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ كَمَا لَمْ يُرَدَّ إلَى الْكَفَّارَةِ النَّذْرُ. فَالْمَقَايِيسُ بَاطِلَةٌ بِمَا ذَكَرْنَا وَالِاسْتِدْلَالُ بَاطِلٌ بِهَذَا الْوَجْهِ الْخَاصِّ وَهُوَ أَنَّ الْجِنْسَ مُخْتَلِفٌ حُكْمًا وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ الِاخْتِلَافِ فِي الْإِطْعَامِ وَقَدْرُ الصِّيَامِ عَلَى أَنَّ بَابَ الْقَتْلِ مُغَلِّظٌ قَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ فِي أَنْوَاعِ الْكَفَّارَةِ وَفِي وُجُوبِ التَّرْتِيبِ وَهَذَا مُخَفَّفٌ وَلَمْ يَجُزْ قِيَاسُ مَا خُفِّفَ فِيهِ عَلَى مَا غُلِّظَ لِإِثْبَاتِ التَّغْلِيظِ وَلَوْ احْتَمَلَ الْقِيَاسُ لَكَانَ الْيَدُ لَنَا لِأَنَّ التَّحْرِيرَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَخَفَّ مِنْ الْقَتْلِ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ أَنْوَاعِهِ وَكَانَ أَخْذُ حُكْمِ الْيَمِينِ مِنْ حُكْمِ الْيَمِينِ أَوْلَى مِنْ أَخْذِهِ مِنْ الْقَتْلِ وَقَالَ: هَذَا إنْ سَلَّمْنَا لَهُمْ أَنَّ الْمُطْلَقَ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَعِنْدَنَا لَا يُحْمَلُ بَلْ كُلٌّ يَعْمَلُ بِنَفْسِهِ وَإِنْ كَانَا فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَا حُكْمَيْنِ قَوْلُهُ (فَإِنْ قَالَ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ أَمَّا الْعَدَمُ فَلَيْسَ بِشَرْعٍ يَعْنِي لَوْ قَالَ: أَنَا لَا أُعَدِّي الْعَدَمَ الَّذِي زَعَمْت أَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ بَلْ أُعَدِّي الْقَيْدَ الزَّائِدَ عَلَى الْمُطْلَقِ وَهُوَ قَيْدُ الْإِيمَانِ ثُمَّ النَّفْيُ يَثْبُتُ بِهِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ كَمَا ثَبَتَ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ يُقَالُ لَهُ إنْ سَلَّمْنَا صِحَّةَ هَذِهِ التَّعَدِّيَةِ وَثُبُوتِ الْقَيْدِ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ تَحْرِيرِ الْكَافِرَةِ هَاهُنَا أَيْضًا لِأَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَعْنِي كَفَّارَةَ الْقَتْلِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ مَنْعِ الْقَيْدِ عَنْ الْجَوَازِ لِمَا قُلْنَا: إنَّ الْمُقَيَّدَ يُوجِبُ الْحُكْمَ ابْتِدَاءً غَيْرُ مُتَعَرِّضٍ لِلنَّفْيِ لَكِنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ لِعَدَمِ الشَّرْعِيَّةِ وَهَاهُنَا الشَّرْعِيَّةُ ثَابِتَةٌ بِدَلَالَةِ وُرُودِ الْمُطْلَقِ فَكَانَ الْجَوَازُ ثَابِتًا فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لَيْسَ إلَّا نَصٌّ مُقَيَّدٌ فَيَثْبُتُ مُوجِبُهُ وَبَقِيَ مَا وَرَاءَهُ عَلَى الْعَدَمِ وَهَاهُنَا بَعْدَ التَّعْدِيَةِ يَجْتَمِعُ نَصَّانِ مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ تَقْدِيرًا لِأَنَّ تَعْدِيَةَ الْقَيْدِ إنْ سُلِّمَتْ لَا تَصْلُحُ لِإِبْطَالِ الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ الرَّأْيَ لَا يَصْلُحُ مُبْطِلًا لِلنَّصِّ بِوَجْهٍ فَصَارَ بَعْدَ التَّعْدِيَةِ كَأَنَّهُ اجْتَمَعَ مِنْهُ مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ فَيَثْبُتُ مُوجِبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَجُوزُ تَحْرِيرُ الْكَافِرَةِ بِالنَّصِّ الْمُطْلَقِ وَتَحْرِيرُ الْمُؤْمِنَةِ بِهِ وَبِالنَّصِّ الْمُقَيَّدِ أَيْضًا. وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ الشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَكِنْ يَلْزَمُ مِنْهُ اجْتِمَاعُ الْمُقَيَّدِ وَالْمُطْلَقِ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْحَمْلِ لَا مَحَالَةَ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَنُبَيِّنُ بَعْدُ فَكَانَ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ وَالتَّعْدِيَةَ فَاسِدَةٌ لِلْمُفَارَقَةِ وَلِلْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَسْرَارِ إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ تَسَامَحَ فِيهِ لِأَنَّ التَّعْدِيَةَ لَمَّا فَسَدَتْ لَا يَلْزَمُ اجْتِمَاعُ الْمُقَيَّدِ وَالْمُطْلَقِ فِي التَّحْقِيقِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ظَاهِرًا عَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فَتَسَاهَلَ فِي جَوَابِهِ فَإِنْ قِيلَ لَعَلَّ مِنْ مَذْهَبِ الشَّيْخِ عَدَمَ جَوَازِ الْحَمْلِ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ أَيْضًا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ هَذَا الْجَوَابُ. وَقَوْلُهُ أَبَدًا قُلْنَا مَنَعَ مِنْ هَذَا الِاحْتِمَالِ قَوْلُهُ

فَصَارَتْ التَّعْدِيَةُ لِمَعْدُومٍ لَا يَصْلُحُ حُكْمًا شَرْعِيًّا فَكَانَ هَذَا أَبْعَدَ مِمَّا سَبَقَ وَهَذَا أَمْرٌ ظَاهِرُ التَّنَاقُضِ فَأَمَّا قَيْدُ الْإِسَامَةِ فَلَمْ يُوجِبُ نَفْيًا عِنْدَنَا لَكِنَّ السُّنَّةَ الْمَعْرُوفَةَ فِي إبْطَالِ الزَّكَاةِ عَنْ الْعَوَامِلِ أَوْجَبَتْ نَسْخَ الْإِطْلَاقِ وَكَذَلِكَ قَيْدُ الْعَدَالَةِ لَمْ يُوجِبْ النَّفْيَ لَكِنَّ نَصَّ الْأَمْرِ بِالتَّثَبُّتِ فِي نَبَأِ الْفَاسِقِ أَوْجَبَ نَسْخَ الْإِطْلَاقِ وَكَذَلِكَ قَيْدُ التَّتَابُعِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارَةِ لَمْ يُوجِبْ نَفْيًا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بَلْ يَثْبُتُ زِيَادَةٌ عَلَى الْمُطْلَقِ بِحَدِيثٍ مَشْهُورٍ وَهُوَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَا قُلْنَا فِي صَدَقَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِيمَا بَعْدُ بِخُطُوطٍ وَالْحُكْمُ الْوَاحِدُ لَا يَقْبَلُ وَصْفَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ فَإِذَا ثَبَتَ تَقْيِيدُهُ بَطَلَ إطْلَاقُهُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ أَيْضًا بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاجْتِمَاعِ لَا يُوجِبُ الْحَمْلَ فَإِنَّ مِنْ شَرْطِهِ اسْتِوَاءَهُمَا فِي الدَّرَجَةِ وَلَمْ يُوجَدْ أَلَا تَرَى أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ لَا تَجُوزُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِاسْتِلْزَامِهِ إبْطَالَ الْإِطْلَاقِ الْقَطْعِيِّ بِالدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ إبْطَالُهُ بِالْقَيْدِ الثَّابِتِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ بِالْقَيْدِ الثَّابِتِ بِالرَّأْيِ الَّذِي هُوَ دُونَهُ كَانَ أَوْلَى فَصَارَتْ التَّعْدِيَةُ لِمَعْدُومٍ وَهَذِهِ اللَّامُ تَتَعَلَّقُ بِالتَّعْدِيَةِ وَهِيَ فِي: لِإِبْطَالِ الْعَاقِبَةِ. وَقَوْلُهُ لِإِبْطَالِ مَعَ مُتَعَلِّقِهِ خَبَرُ صَارَ أَيْ صَارَتْ تَعْدِيَةُ الشَّافِعِيِّ عَدَمَ الْجَوَازِ الَّذِي لَا يَصْلُحُ حُكْمًا شَرْعِيًّا مِنْ الْمُقَيِّدِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ إلَى الْمُطْلَقِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينُ تَعْدِيَةٌ لِأَجْلِ إبْطَالِ مَوْجُودٍ يَصْلُحُ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَهُوَ الْإِطْلَاقُ أَوْ جَوَازُ التَّحْرِيرِ لِلْكَافِرَةِ يَعْنِي أَدَّى تِلْكَ التَّعْدِيَةُ إلَى الْإِبْطَالِ وَآلَ عَاقِبَتُهَا إلَيْهِ. أَوْ اللَّامُ فِي الْمَعْدُومِ هِيَ الدَّالَّةُ عَلَى الْغَرَضِ أَيْ صَارَتْ تَعْدِيَةُ الشَّافِعِيِّ وَصْفَ الْإِيمَانِ مِنْ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ إلَى غَيْرِهَا تَعْدِيَةً لِأَجْلِ مَعْدُومٍ لَا يَصْلُحُ حُكْمًا شَرْعِيًّا أَيْ الْغَرَضُ مِنْ التَّعْدِيَةِ إثْبَاتُ ذَلِكَ الْمَعْدُومِ لِإِبْطَالِ الْمَوْجُودِ وَهُوَ وَصْفُ الْإِطْلَاقِ لَا إثْبَاتُ الْمُعَدَّى وَهُوَ جَوَازُ الْمُؤْمِنَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ بِدُونِ التَّعْدِيَةِ فَكَانَ هَذَا أَبْعَدَ عَنْ الصَّوَابِ مِمَّا سَبَقَ وَهُوَ إضَافَةُ عَدَمِ الْحُكْمِ إلَى عَدَمِ الشَّرْطِ أَوْ الْوَصْفِ لِأَنَّ فِيمَا سَبَقَ إنْ وُجِدَ الْعَمَلُ بِالْمَسْكُوتِ الَّذِي لَيْسَ بِدَلِيلٍ فَلَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حُكْمٍ مَوْجُودٍ وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ وُجِدَ الْأَمْرَانِ وَهَذَا أَمْرٌ ظَاهِرُ التَّنَاقُضِ أَيْ اعْتِبَارُ مَا لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَتَعْدِيَتُهُ لِإِبْطَالِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ أَمْرٌ مُتَنَاقِضٌ لِأَنَّ فِيهِ اعْتِبَارَ مَا وَجَبَ إسْقَاطُهُ وَإِهْدَارُهُ وَإِهْدَارُ مَا وَجَبَ اعْتِبَارُهُ وَالسُّنَّةُ الْمَعْرُوفَةُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَيْسَ فِي الْعَوَامِلِ وَالْحَوَامِلِ وَلَا فِي الْبَقَرِ الْمُثِيرَةِ صَدَقَةٌ» وَمَا رَوَى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «وَفِي الْبَقَرِ فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ وَفِي الْأَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ وَلَيْسَ عَلَى الْعَوَامِلِ شَيْءٌ» 1 - قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ قَيْدُ التَّتَابُعِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ لَمْ يُوجِبْ نَفْيًا) أَيْ نَفْيًا لِلْجَوَازِ بِدُونِهِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ يَعْنِي لَمْ يَثْبُتْ اشْتِرَاطُ التَّتَابُعِ فِي صَوْمِ الْيَمِينِ بِحَمْلِهِ عَلَى صَوْمِ الظِّهَارَةِ وَالْقَتْلِ بَلْ ثَبَتَ زِيَادَةً عَلَى الْمُطْلِقِ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ كَمَا ثَبَتَ زِيَادَةُ اشْتِرَاطِ الْوَطْءِ عَلَى قَوْله تَعَالَى {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] بِحَدِيثِ الْعُسَيْلَةِ وَقِرَاءَتُهُ إنْ لَمْ يَثْبُتْ قُرْآنًا بَقِيَتْ خَبَرًا مُسْنَدًا لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ مَنْقُولَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالزِّيَادَةَ بِالْخَبَرِ الْمُسْنَدِ صَحِيحَةٌ إذَا كَانَ مُشْتَهِرًا وَقِرَاءَتُهُ كَانَتْ مُشْتَهِرَةً فِي السَّلَفِ حَتَّى كَانَتْ تُتَعَلَّمُ فِي الْمَكَاتِبِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ إنْ نَقَلَهُ مِنْ الْقُرْآنِ فَهُوَ خَطَأٌ قَطْعًا لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَى الرَّسُولِ تَبْلِيغُ الْقُرْآنِ إلَى جَمَاعَةٍ تَقُومُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِمْ وَكَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ مُنَاجَاةُ الْوَاحِدِ وَإِنْ لَمْ يَنْقُلْهُ مِنْ الْقُرْآنِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَذْهَبًا لَهُ لِدَلِيلٍ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ وَاحْتَمَلَ الْخَبَرُ وَمَا تَرَدَّدَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا أَوْ لَا يَكُونَ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ وَإِنَّمَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِمَا يُصَرِّحُ الرَّاوِي بِسَمَاعِهِ قُلْت: هَذَا كَلَامٌ وَاهٍ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ نَقَلَهُ وَحْيًا مَتْلُوًّا مَسْمُوعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ وَحْيًا مَتْلُوًّا لِعَدَمِ شَرْطِهِ وَهُوَ التَّوَاتُرُ يَبْقَى كَلَامًا مَسْمُوعًا مِنْ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَنْقُولًا عَنْهُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ خَبَرٍ رَوَاهُ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ وَجَبَ عَلَى الرَّسُولِ التَّبْلِيغُ إلَى جَمَاعَةٍ تَقُومُ الْحُجَّةُ

الْفِطْرِ: إنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ مُطْلَقًا» وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَعَمَلُنَا نَحْنُ بِهِمَا بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَإِنَّا لَمْ نَجْمَعْ بَيْنَ قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِنْ الْقُرَّاءِ الْمَعْرُوفَةِ لِيَجُوزَ الْأَمْرَانِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّصَّيْنِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَرَدَا فِي الْحُكْمِ وَالْحُكْمُ هُوَ الصَّوْمُ فِي وُجُوهٍ لَا يَقْبَلُ وَصْفَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ فَإِذَا ثَبَتَ تَقْيِيدُهُ بَطَلَ إطْلَاقُهُ وَفِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ دَخَلَ النَّصَّانِ عَلَى السَّبَبِ وَلَا مُزَاحَمَةَ فِي الْأَسْبَابِ فَوَجَبَ الْجَمْعُ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِقَوْلِهِمْ مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ لِمَ قُلْت: إنَّهُ لَمْ يُبَلِّغْ بَلْ بَلَّغَ وَلَكِنْ أَنْسَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْقُلُوبِ نَسْخًا لِتِلَاوَتِهِ سِوَى قَلْبِ ابْنِ مَسْعُودٍ إبْقَاءً لِحُكْمِهِ كَمَا قُلْنَا جَمِيعًا بِنَسْخِ تِلَاوَةِ الشَّيْخِ وَالشَّيْخَةِ إذَا زَانَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَبَقَاءُ حُكْمِهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَإِنَّكُمْ قَدْ قَبِلْتُمْ خَبَرَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: أُنْزِلَ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مُحَرِّمَاتٌ فَنُسِخْنَ بِخَمْسٍ وَكَانَ مِمَّا يُتْلَى مَعَ أَنَّ عَائِشَةَ نَسِيَتْ النَّظْمَ أَيْضًا فَخَبَرُ ابْنِ مَسْعُودٍ مَعَ حِفْظِهِ النَّظْمَ كَانَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ. وَكَيْفَ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ نَقْلٌ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِ إذْ لَا يُظَنُّ بِأَحَدٍ مِنْ عَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ يَزِيدُ حَرْفًا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِ ذَلِكَ فَكَيْفَ يُظَنُّ ذَلِكَ بِمَنْ هُوَ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ وَأَجِلَّائِهِمْ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ سُقُوطِ الْإِطْلَاقِ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَدَمُ سُقُوطِهِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَإِنَّا عَمِلْنَا بِالْحَدِيثَيْنِ فِيهَا فَأَوْجَبْنَاهَا بِسَبَبِ الْعَبْدِ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ وَلَمْ نَعْمَلْ بِالْقِرَاءَتَيْنِ فِي الْيَمِينِ بَلْ عَمِلْنَا بِالْمُقَيِّدَةِ وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ حَمْلًا لِلْمُطَلَّقَةِ عَلَيْهَا لِأَنَّ النَّصَّيْنِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَرَدَا فِي الْحُكْمِ وَهُوَ الصَّوْمُ الْوَاجِبُ بِالْيَمِينِ وَهُوَ فِي وُجُودِهِ أَعْنِي وُجُوبَهُ فِي نَفْسِهِ لَا يَقْبَلُ وَصْفَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ لِأَنَّهُ حُكْمٌ وَاحِدٌ غَيْرُ مُتَعَدِّدٍ وَالْإِطْلَاقُ وَالتَّقْيِيدُ ضِدَّانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَلَوْ عَمِلْنَا بِالنَّصَّيْنِ يَلْزَمُ صَوْمُ سِتَّةِ أَيَّامٍ ثَلَاثَةٍ بِالْمُطْلَقِ وَثَلَاثَةٍ بِالْمُقَيَّدِ وَذَلِكَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُقَيَّدَ انْصَرَفَ مَا انْصَرَفَ إلَيْهِ الْآخَرُ وَأَوْجَبَ تَقْيِيدَ ذَلِكَ الصَّوْمِ بِعَيْنِهِ فَإِذَا صَارَ ذَلِكَ الصَّوْمُ مُقَيَّدًا لَمْ يَبْقَ مُطْلَقًا ضَرُورَةً فَأَمَّا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَأَحَدُ النَّصَّيْنِ جَعَلَ الرَّأْسَ الْمُطْلَقَ سَبَبًا وَالْآخَرُ جَعَلَ رَأْسَ الْمُسْلِمِ سَبَبًا وَلَا مُزَاحَمَةَ أَيْ لَا تَنَافِي فِي الْأَسْبَابِ إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ أَسْبَابٌ مُتَعَدِّدَةٌ شَرْعًا وَحِسًّا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ كَالْمِلْكِ وَالْمَوْتِ وَإِذَا انْتَفَتْ الْمُزَاحَمَةُ وَجَبَ الْجَمْعُ فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا أَوْجَبْتُمْ التَّتَابُعَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ كَمَا أَوْجَبَ الْبَعْضُ بِقِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] مُتَتَابِعَةٌ مَعَ أَنَّ التَّقْيِيدَ وَالْإِطْلَاقَ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ. قُلْنَا: قِرَاءَتُهُ شَاذَّةٌ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ وَبِمِثْلِهَا لَا تَثْبُتُ الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ فَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدْ كَانَتْ مَشْهُورَةً إلَى زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَتَّى كَانَ الْأَعْمَشُ يَقْرَأُ خَتْمًا عَلَى حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَخَتْمًا مِنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَالزِّيَادَةُ عِنْدَنَا يَثْبُتُ بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْمُقَيَّدِ أَدَّى إلَى إلْغَاءِ الْمُقَيَّدِ فَإِنَّ حُكْمَهُ يُفْهَمُ مِنْ الْمُطْلَقِ أَلَا تَرَى أَنَّ حُكْمَ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ يُسْتَفَادُ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الْعَبْدِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ كَمَا يُسْتَفَادُ حُكْمُ الْكَافِرِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَبْقَ فِي ذِكْرِ الْمُقَيَّدِ فَائِدَةٌ قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ: وُرُودُ الْمُقَيَّدِ يُعْمَلُ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُطْلَقٌ وَبَعْدَ وُرُودِهِ يُعْمَلُ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُقَيَّدٌ وَفِيهِ فَائِدَةٌ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْمُقَيَّدُ دَلِيلًا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالْفَضْلِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ عَزِيمَةٌ وَالْمُطْلَقَ رُخْصَةٌ وَيَجُوزُ ذَلِكَ مَتَى أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهَا جَمِيعًا وَاحْتِمَالُ الْفَائِدَةِ قَائِمٌ لَا يُجْعَلُ النَّصَّانِ نَصًّا وَاحِدًا كَيْفَ وَالْحَمْلُ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ صِفَةِ الْإِطْلَاقِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَبْقَ مَعْمُولًا وَعَدَمُ الْحَمْلِ لَا يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ شَيْءٍ فَكَانَ أَوْلَى إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْمِيزَانِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّكُمْ قَدْ حَمَلْتُمْ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيِّدِ فِي قَوْلِهِ

وَهَذَا نَظِيرُ مَا سَبَقَ أَنَّا قُلْنَا: إنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لَا يُوجِبُ النَّفْيَ فَصَارَ الْحُكْمُ الْوَاحِدُ مُعَلَّقًا وَمَرَّ سَلَفًا مِثْلُ نِكَاحِ الْأَمَةِ تَعَلَّقَ بِعَدَمِ طَوْلِ الْحُرَّةِ بِالنَّصِّ وَبَقِيَ مُرْسَلًا مَعَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ وَالتَّعْلِيقَ يَتَنَافَيَانِ وُجُودًا فَأَمَّا قَبْلَ ابْتِدَاءِ وُجُودِهِ فَهُوَ مُعَلَّقٌ أَيْ مَعْدُومٌ وَيَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ وُجُودُهُ وَمُرْسَلٌ عَنْ الشَّرْطِ أَيْ مُحْتَمِلٌ لِلْوُجُودِ قَبْلَهُ وَالْعَدَمُ الْأَصْلِيُّ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْوُجُودِ وَلَمْ يَتَبَدَّلْ الْعَدَمُ فَصَارَ مُحْتَمِلًا لِلْوُجُودِ بِطَرِيقَتَيْنِ ـــــــــــــــــــــــــــــQ- عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» حَيْثُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا يَجْرِي التَّحَالُفُ حَالَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ مَعَ أَنَّ الْإِطْلَاقَ وَالْقَيْدَ فِي السَّبَبِ أَوْ الشَّرْطِ دُونَ الْحُكْمِ قُلْنَا: مَا حَمَلْنَا الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَلَكِنْ فَهِمْنَا بِإِشَارَةِ النَّصِّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمُطْلَقِ مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ الْمُقَيَّدِ فَإِنَّ قَوْلَهُ وَتَرَادَّا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمَدَارَ مِنْهُ إيجَابُ التَّحَالُفِ حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ لِأَنَّ التَّرَادَّ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي حَالِ قِيَامِهَا وَقَدْ تَرَكَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَصْلَهُ هَاهُنَا حَيْثُ قَالَ: يَجْرِي التَّحَالُفُ حَالَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ كَمَا يَجْرِي حَالَ قِيَامِهَا وَلَمْ يَحْمِلْ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيِّدِ مُعْتَذِرًا بِأَنَّ التَّحَالُفَ وَجَبَ لِبَيَانِ الثَّمَنِ وَالِاشْتِبَاهُ حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ أَقَلُّ مِنْ الِاشْتِبَاهِ حَالَ هَلَاكِهَا لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَعَرُّفُ الثَّمَنِ مِنْ الْقِيمَةِ إذْ بِيَاعَاتُ النَّاسِ تَكُونُ بِالْقِيمَةِ فِي الْأَغْلَبِ فَإِيجَابُ التَّحَالُفِ حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ مَعَ قِلَّةِ الِاشْتِبَاهِ يَكُونُ إيجَابًا لَهُ حَالَ هَلَاكِهَا دَلَالَةً. وَلَكِنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: هَذَا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْبِيَاعَاتِ بِالْقِيمَةِ فِي الْأَغْلَبِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَبِيعُ مَالَهُ بِأَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ وَيَشْتَرِي بِأَكْثَرَ مِنْهَا لِلْحَاجَةِ وَلِهَذَا لَمْ يَرْجِعْ إلَى الْقِيمَةِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ بِالْقِيمَةِ غَالِبًا لَرَجَعَ إلَيْهَا بَلْ التَّحَالُفُ مُوجِبٌ لِلْفَسْخِ وَالْعَقْدُ إنَّمَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ دُونَ هَلَاكِهَا فَإِيجَابُ مَا يُؤَدِّي إلَى الْفَسْخِ حَالَ قَبُولِ الْعَقْدِ إيَّاهُ لَا يَكُونُ إيجَابًا لَهُ فِي حَالٍ لَا يَقْبَلُهُ كَذَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لِأَبِي الْيُسْرِ قَوْلُهُ (وَهَذَا نَظِيرُ مَا سَبَقَ) أَدْرَجَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا الْكَلَامِ جَوَابَ سُؤَالٍ يَرُدُّ عَلَى مَسْأَلَةِ تَعْلِيقِ نِكَاحِ الْأَمَةِ بِعَدَمِ طَوْلِ الْحُرَّةِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ هُنَاكَ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَمَّا عَلَّقَ حِلَّ الْأَمَةِ بِشَرْطِ عَدَمِ الطَّوْلِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ الْحِلُّ بِعَيْنِهِ ثَابِتًا قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِقَوْلِهِ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنَجَّزًا وَمُعَلَّقًا كَالْقِنْدِيلِ إذَا عُلِّقَ لَا يَبْقَى مَوْضُوعًا فِي الْمَكَانِ فَقَالَ: وَهَذَا أَيْ الْعَمَلُ بِالْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ الْوَارِدَيْنِ فِي السَّبَبِ وَعَدَمُ حَمْلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ نَظِيرُ مَا سَبَقَ أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لَمَّا لَمْ يُوجِبْ النَّفْيَ عِنْدَ عَدَمِهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ قَبْلَ وُجُودِهِ مُعَلَّقًا وَمُرْسَلًا مِثْلُ نِكَاحِ الْأَمَةِ تَعَلَّقَ بِطَوْلِ الْحُرَّةِ أَيْ بِعَدَمِ طَوْلِهَا بَقِيَ مُرْسَلًا أَيْ مُطْلَقًا عَنْ الشَّرْطِ مَعَ ذَلِكَ أَيْ مَعَ تَعَلُّقِهِ بِالشَّرْطِ يَعْنِي جَوَازُ نِكَاحِهَا قَبْلَ وُجُودِهِ مُتَعَلِّقٌ بِالشَّرْطِ وَغَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِهِ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ وَالتَّعْلِيقَ يَتَنَافَيَانِ وُجُودًا يَعْنِي وُجُودُ الْحُكْمِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِالْإِرْسَالِ وَالتَّعْلِيقِ جَمِيعًا كَالْمِلْكِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ جَمِيعًا لِاسْتِحَالَةِ ثُبُوتِ مَعْلُولٍ وَاحِدٍ بِعِلَّتَيْنِ تَامَّتَيْنِ. فَأَمَّا قَبْلَ ثُبُوتِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ فَكَذَا مَا عُلِّقَ بِالشَّرْطِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ وُجُودِهِ مُعَلَّقًا أَيْ مَعْدُومًا يَتَعَلَّقُ وُجُودُهُ بِالشَّرْطِ وَمُرْسَلًا أَيْ مُحْتَمِلًا لِلْوُجُودِ قَبْلَ الشَّرْطِ بِسَبَبٍ آخَرَ كَالطَّلْقَاتِ الثَّلَاثَةِ الْمُعَلَّقَةِ بِالشَّرْطِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَتَحَقَّقَ وُجُودُهَا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُوجَدَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِالتَّنْجِيزِ. وَكَذَا الْعِتْقُ فَكَذَا جَوَازُ نِكَاحِ الْأَمَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَدَمَ الْأَصْلِيَّ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْوُجُودِ بِطَرِيقِ الْإِرْسَالِ قَبْلَ التَّعْلِيقِ وَبَعْدَ التَّعْلِيقِ لَمْ يَتَبَدَّلْ ذَلِكَ الْعَدَمُ فَيَبْقَى مُحْتَمِلًا لِلْوُجُودِ بِطَرِيقَيْنِ

وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي كُلِّ حُكْمِ قَبْلِ وُجُودِهِ بِطَرِيقَيْنِ وَطُرُقِ كَثِيرَة وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ صَوْمَ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ غَيْرُ مُتَتَابِعٍ، وَلَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ وَهَذَا مُتَنَاقِضٌ فَإِنْ قَالَ: إنَّ الْأَصْلَ مُتَعَارِضٌ؛ لِأَنِّي وَجَدْتُ صَوْمَ الْمُتْعَةِ لَا يَصِحُّ إلَّا مُتَفَرِّقًا قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ صَوْمَ السَّبْعَةِ قَبْلَ أَيَّامِ النَّحْرِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ لَا لِأَنَّ التَّفْرِيقَ وَاجِبٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أُضِيفَ إلَى وَقْتٍ بِكَلِمَةِ إذَا فَكَانَ كَالظُّهْرِ لَمَّا أُضِيفَ إلَى وَقْتٍ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا قَبْلَهُ وَذَلِكَ مَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ وَأَحْكَامُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ إلَى الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ وَهَذَا ـــــــــــــــــــــــــــــQوَهُمَا الْإِرْسَالُ وَالتَّعْلِيقُ كَمَا كَانَ وَذَلِكَ أَيْ احْتِمَالُ الْوُجُودِ جَائِزٌ أَيْ ثَابِتُ كُلِّ حُكْمٍ قَبْلَ ثُبُوتِهِ بِطَرِيقَتَيْنِ وَأَكْثَرَ كَالْمِلْكِ قَبْلَ أَنْ يَثْبُتَ يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ وَغَيْرِهَا قَوْلُهُ (وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ) ثُمَّ ذَكَرَ الشَّيْخُ مَا يَرِدُ نَقْضًا عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - صَوْمُ الْيَمِينِ غَيْرُ مُتَتَابِعٍ فِي قَوْلٍ عَمَلًا بِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] وَلَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى صَوْمِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ الْمُقَيَّدَيْنِ بِالتَّتَابُعِ كَمَا حَمَلَ الرَّقَبَةَ الْمُطْلَقَةِ فِي الْيَمِينِ عَلَى الْمُقَيَّدَةِ بِالْإِيمَانِ فِي الْقَتْلِ وَهَذَا مِنْهُ تَنَاقُضٌ لِأَنَّهُ قَوْلٌ بِوُجُوبِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيِّدِ وَعَدَمِ وُجُوبِهِ وَاعْتَذَرَ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُطْلَقَ إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ إذَا كَانَ لَهُ أَصْلٌ وَاحِدٌ فِي الْمُقَيَّدَاتِ وَكَانَ مِثْلَهُ فِي الْقُوَّةِ فَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ أَصْلَانِ مُتَعَارِضَانِ فِي التَّقْيِيدِ فَلَا لِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ وَهَاهُنَا الصَّوْمُ الْمُطْلَقُ وَقَعَ بَيْنَ صَوْمَيْنِ مُقَيَّدَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي التَّقْيِيدِ. أَحَدُهُمَا صَوْمُ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ الْمُقَيَّدِ بِالتَّتَابُعِ وَالْآخَرُ صَوْمُ التَّمَتُّعِ الْمُقَيَّدِ بِالتَّفْرِيقِ فَلَمْ يُمْكِنْ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَبَقِيَ عَلَى إطْلَاقِهِ فَجَازَ التَّفْرِيقُ وَالتَّتَابُعُ قَالَ: وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ أَيْضًا بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ لِفَوَاتِ الِاسْتِوَاءِ فِي الدَّرَجَةِ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا خَبَرٌ وَاحِدٌ أَوْ خَبَرٌ مَشْهُورٌ وَالْآخَرُ نَصٌّ قَاطِعٌ فَرَدَّ الشَّيْخُ اعْتِذَارَهُ وَقَالَ: لَيْسَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى صَوْمٌ مُقَيَّدٌ بِالتَّفْرِيقِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ صَوْمَ الْمُتْعَةِ مُتَفَرِّقٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ صَامَ الْعَشَرَةَ بَعْدَ الرُّجُوعِ جُمْلَةً جَازَ عِنْدَهُ وَلَوْ صَامَهَا مُتَفَرِّقَةً قَبْلَ الرُّجُوعِ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِالتَّفْرِيقِ إلَّا أَنَّهُ أَعْنِي صَوْمَ الْمُتْعَةِ صَوْمَانِ مُطْلَقَانِ مُؤَقَّتَانِ أَحَدُهُمَا وَقْتُهُ وَقْتُ الْحَجِّ وَالْآخَرُ وَقْتُهُ بَعْدَ الرُّجُوعِ فَإِنَّ صَوْمَ السَّبْعَةِ أُضِيفَ إلَى وَقْتٍ بِكَلِمَةِ إذَا وَأَنَّهَا لِلْوَقْتِ فَلَمْ يَجُزْ الْأَدَاءُ قَبْلَهُ لِعَدَمِ شَرْعِيَّتِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ صَوْمُ رَمَضَانَ قَبْلَ الشَّهْرِ وَأَدَاءُ الظُّهْرِ قَبْلَ الْوَقْتِ لَا لِوُجُوبِ التَّفْرِيقِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُقَيَّدٍ بِالتَّفْرِيقِ لَمْ يَبْقَ لِلْمُطْلَقِ إلَّا أَصْلٌ وَاحِدٌ فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يُحْمَلْ فَلَزِمَ التَّنَاقُضُ عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ صَوْمَ التَّمَتُّعِ مُقَيَّدٌ بِالتَّفْرِيقِ فَكَلَامُهُ سَاقِطٌ أَيْضًا لِأَنَّ صَوْمَ الْمُتْعَةِ لَا يَصْلُحُ مُقَيِّدًا لِصَوْمِ الْيَمِينِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْكَفَّارَاتِ لِيَتَعَدَّى حُكْمُهُ إلَيْهِ بَلْ الْمُطْلَقُ فِي الْكَفَّارَةِ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِيهَا لِإِمْكَانِ الْمُقَايَسَةِ بِالنَّظَرِ إلَى الْجِنْسِيَّةِ وَلَيْسَ فِي الْكَفَّارَةِ صَوْمٌ مُقَيَّدٌ بِالتَّفَرُّقِ فَلَمْ يَثْبُتْ تَعَارُضُ الْأَصْلَيْنِ وَوَجَبَ الْحَمْلُ وَإِذَا لَمْ يُحْمَلْ كَانَ مُتَنَاقِضًا. وَمِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَنْ قَالَ فِيمَا إذَا تَعَارَضَ أَصْلَانِ يُحْمَلُ عَلَى الْأَحْوَطِ لِيَخْرُجَ عَنْ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ فَأَوْجَبَ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ الْيَمِينِ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ كَذَا فِي التَّهْذِيبِ وَذَلِكَ أَيْ عَدَمُ شَرْعِيَّةِ صَوْمِ السَّبْعَةِ أَوْ عَدَمُ جَوَازِهِ قَبْلَ الرُّجُوعِ أَوْ وُقُوعُ التَّفْرِيقِ فِيهِ لِمَعْنًى ذَكَرْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ: صَوْمُ الْمُتْعَةِ لَمْ يُشْرَعْ مُتَفَرِّقًا وَإِنَّمَا جَاءَ التَّفَرُّقُ ضَرُورَةَ تَخَلُّلِ أَيَّامٍ لَا صَوْمَ فِيهَا وَهِيَ أَيَّامُ النَّحْرِ بِمَنْزِلَةِ تَخَلُّلِ اللَّيَالِي وَتَخَلُّلِ أَيَّامِ الْحَيْضِ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْفِطْرِ أَوْ الْقَتْلِ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الشَّارِعَ شَرَعَهُ مُتَفَرِّقًا مَعَ إمْكَانِ أَنْ يَشْرَعَهُ جُمْلَةً قَبْلَ أَيَّامِ النَّحْرِ أَوْ بَعْدَهَا فَدَلَّ أَنَّهُ شُرِعَ مُتَفَرِّقًا لَا أَنَّهُ وَقَعَ ضَرُورَةً قُلْنَا: الصَّوْمُ فِي حَقِّ الْمُتَمَتِّعِ وَجَبَ بَدَلًا وَالْبَدَلُ إنَّمَا يَجِبُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْمُبْدَلُ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْإِبْدَالِ إلَّا أَنَّ وَقْتَ الْأَصْلِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ

[باب العزيمة والرخصة]

(بَابُ الْعَزِيمَةِ) (وَالرُّخْصَةِ) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ـــــــــــــــــــــــــــــQوَصَوْمُ الْعَشَرَةِ لَا يُتَصَوَّرُ أَدَاؤُهُ فِيهِ فَلِضَرُورَةِ عَدَمِ الْإِمْكَانِ جَعَلَهُ الشَّرْعُ مُتَفَرِّقًا فَلَمْ يَجْعَلْ الْكُلَّ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ لِيَكُونَ جُمْلَةً بَلْ جَعَلَ الْبَعْضَ قَبْلَ أَيَّامِ النَّحْرِ مُتَّصِلًا بِأَيَّامِ النَّحْرِ وَالْبَعْضَ بَعْدَهَا لِيَكُونَ مُتَّصِلًا بِطَرَفَيْ أَيَّامِ النَّحْرِ لَمَّا تَعَذَّرَ الْأَدَاءُ فِيهَا فَيَكُونُ التَّفْرِيقُ ضَرُورَةَ الِاتِّصَالِ بِطَرَفَيْ وَقْتِ النَّحْرِ الَّذِي هُوَ أَصْلٌ وَلَمْ يُشْرَعْ فِيهِ لِأَنَّهُ وَقْتُ ضِيَافَةِ اللَّهِ عِبَادَهُ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَدَاءُ السَّبْعَةِ بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ قَبْلَ الرُّجُوعِ بِلَا فَصْلٍ غَيْرَ أَنَّ الشَّرْعَ عَلَّقَهُ بِالرُّجُوعِ لِعُذْرِ السَّفَرِ نَظَرًا لَهُ وَمَرْحَمَةً عَلَيْهِ وَلَا يُقَالُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَبْلَهُ خَمْسَةٌ وَبَعْدَهُ خَمْسَةٌ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مَعْقُولٌ وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْقُولٍ فَفُوِّضَ إلَى الشَّرْعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ] وَلَمَّا فَرَغَ الشَّيْخُ مِنْ بَيَانٍ أَقْسَامِ الْكِتَابِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا شَرَعَ فِي بَيَانِ أَقْسَامِ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ بِهَا فَقَالَ (بَابُ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ) اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْأُصُولِيِّينَ فِي تَفْسِيرِ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ جَعَلُوا الْأَحْكَامَ مُنْحَصِرَةً عَلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ وَبَعْضَهُمْ لَمْ يَجْعَلُوهَا كَذَلِكَ. فَبَعْضُ مَنْ حَصَرَهَا عَلَيْهِمَا قَالَ الْعَزِيمَةُ الْحُكْمُ الثَّابِتُ عَلَى وَجْهٍ لَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةُ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ. وَالرُّخْصَةُ الْحُكْمُ الثَّابِتُ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ لِمُعَارِضٍ رَاجِحٍ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِجَوَازِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ حُكْمٌ ثَابِتٌ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ إذْ الْأَصْلُ فِي الْحُرَّةِ عَدَمُ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا. وَبِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَالْقَتْلِ قِصَاصًا فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ ثَابِتٌ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ إذْ الْأَصْلُ حُرْمَةُ التَّعَرُّضِ فِي مَالِ الْغَيْرِ وَنَفْسِهِ وَلَا يُسَمَّى شَيْءٌ مِنْهَا رُخْصَةً. وَقِيلَ الْعَزِيمَةُ مَا سَلِمَ دَلِيلُهُ عَنْ الْمَانِعِ، وَالرُّخْصَةُ مَا لَمْ يَسْلَمْ عَنْهُ. وَبَعْضُ مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ الِانْحِصَارَ قَالَ الْعَزِيمَةُ مُلْزِمُ الْعِبَادِ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى كَالْعِبَادَاتِ الْخَمْسِ وَنَحْوِهَا وَالرُّخْصَةُ مَا وَسِعَ لِلْمُكَلَّفِ فِعْلُهُ لِعُذْرٍ فِيهِ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُحَرَّمِ. فَاخْتَصَّتْ الْعَزِيمَةُ بِالْوَاجِبَاتِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ، وَخَرَجَ النَّدْبُ وَالْكَرَاهَةُ عَنْ الْعَزِيمَةِ مِنْ غَيْرِ دُخُولٍ فِي الرُّخْصَةِ فَلَمْ يَنْحَصِرْ الْأَحْكَامُ فِي الْقِسْمَيْنِ. وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ الْعَزِيمَةُ مَا لَزِمْنَاهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ أَصْلًا بِحَقِّ أَنَّهُ إلَهُنَا وَنَحْنُ عَبِيدُهُ فَابْتَلَانَا بِمَا شَاءَ. وَالرُّخْصَةُ إطْلَاقٌ بَعْدَ حَظْرٍ بِعُذْرٍ تَيْسِيرًا. ثُمَّ أَوَّلُ كَلَامِ الشَّيْخِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ اعْتَبَرَ الِانْحِصَارَ حَيْثُ قَالَ، وَأَحْكَامُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِبَاحَةَ وَالْكَرَاهَةَ مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ كَوُجُوبِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ فَتَدْخُلَانِ فِي الْقِسْمَيْنِ، وَكَذَا تَفْسِيرُهُ الْعَزِيمَةَ وَالرُّخْصَةَ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا فَإِنَّ حَاصِلَ مَعْنَاهُمَا عَلَى مَا ذُكِرَ الْعَزِيمَةُ مَا هُوَ أَصْلٌ مِنْ الْأَحْكَامِ وَالرُّخْصَةُ مَا لَيْسَ بِأَصْلٍ. أَوْ الْعَزِيمَةُ مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْعَوَارِضِ وَالرُّخْصَةُ بِخِلَافِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى انْحِصَارِ الْأَحْكَامِ فِيهِمَا كَمَا تَرَى لَكِنَّ آخِرَ كَلَامِهِ، وَهُوَ تَقْسِيمُهُ الْعَزِيمَةَ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ؛ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ لَمْ تُذْكَرْ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ، وَلَا فِي تَقْسِيمِ الرُّخْصَةِ فَكَانَ مُشْتَبَهًا. إلَّا أَنْ يُقَالَ الْأَحْكَامُ مُنْحَصِرَةٌ فِي الْقِسْمَيْنِ عِنْدَهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَوَّلُ كَلَامِهِ، وَالْإِبَاحَةُ دَاخِلَةٌ فِي الْعَزِيمَةِ لِوَكَادَةِ شَرْعِيَّتِهَا كَالنَّفْلِ إذْ لَيْسَ إلَى الْعِبَادِ رَفْعُهَا لَا أَنَّ الشَّيْخَ لَمْ يَذْكُرْهَا فِي تَقْسِيمِ الْعَزِيمَةِ؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ بَيَانُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الثَّوَابُ مِنْ الْعَزَائِمِ وَذَلِكَ فِي الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ دُونَ الْإِبَاحَةِ؛ لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ

الْعَزِيمَةُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ اسْمٌ لِمَا هُوَ أَصْلٌ مِنْهَا غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالْعَوَارِضِ سُمِّيَتْ عَزِيمَةً؛ لِأَنَّهَا مِنْ حَيْثُ كَانَتْ أُصُولًا كَانَتْ فِي نِهَايَةِ التَّوْكِيدِ حَقًّا لِصَاحِبِ الشَّرْعِ، وَهُوَ نَافِذُ الْأَمْرِ وَاجِبُ الطَّاعَةِ وَالرُّخْصَةُ اسْمٌ لِمَا بُنِيَ عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ وَهُوَ مَا يُسْتَبَاحُ بِعُذْرٍ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرَّمِ وَالِاسْمَانِ مَعًا دَلِيلَانِ عَلَى الْمُرَادِ. أَمَّا الْعَزْمُ فَهُوَ الْقَصْدُ الْمُتَنَاهِي فِي التَّوْكِيدِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالدُّنْيَا. وَقَوْلُهُ الْعَزِيمَةُ اسْمٌ لِمَا هُوَ أَصْلٌ مِنْهَا أَيْ مِنْ الْأَحْكَامِ تَمَامُ التَّعْرِيفِ. وَقَوْلُهُ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالْعَوَارِضِ تَفْسِيرٌ لِأَصَالَتِهَا لَا تَقْيِيدٌ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا التَّعْرِيفِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ كَالْعِبَادَاتِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّرْكِ كَالْحُرُمَاتِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمِيزَانِ بَعْدَ تَقْسِيمِ الْأَحْكَامِ إلَى الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ وَالسُّنَّةِ وَالنَّفَلِ وَالْمُبَاحِ وَالْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ وَغَيْرِهَا أَنَّ الْعَزِيمَةَ اسْمٌ لِلْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ فِي الشَّرْعِ عَلَى الْأَقْسَامِ الَّتِي ذَكَرْنَا مِنْ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ وَالسُّنَّةِ وَالنَّفَلِ وَنَحْوِهَا لَا لِعَارِضٍ سُمِّيَتْ أَيْ الْأَحْكَامُ الْأَصْلِيَّةُ عَزِيمَةً.؛ لِأَنَّهَا مِنْ حَيْثُ كَانَتْ أُصُولًا أَيْ مَشْرُوعَةً ابْتِدَاءً. حَقًّا لِصَاحِبِ الشَّرْعِ مَفْعُولٌ لَهُ أَيْ كَانَتْ فِي نِهَايَةِ التَّوْكِيدِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا كَانَتْ أُصُولًا لِأَجْلِ أَنَّهَا حَقٌّ لَهُ أَوْ هُوَ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِغَيْرِهِ. وَهُوَ نَافِذُ الْأَمْرِ وَاجِبُ الطَّاعَةِ فَكَانَ أَمْرُهُ مُفْتَرَضَ الِامْتِثَالِ وَشَرْعُهُ وَاجِبَ الْقَبُولِ فَكَانَ مُؤَكِّدًا. وَقَوْلُهُ وَالرُّخْصَةُ اسْمٌ لِمَا بُنِيَ عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ تَعْرِيفُ الرُّخْصَةِ. وَقَوْلُهُ، وَهُوَ مَا يُسْتَبَاحُ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرَّمِ تَفْسِيرٌ لَهُ يَعْنِي أُرِيدَ بِقَوْلِهِ مَا بُنِيَ عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ مَا يُسْتَبَاحُ بِعُذْرٍ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرَّمِ. فَقَوْلُهُ مَا يُسْتَبَاحُ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الْفِعْلَ وَالتَّرْكَ. وَقَوْلُهُ لِعُذْرٍ احْتِرَازٌ عَمَّا أُبِيحَ لَا لِعُذْرٍ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. وَقَوْلُهُ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرَّمِ احْتِرَازٌ عَنْ مِثْلِ الصِّيَامِ عِنْدَ فَقْدِ الرَّقَبَةِ فِي الظِّهَارِ إذْ لَا يُمْكِنُ دَعْوَى قِيَامِ السَّبَبِ الْمُحَرَّمِ عِنْدَ فَقْدِ الرَّقَبَةِ مَعَ اسْتِحَالَةِ التَّكْلِيفِ بِإِعْتَاقِهَا حِينَئِذٍ بَلْ الظِّهَارُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْإِعْتَاقِ فِي حَالَةٍ وَلِوُجُوبِ الصِّيَامِ فِي حَالَةٍ أُخْرَى. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالِاسْتِبَاحَةِ الْإِبَاحَةُ بِدُونِ الْحُرْمَةِ فَهُوَ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الْمُحَرَّمِ بِدُونِ حُكْمِهِ لِمَانِعِ تَخْصِيصٍ لَهُ. وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الْإِبَاحَةُ مَعَ قِيَامِ الْحُرْمَةِ فَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ وَكِلَاهُمَا فَاسِدٌ. وَلَا يُفِيدُ تَغْيِيرُ الْعِبَارَةِ بِأَنَّ الرُّخْصَةَ هِيَ مَا رُخِّصَ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرَّمِ؛ لِأَنَّ التَّرْخِيصَ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ الْإِبَاحَةِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْأَوَّلِ وَزِيَادَةً، وَهِيَ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ رُخِّصَ فِي حَدِّ الرُّخْصَةِ، وَإِنْ أَمْكَنَ تَأْوِيلُهُ بِاللُّغَوِيِّ دُونَ الِاصْطِلَاحِيِّ؛ لِأَنَّ أَقَلَّهُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْمُبْهَمِ فِي التَّعْرِيفِ، وَهُوَ قَبِيحٌ. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ يُسْتَبَاحُ يُعَامَلُ بِهِ مُعَامَلَةَ الْمُبَاحِ لَا أَنَّهُ يَصِيرُ مُبَاحًا حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْحُرْمَةِ قَائِمٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِتِلْكَ الْحُرْمَةِ بِالنَّصِّ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ سُقُوطِ الْمُؤَاخَذَةِ انْتِفَاءُ الْحُرْمَةِ فَإِنَّ مَنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً وَعَفَا اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يُؤَاخِذْهُ بِهَا لَا تُسَمَّى مُبَاحَةً فِي حَقِّهِ لِعَدَمِ الْمُؤَاخِذِ. وَلِهَذَا ذَكَرَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ الرُّخْصَةُ تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْفِعْلِ مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ الْمُحَرَّمِ لِلْفِعْلِ وَحُرْمَةُ الْفِعْلِ وَتَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ بِتَرْكِ الْفِعْلِ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْفِعْلِ، وَكَوْنِ الْفِعْلِ وَاجِبًا. وَذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ الرُّخْصَةُ اسْمٌ لِمَا تَغَيَّرَ عَنْ الْأَمْرِ الْأَصْلِيِّ إلَى تَخْفِيفٍ وَيُسْرٍ تَرْفِيهًا وَتَوْسِعَةً عَلَى أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ: الرُّخْصَةُ مَا وُسِّعَ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِعْلُهُ بِعُذْرٍ مَعَ كَوْنِهِ حَرَامًا فِي حَقِّ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ أَوْ وُسِّعَ عَلَى الْمُكَلَّفِ تَرْكُهُ مَعَ قِيَامِ الْوُجُوبِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَعْذُورِ. وَسَوَّى بَيْنَ الرُّخَصِ كُلِّهَا، وَقَالَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرُّخْصَةُ حَرَامَ التَّحْصِيلِ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى بِرُخَصِهِ كَمَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى بِعَزَائِمِهِ» «وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِعَمَّارٍ حِينَ أَجْرَى كَلِمَةَ الْكُفْرِ عَلَى لِسَانِهِ بِالْإِكْرَاهِ. فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ» .

[أقسام العزيمة]

حَتَّى صَارَ الْعَزْمُ يَمِينًا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] أَيْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَصْدٌ مُؤَكَّدٌ فِي الْعِصْيَانِ، وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: {كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] وَأَمَّا الرُّخْصَةُ فَتُنْبِئُ عَنْ الْيُسْرِ وَالسُّهُولَةُ يُقَالُ رَخُصَ السِّعْرُ إذَا تَيَسَّرَتْ الْإِصَابَةُ لِكَثْرَةِ الْأَشْكَالِ وَقِلَّةِ الرَّغَائِبِ. وَالْعَزِيمَةُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ فَرِيضَةٌ وَوَاجِبٌ وَسُنَّةٌ وَنَفْلٌ فَهَذِهِ أُصُولُ الشَّرْعِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَفَاوِتَةً فِي أَنْفُسِهَا أَمَّا الْفَرْضُ فَمَعْنَاهُ التَّقْدِيرُ وَالْقَطْعُ فِي اللُّغَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور: 1] أَيْ قَدَّرْنَاهَا وَقَطَعْنَا الْأَحْكَامَ فِيهَا قَطْعًا، وَالْفَرَائِضُ فِي الشَّرْعِ مُقَدَّرَةٌ لَا تَحْتَمِلُ زِيَادَةً وَلَا نُقْصَانًا أَيْ مَقْطُوعَةً ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ مِثْلُ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَسُمِّيَتْ مَكْتُوبَةً وَهَذَا الِاسْمُ يُشِيرُ إلَى ضَرْبٍ مِنْ التَّخْفِيفِ فَفِي التَّقْدِيرِ وَالتَّنَاهِي يُسْرٌ، وَيُشِيرُ إلَى شِدَّةِ الْمُحَافَظَةِ وَالرِّعَايَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQكَيْفَ وَفِي بَعْضِ الرُّخَصِ يَجِبُ تَحْصِيلُهُ كَمَا فِي تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ وَالْمَخْمَصَةِ. قَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ أَصْحَابنَا هَذَا فَإِنَّ مَعْنَى الرُّخْصَةِ السُّهُولَةُ وَالْيُسْرُ وَذَلِكَ فِي سُقُوطِ الْحَظْرِ وَالْعُقُوبَةِ جَمِيعًا. وَالِاسْمَانِ مَعًا دَلِيلَانِ عَلَى الْمُرَادِ أَيْ يَدُلَّانِ لُغَةً عَلَى الْوَكَادَةِ وَالْيُسْرِ الْمُرَادَيْنِ فِي الشَّرْعِ مِنْهُمَا فَكَانَا اسْمَيْنِ شَرْعِيَّيْنِ مُرَاعًى فِيهِمَا مَعْنَى اللُّغَةِ. حَتَّى كَانَ الْعَزْمُ يَمِينًا. وَلَوْ قَالَ أَعْزِمُ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا كَانَ يَمِينًا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ بِاَللَّهِ، وَلَا بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ. وَلَكِنَّا نَقُولُ الْعَزْمُ لُغَةً أَقْصَى مَا يُرَادُ مِنْ الْإِيجَابِ وَالتَّوْكِيدِ، وَالْإِنْسَانُ يُؤَكِّدُ كَلَامَهُ بِالْيَمِينِ. وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ عَزَمْتُ عَلَيْك أَنْ لَا تَصُومِي الْيَوْمَ الَّذِي مِتَّ فِيهِ فَأَفْطَرَتْ وَقَالَتْ مَا كُنْت لِأُتْبِعَهُ حِنْثًا فَعَرَّفْت الْعَزْمَ يَمِينًا فَإِنْ عَرَّفْته لُغَةً فَقَوْلُهَا حُجَّةٌ، وَإِنْ عَرَّفْته شَرْعًا فَكَذَلِكَ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ. وَفِي الصِّحَاحِ عَزَمْت عَلَيْهِ أَيْ اقْتَسَمْت عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى. {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] . أَيْ فَاصْبِرْ عَلَى أَذَى قَوْمِك كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْحَزْمِ وَالرَّأْيِ الصَّوَابِ مِنْ الرُّسُلِ عَلَى بَلَايَا اُبْتُلُوا بِهَا تَظْفَرُ بِالثَّوَابِ كَمَا ظَفِرُوا بِهِ ثُمَّ أَنَّهُمْ خَصُّوا مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ عَلَى الْحَقِّ لِانْتِفَاءِ الْوَهْنِ وَشُبْهَتِهِ فِي طَلَبِهِمْ لِلْحَقِّ وَزِيَادَةِ ثَبَاتِهِمْ عَلَيْهِ عِنْدَ تَوَجُّهِ الشَّدَائِدِ وَالْمَكَارِهِ إلَيْهِمْ وَقُوَّةِ صَبْرِهِمْ عَلَيْهِ فِيهَا. وَقِيلَ هُمْ سِتَّةٌ. نُوحٌ فَإِنَّهُ صَبَرَ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً.، وَإِبْرَاهِيمُ صَبَرَ عَلَى النَّارِ وَذَبْحِ الْوَلَدِ.، وَإِسْحَاقُ عَلَى الذَّبْحِ. وَيَعْقُوبُ عَلَى فَقْدِ الْوَلَدِ وَذَهَابِ الْبَصَرِ. وَيُوسُفُ عَلَى الْجُبِّ وَالسِّجْنِ. وَأَيُّوبُ عَلَى الضُّرِّ. وَقِيلَ هُمْ أَصْحَابُ الشَّرَائِعِ نُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى وَعِيسَى، وَمُحَمَّدٌ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ. وَقِيلَ الرُّسُلُ كُلُّهُمْ أُولُوا الْعَزْمِ، وَلَمْ يَبْعَثْ اللَّهُ رَسُولًا إلَّا كَانَ ذَا عَزْمٍ وَحَزْمٍ وَرَأْيٍ، وَكَمَالِ عَقْلٍ، وَمِنْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِلتَّبْيِينِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي التَّيْسِيرِ وَغَيْرِهِ. [أَقْسَام الْعَزِيمَةُ] وَالْعَزِيمَةُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ الْفَرْضُ إلَى آخِرِهِ. يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْفِعْلُ وَالتَّرْكُ فَإِنَّ تَرْكَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَرْضٌ. إنْ كَانَ الدَّلِيلُ مَقْطُوعًا بِهِ كَتَرْكِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ. وَوَاجِبٌ إنْ دَخَلَ فِيهِ شُبْهَةٌ كَتَرْكِ أَكْلِ الضَّبِّ وَاللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ. وَسُنَّةٌ أَوْ نَفْلٌ إنْ كَانَ دُونَهُ كَتَرْكِ مَا قِيلَ فِيهِ لَا بَأْسَ بِهِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْوَاجِبُ مَا يَكُونُ لَازِمُ الْأَدَاءِ شَرْعًا أَوْ وَاجِبَ التَّرْكِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ. ذُكِرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْأُصُولِ لِأَصْحَابِنَا الْفِعْلُ الصَّادِرُ عَنْ الْمُكَلَّفِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَتَرَجَّحَ جَانِبُ الْأَدَاءِ فِيهِ أَوْ جَانِبُ التَّرْكِ أَوْ لَا هَذَا، وَلَا ذَلِكَ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَذَلِكَ إمَّا أَنْ يَكْفُرَ جَاحِدُهُ وَيُضَلَّلَ، وَهُوَ الْفَرْضُ. أَوْ لَا يَكْفُرُ وَذَلِكَ أَمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ الْعِقَابُ بِتَرْكِهِ، وَهُوَ الْوَاجِبُ. أَوْ لَا يَتَعَلَّقُ وَذَلِكَ إمَّا أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا وَاظَبَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهُوَ السُّنَّةُ الْمَشْهُورَةُ أَوْ لَا يَكُونُ، وَهُوَ النَّفَلُ وَالتَّطَوُّعُ وَالْمَنْدُوبُ. وَأَمَّا الثَّانِي فَإِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ الْعِقَابُ بِالْإِتْيَانِ بِهِ، وَهُوَ الْحَرَامُ. أَوْ لَا يَتَعَلَّقُ، وَهُوَ الْمَكْرُوهُ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَهُوَ الْمُبَاحُ إذْ لَيْسَ فِي أَدَائِهِ ثَوَابٌ، وَلَا فِي تَرْكِهِ عِقَابٌ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ الْعَزِيمَةُ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ يَكْفُرَ جَاحِدُهَا أَوْ لَا وَالْأَوَّلُ هُوَ الْفَرْضُ. وَالثَّانِي لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ

وَأَمَّا الْوَاجِبُ فَإِنَّمَا أُخِذَ مِنْ الْوُجُوبِ، وَهُوَ السُّقُوطُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِذَا {وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] وَمَعْنَى السُّقُوطِ أَنَّهُ سَاقِطٌ عِلْمًا هُوَ الْوَصْفُ الْخَاصُّ فَسُمِّيَ بِهِ أَوْ لَمَّا لَمْ يُفِدْ الْعِلْمُ صَارَ كَالسَّاقِطِ عَلَيْهِ لَا كَمَا يُحْمَلُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ الْوَجْبَةِ، وَهُوَ الِاضْطِرَابُ سُمِّيَ بِهِ لِاضْطِرَابِهِ، وَهُوَ فِي الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَا لَزِمَنَا بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةٌ مِثْلُ تَعْيِينِ الْفَاتِحَةِ وَتَعْدِيلِ الْأَرْكَانِ وَالطَّهَارَةِ فِي الطَّوَافِ وَصَدَقَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQيُعَاقَبَ بِتَرْكِهِ أَوْ لَا وَالْأَوَّلُ هُوَ الْوَاجِبُ. وَالثَّانِي لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِتَرْكِ الْمُلَازَمَةِ أَوْ لَا وَالْأَوَّلُ هُوَ السُّنَّةُ وَالثَّانِي النَّفَلُ. وَيَدْخُلُ فِي الْقِسْمِ الْأَخِيرِ الْمُبَاحُ إنْ جَعَلَ الْمُبَاحَ مِنْ الْعَزَائِمِ. فَهَذِهِ أُصُولُ الشَّرْعِ أَيْ هَذِهِ أَحْكَامٌ شُرِعَتْ ابْتِدَاءً فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ فَكَانَتْ مِنْ الْعَزَائِمِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَفَاوِتَةً فِي أَنْفُسِهَا. وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إلَى رَدِّ قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا إنَّ النَّوَافِلَ لَيْسَتْ مِنْ الْعَزَائِمِ؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ جَبْرًا لِلنُّقْصَانِ فِي أَدَاءِ مَا هُوَ عَزِيمَةٌ مِنْ الْفَرَائِضِ أَوْ قَطْعًا لِطَمَعِ الشَّيْطَانِ فِي مَنْعِ الْعِبَادِ مِنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُمْ لَمَّا رَغِبُوا فِي أَدَاءِ النَّوَافِلِ مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَيْهِمْ فَذَلِكَ دَلِيلُ رَغْبَتِهِمْ فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى. فَقَالَ هَذِهِ الْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ سَوَاءٌ فِي أَنَّهَا شُرِعَتْ ابْتِدَاءً لَا بِنَاءً عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ فَكَانَتْ عَزَائِمَ لِوَكَادَةِ شَرْعِيَّتِهَا، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ فِي ذَوَاتِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ النَّفَلَ مَشْرُوعٌ ابْتِدَاءً لَا يَحْتَمِلُ التَّغَيُّرَ بِعَارِضٍ يَكُونُ مِنْ الْعِبَادِ فَكَانَ عَزِيمَةً كَالْفَرْضِ، وَمَا ذَكَرُوا مَقْصُودَ الْأَدَاءِ، وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِيهِ وَالْفَرَائِضُ أَيْ الْمَفْرُوضَاتُ فِي الشَّرْعِ مُقَدَّرَةٌ يَعْنِي رُوعِيَ فِيهَا كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ فَهِيَ مُقَدَّرَةٌ لَا تَحْتَمِلُ زِيَادَةً، وَلَا نُقْصَانًا. مَقْطُوعَةٌ عَمَّا يُغَايِرُهَا مِنْ جِنْسِهَا الْمَشْرُوعِ كَذَا فِي الْمِيزَانِ. أَوْ مَقْطُوعَةٌ عَنْ احْتِمَالِ أَنْ لَا تَكُونَ ثَابِتَةً؛ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ بِدَلِيلٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ. فَصَارَ الْفَرْضُ اسْمًا لِمُقَدَّرٍ ثَابِتٍ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ مِثْلِ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ مُقَدَّرٌ بِتَصْدِيقِ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حَتَّى لَوْ نَقَضَ شَيْئًا مِنْهُ أَوْ زَادَ لَا يَجُوزُ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ أَنَا أُؤْمِنُ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَبِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا. وَسُمِّيَتْ مَكْتُوبَةً؛ لِأَنَّهَا كُتِبَتْ عَلَيْنَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَهَذَا الِاسْمُ أَيْ اسْمُ الْفَرْضِ يُشِيرُ إلَى ضَرْبٍ مِنْ التَّخْفِيفِ؛ لِأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ التَّقْدِيرِ، وَفِيهِ يُسْرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا لَيْسَ بِمَقْدُورٍ وَلِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَأْمُرَ عِبَادَهُ بِشَغْلِ جَمِيعِ الْعُمْرِ بِخِدْمَتِهِ بِحُكْمِ الْمِلْكِيَّةِ فَتَرْكُ ذَلِكَ إلَى مُقَدَّرٍ قَلِيلٍ يَكُونُ دَلَالَةَ التَّخْفِيفِ وَالْيُسْرِ، وَكَأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَهُ عَلَيْنَا جَعَلَهُ مُقَدَّرًا لِئَلَّا يَصْعُبَ عَلَيْنَا أَدَاؤُهُ وَيَصِيرُ مُؤَدًّى لَا مَحَالَةَ فَكَانَ التَّقْدِيرُ فِيهِ لِشِدَّةِ الْمُحَافَظَةِ وَالْمُلَازَمَةِ عَلَيْهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى كَيْفَ أَعْقَبَ قَوْلَهُ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] . بِقَوْلِهِ جَلَّ اسْمُهُ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184] . مِنْهَا عَلَى التَّخْفِيفِ بِإِيرَادِ جَمْعَيْ الْقِلَّةِ، وَهُمَا الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ كَأَنَّهُ قِيلَ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ أَيَّامًا قَلَائِلَ لِيَتَيَسَّرَ عَلَيْكُمْ الْأَدَاءُ وَيَسْهُلَ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ التَّقْدِيرِ التَّيْسِيرُ وَالْمَقْصُودُ مِنْ التَّيْسِيرِ شِدَّةُ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْأَدَاءِ. قَوْلُهُ (أُخِذَ مِنْ الْوُجُوبِ، وَهُوَ السُّقُوطُ) فَسَّرَ الشَّيْخُ الْوُجُوبَ بِالسُّقُوطِ وَالْوَجْبَةَ بِالِاضْطِرَابِ وَالْمَذْكُورُ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ أَنَّ الْوُجُوبَ هُوَ اللُّزُومُ وَالْوَجْبَةَ هُوَ السُّقُوطُ مَعَ الْهَدَّةِ وَالْوَجْبَ الِاضْطِرَابُ. وَمَعْنَى السُّقُوطِ أَنَّهُ سَاقِطٌ عِلْمًا أَيْ فِي إثْبَاتِ الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ هُوَ سَاقِطٌ فِي نَفْسِهِ مُلْحَقٌ بِالْمَعْدُومِ، وَإِنْ كَانَ فِي إيجَابِ الْعَمَلِ ثَابِتًا مَوْجُودًا. هُوَ الْوَصْفُ الْخَاصُّ أَيْ كَوْنُ الْوَاجِبِ سَاقِطًا فِي حَقِّ الْعِلْمِ وَصْفٌ مُخْتَصٌّ بِهِ لَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الْفَرْضِ يَعْنِي سَقَطَ عَنْهُ أَحَدُ نَوْعَيْ مَا تَعَلَّقَ بِالْفَرْضِ، وَهُوَ الْعِلْمُ وَبَقِيَ الْعِلْمُ لَازِمًا بِهِ فَسُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ لِيَقَعَ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَرْضِ. أَوْ سُمِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُفِدْ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ صَارَ كَالسَّاقِطِ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِدُونِ اخْتِيَارِهِ. لَا كَمَا يُحْمَلُ أَيْ يُتَحَمَّلُ يَعْنِي لَا يَكُونُ مِثْلَ الَّذِي

الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَالْوِتْرِ وَالسُّنَّةُ مَعْنَاهَا الطَّرِيقُ وَالسَّنَنُ الطَّرِيقُ وَيُقَالُ سَنَّ الْمَاءَ إذَا صَبَّهُ، وَهُوَ مَعْرُوفُ الِاشْتِقَاقِ، وَهُوَ فِي الشَّرْعِ اسْمٌ لِلطَّرِيقِ الْمَسْلُوكِ فِي الدِّينِ. وَالنَّفَلُ اسْمٌ لِلزِّيَادَةِ فِي اللُّغَةِ حَتَّى سُمِّيَتْ الْغَنِيمَةُ نَفْلًا لِأَنَّهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ بَلْ زِيَادَةٌ عَلَى مَا شُرِعَ لَهُ الْجِهَادُ وَسُمِّيَ وَلَدُ الْوَلَدِ نَافِلَةً لِذَلِكَ ـــــــــــــــــــــــــــــQيُتَحَمَّلُ وَيُرْفَعُ بِاخْتِيَارٍ، وَهُوَ الْفَرْضُ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ ثَابِتًا قَطْعًا يُتَحَمَّلُ اخْتِيَارٌ وَشَرْحُ صَدْرٍ. قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ مَوْلَانَا حَمِيدُ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَنَظِيرُهُ أَنَّ أَمِيرًا أَمَرَ وَاحِدًا مِنْ غِلْمَانِهِ بِحَمْلِ شَيْءٍ إلَى مَوْضِعٍ فَتَحَمَّلَهُ فَلَمَّا غَابَ عَنْ بَصَرِهِ، وَأَخَذَ فِي الطَّرِيقِ أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ أَنَّ الْأَمِيرَ قَدْ أَمَرَ بِحَمْلِ هَذَا الشَّيْءِ الْآخَرِ أَيْضًا إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَلَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ لَهُ بِإِخْبَارِهِ فَتَحَمَّلَهُ أَيْضًا كَانَ الْمَأْمُورُ فِي تَحَمُّلِ الْأَوَّلِ مُخْتَارًا طَائِعًا، وَفِي تَحَمُّلِ الثَّانِي بِمَنْزِلَةِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ كَأَنَّهُ سَقَطَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَاخْتِيَارِهِ. قَوْلُهُ (وَالسُّنَّةُ) كَذَا السُّنَّةُ لُغَةً الطَّرِيقَةُ مَرْضِيَّةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَرْضِيَّةٍ وَسَنَنُ الطَّرِيقِ مُعْظَمُهُ وَوَسْطَتُهُ وَالسَّنُّ الصَّبُّ بِرِفْقٍ مِنْ بَابِ طَلَبَ فَإِنْ أُخِذَتْ السُّنَّةُ مِنْهُ فَبِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَارَّ يُنْصِتُ وَيَجْرِي فِيهَا جَرَيَانَ الْمَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَسَالَتْ بِأَعْنَاقِ الْمَطِيِّ الْأَبَاطِحُ وَهُوَ أَيْ لَفْظُ السُّنَّةِ فِي الشَّرِيعَةِ اسْمٌ لِلطَّرِيقِ الْمَسْلُوكِ فِي الدِّينِ يَعْنِي مِنْ غَيْرِ افْتِرَاضٍ، وَلَا وُجُوبٍ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي بَيَانِ الْحُكْمِ سَوَاءٌ سَلَكَهُ الرَّسُولُ أَوْ غَيْرُهُ مِمَّنْ هُوَ عَلَمٌ فِي الدِّينِ. وَذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمَسْلُوكَةُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ اللَّفْظَ السُّنَّةُ إذَا أُطْلِقَ يَنْصَرِفُ إلَى سُنَّةِ الرَّسُولِ أَوْ إلَيْهَا، وَإِلَى سُنَّةِ الصَّحَابِيِّ عَلَى مَا تَبَيَّنَ بَعْدُ بَلْ زِيَادَةٌ عَلَى مَا شُرِعَ لَهُ الْجِهَادُ، وَهُوَ إعْلَاءُ دِينِ اللَّهِ، وَكَبْتُ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَتَحْصِيلُ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ. وَفِي الْمُغْرِبِ النَّفَلُ مَا يُنَفَّلُهُ الْغَازِي أَيْ يُعْطَاهُ زَائِدًا عَلَى سَهْمِهِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ أَوْ الْأَمِيرُ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ أَوْ قَالَ لِلسَّرِيَّةِ مَا أَصَبْتُمْ فَهُوَ لَكُمْ أَوْ رُبْعُهُ أَوْ نِصْفُهُ، وَلَا يُخَمَّسُ وَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ وَسُمِّيَ وَلَدُ الْوَلَدِ نَافِلَةَ ذَلِكَ أَيْ لِكَوْنِهِ زَائِدًا عَلَى مَقْصُودِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ شُرِعَ لِتَحْصِيلِ الْوَلَدِ مِنْ صُلْبِهِ وَالْحَافِدُ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ فَكَذَا النَّافِلَةُ اسْمٌ لِمَا شُرِعَ زِيَادَةً عَلَى الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ. ثُمَّ اخْتَلَفَتْ الْعِبَارَاتُ فِي حُدُودِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ فَقِيلَ الْفَرْضُ هُوَ مَا يُعَاقَبُ الْمُكَلَّفُ عَلَى تَرْكِهِ وَيُثَابُ عَلَى تَحْصِيلِهِ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِالصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَإِنَّهَا تَقَعُ فَرْضًا، وَلَوْ تَرَكَهَا لَا يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ حَتَّى لَوْ مَاتَ قَبْلَ آخِرِ الْوَقْتِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَبِصَوْمِ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ فَإِنَّهُ يَقَعُ فَرْضًا، وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ. وَبِأَنَّ تَارِكَ الْفَرْضِ قَدْ يُعْفَى عَنْهُ وَلَا يُعَاقَبُ، وَلَا يَخْرُجُ الْفَرْضُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ فَرْضًا. وَقِيلَ هُوَ مَا يَخَافُ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَى تَرْكِهِ. وَقِيلَ هُوَ مَا فِيهِ وَعِيدٌ لِتَارِكِهِ. وَيُعْتَرَضُ عَلَيْهِمَا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَتَرْكِ صَوْمِ السَّفَرِ أَيْضًا. وَالصَّحِيحُ مَا قِيلَ الْفَرْضُ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ وَاسْتَحْقَقَ الذَّمَّ عَلَى تَرْكِهِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ. فَقَوْلُهُ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ يَتَنَاوَلُ الْمَنْدُوبَ وَالْمُبَاحَ إذْ قَدْ يَثْبُتُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ أَيْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77] {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة: 187] . وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ وَاسْتَحَقَّ الذَّمَّ عَلَى تَرْكِهِ عَنْهُمَا. وَبِقَوْلِهِ مُطْلَقًا عَمَّنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ عَلَى عَزْمِ الْأَدَاءِ فِي آخِرِهِ وَعَنْ تَرْكِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ إلَى خَلَفِهِ، وَهُوَ الْقَضَاءُ وَأَمْثَالُهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِتَرْكٍ مُطْلَقًا فَلَا يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ بِهِ. وَبِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ عَنْ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ إذَا تَرَكَا الصَّوْمَ، وَمَاتَا قَبْلَ الْإِقَامَةِ وَالصِّحَّةِ فَإِنَّهُمَا لَا يَسْتَحِقَّانِ الذَّمَّ؛ لِأَنَّ تَرْكَهُمَا بِعُذْرٍ. وَإِذَا بَدَّلَ لَفْظَ الْقَطْعِيِّ بِالظَّنِّيِّ فَهُوَ حَدُّ الْوَاجِبِ. وَحَدُّ السُّنَّةِ هُوَ الطَّرِيقَةُ الْمَسْلُوكَةُ فِي الدِّينِ مِنْ غَيْرِ افْتِرَاضٍ، وَلَا وُجُوبٍ. وَأَمَّا حَدُّ النَّفْلِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمَنْدُوبِ وَالْمُسْتَحَبِّ وَالتَّطَوُّعِ

أَمَّا الْفَرْضُ فَحُكْمُهُ اللُّزُومُ عِلْمًا وَتَصْدِيقًا بِالْقَلْبِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَعَمَلًا بِالْبَدَنِ، وَهُوَ مِنْ أَرْكَانِ الشَّرَائِعِ وَيَكْفُرُ جَاحِدُهُ وَيُفَسَّقُ تَارِكُهُ بِلَا عُذْرٍ، وَأَمَّا حُكْمُ الْوُجُوبِ فَلُزُومُهُ عَمَلًا بِمَنْزِلَةِ الْفَرْضِ لَا عِلْمًا عَلَى الْيَقِينِ لِمَا فِي دَلِيلِهِ مِنْ الشُّبْهَةِ حَتَّى لَا يَكْفُرَ جَاحِدُهُ وَيُفَسَّقَ تَارِكُهُ إذَا اسْتَخِفَّ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ فَأَمَّا مُتَأَوِّلًا فَلَا، وَأَنْكَرَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا الْقِسْمَ، وَأَلْحَقَهُ بِالْفَرَائِضِ فَقُلْنَا أَنْكَرَ الِاسْمَ فَلَا مَعْنَى لَهُ بَعْدَ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ يُخَالِفُ اسْمَ الْفَرِيضَةِ، وَأَنْكَرَ الْحُكْمَ بَطَلَ إنْكَارُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ نَوْعَانِ مَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا فِيهِ شُبْهَةٌ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُنْكَرُ، وَإِذَا تَفَاوَتَ الدَّلِيلُ لَمْ يُنْكَرْ تَفَاوُتُ الْحُكْمِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَقِيلَ مَا فِعْلُهُ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ فِي الشَّرْعِ. وَقِيلَ هُوَ مَا يُمْدَحُ الْمُكَلَّفُ عَلَى فِعْلِهِ، وَلَا يُذَمُّ عَلَى تَرْكِهِ. وَقِيلَ هُوَ الْمَطْلُوبُ فِعْلُهُ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ ذَمٍّ عَلَى تَرْكِهِ مُطْلَقًا. وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ ذَمٍّ عَلَى تَرْكِهِ عَنْ الْوَاجِبِ الْمُضَيَّقِ. وَبِقَوْلِهِ مُطْلَقًا عَنْ الْمُوَسَّعِ وَالْمُخَيَّرِ وَالْكِفَايَةِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْفَرْضُ فَحُكْمُهُ اللُّزُومُ عِلْمًا وَتَصْدِيقًا بِالْقَلْبِ) أَيْ يَجِبُ الِاعْتِقَادُ بِحَقِّيَّتِهِ قَطْعًا وَيَقِينًا لِكَوْنِهِ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ. وَهُوَ الْإِسْلَامُ أَيْ الِاعْتِقَادُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَكُونُ إسْلَامًا حَتَّى لَوْ تَبَدَّلَ بِضِدِّهِ يَكُونُ كُفْرًا. وَعَمَلًا بِالْبَدَنِ أَيْ يَجِبُ إقَامَتُهُ بِالْبَدَنِ حَتَّى لَوْ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ غَيْرَ مُسْتَخِفٍّ بِهِ يَكُونُ عَاصِيًا، وَفَاسِقًا إذَا كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَلَكِنَّهُ لَا يَكُونُ كَافِرًا إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ مَا هُوَ مِنْ أَرْكَانِ الشَّرَائِعِ لَا مَا هُوَ أَصْلُ الدِّينِ لِبَقَاءِ الِاعْتِقَادِ عَلَى حَالِهِ. وَيَكْفُرُ جَاحِدُهُ أَيْ يُنْسَبُ إلَى الْكُفْرِ مَنْ أَكْفَرَهُ إذَا ادَّعَاهُ كَافِرًا، وَمِنْهُ لَا تُكَفِّرْ أَهْلَ قِبْلَتِك، وَأَمَّا لَا تُكَفِّرُوا أَهْلَ قِبْلَتِكُمْ فَغَيْرُ ثَبْتٍ رِوَايَةً، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا لُغَةً قَالَ الْكُمَيْتُ يُخَاطِبُ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَكَانَ شِيعِيًّا: وَطَائِفَةٌ قَدْ كَفَّرُونِي بِحُبِّكُمْ ... وَطَائِفَةٌ قَالُوا مُسِيءٌ وَمُذْنِبُ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ. وَأَمَّا حُكْمُ الْوُجُوبِ أَيْ الْوَاجِبِ فَلُزُومُهُ عَمَلًا لَا عِلْمًا أَيْ يَجِبُ إقَامَتُهُ بِالْبَدَنِ، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ اعْتِقَادُ لُزُومِهِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَهُ لَا يُوجِبُ الْيَقِينَ وَلُزُومُ الِاعْتِقَادِ مَبْنِيٌّ عَلَى الدَّلِيلِ الْيَقِينِيِّ. وَيُفَسَّقُ تَارِكُهُ إذَا اسْتَخَفَّ. إذَا تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَمَّا إنْ تَرَكَهُ مُسْتَخِفًّا بِأَخْبَارِ الْآحَادِ بِأَنْ لَا يَرَى الْعَمَلَ بِهَا وَاجِبًا أَوْ تَرَكَهُ مُتَأَوِّلًا لَهَا أَوْ تَرَكَهُ غَيْرَ مُسْتَخِفٍّ، وَلَا مُتَأَوِّلٍ. فَفِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ يَجِبُ تَضْلِيلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكْفُرْ؛ لِأَنَّهُ رَادٌّ لِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَذَلِكَ بِدْعَةٌ. وَفِي الْقِسْمِ الثَّانِي لَا يَجِبُ التَّضْلِيلُ، وَلَا التَّفْسِيقُ؛ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ سِيرَةُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي النُّصُوصِ عِنْدَ التَّعَارُضِ. وَفِي الْقِسْمِ الْأَخِيرِ يُفَسَّقُ، وَلَا يُضَلَّلُ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِ لَمَّا وَجَبَ كَانَ الْأَدَاءُ طَاعَةً وَالتَّرْكُ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ عِصْيَانًا، وَفِسْقًا هَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْضًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَالْمَذْكُورُ هَاهُنَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ تَرْكَهُ لَا يُوجِبُ التَّضْلِيلَ أَصْلًا وَيُوجِبُ التَّفْسِيقَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَخِفًّا، وَلَا يُوجِبُهُ إذَا كَانَ مُتَأَوِّلًا، وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى التَّفْسِيقِ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ بَلْ هُوَ سَاكِتٌ عَنْهُ وَالْمَذْكُورُ بَعْدَهُ بِخُطُوطٍ يَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ التَّضْلِيلِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ مَعْنَى مَا ذُكِرَ هُنَا وَيُفَسَّقُ تَارِكُهُ وَيُضَلَّلُ إذَا اسْتَخَفَّ. وَالْمَذْكُورُ فِي التَّقْوِيمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَضْلِيلَ فِيهِ أَصْلًا، وَلَا تَفْسِيقَ إلَّا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ الْوَاجِبَ كَالْمَكْتُوبَةِ فِي لُزُومِ الْعَمَلِ وَالنَّافِلَةِ فِي حَقِّ الِاعْتِقَادِ حَتَّى لَا يَجِبَ تَكْفِيرُ جَاحِدِهِ، وَلَا تَضْلِيلُهُ وَحُكْمُهُ أَنْ لَا يُكَفَّرَ الْمُخَالِفُ بِتَكْذِيبِهِ، وَلَا يُفَسَّقُ بِتَرْكِهِ عَمَلًا إلَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَخِفًّا بِأَخْبَارِ الْآحَادِ فَيُفَسِّقُهُ قَوْلُهُ (وَأَنْكَرَ الشَّافِعِيُّ هَذَا الْقِسْمَ) أَيْ أَنْكَرَ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ وَقَالَ هُمَا مُتَرَادِفَانِ وَيَنْطَلِقَانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ الَّذِي يُذَمُّ تَارِكُهُ وَيُلَامُ شَرْعًا بِوَجْهٍ سَوَاءٌ ثَبَتَ بِطَرِيقٍ قَطْعِيٍّ أَوْ ظَنِّيٍّ. قَالَ: وَاخْتِلَافُ طَرِيقِ الثُّبُوتِ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَهُ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّ اخْتِلَافَ طُرُقِ النَّوَافِلِ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ حَقَائِقِهَا، وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُ طُرُقِ الْحَرَامِ بِالْقَطْعِ وَالظَّنِّ غَيْرُ مُوجِبٍ اخْتِلَافَهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ الْحَرَامُ. قَالَ وَتَخْصِيصُ اسْمِ الْفَرْضِ بِالْمَقْطُوعِ وَالَوْا جِبْ بِالْمَظْنُونِ تَحَكُّمٌ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ لُغَةً هُوَ التَّقْدِيرُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ مَقْطُوعًا أَوْ مَظْنُونًا بِهِ. وَكَذَا الْوَاجِبُ هُوَ السَّاقِطُ سَوَاءٌ كَانَ مَظْنُونًا بِهِ مَقْطُوعًا بِهِ فَكَانَ

وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ النَّصَّ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ أَوْجَبَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] وَخَبَرُ الْوَاحِدِ وَفِيهِ شُبْهَةٌ تُعَيِّنُ الْفَاتِحَةَ فَلَمْ يَجُزْ تَغَيُّرُ الْأَوَّلِ بِالثَّانِي بَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالثَّانِي عَلَى أَنَّهُ تَكْمِيلٌ لِحُكْمِ الْأَوَّلِ مَعَ قَرَارِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ الْكِتَابُ أَوْجَبَ الرُّكُوعَ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ أَوْجَبَ التَّعْدِيلَ، وَكَذَلِكَ الطَّوَافُ مَعَ الطَّهَارَةِ فَمَنْ رَدَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ فَقَدْ ضَلَّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ وَمَنْ سَوَّاهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ فَقَدْ أَخْطَأَ فِي رَفْعِهِ عَنْ مَنْزِلَتِهِ وَوَضْعِ الْأَعْلَى عَنْ مَنْزِلَتِهِ، وَإِنَّمَا الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ مَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ السَّعْيُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ـــــــــــــــــــــــــــــQتَخْصِيصُ كُلِّ وَاحِدٍ بِقِسْمٍ تَحَكُّمًا. وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّهُ إنْ أَنْكَرَ الِاسْمَ أَيْ أَنْكَرَ كَوْنَهُمَا مُتَبَايِنَيْنِ لُغَةً فَلَا مَعْنَى لَهُ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ مَعْنَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَمُبَايَنَةُ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ لِلْآخَرِ، وَإِنْ أَنْكَرَ الْحُكْمَ أَيْ أَنْكَرَ التَّفْرِقَةَ بَيْنَهُمَا حُكْمًا بِأَنْ قَالَ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُمَا فِي لُزُومِ الْعَمَلِ بَطَلَ إنْكَارُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَبَيْنَ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مَظْنُونٍ ظَاهِرَةٌ، إذْ ثُبُوتُ الْمَدْلُولِ عَلَى حَسَبِ الدَّلِيلِ فَمَتَى كَانَ التَّفَاوُتُ ثَابِتًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ لَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِهِ بَيْنَ الْمَدْلُولَيْنِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ تَخْصِيصُ كُلِّ لَفْظٍ بِقِسْمٍ تَحَكُّمٌ فَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّا نَخُصُّ الْفَرْضَ بِقِسْمٍ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْقَطْعِ وَنَخُصُّ الْوَاجِبَ بِقِسْمٍ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى السُّقُوطِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا، وَلَا يُوجَدُ مَعْنَى الْقَطْعِ فِي الْوَاجِبِ، وَلَا مَعْنَى السُّقُوطِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا فِي الْفَرْضِ فَأَنَّى يَلْزَمُ التَّحَكُّمُ، وَسَائِرُ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَدْ اصْطَلَحُوا عَلَى تَخْصِيصِ اسْمِ الْفَرْضِ بِمَا يُقْطَعُ بِوُجُوبِهِ وَتَخْصِيصُ اسْمِ الْوَاجِبِ بِمَا ثَبَتَ ظَنًّا وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ انْقِسَامَ الْوَاجِبِ إلَى مَقْطُوعٍ وَمَظْنُونٍ، وَلَا حَجْرَ فِي اصْطِلَاحَاتٍ بَعْدَ تَفَهُّمِ الْمَعَانِي. فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ وُجُوبَ الْعَمَلِ فِي الْوَاجِبِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِثْلُ وُجُوبِ الْعَمَلِ فِي الْفَرْضِ وَالتَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا فِي ثُبُوتِ الْعِلْمِ وَعَدَمِهِ وَعِنْدَنَا التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا ثَابِتٌ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ أَيْضًا حَتَّى كَانَ وُجُوبُ الْعَمَلِ فِي الْفَرْضِ أَقْوَى مِنْ وُجُوبِهِ فِي الْوَاجِبِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَيْ بَيَانُ التَّفَاوُتِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ النَّصَّ الْمَقْطُوعَ بِهِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] . أَوْجَبَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ إذْ الْمُرَادُ مِنْهُ الْقُرْآنُ فِي الصَّلَاةِ بِالْإِجْمَاعِ. وَبِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} [المزمل: 20] . وَكَانَ قِيَامُ ثُلُثِ اللَّيْلِ فَرْضًا فَانْتَسَخَ أَصْلُهُ فِي قَوْلِهِ أَوْ تَقْدِيرُهُ فِي قَوْلِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى. {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] أَيْ فِي كُلِّ صَلَاةٍ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَوْ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي. وَبِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْإِيجَابِ، وَلَا وُجُوبَ خَارِجِ الصَّلَاةِ فَيَتَعَيَّنُ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ، وَهَذَا النَّصُّ بِإِطْلَاقِهِ وَعُمُومِهِ يَتَنَاوَلُ الْفَاتِحَةَ وَغَيْرَهَا فَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِقِرَاءَةِ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ كَمَا يَخْرُجُ بِقِرَاءَتِهَا. وَخَبَرُ الْوَاحِدِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» أَوْجَبَ الْفَاتِحَةَ عَلَيْنَا فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَغْيِيرُ مُوجِبِ الْكِتَابِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَجْعَلَ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ وَاجِبَةً يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا لِيَتَقَرَّرَ الْكِتَابُ عَلَى حَالِهِ وَيَحْصُلُ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلَيْنِ عَلَى مَرْتَبَتِهِمَا. وَلَا يُقَالُ قَدْ خُصَّ مِنْ النَّصِّ مَا دُونَ الْآيَةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ قُرْآنٌ حَتَّى لَوْ أَنْكَرَهُ يَكْفُرُ فَيُخَصُّ مَا دُونَ الْفَاتِحَةِ بِالْخَبَرِ أَيْضًا.؛ لِأَنَّا نَقُولُ عَدَمُ جَوَازِ مَا دُونَ الْآيَةِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ التَّخْصِيصِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى قِرَاءَةً عُرْفًا فَلَا يَدْخُلُ إطْلَاقُ قَوْله تَعَالَى فَاقْرَءُوا. وَلِهَذَا لَا يَحْرُمُ قِرَاءَةُ مَا دُونَ الْآيَةِ عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُسَمَّى قِرَاءَةً عُرْفًا كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْهُ، وَلَكِنْ مَا دُونَ الْآيَةِ مِنْ الْقُرْآنِ حَقِيقَةً فَإِنْكَارُهُ يَكُونُ كُفْرًا كَإِنْكَارِ كَلِمَةٍ أَوْ حَرْفٍ. فَمَنْ رَدَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ كَمَا رَدَّهُ الرَّافِضَةُ وَغَيْرُهُمْ فَقَدْ ضَلَّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ أَيْ عَنْ وَسَطِهِ، وَمَنْ سَوَّاهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ

وَكَذَلِكَ تَأْخِيرُ الْمَغْرِبِ إلَى الْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَاجِبٌ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَإِذَا صَلَّى فِي الطَّرِيقِ أُمِرَ بِالْإِعَادَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَمَلًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ سَقَطَتْ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْمَغْرِبِ إنَّمَا وَجَبَ إلَى وَقْتِ الْعِشَاءِ وَقَدْ انْتَهَى وَقْتُ الْعِشَاءِ فَانْتَهَى الْعَمَلُ فَلَا يَبْقَى الْفَسَادُ مِنْ بَعْدُ إلَّا بِالْعِلْمِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُهُ وَلَا يُعَارِضُ حُكْمَ الْكِتَابِ فَلَا يُفْسِدُ الْعِشَاءَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُتَوَاتِرَةِ فِي إثْبَاتِ الْفَرْضِيَّةِ كَمَا فَعَلَهُ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ حَتَّى كَانَ الثَّابِتُ بِهِ مِثْلَ الثَّابِتِ بِالْكِتَابِ فِي الْعَمَلِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمَا فَقَدْ أَخْطَأَ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي بَابِ أَحْكَامِ الْخُصُوصِ. وَمَا ذَكَرُوا أَنَّ ثُبُوتَ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ وَخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ وَعَدَمِ ثُبُوتِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدَةِ كَافٍ لِإِثْبَاتِ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا لَا يُغْنِيهِمْ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِهِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ الثَّابِتِ بِهِمَا لِتَفَاوُتِ الدَّلِيلَيْنِ فِي ذَاتَيْهِمَا ضَعْفًا وَقُوَّةً وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا حَيْثُ رَاعَيْنَا حَدَّ الْكِتَابِ الثَّابِتِ بِالْيَقِينِ بِأَنْ لَمْ يُلْحَقْ خَبَرُ الْوَاحِدِ بِهِ زِيَادَةً عَلَيْهِ وَرَاعَيْنَا حَدَّ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِأَنْ أَوْجَبْنَا الْعَمَلَ بِهِ. وَكَذَا السَّعْيُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِالْجَرِّ يَعْنِي السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَاجِبٌ عِنْدَنَا، وَلَيْسَ بِرُكْنٍ حَتَّى لَوْ تَرَكَهُ رَأْسًا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ يُجْبَرُ بِالدَّمِ وَيَتِمُّ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ رُكْنٌ، وَلَا يَتِمُّ حَجٌّ، وَلَا عُمْرَةٌ إلَّا بِهِ «؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ. إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ فَاسْعَوْا» . وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَا أَتَمَّ اللَّهُ لِامْرِئٍ حَجَّةً، وَلَا عُمْرَةً لَا يَطُوفُ لَهَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ» . إلَّا أَنَّا تَمَسَّكْنَا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] .، وَمِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ يُوجِبُ الْإِبَاحَةَ لَا الْإِيجَابَ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا ظَاهِرَهُ فِي حُكْمِ الْإِيجَابِ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ فَبَقِيَ مَا وَرَاءَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَعَمِلْنَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي إثْبَاتِ الْإِيجَابِ دُونَ الرُّكْنِيَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَإِنْ قَرَأْت وَالْعُمْرَةُ بِالرَّفْعِ فَمَعْنَاهُ، وَكَذَا الْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ، وَلَيْسَتْ بِفَرِيضَةٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هِيَ فَرِيضَةٌ مِثْلُ الْحَجِّ لِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْعُمْرَةُ فَرِيضَةٌ كَفَرِيضَةِ الْحَجِّ» . وَعِنْدَنَا لَمَّا ضَعُفَ الدَّلِيلُ عَنْ إثْبَاتِ الْفَرْضِيَّةِ لِكَوْنِهِ خَبَرًا لِوَاحِدٍ ثَبَتَ بِهِ الْوُجُوبُ. وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ أَيْ الْمَذْكُورُ مِثْلُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَقِرَاءَةِ التَّشَهُّدِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَمَّا ثَبَتَتْ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ كَانَتْ مِنْ الْوَاجِبَاتِ لَا مِنْ الْأَرْكَانِ. وَلَا يَلْزَمُ الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ؛ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ بِاتِّفَاقِ الْآثَارِ «إنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا سَلَّمَ إلَّا بَعْدَ الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ» كَذَا فِي الْأَسْرَارِ.؛ وَلِأَنَّ الْخَبَرَ الْمُوجِبَ لَهَا الْتَحَقَ بَيَانًا بِمُجْمَلِ الْكِتَابِ عَلَى مَا عُرِفَ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ تَأْخِيرُ الْمَغْرِبِ) أَيْ مِثْلُ وُجُوبِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحْكَامِ تَأْخِيرُ الْمَغْرِبِ إلَى الْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ لَيْلَةَ النَّحْرِ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ مِنْ عَرَفَاتٍ وَاجِبٌ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الطَّرِيقِ إلَى الْمُزْدَلِفَةِ فَقَالَ الصَّلَاةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ الصَّلَاةُ أَمَامَك» . وَمُرَادُهُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ إمَّا الْوَقْتُ أَوْ الْمَكَانُ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِعْلُ الْمُصَلِّي، وَفِعْلُهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَمَامَهُ فَثَبَتَ أَنَّ التَّأْخِيرَ وَاجِبٌ. فَإِذَا صَلَّى الْمَغْرِبَ بِعَرَفَاتٍ أَوْ فِي الطَّرِيقِ بَعْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ أَوْ بَعْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ يُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لَا يَجِبُ الْإِعَادَةُ، وَكَانَ مُسِيئًا؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا فِي وَقْتِهَا الثَّابِتِ بِالْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ إلَّا أَنَّ التَّأْخِيرَ سُنَّةٌ فَيَكُونُ مُسِيئًا بِتَرْكِهِ. وَلَهُمَا أَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَقْتُ الْعِشَاءِ، وَمَكَانُ الْأَدَاءِ مُزْدَلِفَةُ بِالْحَدِيثِ فَإِذَا أَدَّاهَا قَبْلَ وَقْتِهَا أَوْ فِي غَيْرِ مَكَانِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ عَمَلًا بِالسُّنَّةِ كَمَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ إذَا أُدِّيَتْ قَبْلَ وَقْتِهَا، وَكَالْجُمُعَةِ وَصَلَاةِ الْعِيدِ إذَا أُدِّيَتَا فِي غَيْرِ الْمِصْرِ أَوْ فِنَائِهِ، وَكَالظُّهْرِ الْمُؤَدَّى فِي الْمَنْزِلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَيْ لَمْ يَعُدْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ سَقَطَتْ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّ الْإِعَادَةَ

وَكَذَلِكَ التَّرْتِيبُ فِي الصَّلَوَاتِ وَاجِبٌ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَإِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ أَوْ كَثُرَتْ الْفَوَائِتُ فَصَارَ مُعَارَضًا بِحُكْمِ الْكِتَابِ بِتَغَيُّرِ الْوَقْتِيَّةِ سَقَطَ الْعَمَلُ بِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQإنَّمَا وَجَبَتْ لِيَحْصُلَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْوَقْتِ وَالْمَكَانِ كَمَا يُوجِبُهُ الْحَدِيثُ فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ وَانْتَهَى وَقْتُ الْجَمْعِ، وَهُوَ وَقْتُ الْعِشَاءِ سَقَطَتْ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّا إنَّمَا أَوْجَبْنَاهَا بِالْخَبَرِ فَلَوْ أَوْجَبْنَاهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَحَكَمْنَا بِفَسَادِ مَا أَدَّى مُطْلَقًا وَذَلِكَ مِنْ بَابِ الْعِلْمِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ. وَلَا يُعَارِضُ أَيْ خَبَرُ الْوَاحِدِ مُقْتَضَى الْكِتَابِ، وَهُوَ جَوَازُ الْمَغْرِبِ الْمُؤَدَّاةِ فَلَا يَفْسُدُ الْعِشَاءُ أَيْ بِفَتْحِ الْيَاءِ الْعِشَاءَ الْأُولَى، وَهِيَ الْمَغْرِبُ الْمُؤَدَّاةُ. أَوْ بِضَمِّهَا يَعْنِي لَا يُفْسِدُ تَذَكُّرُ الصَّلَاةِ الَّتِي وَجَبَتْ إعَادَتُهَا الْعِشَاءَ الْأَخِيرَةَ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِفَائِتَةٍ بِيَقِينِ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ التَّرْتِيبُ فِي الصَّلَوَاتِ) . أَيْ التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْفَوَائِتِ وَالْوَقْتِيَّةِ وَاجِبٌ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا» . وَمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلَمْ يَذْكُرْهَا إلَّا، وَهُوَ مَعَ الْإِمَامِ فَلْيُصَلِّ الَّتِي هُوَ فِيهَا ثُمَّ لِيُصَلِّ الَّتِي ذَكَرَهَا ثُمَّ لِيُصَلِّ الَّتِي صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ» . وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ مَا لَمْ يُعَارِضْ الْكِتَابَ وَالْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ فَعِنْدَ سَعَةِ الْوَقْتِ لَا مُعَارَضَةَ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] . يُوجِبُ الْأَدَاءَ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ بِحَيْثُ لَا يَفُوتُهُ عَنْهُ، وَلَا يُوجِبُ الْأَدَاءَ فِي وَقْتِ التَّذَكُّرِ لَا مَحَالَةَ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يُوجِبُ تَقْدِيمَ الْفَائِتَةِ، وَأَدَائِهَا فِي وَقْتِ التَّذَكُّرِ، وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ. فَأَمَّا عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ تَحَقَّقَ التَّعَارُضُ لِتَعَيُّنِ الْوَقْتِ لِلْوَقْتِيَّةِ بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ التَّأْخِيرُ عَنْهُ وَاقْتِضَاءُ خَبَرِ الْوَاحِدِ تَقْدِيمَ الْفَائِتَةِ الْمُسْتَلْزِمِ لِتَفْوِيتِهَا عَنْ الْوَقْتِ وَعَدَمِ جَوَازِهَا قَبْلَ الْفَائِتَةِ فَوَجَبَ تَرْجِيحُ الْكِتَابِ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فَلِذَلِكَ سَقَطَ الْعَمَلُ بِهِ. وَكَذَا الْحُكْمُ فِي كَثْرَةِ الْفَوَائِتِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى ضِيقِ الْوَقْتِ لِتَأْدِيَةِ رِعَايَةِ التَّرْتِيبِ فِيهَا إلَى تَفْوِيتِ الْوَقْتِيَّةِ أَيْضًا. فَإِنْ قِيلَ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ غَيْرُ مُمْكِنٍ عِنْدَ سَعَةِ الْوَقْتِ إلَّا بَعْدَ رَفْعِ مُوجِبِ الْكِتَابِ أَيْضًا فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ الْأَدَاءَ فِي الْحَالِ لَكِنَّهُ يَقْتَضِي الْجَوَازَ أَوْ الْخُرُوجَ عَنْ الْعُهْدَةِ إذَا تَحَقَّقَ الْأَدَاءُ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يَنْفِي فَلَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ إبْطَالًا لَا لِمُوجِبِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ كَمَا قُلْتُمْ فِي خَبَرِ التَّعْيِينِ وَالتَّعْدِيلِ وَاشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ فِي الطَّوَافِ. قُلْنَا هَذَا لَا يَلْزَمُ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ يَقُولُ بِالْفَسَادِ الْمَوْقُوفِ حَتَّى لَوْ تَرَكَ صَلَاةً ثُمَّ صَلَّى صَلَوَاتٍ كَثِيرَةً مَعَ تَذَكُّرِهَا يَسْقُطُ التَّرْتِيبُ، وَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ إلَّا قَضَاءُ الْفَائِتَةِ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الْمُؤَدَّيَاتِ بَعْدَهَا لَمْ يَكُنْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ لِيَجِبَ قَضَاؤُهَا مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا كَانَ لِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَقَدْ سَقَطَ ذَلِكَ عَمَلًا عِنْدَ كَثْرَةِ الصَّلَوَاتِ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا قَضَاءُ الْمَتْرُوكَةِ، وَالْقَوْلُ بِالْوَقْفِ لَا يُوجِبُ رَفْعَ الْجَوَازِ كَيْفَ وَمُخْتَارُ الشَّيْخِ أَنَّ بِمُجَرَّدِ خُرُوجِ الْوَقْتِ تَنْقَلِبُ الْوَقْتِيَّةُ الْمُؤَدَّاةُ صَحِيحَةً فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي شَرْحِ الْمَبْسُوطِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُحْتَجًّا لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ حُكْمَ الْفَسَادِ لَيْسَ بِمُتَقَرِّرٍ فِيمَا أَدَّى بَلْ هُوَ شَيْءٌ يُفْتَى بِهِ فِي الْوَقْتِ حَتَّى يُعِيدَهُ ثَانِيًا فِي الْوَقْتِ لِيَكُونَ عَمَلًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ فَمَتَى مَضَى الْوَقْتُ لَوْ حَكَمْنَا بِفَسَادِ الْوَقْتِيَّةِ كَانَ ذَلِكَ تَرْكًا لِلْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ بِنَاءً عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بَلْ يَجِبُ الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ مُطْلَقًا، وَلَا يُعْتَبَرُ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِي مُقَابَلَتِهِ مُعَارِضًا لَهُ. قَالَ: وَإِلَى هَذَا

وَثَبَتَ الْحَطِيمُ مِنْ الْبَيْتِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَجَعَلْنَا الطَّوَافَ وَاجِبًا لَا يُعَارِضُ الْأَصْلَ. ـــــــــــــــــــــــــــــQأَشَارَ مُحَمَّدٌ فِي الْكِتَابِ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِمَسْأَلَةِ الْحَاجِّ إذَا صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ يُعِيدُ فَإِذَا لَمْ يُعِدْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ أُخِّرَتْ عَنْهُ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ أُدِّيَتْ فِي وَقْتِهَا إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَيَقُولَانِ إنَّ الْجَوَازَ، وَإِنْ ارْتَفَعَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ لَكِنَّهُ مُبَاحٌ؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ الْجَوَازِ مِنْهُ مُبَاحٌ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ مُخْتَارًا فَلَأَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ الْخَبَرُ أَوْلَى، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ تَفْوِيتُهُ عَنْ الْوَقْتِ اخْتِيَارًا لَا يَجُوزُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَيْضًا؛ وَلِأَنَّا مَا رَفَعْنَا الْجَوَازَ لَكِنْ أَخَّرْنَاهُ إلَى مَا بَعْدِ الْفَائِتَةِ، وَإِذَا لَمْ تُقَدَّمْ الْفَائِتَةُ لَمْ يَحْصُلْ الْعَمَلُ بِالْخَبَرِ أَصْلًا فَالْأَوَّلُ تَأْخِيرٌ وَالثَّانِي إبْطَالٌ. وَالتَّأْخِيرُ أَهْوَنُ مِنْهُ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ كَذَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الْفَوَائِدِ أَنَّ كَثْرَةَ الْفَوَائِتِ لَمَّا الْتَحَقَتْ بِضِيقِ الْوَقْتِ فِي سُقُوطِ التَّرْتِيبِ كَانَ قِلَّتُهَا بِمَنْزِلَةِ سَعَةِ الْوَقْتِ فِي وُجُوبِ التَّرْتِيبِ فَوُجُوبُ الْإِعَادَةِ عِنْدَ الْقِلَّةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ وُجُوبِهَا فِي الْوَقْتِ وَبِمَنْزِلَةِ وُجُوبِ الْإِعَادَةِ لِتَغْرُبَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ؛ لِأَنَّ الْقِلَّةَ بِمَنْزِلَةِ سَعَةِ الْوَقْتِ فَكَانَ وَقْتُ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بَاقِيًا تَقْدِيرًا. وَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا الْفَرْقُ بَيْنَ وُجُوبِ تَعْيِينِ الْفَاتِحَةِ وَوُجُوبِ التَّعْدِيلِ وَاشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ فِي الطَّوَافِ وَبَيْنَ وُجُوبِ التَّرْتِيبِ فَإِنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا التَّعْيِينَ أَوْ التَّعْدِيلَ أَوْ الطَّهَارَةَ عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى فَسَادِ الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ يَلْزَمُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلَوْ أَوْجَبْنَا التَّرْتِيبَ عِنْدَ سَعَةِ الْوَقْتِ عَلَى وَجْهٍ يُؤَثِّرُ فِي فَسَادِ الْوَقْتِيَّةِ لَا يُؤَدِّي إلَى نَسْخِ الْكِتَابِ بَلْ يَكُونُ تَأْخِيرًا لِحِكْمَةٍ مَعَ أَنَّ لَهُ وِلَايَةَ التَّأْخِيرِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ عَمَلًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. فَإِنْ قِيلَ لَمَّا تَعَيَّنَ آخِرُ الْوَقْتِ لِلْوَقْتِيَّةِ حَتَّى وَجَبَ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْفَائِتَةِ يَنْبَغِي أَنَّهُ لَوْ قَدَّمَ الْفَائِتَةَ لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ قَدَّمَ الْوَقْتِيَّةَ عَلَى الْفَائِتَةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ لَا يَجُوزُ لِتَعَيُّنِهِ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ. قُلْنَا الْمَنْعُ عَنْ تَقْدِيمِ الْوَقْتِيَّةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَنَفَّلَ أَوْ عَمِلَ عَمَلًا آخَرَ لَمْ يُمْنَعْ عَنْهُ فَيُوجِبُ الْفَسَادَ أَمَّا الْمَنْعُ عَنْ تَقْدِيمِ الْفَائِتَةِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَقَدْ ثَبَتَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهَا، وَهُوَ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَفْوِيتِ الْوَقْتِيَّةِ عَنْ الْوَقْتِ وَلِهَذَا يُكْرَهُ لَهُ الِاشْتِغَالُ بِالنَّافِلَةِ وَبِعَمَلٍ آخَرَ فَلَمْ يُوجِبْ الْفَسَادَ كَذَا ذَكَرَ فِي شَرْحِ الْقُدُورِيِّ لِأَبِي نَصْرٍ الْبَغْدَادِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ (وَثَبَتَ الْحَطِيمُ مِنْ الْبَيْتِ) ، وَهُوَ اسْمٌ لِمَوْضِعٍ مُتَّصِلٍ بِالْبَيْتِ مِنْ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فُرْجَةٌ. وَسُمِّيَ بِالْحَطِيمِ؛ لِأَنَّهُ حُطَمٌ مِنْ الْبَيْتِ أَيْ كَسْرٌ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالْقَتِيلِ وَالْجَرِيحِ. أَوْ؛ لِأَنَّ مَنْ دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فِيهِ حَطَّمَهُ اللَّهُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ فَكَانَ فَعِيلًا بِمَعْنَى فَاعِلٍ كَالْعَلِيمِ. ثُمَّ يَجِبُ عَلَى الطَّائِفِ أَنْ يَطُوفَ وَرَاءَ الْحَطِيمِ مِنْ الْبَيْتِ وَلَا يَدْخُلَ تِلْكَ الْفُرْجَةَ فِي طَوَافِهِ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ الْبَيْتِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - نَذَرَتْ أَنْ تُصَلِّيَ فِي الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ إنْ فَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى مَكَّةَ عَلَى رَسُولِهِ فَجَاءَ بِهَا النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ لَيْلًا إلَى الْبَيْتِ فَصَدَّهَا خَزَنَةُ الْبَيْتِ وَقَالُوا إنَّا نُعَظِّمُ هَذَا الْبَيْتَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَمِنْ تَعْظِيمِهَا أَنْ لَا نَفْتَحَ بَابَهُ فِي اللَّيَالِي فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهَا، وَأَدْخَلَهَا فِي الْحَطِيمِ وَقَالَ: صَلِّي هَاهُنَا فَإِنَّ الْحَطِيمَ مِنْ الْبَيْتِ إلَّا أَنَّ قَوْمَك قَصُرَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ فَأَخْرَجُوهُ مِنْ الْبَيْتِ، وَلَوْلَا حِدْثَانُ

وَحُكْمُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَالَبَ الْمَرْءُ بِإِقَامَتِهَا مِنْ غَيْرِ افْتِرَاضٍ وَلَا وُجُوبٍ لِأَنَّهَا طَرِيقَةٌ أُمِرْنَا بِإِحْيَائِهَا فَيَسْتَحِقُّ اللَّائِمَةَ بِتَرْكِهَا إلَّا أَنَّ السُّنَّةَ عِنْدَنَا قَدْ تَقَعُ عَلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرِهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُطْلَقُهَا طَرِيقَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـــــــــــــــــــــــــــــQعَهْدِ قَوْمِك بِالْجَاهِلِيَّةِ لَنَقَضْت بِنَاءَ الْكَعْبَةِ، وَأَظْهَرْت قَوَاعِدَ الْخَلِيلِ، وَأَدْخَلْت الْحَطِيمَ فِي الْبَيْتِ، وَأَلْصَقْت الْعَتَبَةَ بِالْأَرْضِ وَجَعَلْت لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا، وَلَئِنْ عِشْت إلَى قَابِلٍ لَأَفْعَلَن ذَلِكَ» . فَجَعَلْنَا الطَّوَافَ بِهِ. أَيْ بِالْحَطِيمِ وَاجِبًا بِهَذَا الْخَبَرِ أَوْ جَعَلْنَا الطَّوَافَ عَلَى الْحَطِيمِ بِهِ أَيْ بِهَذَا الْخَبَرِ وَاجِبًا. لَا يُعَارِضُ الْأَصْلَ أَيْ لَا يُسَاوِيهِ حَتَّى لَوْ تَرَكَهُ يُؤْمَرُ بِإِعَادَةِ الطَّوَافِ مِنْ الْأَصْلِ أَوْ إعَادَتِهِ عَلَى الْحَطِيمِ مَا دَامَ بِمَكَّةَ لِيَتَحَقَّقَ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. وَلَوْ رَجَعَ مِنْ غَيْرِ إعَادَةٍ يُجْزِيهِ وَيُجْبَرُ بِالدَّمِ لِوُجُودِ أَصْلِ الْفَرْضِ، وَهُوَ الدَّوَرَانُ حَوْلَ الْبَيْتِ مَعَ تَمَكُّنِ النُّقْصَانِ فِيهِ بِتَرْكِ الطَّوَافِ عَلَى الْحَطِيمِ. وَلَوْ تَوَجَّهَ إلَى الْحَطِيمِ لَا يَجُوزُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنْ الْبَيْتِ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ مَا ثَبَتَ فَرْضًا بِالْكِتَابِ، وَهُوَ التَّوَجُّهُ إلَى الْكَعْبَةِ. قَوْلُهُ (وَحُكْمُ السُّنَّةِ) كَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حُكْمُ السُّنَّةِ هُوَ الِاتِّبَاعُ فَقَدْ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَّبَعٌ فِيمَا سَلَكَ مِنْ طَرِيقِ الدِّينِ، وَكَذَا الصَّحَابَةُ بَعْدَهُ، وَهَذَا الِاتِّبَاعُ الثَّابِتُ بِمُطْلَقِ السُّنَّةِ خَالٍ عَنْ صِفَةِ الْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ إلَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ أَعْلَامِ الدِّينِ نَحْوُ صَلَاةِ الْعِيدِ وَالْآذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْوَاجِبِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ بَعْدُ وَذَكَرَ أَبُو الْيُسْرِ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَكُلُّ نَفْلٍ وَاظَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلُ التَّشَهُّدِ فِي الصَّلَوَاتِ وَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ وَحُكْمُهَا أَنَّهُ يُنْدَبُ إلَى تَحْصِيلِهَا وَيُلَامُ عَلَى تَرْكِهَا مَعَ لُحُوقِ إثْمٍ يَسِيرٍ وَكُلُّ نَفْلٍ لَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ تَرَكَهُ فِي حَالَةٍ كَالطَّهَارَةِ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَتَكْرَارِ الْغُسْلِ فِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ وَالتَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ يُنْدَبُ إلَى تَحْصِيلِهِ، وَلَكِنْ لَا يُلَامُ عَلَى تَرْكِهِ، وَلَا يُلْحَقُ بِتَرْكِهِ وِزْرٌ. وَأَمَّا التَّرَاوِيحُ فِي رَمَضَانَ فَإِنَّهُ سُنَّةُ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ وَاظَبَ عَلَيْهَا الصَّحَابَةُ، وَهَذَا مِمَّا يُنْدَبُ إلَى تَحْصِيلِهِ وَيُلَامُ عَلَى تَرْكِهِ، وَلَكِنَّهُ دُونَ مَا وَاظَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّ سُنَّةَ النَّبِيِّ أَقْوَى مِنْ سُنَّةِ الصَّحَابَةِ.، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ يَقُولُونَ السُّنَّةُ نَفْلٌ وَاظَبَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَأَمَّا النَّفَلُ الَّذِي وَاظَبَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ فَلَيْسَ بِسُنَّةٍ، وَهُوَ عَلَى أَصْلِهِمْ مُسْتَقِيمٌ فَإِنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ، أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ حُجَّةً فَلَا يَجْعَلُونَ أَفْعَالَهُمْ أَيْضًا سُنَّةً وَعِنْدَنَا أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ حُجَّةٌ فَيَكُونُ أَفْعَالُهُمْ سُنَّةً؛ لِأَنَّهَا طَرِيقَةٌ أُمِرْنَا بِإِحْيَائِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] . وَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] . وَبِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي» الْحَدِيثَ. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَرَكَ سُنَّتِي لَمْ يَنَلْ شَفَاعَتِي» . وَالْإِحْيَاءُ فِي الْفِعْلِ فَتَرْكُ الْفِعْلِ يَسْتَوْجِبُ اللَّائِمَةَ أَيْ الْمَلَامَةَ فِي الدُّنْيَا وَحِرْمَانَ الشَّفَاعَةِ فِي الْعُقْبَى. إلَّا أَنَّ السُّنَّةَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ أَيْ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ تَفْسِيرَ السُّنَّةِ وَحُكْمَهَا مَا ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافُ فِي أَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ السُّنَّةِ يَقَعُ عَلَى سُنَّةِ الرَّسُولِ أَوْ يَحْتَمِلُ سُنَّتَهُ وَسُنَّةَ غَيْرِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرَّاوِيَ إذَا قَالَ مِنْ السُّنَّةِ كَذَا فَعِنْدَ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ، وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ يُحْمَلُ عَلَى سُنَّةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَعِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ

قَالَ ذَلِكَ فِي أَرْشِ مَا دُونَ النَّفْسِ فِي النِّسَاءِ أَنَّهُ لَا يَنْتَصِفُ إلَى الثُّلُثِ لِقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - السُّنَّةُ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لَا يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى سُنَّةِ الرَّسُولِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ وَالشَّيْخُ الْمُصَنِّفُ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ، وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَكَذَا الْخِلَافُ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ أُمِرْنَا بِكَذَا أَوْ نُهِينَا عَنْ كَذَا. تَمَسَّكُوا فِي ذَلِكَ بِأَنَّ لَفْظَ السُّنَّةِ يُطْلَقُ عَلَى طَرِيقَةِ غَيْرِ الرَّسُولِ مِنْ الصَّحَابَةِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ سَنُّوا أَحْكَامًا كَمَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «جَلَدَ الرَّسُولُ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ» وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ وَجَلَدَ عُمَرُ ثَمَانِينَ وَكُلٌّ سُنَّةٌ. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي» . أَطْلَقَ اسْمَ السُّنَّةِ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ. وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا» . الْحَدِيثَ، وَقَدْ عَنَى بِذَلِكَ سُنَّةَ غَيْرِهِ. وَالسَّلَفُ كَانُوا يُطْلِقُونَ اسْمَ السُّنَّةِ عَلَى طَرِيقَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ إذَا قَالَ مَالِكٌ السُّنَّةُ عِنْدَنَا أَوْ السُّنَّةُ بِبَلَدِنَا كَذَا فَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ سُنَّةَ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، وَكَانَ عَرِيفَ السُّوقِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى إطْلَاقِ لَفْظِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ طَرِيقَةُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْ غَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ بِطَرِيقَتِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَاحْتَجَّ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ الْمُقْتَدَى وَالْمُتَّبَعُ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَفْظُ السُّنَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا يُحْمَلُ إلَّا عَلَى سُنَنِهِ كَمَا لَوْ قِيلَ هَذَا الْفِعْلُ طَاعَةٌ لَا يُحْمَلُ إلَّا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، وَأَمَّا إضَافَتُهَا إلَى غَيْرِ الرَّسُولِ فَجَازَ لِاقْتِدَائِهِ فِيهَا بِسُنَّةِ الرَّسُولِ فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى حَقِيقَتِهِ دُونَ مَجَازِهِ.، وَمَا ذَكَرُوا مِنْ الْحَدِيثِ وَالْإِطْلَاقِ لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّا لَا نُنْكِرُ جَوَازَ إطْلَاقِ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى طَرِيقَةِ غَيْرِ الرَّسُولِ مَعَ التَّقْيِيدِ، وَإِنَّمَا نَمْنَعُ أَنْ يُفْهَمَ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ السُّنَّةِ غَيْرُ سُنَّةِ الرَّسُولِ كَذَا فِي الْمِيزَانِ وَالْمُعْتَمَدِ. وَقَوْلُهُمْ اللَّفْظُ مُطْلَقٌ فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ قُلْنَا لَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِهِ إمَّا بِطَرِيقَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْ بِطَرِيقَةِ غَيْرِهِ فَتَقْيِيدُهُ بِالْأُولَى أَوْلَى لِمَا ذَكَرْنَا قَوْلُهُ (قَالَ ذَلِكَ فِي أَرْشِ مَا دُونَ النَّفْسِ) إلَى آخِرِهِ دِيَةُ الْمَرْأَةِ عِنْدَنَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ فِي النَّفْسِ، وَمَا دُونَهَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمَرْأَةُ تُسَاوِي الرَّجُلَ إذَا كَانَ الْأَرْشُ بِقَدْرِ ثُلُثِ الدِّيَةِ أَوْ دُونَهُ فَإِنْ زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَحِينَئِذٍ حَالُهَا فِيهِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَالِ الرَّجُلِ لِمَا حُكِيَ عَنْ رَبِيعَةَ أَنَّهُ قَالَ قُلْت لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مَا تَقُولُ فِيمَنْ قَطَعَ إصْبَعَ امْرَأَةٍ قَالَ عَلَيْهِ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ قُلْت فَإِنْ قَطَعَ إصْبَعَيْنِ مِنْهَا قَالَ عَلَيْهِ عِشْرُونَ مِنْ الْإِبِلِ قُلْت فَإِنْ قَطَعَ ثَلَاثَةَ أَصَابِعَ قَالَ عَلَيْهِ ثَلَاثُونَ مِنْ الْإِبِلِ قُلْت فَإِنْ قَطَعَ أَرْبَعَةَ أَصَابِعَ قَالَ عَلَيْهِ عِشْرُونَ مِنْ الْإِبِلِ قُلْت سُبْحَانَ اللَّهِ لَمَّا كَثُرَ أَلَمُهَا وَاشْتَدَّ مُصَابُهَا قَلَّ أَرْشُهَا قَالَ أَعِرَاقِيٌّ أَنْتَ؟ قُلْتُ لَا بَلْ جَاهِلٌ مُسْتَرْشِدٌ أَوْ عَاقِلٌ مُسْتَثْبِتٌ فَقَالَ إنَّهُ السُّنَّةُ. وَهَذَا اللَّفْظُ إذَا أُطْلِقَ فَالْمُرَادُ بِهِ سُنَّةُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَمَرَاسِيلُ سَعِيدٍ عِنْدَهُ مَقْبُولَةٌ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ حَدِيثٍ مُسْنَدٍ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ رَبِيعَةُ فَإِنَّهُ لَوْ وَجَبَ بِقَطْعِ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ مِنْهَا ثَلَاثُونَ مِنْ الْإِبِلِ مَا سَقَطَ بِقَطْعِ الْإِصْبَعِ الرَّابِعِ عَشَرَةٌ مِنْ الْوَاجِبِ لَا تَأْثِيرُ الْقَطْعِ فِي إيجَابِ الْأَرْشِ لَا فِي إسْقَاطِهِ فَهَذَا شَيْءٌ يُحِيلُهُ الْعَقْلُ وَقَوْلُ سَعِيدٍ إنَّهُ السُّنَّةُ مُحْتَمَلٌ يَجُوزُ أَنَّهُ أَرَادَ سُنَّةَ نَفْسِهِ أَوْ سَنَةَ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لِأَنَّ التَّأَمُّلَ فِي الدِّينِ لِإِثْبَاتِ حُكْمٍ أَوْ اسْتِنْبَاطِ مَعْنًى طَرِيقَةٌ حَسَنَةٌ فَيُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ السُّنَّةِ كَمَا يُقَالُ سُنَّةُ الْعُمَرَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا كَيْفَ وَقَدْ أَفْتَى كِبَارُ الصَّحَابَةِ مِثْلُ عَلِيٍّ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِخِلَافِهِ. وَفِي الْمَبْسُوطِ إنَّ مَا رُوِيَ نَادِرٌ مِثْلُ هَذَا الْحُكْمِ الَّذِي يُحِيلُهُ عَقْلُ كُلِّ عَاقِلٍ

وَقَالَ فِي ذَلِكَ فِي قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ وَعِنْدَنَا هِيَ مُطْلَقَةٌ لَا قَيْدَ فِيهَا فَلَا يُقَيَّدُ بِلَا دَلِيلٍ وَكَانَ السَّلَفُ يَقُولُونَ سُنَّةُ الْعُمَرَيْنِ وَالسُّنَنُ نَوْعَانِ سُنَّةُ الْهُدَى وَتَارِكُهَا يَسْتَوْجِبُ إسَاءَةً وَكَرَاهِيَةً وَالزَّوَائِدِ وَتَارِكُهَا لَا يَسْتَوْجِبُ إسَاءَةً كَسِيَرِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي لِبَاسِهِ وَقِيَامِهِ وَقُعُودِهِ وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ بَابِ الْأَذَانِ كِتَابُ الصَّلَاةِ اخْتَلَفَتْ فَقِيلَ مَرَّةً يُكْرَهُ وَمَرَّةً أَسَاءَ وَمَرَّةً لَا بَأْسَ بِهِ لِمَا قُلْنَا، وَإِذَا قِيلَ يُعِيدُ فَذَلِكَ مِنْ حُكْمِ الْوُجُوبِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالشَّاذِّ النَّادِرِ. وَقَالَ ذَلِكَ فِي قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ. يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُقْتَلُ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمَا قَالَا مِنْ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُقْتَلَ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ وَالسُّنَّةُ تُحْمَلُ عَلَى سُنَّةِ الرَّسُولِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. وَقُلْنَا لَمَّا كَانَ هَذَا اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ. وَمَنْ قَالَ مِنْ مَشَايِخِنَا: إنَّ مُطْلَقَ السُّنَّةِ مَحْمُولٌ عَلَى سُنَّةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَجَابَ. عَنْ قَوْلِ سَعِيدٍ بِأَنَّ السُّنَّةَ إنَّمَا تُحْمَلُ عَلَى سُنَّةِ الرَّسُولِ إذَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ طَرِيقَةُ الْغَيْرِ، وَقَدْ قَامَ هَاهُنَا فَإِنَّ أَهْلَ النَّفْلِ خَرَّجُوهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَذَا قَالَ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ. وَإِلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْمَبْسُوطِ فَقِيلَ وَقَوْلُ سَعِيدٍ إنَّهُ السُّنَّةُ يَعْنِي سُنَّةَ زَيْدٍ. وَعَنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى السَّيِّدِ إذَا قَتَلَ عَبْدَهُ فَقَدْ كَانُوا مُخْتَلِفِينَ فِي ذَلِكَ فَمِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُ الْقِصَاصَ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ» . فَقَالَا ذَلِكَ رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ مِنْهُمْ يُقْتَلُ السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ قَوْلُهُ (سُنَّةُ الْهُدَى) يَعْنِي سُنَّةً أَخَذَهَا مِنْ تَكْمِيلِ الْهُدَى أَيْ الدِّينِ، وَهِيَ الَّتِي تَعَلَّقَ بِتَرْكِهَا كَرَاهِيَةٌ أَوْ إسَاءَةٌ. وَالْإِسَاءَةُ دُونَ الْكَرَاهَةِ، وَهِيَ مِثْلُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ. وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي بَعْضِهَا إنَّهُ يَصِيرُ مُسِيئًا فِي بَعْضِهَا إنَّهُ يَأْثَمُ، وَفِي بَعْضِهَا يَجِبُ الْقَضَاءُ، وَهِيَ سُنَّةُ الْفَجْرِ، وَلَكِنْ لَا يُعَاقَبُ بِتَرْكِهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِفَرِيضَةٍ، وَلَا وَاجِبَةٍ. وَالزَّوَائِدُ أَيْ وَالنَّوْعُ الثَّانِي الزَّوَائِدُ، وَهِيَ الَّتِي لَا يَتَعَلَّقُ بِتَرْكِهَا كَرَاهَةٌ، وَلَا إسَاءَةٌ نَحْوُ تَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ وَتَطْوِيلِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَسَائِرِ أَفْعَالِهِ الَّتِي يَأْتِي بِهَا فِي الصَّلَاةِ فِي حَالَةِ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَأَفْعَالِهِ خَارِجَ الصَّلَاةِ مِنْ الْمَشْيِ وَاللُّبْسِ وَالْأَكْلِ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يُطَالَبُ بِإِقَامَتِهَا، وَلَا يَأْثَمُ بِتَرْكِهَا، وَلَا يَصِيرُ مُسِيئًا وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا كَذَا فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِ الشَّيْخِ. وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ قَالَ مَكْحُولٌ: السُّنَّةُ سُنَّتَانِ سُنَّةٌ أَخْذُهَا هُدًى وَتَرْكُهَا لَا بَأْسَ بِهِ كَالسُّنَنِ الَّتِي لَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَسُنَّةٌ أَخْذُهَا هُدًى وَتَرْكُهَا ضَلَالَةٌ كَالْآذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَصَلَاةِ الْعِيدِ. وَعَلَى هَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا أَصَرَّ أَهْلُ مِصْرٍ عَلَى تَرْكِ الْآذَانِ وَالْإِقَامَةِ أُمِرُوا بِهِمَا فَإِنْ أَبَوْا قُوتِلُوا عَلَى ذَلِكَ بِالسِّلَاحِ كَمَا يُقَاتَلُونَ عِنْدَ الْإِصْرَارِ عَلَى تَرْكِ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمُقَاتَلَةُ بِالسِّلَاحِ عِنْدَ تَرْكِ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ فَأَمَّا السُّنَنُ فَإِنَّمَا يُؤَدَّبُونَ عَلَى تَرْكِهَا، وَلَا يُقَاتَلُونَ عَلَى ذَلِكَ لِيَظْهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَغَيْرِهِ. وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ مَا كَانَ مِنْ أَعْلَامِ الدِّينِ فَالْإِصْرَارُ عَلَى تَرْكِهِ اسْتِخْفَافٌ بِالدِّينِ فَيُقَاتَلُونَ عَلَى ذَلِكَ لِهَذَا. وَعَلَى هَذَا أَيْ عَلَى أَنَّ السُّنَنَ نَوْعَانِ اخْتَلَفَتْ أَجْوِبَةُ مَسَائِلِ بَابِ الْآذَانِ فَقِيلَ مَرَّةً يُكْرَهُ، وَمَرَّةً أَسَاءَ، وَمَرَّةً لَا بَأْسَ لِمَا قُلْنَا أَنَّ تَرْكَ مَا هُوَ مِنْ سُنَنِ الْهَدْيِ يُوجِبُ الْكَرَاهَةَ وَالْإِسَاءَةَ، وَتَرْكُ مَا هُوَ مِنْ السُّنَنِ الزَّوَائِدِ لَا يُوجِبُ شَيْئًا مِنْهُمَا. وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ يُكْرَهُ الْآذَانُ قَاعِدًا لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ الرُّؤْيَا أَنَّ الْمَلَكَ قَامَ عَلَى جِذْمِ حَائِطٍ أَيْ أَصْلِهِ. وَيُكْرَهُ تَكْرَارُ الْآذَانِ فِي مَسْجِدِ مَحَلَّةٍ. وَيُكْرَهُ تَرْكُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ، وَإِنْ صَلَّى أَهْلُ الْمِصْرِ بِجَمَاعَةٍ بِغَيْرِ آذَانٍ، وَلَا إقَامَةٍ فَقَدْ أَسَاءُوا لِتَرْكِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ.، وَإِنْ صَلَّيْنَ يَعْنِي النِّسَاءَ بِآذَانٍ وَإِقَامَةٍ جَازَتْ صَلَاتُهُنَّ مَعَ الْإِسَاءَةِ فَالْإِسَاءَةُ لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَالتَّعْرِيضِ لِلْفِتْنَةِ. وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُؤَذِّنَ رَجُلٌ وَيُقِيمَ آخَرُ

وَأَمَّا النَّفَلُ فَمَا يُثَابُ الْمَرْءُ عَلَى فِعْلِهِ، وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ وَلِذَلِكَ قُلْنَا إنَّ مَا زَادَ عَلَى الْقَصْرِ مِنْ صَلَاةِ السَّفَرِ نَفْلٌ، وَالنَّفَلُ شَرْعٌ دَائِمًا فَلِذَلِكَ جَعَلْنَاهُ مِنْ الْعَزَائِمِ وَلِذَلِكَ صَحَّ قَاعِدًا وَرَاكِبًا؛ لِأَنَّهُ مَا شُرِعَ بِلَازِمِ الْعَجْزِ لَا مَحَالَةَ فَلَازِمُ الْيُسْرِ، وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ جِنْسِ الرُّخَصِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَكَرَ مَقْصُودَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْتِيَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَجُلٌ آخَرُ، وَلَا يُؤَذَّنُ لِصَلَاةٍ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا وَيُعَادُ فِي الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ، وَهُوَ إعْلَامُ النَّاسِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ لَمْ يَحْصُلْ وَيُعَادُ آذَانُ الْجُنُبِ، وَكَذَا آذَانُ الْمَرْأَةِ فَمَا ذَكَرْنَا، وَأَمْثَالُهُ يُخَرَّجُ عَلَى هَذِهِ الْأَصْلِ 1 - قَوْلُهُ (وَأَمَّا النَّفَلُ فَمَا يُثَابُ الْمَرْءُ عَلَى فِعْلِهِ، وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ) عَرَّفَ النَّفَلَ بِبَيَانِ حُكْمِهِ إذْ الْمَذْكُورُ حُكْمُ النَّفْلِ وَلِهَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَحُكْمُ النَّفْلِ شَرْعًا أَنَّهُ يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ، وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ نَوَافِلُ الْعِبَادَاتِ هِيَ الَّتِي يَبْتَدِئُ بِهَا الْعَبْدُ زِيَادَةً عَلَى الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ، وَحُكْمُهَا أَنْ يُثَابَ الْعَبْدُ عَلَى فِعْلِهَا، وَلَا يُذَمُّ عَلَى تَرْكِهَا؛ لِأَنَّهَا جُعِلَتْ زِيَادَةً لَهُ لَا عَلَيْهِ بِخِلَافِ السُّنَّةِ فَإِنَّهَا طَرِيقَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمِنْ حَيْثُ سَبِيلُهَا الْإِحْيَاءُ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا فَعُوتِبْنَا عَلَى تَرْكِهَا. وَلِذَلِكَ أَيْ، وَلَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّفَلَ كَذَا قُلْنَا أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْقَصْرِ فِي صَلَاةِ السَّفَرِ، وَهُوَ الشَّفْعُ الثَّانِي نَفْلٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُلَامُ عَلَى تَرْكِهِ رَأْسًا، وَأَصْلًا وَيُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ فِي الْجُمْلَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ نَفْلٌ لَا يَصِحُّ خَلْطُهُ بِالْفَرْضِ كَمَا فِي الْفَجْرِ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ صَوْمُ الْمُسَافِرِ فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ، وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ ثُمَّ إنَّهُ لَوْ أَدَّاهُ يَقَعُ فَرْضًا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ التَّرْكِ، وَهُوَ التَّرْكُ مُطْلَقًا وَصَوْمُ الْمُسَافِرِ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ فِي الْجُمْلَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الصَّوْمِ وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ فَلَمْ يَكُنْ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ نَفْلًا. وَلَا الزِّيَادَةُ عَلَى الْآيَةِ أَوْ الثَّلَاثِ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهَا، وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهَا مَعَ أَنَّهَا تَقَعُ فَرْضًا.؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا قَبْلَ وُجُودِهَا وَتَحَقُّقِهَا كَانَتْ فَرْضًا بَلْ هِيَ كَانَتْ نَفْلًا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذِمَّتِهِ الْإِتْيَانُ بِهَا، وَلِذَلِكَ اسْتَقَامَ عَلَيْهَا حَدُّ النَّفْلِ، وَلَكِنَّهَا انْقَلَبَتْ فَرْضًا بَعْدَ وُجُودِهَا لِدُخُولِهَا تَحْتَ مُطْلَقِ الْأَمْرِ وَعُمُومِهِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] . كَانْقِلَابِ الْيَمِينِ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ بَعْدَ فَوَاتِ الْبِرِّ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّافِلَةَ تَصِيرُ فَرْضًا بِالشُّرُوعِ حَتَّى لَوْ أَفْسَدَهَا يَجِبُ الْقَضَاءُ وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فَكَذَا الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلَاثِ يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ فَرْضًا بَعْدَ الْوُجُودِ لِتَنَاوُلِ الْأَمْرِ إيَّاهَا فَإِنَّ الْأَمْرَ إنَّمَا وَقَعَ عَلَى الْأَدْنَى، وَلَمْ يَنْصَرِفْ إلَى مَا فَوْقَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِقْدَارُهُ مَعْلُومًا فِي نَفْسِهِ فَإِذَا أَتَى بِهِ فَقَدْ صَارَ مِقْدَارًا مَعْلُومًا فَأَمْكَنَ صَرْفُ الْأَمْرِ إلَيْهِ كَذَا ذَكَرَهُ أَبُو الْيُسْرِ. فَأَمَّا الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ فَيَتَنَاوَلُ أَفْعَالًا مُقَدَّرَةً فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْأَمْرِ بِحَالٍ فَلَا تَقَعُ فَرْضًا. وَلِذَلِكَ جَعَلْنَاهُ مِنْ الْعَزَائِمِ أَيْ؛ وَلِأَنَّ النَّفَلَ شَرْعٌ دَائِمًا جَعَلْنَاهُ مِنْ الْعَزَائِمِ؛ لِأَنَّ دَوَامَ شَرْعِيَّتِهِ يَدُلُّ عَلَى وَكَادَتِهِ وَأَصَالَتِهِ، إذْ لَوْ بُنِيَ عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ لَشُرِعَ فِي وَقْتِ الْعُذْرِ لَا دَائِمًا. وَلَا يُقَالُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ شَرْعٌ دَائِمًا لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثِ وَبَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ.؛ لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ مَشْرُوعٌ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مَعَ كَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ حَتَّى لَوْ شُرِعَ فِيهِ، وَأَفْسَدَهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ فِي الْأَصَحِّ. وَلِذَا صَحَّ قَاعِدًا أَيْ وَلِأَجْلِ أَنَّهُ شَرْعٌ دَائِمًا صَحَّ أَدَاؤُهُ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ. لَوْ رَاكِبًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّزُولِ بِالْإِيمَاءِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَوَجِّهًا إلَى الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ النَّفَلَ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي شُرِعَ، وَهُوَ وَصْفُ الدَّوَامِ يُلَازِمُ الْعَجْزَ وَالْحَرَجَ فَلَا يُمْكِنُ إقَامَتُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ قَائِمًا؛ لِأَنَّهُ يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ الْحَوَادِثُ مِنْ الْمَرَضِ وَالضَّعْفِ وَالْحَاجَةِ إلَى الرُّكُوبِ وَنَحْوِهَا بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ تُعْتَبَرُ هَذِهِ

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا شُرِعَ النَّفَلُ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ وَجَبَ أَنْ يَبْقَى كَذَلِكَ غَيْرَ لَازِمٍ وَقَدْ غَيَّرْتُمْ أَنْتُمْ وَقُلْتُ إنَّ مَا لَمْ يُفْعَلْ بَعْدُ فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ فَبَطَلَ الْمُؤَدَّى حُكِمَ لَهُ كَالْمَظْنُونِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعَوَارِضُ فِي الْحَالِ إذْ لَوْ لَمْ تُعْتَبَرْ الْعَوَارِضُ أَدَّى إلَى الْحَرَجِ فَلِذَلِكَ جَوَّزْنَا الْأَدَاءَ عَلَى أَيِّ وَصْفٍ نَشِطَ قَائِمًا وَقَاعِدًا وَرَاكِبًا. وَهَذَا الْقَدْرُ أَيْ شَرْعِيَّةُ الْأَدَاءِ قَاعِدًا أَوْ رَاكِبًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مِنْ جِنْسِ الرُّخَصِ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ قُدِّرَ مَوْجُودًا بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ فَكَانَ شَرْعِيَّتُهُ بِنَاءً عَلَيْهِ فَكَانَ لَهُ شُبْهَةٌ بِالرُّخْصَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَكَأَنَّهُ أَخَّرَ ذِكْرَهُ عَنْ سَائِرِ أَقْسَامِ الْعَزَائِمِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُصْ عَزِيمَةً قَوْلُهُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ) إلَى آخِرِهِ إذَا شَرَعَ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ أَوْ فِي صَوْمِ النَّفْلِ يُؤَاخَذُ بِالْمُضِيِّ فِيهِ، وَلَوْ لَمْ يَمْضِ يُؤَاخَذُ بِالْقَضَاءِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُؤَاخَذُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ النَّفَلَ لِلشَّرْعِ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ، وَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ حَتَّى يُثَابَ عَلَى فِعْلِهِ، وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ وَجَبَ أَنْ يَبْقَى كَذَلِكَ بَعْدَ الشُّرُوعِ. وَلَا يَصِيرُ لَازِمًا؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الشَّيْءِ لَا يَتَغَيَّرُ بِالشُّرُوعِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ نَفْلٌ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ، وَلِهَذَا يَتَأَدَّى بِنِيَّةِ النَّفْلِ، وَلَوْ أَتَمَّهُ كَانَ مُؤَدِّيًا لِلنَّفْلِ لَا مُسْقِطًا لِلْوَاجِبِ، وَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَلْوَةِ وَيُبَاحُ الْإِفْطَارُ بِعُذْرِ الضِّيَافَةِ، وَلَوْ صَارَ فَرْضًا لَمَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ. وَإِذَا كَانَ نَفْلًا حَقِيقَةً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا فِي الْبَاقِي كَمَا كَانَ مُخَيَّرًا فِي الِابْتِدَاءِ تَحْقِيقًا لِلنَّفْلِيَّةِ؛ لِأَنَّ آخِرَهُ مِنْ جِنْسِ أَوَّلِهِ. وَقَدْ غَيَّرْتُمْ أَنْتُمْ حَيْثُ قُلْتُمْ بِاللُّزُومِ فِي الْبَاقِي. وَقُلْتُ أَنَا إنَّ مَا لَمْ نَفْعَلْ بَعْدُ أَيْ بَعْدَ مَا أَدَّى جُزْءًا مِنْهُ. وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ أَيْ فِيمَا لَمْ يُؤَدِّ؛ لِأَنَّهُ نَفْلٌ فَيَكُونُ عَلَى وَفْقِ الِابْتِدَاءِ فَمَنْ أَخْرَجَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ لِلتَّصَدُّقِ نَفْلًا فَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ وَسَلَّمَ كَانَ بِالْخِيَارِ فِي الْبَاقِي، وَكَذَا إذَا تَصَدَّقَ، وَلَمْ يُسَلِّمْ كَانَ الْخِيَارُ فِي التَّسْلِيمِ فَكَذَا إذَا صَلَّى رَكْعَةً كَانَ بِالْخِيَارِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى. وَإِذَا ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْبَاقِي وَحَلَّ لَهُ تَرْكُ مَا لَمْ يَأْتِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْهُ يَبْطُلُ الْمُؤَدَّى ضِمْنًا لَهُ وَتَبَعًا لِتَرْكِ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ إبْطَالًا حُكْمًا كَمُسَافِرٍ صَلَّى الظُّهْرَ لَا يَحِلُّ لَهُ إبْطَالُهَا لَكِنْ يَحِلُّ لَهُ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ ثُمَّ الظُّهْرِ يَبْطُلُ حُكْمًا لِمَا جُعِلَ ذَلِكَ إلَيْهِ وَحَلَّ لَهُ، وَكَمَنْ أَحْرَقَ حَصَائِدَ أَرْضِ نَفْسِهِ فَاحْتَرَقَ زَرْعُ جَارِهِ أَوْ سَقَى نَفْسَهُ فَنَزَّتْ أَرْضُ جَارِهِ لَا يُجْعَلُ ذَلِكَ إتْلَافًا؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ تَبَعًا لِمَا هُوَ حَلَالٌ لَهُ. وَلَمَّا كَانَ بُطْلَانُ الْمُؤَدَّى أَمْرًا حُكْمِيًّا لَا بِصُنْعِهِ لَا يَضْمَنُ بِالْقَضَاءِ كَالْمَظْنُونِ، وَهُوَ مَا إذَا شَرَعَ فِي صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ عَلَى ظَنٍّ أَنَّهُ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ يَصِيرُ شَارِعًا فِي النَّفْلِ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَوْ أَفْسَدَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي الْأَدَاءِ، وَإِنَّ الْبُطْلَانَ ضِمْنِيٌّ فَكَذَا هَاهُنَا. وَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ الشُّرُوعِ بِالنَّذْرِ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ الْتِزَامٌ بِالْقَوْلِ، وَلَهُ وِلَايَةُ ذَلِكَ فَإِذَا أَتَى بِكَلِمَةِ الِالْتِزَامِ لَزِمَهُ، وَأَمَّا الشُّرُوعُ فَلَيْسَ بِالْتِزَامٍ بَلْ هُوَ أَدَاءُ بَعْضِ الْعِبَادَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِيمَا بَقِيَ الْتِزَامٌ فَلَا يَلْزَمُهُ. وَنَظِيرُهُ الْكَفَالَةُ مَعَ الْفَرْضِ أَوْ الصَّدَقَةِ فَإِنَّ الْكَفِيلَ لَمَّا الْتَزَمَ بِالْقَوْلِ فَيَلْزَمُهُ مَا الْتَزَمَ فَأَمَّا الْمُقْرِضُ وَالْمُتَصَدِّقُ فَلَا يَلْتَزِمُ بِالْقَوْلِ، وَلَكِنْ شُرِعَ فِي الْإِعْطَاءِ فَبِقَدْرِ مَا أَدَّى يَصِحُّ، وَلَا يَلْزَمُهُ مَا لَمْ يُعْطِ. يُوَضِّحُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا لَوْ نَذَرَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ يَلْزَمُهُ، وَلَوْ شَرَعَ يَنْوِي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لَا يَلْزَمُهُ. وَلَوْ نَذَرَ الصَّلَاةَ قَائِمًا يَلْزَمُهُ الْقِيَامُ، وَلَوْ شَرَعَ قَائِمًا لَا يَلْزَمُهُ. وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمِ النَّحْرِ يَلْزَمُهُ عِنْدَكُمْ، وَلَوْ شَرَعَ فِيهِ لَا يَلْزَمُهُ عَلَى أَنَّ الشُّرُوعَ أَدَاءٌ بِالْفِعْلِ وَالنَّذْرُ إيجَابٌ فِي الذِّمَّةِ بِالْقَوْلِ ثُمَّ فِي النَّذْرِ يَلْزَمُهُ بِقَدْرِ مَا سَمَّى فَكَذَلِكَ بِالشُّرُوعِ يَلْزَمُهُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى، وَمَا لَمْ يُؤَدِّهِ لَا يَلْزَمُهُ كَمَا أَنَّ مَا لَمْ يُسَمِّهِ بِالنَّذْرِ لَا يَلْزَمُهُ. فَبَطَلَ الْمُؤَدَّى يَعْنِي عِنْدَ الِامْتِنَاعِ عَنْ أَدَاءِ الْبَاقِي. حُكْمًا لَهُ أَيْ لِلِامْتِنَاعِ

وَقُلْنَا نَحْنُ إنَّ مَا أَدَّاهُ فَقَدْ صَارَ لِغَيْرِهِ مُسْلَمًا إلَيْهِ وَحَقُّ غَيْرِهِ مُحْتَرَمٌ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ إتْلَافُهُ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ إلَّا بِالْإِلْزَامِ الْبَاقِي، وَهُمَا أَمْرَانِ مُتَعَارِضَانِ أَعْنِي الْمُؤَدِّيَ وَغَيْرَ الْمُؤَدِّي فَوَجَبَ التَّرْجِيحُ لِمَا قُلْنَا بِالِاحْتِيَاطِ فِي الْعِبَادَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالثَّابِتِ بِالتَّخْيِيرِ قَوْلُهُ (وَقُلْنَا نَحْنُ إنْ أَدَّاهُ فَقَدْ صَارَ لِغَيْرِهِ) يَعْنِي صَارَ عِبَادَةً لِلَّهِ تَعَالَى مُسْلِمًا إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا شَرَعَ فِي الصَّوْمِ أَوْ فِي الصَّلَاةِ، وَأَدَّى جُزْءًا مِنْهُ فَقَدْ تَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَدَاءِ ذَلِكَ الْجُزْءِ وَصَارَ الْعَمَلُ لِلَّهِ تَعَالَى حَقًّا لَهُ بِالنَّصِّ وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ كَانَ مُثَابًا عَلَى ذَلِكَ. وَحَقُّ غَيْرِهِ مُحْتَرَمٌ أَيْ حَرَامُ التَّعَرُّضِ بِالْإِفْسَادِ وَمَضْمُونٌ عَلَيْهِ إتْلَافُهُ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فَوَجَبَ صِيَانَتُهُ وَحِفْظُهُ احْتِرَازًا عَنْ ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ وَوُجُوبِ الضَّمَانِ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ أَيْ إلَى حِفْظِهِ وَصِيَانَتِهِ أَوْ إلَى كَوْنِهِ مَضْمُونًا إلَّا بِإِلْزَامِ الْبَاقِي، وَهُمَا أَمْرَانِ مُتَعَارِضَانِ أَعْنِي الْمُؤَدَّى وَغَيْرَ الْمُؤَدَّى يَعْنِي لَوْ نَظَرَ إلَى الْمُؤَدَّى يَلْزَمُ إلْزَامُ الْبَاقِي صِيَانَةً لَهُ عَنْ الْبُطْلَانِ، وَلَوْ نَظَرَ إلَى غَيْرِ الْمُؤَدَّى نَفْسِهِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ لَازِمٍ؛ لِأَنَّهُ فِي ذَاتِهِ نَفْلٌ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ. فَوَجَبَ التَّرْجِيحُ لِمَا قُلْنَا اللَّامُ لَيْسَتْ لِلتَّعْلِيلِ بَلْ هِيَ صِلَةُ التَّرْجِيحِ أَيْ وَجَبَ تَرْجِيحُ مَا قُلْنَا بِالِاحْتِيَاطِ فِي الْعِبَادَةِ فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُؤَدَّى صَارَ عِبَادَةً لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ مَا شَرَعَ فِيهِ عِبَادَةُ صَوْمٍ أَوْ صَلَاةٍ، وَهِيَ مِمَّا لَا يَتَجَزَّأُ فَلَا يَكُونُ الْمَوْجُودُ طَاعَةً إلَّا بِانْضِمَامِ الْبَاقِي إلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ طَاعَةً لَا يَحْرُمُ إبْطَالُهُ. وَلَئِنْ سَلَّمْنَا كَوْنَهُ عِبَادَةً فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَدَاءَ الْبَاقِي شَرْطٌ لِبَقَائِهِ عِبَادَةً؛ لِأَنَّهُ عَرْضٌ يَسْتَحِيلُ بَقَاؤُهُ فَكَمَا وُجِدَ انْقَضَى وَعُدِمَ، وَلَا تَصَوُّرَ لِلْغَيْرِ بَعْدَ الْعَدَمِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُؤَدَّى بِاعْتِرَاضِ الْمَوْتِ لَا يُخْرَجُ عَنْ كَوْنِهِ عِبَادَةً حَتَّى يَنَالَ بِهِ الثَّوَابَ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَلَوْ كَانَ أَدَاءُ الْبَاقِي شَرْطًا لِبَقَائِهِ عِبَادَةً لَبَطَلَ بِفَوَاتِ الشَّرْطِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ أَدَاءَ الْبَاقِي لَوْ جُعِلَ شَرْطًا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُجْعَلَ شَرْطًا لِانْعِقَادِ الْمُؤَدَّى عِبَادَةً أَوْ لِبَقَائِهِ عِبَادَةً فَإِنْ قُلْتُمْ بِالْأَوَّلِ فَالِامْتِنَاعُ عَنْ مُبَاشَرَةِ شَرْطِ الِانْعِقَادِ لَا يُعَدُّ إبْطَالًا، وَإِنْ قُلْتُمْ بِالثَّانِي فَهُوَ خِلَافُ الْمَعْقُولِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا انْعَقَدَ عِبَادَةً بِدُونِ الْبَاقِي فَلَأَنْ يَبْقَى بِدُونِهِ كَانَ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ. وَلَئِنْ سَلَّمْنَا كَوْنَ الْبَاقِي شَرْطٌ لِبَقَائِهِ عِبَادَةً فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنْ أَدَاءِ الْبَاقِي إبْطَالٌ لَهُ؛ لِأَنَّ الْإِبْطَالَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِمُصَادَفَةِ الْفِعْلِ وَذَلِكَ فِيمَا مَضَى مِنْ الْأَفْعَالِ مُحَالٌ، وَلَكِنَّهُ إذَا امْتَنَعَ فَاتَ وَصْفُ الْعِبَادَةِ عَنْ الْمُؤَدَّى فَلَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى فِعْلِهِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ النَّظَائِرِ. قُلْنَا نَحْنُ لَا نَدَّعِي أَنَّ الْمُؤَدَّى صَوْمٌ أَوْ صَلَاةٌ فِي الْحَالِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ هُوَ أَفْعَالُ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَصِيرُ مَعَ غَيْرِهِ صَوْمًا تَامًّا شَرْعِيًّا فَكَانَ لَهُ عَرْضِيَّةُ أَنْ يَصِيرَ صَوْمًا أَوْ صَلَاةً بِضَمِّ الْغَيْرِ إلَيْهِ فَيَكُونُ الْمُؤَدِّي مُتَقَرِّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهَذَا الْفِعْلِ فَيَكُونُ عِبَادَةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَكِنَّهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ جُزْءٌ مِمَّا لَا يَتَجَزَّأُ لَا حُكْمَ لَهُ بِدُونِ الْأَجْزَاءِ الْأُخَرِ ضَرُورَةَ ثُبُوتِ الِاتِّحَادِ فَكَانَ كُلُّ جُزْءٍ عِبَادَةً مُتَعَلِّقَةً بِمَا قَبْلَهُ وَبِمَا بَعْدَهُ مِنْ الْأَجْزَاءِ إذْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ التَّعَلُّقِ لِضَرُورَةِ الِاتِّحَادِ فَجَعْلُ هَذَا الْجُزْءِ عِبَادَةً وَجَعْلُ كُلِّ جُزْءٍ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ شَرْطًا لِانْعِقَادِهِ عِبَادَةً وَكُلُّ جُزْءٍ يُوجَدُ بَعْدَهُ شَرْطٌ لِبَقَائِهِ عَلَى وَصْفِ الْعِبَادَةِ. فَانْعَقَدَ الْجُزْءُ الْمُتَقَدِّمُ عِبَادَةً وَجُعِلَ شَرْطًا لِانْعِقَادِ الْأَجْزَاءِ الَّتِي بَعْدَهُ عِبَادَةً وَانْعَقَدَ الْجُزْءُ الْأَخِيرُ عِبَادَةً وَجُعِلَ شَرْطًا لِبَقَاءِ الْأَجْزَاءِ الَّتِي تَقَدَّمَتْهُ عَلَى وَصْفِ الْعِبَادَةِ وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ الْأَجْزَاءِ الْمُتَوَسِّطَةِ انْعَقَدَ عِبَادَةً، وَكَانَ شَرْطًا لِبَقَاءِ مَا تَقَدَّمَهُ عَلَى وَصْفِ الْعِبَادَةِ وَشَرْطًا لِانْعِقَادِ مَا تَعَقَّبَهُ عِبَادَةً فَقُلْنَا هَكَذَا عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِمْ إنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ بَعْدَ الْعَدَمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [التوبة: 17] . وَقَالَ عَزَّ اسْمُهُ: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] . وَلَا يُرَدُّ النَّهْيُ إلَّا عَمَّا يُتَصَوَّرُ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَيْضًا أَنَّ بِالرِّدَّةِ تَبْطُلُ الْأَعْمَالُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أُعْطِيَ لَهَا حُكْمُ التَّمَامِ وَالْفَرَاغِ، وَلَمَّا كَانَ الْخَتْمُ عَلَى الْإِيمَانِ شَرْطًا لِبَقَاءِ مَا مَضَى فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ

وَهُوَ كَالنَّذْرِ صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى تَسْمِيَةً لَا فِعْلًا ثُمَّ وَجَبَ لِصِيَانَتِهِ ابْتِدَاءً الْفِعْلُ فَلَأَنْ يَجِبَ لِصِيَانَةِ ابْتِدَاءِ الْفِعْلِ بَقَاؤُهُ أَوْلَى وَالسُّنَنُ كَثِيرَةٌ فِي الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْجُزْءِ الْمُتَعَقِّبِ شَرْطًا لِبَقَاءِ مَا تَقَدَّمَ عَلَى وَصْفِ الْعِبَادَةِ.، وَأَمَّا فِي اعْتِرَاضِ الْمَوْتِ فَجُعِلَ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّ الْيَوْمَ فِي حَقِّهِ لَمْ يَكُنْ إلَّا هَذَا الْقَدْرُ، وَإِنَّ الصَّلَاةَ لَمْ تَكُنْ مَشْرُوعَةً إلَّا هَذَا الْقَدْرُ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى هَكَذَا جَعَلَ فِي فَضْلِ الْمُهَاجِرِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْهِجْرَةِ مِنْ تَأَيُّدِ الْبَعْضِ بِالْبَعْضِ وَالتَّقَوِّي عَلَى الذَّبِّ عَنْ الْجُوَرَةِ فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْتَ مِنْهُ لَا مُبْطِلَ عَلَى مَا عُرِفَ. وَقَوْلُهُمْ انْعَقَدَ عِبَادَةً بِدُونِ الْبَاقِي فَبَقِيَ بِدُونِهِ؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ يُنْتَقَضُ بِقَبْضِ بَدَلَيْ الصَّرْفِ وَرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فَإِنَّهُ شَرْطٌ لِلْبَقَاءِ دُونَ الِابْتِدَاءِ. وَقَوْلُهُمْ الِامْتِنَاعُ عَنْ أَدَاءِ الْبَاقِي لَيْسَ بِإِبْطَالٍ قُلْنَا لَمَّا أَتَى بِمَا يُنَاقِضُ الْعِبَادَةَ فَسَدَتْ الْأَجْزَاءُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَلَمْ يُوجَدْ سِوَى فِعْلِهِ وَوَجْهُ الْفَسَادِ لَا مَحَالَةَ عِنْدَ هَذَا الْفِعْلِ فَجُعِلَ مُفْسِدًا؛ لِأَنَّ الْإِفْسَادَ فِعْلٌ يَحْصُلُ بِهِ الْفَسَادُ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ يُضَافَ الْمَحَلُّ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ الْفَسَادُ كَمَنْ قَطَعَ حَبْلًا مَمْلُوكًا عَلَّقَ بِهِ قِنْدِيلَ غَيْرِهِ فَسَقَطَ الْقِنْدِيلُ وَانْكَسَرَ جُعِلَ مُتْلِفًا لَهُ حَقِيقَةً وَشَرْعًا، وَإِنْ لَمْ يُصَادِفْ فِعْلُهُ الْقِنْدِيلَ. وَكَذَا شَقُّ زِقِّ نَفْسِهِ فِيهِ مَائِعٌ لِغَيْرِهِ. وَمَسْأَلَتُنَا إحْرَاقُ الْحَصَائِدِ وَسَقْيُ الْأَرْضِ لَا تَلْزَمَانِ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى فِعْلِهِ بَلْ إلَى رَخَاوَةِ الْأَرْضِ، وَهُبُوبِ الرِّيحِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّ ذَلِكَ يَنْفَصِلُ عَنْ فِعْلِهِ عَنْ الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ حَتَّى لَوْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ يَحْصُلُ بِهِ الْفَسَادُ لَا مَحَالَةَ بِأَنْ كَانَ الْمَاءُ كَثِيرًا بِحَيْثُ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُهُ أَرْضُهُ أَوْ كَانَ الْإِحْرَاقُ فِي يَوْمِ رِيحٍ لَأُضِيفَ إلَيْهِ فَيَضْمَنُ مَا فَسَدَ مِنْ الْأَرْضِ وَالزَّرْعِ. وَأَمَّا مُصَلِّي الظُّهْرِ إذَا رَاحَ إلَى الْجُمُعَةِ فَنَقُولُ هُوَ مُبْطِلٌ لِصِفَةِ الْفَرْضِيَّةِ غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ وَنَقَضَ لِيُؤَدِّيَ أَحْسَنَ مِنْهُ وَالْهَادِمُ لِيَبْنِيَ أَحْسَنَ مِمَّا كَانَ لَا يُعَدُّ هَادِمًا كَهَادِمِ الْمَسْجِدِ لِيَبْنِيَ أَحْسَنَ مِنْهُ لَا يُعَدُّ سَاعِيًا فِي خَرَابِهِ. وَصَارَ حَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ مَا أَدَّى يُوجِبُ عَلَيْهِ حِفْظَ الْمُؤَدَّى، وَطَرِيقُ حِفْظِهِ أَدَاءُ الْبَاقِي فَصَارَ الشُّرُوعُ مُوجِبَ أَدَاءِ الْبَاقِي بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ وَكُلُّ صَوْمٍ أَوْ صَلَاةٍ يَجِبُ أَدَاؤُهُ يَجِبُ قَضَاؤُهُ إذَا فَسَدَ قَوْلُهُ (وَهُوَ كَالنَّذْرِ) . ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِالنَّذْرِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ فَقَالَ، وَهُوَ أَيْ الْجُزْءُ الْمُؤَدَّى بِمَنْزِلَةِ الْمَنْذُورِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَارَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى. أَمَّا الْمُؤَدَّى فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ وَقَعَ لِلَّهِ تَعَالَى مُسَلَّمًا إلَيْهِ، وَأَمَّا الْمَنْذُورُ فَلِأَنَّهُ جُعِلَ لِلَّهِ تَعَالَى تَسْمِيَةً، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا وَقَعَ لِلَّهِ تَعَالَى فِعْلًا أَقْوَى مِمَّا صَارَ لَهُ تَسْمِيَةً؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَعْدِ، وَأَنَّ إيجَابَ ابْتِدَاءِ الْفِعْلِ أَقْوَى مِنْ إيجَابِ بَقَائِهِ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ ثُمَّ وَجَبَ لِصِيَانَةِ أَدْنَى الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ التَّسْمِيَةُ مَا هُوَ أَقْوَى الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ فَلَأَنْ يَجِبَ لِصِيَانَةِ مَا هُوَ أَقْوَى الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ أَدْنَى الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ إيفَاءُ الْفِعْلِ، وَإِتْمَامُهُ كَانَ أَوْلَى. وَمَا ذَكَرَ الْخَصْمُ أَنَّ النَّذْرَ وَالشُّرُوعَ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ وَالْإِقْرَاضِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ، وَإِنْ كَانَتْ كَالنَّذْرِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ الْتَزَمَ فَالشُّرُوعُ لَيْسَ كَالْإِقْرَاضِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَاضَ أَوْ التَّصَدُّقَ تَبَرُّعٌ بِالْعَيْنِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ دَفْعُ حَاجَةِ الْمُسْتَقْرِضِ أَوْ الْفَقِيرِ فَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ قَبْلَ التَّسْلِيمِ نَظِيرَ الصَّلَاةِ فِي النِّيَّةِ وَالتَّطَهُّرِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ. فَأَمَّا الْمَقْصُودُ فِي الْبَدَنِيَّاتِ فَعَمَلٌ يُسْتَوْفَى وَقَدْ حَصَلَ الْبَعْضُ مِنْهُ فَكَانَ كَبَعْضِ الْمَالِ الْمُسْلَمِ إلَى الْفَقِيرِ أَوْ الْمُسْتَقْرِضِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ مُسْلَمًا إلَيْهِ ثُمَّ إذَا تَصَدَّقَ

[أقسام الرخص]

وَأَمَّا الرُّخَصُ فَأَرْبَعَةٌ نَوْعَانِ مِنْ الْحَقِيقَةِ أَحَدُهُمَا أَحَقُّ مِنْ الْآخَرِ وَنَوْعَانِ مِنْ الْمَجَازِ أَحَدُهُمَا أَتَمُّ مِنْ الْآخَرِ أَمَّا أَحَقُّ نَوْعَيْ الْحَقِيقَةِ فَمَا اُسْتُبِيحَ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرَّمِ وَقِيَامُ حُكْمِهِ جَمِيعًا فَهُوَ الْكَامِلُ فِي الرُّخْصَةِ مِثْلُ الْمُكْرَهِ عَلَى إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ أَنَّهُ يُرَخَّصُ لَهُ إجْرَاؤُهَا وَالْعَزِيمَةُ فِي الصَّبْرِ حَتَّى يُقْتَلَ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْكُفْرِ قَائِمَةٌ لِوُجُوبِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِيمَانِ لَكِنَّهُ رُخِّصَ لِعُذْرٍ، وَهُوَ أَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ فِي نَفْسِهِ يَفُوتُ بِالْقَتْلِ صُورَةً وَمَعْنًى وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَفُوتُ مَعْنًى؛ لِأَنَّ التَّصْدِيقَ بَاقٍ وَلَا يَفُوتُ صُورَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ قَدْ صَحَّ، وَلَيْسَ التَّكْرَارُ رُكْنًا لَكِنْ فِي إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ هَتْكٌ لِحَقِّهِ ظَاهِرًا فَكَانَ لَهُ تَقْدِيمُ حَقِّ نَفْسِهِ كَرَامَةً مِنْ اللَّهِ، وَإِنْ شَاءَ بَذَلَ نَفْسَهُ حِسْبَةً فِي دِينِهِ لِإِقَامَةِ حَقِّهِ فَهَذَا مَشْرُوعٌ قُرْبَةً فَبَقِيَ عَزِيمَةً وَصَارَ بِهَا مُجَاهِدًا ـــــــــــــــــــــــــــــQبِبَعْضِ الْمَالِ لَزِمَهُ أَنْ لَا يُبْطِلَهُ بِالرُّجُوعِ فَكَذَا إذَا أَتَى بِبَعْضِ الْعَمَلِ وَصَارَ مُسْلَمًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَزِمَهُ أَنْ لَا يُبْطِلَهُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ أَدَاءِ الْبَاقِي، وَإِنَّمَا افْتَرَقَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْقَدْرَ الْمَوْجُودَ مِنْ الصَّدَقَةِ يَبْقَى صَدَقَةً بِدُونِ مَا لَمْ يُوجَدْ، وَالْقَدْرُ الْمَوْجُودُ مِنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ لَا يَبْقَى قُرْبَةً بِدُونِ الْبَاقِي فَيَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ هَاهُنَا، وَلَا يَلْزَمُهُ فِي الصَّدَقَةِ. فَأَمَّا إبَاحَةُ الْإِفْطَارِ بِعُذْرِ الضِّيَافَةِ فَرَخَّصَهُ مَعَ بَقَاءِ الْحَظْرِ وَلِذَا كَانَ الِامْتِنَاعُ أَفْضَلَ وَذَلِكَ كَمَنْ صَلَّى الْفَرْضَ وَرَأَى بِقُرْبِهِ صَبِيًّا كَادَ يَحْتَرِقُ أَوْ يَغْرَقُ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الِاسْتِنْقَاذِ أُبِيحَ لَهُ قَطْعُ الْفَرْضِ وَاسْتِنْقَاذُ الصَّبِيِّ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ صِيَانَةً لِلصَّبِيِّ عَنْ الْهَلَاكِ، وَفِيهِ إبْطَالُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِحَقِّ الْآدَمِيِّ فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ يُرَخَّصُ لَهُ الْإِفْطَارُ احْتِرَازًا عَنْ أَذَى الْمُسْلِمِ، وَصِحَّةُ الْخَلْوَةِ مَمْنُوعَةٌ أَيْضًا بَلْ هِيَ فَاسِدَةٌ كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ فِي طَرِيقَتِهِ. وَأَمَّا الشُّرُوعُ فِي النَّفْلِ قَائِمًا، وَإِتْمَامُهُ قَاعِدًا أَوْ نِيَّةُ الْأَرْبَعِ مَعَ التَّسْلِيمِ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فَفَارَقَا النَّذْرَ؛ لِأَنَّ وُجُودَ مَا وَرَاءَ الرَّكْعَتَيْنِ وَصِفَةُ الْقِيَامِ لَيْسَا بِشَرْطَيْنِ لِبَقَاءِ الْمُؤَدَّى عِبَادَةً وَذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ أَنَّ وُجُوبَ الْبَاقِي لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ صِيَانَةُ الْمُؤَدَّى لَا لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَلْوَةِ، وَإِبَاحَةَ الْإِفْطَارِ بِعُذْرِ الضِّيَافَةِ وَاقْتِدَاءَهُ بِالْمُتَنَفِّلِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ نَفْلٌ. وَأَمَّا فَضْلُ الْمَظْنُونِ فَالْقِيَاسُ فِيهِ مَا قَالَهُ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى انْعَقَدَ عِبَادَةً فَيَجِبُ صِيَانَتُهَا بِالْمُضِيِّ فِيهِ إلَّا عُلَمَاءَنَا اسْتَحْسَنُوا وَقَالُوا إنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ، وَهُوَ الشُّرُوعُ صَادَفَ الْوَاجِبَ فَيَلْغُو؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لَا يَتَكَرَّرُ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ كَمَا لَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ ظُهْرُ الْيَوْمِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا يُؤَاخَذُ بِمَا عِنْدَهُ لَا بِمَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ عِنْدَهُ أَنَّهُ شَرَعَ فِي الْوَاجِبِ فَكَانَ كَمَا لَوْ شَرَعَ فِي الظُّهْرِ أَوْ صَوْمِ الْقَضَاءِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ لَا يَجِبُ بِهَذَا الشُّرُوعِ وَالْإِفْسَادِ شَيْءٌ فَكَذَا هَذَا. وَنَحْنُ لَا نَقُولُ إنَّ جَمِيعَ الْقُرَبِ يَلْزَمُ حِفْظُهَا وَيَضْمَنُ بِإِفْسَادِهَا بَلْ يَجِبُ عِبَادَةُ نَفْلٍ الْتَزَمَهَا وَحَصَّلَهَا بِاخْتِيَارِهِ، وَهَذِهِ الْقُرْبَةُ حَصَلَتْ لَهُ بِدُونِ اخْتِيَارِهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، وَإِذَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِاخْتِيَارِهِ لَمْ يَصِرْ ضَامِنًا لِلْعُهْدَةِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ صِيَانَتُهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يُوجِبُ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ فِعْلُهُ عِبَادَةً أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الَّذِي قَصَدَ إلَيْهِ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ وَالنَّفَلُ لَا يَنْعَقِدُ قُرْبَةً بِدُونِ الْقَصْدِ إلَيْهِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَهُ نَفْلًا مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ نَظَرًا لَهُ فَجَعَلَهُ مُنْعَقِدًا فِيمَا لَهُ فِيهِ نَظَرٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ أَتَمَّهُ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلثَّوَابِ، وَلَا يُجْعَلُ مُنْعَقِدًا فِيمَا لَهُ فِيهِ ضَرَرٌ، وَهُوَ وُجُوبُ الصِّيَانَةِ عَلَيْهِ. وَهُوَ كَالْقُرَبِ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ لَمَّا شُرِعَتْ نَظَرًا لَهُ تُجْعَلُ مَشْرُوعَةً فِيمَا لَهُ فِيهِ نَظَرٌ، وَهُوَ الصِّحَّةُ بَعْدَ الْأَدَاءِ، وَلَمْ تُجْعَلْ مَشْرُوعَةً فِيمَا لَهُ فِيهِ ضَرَرٌ، وَهُوَ الْوُجُوبُ. وَالسُّنَنُ كَثِيرَةٌ يَعْنِي لَا احْتِيَاجَ إلَى إيرَادِ النَّظَائِرِ فَإِنَّهَا كَثِيرَةٌ فِي بَابِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الطَّهَارَةِ وَالصَّوْمِ وَالِاعْتِكَافِ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهَا كُتُبُ الْفُرُوعِ. [أَقْسَام الرُّخَصُ] قَوْلُهُ (وَأَمَّا الرُّخَصُ) ، وَلَمَّا إذَا كَانَتْ الرُّخَصُ مَبْنِيَّةً عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ، وَأَعْذَارُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُ الرُّخَصِ فَانْقَسَمَتْ عَلَى أَنْوَاعٍ أَرْبَعَةٍ. أَحَقُّ مِنْ الْآخَرِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَفْعَلَ تَفْضِيلٍ مِنْ حَقِّ الشَّيْءِ إذَا ثَبَتَ أَيْ أَحَدُهُمَا فِي كَوْنِهِ حَقِيقَةً أَقْوَى مِنْ الْآخَرِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حُقَّ لَك أَنْ تَفْعَلَ كَذَا أَيْ أَنْتَ خَلِيقٌ بِهِ يَعْنِي فِي إطْلَاقِ اسْمِ الرُّخْصَةِ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ. أَتَمُّ مِنْ الْآخَرِ أَيْ أَكْمَلُ فِي كَوْنِهِ مَجَازًا. فَمَا اُسْتُبِيحَ أَيْ سَقَطَتْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُؤَاخَذَةُ بِهِ مَعَ الْقِيَامِ الْمُحَرَّمِ وَقِيَامِ حُكْمِهِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لَمَّا كَانَتْ قَائِمَةً مَعَ سَبَبِهَا، وَمَعَ ذَلِكَ شُرِعَ لِلْمُكَلَّفِ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مُؤَاخَذَةٍ بِنَاءً عَلَى عُذْرِهِ كَانَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الرُّخَصِ؛ لِأَنَّ كَمَالَ الرُّخْصَةِ بِكَمَالِ الْعَزِيمَةِ فَلَمَّا كَانَتْ الْعَزِيمَةُ حَقِيقَةً كَامِلَةً ثَابِتَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَانَتْ الرُّخْصَةُ فِي مُقَابَلَتِهَا كَذَلِكَ أَيْضًا وَذَلِكَ مِثْلُ التَّرَخُّصِ بِإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ فَإِنَّهُ يُرَخَّصُ فِيهِ بِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ التَّامِّ مَعَ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ، وَلَكِنَّ الْعَزِيمَةَ فِي الصَّبْرِ وَالِامْتِنَاعِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْكُفْرِ ثَابِتَةٌ مُصَمَّتَةٌ لَا تَنْكَشِفُ بِحَالٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِي وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِهِ قَائِمٌ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ وَهُوَ وَحْدَانِيَّةُ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّيَّةُ صِفَاتِهِ وَجَمِيعِ مَا أَوْجَبَ الْإِيمَانَ بِهِ لَا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ لَكِنَّهُ أَيْ لَكِنَّ الْعَبْدَ رُخِّصَ لَهُ الْإِجْرَاءُ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي نَفْسِهِ أَيْ فِي ذَاتِهِ يَفُوتُ عِنْدَ الِامْتِنَاعِ صُورَةً بِتَخْرِيبِ الْبَيِّنَةِ، وَمَعْنًى بِزُهُوقِ الرُّوحِ وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَفُوتُ مَعْنًى؛ لِأَنَّ التَّصْدِيقَ الَّذِي هُوَ الرُّكْنُ الْأَصْلِيُّ بَاقٍ، وَلَا تَفُوتُ صُورَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ مَرَّةً وَصُدِّقَ بِقَلْبِهِ حَتَّى صُحِّحَ إيمَانُهُ لَمْ يَلْزَمْ عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ ثَانِيَةً إذْ التَّكْرَارُ فِي الْإِقْرَارِ لَيْسَ بِرُكْنٍ فِي الْإِيمَانِ، وَلَمَّا صَارَ حَقُّهُ مُؤَدًّى لَمْ يَفُتْ حَقُّهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَكِنْ يَلْزَمُ مِنْ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ بُطْلَانُ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ فِي حَالِ الْبَقَاءِ فَيَبْطُلُ حَقُّهُ فِي الصُّورَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَلِهَذَا كَانَ التَّقْدِيمُ حَقَّ نَفْسِهِ بِإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ تَرَخُّصًا، وَإِنْ شَاءَ بَذَلَ نَفْسَهُ فِي دِينِ اللَّهِ لِإِقَامَةِ حَقِّهِ حِسْبَةً أَيْ طَلَبًا لِلثَّوَابِ وَعَدَالَةً فِيمَا يُدَّخَرُ لِلْآخِرَةِ فَهَذَا أَيْ الْبَذْلُ مَشْرُوعٌ قُرْبَةً كَالْجِهَادِ أَنَّهُ لَمَّا بَذَلَ نَفْسَهُ، وَلَمْ يَهْتِكْ حُرْمَةَ دِينِهِ كَانَ فِيهِ إعْلَاءُ دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الْجِهَادِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ أَخَذَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ نَعَمْ فَقَالَ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولٌ فَقَالَ لَا أَدْرِي مَا تَقُولُ فَقَتَلَهُ وَقَالَ لِلْآخَرِ أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ نَعَمْ فَقَالَ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ نَعَمْ فَخَلَّى سَبِيلَهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ أَتَاهُ اللَّهُ أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَقَدْ أَخَذَ بِرُخْصَةِ اللَّهِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ» فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إنْ امْتَنَعَ مِنْهُ حَتَّى قُتِلَ كَانَ أَعْظَمَ لِلْأَجْرِ؛ لِأَنَّهُ إظْهَارٌ لِلصَّلَابَةِ فِي الدِّينِ. وَمَا رُوِيَ مِنْ قِصَّةِ عَمَّارٍ وَخُبَيْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَخَذُوا عَمَّارًا فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ فَلَمَّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ، وَمَا وَرَاك يَا عَمَّارُ قَالَ شَرٌّ مَا تَرَكُونِي حَتَّى نِلْت مِنْك وَذَكَرْت آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ قَالَ كَيْفَ وَجَدْت قَلْبَك قَالَ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ قَالَ فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ» أَيْ فَإِنْ عَادُوا إلَى الْإِكْرَاهِ فَعُدْ إلَى التَّرَخُّصِ. أَوْ فَإِنْ عَادُوا إلَى الْإِكْرَاهِ فَعُدْ إلَى طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ فَإِنَّهُ لَا يُظَنُّ بِرَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ يَأْمُرُ أَحَدًا بِالتَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. وَفِي عَيْنِ الْمَعَانِي لَوْ عَادُوا لَك فَعُدْ لَهُمْ لِمَا قُلْت فَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُجْرِيَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ مُكْرَهًا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مُطْمَئِنَّ الْقَلْبِ.، وَأَخَذُوا خُبَيْبَ بْنَ عَدِيٍّ وَبَاعُوهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَجَعَلُوا يُعَاقِبُونَهُ عَلَى أَنْ يَذْكُرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ وَيَسُبَّ مُحَمَّدًا، وَهُوَ يَسُبُّ آلِهَتَهُمْ وَيَذْكُرُ رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِخَيْرِ فَاجْتَمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ فَلَمَّا أَيْقَنَ أَنَّهُمْ قَاتِلُوهُ سَأَلَهُمْ أَنْ يَدَعُوهُ لِيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فَأَجَابُوهُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَأَوْجَزَ ثُمَّ قَالَ إنَّمَا أَوْجَزْت كَيْ لَا تَظُنُّوا أَنِّي أَخَافُ الْقَتْلَ ثُمَّ سَأَلَهُمْ أَنْ يُلْقُوهُ عَلَى وَجْهِهِ لِيَكُونَ هُوَ سَاجِدٌ لِلَّهِ تَعَالَى حِينَ يَقْتُلُونَهُ فَأَبَوْا عَلَيْهِ ذَلِكَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ وَقَالَ اللَّهُمَّ إنِّي لَا أَرَى هَاهُنَا إلَّا وَجْهَ عَدُوٍّ فَأَقْرِئْ

وَكَذَلِكَ الَّذِي يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ إذَا خَافَ الْقَتْلَ رُخِّصَ لَهُ فِي التَّرْكِ لِمَا قُلْنَا مِنْ مُرَاعَاةِ حَقِّهِ، وَإِنْ شَاءَ صَبَرَ حَتَّى يُقْتَلَ، وَهُوَ الْعَزِيمَةُ؛ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِي حُرْمَةِ الْمُنْكَرِ بَاقٍ فِي بَذْلِ نَفْسِهِ إقَامَةً لِلْمَعْرُوفِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إذَا قُتِلَ تَفَرَّقَ جَمْعُ الْفَسَقَةِ، وَمَا كَانَ غَرَضُهُ إلَّا تَفْرِيقَ جَمْعِهِمْ فَبَذَلَ نَفْسَهُ لِذَلِكَ فَصَارَ مُجَاهِدًا بِخِلَافِ الْغَازِي إذَا بَارَزَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُقْتَلُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْكِيَ فِيهِمْ؛ لِأَنَّ جَمْعَهُمْ لَا يَتَفَرَّقُ بِسَبَبِهِ فَيَصِيرُ مُضَيِّعًا لِدَمِهِ لَا مُحْتَسِبًا مُجَاهِدًا. وَكَذَلِكَ فِيمَنْ أُكْرِهَ عَلَى إتْلَافِ مَالِ غَيْرِهِ رُخِّصَ لَهُ لِرُجْحَانِ حَقِّهِ فِي النَّفْسِ فَإِذَا صَبَرَ حَتَّى قُتِلَ كَانَ شَهِيدًا لِقِيَامِ الْحُرْمَةِ، وَهُوَ حَقُّ الْعَبْدِ وَكَذَلِكَ إذَا أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ فَصَبَرَ عَنْ مَالِ غَيْرِهِ حَتَّى مَاتَ وَكَذَلِكَ صَائِمٌ أُكْرِهَ عَلَى الْفِطْرِ وَمُحْرِمٌ أُكْرِهَ عَلَى جِنَايَةٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْحُقُوقِ الْمُحْتَرَمَةِ، وَأَمْثِلَتُهُ كَثِيرَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــQرَسُولَك مِنِّي السَّلَامَ اللَّهُمَّ أَحْصِ هَؤُلَاءِ عَدَدًا وَاجْعَلْهُمْ بَدَدًا، وَلَا تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ: وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا ... عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ فِي اللَّهِ مَصْرَعِي وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ ... يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ فَلَمَّا قَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ تَحَوَّلَ وَجْهُهُ إلَى الْقِبْلَةِ «وَجَاءَ جِبْرِيلُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - يُقْرِئُ سَلَامَ خُبَيْبٍ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ هُوَ أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ، وَهُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ» فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الِامْتِنَاعَ وَالْأَخْذَ بِالْعَزِيمَةِ أَفْضَلُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ (قَوْلُهُ) ، وَكَذَلِكَ الَّذِي يَأْمُرُ بِمَعْرُوفٍ أَيْ، وَكَالْمُكْرَهِ عَلَى الْكُفْرِ مَنْ يَأْمُرُ بِمَعْرُوفٍ مِثْلُ أَنْ يَأْمُرَ بِالصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا فِي أَنَّهُ إذَا خَافَ التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ رُخِّصَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28] . وَأَنَّهُ إنْ فَعَلَ فَقُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ فَرْضٌ مُطْلَقٌ وَالصَّبْرُ عَلَيْهِ عَزِيمَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إخْبَارًا {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان: 17] . وَإِذَا تَمَسَّكَ بِالْعَزِيمَةِ كَانَ مَأْجُورًا. وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ لَمْ يَذْكُرْهُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَكَذَا الْعَكْسُ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِي حُرْمَةِ الْمُنْكَرِ بَاقٍ. لِمَا قُلْنَا مِنْ مُرَاعَاةِ حَقِّهِ فَإِنَّهُ لَوْ أَقْدَمَ يَفُوتُ حَقُّهُ صُورَةً وَمَعْنًى، وَلَوْ تُرِكَ يَفُوتُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى صُورَةً بِمُبَاشَرَةِ الْمَحْظُورِ وَتَرْكِ الْمَنْعِ عَنْهُ لَا مَعْنَى؛ لِأَنَّ الْإِنْكَارَ بِالْقَلْبِ وَاعْتِقَادَ الْحُرْمَةِ بَاقٍ. قَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْغَازِي إذَا بَارَزَ) ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا حَمَلَ عَلَى أَلْفِ رَجُلٍ وَحْدَهُ فَإِنْ كَانَ يَطْمَعُ أَنْ يَظْفَرَ بِهِمْ أَوْ يَنْكَأُ فِيهِمْ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ النَّيْلَ مِنْ الْعَدُوِّ بِصُنْعِهِ وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَبَشَّرَ بَعْضَهُمْ بِالشَّهَادَةِ حِينَ اسْتَأْذَنَهُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى يَوْمَ أُحُدٍ كَتِيبَةً مِنْ الْكُفَّارِ فَقَالَ مَنْ لِهَذِهِ الْكَتِيبَةِ فَقَالَ وَهْبٌ أَنَا لَهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ حَتَّى فَرَّقَهُمْ ثُمَّ رَأَى كَتِيبَةً أُخْرَى وَقَالَ مَنْ لِهَذِهِ الْكَتِيبَةِ فَقَالَ وَهْبٌ أَنَا لَهَا فَقَالَ أَنْتَ لَهَا، وَأَبْشِرْ بِالشَّهَادَةِ فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ حَتَّى فَرَّقَهُمْ وَقُتِلَ هُوَ» ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَطْمَعْ فِي نِكَايَةٍ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ هَذَا الصَّنِيعُ؛ لِأَنَّهُ يُتْلِفُ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا نِكَايَةٍ فِي الْمُشْرِكِينَ فَيَكُونُ مُلْقِيًا نَفْسَهُ فِي التَّهْلُكَةِ، وَلَا يَكُونُ عَامِلًا لِرَبِّهِ فِي إعْزَازِ الدِّينِ. وَفِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْقَوْمَ يَقْتُلُونَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَتَفَرَّقُ جَمْعُهُمْ بِسَبَبِهِ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ هُنَاكَ مُسْلِمُونَ مُعْتَقِدُونَ لِمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُنْكِئَ فِعْلُهُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُظْهِرُونَ ذَلِكَ، وَهَاهُنَا الْقَوْمُ كُفَّارٌ لَا يَعْتَقِدُونَ حَقِّيَّةَ الْإِسْلَامِ وَقَتْلُهُ لَا يُنْكِئُ فِي بَاطِنِهِمْ فَيُشْتَرَطُ النِّكَايَةُ ظَاهِرًا لِإِبَاحَةِ الْإِقْدَامِ. وَإِنْ كَانَ لَا يَطْمَعُ فِي نِكَايَةٍ، وَلَكِنَّهُ يُجَرِّئَ بِهِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَظْهَرَ بِفِعْلِهِمْ النِّكَايَةُ فِي الْعَدُوِّ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى طَمَعٍ مِنْ النِّكَايَةِ لِفِعْلِهِ جَازَ لَهُ الْإِقْدَامُ فَكَذَا إذَا كَانَ يَطْمَعُ النِّكَايَةَ فِيهِمْ بِفِعْلِ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ يَطْمَعُ النِّكَايَةَ فِي إرْهَابِ الْعَدُوِّ، وَإِدْخَالِ الْوَهْنِ عَلَيْهِمْ بِفِعْلِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَفْضَلُ وُجُوهِ النِّكَايَةِ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَكُلُّ أَحَدٍ يَبْذُلُ نَفْسَهُ لِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ. وَفِي الْمُغْرِبِ يُقَالُ نَكَأَتْ الْقُرْحَةُ قِشْرَتَهَا وَنَكَأْت فِي الْعَدُوِّ وَنَكَأَ إذَا قَتَلْت فِيهِمْ أَوْ جَرَحْت وَقَالَ اللَّيْث وَلُغَةٌ أُخْرَى نَكَيْت فِي الْعَدُوِّ نِكَايَةً

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَمَا يُسْتَبَاحُ بِعُذْرٍ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ مُوجِبًا لِحُكْمِهِ غَيْرَ أَنَّ الْحُكْمَ مُتَرَاخٍ مِثْلُ الْمُسَافِرِ رُخِّصَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ بِنَاءً عَلَى سَبَبِ تَرَاخِي حُكْمِهِ، فَكَانَ دُونَ مَا اعْتَرَضَ عَلَى سَبَبِ حِلِّ حُكْمِهِ وَإِنَّمَا يُكْمِلَ الرُّخْصَةَ بِكَمَالِ الْعَزِيمَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَعَنْ أَبِي عُمَرَ وَنَكَيْت فِي الْعَدُوِّ لَا غَيْرُ. وَعَنْ الْكِسَائِيّ كَذَلِكَ، وَلَمْ أَجِدْهُ مُعَدًّى بِنَفْسِهِ إلَّا فِي جَامِعِ الْغُورِيِّ قَالَ يَعْقُوبُ نَكَيْت الْعَدُوَّ إذَا قَتَلْت فِيهِمْ وَجَرَحْت قَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ: إذَا أَنْتَ لَمْ تَنْفَعْ بِوُدِّكَ أَهْلَهُ ... وَلَمْ تَنْكَ بِالْبُوسَى عَدُوَّك فَابْعُدْ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ هَذَا) أَيْ، وَكَثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْمُكْرَهِ عَلَى الْقَتْلِ ثُبُوتُهُ فِيمَنْ أُكْرِهَ عَلَى إتْلَافِهِ مَالَ غَيْرِهِ بِالْقَتْلِ رُخِّصَ لَهُ ذَلِكَ لِرُجْحَانِ حَقِّهِ فِي النَّفْسِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ يَفُوتُ فِي النَّفْسِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَحَقُّ غَيْرِهِ لَا يَفُوتُ مَعْنًى لِانْجِبَارِهِ بِالضَّمَانِ فَإِذَا صَبَرَ حَتَّى قُتِلَ كَانَ شَهِيدًا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْحُرْمَةِ، وَهُوَ الْمِلْكُ وَحُكْمُهُ، وَهُوَ حُرْمَةُ التَّعَرُّضِ قَائِمَانِ فَإِنَّ حُرْمَةَ إتْلَافِ مَالِهِ لِمَكَانِ عِصْمَتِهِ وَاحْتِرَامِهِ وَذَلِكَ لَا يَخْتَلُّ بِالْإِكْرَاهِ فَكَانَ فِي الصَّبْرِ آخِذًا بِالْعَزِيمَةِ مُقِيمًا فَرْضَ الْجِهَادِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ نَفْسَهُ صِيَانَةً لِحَقِّ ذَلِكَ الرَّجُلِ فِي مَالِهِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ فَيَكُونُ مُثَابًا كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنْ أَبَى أَنْ يَفْعَلَ حَتَّى قُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا إنْ شَاءَ اللَّهُ قَيَّدَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْ الِاسْتِثْنَاءَ فِيمَا سِوَاهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ فِيهَا نَصًّا بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا قَالَهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِفْطَارِ، وَإِفْسَادِ الصَّلَاةِ، وَإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَنَحْوِهَا، وَلَيْسَ هَذَا فِي مَعْنَى تِلْكَ الْمَسَائِلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ الْإِتْلَافِ هَاهُنَا لَا يَرْجِعُ إلَى إعْزَازِ الدِّينِ فَلِهَذَا قَيَّدَهُ بِهِ، وَكَذَلِكَ صَائِمٌ أُكْرِهَ عَلَى الْإِفْطَارِ أَوْ اُضْطُرَّ إلَيْهِ بِمَخْمَصَةٍ يُرَخِّصُهُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي نَفْسِهِ يَفُوتُ أَصْلًا وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى يَفُوتُ إلَى بَدَلٍ، وَهُوَ الْقَضَاءُ فَلَهُ أَنْ يُقَدِّمَ حَقَّ نَفْسِهِ. وَإِنْ صَبَرَ، وَلَمْ يُفْطِرْ حَتَّى قُتِلَ، وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ كَانَ مَأْجُورًا؛ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْوُجُوبِ لَمْ يَسْقُطْ فَكَانَ لَهُ بَذْلُ نَفْسِهِ لِإِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفِيهِ إظْهَارُ الصَّلَابَةِ فِي الدِّينِ، وَإِعْزَازِهِ. إلَّا أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا أَوْ مَرِيضًا فَلَمْ يُفْطِرْ حَتَّى قُتِلَ كَانَ آثِمًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لَهُمَا الْإِفْطَارَ بِقَوْلِهِ. {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] . فَعِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ رَمَضَانُ فِي حَقِّهِمَا كَشَعْبَانَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا فَيَكُونُ آثِمًا بِالِامْتِنَاعِ حَتَّى يَمُوتَ بِمَنْزِلَةِ الْمُضْطَرِّ فِي فَصْلِ الْمَيْتَةِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ مِثْلُ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا وَالْحُقُوقِ الْمُحْتَرَمَةِ مِثْلُ مَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الدَّلَالَةِ عَلَى مَالِ نَفْسِهِ أَوْ مَالِ إنْسَانٍ رُخِّصَ لَهُ الدَّلَالَةُ، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قُتِلَ لَمْ يَكُنْ آثِمًا؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الدَّفْعَ عَنْ مَالِهِ أَوْ مَالِ غَيْرِهِ وَذَلِكَ عَزِيمَةٌ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» . قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي) ، وَهُوَ الَّذِي دُونَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فِي كَوْنِهِ رُخْصَةً فَمَا يُسْتَبَاحُ بِعُذْرٍ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ أَيْ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ مُوجِبًا لِحِكْمَةٍ، وَهُوَ الْحُرْمَةُ. إلَّا أَنَّ الْحُكْمَ مُتَرَاخٍ عَنْهُ فَمِنْ حَيْثُ إنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ قَائِمٌ كَانَتْ الرُّخْصَةُ حَقِيقَةً، وَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْحُكْمَ مُتَرَاخٍ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الْحَالِ كَانَ هَذَا الْقِسْمُ دُونَ الْأَوَّلِ فَإِنَّ كَمَالَ الرُّخْصَةِ بِكَمَالِ الْعَزِيمَةِ فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا مَعَ السَّبَبِ فَهُوَ أَقْوَى مِمَّا تَرَاخَى حُكْمُهُ عَنْهُ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ مَعَ الْبَيْعِ الْبَاتِّ وَالْبَيْعِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ مَعَ الْبَيْعِ بِثَمَنٍ حَالٍّ فَإِنَّ الْحُكْمَ، وَهُوَ الْمِلْكُ فِي الْبَيْعِ وَالْمُطَالَبَةُ بِالثَّمَنِ ثَابِتٌ فِي الْبَاتِّ مُتَرَاخٍ عَنْ السَّبَبِ الْمَقْرُونِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَالْأَجَلِ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - مِثْلُ الْمُسَافِرِ رُخِّصَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ مَعَ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلصَّوْمِ الْمُحَرِّمِ لِلْفِطْرِ، وَهُوَ شُهُودُ الشَّهِيدِ وَتَوَجَّهَ الْخِطَابُ الْعَامُّ

لَكِنَّ السَّبَبَ لَمَّا تَرَاخَى حُكْمُهُ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيقٍ كَانَ الْقَوْلُ بِالتَّرَاخِي بَعْدَ تَمَامِ السَّبَبِ رُخْصَةً فَأُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ ـــــــــــــــــــــــــــــQنَحْوَهُ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] . وَلِهَذَا لَوْ أَدَّى كَانَ فَرْضًا إلَّا أَنَّ الْحُكْمَ، وَهُوَ حُرْمَةُ الْإِفْطَارِ وَتَرْكُ الصَّوْمِ تَرَاخَى فِي حَقِّهِ إلَى إدْرَاكِ عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ فَكَانَتْ الْعَزِيمَةُ أَدْنَى حَالًا مِنْهَا فِي الْمُكْرَهِ عَلَى الْإِفْطَارِ فِي الصَّوْمِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ هُنَاكَ، وَهُوَ حُرْمَةُ الْإِفْطَارِ لَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْ السَّبَبِ فَلَا جَرَمَ كَانَتْ الرُّخْصَةُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى هَذِهِ الْعَزِيمَةِ أَدْنَى حَالًا مِنْ الرُّخْصَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْعَزِيمَةِ بِالْأَدْنَى؛ لِأَنَّ كَمَالَهَا وَانْتِقَاصَهَا بِكَمَالِ الْعَزِيمَةِ وَانْتِقَاصِهَا فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَخَذَتْ شَبَهًا بِالْمَجَازِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ، وَهُوَ الْوُجُوبُ وَحُرْمَةُ الْإِفْطَارِ لَمَّا تَرَاخَى لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي الْحَالِ فَلَمْ يُعَارِضْ الرُّخْصَةَ، وَهِيَ إبَاحَةُ الْإِفْطَارِ وَتَرْكُ الصَّوْمِ حُرْمَةٌ فَكَانَتْ شَبِيهًا بِالْإِفْطَارِ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ فَلَمْ يَكُنْ رُخْصَةً مَحْضَةً حَقِيقَةً. لَكِنَّ السَّبَبَ لَمَّا تَرَاخَى حُكْمُهُ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيقٍ يَعْنِي مِنْ حَيْثُ إنَّ حُكْمَ السَّبَبِ تَرَاخَى عَنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا بِشَيْءٍ إذْ لَوْ كَانَ مُعَلَّقًا لَمَا جَازَ الْأَدَاءُ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ وُجُودِهِ، وَلَكَانَ السَّبَبُ غَيْرَ تَامٍّ فِي الْحَالِ لِمَا مَرَّ. كَانَ الْقَوْلُ بِتَرَاخِي الْوُجُوبِ وَحِلِّ الْإِفْطَارِ بَعْدَمَا تَمَّ السَّبَبُ رُخْصَةً حَقِيقَةً فَلِهَذَا كَانَ هَذَا الْقِسْمُ دُونَ الْأَوَّلِ إذْ لَيْسَ فِي الْأَوَّلِ مَدْخَلٌ لِلْمَجَازِ يُوَجَّهُ، وَفِي الثَّانِي لِلْمَجَازِ مَدْخَلٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَى تَرَاخِي الْحُكْمِ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ قَبْلَ إدْرَاكِ عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ مَاتَ قَبْلَ رَمَضَانَ، وَلَوْ كَانَ الْوُجُوبُ ثَابِتًا لَلَزِمَهُ الْأَمْرُ بِالْفِدْيَةِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْوَاجِبَ بِعُذْرٍ يَرْفَعُ الْإِثْمَ، وَلَكِنْ لَا يَسْقُطُ الْحَلِفُ كَالْمُكْرَهِ عَلَى الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ إذَا أَفْطَرَ، وَمَاتَ قَبْلَ إدْرَاكِ زَمَانِ الْقَضَاءِ يَلْزَمُهُ الْأَمْرُ بِالْفِدْيَةِ، وَكَذَلِكَ الْحَائِضُ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ بِثَابِتٍ فِي الْحَالِ. ثُمَّ الشَّيْخُ أَشَارَ بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيقٍ إلَى نَفْيِ قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ مِنْهُمْ دَاوُد بْنُ عَلِيٍّ أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ لَا يَجُوزُ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ عِنْدَ إدْرَاكِ الْعِدَّةِ سَوَاءٌ صَامَ فِي السَّفَرِ أَوْ لَمْ يَصُمْ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. قَالُوا إنَّ اللَّه تَعَالَى عَلَّقَ الْوُجُوبَ فِي حَقِّهِ بِإِدْرَاكِ الْعِدَّةِ بِقَوْلِهِ {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] فَلَا يَجُوزُ الْأَدَاءُ قَبْلَهُ كَمَا لَا يَجُوزُ مِنْ الْمُقِيمِ قَبْلَ رَمَضَانَ وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. «الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ» . وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَوْ صَامَ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] . فَإِنَّهُ يَعُمُّ الْمُسَافِرَ وَالْمُقِيمَ. وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: 184] . لِبَيَانِ التَّرْخِيصِ بِالْفِطْرِ فَيَنْتَفِي بِهِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ لَا جَوَازُهُ، وَفِي الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الْجَوَازِ كَثْرَةٌ. وَحَدِيثُهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ حَتَّى خِيفَ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ عَلَى مَا عُرِفَ تَمَامُهُ فِي الْأَسْرَارِ وَغَيْرِهِ قَوْلُهُ (وَكَانَتْ الْعَزِيمَةُ أَوْلَى أَيْ) الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ أَوْلَى مِنْ الْإِفْطَارِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ، وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ بِكَمَالِهِ لَمَّا كَانَ قَائِمًا وَتَأَخَّرَ الْحُكْمُ بِالْأَجَلِ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ التَّعْجِيلِ كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ كَانَ الْمُؤَدِّي لِلصَّوْمِ عَامِلًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي أَدَاءِ الْفَرْضِ وَالْمُتَرَخِّصُ بِالْفِطْرِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى التَّرَفُّهِ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى. وَلِتَرَدُّدٍ فِي الرُّخْصَةِ يَعْنِي الْيُسْرَ لَمْ يَتَعَيَّنْ

وَكَانَتْ الْعَزِيمَةُ أَوْلَى عِنْدَنَا لِكَمَالِ سَبَبِهِ وَلَتَرَدَّدَ فِي الرُّخْصَةِ حَتَّى صَارَتْ الْعَزِيمَةُ تُؤَدِّي مَعْنَى الرُّخْصَةِ مِنْ وَجْهٍ فَلِذَلِكَ تَمَّتْ الْعَزِيمَةُ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فِي آخِرِ هَذَا الْفَصْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ أَعْرَضَ الشَّافِعِيُّ عَنْ ذَلِكَ فَجَعَلَ الرُّخْصَةَ أَوْلَى اعْتِبَارًا لِظَاهِرِ تَرَاخِي الْعَزِيمَةِ إلَّا أَنْ يُضْعِفَهُ الصَّوْمُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْذُلَ نَفْسَهُ لِإِقَامَةِ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَتِيلًا بِالصَّوْمِ فَيَصِيرُ قَاتِلًا نَفْسَهُ بِمَا صَارَ بِهِ مُجَاهِدًا وَفِي ذَلِكَ تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ فَلَمْ يَكُنْ نَظِيرُ مَنْ بَذَلَ نَفْسَهُ لِقَتْلِ الظَّالِمِ حَتَّى أَقَامَ الصَّوْمَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ مُضَافٌ إلَى الظَّالِمِ فَلَمْ يَصِرْ الصَّابِرُ مُغَيِّرًا لِلْمَشْرُوعِ فَصَارَ مُجَاهِدًا، وَأَمَّا أَتَمُّ نَوْعَيْ الْمَجَازِ فَمَا وُضِعَ عَنَّا مِنْ الْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى رُخْصَةً مَجَازًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ سَاقِطٌ لَمْ يَبْقَ مَشْرُوعًا فَلَمْ يَكُنْ رُخْصَةً إلَّا مَجَازًا مِنْ حَيْثُ هُوَ نَسْخٌ تَمَحَّضَ تَخْفِيفًا ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي الْفِطْرِ بَلْ فِي الْعَزِيمَةِ نَوْعُ يُسْرٍ أَيْضًا فَإِنَّ الصَّوْمَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَيْسَرُ مِنْ التَّفَرُّدِ بِهِ وَبَعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ بِخِلَافِ قَصْرِ الصَّلَاةِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ بَيَانُهُ. فَكَانَتْ الْعَزِيمَةُ تُؤَدِّي أَيْ تُحَصِّلُ مَعْنَى الرُّخْصَةِ وَتُفْضِي إلَيْهِ، وَهُوَ الْيُسْرُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. فَلِذَلِكَ أَيْ لِتَأْدِيَتِهَا مَعْنَى الرُّخْصَةِ تَمَّتْ الْعَزِيمَةُ أَيْ كَمُلَتْ بِحُصُولِ مَعْنَى الرُّخْصَةِ مَعَ تَحَقُّقِ مَعْنَى الْعَزِيمَةِ، وَهُوَ إقَامَةُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْعَزِيمَةَ كَانَتْ نَاقِصَةً بِاعْتِبَارِ تَأَخُّرِ حُكْمِهَا إلَى زَمَانِ الْإِقَامَةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الرُّخْصَةُ أَوْلَى كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَّا أَنَّ هَذَا التَّأَخُّرَ ثَبَتَ رِفْقًا بِالْمُسَافِرِ وَتَيْسِيرًا لِلْأَمْرِ عَلَيْهِ، وَفِي الصَّوْمِ نَوْعُ يُسْرٍ أَيْضًا فَانْجَبَرَ ذَلِكَ النُّقْصَانُ بِهَذَا الْيُسْرِ فَتَمَّتْ، وَكَمُلَتْ فَكَانَ الْأَخْذُ بِهَا أَوْلَى كَمَا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. وَقَدْ أَعْرَضَ الشَّافِعِيُّ عَنْ ذَلِكَ أَيْ عَنْ تَرْجِيحِ الْعَزِيمَةِ، وَجَعَلَ الرُّخْصَةَ أَيْ الْعَمَلَ بِهَا أَوْلَى فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ اعْتِبَارًا لِظَاهِرِ تَرَاخِي الْعَزِيمَةِ أَيْ تَرَاخِي حُكْمِهَا فَإِنَّ وُجُوبَ أَدَاءِ الصَّوْمِ لَمَّا تَأَخَّرَ إلَى إدْرَاكِ عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ اقْتَضَى أَنْ لَا يَجُوزَ الْأَدَاءُ قَبْلَهُ كَمَا قَالَهُ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ إلَّا أَنَّهُ تُرِكَ فِي حَقِّ عَدَمِ الْجَوَازِ لِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِيهِ فَبَقِيَ مُعْتَبَرًا فِي أَفْضَلِيَّةِ الْفِطْرِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِ مَنْ قَالَ أَدَاءُ الصَّلَاةِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ أَفْضَلَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ يَتَقَرَّرُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَالْأَدَاءُ قَبْلَهُ يَكُونُ أَدَاءً قَبْلَ الْوُجُوبِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ فِي حَقِّ عَدَمِ الْجَوَازِ بِالْإِجْمَاعِ فَبَقِيَ مُعْتَبَرًا فِي أَفْضَلِيَّةِ التَّأْخِيرِ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ شَطْرَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ. ثُمَّ الْأَفْضَلُ لَهُ فِي الصَّلَاةِ الْقَصْرُ فَكَذَا الْفِطْرُ فِي الصَّوْمِ يَكُونُ أَفْضَلَ. وَلَنَا مَا ذَكَرْنَا، وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُسَافِرِ يَتَرَخَّصُ بِالْفِطْرِ، وَإِنْ صَامَ فَهُوَ أَفْضَلُ لَهُ «وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالصَّوْمِ حَتَّى شَكَا النَّاسُ إلَيْهِ ثُمَّ أَفْطَرَ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ. وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي الْوَجِيزِ وَالصَّوْمُ أَحَبُّ مِنْ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ لِتَبْرِئَةِ الذِّمَّةِ إلَّا إذَا كَانَ يَتَضَرَّرُ بِهِ. وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي أَفْضَلِ الْأَمْرَيْنِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ أَفْضَلُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَالشَّعْبِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِثْلُ النَّخَعِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ الصَّوْمُ أَفْضَلُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَفْضَلُ الْأَمْرَيْنِ مَا هُوَ الْأَيْسَرُ مِنْهُمَا قَوْلُهُ (إلَّا أَنْ يُضْعِفَهُ الصَّوْمُ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ، وَكَانَتْ الْعَزِيمَةُ أَوْلَى يَعْنِي إذَا أَضْعَفَهُ الصَّوْمُ فَحِينَئِذٍ كَانَ الْفِطْرُ أَوْلَى، وَلَوْ صَبَرَ حَتَّى مَاتَ كَانَ آثِمًا؛ لِأَنَّ الْإِفْطَارَ لَزِمَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَوْ بَذَلَ نَفْسَهُ لِإِقَامَةِ الصَّوْمِ صَارَ قَتِيلًا بِالصَّوْمِ، وَهُوَ الْمُبَاشِرُ لِفِعْلِ الصَّوْمِ فَيَصِيرُ قَاتِلًا نَفْسَهُ بِمَا صَارَ بِهِ مُجَاهِدًا، وَهُوَ الصَّوْمُ مِنْ غَيْرِ تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ إقَامَةُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَهُ عَنْهُ، وَهُوَ حَرَامٌ كَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِالسَّيْفِ الَّذِي يُجَاهِدُ بِهِ مَعَ الْكُفَّارِ كَانَ حَرَامًا.، وَفِي ذَلِكَ تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي حَقِّهِ إمَّا التَّأْخِيرُ أَوْ جَوَازُ التَّعْجِيلِ عَلَى

وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ فَمَا سَقَطَ عَنْ الْعِبَادَةِ مَعَ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا فِي الْجُمْلَةِ فَمِنْ حَيْثُ سَقَطَ أَصْلًا كَانَ مَجَازًا وَمِنْ حَيْثُ بَقِيَ مَشْرُوعًا فِي الْجُمْلَةِ كَانَ شَبِيهًا بِحَقِيقَةِ الرُّخْصَةِ فَكَانَ دُونَ الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِثَالُهُ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَخَّصَ فِي السَّلَمِ» وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ الْبَيْعِ أَنْ يُلَاقِيَ عَيْنًا، وَهَذَا حُكْمٌ بَاقٍ مَشْرُوعٌ لَكِنَّهُ سَقَطَ فِي بَابِ السَّلَمِ أَصْلًا تَخْفِيفًا حَتَّى لَمْ يَبْقَ تَعْيِينُهُ فِي السَّلَمِ مَشْرُوعًا وَلَا عَزِيمَةً؛ وَهَذَا لِأَنَّ دَلِيلَ الْيُسْرِ مُتَعَيِّنٌ لِوُقُوعِ الْعَجْزِ عَنْ التَّعْيِينِ فَوُضِعَ عَنْهُ أَصْلًا ـــــــــــــــــــــــــــــQوَجْهٍ يُضْمَنُ يَسِيرًا فَأَمَّا التَّعْجِيلُ عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى الْهَلَاكِ فَلَيْسَ بِمَشْرُوعٍ فَكَانَ فِعْلُهُ تَغْيِيرًا لِلْمَشْرُوعِ. أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّ الصَّوْمَ شُرِعَ لِتَرْتَاضَ النَّفْسُ لِخِدْمَةِ خَالِقِهَا عَلَى مَا مَرَّ فِي أَبْوَابِ الْأَمْرِ فَإِذَا أَدَّى إلَى الْهَلَاكِ لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ الِارْتِيَاضُ لِلْخِدْمَةِ فَكَانَ خِلَافَ الْمَشْرُوعِ. فَلَمْ يَكُنْ نَظِيرُ مَنْ بَذَلَ نَفْسَهُ بِقَتْلِ الظَّالِمِ أَيْ لَا يَكُونُ الْمُسَافِرُ فِيمَا ذُكِرَ مِثْلَ الْمُقِيمِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْفِطْرِ بِالْقَتْلِ الصَّابِرِ عَلَيْهِ إلَى أَنْ يُقْتَلَ إقَامَةً لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ هُنَاكَ صَدَرَ مِنْ الْمُكْرَهِ وَأُضِيفَ إلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ الصَّابِرُ مُغَيِّرًا لِلْمَشْرُوعِ بِفِعْلِهِ بَلْ هُوَ فِي الصَّبْرِ مُسْتَدِيمٌ لِلْعِبَادَةِ مُظْهِرٌ لِلطَّاعَةِ وَذَلِكَ عَمَلُ الْمُجَاهِدِينَ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ إذَا لَمْ يُفْطِرْ فِي السَّفَرِ أَوْ الْمَرَضِ حَتَّى مَاتَ كَانَ آثِمًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْسَنَ إلَيْهِ بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ وَبِالتَّعْجِيلِ مَعَ الْهَلَاكِ صَارَ رَادًّا عَفْوًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَمُبْتَدِئًا مِنْ نَفْسِهِ بِالْإِحْسَانِ لَا مُقِيمًا حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا لَا يَحْسُنُ شَرْعًا وَعَقْلًا. وَذُكِرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّ الْمُسَافِرَ أَوْ الْمَرِيضَ إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِفْطَارِ فَامْتَنَعَ حَتَّى قُتِلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ آثِمًا بَلْ يَكُونُ شَهِيدًا لِكَوْنِهِ مُقِيمًا حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى إذْ حَقُّهُ لَمْ يَسْقُطْ وَلِهَذَا وَجَبَ الْقَضَاءُ، وَلَوْ سَقَطَ حَقُّهُ أَصْلًا لَمَا وَجَبَ الْبَذْلُ إلَّا أَنَّهُ وَرَدَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ نُصُوصٌ عَلَى إلْحَاقِ الْوَعِيدِ بِهِمَا بِتَرْكِ الْإِفْطَارِ مِثْلُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ صَامَ فِي السَّفَرِ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» . وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ» . وَالْمُرَادُ حَالَةَ خَوْفِ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ لِوُرُودِ الْأَخْبَارِ فِي إبَاحَةِ الِامْتِنَاعِ، وَفِعْلُ الصَّوْمِ فِي حَالِ عَدَمِ خَوْفِ التَّلَفِ فَدَلَّتْ عَلَى إبَاحَةِ الْإِفْطَارِ مُطْلَقًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَا يَكُونُ الْأَدَاءُ وَاجِبًا، وَلَا يَكُونُ مُقِيمًا حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الِامْتِنَاعِ فَيَكُونُ آثِمًا وَالْإِكْرَاهُ فِي حَالَةِ السَّفَرِ وَالْمَرَضِ نَظِيرُ خَوْفِ التَّلَفِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيُلْحَقُ بِهِ تَسْمِيَةُ مَا حُطَّ عَنَّا مِنْ الْأَسْرَارِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا رُخْصَةً مَجَازًا؛ لِأَنَّ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْنَا، وَلَا عَلَى غَيْرِنَا لَا يُسَمَّى رُخْصَةً أَصْلًا، وَهِيَ لَمَّا وَجَبَتْ عَلَى غَيْرِنَا فَإِذَا قَابَلْنَا أَنْفُسَنَا بِهِمْ كَانَ السُّقُوطُ فِي حَقِّنَا تَوْسِعَةً وَتَخْفِيفًا فَحَسُنَ إطْلَاقُ اسْمِ الرُّخْصَةِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ تَجَوُّزًا لَا تَحْقِيقًا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْحُرْمَةِ مَعَ الْحُكْمِ مَعْدُومٌ أَصْلًا بِالرَّفْعِ وَالنَّسْخِ، وَالْإِيجَابُ عَلَى غَيْرِنَا لَا يَكُونُ تَضْيِيقًا فِي حَقِّنَا، وَالرُّخْصَةُ فُسْحَةٌ فِي مُقَابَلَةِ التَّضْيِيقِ. وَالْإِصْرُ الْأَعْمَالُ الشَّاقَّةُ وَالْأَحْكَامُ الْمُغَلَّظَةُ كَقَتْلِ النَّفْسِ فِي التَّوْبَةِ وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ الْخَاطِئَةِ. وَالْأَغْلَالُ الْمَوَاثِيقُ اللَّازِمَةُ لُزُومَ الْغُلِّ كَذَا فِي غَيْرِ الْمَعَانِي. وَفِي الْكَشَّافِ: الْإِصْرُ الثِّقَلُ الَّذِي يَأْصِرُ صَاحِبَهُ أَيْ يَحْبِسُهُ لِثِقَلِهِ، وَهُوَ مُثْقِلٌ لِثِقَلِ تَكْلِيفِهِمْ وَصُعُوبَتِهِ نَحْوُ اشْتِرَاطِ قَتْلِ النَّفْسِ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ.، وَكَذَلِكَ الْأَغْلَالُ مِثْلُ لَمَّا كَانَ فِي شَرَائِعِهِمْ مِنْ الْأَشْيَاءِ الشَّاقَّةِ نَحْوِ بَتِّ الْقَضَاءِ بِالْقِصَاصِ عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً مِنْ غَيْرِ شَرْعِ الدِّيَةِ وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ الْخَاطِئَةِ، وَقَرْضِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ مِنْ الْجِلْدِ وَالثَّوْبِ، وَإِحْرَاقِ الْغَنَائِمِ وَتَحْرِيمِ الْعُرُوقِ فِي اللَّحْمِ وَتَحْرِيمِ السَّبْتِ. وَعَنْ عَطَاءٍ كَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ إذَا قَامَتْ تُصَلِّي لَبِسُوا الْمُسُوحَ وَغَلُّوا أَيْدِيَهُمْ إلَى أَعْنَاقِهِمْ وَرُبَّمَا ثَقَبَ الرَّجُلُ تَرْقُوَتَهُ وَجَعَلَ فِيهَا طَرَفَ السَّلْسَلَةِ، وَأَوْثَقَهَا إلَى السَّارِيَةِ يَحْبِسُ نَفْسَهُ عَلَى الْعِبَادَةِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا النَّوْعُ الرَّابِعُ) وَهُوَ الْقِسْمُ الْأَخِيرُ مِنْ أَنْوَاعِ الرُّخَصِ فَمَا سَقَطَ عَنْ الْعِبَادِ بِإِخْرَاجِ السَّبَبِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ فِي مَحَلِّ الرُّخْصَةِ مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ السَّاقِطِ

وَكَذَلِكَ الْمُكْرَهُ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ الْمَيْتَةِ أَوْ الْمُضْطَرُّ إلَيْهِمَا رُخْصَةً مَجَازًا؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ سَاقِطَةٌ حَتَّى إذَا صَبَرَ صَارَ آثِمًا ـــــــــــــــــــــــــــــQمَشْرُوعًا فِي الْجُمْلَةِ فَمِنْ حَيْثُ سَقَطَ فِي مَحَلِّ الرُّخْصَةِ أَصْلًا كَانَ نَظِيرَ الْقِسْمِ الثَّالِثِ فَكَانَ مَجَازًا إذْ لَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهِ عَزِيمَةٌ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ بَقِيَ السَّبَبُ وَالْحُكْمُ مَشْرُوعًا فِي الْجُمْلَةِ أَخَذَ شَبَهًا بِالْحَقِيقَةِ فَضَعُفَ وَجْهُ الْمَجَازِ فَكَانَ دُونَ الْقِسْمِ الثَّالِثِ، وَلَكِنَّ جِهَةَ الْمَجَازِ غَالِبَةٌ عَلَى شَبَهِ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ جِهَةَ الْمَجَازِ بِالنَّظَرِ إلَى مَحَلِّ الرُّخْصَةِ وَشَبَهَ الْحَقِيقَةِ بِالنَّظَرِ إلَى غَيْرِ مَحَلِّهَا فَكَانَ جِهَةُ الْمَجَازِ أَقْوَى. رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ» . كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ أَنَّهُمْ يَبِيعُونَ الشَّيْءَ الَّذِي لَا يَمْلِكُونَهُ ثُمَّ يَشْتَرُونَهُ بِثَمَنٍ رَخِيصٍ وَيُسَلِّمُونَهُ إلَى الْمُشْتَرِي فَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَهَى عَنْ ذَلِكَ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ لِلْحَاجَةِ فَشُرِطَتْ الْعَيْنِيَّةُ فِي عَامَّةِ الْبِيَاعَاتِ لِتَثْبُتَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ ثُمَّ سَقَطَ هَذَا الشَّرْطُ فِي السَّلَمِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ مَشْرُوعًا حَتَّى كَانَتْ الْعَيْنِيَّةُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ مُفْسِدَةً لِلْعَقْدِ لَا مُصَحِّحَةً لَهُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ هَذَا الشَّرْطِ لِلتَّيْسِيرِ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ لِيَتَوَصَّلُوا إلَى مَقَاصِدِهِمْ مِنْ الْأَثْمَانِ قَبْلَ إدْرَاكِ غَلَّاتِهِمْ مَعَ تَوَصُّلِ صَاحِبِ الدَّرَاهِمِ إلَى مَقْصُودِهِ مِنْ الرِّبْحِ فَكَانَتْ رُخْصَةً مَجَازًا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَيْنِيَّةَ سَقَطَ أَصْلًا فِيهِ لِلتَّخْفِيفِ، وَلَمْ تَبْقَ مَشْرُوعَةً كَالْأَصْرَارِ وَالْأَغْلَالِ، وَلَكِنْ لَهَا شَبَهٌ بِالْحَقِيقَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَيْنِيَّةَ مَشْرُوعَةٌ فِي الْجُمْلَةِ وَذَلِكَ أَيْ كَوْنُ السَّلَمِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ أَوْ تَسْمِيَتُهُ رُخْصَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَيْعِ أَنْ يُلَاقِيَ عَيْنًا لِمَا رَوَيْنَا وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ. «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك» «وَلِنَهْيِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ» . وَقَوْلُهُ، وَلَا عَزِيمَةَ بَعْدَ قَوْلِهِ مَشْرُوعًا تَأْكِيدًا لِاحْتِمَالِ أَنَّ عَدَمَ بَقَائِهِ مَشْرُوعًا بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ أَوْ تَقْدِيرُهُ لَمْ يَبْقَ عَزِيمَةً، وَلَا مَشْرُوعًا.، وَهَذَا أَيْ سُقُوطُ الْعَيْنِيَّةِ فِي بَابِ السَّلَمِ بِاعْتِبَارِ تَعَيُّنِ الْيُسْرِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ التَّعْيِينِ مُتَحَقِّقٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِطَرِيقِ السَّلَمِ دَلِيلُ الْعَجْزِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَاجِزًا لَمَا بَاعَ بِأَوْكَسِ الْأَثْمَانِ، وَلَبَاعَهُ مُسَاوَمَةً لَا سَلَمًا فَلِذَلِكَ لَمْ يَبْقَ التَّعْيِينُ مَشْرُوعًا أَصْلًا كَشَرْطِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ الْمُكْرَهُ) ، وَمِثْلُ السَّلَمِ الْمُكْرَهُ أَيْ فِعْلُ الْمُكْرَهِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ رُخْصَةٌ مَجَازًا بِطَرِيقِ حَذْفِ الْمُضَافِ، وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إلَيْهِ مَقَامَهُ أَوْ كَذَلِكَ الْمُكْرَهُ أَوْ الْمُضْطَرُّ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْفِعْلِ مُرَخَّصٌ بِطَرِيقِ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَصْدَرِ عَلَى مَفْعُولٍ مِنْ جِنْسِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَنَحْوِهَا فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ أَنَّهَا تَصِيرُ مُبَاحَةً أَوْ تَبْقَى عَلَى الْحُرْمَةِ وَيَرْتَفِعُ الْإِثْمُ. فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهَا لَا تَحِلُّ، وَلَكِنْ يُرَخَّصُ الْفِعْلُ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ إبْقَاءً لِلْمُهْجَةِ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ، وَأَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ تَرْتَفِعُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا صَبَرَ حَتَّى مَاتَ لَا يَكُونُ آثِمًا عِنْدَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ، وَيَكُونُ آثِمًا عِنْدَنَا. وَفِيمَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ حَرَامًا فَتَنَاوَلَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ يَحْنَثُ عِنْدَهُمْ، وَلَا يَحْنَثُ عِنْدَنَا. تَمَسَّكُوا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173] . وَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] .

لِأَنَّ حُرْمَتَهُ مَا ثَبَتَتْ إلَّا صِيَانَةً لِعَقْلِهِ وَدِينِهِ عَنْ فَسَادِ الْخَمْرِ وَنَفْسِهِ عَنْ الْمَيْتَةِ فَإِذَا خَافَ بِهِ فَوَاتَ نَفْسِهِ لَمْ يَسْتَقِمْ صِيَانَةُ الْبَعْضِ بِفَوَاتِ الْكُلِّ فَسَقَطَ الْمُحَرَّمُ وَكَانَ إسْقَاطًا لِحُرْمَتِهِ فَإِذَا صَبَرَ لَمْ يَصِرْ مُؤَدِّيًا حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ مُضَيِّعًا دَمه إلَّا أَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَشْرُوعَةٌ فِي الْجُمْلَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَيْ فَمَنْ دَعَتْهُ الضَّرُورَةُ إلَى تَنَاوُلِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي مَجَاعَةٍ غَيْرِ مَائِلٍ إلَى مَا يَؤُمُّهُ، وَهُوَ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ فَوْقَ سَدِّ الرَّمَقِ تَلَذُّذًا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يَغْفِرُ لَهُ مَا أَكَلَ مِمَّا حَرُمَ عَلَيْهِ حِينَ اُضْطُرَّ إلَيْهِ. رَحِيمٌ بِأَوْلِيَائِهِ فِي الرُّخْصَةِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ كَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَدَلَّ إطْلَاقُ الْمَغْفِرَةِ عَلَى قِيَامِ الْحُرْمَةِ إلَّا أَنَّهُ تَعَالَى رَفَعَ الْمُؤَاخَذَةَ رَحْمَةً عَلَى عِبَادَةِ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ. وَبِأَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِنَاءٌ عَلَى صِفَاتٍ فِيهَا مِنْ الْخَبَثِ وَالضَّرَرِ، وَلَا تَنْعَدِمُ تِلْكَ الصِّفَاتُ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ فَبَقِيَتْ مُحَرَّمَةً كَمَا كَانَتْ وَرُخِّصَ الْفِعْلُ بِسَبَبِ الضَّرُورَةِ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] . فَاسْتَثْنَى حَالَةَ الضَّرُورَةِ، وَالْكَلَامُ الْمُقَيَّدُ بِالِاسْتِثْنَاءِ يَكُونُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى فَيَثْبُتُ التَّحْرِيمُ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ وَقَدْ كَانَتْ مُبَاحَةً قَبْلَ التَّحْرِيمِ فَبَقِيَتْ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ عَلَى مَا كَانَتْ. وَهَذَا عَلَى مَذْهَبُ مَنْ جَعَلَ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةَ قَبْلَ الشَّرْعِ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ قَالَ الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ لَا يُعْرَفَانِ إلَّا شَرْعًا فَيُقَالُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْحَظْرِ إبَاحَةٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مُحَرَّمَةٌ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ مُبَاحَةٌ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ فَتَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ بِالنَّصِّ أَيْضًا. وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ اسْتِثْنَاءُ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ} [النحل: 106] . فَإِنَّهُ لَمْ يَدُلَّ عَلَى إبَاحَتِهِ.؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْحَظْرِ لِيَدُلَّ عَلَى الْإِبَاحَةِ بَلْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْغَضَبِ إذْ التَّقْدِيرُ مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ فَيَنْتَفِي الْغَضَبُ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَلَا يَدُلُّ انْتِفَاؤُهُ عَلَى ثُبُوتِ الْحِلِّ. وَمَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ أَنَّ حُرْمَتَهُ أَيْ حُرْمَةَ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَشُرْبَ الْخَمْرِ وَنَحْوَهُمَا. مَا ثَبَتَتْ إلَّا صِيَانَةً لِعَقْلِهِ عَنْ الِاخْتِلَاطِ وَدِينِهِ عَنْ الْخَلَلِ الْوَاقِعِ فِيهِ بِسَبَبِ الْخَمْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} [المائدة: 91] . وَنَفْسِهِ أَيْ بَدَنِهِ عَنْ تَعَدِّي خَبَثِ الْمَيْتَةِ وَنَظَائِرِهَا إلَيْهِ كَمَا أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] فَإِذَا خَافَ بِهِ أَيْ بِالِامْتِنَاعِ فَوَاتَ نَفْسِهِ لَمْ يَسْتَقِمْ صِيَانَةُ الْبَعْضِ بِفَوَاتِ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ فِي فَوَاتِ الْكُلِّ فَوَاتَ الْبَعْضِ ضَرُورَةً. فَسَقَطَ الْمُحَرَّمُ أَيْ مَعْنَى الْمُحَرَّمِ، وَهُوَ صِيَانَةُ الْعَقْلِ وَالنَّفْسِ. فَكَانَ هَذَا أَيْ إطْلَاقُ الْفِعْلِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إسْقَاطًا لِحُرْمَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. فَإِذَا صَبَرَ لَمْ يَصِرْ مُؤَدِّيًا حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَقَطَ بَلْ صَارَ مُضَيِّعًا دَمَهُ مِنْ غَيْرِ تَحْصِيلِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْحُرْمَةِ فَكَانَ آثِمًا. وَيُؤَيِّدُهُ مَا نُقِلَ عَنْ مَسْرُوقٍ وَغَيْرِهِ مَنْ اُضْطُرَّ إلَى مَيْتَةٍ، وَلَمْ يَأْكُلْ دَخَلَ النَّارَ. إلَّا أَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَشْرُوعَةٌ فِي الْجُمْلَةِ فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الرُّخْصَةُ مِثْلَ سُقُوطِ الْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ بَلْ كَانَتْ دُونَهُ فِي الْمَجَازِيَّةِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ يَتَّصِلُ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ سَاقِطَةٌ أَوْ بِقَوْلِهِ فَسَقَطَ الْمُحَرَّمُ، وَهُوَ بِمَعْنَى لَكِنْ. وَأَمَّا إطْلَاقُ الْمَغْفِرَةِ مَعَ الْإِبَاحَةِ فَبِاعْتِبَارِ أَنَّ الِاضْطِرَارَ الْمُرَخِّصَ لِلتَّنَاوُلِ يَكُونُ بِالِاجْتِهَادِ وَعَسَى يَقَعُ التَّنَاوُلُ زَائِدًا عَلَى قَدْرِ مَا يَحْصُلُ بِهِ سَدُّ الرَّمَقِ وَبَقَاءُ الْمُهْجَةِ إذْ مِثْلُ مَنْ اُبْتُلِيَ بِهَذِهِ الْمَخْمَصَةِ يَعْسُرُ عَلَيْهِ رِعَايَةُ هَذَا الِاضْطِرَارِ الْمُرَخِّصِ، وَالتَّنَاوُلُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ فَاَللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْمَغْفِرَةَ لِهَذَا التَّفَاوُتِ، وَفِي التَّيْسِيرِ

وَمِنْ ذَلِكَ مَا قُلْنَا فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ بِالسَّفَرِ أَنَّهُ رُخِّصَ إسْقَاطًا حَتَّى لَا يَصِحَّ أَدَاؤُهُ مِنْ الْمُسَافِرِ، وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهَا إسْقَاطًا اسْتِدْلَالًا بِدَلِيلِ الرُّخْصَةِ وَمَعْنَاهَا أَمَّا الدَّلِيلُ فَمَا رُوِيَ «أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ \انقصر وَنَحْنُ آمِنُونَ فَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنَّ هَذِهِ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» سَمَّاهُ صَدَقَةً وَالتَّصَدُّقُ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ إسْقَاطٌ مَحْضٌ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَصَدِّقُ مَنْ لَا يَلْزَمُ طَاعَتُهُ كَوَلِيِّ الْقِصَاصِ إذَا عَفَا فَمَنْ تَلْزَمُ طَاعَتُهُ أَوْلَى، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الرُّخْصَةَ لِلْيُسْرِ ـــــــــــــــــــــــــــــQ {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] أَيْ غَفُورٌ لِمَنْ تَابَ مِنْ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَاسْتِحْلَالِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ. رَحِيمٌ بِشَرْعِ التَّوْبَةِ. وَقِيلَ غَفُورٌ لِلذُّنُوبِ الْكِبَارِ فَكَيْفَ يُؤَاخِذُ بِتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ. رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ فِيمَا يَتَعَبَّدُهُمْ بِهِ. وَقِيلَ غَفُورٌ بِالْعَفْوِ عَمَّنْ أَكَلَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. رَحِيمٌ بِرَفْعِ الْإِثْمِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَفِي عَيْنِ الْمَعَانِي فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ بِإِزَاحَةِ الْمَغْفِرَةِ عِنْدَ الْمَضَرَّةِ رَحِيمٌ بِإِبَاحَةِ الْمَحْظُورِ لِلْمَعْذُورِ قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ، وَمِنْ وَقْتِ الْقِسْمِ الرَّابِعِ مَا قُلْنَا فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ بِالسَّفَرِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقَصْرُ رُخْصَةٌ حَقِيقَةٌ وَالْعَزِيمَةُ هِيَ الْأَرْبَعُ حَتَّى لَوْ فَاتَ الْوَقْتُ يَقْضِي أَرْبَعًا سَوَاءٌ قَضَاهَا فِي السَّفَرِ أَوْ فِي الْحَضَرِ فِي قَوْلٍ، وَفِي قَوْلٍ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ. وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] . شُرِعَ بِلَفْظِ لَا جُنَاحَ، وَأَنَّهُ لِلْإِبَاحَةِ دُونَ الْإِيجَابِ. وَبِأَنَّ الْوَقْتَ سَبَبُ الْأَرْبَعِ وَالسَّفَرُ سَبَبٌ لِلْقَصْرِ لَا عَلَى رَفْعِ الْأَوَّلِ وَتَغْيِيرِهِ فَإِنَّهُ لَوْ اقْتَدَى بِمُقِيمٍ صَحَّ وَيَلْزَمُهُ الْأَرْبَعُ، وَلَوْ ارْتَفَعَ لِمَا لَزِمَهُ كَمُصَلِّي الْفَجْرِ إذَا اقْتَدَى بِمَنْ يُصَلِّي الظُّهْرَ فَيَعْمَلُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ إلَّا أَنَّ الْقَصْرَ سَبَبٌ عَارِضٌ فَمَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ لَا يَرْتَفِعُ حُكْمُ الْأَصْلِ، وَهَذَا كَالْعَبْدِ إذَا أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ بِالْجُمُعَةِ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يُؤَدِّيَ الْجُمُعَةَ رَكْعَتَيْنِ وَبَيْنَ أَنْ يُؤَدِّيَ الظُّهْرَ أَرْبَعًا فَكَذَا الْمُسَافِرُ يَمِيلُ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ. وَكَذَا الْمُسَافِرُ فِي حَقِّ الصَّوْمِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَّرَ، وَإِنْ شَاءَ عَجَّلَ، وَلَا يَسْقُطُ بِهِ أَصْلُ الْفَرْضِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْوَقْتِ إلَّا أَنْ يَتَرَخَّصَ بِالتَّرْكِ وَالتَّأْخِيرِ. وَعِنْدَنَا الْقَصْرُ رُخْصَةُ إسْقَاطٍ أَيْ الْقَصْرُ لَيْسَ بِرُخْصَةٍ حَقِيقَةً بَلْ هُوَ إسْقَاطٌ لِلْعَزِيمَةِ، وَهِيَ الْأَرْبَعُ. حَتَّى لَا يَصِحُّ أَدَاؤُهُ مِنْ الْمُسَافِرِ أَيْ أَدَاءُ مَا سَقَطَ عَنْهُ كَمَا لَوْ صَلَّى الْفَجْرَ أَرْبَعًا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ فِي حَقِّهِ لَمْ يَبْقَ مُوجِبًا إلَّا رَكْعَتَيْنِ فَكَانَتْ الْأُخْرَيَانِ نَفْلًا لِمَا بَيَّنَّا وَخَلْطُ النَّفْلِ بِالْفَرْضِ قَصْدًا لَا يَحِلُّ، وَأَدَاءُ النَّفْلِ قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرْضِ مُفْسِدٌ لِلْفَرْضِ فَإِذَا صَلَّى أَرْبَعًا، وَلَمْ يَقْعُدْ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهَا أَيْ هَذِهِ الرُّخْصَةَ إسْقَاطًا لِلْعَزِيمَةِ اسْتِدْلَالًا بِدَلِيلِ الرُّخْصَةِ أَيْ بِدَلِيلٍ يُثْبِتُ الرُّخْصَةَ وَاسْتِدْلَالًا بِمَعْنَى هَذِهِ الرُّخْصَةِ. أَمَّا الدَّلِيلُ فَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ الْوَالِبِيِّ قَالَ سَأَلْت عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا بَالُنَا نَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَلَا نَخَافُ شَيْئًا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] فَقَالَ أَشْكَلَ عَلَيَّ مَا أَشْكَلَ عَلَيْك فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ: إنَّ هَذِهِ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ إنَّهَا صَدَقَةٌ. وَالضَّمِيرُ أَوْ اسْمُ الْإِشَارَةِ رَاجِعٌ إلَى الصَّلَاةِ الْمَقْصُورَةِ أَوْ إلَى الْقَصْرِ، وَالتَّأْنِيثُ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} [الزمر: 49] . أَوْ لِتَأْوِيلِهِ بِالرُّخْصَةِ أَيْ هَذِهِ الرُّخْصَةُ صَدَقَةٌ. فَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَمَسَّكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَقَالَ أَخْبَرَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّ الْقَصْرَ صَدَقَةٌ وَالصَّدَقَةُ لَا تَثْبُتُ، وَلَا تَتِمُّ إلَّا بِقَبُولِ الْمُتَصَدِّقِ عَلَيْهِ وَلِهَذَا قَالَ فَاقْبَلُوا فَقَبْلَ الْقَبُولِ بَقِيَ عَلَى مَا كَانَ. فَالشَّيْخُ أَدْرَجَ فِي تَقْرِيرِهِ رَدَّ هَذَا الْكَلَامِ وَقَالَ سَمَّاهُ أَيْ الْقَصْرُ صَدَقَةٌ وَالتَّصْدِيقُ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ إسْقَاطٌ مَحْضٌ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِ الْعَبْدِ فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ فَاعْمَلُوا بِهَا وَاعْتَقَدُوهَا كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ قَبِلَ الشَّرَائِعَ

وَقَدْ تَعَيَّنَ الْيُسْرُ فِي الْقَصْرِ بِيَقِينٍ فَلَا يَبْقَى الْإِكْمَالُ إلَّا مُؤْنَةً مَحْضَةً لَيْسَ فِيهَا فَضْلُ ثَوَابٍ؛ لِأَنَّ الثَّوَابَ فِي أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ فَالْقَصْرُ مَعَ مُؤْنَةِ السَّفَرِ مِثْلُ الْإِكْمَالِ كَقَصْرِ الْجُمُعَةِ مَعَ إكْمَالِ الظُّهْرِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِالسُّقُوطِ أَصْلًا ـــــــــــــــــــــــــــــQأَيْ اعْتَقَدَهَا. وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَأَمَّا مَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ وَجْهٍ فَالتَّصَدُّقُ بِهِ. وَتَمْلِيكُهُ لَا يَكُونُ إسْقَاطًا مَحْضًا حَتَّى لَوْ قَالَ لِمَدْيُونِهِ تَصَدَّقْتُ بِالدَّيْنِ عَلَيْك أَوْ مَلَّكْتُكَهُ فَإِنَّهُ لَوْ قَبِلَ أَوْ سَكَتَ يَسْقُطُ الدَّيْنُ، وَإِنْ قَالَ لَا أَقْبَلَ يَرْتَدُّ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ مِنْ الْمَدْيُونِ، وَلَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَا يَكُونُ التَّصَدُّقُ بِهِ إسْقَاطًا مَحْضًا بَلْ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ تَعَلُّقُهُ بِالْحَظْرِ كَتَمْلِيكِ الْعَيْنِ فَيُرَدُّ بِالرَّدِّ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ التَّصَدُّقَ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ إسْقَاطٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ أَحَدُ أَسْبَابِ التَّمْلِيكِ وَالتَّمْلِيكُ الْمُضَافُ إلَى مَحَلٍّ يَقْبَلُهُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِآخَرَ، وَهَبْتُ هَذَا الْعَبْدَ لَك أَوْ مَلَّكْتُكَهُ أَوْ تَصَدَّقْت بِهِ عَلَيْك إذَا صَدَرَ مِنْ الْعِبَادِ قَدْ يَقْبَلُ الرَّدَّ حَتَّى لَوْ قَالَ الْآخَرُ لَا أَقْبَلُ لَا يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَإِذَا صَدَرَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ مُفْتَرَضُ الطَّاعَةِ لَا يُمْكِنُ رَدُّ مَا أَوْجَبَهُ، وَأَثْبَتَهُ سَوَاءٌ كَانَ لَنَا أَوْ عَلَيْنَا مِثْلُ الْإِرْثِ فَإِنَّهُ تَمْلِيكٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إلَى الْوَارِثِ فَإِذَا قَالَ لَا أَقْبَلُ لَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ. وَالتَّمْلِيكُ الْمُضَافُ إلَى مَحَلٍّ لَا يَقْبَلُهُ إذَا صَدَرَ مِنْ الْعِبَادِ لَا يَقْبَلُ الرَّدَّ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ، وَهَبْت مِلْكَ الطَّلَاقِ أَوْ النِّكَاحِ مِنْك أَوْ تَصَدَّقْت بِهِ عَلَيْك أَوْ يَقُولُ وَلِيُّ الْقِصَاصِ لِمَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَهَبْت الْقِصَاصَ لَك أَوْ مَلَّكْتُكَهُ أَوْ تَصَدَّقْت بِهِ عَلَيْك فَتَطْلُقُ الْمَرْأَةُ وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ، وَلَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْإِسْقَاطُ وَالسَّاقِطُ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ فَالتَّصَدُّقُ الصَّادِرُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ، وَهُوَ شَطْرُ الصَّلَاةِ أَوْلَى أَنْ لَا يَحْتَمِلَ الرَّدَّ، وَلَا يَتَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ مُفْتَرَضُ الطَّاعَةِ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ أَنَّ التَّصْدِيقَ الْإِسْقَاطُ وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْإِسْقَاطَ تَصَدُّقًا فِي قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 280] . 1 - وَمِنْ الدَّلِيلِ مَا رُوِيَ «عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَلَاةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ تَامٌّ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ» . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - صَلَاةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ، وَمَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ فَقَدْ كَفَرَ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَنْ صَلَّى فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا كَانَ كَمَنْ صَلَّى فِي الْحَضَرِ رَكْعَتَيْنِ. وَسَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا كَانَ يُتِمُّ الصَّلَاةَ وَالْآخَرُ يَقْصُرُ عَنْ حَالِهِمَا فَقَالَ لِلَّذِي قَصَرَ أَنْتَ أَكْمَلْت وَقَالَ لِلْآخَرِ أَنْتَ قَصَرْت كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَالْمَبْسُوطِ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمُتِمُّ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ كَالْمُقْصِرِ فِي الْحَضْرَةِ» . كَذَا أَوْرَدَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي كِتَابِهِ، وَأَسْنَدَهُ وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ قَصْرُ الْأَحْوَالِ عَلَى مَا بَيَّنَ فِي آخِرِ هَذَا الْكِتَابِ فَأَمَّا قَصْرُ الذَّاتِ فَثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ (قَوْلُهُ) وَقَدْ تَعَيَّنَ الْيُسْرُ فِي الْقَصْرِ بِيَقِينٍ. إذَا ثَبَتَتْ الرُّخْصَةُ الْحَقِيقِيَّةُ فِي شَيْءٍ لِلْعَبْدِ الْخِيَارُ بَيْنَ الْإِقْدَامِ عَلَى الرُّخْصَةِ وَبَيْنَ الْإِتْيَانِ بِالْعَزِيمَةِ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ، وَإِنْ تَضَمَّنَتْ يُسْرًا فَالْعَزِيمَةُ إمَّا إنْ تَضَمَّنَتْ فَضْلَ ثَوَابٍ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ فَإِنَّ الْعَزِيمَةَ تَضَمَّنَتْ ثَوَابَ الشَّهَادَةِ، وَأَمَّا إنْ تَضَمَّنَتْ يُسْرًا آخَرَ لَيْسَ ذَلِكَ فِي الرُّخْصَةِ كَالصَّوْمِ فِي السَّفَرِ تَضَمَّنَ يُسْرَ مُوَافَقَةِ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَضْلُ ثَوَابٍ، وَلَا نَوْعُ يُسْرٍ فَسَقَطَتْ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالرُّخْصَةِ وَتَعَيَّنَ الْيُسْرُ فِيهَا، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ تَعَيَّنَ الْيُسْرُ فِي الْقَصْرِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ

وَالثَّانِي أَنَّ التَّخْيِيرَ إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ رِفْقًا كَانَ رُبُوبِيَّةً، وَإِنَّمَا لِلْعِبَادِ اخْتِيَارُ الْأَرْفَقِ فَإِذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ رِفْقًا كَانَ رُبُوبِيَّةً، وَلَا شَرِكَةَ لَهُ فِيهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرْعَ تَوَلَّى وَضْعَ الشَّرَائِعِ جَبْرًا بِخِلَافِ التَّخْيِيرِ فِي أَنْوَاعِ الْكَفَّارَةِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّهُ يَخْتَارُ الْأَرْفَقَ عِنْدَهُ وَلِهَذَا لَمْ نَجْعَلْ رُخْصَةَ الصَّوْمِ إسْقَاطًا؛ لِأَنَّ النَّصَّ جَاءَ بِالتَّأْخِيرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] لَا بِالصَّدَقَةِ بِالصَّوْمِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَلَا يَتَضَمَّنُ إلَّا كَمَالَ فَضْلِ ثَوَابٍ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الثَّوَابِ فِي فِعْلِ الْعَبْدِ جَمِيعُ مَا عَلَيْهِ لَا فِي أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [هود: 7] . اعْتَبَرَ حُسْنَ الْعَمَلِ لَا كَثْرَتَهُ وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ جُهْدُ الْمُقِلِّ» . أَيْ طَاقَتُهُ فَجَعَلَ جُهْدَهُ أَفْضَلَ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ إلَّا دِرْهَمًا وَتَصَدَّقَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ تَصَدَّقَ بِكُلِّ مَالِهِ ثُمَّ الْمُسَافِرُ قَدْ أَتَى بِجَمِيعِ مَا عَلَيْهِ كَالْمُقِيمِ فَكَانَ كَالْجُمُعَةِ وَالْفَجْرِ مَعَ الظُّهْرِ فَإِنَّهُ لَا فَضْلَ لِظُهْرِ الْمُقِيمِ عَلَى فَجْرِهِ، وَلَا لِظُهْرِ الْعَبْدِ عَلَى جُمُعَةِ الْحُرِّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ الْقَوْلُ بِالسُّقُوطِ قَوْلُهُ (وَالثَّانِي أَنَّ التَّخْيِيرَ) كَذَا ذَكَرَ الْخَصْمُ أَنَّ ثُبُوتَ الْقَصْرِ مُتَعَلِّقٌ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ. فَإِنْ اخْتَارَ الْقَصْرَ كَانَ فَرْضُهُ رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ ذَلِكَ كَانَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا.، وَفِيهِ فَسَادٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا تَخْيِيرٌ لَمْ يَتَضَمَّنْ رِفْقًا بِالْعَبْدِ وَالِاخْتِيَارُ الْخَالِي عَنْ الرِّفْقِ لَيْسَ إلَّا لِلَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ فَإِنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَعُودُ إلَيْهِ أَوْ مَضَرَّةٍ تَنْدَفِعُ عَنْهُ فَإِثْبَاتُ مِثْلِ هَذَا التَّخْيِيرِ لِلْعَبْدِ يَنْزِعُ إلَى الشَّرِكَةِ فِيمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ فَيَكُونُ فَاسِدًا وَثَانِيهِمَا أَنَّ هَذَا التَّخْيِيرَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ نَصْبُ شَرِيعَةٍ وَحُكْمٍ مُفَوَّضًا إلَى رَأْيِ الْعَبْدِ، وَمُعَلَّقًا بِهِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ شَرْعِيَّةُ الْقَصْرِ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّكُمْ إنْ اخْتَرْتُمْ ذَلِكَ وَذَلِكَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهَا مَتَى عُلِّقَتْ بِرَأْيِهِمْ لَمْ يَكُنْ شَرْعًا فِي الْحَالِ كَالطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ بِالْمَشِيئَةِ، وَإِذَا شَاءَ الْعَبْدُ كَانَ الثُّبُوتُ مُضَافًا إلَى الْمَشِيئَةِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ بِالْمَشِيئَةِ، وَلَا يَجُوزُ إضَافَةُ نَصْبِ الشَّرِيعَةِ إلَّا إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إلَى الرُّسُلِ فَإِضَافَتُهُ إلَى غَيْرِهِمْ تُؤَدِّي إلَى الشَّرِكَةِ فِي خَاصَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ أَوْ الرِّسَالَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْخَ أَدْرَجَ فِي كَلَامِهِ الْمَعْنَيَيْنِ فَقَالَ التَّخْيِيرُ إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ رِفْقًا بِالْعَبْدِ كَانَ رُبُوبِيَّةً؛ لِأَنَّ الشَّيْئَيْنِ اللَّذَيْنِ ثَبَتَ التَّخْيِيرُ بَيْنَهُمَا إنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتًا قَبْلَ اخْتِيَارِهِ كَانَ هَذَا تَخْيِيرًا لَهُ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ جَرِّ نَفْعٍ وَدَفْعِ ضُرٍّ، وَمِثْلُ هَذَا الِاخْتِيَارِ لَا يَلِيقُ بِالْعَبْدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتًا بَلْ الثَّابِتُ أَحَدُهُمَا وَثُبُوتُ الْآخَرِ مُتَعَلِّقٌ بِاخْتِيَارِهِ كَانَ هَذَا تَعْلِيقًا لِلشَّرْعِ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْزِعُ إلَى الشَّرِكَةِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ ثُمَّ اسْتَوْضَحَ الْمَعْنَى الْأَخِيرَ بِقَوْلِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرْعَ أَيْ الشَّارِعَ تَوَلَّى وَضْعَ الشَّرَائِعِ جَبْرًا حَتَّى نَفَّذَ أَوَامِرَ اللَّهِ تَعَالَى قَدْرَ مَا أُرِيدَ مِنْهَا مِنْ إبَاحَةٍ وَنَدْبٍ أَوْ وُجُوبٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْعِبَادِ اخْتِيَارٌ فِي ذَلِكَ فَلَوْ عَلَّقَ الْقَصْرَ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ أَدَّى إلَى الشَّرِكَةِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ، وَهِيَ بَاطِلَةٌ. فَإِنْ قِيلَ الْمَشْرُوعُ بِالسَّفَرِ تَعَلُّقُ الْقَصْرِ بِقَوْلِ الْعَبْدِ، وَإِنَّهُ ثَابِتٌ بِنَفْسِهِ. قُلْنَا إنَّ الْمَشْرُوعَ الَّذِي اُبْتُلِينَا بِفِعْلِهِ هُوَ الصَّلَاةُ لَا الْقَصْرُ فَإِنَّهُ سُقُوطٌ وَالْعِبْرَةُ لِمَا هُوَ الْأَصْلُ فَلَا يَكُونُ صَيْرُورَةُ الصَّلَاةِ رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعًا إلَيْنَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ إلَيْنَا الْأَدَاءُ لَا غَيْرُ هَذَا أَصْلُ الشَّرْعِ، وَإِلَى الْعَبْدِ مُبَاشَرَةُ الْعِلَلِ مِنْ سَفَرٍ أَوْ إقَامَةٍ دُونَ إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ ثُمَّ الْأَدَاءُ بَعْد ثُبُوتَ الْأَحْكَامِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ أَلَا تَرَى ابْتِدَاءَ كَلَامٍ رَدًّا لِمَا عَلَّقَ الْخَصْمُ السُّقُوطَ بِمَشِيئَةِ الْعَبْدِ بِخِلَافِ التَّخْيِيرِ فِي أَنْوَاعِ الْكَفَّارَةِ أَيْ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ. وَنَحْوُهَا مِثْلُ التَّخْيِيرِ الثَّابِتِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] . الْآيَةَ وَالتَّخْيِيرُ الثَّابِتُ فِي الْحَلْقِ بِعُذْرٍ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] . فَإِنَّهُ أَيْ مَنْ يَثْبُتُ لَهُ التَّخْيِيرُ. وَلِهَذَا أَيْ؛ وَلِأَنَّ لَفْظَةَ التَّصَدُّقِ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَى الْإِسْقَاطِ فِي الْقَصْرِ لَمْ نَجْعَلْ رُخْصَةَ الصَّوْمِ إسْقَاطًا؛ لِأَنَّ النَّصَّ جَاءَ فِيهِ بِلَفْظِ التَّأْخِيرِ لَا بِالصَّدَقَةِ بِالصَّوْمِ

وَإِنَّمَا إسْقَاطُ الْبَعْضِ مِنْ هَذَا نَظِيرُ التَّأْخِيرِ وَالْحُكْمُ هُوَ التَّأْخِيرُ، وَالْيُسْرُ فِيهِ مُتَعَارِضٌ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ يَشُقُّ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ لِسَبَبِ السَّفَرِ وَيَخِفُّ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ بِشَرِكَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ مِنْ أَسْبَابِ الْيُسْرِ وَالتَّأْخِيرُ إلَى أَيَّامِ الْإِقَامَةِ يَتَعَذَّرُ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ الِانْفِرَادُ وَيَخِفُّ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ الرِّفْقُ بِمَرَافِقِ الْإِقَامَةِ، وَالنَّاسُ فِي الِاخْتِيَارِ مُتَفَاوِتُونَ فَصَارَ التَّخْيِيرُ لِطَلَبِ الرِّفْقِ فَصَارَ الِاخْتِيَارُ ضَرُورِيًّا وَلِلْعَبْدِ اخْتِيَارٌ ضَرُورِيٌّ فَأَمَّا مُطْلَقُ الِاخْتِيَارِ فَلَا؛ لِأَنَّهُ إلَهِيٌّ وَصَارَ الصَّوْمُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ وَقَدْ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى الرُّخْصَةِ لِمَا قُلْنَا، وَهُوَ الَّذِي وُعِدْنَاهُ فِي أَوَّلِ هَذَا الْفَصْلِ، وَإِنَّمَا تَمَسَّكَ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَعَلَيَّ صِيَامُ سَنَةٍ فَفَعَلَ، وَهُوَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ بِظَاهِرِ الْعَزِيمَةِ كَمَا هُوَ دَأْبُهُ فِي دَرْكِ حُدُودِ الْفِقْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَإِنَّمَا إسْقَاطُ الْبَعْضِ فِي هَذَا أَيْ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ نَظِيرُ التَّأْخِيرِ فِي الصَّوْمِ، وَهُوَ ثَابِتٌ بِلَا مَشِيئَةٍ مِنَّا، وَلَا رَأْيٍ فَكَذَا الْقَصْرُ فِي الصَّلَاةِ فَعَلَى هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ إلَّا أَنَّ السَّبَبَ لَمَّا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ السَّبَبِيَّةِ وَبَقِيَ مُوجَبًا كَمَا كَانَ حَتَّى لَزِمَهُ الْقَضَاءُ إذَا أَدْرَكَ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ جَازَ التَّعْجِيلُ؛ لِأَنَّ الْمُؤَجَّلَ مِمَّا يَقْبَلُ التَّعْجِيلَ كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحُلُولِ؛ وَلِأَنَّ التَّأْخِيرَ ثَبَتَ لِلتَّيْسِيرِ، وَالْيُسْرُ مُتَعَارِضٌ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْكِتَابِ. وَهِيَ مِنْ أَسْبَابِ الْيُسْرِ؛ لِأَنَّ الْبَلِيَّةَ إذَا عَمَّتْ طَابَتْ. فَصَارَ الِاخْتِيَارُ ضَرُورِيًّا أَيْ ثَبَتَ ضَرُورَةُ طَلَبِ الرِّفْقِ وَالْعَبْدُ أَهْلٌ لِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الِاخْتِيَارِ. فَأَمَّا مُطْلَقُ الِاخْتِيَارِ مِنْ غَيْرِ رِفْقٍ فَلَا أَيْ لَا يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ إلَهِيٌّ كَمَا بَيَّنَّا. وَصَارَ الصَّوْمُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ السَّبَبِ وَلِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَعْنَى الرُّخْصَةِ أَيْضًا.، وَإِنَّمَا تَمَسَّكَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْ بَابِ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ بِظَاهِرِ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ فَقَالَ الْعَزِيمَةُ فِي الصَّوْمِ مُتَأَخِّرَةٌ إلَى عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُطَالَبٍ بِالصَّوْمِ إلَّا بَعْدَ إدْرَاكِهَا فَلَمْ يَكُنْ الصَّوْمُ ثَابِتًا فِي الْحَالِ فَكَانَ الْفِطْرُ أَوْلَى، وَفِي الصَّلَاةِ لَمْ يَتَأَخَّرْ الْحُكْمُ إلَى زَمَانِ الْإِقَامَةِ وَجَبَتْ الصَّلَاةُ فِي الْحَالِ وَالْقَصْرُ رُخْصَةٌ فَكَانَتْ الْعَزِيمَةُ أَوْلَى. ثُمَّ شَرَعَ فِي جَوَابِ مَا يَرِدُ نَقْضًا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، فَقَالَ وَلَا يَلْزَمُ إذَا أُذِنَ الْعَبْدُ فِي الْجُمُعَةِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا، وَهُوَ الظُّهْرُ وَبَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، وَهُمَا الْجُمُعَةُ، وَهَذَا تَخْيِيرٌ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا بَلْ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ حُضُورُ الْجُمُعَةِ عَيْنًا عِنْدَ الْإِذْنِ كَمَا فِي الْحُرِّ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ هِيَ الْأَصْلُ حَتَّى لَوْ تَخَلَّفَ عَنْ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْإِذْنِ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ كَمَا فِي الْحُرِّ كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْمُغْنِي، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ التَّخْيِيرَ ثَابِتٌ فَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمَا أَيْ الظُّهْرَ وَالْجُمُعَةَ مُخْتَلِفَانِ فَيَصِحُّ التَّخْيِيرُ طَلَبًا لِلرِّفْقِ بِخِلَافِ ظُهْرِ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ؛ لِأَنَّهُمَا وَاحِدٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَى اخْتِلَافِهِمَا أَنَّ أَدَاءَ أَحَدَيْهِمَا بِنِيَّةِ الْأُخْرَى لَا يَجُوزُ، وَكَذَا لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ مُصَلِّي الظُّهْرِ بِمُصَلِّي الْجُمُعَةِ وَعَكْسُهُ وَيُشْتَرَطُ لِلْجُمُعَةِ مَا لَا يُشْتَرَطُ لِلظُّهْرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ إنْ شَاءَ تَحَمَّلَ زِيَادَةَ الْأَرْبَعِ، وَإِنْ شَاءَ تَحَمَّلَ زِيَادَةَ السَّعْيِ وَالْخُطْبَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ يَعْنِي كَمَا لَا يَلْزَمُ تَخْيِيرُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فِي الْجُمُعَةِ عَلَى مَا قُلْنَا لَا يَلْزَمُ تَخْيِيرُ مَنْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَعَلَيَّ صِيَامُ سَنَةٍ فَفَعَلَ، وَهُوَ مُعْسِرٌ يُخَيَّرُ بَيْنَ صَوْمِ سَنَةٍ وَبَيْنَ صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ رَجَعَ إلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِأَيَّامٍ مَعَ أَنَّهُ تَخْيِيرٌ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ صَوْمُ السَّنَةِ وَالثَّلَاثَةِ مُخْتَلِفٌ فِي الْمَعْنَى أَيْ مُخْتَلِفَانِ مَعْنًى، وَإِنْ اتَّفَقَا صُورَةً؛ لِأَنَّ صَوْمَ السَّنَةِ قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ خَالِيَةٌ عَنْ مَعْنَى الزَّجْرِ وَالْعُقُوبَةِ، وَصَوْمَ الثَّلَاثِ كَفَّارَةٌ لِمَا لَحِقَهُ مِنْ خُلْفِ الْوَعْدِ الْمُؤَكَّدِ بِالْيَمِينِ، وَفِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَالزَّجْرِ فَصَحَّ التَّخْيِيرُ طَلَبًا لِلْأَرْفَقِ عِنْدَهُ، وَهَذَا إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ بِشَرْطٍ لَا يُرِيدُ وُقُوعَهُ كَمَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْمَنْعُ مِنْ الدُّخُولِ. فَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ بِشَرْطٍ يُرِيدُ وُقُوعَهُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أَوْ إنْ قَدِمَ غَائِبِي فَعَلَيَّ كَذَا فَلَا تَخْيِيرَ بَلْ الْوَاجِبُ هُوَ الْوَفَاءُ بِالنَّذْرِ لَا غَيْرُ هُوَ الصَّحِيحُ. وَفِي مَسْأَلَتِنَا أَيْ مَسْأَلَةِ ظُهْرِ الْمُسَافِرِ هُمَا سَوَاءٌ أَيْ الْقَصْرُ وَالْإِكْمَالُ سَوَاءٌ بِدَلِيلِ

[باب حكم الأمر والنهي في أضدادهما]

وَلَا يَلْزَمُ رَجُلٌ أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي الْجُمُعَةِ أَنَّهُ إنْ شَاءَ صَلَّى أَرْبَعًا، وَهُوَ الظُّهْرُ، وَإِنْ شَاءَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ هِيَ الْأَصْلُ عِنْدَ الْإِذْنِ؛ وَلِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فَاسْتَقَامَ طَلَبُ الرِّفْقِ مُعْسِرٌ كَانَ لَهُ أَنْ يَصُومَ سَنَةً أَوْ يُكَفِّرَ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهُوَ مَرْوِيٌّ فِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَيَجِبُ الْوَفَاءُ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُخْتَلِفٌ فِي الْمَعْنَى أَحَدُهُمَا قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ وَالثَّانِي كَفَّارَةٌ فِي مَسْأَلَتِنَا هُمَا سَوَاءٌ فَصَارَ كَالْمُدَبَّرِ إذَا جَنَى لَزِمَ مَوْلَاهُ الْأَقَلُّ مِنْ الْأَرْشِ وَمِنْ الْقِيمَةِ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ بِخِلَافِ الْعَبْدِ لِمَا قُلْنَا وَلَا يَلْزَمُ أَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَرْعَى ثَمَانِي حِجَجٍ أَوْ عَشْرًا فِيمَا ضَمِنَ مِنْ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ الثَّمَانِيَةَ كَانَتْ مَهْرًا لَازِمًا، وَالْفَضْلُ كَانَ بِرًّا مِنْهُ وَيَتَّصِلُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مَعْرِفَةُ حُكْمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي ضِدِّ مَا نُسِبَا إلَيْهِ، وَهَذَا تَابِعٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ فِي جِنْسِ الْأَحْكَامِ فَأَخَّرْنَاهُ. {بَابُ حُكْمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي أَضْدَادِهِمَا} ـــــــــــــــــــــــــــــQاتِّفَاقُ الِاسْمِ وَالشَّرْطِ. وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى الْمَفْهُومِ لَا إلَى الْمَذْكُورِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل: 61] . فَصَارَ أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَعَيُّنِ الْقَصْرِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ وَتَخَيُّرِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فِي الْجُمُعَةِ نَظِيرَ تَعَيُّنِ لُزُومِ الْأَقَلِّ مِنْ الْأَرْشِ وَالْقِيمَةِ عَلَى الْمَوَالِي فِي جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ وَتَخَيُّرِهِ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فِي جِنَايَةِ الْعَبْدِ فَإِنَّ الْمُدَبَّرَ إذَا جَنَى لَزِمَ الْمَوْلَى الْأَقَلُّ مِنْ الْأَرْشِ، وَمِنْ قِيمَتِهِ الْمُدَبَّرُ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ لَهُ فِي ذَلِكَ لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ إذْ الْمَالِيَّةُ هِيَ الْمَقْصُودَةُ لَا غَيْرُ وَتَعَيَّنَ الرِّفْقُ فِي الْأَقَلِّ كَالْقَصْرِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ. بِخِلَافِ الْعَبْدِ إذَا جَنَى حَيْثُ خُيِّرَ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ مَعَ الْفِدَاءِ مُخْتَلِفَانِ صُورَةً، وَمَعْنًى فَإِنَّ أَحَدَهُمَا مَالٌ وَالْآخَرَ رَقَبَةٌ فَاسْتَقَامَ التَّخْيِيرُ طَلَبًا لِلرِّفْقِ كَتَخْيِيرِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِالْجُمُعَةِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الظُّهْرِ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا تَخْيِيرُ مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه فِي الرَّعْيِ بَيْنَ ثَمَانِي سِنِينَ وَعَشْرِ سِنِينَ عَلَى مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ} [القصص: 28] .، وَأَنَّهُ تَخْيِيرٌ بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّمَانِي كَانَتْ وَاجِبَةً بَلْ الْمَهْرُ هُوَ الرَّعْيُ ثَمَانِي سِنِينَ لَا غَيْرُ، وَالْفَضْلُ كَانَ بِرًّا مِنْهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص: 27] . وَهَكَذَا نَقُولُ الْفَرْضُ فِي مَسْأَلَتِنَا رَكْعَتَانِ وَالزِّيَادَةُ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ نَفْلٌ مَشْرُوعٌ لِلْعَبْدِ يَتَبَرَّعُ مِنْ عِنْدِهِ إلَّا أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِأَدَاءِ النَّفْلِ قَبْلَ إكْمَالِ الْأَرْكَانِ مُفْسِدٌ لِلْفَرْضِ وَبَعْدَ إكْمَالِهَا قَبْلَ انْتِهَاءِ التَّحْرِيمَةِ مَكْرُوهٌ كَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا مَا ذُكِرَ فِي بَابِ النَّوَافِلِ وَيُصَلِّي أَرْبَعًا قَبْلَ الْعَصْرِ، وَإِنْ شَاءَ رَكْعَتَيْنِ، وَأَرْبَعًا بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَإِنْ شَاءَ رَكْعَتَيْنِ، وَمَا ذُكِرَ فِي بَابِ الْآذَانِ، وَلَوْ فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ أَذَّنَ لِلْأُولَى وَأَقَامَ، وَكَانَ مُخَيَّرًا فِي الثَّانِيَةِ إنْ شَاءَ أَذَّنَ وَأَقَامَ، وَإِنْ شَاءَ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِقَامَةِ فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ تَخْيِيرٌ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الرِّفْقَ تَعَيَّنَ فِي الْقَلِيلِ بَلْ فِي الْكَثِيرِ زِيَادَةُ الثَّوَابِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْقَلِيلِ يُسْرُ الْأَدَاءِ فَكَانَ التَّخْيِيرُ مُفِيدًا، وَعَلَى هَذَا الْحَرْفِ يَخْرُجُ جَمِيعُ مَا يَرِدُ نَقْضًا عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ (وَيَتَّصِلُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ) أَيْ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَقْسَامِ حُكْمُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي ضِدِّ مَا نُسِبَا إلَيْهِ يَعْنِي ضِدَّ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَإِنَّ طَلَبَ الْفِعْلِ فِي قَوْلِك اضْرِبْ مَنْسُوبٌ إلَى الضَّرْبِ وَطَلَبَ الِامْتِنَاعِ فِي قَوْلِك لَا تَشْتُمْ مَنْسُوبٌ إلَى الشَّتْمِ. وَلَمْ يَقُلْ فِي ضِدِّهِمَا؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ حِينَئِذٍ يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَيُوهِمُ أَنَّ لِلْأَمْرِ أَثَرًا فِي ضِدِّ نَفْسِهِ، وَهُوَ انْتَهَى، وَكَذَا الْعَكْسُ فَيَفْسُدُ الْمَعْنَى إذَنْ؛ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُمَا فِي ضِدِّ أَنْفُسِهِمَا بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُ لَا أَثَرَ لِقَوْلِك تَحَرَّكْ فِي لَا تَتَحَرَّك، وَلَا قَوْلِك لَا تَسْكُنْ فِي السَّكَنِ أَصْلًا بِالْإِجْمَاعِ. فَأَمَّا ضِدُّ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهُوَ الْحَرَكَةُ فَالسُّكُونُ ضِدُّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهُوَ السُّكُونُ هُوَ الْحَرَكَةُ فَهَلْ لِلْأَمْرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَحَرَّكْ أَثَرٌ فِي الْمَنْعِ عَنْ السُّكُونِ حَتَّى كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَا تَسْكُنْ، وَهَلْ لِلنَّهْيِ، وَهُوَ قَوْلُهُ لَا تَسْكُنْ أَثَرٌ فِي طَلَبِ الْحَرَكَةِ حَتَّى كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ تَحَرَّكْ فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ، وَهَذَا الْبَابُ لِبَيَانِهِ. [بَابُ حُكْمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي أَضْدَادِهِمَا] أَيْ أَضْدَادِ مَا نُسِبَا إلَيْهِ. وَذَهَبَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّ مُوجِبَ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ مِنْ أَصْحَابِنَا

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ هَلْ لَهُ حُكْمٌ فِي ضِدِّهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الْحَدِيث إلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ إنْ كَانَ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ كَالْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ نَهْيٌ عَنْ الْكُفْرِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ كَالْأَمْرِ بِالْقِيَامِ فَإِنَّ لَهُ أَضْدَادًا مِنْ الْقُعُودِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالِاضْطِجَاعِ وَنَحْوِهَا يَكُونُ الْأَمْرُ نَهْيًا عَنْ الْأَضْدَادِ كُلِّهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ وَاحِدٍ مِنْهَا غَيْرِ عَيْنٍ. وَفَصَلَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ أَمْرِ الْإِيجَابِ وَالنَّدْبِ فَقَالَ أَمْرُ الْإِيجَابِ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ ضِدِّ الْمَأْمُورِ بِهِ أَوْ أَضْدَادِهِ لِكَوْنِهَا مَانِعَةً مِنْ فِعْلِ الْوَاجِبِ، وَأَمْرُ النَّدْبِ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَكَانَتْ أَضْدَادُ الْمَنْدُوبِ غَيْرَ مَنْهِيٍّ عَنْهَا لَا نَهْيَ تَحْرِيمٍ، وَلَا نَهْيَ تَنْزِيهٍ. وَمَنْ لَمْ يَفْصِلْ جَعَلَ أَمْرَ النَّدْبِ نَهْيًا عَنْ ضِدِّ الْمَأْمُورِ بِهِ نَهْيَ نَدْبٍ حَتَّى يَكُونَ الِامْتِنَاعُ عَنْ ضِدِّهِ مَنْدُوبًا كَمَا يَكُونُ فِعْلُهُ مَنْدُوبًا.، وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ فَأَمْرٌ بِضِدِّهِ إنْ كَانَ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ بِاتِّفَاقِهِمْ كَالنَّهْيِ عَنْ الْكُفْرِ يَكُونُ أَمْرًا بِالْإِيمَانِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْحَرَكَةِ يَكُونُ أَمْرًا بِالسُّكُونِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ فَعِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَبَعْضِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ يَكُونُ أَمْرًا بِالْأَضْدَادِ كُلِّهَا كَمَا فِي جَانِبِ الْأَمْرِ وَعِنْدَ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا وَعَامَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَكُونُ أَمْرًا بِوَاحِدٍ مِنْ الْأَضْدَادِ غَيْرِ عَيْنٍ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضِدًّا وَاحِدًا حَقِيقَةً، وَهُوَ تَرْكُهُ فَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَهُوَ تَرْكُهُ وَالنَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ، وَهُوَ تَرْكُهُ أَيْضًا غَيْرَ أَنَّ التَّرْكَ قَدْ يَكُونُ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ بِطَرِيقِ التَّعْيِينِ كَالتَّحَرُّكِ يَكُونُ تَرْكُهُ بِالسُّكُونِ وَقَدْ يَكُونُ بِأَفْعَالٍ كَثِيرَةٍ كَتَرْكِ الْقِيَامِ يَكُونُ بِالْقُعُودِ وَالِاضْطِجَاعِ وَالِاسْتِلْقَاءِ فَهَذَا بَيَانُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ. فَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ عَيْنَ الْأَمْرِ لَا يَكُونُ نَهْيًا عَنْ ضِدِّ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَكَذَا النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ أَمْرًا بِضِدِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَلْ يُوجِبُ حُكْمًا فِي ضِدِّ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ فَذَهَبَ أَبُو هَاشِمٍ، وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْمُعْتَزِلَةِ إلَى أَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُ فِي ضِدِّهِ أَصْلًا بَلْ هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْغَزَالِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ مِنْهُمْ عَبْدُ الْجَبَّارِ وَأَبُو الْحُسَيْنِ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ يُوجِبُ حُرْمَةَ ضِدِّهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ ضِدِّهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَقْتَضِي حُرْمَةَ ضِدِّهِ هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ وَغَيْرِهِ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ فِيهِ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى، وَهَذَا مَذْهَبُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَذَهَبَتْ الْمُعْتَزِلَةُ إلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ نَهْيًا عَنْ الضِّدِّ وَبَيَّنَ الدَّلَائِلَ ثُمَّ قَالَ وَالْمَسْأَلَةُ مُصَوَّرَةٌ فِيمَا إذَا وُجِدَ الْأَمْرُ وَحَكَمْنَا أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَرْكِ ضِدِّهِ عَقِيبَ الْأَمْرِ كَمَا لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهِ عَقِيبَ الْأَمْرِ، وَأَمَّا إنْ قُلْنَا إنَّ الْأَمْرَ عَلَى التَّرَاخِي فَلَا يُظْهِرُ الْمَسْأَلَةَ بِهَذِهِ الظُّهُورِ. وَإِلَيْهِ أَشَارَ أَبُو الْيُسْرِ أَيْضًا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ وَأَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: الْأَمْرُ إذَا أَوْجَبَ تَحْصِيلَ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى طَرِيقِ الْفَوْرِ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ إلَى آخِرِهِ. وَكَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَيْضًا. وَقَالَ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ إنَّمَا يَكُونُ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ إذَا كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ مُضَيَّقَ الْوُجُوبِ بِلَا بَدَلٍ، وَلَا تَخْيِيرٍ كَالصَّوْمِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ كَالْكَفَّارَاتِ وَاحِدَةٌ مِنْهَا وَاجِبَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْ تَرْكِهَا لِجَوَازِ تَرْكِهَا إلَى غَيْرِهَا، وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ فِي التَّبْصِرَةِ ثُمَّ إنَّ أَصْحَابَنَا مَعَ أَوَائِلِهِمْ يَعْنِي أَوَائِلَ الْمُعْتَزِلَةِ اتَّفَقُوا أَنَّ كُلَّ مَأْمُورٍ بِهِ كَانَ تَرْكُهُ

إذَا لَمْ يُقْصَدْ ضِدُّهُ بِنَهْيٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا حُكْمَ فِيهِ أَصْلًا وَقَالَ الْجَصَّاصُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُوجِبُ النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ إنْ كَانَ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ أَوْ أَضْدَادٌ كَثِيرَةٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُوجِبُ كَرَاهَةَ ضِدِّهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ ضِدِّهِ، وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدَنَا، وَأَمَّا بِالنَّهْيِ عَنْ الشَّيْءِ فَهَلْ لَهُ حُكْمٌ فِي ضِدِّهِ فَعَلَى هَذَا أَيْضًا قَالَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ لَا حُكْمَ لَهُ فِيهِ وَقَالَ الْجَصَّاصُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ كَانَ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ كَانَ أَمْرًا بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ لَمْ يَكُنْ أَمْرًا بِشَيْءٍ مِنْهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ ضِدُّهُ فِي مَعْنَى سِتَّةٍ وَاجِبَةٍ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَقْتَضِيَ ذَلِكَ احْتَجَّ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقِسْمَيْنِ سَاكِتٌ عَنْ غَيْرِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ السُّكُوتَ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا لِمَا وُضِعَ لَهُ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ إلَّا بِطَرِيقِ التَّعْلِيلِ فَلِغَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوْلَى ـــــــــــــــــــــــــــــQوَهُوَ فِعْلٌ يُضَادُّهُ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَكُلُّ مَنْهِيٍّ عَنْهُ تَرْكُهُ وَهُوَ فِعْلٌ يُضَادُّهُ مَأْمُورٌ بِهِ إذَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَرْكٌ مَخْصُوصٌ وَضِدٌّ مُتَعَيِّنٌ، وَكَذَا عِنْدَنَا فِي كُلِّ مَا لَهُ أَضْدَادٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا. وَعِنْدَهُمْ فِيمَا لَهُ أَضْدَادٌ تَقْسِيمٌ يَطُولُ ذِكْرُهُ. غَيْرَ أَنَّ عِنْدَنَا كَانَ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ وَعَلَى الْقَلْبِ؛ لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا وَاحِدٌ، وَهُوَ بِنَفْسِهِ أَمْرٌ بِمَا أَمَرَ وَنَهْيٌ عَمَّا نَهَى فَكَانَ مَا هُوَ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ وَعَلَى الْعَكْسِ وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى هَذِهِ الْعِبَارَاتُ وَلِلْأَمْرِ صِيغَةٌ مَخْصُوصَةٌ، وَكَذَا لِلنَّهْيِ فَلَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُ الْأَمْرِ نَهْيًا لَا كَوْنُ النَّهْيِ أَمْرًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ ضِدَّ الْمَأْمُورِ بِهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَضِدُّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَأْمُورٌ بِهِ فَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ وَالنَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِضِدِّهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ، وَكَذَا عَلَى الْقَلْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُطْلِقُ مَا يَتَّفِقُ لَهُ مِنْ اللَّفْظِ، وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ لَفْظِ الدَّلَالَةِ، وَلَفْظِ الِاقْتِضَاءِ. ثُمَّ فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَتَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ كَلَامٌ طَوِيلٌ طَوَيْنَا ذِكْرَهُ، وَمَنْ طَلَبَهُ فِي مَظَانَّةِ ظَفِرَ بِهِ وَالْغَرَضُ بَيَانُ الْمَذَاهِبِ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مَا اخْتَارَ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ خِلَافُ اخْتِيَارِ الْعَامَّةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَصَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَمُتَابِعِيهِمْ. قَوْلُهُ (إذَا لَمْ يَقْصِدْ ضِدَّهُ بِنَهْيٍ) احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا قَصَدَ الضِّدَّ بِالنَّهْيِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ} [البقرة: 222] . فَإِنَّ الضِّدَّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ ضِدِّهِ يَعْنِي إذَا كَانَ الْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ يَقْتَضِي. وَقَوْلُهُ يُوجِبُ ظَاهِرٌ فَإِنَّ الْإِيجَابَ أَقْوَى مِنْ الِاقْتِضَاءِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا إذَا كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِالْعِبَارَةِ أَوْ الْإِشَارَةِ أَوْ الدَّلَالَةِ فَيُقَالُ النَّصُّ يُوجِبُ ذَلِكَ فَأَمَّا إذَا كَانَ ثَابِتًا بِالِاقْتِضَاءِ فَلَا يُقَالُ يُوجِبُ بَلْ يُقَالُ يَقْتَضِي عَلَى مَا عَرَفْت. فِي مَعْنَى سُنَّةٍ وَاجِبَةٍ أَيْ سُنَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ قَرِيبَةٍ إلَى الْوَاجِبِ وَعَلَى الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَقْتَضِيَ ذَلِكَ أَيْ يَقْتَضِيَ كَوْنُ الضِّدِّ فِي مَعْنَى سُنَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ يَعْنِي إذَا كَانَ النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ 1 - قَوْلُهُ (وَقَدْ ذَكَرْنَا) يَعْنِي ذَكَرْنَا أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لَا يُوجِبُ نَفْيَ الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ التَّعْلِيقِ فَكَذَا الضِّدُّ هَاهُنَا مَسْكُوتٌ عَنْهُ فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا لِمَا وُضِعَ لَهُ أَيْ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ وُضِعَ لِطَلَبِ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَإِيجَابِهِ، وَلَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى ثُبُوتِ مُوجِبِهِ فِيمَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ إلَّا بِطَرِيقِ التَّعْلِيلِ فَلَأَنْ لَا يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى ثُبُوتِ مَا لَمْ يُوضَعْ لَهُ، وَهُوَ التَّحْرِيمُ فِيمَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ كَانَ أَوْلَى. بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ» . أَيْ بِيعُوا الْحِنْطَةَ فَمُوجِبُهُ إيجَابُ التَّسْوِيَةِ كَيْلًا وَحُرْمَةُ الْفَضْلِ فِيمَا تَنَاوَلَهُ النَّصُّ، وَهُوَ الْأَشْيَاءُ السِّتَّةُ، وَلَا دَلَالَةَ فِي ثُبُوتِ مُوجِبِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَصْلًا إلَّا بِطَرِيقِ التَّعْلِيلِ فَلَمَّا لَمْ يَصْلُحْ دَلِيلًا فِي غَيْرِ مَا تَنَاوَلَهُ لِمَا وُضِعَ لَهُ كَيْفَ يَصْلُحُ دَلِيلًا فِيمَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ لِغَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ. فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ الذَّمُّ وَالْإِثْمُ عَلَى تَارِكِ الِائْتِمَارِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِمَا أَمَرَ بِهِ لَا بِمُقَابَلَةِ فِعْلِ الْكَفِّ أَوْ الضِّدِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ عِنْدَهُمْ، وَكَذَا الْمَدْحُ وَالثَّوَابُ لِمَنْ لَمْ يَشْرَبْ الْخَمْرَ أَوْ لَمْ يُبَاشِرْ الزِّنَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ الْقَبِيحَ لَا بِمُقَابَلَةِ فِعْلِ الضِّدِّ أَيْضًا. قَالُوا وَلِهَذَا يَذُمُّ الْعُقَلَاءُ تَارِكَ الصَّلَاةِ بِأَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ لَا بِالْقِيَامِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ

وَاحْتَجَّ الْجَصَّاصُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ وَضْعٌ لِوُجُودِهِ، وَلَا وُجُودَ لَهُ مَعَ الِاشْتِغَالِ بِشَيْءٍ مِنْ أَضْدَادِهِ فَصَارَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِ حُكْمِهِ، وَأَمَّا النَّهْيُ فَإِنَّهُ لِلتَّحْرِيمِ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ فِعْلُ ضِدِّهِ إذَا كَانَ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ كَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ فَأَمَّا إذَا تَعَدَّدَ الضِّدُّ فَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْكَفِّ عَنْهُ إتْيَانُ كُلِّ أَضْدَادِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِالْقِيَامِ إذَا قَعَدَ أَوْ نَامَ أَوْ اضْطَجَعَ فَقَدْ فَوَّتَ الْمَأْمُورَ بِهِ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْ الْقِيَامِ لَا يُفَوِّتُ حُكْمَ النَّهْيِ بِأَنْ يَقْعُدَ أَوْ يَنَامَ أَوْ يَضْطَجِعَ. قَالَ: وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ الْمَرْأَةَ مَنْهِيَّةٌ عَنْ كِتْمَانِ الْحَيْضِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] ثُمَّ كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا بِالْإِظْهَارِ؛ لِأَنَّ الْكِتْمَانَ ضِدُّهُ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْإِظْهَارُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَنَحْوِهَا مِمَّا يُضَادُّ الصَّلَاةَ وَيَمْدَحُونَ تَارِكَ شُرْبِ الْخَمْرِ بِأَنَّهُ لَمْ يَشْرَبْ الْخَمْرَ لَا بِاشْتِغَالِهِ بِمَا يُضَادُّهُ مِنْ الْأَفْعَالِ. إلَّا أَنَّ هَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ عَلَى مَا لَمْ يَفْعَلْهُ، وَهَذَا مِمَّا يَرُدُّهُ الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يُعَاقَبُ عَلَى عَدَمِ الْفِعْلِ كَيْفَ وَالْعَدَمُ الْأَصْلِيُّ غَيْرُ مَقْدُورٍ أَصْلًا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] . وَ {يَكْسِبُونَ} [يس: 65] . وَنَحْوِهِمَا. وَأَمَّا الْمَدْحُ فَلَيْسَ عَلَى الْعَدَمِ الَّذِي لَيْسَ فِي وُسْعِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الِامْتِنَاعِ الَّذِي هُوَ مَقْدُورُهُ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 43] . فَإِنَّهُ رَتَّبَ الْعُقُوبَةَ عَلَى عَدَمِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَرْتِيبُ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْفِعْلِ فِي الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ الْمُرَادَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَمْ تَكُ مِنْ الْمُعْتَقِدِينَ لَهَا وَتَرْكُ الِاعْتِقَادِ فِعْلِيٌّ، وَهُوَ كُفْرٌ فَكَانَتْ الْعُقُوبَةُ بِنَاءً عَلَى الْكُفْرِ قَوْلُهُ (وَاحْتَجَّ الْجَصَّاصُ) يَعْنِي فِي فَصْلِ الْأَمْرِ بِكَذَا. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَنَى أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ مَذْهَبَهُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يُوجِبُ الِائْتِمَارَ عَلَى الْفَوْرِ فَقَالَ مِنْ ضَرُورَةِ وُجُوبِ الِائْتِمَارِ عَلَى الْفَوْرِ حُرْمَةُ التَّرْكِ الَّذِي هُوَ ضِدُّهُ وَالْحُرْمَةُ حُكْمُ النَّهْيِ فَكَانَ مُوجِبًا النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ بِحُكْمِهِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْأَمْرَ طَلَبُ الْإِيجَادِ لِلْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى أَبْلَغِ الْجِهَاتِ وَالِاشْتِغَالُ بِضِدِّهِ بِعَدَمِ مَا وَجَبَ بِالْأَمْرِ، وَهُوَ الْإِيجَابُ فَكَانَ حَرَامًا مَنْهِيًّا عَنْهُ بِمُقْتَضَى حُكْمِ الْأَمْرِ. وَلِهَذَا يَسْتَوِي فِيهِ مَا يَكُونُ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ، وَمَا يَكُونُ لَهُ أَضْدَادٌ؛ لِأَنَّهُ بِأَيِّ ضِدٍّ اشْتَغَلَ يَفُوتُ مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ اُخْرُجْ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ سَوَاءٌ اشْتَغَلَ بِالْقُعُودِ فِيهَا أَوْ الِاضْطِجَاعِ أَوْ الْقِيَامِ يَفُوتُ مَا أَمَرَ بِهِ، وَهُوَ الْخُرُوجُ. وَأَمَّا النَّهْيُ فَإِنَّهُ لِلتَّحْرِيمِ أَيْ النَّهْيُ لِإِثْبَاتِ الْحُرْمَةِ، وَإِعْدَامُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ فَإِذَا كَانَ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ لَا يُمْكِنُ إعْدَامُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إلَّا بِإِتْيَانِ ضِدِّهِ فَيَكُونُ النَّهْيُ حِينَئِذٍ أَمْرًا بِضِدِّهِ، وَإِذَا كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ لَا يُوجِبُ أَمْرًا يُوجَدُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالضِّدِّ إنَّمَا يُثْبِتُ هَاهُنَا ضَرُورَةَ النَّهْيِ، وَإِمَّا تَرْتَفِعُ بِثُبُوتِ الْأَمْرِ بِضِدٍّ وَاحِدٍ فَلَا يُجْعَلُ أَمْرًا بِجَمِيعِ الْأَضْدَادِ ثُمَّ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْأَمْرِ بِضِدٍّ وَاحِدٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْأَضْدَادِ لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ فَلَا يَثْبُتُ. بِخِلَافِ جَانِبِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ إتْيَانَ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِتَرْكِ جَمِيعِ الْأَضْدَادِ، وَتَرْكُ جَمِيعِ الْأَضْدَادِ مُتَصَوَّرٌ فَإِنَّ تَرْكَ أَفْعَالٍ كَثِيرَةٍ مِنْ وَاحِدٍ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ مُتَصَوَّرٌ أَمَّا هَاهُنَا فَيُمْكِنُ تَحْقِيقُ حُكْمِ النَّهْيِ بِإِثْبَاتِ ضِدٍّ وَاحِدٍ فَإِنَّ السَّاعَةَ الْوَاحِدَةَ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا إثْبَاتُ أَفْعَالٍ شَتَّى، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ إثْبَاتُ فِعْلٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ فَلَمْ نَجْعَلْهُ أَمْرًا بِهِ أَيْضًا. يُوَضِّحُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَعَ التَّصْرِيحِ بِالنَّهْيِ فِيمَا لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ لَا يَسْتَقِيمُ التَّصْرِيحُ بِالْإِبَاحَةِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ نَهَيْتُك عَنْ التَّحَرُّكِ. وَأَبَحْت لَك السُّكُونَ أَوْ أَنْتَ مُخَيَّرٌ فِي السُّكُونِ كَانَ كَلَامًا مُخْتَلًّا؛ لِأَنَّ مُوجِبَ النَّهْيِ تَحْرِيمُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَذَلِكَ يُوجِبُ الِاشْتِغَالَ بِالضِّدِّ وَالْإِبَاحَةُ وَالتَّخْيِيرُ يُنَافِيَانِهِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ أَضْدَادٌ فَيَسْتَقِيمُ التَّصْرِيحُ بِالْإِبَاحَةِ فِي جَمِيعِ الْأَضْدَادِ بِأَنْ يَقُولَ لَا تَسْكُنْ، وَأَبَحْت لَك التَّحَرُّكَ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ شِئْت أَوْ يَقُولُ لَا تَقُمْ، وَأَبَحْت لَك مَا شِئْت مِنْ الْقُعُودِ وَالِاضْطِجَاعِ، وَكَذَا فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا مُوجِبَ لِهَذَا النَّهْيِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَضْدَادِ. وَلَكِنْ مَنْ اخْتَارَ أَنَّهُ يَكُونُ أَمْرًا بِوَاحِدٍ مِنْ الْأَضْدَادِ غَيْرِ عَيْنٍ يَقُولُ لَمَّا كَانَ النَّهْيُ مُقْتَضِيًا أَمْرًا بِضِدِّهِ ضَرُورَةَ تَحْقِيقِ حُكْمِ النَّهْيِ، وَلَا يُمْكِنُهُ تَحْقِيقُهُ إلَّا بِتَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إلَى ضِدٍّ وَاحِدٍ يَثْبُتُ الْأَمْرُ بِضِدٍّ وَاحِدٍ غَيْرِ عَيْنٍ، وَالْأَمْرُ قَدْ يَثْبُتُ فِي الْمَجْهُولِ كَمَا فِي أَحَدِ أَنْوَاعِ

وَاتَّفَقُوا أَنَّ الْمُحْرِمَ مَنْهِيٌّ عَنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ وَلَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِلُبْسِ شَيْءٍ مُتَعَيِّنٍ مِنْ غَيْرِ الْمَخِيطِ، وَاحْتَجَّ الْفَرِيقُ الثَّالِثُ بِأَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا قَالَ الْجَصَّاصُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَّا أَنَّا أَثْبَتْنَا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقِسْمَيْنِ أَدْنَى مَا يَثْبُتُ بِهِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِغَيْرِهِ ضَرُورَةً لَا يُسَاوِي الْمَقْصُودَ بِنَفْسِهِ، وَأَمَّا الَّذِي اخْتَرْنَاهُ فَبِنَاءٌ عَلَى هَذَا، وَهُوَ إنَّ هَذَا لَمَّا كَانَ أَمْرًا ضَرُورِيًّا سَمَّيْنَاهُ اقْتِضَاءً ـــــــــــــــــــــــــــــQالْكَفَّارَةِ ثُمَّ اسْتَدَلَّ الْجَصَّاصُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ مَا لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ وَبَيْنَ مَا لَهُ أَضْدَادٌ فِي النَّهْيِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ عَلَى مَا قُرِّرَ فِي الْكِتَابِ. وقَوْله تَعَالَى. {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] . أَيْ مِنْ الْحَيْضِ وَالْحَبَلِ بِالْإِظْهَارِ وَلِهَذَا وَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهَا فِيمَا تُخْبِرُ بِهِ؛ لِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِالْإِظْهَارِ. وَالْمُحْرِمُ مَنْهِيٌّ عَنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ «لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْقَبَاءَ، وَلَا الْقَمِيصَ، وَلَا السَّرَاوِيلَ، وَلَا الْخُفَّيْنِ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ النَّعْلَيْنِ فَيَقْطَعَهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ» . وَلَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِلُبْسِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْ غَيْرِ الْمَخِيطِ؛ لِأَنَّ لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهُوَ الْمِخْيَطُ أَضْدَادًا.، وَلَا يُقَالُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ الْمَخِيطُ فَيَكُونُ ضِدُّهُ غَيْرَ الْمَخِيطِ، وَهُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَصَارَ نَظِيرَ الْإِظْهَارِ مَعَ الْكِتْمَانِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَيْسَ لِلْإِظْهَارِ وَالْكِتْمَانِ أَنْوَاعٌ بِخِلَافِ الْمَخِيطِ وَغَيْرِ الْمَخِيطِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْوَاعٌ، وَهُوَ كَالْقِيَامِ مَعَ تَرْكِ الْقِيَامِ فَإِنْ تَرَكَهُ لِمَا كَانَ يَحْصُلُ بِأَنْوَاعٍ مِنْ الْفِعْلِ عَدَّ الْقِيَامِ مِمَّا لَهُ أَضْدَادٌ لَا مِمَّا لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ. وَاحْتَجَّ الْفَرِيقُ الثَّالِثُ بِمَا احْتَجَّ بِهِ الْجَصَّاصُ إلَّا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ نَحْنُ نُثْبِتُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقِسْمَيْنِ أَيْ النَّهْيِ الثَّابِتِ فِي ضِمْنِ الْأَمْرِ وَالْأَمْرِ الثَّابِتِ فِي ضِمْنِ النَّهْيِ. أَدْنَى أَيْ دُونَ مَا يَثْبُتُ بِهِ أَيْ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إذَا وَرَدَ مَقْصُودًا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ ضَرُورَةَ الْغَيْرِ لَا يَكُونُ مِثْلَ الثَّابِتِ مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ فَكَانَ هَذَا النَّهْيُ بِمَنْزِلَةِ نَهْيٍ وَرَدَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَيَثْبُتُ بِهِ الْكَرَاهَةُ وَالْأَمْرُ بِمَنْزِلَةِ أَمْرٍ وَرَدَ لِحُسْنٍ فِي غَيْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَيَثْبُتُ بِهِ كَوْنُ الْمَأْمُورِ بِهِ سُنَّةً قَرِيبَةً إلَى الْوَاجِبِ. أَلَا تَرَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ لَمَّا كَانَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ تَأْخِيرُ السَّعْيِ أَوْ فَوَاتُهُ اقْتَضَى كَرَاهَةَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَا حُرْمَتَهُ حَتَّى بَقِيَ مُبَاحًا فِي نَفْسِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فَاسِدًا فَكَذَا هَذَا النَّهْيُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ ضَرُورَةَ فَوَاتِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا قَضَى الْفَائِتَةَ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ بِحَيْثُ لَا يَسَعُ إلَّا لِلْوَقْتِيَّةِ يَجُوزُ وَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ مَعَ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ الِاشْتِغَالِ بِهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إلَّا أَنَّ النَّهْيَ لَمَّا ثَبَتَ ضَرُورَةَ فَوَاتِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي نَفْسِهَا بِالتَّحْرِيمِ، وَأَوْجَبَ الْكَرَاهَةَ بِخِلَافِ النَّهْيِ عَنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ فَإِنَّهُ وَرَدَ قَصْدًا فَلِذَلِكَ أَثْبَتَ الْحُرْمَةَ فِي نَفْسِهِ. وَأَوْجَبَ الْفَسَادَ قَوْلُهُ (وَأَمَّا الَّذِي اخْتَرْنَاهُ) وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي كَرَاهَةً فَبِنَاءً عَلَى هَذَا أَيْ عَلَى مَا ذَكَرَ الْفَرِيقُ الثَّالِثُ أَنَّ الثَّابِتَ بِغَيْرِهِ لَا يُسَاوِي الثَّابِتَ بِنَفْسِهِ، إلَّا أَنَّا نَقُولُ النَّهْيُ الثَّابِتُ بِالْأَمْرِ ثَابِتٌ بِطَرِيقِ ضَرُورَةِ الِاقْتِضَاءِ؛ لِأَنَّ طَلَبَ الْوُجُودِ بِالْأَمْرِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ ضِدِّهِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَثْبُتَ الْحُرْمَةُ فِي الضِّدِّ بِاقْتِضَاءِ الْأَمْرِ إلَّا أَنَّ الضَّرُورَةَ تَنْدَفِعُ بِإِثْبَاتِ الْكَرَاهَةِ فَلَا يَثْبُتُ الْحُرْمَةُ فَلِذَلِكَ قُلْنَا بِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ الضِّدِّ لَا إنَّهُ يُوجِبُهَا أَوْ يَدُلُّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالدَّلَالَةِ مِثْلُ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، وَكَذَلِكَ النَّهْيُ يَقْتَضِي سُنِّيَّةَ الضِّدِّ إنْ كَانَ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ عَلَى قِيَاسِ الْأَمْرِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ يَثْبُتُ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْمُقْتَضِي فِي أَيِّ أَضْدَادِهِ الَّذِي يَأْتِي بِهِ الْمُخَاطَبُ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَرَأَيْت فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَكَذَا إذَا كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ يُوجِبُ تَرْغِيبًا فِي وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَضْدَادِ غَيْرِ عَيْنٍ وَيَجُوزُ مِثْلُ

وَمَعْنَى الِاقْتِضَاءِ هَهُنَا أَنَّهُ ضَرُورِيٌّ غَيْرُ مَقْصُودٍ فَصَارَ شَبِيهًا بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ مُقْتَضَيَاتِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ ـــــــــــــــــــــــــــــQهَذَا عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْأَمْرِ بِأَحَدِ الْأَشْيَاءِ فِي الْكَفَّارَةِ. وَمَعْنَى الِاقْتِضَاءِ هَاهُنَا كَذَا يَعْنِي لَا نَعْنِي بِهِ الِاقْتِضَاءَ الَّذِي هُوَ جَعْلُ غَيْرِ الْمَنْطُوقِ مَنْطُوقًا لِتَصْحِيحِ الْمَنْطُوقِ إذْ لَا تَوَقُّفَ لِصِحَّةِ الْمَنْطُوقِ عَلَيْهِ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ ثَابِتٌ بِطَرِيقِ ضَرُورَةٍ غَيْرِ مَقْصُودٍ كَمَا أَنَّ الْمُقْتَضَى ثَابِتٌ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ فَكَانَ شَبِيهًا بِمُقْتَضَيَاتِ الشَّرْعِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتٌ بِالضَّرُورَةِ فَلِذَلِكَ يَثْبُتُ مُوجِبُ النَّهْيِ وَالْأَمْرِ هَاهُنَا بِقَدْرِ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرُورَةُ، وَهُوَ الْكَرَاهَةُ وَالتَّرْغِيبُ كَمَا يُجْعَلُ الْمُقْتَضَى مَذْكُورًا بِقَدْرِ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرُورَةُ، وَهُوَ صِحَّةُ الْكَلَامِ. وَبِمَا ذَكَرْنَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ إنَّ الضِّدَّ مَسْكُوتٌ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ، وَإِنْ كَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ لَكِنَّهُ ثَابِتٌ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَنَّ الِاقْتِضَاءَ طَرِيقٌ صَحِيحٌ لِإِثْبَاتِ الْمُقْتَضَى، وَإِنْ كَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ مُحْتَاجًا إلَيْهِ، وَلَيْسَ هَذَا نَظِيرَ التَّعْلِيقَاتِ فَإِنَّهَا لِابْتِدَاءِ الْوُجُودِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ وُجُودِ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ مَوْجُودًا قَبْلَهُ، وَلَكِنَّ عَدَمَهُ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ عَدَمٌ أَصْلِيٌّ وَالْعَدَمُ الْأَصْلِيُّ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلَى دَلِيلٍ مَعْدُومٍ يُضَافُ إلَيْهِ فَلَا يُضَافُ إلَى التَّعْلِيقِ نَصًّا، وَلَا اقْتِضَاءً فَأَمَّا وُجُوبُ الْإِقْدَامِ عَلَى الْإِيجَادِ فَيَقْتَضِي حُرْمَةَ التَّرْكِ وَالْحُرْمَةُ الثَّابِتَةُ بِمُقْتَضَى الشَّيْءِ يَكُونُ مُضَافًا إلَيْهِ فَلِذَلِكَ جَعَلْنَا قَدْرَ مَا يَثْبُتُ مِنْ الْحُرْمَةِ مُضَافًا إلَى أَمْرِ اقْتِضَاءٍ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي التَّبْصِرَةِ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِطَاعَةِ أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ أَهْلِ دِيَارِنَا ذَكَرَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ ضِدِّهِ، وَلَا أَقُولُ إنَّهُ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَلَا أَقُولُ إنَّهُ بَدَلٌ، وَلَسْت أَدْرِي مَا إذَا كَانَ رَأْيُهُ أَنَّ تَوَجُّهَ الْوَعِيدِ عَلَى تَارِكِ الْمَأْمُورِ بِهِ لِارْتِكَابِهِ ضِدَّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهُوَ التَّرْكُ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ جَمِيعِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَمْ لِانْعِدَامِ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ ارْتَكَبَهُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي هَاشِمٍ فَإِنْ كَانَ الْوَعِيدُ مُتَوَجِّهًا لِانْعِدَامِ الْمَأْمُورِ بِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي هَاشِمٍ فَأَيُّ حَاجَةٍ إلَى إثْبَاتِ الْكَرَاهَةِ فِي الضِّدِّ، وَالْوَعِيدُ بِدُونِهِ مُتَوَجِّهٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ لَتَوَجَّهَ الْوَعِيدُ مِنْ فِعْلٍ مَحْظُورٍ يَرْتَكِبُهُ وَذَلِكَ فِعْلُ التَّرْكِ فَكَيْفَ يَزْعُمُ بِتَوَجُّهِ كُلِّ الْوَعِيدِ لِتَارِكِ الْفَرَائِضِ وَثُبُوتِ الْعُقُوبَةِ لَهُ لَوْ لَمْ يَتَغَمَّدْهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ لِمُبَاشَرَةِ فِعْلٍ مَكْرُوهٍ لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَلَا مَحْظُورٍ، وَهَذَا مِمَّا يَأْبَاهُ جَمِيعُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَإِلَيْهِ أَشَارَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ أَيْضًا فَقَالَ، وَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ إنَّهُ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ ضِدِّهِ خِلَافُ الرِّوَايَةِ فَإِنَّ تَرْكَ صَلَاةِ الْفَرْضِ وَالِامْتِنَاعَ عَنْ تَحْصِيلِهَا حَرَامٌ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ وَالْمَكْرُوهُ لَا يُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الضِّدَّ إنَّمَا يُجْعَلُ مَكْرُوهًا إذَا لَمْ يَكُنْ الِاشْتِغَالُ بِهِ مُفَوِّتًا لِلْمَأْمُورِ فَأَمَّا إذَا تَضَمَّنَ الِاشْتِغَالُ بِهِ تَفْوِيتَهُ لَا مَحَالَةَ فَحِينَئِذٍ يَحْرُمُ بِالنَّظَرِ إلَى التَّفْوِيتِ، وَيَصِيرُ سَبَبًا لِتَوَجُّهِ الْوَعِيدِ وَاسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي ذَاتِهِ مُبَاحًا كَصَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ حَرَامٌ وَسَبَبٌ لِلْعُقُوبَةِ بِاعْتِبَارِ تَرْكِ الْإِجَابَةِ، وَمُبَاحٌ بَلْ عِبَادَةٌ وَسَبَبٌ لِلثَّوَابِ بِاعْتِبَارِ قَهْرِ النَّفْسِ

وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ} [البقرة: 228] فَلَيْسَ بِنَهْيٍ بَلْ نَسْخٌ لَهُ أَصْلًا مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] فَلَا يَصِيرُ الْأَمْرُ ثَابِتًا بِالنَّهْيِ بَلْ لِأَنَّ الْكِتْمَانَ لَمْ يَبْقَ مَشْرُوعًا لِمَا تَعَلَّقَ بِإِظْهَارِهِ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ فَصَارَ بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ أَمْرًا، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» وَفَائِدَةُ هَذَا أَنَّ التَّحْرِيمَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا بِالْأَمْرِ لَمْ يُعْتَبَرْ إلَّا مِنْ حَيْثُ يَفُوتُ الْأَمْرُ فَإِذَا لَمْ يَفُتْهُ كَانَ مَكْرُوهًا ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى مَا مَرَّ تَحْقِيقُهُ فِي بَابِ النَّهْيِ. وَكَوْنُهُ حَرَامًا لِغَيْرِهِ لَا يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ الْعُقُوبَةِ كَأَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ قَوْلُهُ: (وَأَمَّا قَوْلُهُ) جَوَابٌ عَنْ تَمَسُّكِ الْجَصَّاصُ بِالْإِجْمَاعِ فِي فَصْلِ النَّهْيِ أَيْ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ. الْآيَةَ لَيْسَ بِنَهْيٍ كَمَا زَعَمَ الْجَصَّاصُ حَتَّى يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْإِظْهَارِ ثَابِتًا بِهِ عَلَى مَا زَعَمَ بَلْ هُوَ نَسْخٌ لَهُ أَيْ رَفْعٌ لِجَوَازِ الْكِتْمَانِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ صِيغَةُ نَفْيٍ لَا نَهْيٍ. مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] . فَإِنَّهُ لَيْسَ بِنَهْيٍ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ التَّزَوُّجِ بَلْ هُوَ نَسْخٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50] . وَلِلْإِبَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ الثَّابِتَةِ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُنَّ لَمَّا اخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ التَّخْيِيرِ جَازَاهُنَّ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِقَصْرِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَيْهِنَّ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] . أَيْ لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ سِوَى هَؤُلَاءِ اللَّاتِي اخْتَرْنَك مِنْ بَعْدَمَا اخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. ثُمَّ قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى حَلَّ لَهُ النِّسَاءُ» يَعْنِي أَنَّ الْآيَةَ قَدْ نُسِخَتْ. وَنَاسِخُهَا إمَّا السُّنَّةُ أَوْ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب: 50] . وَتَرْتِيبُ النُّزُولِ لَيْسَ عَلَى تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ كَذَا فِي الْمَطْلَعِ. فَلَا يَصِيرُ الْأَمْرُ أَيْ الْأَمْرُ بِالْإِظْهَارِ. ثَابِتًا بِالنَّهْيِ أَيْ النَّهْيِ عَنْ الْكِتْمَانِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ يُنْهِي عَنْهُ. بَلْ؛ لِأَنَّ الْكِتْمَانَ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا أَيْ بَلْ ثَبَتَ الْأَمْرُ بِالْإِظْهَارِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كِتْمَانَ مَا فِي الْأَرْحَامِ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا لِتَعَلُّقِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ بِإِظْهَارِهِ مِنْ حَمْلِ الْقُرْبَانِ وَحُرْمَتِهِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَإِبَاحَةِ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ وَغَيْرِهَا. فَصَارَ أَيْ هَذَا النَّصُّ بِوَاسِطَةِ عَدَمِ شَرْعِيَّةِ الْكِتْمَانِ أَمْرًا بِالْإِظْهَارِ إذْ لَا مَرْجِعَ إلَى مَعْرِفَةِ مَا فِي أَرْحَامِهِنَّ إلَّا إلَيْهِنَّ، وَلِذَلِكَ غَلَّظَ عَلَيْهِنَّ فِي الْإِظْهَارِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: 228] . أَيْ الْكِتْمَانُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الْمُؤْمِنَاتِ لِكَوْنِهِ مِنْ بَابِ الْخِيَانَةِ وَالْكَذِبِ، وَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَبِعِقَابِهِ مَانِعٌ مِنْ الِاجْتِرَاءِ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْجَرِيمَةِ. وَهَذَا أَيْ قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ} [البقرة: 228] . مِثْلُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» . فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَفْيٌ، وَلَيْسَ بِنَهْيٍ. قَوْلُهُ (وَفَائِدَةُ هَذَا) الْأَصْلِ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ ضِدِّهِ وَالنَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ضِدُّهُ فِي مَعْنَى سُنَّةٍ وَاجِبَةٍ أَنَّ التَّحْرِيمَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا بِالْأَمْرِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَمْ يُوضَعْ لِلتَّحْرِيمِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ التَّحْرِيمُ ضَرُورَةً عَلَى مَا بَيَّنَّا. لَمْ يُعْتَبَرْ أَيْ لَمْ يُجْعَلْ التَّحْرِيمُ فِي الضِّدِّ ثَابِتًا. إلَّا مِنْ حَيْثُ تَفْوِيتُ الْأَمْرِ أَيْ الْمَأْمُورِ بِهِ يَعْنِي إنَّمَا يُجْعَلُ التَّحْرِيمُ ثَابِتًا فِي الضِّدِّ إذَا أَدَّى الِاشْتِغَالُ بِهِ إلَى فَوَاتِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَحِينَئِذٍ يَحْرُمُ؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ الْمَأْمُورِ بِهِ حَرَامٌ. فَإِذَا لَمْ يُفَوِّتْهُ أَيْ لَمْ يُفَوِّتْ الضِّدُّ الْمَأْمُورَ بِهِ كَانَ الضِّدُّ مَكْرُوهًا لَا حَرَامًا. ثُمَّ سِيَاقُ كَلَامِ الشَّيْخِ هَذَا يَنْزِعُ إلَى مَا قَالَ الْجَصَّاصُ فِي التَّحْقِيقِ؛ لِأَنَّ الْجَصَّاصَ بَنَى حُرْمَةَ الضِّدِّ عَلَى فَوَاتِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَيْضًا كَمَا بَنَاهُ الشَّيْخُ فَلَا يَظْهَرُ الْخِلَافُ مَعَهُ إلَّا فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْمُضَيَّقَ عَلَى الْفَوْرِ بِالِاتِّفَاقِ مِثْلُ الصَّوْمِ فَيَفُوتُ الْمَأْمُورُ بِهِ بِالِاشْتِغَالِ بِضِدِّهِ فِي أَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ حَصَلَ فَيَحْرُمُ بِالِاتِّفَاقِ لِلتَّفْوِيتِ وَالْوَاجِبُ الْمُوَسَّعُ مِثْلُ الصَّلَاةِ عَلَى التَّرَاخِي بِالِاتِّفَاقِ فَلَا يَحْرُمُ الضِّدُّ إلَّا عِنْدَ تَضَيُّقِ الْوَقْتِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ التَّفْوِيتَ لَا يَتَحَقَّقُ قَبْلَهُ. وَيَكُونُ مَكْرُوهًا عَلَى مَا اخْتَارَ الشَّيْخُ وَيَنْبَغِي

كَالْأَمْرِ بِالْقِيَامِ لَيْسَ بِنَهْيٍ عَنْ الْقُعُودِ قَصْدًا حَتَّى إذَا قَعَدَ ثُمَّ قَامَ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ بِنَفْسِ الْقُعُودِ، وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ، وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ الْمُحْرِمَ لَمَّا نُهِيَ عَنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ كَانَ مِنْ السُّنَّةِ لُبْسُ الْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ الْعِدَّةَ لَمَّا كَانَ مَعْنَاهَا النَّهْيَ عَنْ التَّزَوُّجِ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ بِالْكَفِّ مَقْصُودًا حَتَّى انْقَضَتْ الْأَعْدَادُ مِنْهَا بِزَمَانٍ وَاحِدٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنْ لَا يَكُونَ مَكْرُوهًا إذَا لَمْ يَكُنْ التَّأْخِيرُ مَكْرُوهًا لِعَدَمِ تَأْدِيَتِهِ إلَى أَمْرٍ حَرَامٍ أَوْ مَكْرُوهٍ. وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ عَلَى التَّرَاخِي عِنْدَنَا كَالْمُوَسَّعِ وَعَلَى الْفَوْرِ عِنْدَهُ كَالْمُضَيَّقِ فَلَا يَحْرُمُ الضِّدُّ عِنْدَنَا لِعَدَمِ التَّفْوِيتِ وَيُكْرَهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْكَرَاهَةُ عَلَى تَقْدِيرِ كَرَاهَةِ التَّأْخِيرِ كَمَا قُلْنَا وَعِنْدَهُ يَحْرُمُ الضِّدُّ لِفَوَاتِ الْمَأْمُورِ بِهِ. فَالْخِلَافُ فِي التَّحْقِيقِ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ عَلَى التَّرَاخِي أَمْ عَلَى الْفَوْرِ، وَلَمْ يَنْكَشِفْ لِي سِرُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. كَالْأَمْرِ بِالْقِيَامِ يَعْنِي فِي الصَّلَاةِ لَيْسَ بِنَهْيٍ عَنْ الْقُعُودِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ وَالْقَصْدِ. فَإِذَا قَعَدَ ثُمَّ قَامَ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاةٌ بِنَفْسِ الْقُعُودِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفُتْ بِهِ مَا هُوَ الْوَاجِبُ بِالْأَمْرِ، وَلَكِنَّهُ أَيْ الْقُعُودَ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْقِيَامِ اقْتَضَى كَرَاهَتَهُ. وَلِهَذَا أَيْ؛ وَلِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي سُنِّيَّةَ الضِّدِّ. وَلِهَذَا أَيْ، وَلَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الضِّدِّ أَمْرٌ بِهِ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ لَا بِطَرِيقِ الْقَصْدِ قُلْنَا لَمَّا كَانَ مَعْنَى الْعِدَّةِ الثَّابِتَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 228] . النَّهْيَ عَنْ التَّزَوُّجِ أَيْ الْمَقْصُودُ مِنْهَا حُرْمَةُ التَّزَوُّجِ. لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ بِالْكَفِّ عَنْ التَّزَوُّجِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ التَّزَوُّجِ انْتَهَى عَنْهُ مَقْصُودًا فَلَا يَثْبُتُ بِهِ وُجُوبُ الْكَفِّ بَلْ يَثْبُتُ بِهِ سُنِّيَّتُهُ فَلَا يُمْنَعُ تَدَاخُلُ الْعِدَّتَيْنِ. وَبَيَانُهُ أَنَّ رُكْنَ الْعِدَّةِ عِنْدَنَا حُرُمَاتٌ تَنْقَضِي وَالْمُدَّةُ ضُرِبَتْ أَجَلًا لِانْقِضَاءِ هَذِهِ الْحُرُمَاتِ وَالْكَفُّ عَنْ الْفِعْلِ يَجِبُ احْتِرَازًا عَنْ الْوُقُوعِ فِي الْحُرْمَةِ لَا أَنَّهُ رُكْنُ الْعِدَّةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الرُّكْنُ كَفَّ الْمَرْأَةَ نَفْسَهَا عَنْ التَّزَوُّجِ وَالْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ، وَالْمُدَّةُ لِتَقْدِيرِ الْكَفِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا، وَحُرْمَةُ الْأَفْعَالِ تُثْبِتُ ضَرُورَةَ وُجُوبِ الْكَفِّ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ. وَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي تُخَرَّجُ عَلَيْهَا أَنَّ الْعِدَّتَيْنِ تَتَدَاخَلَانِ وَتَمْضِيَانِ بِمُدَّةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَعِنْدَهُ لَا تَتَدَاخَلَانِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ مَا إذَا تَزَوَّجَتْ الْمُعْتَدَّةُ بِزَوْجٍ آخَرَ وَوَطِئَهَا ثُمَّ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا يَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةٌ أُخْرَى وَتَحْتَسِبُ مَا تَرَى مِنْ الْأَقْرَاءِ مِنْ الْعِدَّتَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا انْقَضَتْ الْعِدَّتَانِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَعِنْدَهُ يَجِبُ اسْتِئْنَافُ الْعِدَّةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأُولَى. وَإِنْ تَزَوَّجَتْ بِالزَّوْجِ الْأَوَّلِ فِي الْعِدَّةِ وَوَطِئَهَا فَهَاهُنَا تَتَدَاخَلَانِ بِالِاتِّفَاقِ. احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] أَيْ يَكْفُفْنَ وَيَحْبِسْنَ أَنْفُسَهُنَّ عَنْ نِكَاحٍ آخَرَ وَوَطْءٍ آخَرَ هَذِهِ الْمُدَّةَ. وَقَالَ {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] . وَقَالَ {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] فَثَبَتَ أَنَّ الْعِدَّةَ فِعْلٌ اسْتَحَقَّهَا الزَّوْجُ عَلَى الْمَرْأَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ النُّصُوصَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ مَأْمُورٌ بِهَا، وَالثَّابِتُ بِالْأَمْرِ الْأَفْعَالُ لَا الْحُرُمَاتُ فَصَارَ رُكْنُ الْعِدَّةِ كَفَّ النَّفْسِ عَنْ التَّزَوُّجِ وَخَلْطَ الْمِيَاهِ لِحَقِّ الزَّوْجِ، وَثُبُوتُ حُرْمَةِ الْأَفْعَالِ ضَرُورَةُ تَحَقُّقِ الْكَفِّ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَتَسْمِيَتُهَا أَجَلًا مَجَازٌ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَقْدِيرٌ لِرُكْنِ الْكَفِّ كَتَقْدِيرِ الصَّوْمِ إلَى اللَّيْلِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الرُّكْنَ هُوَ الْكَفُّ لَا يُتَصَوَّرُ كَفَّانِ مِنْ وَاحِدٍ فِي مُدَّةٍ وَاحِدَةٍ لِاسْتِحَالَةِ صُدُورِ فِعْلَيْنِ مُتَجَانِسَيْنِ مِنْ وَاحِدٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَلِهَذَا لَمْ يُتَصَوَّرْ أَدَاءُ صَوْمَيْنِ مِنْ وَاحِدٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ. وَلِعُلَمَائِنَا قَوْله تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] . وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة: 234] وَقَوْلُهُ: {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] . فَاَللَّهُ تَعَالَى سَمَّى الْعِدَّةَ أَجَلًا وَالْآجَالُ إذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى وَاحِدٍ

بِخِلَافِ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّ وَجَبَ بِالْأَمْرِ مَقْصُودًا بِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَوْ لِوَاحِدٍ انْقَضَتْ بِمُدَّةٍ وَاحِدَةٍ كَمَنْ عَلَيْهِ دُيُونٌ مُؤَجَّلَةٌ لَا بَأْسَ بِآجَالٍ مُتَسَاوِيَةٍ يَنْقَضِي جَمِيعُ الْآجَالِ بِمُدَّةٍ وَاحِدَةٍ؛ وَلِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا سَمَّاهَا أَجَلًا، وَالْأَجَلُ مُدَّةٌ مَضْرُوبَةٌ لِامْتِنَاعِ شَيْءٍ وُجِدَ سَبَبُهُ كَالْآجَالِ الْمَضْرُوبَةِ فِي الدُّيُونِ لِامْتِنَاعِ الْمُطَالَبَةِ مَعَ وُجُودِ سَبَبِهَا عَرَفْنَا أَنَّهَا مُدَّةٌ ضُرِبَتْ لِامْتِنَاعِ حُكْمِ الطَّلَاقِ إلَى زَمَانِ انْقِضَائِهَا، وَحُكْمُ الطَّلَاقِ حِلُّ التَّزَوُّجِ وَالْخُرُوجِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ كَانَ حَرَّمَهَا عَلَى سَائِرِ الْأَزْوَاجِ وَحَرَّمَ عَلَيْهَا الْخُرُوجَ وَالْبُرُوزَ، وَالطَّلَاقُ شُرِعَ لِإِزَالَةِ مَا أَثْبَتَهُ عَقْدُ النِّكَاحِ فَكَانَ حُكْمُهُ الْإِطْلَاقَ، وَإِزَالَةَ تِلْكَ الْحُرُمَاتِ. 1 - وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ حُكْمُهُ فِي الْحَالِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَدْخَلَ الْأَجَلَ عَلَى حُكْمِهِ فَتَأَخَّرَ بَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ إلَى انْقِضَائِهِ كَمَا تَأَخَّرَتْ الْمُطَالَبَةُ فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ إلَى انْقِضَاءِ الْأَجَلِ، وَإِذَا تَأَخَّرَتْ حُكْمُهُ، وَهُوَ إزَالَةُ الْحُرُمَاتِ كَانَتْ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً فِي الْحَالِ كَمَا كَانَتْ فِي حَالَةِ النِّكَاحِ فَثَبَتَ أَنَّ الرُّكْنَ فِيهَا الْحُرُمَاتُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ رُكْنَ الْعِدَّةِ بِعِبَارَةِ النَّهْيِ فَقَالَ: {وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] . وَقَالَ: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [البقرة: 235] . وَالثَّابِتُ بِالنَّهْيِ الْحُرْمَةُ إلَّا أَنَّ الْحُرْمَةَ لَمَّا كَانَتْ ثَابِتَةً وَجَبَ عَلَى الْمَرْأَةِ التَّرَبُّصُ فِي بَيْتِ الزَّوْجِ لَا؛ لِأَنَّهُ رُكْنٌ لَكِنْ لِئَلَّا تُبَاشِرَ فِعْلًا حَرَامًا كَمَا يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ الْكَفُّ عَنْ الزِّنَا إذَا دَعَتْ نَفْسُهُ إلَيْهِ لَا؛ لِأَنَّهُ رُكْنٌ إذْ الرُّكْنُ حُرْمَةُ الزِّنَا فِي نَفْسِهِ بَلْ لِئَلَّا يَقَعَ فِي الْحَرَامِ. ثُمَّ الْحُرُمَاتُ قَدْ تَجْتَمِعُ لِعَدَمِ التَّضَايُقِ فِيهَا كَصَيْدِ الْحَرَمِ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ وَلِحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ، وَكَخَمْرِ الذِّمِّيِّ حَرَامٌ عَلَى الصَّائِمِ الَّذِي حَلَفَ لَا يَشْرَبُ خَمْرًا لِكَوْنِهَا خَمْرًا وَلِكَوْنِهَا لِلذِّمِّيِّ وَلِصَوْمِهِ وَلِيَمِينِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ حُرْمَةُ التَّزَوُّجِ وَالْخُرُوجِ مُؤَجَّلَةً إلَى انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْأَقْرَاءِ بِسَبَبِ الزَّوْجِ حَقًّا لَهُ، وَإِنْ نُثْبِتَ بِسَبَبِ الْوَاطِئِ بِشُبْهَةٍ أَيْضًا حَقًّا لَهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَنْتَهِي الْحُرْمَتَانِ بِانْقِضَاءِ مُدَّةٍ وَاحِدَةٍ لِحُصُولِ مَقْصُودِ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيْ الْعِدَّةِ بِانْقِضَائِهَا، وَهُوَ الْعِلْمُ بِفَرَاغِ رَحِمِهَا مِنْ مِائَةٍ كَمَنْ حَلَفَ مَرَّتَيْنِ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا يَوْمًا لَزِمَهُ يَمِينَانِ، وَلَوْ حَنِثَ يَلْزَمُهُ كَفَّارَتَانِ ثُمَّ تَنْقَضِي الْيَمِينَانِ بِيَوْمٍ وَاحِدٍ، وَكَالْمَرْأَةِ تَحْرُمُ عَلَى أَزْوَاجٍ بِتَطْلِيقَاتٍ ثَلَاثٍ فَإِنَّ الْحُرُمَاتِ كُلَّهَا تَنْقَضِي بِإِصَابَةِ زَوْجٍ وَاحِدٍ. وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّ الرُّكْنَ فِيهِ، وَهُوَ كَفُّ النَّفْسِ عَنْ اقْتِضَاءِ الشَّهَوَاتِ ثَبَتَ مَقْصُودًا بِالْأَمْرِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] . وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] . وَالصَّوْمُ عِبَارَةٌ عَنْ الْكَفِّ وَالْإِمْسَاكِ، وَأَنَّهُ فِعْلٌ وَالْمَرْءُ لَا يَتَّصِفُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ بِكَفَّيْنِ كَمَا لَا يَتَّصِفُ بِجُلُوسَيْنِ.، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّا مَتَى جَعَلْنَا الْوَاجِبَ كَفًّا عَلَى الْمَرْأَةِ عَنْ الْخُرُوجِ وَالتَّزَوُّجِ ثُمَّ يَحْرُمُ الْخُرُوجُ وَالتَّزَوُّجُ ضَرُورَةَ الْكَفِّ لَمْ يَكُنْ الْخُرُوجُ، وَلَا النِّكَاحُ حَرَامًا فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ حَرُمَ لِغَيْرِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّوْمَ لَمَّا كَانَ كَفًّا لَمْ يَكُنْ الْأَكْلُ، وَلَا الشُّرْبُ، وَلَا جِمَاعُ الْأَهْلِ حَرَامًا فِي نَفْسِهِ، وَإِذَا فَعَلَ لَا يَأْثَمُ إثْمَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ الْحَرَامِ وَالْجِمَاعِ الْحَرَامِ مِثْلُ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا، وَإِنَّمَا يَأْثَمُ إثْمَ إفْسَادِ الصَّوْمِ حَتَّى كَانَ إثْمُ الْكُلِّ وَاحِدًا، وَهَاهُنَا تَأْثَمُ الْمَرْأَةُ إثْمَ الْخُرُوجِ الْحَرَامِ، وَإِثْمَ الْجِمَاعِ الْحَرَامِ إذَا تَزَوَّجَتْ وَجُومِعَتْ حَتَّى وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى أَصْلِهِ فَعُلِمَ أَنَّ الْحَرَامَ هُوَ الْفِعْلُ نَفْسُهُ وَعَلَيْهَا عَنْ الْفِعْلِ الْحَرَامِ، وَإِذَا لَمْ تَكْفِ لَمْ تَأْثَمْ إثْمَ تَارِكِ الْكَشْفِ فَهَذَا دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ وَالرُّكْنَ حُرْمَةُ أَفْعَالٍ لَا كَفٍّ

وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ مَنْ سَجَدَ عَلَى مَكَان نَجِسٍ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالنَّهْيِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِالْأَمْرِ فِعْلُ السُّجُودِ عَلَى مَكَان طَاهِرٍ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ فَوَاتَهُ حَتَّى إذَا أَعَادَهَا عَلَى مَكَان طَاهِرٍ جَازَ عِنْدَهُ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنَّ إحْرَامَ الصَّلَاةِ لَا يَنْقَطِعُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي مَسَائِلِ النَّفْلِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْقِرَاءَةِ وَلَمْ يُنْهَ عَنْ تَرْكِهَا قَصْدًا فَصَارَ التَّرْكُ حَرَامًا بِقَدْرِ مَا يَفُوتُ مِنْ الْفَرْضِ، وَذَلِكَ لِهَذَا الشَّفْعِ. فَأَمَّا احْتِمَالُ شَفْعٍ آخَرَ فَلَا يَنْقَطِعُ بِهِ وَلَا يَلْزَمُ أَنَّ الصَّوْمَ يَبْطُلُ بِالْأَكْلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْفَرْضَ مُمْتَدٌّ فَكَانَ ضِدُّهُ مُفَوَّتًا أَبَدًا وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ السُّجُودَ عَلَى مَكَان نَجِسٍ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِخِلَافِ الصَّوْمِ. وَأَمَّا التَّرَبُّصُ فَمَعْنَاهُ الِانْتِظَارُ وَالتَّرَبُّصُ بِنَفْسِهَا أَنْ تَحْمِلَهَا عَلَى الِانْتِظَارِ، وَهُوَ تَوَقُّفُ الْكَيْنُونَةِ أَمْرٌ فِي الثَّانِي لَا لِنَفْسِهِ كَالرَّجُلِ يَنْتَظِرُ قُدُومَ رَجُلٍ أَوْ مَطَرٍ أَوْ إدْرَاكِ غَلَّةٍ أَوْ نَحْوِهَا فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْأَجَلِ، وَإِذَا صَارَ الْمَقْصُودُ مِنْ الِانْتِظَارِ أَمْرًا آخَرَ لَا نَفْسَهُ صَلُحَ الْوَاحِدُ لِإِعْدَادٍ كَيَوْمٍ وَاحِدٍ يَنْتَظِرُ فِيهِ قُدُومَ أُنَاسٍ وَزَوَالِ حُرُمَاتِ بِأَيْمَانٍ مُوَقَّتَةٍ بِيَوْمٍ وَشَهْرٍ وَاحِدٍ يُنْتَظَرُ فِيهِ حُلُولُ دُيُونٍ فَدَلَّ صِيغَةُ الِانْتِظَارِ عَلَى فِعْلٍ وَجَبَ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ زَوَالُ الْحُرُمَاتِ وَقَدْ سَلَّمْنَا نَحْنُ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْفِعْلِ، وَلَكِنَّ الْوَاحِدَ يَكْفِي لِأَدَاءِ حُرُمَاتٍ كَثِيرَةٍ إقَامَةً لِمَحْظُورِ الْعِدَّةِ لَا لِرُكْنِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، كَذَا فِي الْأَسْرَارِ. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ؛ وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ يُوجِبُ كَرَاهَةَ ضِدِّهِ إذَا لَمْ يُؤَدِّ إلَى التَّفْوِيتِ لَا تَحْرِيمِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ مَنْ سَجَدَ عَلَى مَكَان نَجِسٍ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ السُّجُودَ عَلَى الْمَكَانِ النَّجَسِ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالنَّهْيِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ ثَابِتٌ بِالْأَمْرِ بِالسُّجُودِ عَلَى مَكَان طَاهِرٍ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى. وَاسْجُدُوا. إذْ الْمُرَادُ مِنْهُ السُّجُودُ عَلَى مَكَان طَاهِرٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَذَا أَيْ السُّجُودُ عَلَى مَكَان نَجِسٍ لَا يُوجِبُ فَوَاتَ الْمَأْمُورِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعِيدَهُ عَلَى مَكَان طَاهِرٍ فَيَكُونُ مَكْرُوهًا لَا مُفْسِدًا. وَلِهَذَا أَيْ؛ وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ ضِدِّهِ إلَّا إذَا حَصَلَ التَّفْوِيتُ بِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إحْرَامُ الصَّلَاةِ لَا يَنْقَطِعُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي مَسَائِلِ النَّفْلِ، وَهِيَ ثَمَانِ مَسَائِلَ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْقِرَاءَةِ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْ تَرْكِهَا قَصْدًا بَلْ اقْتِضَاءً وَضَرُورَةً فَلَا يَكُونُ التَّرْكُ حَرَامًا إلَّا بِقَدْرِ مَا يَحْصُلُ بِهِ تَفْوِيتُ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهُوَ الْقِرَاءَةُ، وَفَوَاتُهَا تَحَقَّقَ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ فَيَظْهَرُ تَحْرِيمُ التَّرْكِ فِي حَقِّ هَذَا الشَّفْعِ حَتَّى فَسَدَ أَدَاؤُهُ فَأَمَّا احْتِمَالُ أَدَاءِ شَفْعٍ آخَرَ بِهَذِهِ التَّحْرِيمَةِ فَلَمْ يَنْقَطِعْ بِهَذَا التَّرْكِ فَلَا يَظْهَرُ حُرْمَةُ التَّرْكِ فِي حَقِّ التَّحْرِيمَةِ فَتَبْقَى صَحِيحَةً قَابِلَةً لِبِنَاءِ شَفْعٍ آخَرَ عَلَيْهَا، وَإِنْ فَسَدَ أَدَاءُ الشَّفْعِ الْأَوَّلِ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ فَسَادِ الْأَدَاءِ بُطْلَانُ التَّحْرِيمَةِ كَمَا إذَا فَسَدَ الْفَرْضُ بِتَذَكُّرِ الْفَائِتَةِ. وَلِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ صَحَّتْ قَبْلَ الْأَدَاءِ شَرْطًا لِلْأَدَاءِ فَلَا تَبْطُلُ بِفَسَادِ الْأَدَاءِ بِمَنْزِلَةِ الطَّهَارَةِ. وَلَا يَلْزَمُ يَعْنِي عَلَى أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الصَّوْمَ يَبْطُلُ بِالْأَكْلِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الْأَكْلُ إلَّا فِي جُزْءٍ مِنْهُ مَعَ أَنَّ التَّحْرِيمَ لَمْ يَثْبُتْ مَقْصُودًا بَلْ ثَبَتَ فِي ضِمْنِ الْأَمْرِ بِالْكَفِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْفَرْضَ، وَهُوَ الصَّوْمُ مُمْتَدٌّ حَتَّى كَانَ الْكُلُّ فَرْضًا وَاحِدًا فَوُجُودُ ضِدِّهِ يَكُونُ مُفَوِّتًا لَهُ لَا مَحَالَةَ لِفَوَاتِ امْتِدَادِهِ بِهِ كَالْإِيمَانِ لَمَّا كَانَ فَرْضًا دَائِمًا كَانَ وُجُودُ ضِدِّهِ، وَهُوَ الْكُفْرُ مُفَوِّتًا لَهُ، وَإِنْ قَلَّ. فَأَمَّا النَّفَلُ فَكُلُّ شَفْعٍ مِنْهُ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ فَفَسَادُ الْأَدَاءِ فِي أَحَدِ الشَّفْعَيْنِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْآخَرِ وَلِهَذَا قُلْنَا أَيْ وَلِمَا ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْفَرْضَ الْمُمْتَدَّ يَبْطُلُ بِوُجُودِ الضِّدِّ فِي جُزْءٍ مِنْهُ قُلْنَا إنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ السُّجُودَ عَلَى مَكَان نَجِسٍ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ حَتَّى لَوْ أَعَادَهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ؛ لِأَنَّ السُّجُودَ لَمَّا كَانَ فَرْضًا صَارَ السَّاجِدُ عَلَى النَّجَسِ مُسْتَعْمِلًا لِلنَّجَسِ بِحُكْمِ الْفَرْضِيَّةِ أَيْ فَرْضِيَّةِ وَضْعِ الْوَجْهِ عَلَى الْأَرْضِ فِي السُّجُودِ بِمَنْزِلَةِ حَامِلِ النَّجَاسَةِ؛ لِأَنَّ السُّجُودَ يَتَأَدَّى بِالْوَجْهِ وَالْأَرْضِ إذْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ وَضْعِ الْوَجْهِ عَلَى الْأَرْضِ، وَالْأَرْضُ إذَا اتَّصَلَتْ بِالْوَجْهِ صَارَ مَا كَانَ صِفَةً لِذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ لِلْوَجْهِ بِحُكْمِ الِاتِّصَالِ فَيَصِيرُ السَّاجِدُ عَلَى النَّجَسِ كَالْحَامِلِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ الْكَفُّ عَنْ حَمْلِ النَّجَاسَةِ مَأْمُورٌ بِهِ فِي جَمِيعِ

وَهُوَ ظَاهِرُ الْجَوَابِ؛ لِأَنَّ السُّجُودَ لَمَّا كَانَ فَرْضًا صَارَ السَّاجِدُ عَلَى النَّجَسِ بِمَنْزِلَةِ الْحَامِلِ مُسْتَعْمِلًا لَهُ بِحُكْمِ الْفَرِيضَةِ وَالتَّطْهِيرِ عَنْ حَمْلِ النَّجَاسَةِ فَرْضٌ دَائِمٌ فِي أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فِي الْمَكَانِ أَيْضًا فَيَصِيرُ ضِدُّهُ مُفَوَّتًا لِلْفَرْضِ وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّ إحْرَامَ الصَّلَاةِ يَنْقَطِعُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي النَّفْلِ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فَرْضٌ دَائِمٌ فِي التَّقْدِيرِ حُكْمًا عَلَى مَا عُرِفَ فَيَنْقَطِعُ الْإِحْرَامُ بِانْقِطَاعِهِ بِمَنْزِلَةِ أَدَاءِ الرُّكْنِ مَعَ النَّجَاسَةِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْفَسَادُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَةٍ ثَابِتٌ بِدَلِيلٍ مُحْتَمَلٍ فَلَمْ يَتَعَدَّ إلَى الْإِحْرَامِ، وَإِذَا تُرِكَ فِي الشَّفْعِ كُلِّهِ فَقَدْ صَارَ الْفَسَادُ مَقْطُوعًا بِهِ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلْعِلْمِ فَتَعَدَّى إلَى الْإِحْرَامِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالصَّلَاةِ بِدَلَالَةِ قَوْله تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] . أَيْ لِلصَّلَاةِ عَلَى مَا قِيلَ وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ تَعَلُّقَ الصَّلَاةِ بِالْمَكَانِ وَالْبَدَنِ أَكْثَرُ مِنْ تَعَلُّقِهَا بِالثَّوْبِ فَيَثْبُتُ الْكَفُّ مُطْلَقًا بِالسُّجُودِ عَلَى الْمَكَانِ النَّجَسِ يَفُوتُ ذَلِكَ الْكَفُّ فَيَكُونُ مُفْسِدًا كَالْكَفِّ فِي الصَّوْمِ لَمَّا كَانَ مَأْمُورًا بِهِ فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ يَكُونُ الْأَكْلُ فِي جُزْءٍ مِنْهُ مُفْسِدًا لَهُ. ثُمَّ النَّجَاسَةُ إذَا كَانَتْ فِي مَوْضِعِ الْيَدَيْنِ أَوْ الرُّكْبَتَيْنِ لَا يَمْنَعُ عَنْ الْجَوَازِ، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَمْنَعُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ السَّجْدَةِ بِوَضْعِ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْوَجْهِ جَمِيعًا فَكَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي مَوْضِعِ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ مِثْلَهَا فِي مَوْضِعِ الْوَجْهِ، وَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ لَهُ بُدًّا مِنْ وَضْعِ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ إذَا وُضِعَ عَلَى مَكَان نَجِسٍ كَمَا لَوْ لَبِسَ ثَوْبَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا نَجَاسَةٌ كَثِيرَةٌ لَا يَجُوزُ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مِنْهُ بُدٌّ. فَالشَّيْخُ بِقَوْلِهِ صَارَ مُسْتَعْمِلًا لِلنَّجَسِ بِحُكْمِ الْفَرْضِيَّةِ أَشَارَ إلَى الْفَرْقِ، وَهُوَ إنَّمَا جَعَلْنَاهُ حَامِلًا لِلنَّجَسِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ وَضْعَ الْوَجْهِ عَلَى الْمَكَانِ الطَّاهِرِ، وَوَضْعَهُ عَلَى الْمَكَانِ النَّجَسِ مَانِعٌ عَنْ أَدَاءِ الْفَرْضِ فَيُعْتَبَرُ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ وَيُجْعَلُ قَاطِعًا فَأَمَّا وَضْعُ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ فَلَيْسَ بِفَرْضٍ فَكَانَ وَضْعُهَا عَلَى النَّجَاسَةِ بِمَنْزِلَةِ تَرْكِ الْوَضْعِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْجَوَازِ فَلَا يَكُونُ هَذَا الْوَضْعُ بِمَنْزِلَةِ حَمْلِ النَّجَاسَةِ. بِخِلَافِ الثَّوْبَيْنِ فَإِنَّ اللَّابِسَ لِلثَّوْبِ مُسْتَعْمِلٌ لَهُ حَقِيقَةً فَإِذَا كَانَ نَجِسًا كَانَ هُوَ حَامِلًا لِلنَّجَاسَةِ لَا مَحَالَةَ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ كَمَا لَوْ كَانَ مُمْسِكُهُ بِيَدِهِ فَأَمَّا الْمُصَلِّي فَلَيْسَ بِحَامِلٍ لِلْمَكَانِ حَقِيقَةً. وَقَوْلُهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْجَوَابِ احْتِرَازٌ عَمَّا رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ النَّجَاسَةَ فِي مَوْضِعِ السُّجُودِ لَا تَمْنَعُ عَنْ الْجَوَازِ؛ لِأَنَّ فَرْضَ السُّجُودِ يَتَأَدَّى بِوَضْعِ الْأَرْنَبَةِ عَلَى الْأَرْضِ عِنْدَهُ وَذَلِكَ دُونَ قَدْرِ الدِّرْهَمِ فَلَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ إذَا وَضَعَ الْجَبْهَةَ وَالْأَنْفَ تَأَدَّى الْفَرْضُ بِالْكُلِّ كَمَا إذَا طَوَّلَ الْقِرَاءَةَ وَالرُّكُوعَ كَانَ مُؤَدِّيًا لِلْفَرْضِ بِالْكُلِّ وَالْجَبْهَةُ وَالْأَنْفُ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ فَلِذَلِكَ مُنِعَ الْجَوَازُ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) قَالَ مُحَمَّدٌ أَيْ؛ وَلِأَنَّ الْفَرْضَ الْمُمْتَدَّ يَفُوتُ بِمُطْلَقِ وُجُودِ الضِّدِّ قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ إحْرَامَ الصَّلَاةِ يَنْقَطِعُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي التَّنَفُّلِ، وَإِنْ كَانَ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فَرْضٌ دَائِمٌ فِي التَّقْدِيرِ حُكْمًا؛ لِأَنَّهَا مَعَ كَوْنِهَا رُكْنًا شَرْطُ صِحَّةِ الْأَفْعَالِ لَا اعْتِبَارَ لَهَا بِدُونِهَا فِي الشَّرْعِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ» . أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَخْلَفَ أُمِّيًّا بَعْدَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ الْأَخِيرَةِ وَقَدْ أَتَى بِفَرْضِ الْقِرَاءَةِ فِي مَحَلِّهَا فَسَدَتْ الصَّلَاةُ عِنْدَنَا لِفَوَاتِ الْقِرَاءَةِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الصَّلَاةِ تَقْدِيرًا؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ إنَّمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْأَهْلِ لَا فِي حَقِّ غَيْرِ الْأَهْلِ، وَالْأُمِّيُّ لَيْسَ بِأَهْلٍ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا فَرْضٌ دَائِمٌ يَتَحَقَّقُ الْفَوَاتُ بِالتَّرْكِ فِي رَكْعَةٍ وَتَفْسُدُ الْأَفْعَالُ وَيَتَعَدَّى الْفَسَادُ إلَى الْإِحْرَامِ بِوَاسِطَةِ فَسَادِ الْأَفْعَالِ؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ أَفْعَالٍ لَيْسَتْ مِنْ الصَّلَاةِ فَيُوجِبُ فَسَادَ الْإِحْرَامِ ضَرُورَةً. وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِمَا احْتَجَّ بِهِ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إلَّا أَنَّهُ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْفَسَادُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ لِيَصِيرَ قَوِيًّا فِي نَفْسِهِ وَيَصْلُحَ لِلتَّعَدِّي إلَى الْإِحْرَامِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَتْرُكَهَا فِي الشَّفْعِ كُلِّهِ فَأَمَّا إذَا وُجِدَتْ فِي إحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ فَهُوَ مَوْضِعُ الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ تَجُوزُ الصَّلَاةُ

[باب بيان أسباب الشرائع]

وَلِهَذَا قَالَ فِي مُسَافِرٍ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ إنَّ إحْرَامَ الصَّلَاةِ لَا يَنْقَطِعُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ التَّرْكَ مُتَرَدِّدٌ مُحْتَمِلٌ لِلْوُجُودِ لِاحْتِمَالِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ فَلَمْ يَصِحَّ مُفْسِدًا فَصَارَ هَذَا الْبَابُ أَصْلًا يَجِبُ ضَبْطُهُ يُبْتَنَى عَلَيْهِ فُرُوعٌ يَطُولُ تَعْدَادُهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَقَائِقِ. (بَابُ بَيَانِ أَسْبَابِ الشَّرَائِعِ) اعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ» . يَقْتَضِي ذَلِكَ أَيْضًا فَكَانَ الْفَسَادُ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ فِيهِ قُصُورٌ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْإِحْرَامِ فَقُلْنَا بِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ حَتَّى صَحَّ شُرُوعُهُ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي وَقُلْنَا بِفَسَادِ الْأَدَاءِ أَيْضًا أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ فِي كُلِّ بَابٍ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا تَخْرُجُ الْمَسَائِلُ. فَإِذَا قَرَأَ فِي الْأَوَّلَيْنِ لَا غَيْرُ أَوْ فِي الْآخَرَيْنِ لَا غَيْرُ أَوْ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَإِحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ. أَوْ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، وَإِحْدَى الْأُولَيَيْنِ كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ. وَلَوْ قَرَأَ فِي إحْدَى الْأُولَيَيْنِ لَا غَيْرُ. أَوْ فِي إحْدَى الْأُولَيَيْنِ، وَإِحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَقَضَاءُ الْأَرْبَعِ عِنْدَهُمَا. وَلَوْ قَرَأَ فِي إحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ لَا غَيْرَ. أَوْ لَمْ يَقْرَأْ فِيهِنَّ شَيْئًا عَلَيْهِ قَضَاءُ الْأَرْبَعِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَقَضَاءُ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَهُمَا قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ، وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفَسَادَ مَتَى ثَبَتَ بِطَرِيقٍ مُحْتَمَلٍ لَمْ يَتَعَدَّ إلَى الْإِحْرَامِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي مُسَافِرٍ صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَتَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِيهِمَا لَا يَنْقَطِعُ بِهِ الْإِحْرَامُ حَتَّى لَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ يُتِمُّ صَلَاتَهُ أَرْبَعًا وَيَقْرَأُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - صَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الصَّلَاةِ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ مُؤَثِّرٌ فِي قَطْعِ التَّحْرِيمَةِ عِنْدَهُ فَصَارَ ظُهْرُ الْمُسَافِرِ كَفَجْرِ الْمُقِيمِ يَفْسُدُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدَيْهِمَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُ إصْلَاحُهُ فَكَذَا الظُّهْرُ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ إذْ لَا تَأْثِيرَ لِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِي رَفْعِ صِفَةِ الْفَسَادِ. وَعِنْدَهُمَا لَمَّا كَانَ الِاحْتِمَالُ مَانِعًا مِنْ تَعَدِّي الْفَسَادِ إلَى الْإِحْرَامِ لَمْ تَفْسُدْ الصَّلَاةُ فَإِنَّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ بِعَرْضٍ أَنْ تَصِيرَ أَرْبَعًا بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فَكَانَ التَّرْكُ مُتَرَدِّدًا مُحْتَمِلًا لِلْوُجُودِ أَيْ وُجُودِ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ وَنِيَّةُ الْإِقَامَةِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ مِثْلُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَلَوْ كَانَتْ فِي أَوَّلِهَا لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ فَهَاهُنَا مِثْلُهُ بِخِلَافِ فَجْرِ الْمُقِيمِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَرْضِ أَنْ تَصِيرَ أَرْبَعًا. يُبْتَنَى عَلَيْهِ فُرُوعٌ يَطُولُ تَعْدَادُهَا. مِثْلُ الِاعْتِكَافِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ بِالْخُرُوجِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ؛ لِأَنَّ اللُّبْثَ الدَّائِمَ يَنْقَطِعُ بِهِ كَالصَّوْمِ بِالْأَكْلِ. وَمِثْلُ الصَّلَاة يَبْطُلُ بِالِانْحِرَافِ عَنْ الْقِبْلَةِ بِالْبَدَنِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ؛ لِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ فَرْضٌ دَائِمٌ فَيَفُوتُ بِالِانْحِرَافِ. وَقِسْ عَلَيْهِ سَتْرَ الْعَوْرَةِ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ بِقُرْبِ النَّجَاسَةِ فَتُكْرَهُ، وَلَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّ فَرْضَ تَطْهِيرِ الْمَكَانِ لَا يَفُوتُ بِهِ، وَلَكِنْ يُقَرِّبُ إلَى الْفَوَاتِ.، وَكَذَا أَدَاءُ النِّصَابِ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ إلَى فَقِيرٍ وَاحِدٍ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ، وَهُوَ الْإِيتَاءُ إلَى الْفَقِيرِ لَمْ يَفُتْ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ شَبَهًا بِالْأَدَاءِ إلَى الْغَنِيِّ لِاتِّصَالِ الْغَنِيِّ بِالْأَدَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ بَيَانِ أَسْبَابِ الشَّرَائِعِ] وَلَمَّا فَرَغَ الشَّيْخُ عَنْ بَيَانِ الْمَقَاصِدِ وَتَقْسِيمِهَا، وَهِيَ الْأَحْكَامُ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْوَسَائِلِ إلَيْهَا، وَهِيَ الْأَسْبَابُ فَقَالَ {بَابُ بَيَانِ أَسْبَابِ الشَّرَائِعِ} أَيْ بَيَانِ الطُّرُقِ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَا الْمَشْرُوعَاتُ. قَالَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَعَامَّةُ الْمُتَكَلِّمِينَ إنَّ لِأَحْكَامِ الشَّرْعِ أَسْبَابًا تُضَافُ إلَيْهَا وَالْمُوجِبُ لِلْحُكْمِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالشَّارِعُ لَهُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى دُونَ السَّبَبِ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ إلَى الشَّرْعِ دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي مَأْخَذِ الشَّرَائِعِ أَنَّ أَوْقَاتَ الصَّلَاةِ أَسْبَابٌ لِوُجُودِ الْعِبَادَاتِ.، وَقَالَ جُمْهُورُ الْأَشْعَرِيَّةِ لِلْعُقُوبَاتِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ أَسْبَابٌ يُضَافُ وُجُوبُهَا إلَيْهَا فَأَمَّا الْعِبَادَاتُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQفَلَا تُضَافُ إلَّا إلَى إيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَخِطَابِهِ.، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ الْأَسْبَابَ أَصْلًا، وَقَالُوا الْحُكْمُ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ يَثْبُتُ بِظَاهِرِ النَّصِّ، وَفِي غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ يَتَعَلَّقُ بِالْوَصْفِ الَّذِي جُعِلَ عِلَّةً، وَيَكُونُ ذَلِكَ أَمَارَةً لِثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِثْبَاتِهِ مُتَمَسِّكِينَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْأَحْكَامِ وَالشَّارِعَ لَهَا هُوَ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ كَمَا أَنَّ مُوجِبَ الْأَشْيَاءِ الْمَحْسُوسَةِ وَخَالِقَهَا هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَصِفَةُ الْإِيجَابِ صِفَةٌ خَاصَّةٌ لَهُ لَا يَجُوزُ اتِّصَافُ الْغَيْرِ بِهَا كَصِفَةِ التَّخْلِيقِ فَكَانَ فِي إضَافَةِ الْإِيجَابِ إلَى الْأَسْبَابِ قَطْعُهُ عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَكِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ بَعْضَ أَوْصَافِ النَّصِّ عَلَامَةً، وَأَمَارَةً عَلَى الْحُكْمِ فِي الْفُرُوعِ فَيُقَالُ أَسْبَابٌ مُوجِبَةٌ أَوْ عِلَلٌ مُوجِبَةٌ مَجَازًا لِظُهُورِ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَهَا. وَبِأَنَّ الْأَسْبَابَ فِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ بِمَنْزِلَةِ الْآلَاتِ وَالْجَوَارِحِ السَّلِيمَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ قُدْرَةَ الْعِبَادِ نَاقِصَةٌ لَا يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِي الْمَحَالِّ إلَّا بِأَسْبَابٍ وَآلَاتٍ فَيَكُونُ عَمَلُهَا فِي تَتْمِيمِ الْقُدْرَةِ النَّاقِصَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ وُجُوبُ أَحْكَامِهِ وَوُجُودُهَا بِالْأَسْبَابِ حَقِيقَةً. وَبِأَنَّ الْأَسْبَابَ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الشَّرْعِ، وَلَا أَحْكَامَ مَعَهَا، وَقَدْ تُوجَدُ بِغَيْرِ الشَّرْعِ أَيْضًا بِلَا أَحْكَامٍ كَمَا فِي الْمَجَانِينِ وَالصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَوْ كَانَتْ عِلَلًا لِلْأَحْكَامِ لَمْ يُتَصَوَّرْ انْفِكَاكُهَا عَنْ الْأَحْكَامِ كَمَا فِي الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ فَإِنَّ الْكَسْرَ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الِانْكِسَارِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَ لَا تَجِبُ عَلَى مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، وَهُوَ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا، وَلَوْ كَانَ الْوُجُوبُ بِالْأَسْبَابِ دُونَ الْخِطَابِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْعِبَادَاتُ لِتَحَقُّقِ الْأَسْبَابِ فِي حَقِّهِ. وَتَمَسَّكَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا بِأَنَّ الْعِبَادَاتِ وَجَبَتْ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ فَتُضَافُ إلَى إيجَابِهِ؛ لِأَنَّا مَا عَرَفْنَا وُجُوبَهَا إلَّا بِالشَّرْعِ، وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ فَتُضَافُ إلَى الْأَسْبَابِ؛ لِأَنَّهَا أَجْزِيَةُ الْأَفْعَالِ الْمَحْظُورَةِ فَتُضَافُ إلَيْهَا تَغْلِيظًا، وَكَذَا الْمُعَامَلَاتُ تُضَافُ إلَى الْأَسْبَابِ؛ لِأَنَّهَا حَاصِلَةٌ بِكَسْبِ الْعَبْدِ فَتُضَافُ إلَيْهِ. وَبِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْعِبَادَاتِ لَيْسَ إلَّا الْفِعْلُ وَوُجُوبُهُ بِالْخِطَابِ بِالْإِجْمَاعِ فَلَا يُمْكِنُ إضَافَتُهُ إلَى شَيْءٍ آخَرَ فَأَمَّا الْمُعَامَلَاتُ فَالْوَاجِبُ فِيهَا شَيْئَانِ الْمَالُ وَالْفِعْلُ فَيُمْكِنُ إضَافَةُ وُجُوبِ الْمَالِ إلَى السَّبَبِ، وَإِضَافَةُ وُجُوبِ الْفِعْلِ إلَى الْخِطَابِ، وَكَذَا الْعُقُوبَاتُ فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْجَانِي لَيْسَ إلَّا تَسْلِيمُ النَّفْسِ وَتَحَمُّلُ الْعُقُوبَةِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْفِعْلُ عَلَى الْوُلَاةِ فَيَجُوزُ أَنْ يُضَافَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ إلَى السَّبَبِ، وَمَا وَجَبَ عَلَى الْوُلَاةِ إلَى الْخِطَابِ إلَيْهِمْ حَيْثُ قِيلَ {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] . فَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَجُوزُ أَنْ تُضَافَ الْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ إلَى الْأَسْبَابِ عِنْدَهُمْ أَيْضًا. وَأَمَّا الْعَامَّةُ فَقَالُوا: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ لِلْعِبَادَاتِ أَسْبَابًا يُضَافُ وُجُوبُهَا إلَيْهَا وَالْمُوجِبُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا شَرَعَ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ أَسْبَابًا يُضَافُ الْوُجُوبُ إلَيْهَا، وَالْمُوجِبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَجَعَلَ سَبَبَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ الْقَتْلَ وَسَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ الْإِتْلَافَ وَسَبَبَ مِلْكِ الْوَاطِئِ النِّكَاحَ، فَكَذَا شَرَعَ لِوُجُوبِ الْعِبَادَاتِ أَسْبَابًا أَيْضًا. فَمَنْ أَنْكَرَ جَمِيعَ الْأَسْبَابِ وَعَطَّلَهَا، وَأَضَافَ الْإِيجَابَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ خَالَفَ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ وَصَارَ جَبْرِيًّا خَارِجًا عَنْ مَذْهَبِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ

عَلَى الْأَقْسَامِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا إنَّمَا يُرَادُ بِهَا طَلَبُ الْأَحْكَامِ الْمَشْرُوعَةِ، وَأَدَاؤُهَا، وَإِنَّمَا الْخِطَابُ لِلْأَدَاءِ وَلِهَذِهِ الْأَحْكَامِ أَسْبَابٌ تُضَافُ إلَيْهَا شَرْعِيَّةٌ وُضِعَتْ تَيْسِيرًا عَلَى الْعِبَادِ، وَإِنَّمَا الْوُجُوبُ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَا أَثَرَ لِلْأَسْبَابِ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا وُضِعَتْ تَيْسِيرًا عَلَى الْعِبَادِ لَمَّا كَانَ الْإِيجَابُ غَيْبًا فَنُسِبَ الْوُجُوبُ إلَى الْأَسْبَابِ الْمَوْضُوعَةِ وَثَبَتَ الْوُجُوبُ جَبْرًا لَا اخْتِيَارَ لِلْعَبْدِ فِيهِ ثُمَّ الْخِطَابُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِلْأَدَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ يَجِبُ بِهِ الثَّمَنُ ثُمَّ يُطَالَبُ بِالْأَدَاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَمَنْ أَنْكَرَ الْبَعْضَ، وَأَقَرَّ بِالْبَعْضِ فَلَا وَجْهَ لَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ إضَافَةُ بَعْضِ الْأَحْكَامِ إلَى الْأَسْبَابِ بِالدَّلِيلِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ سَائِرُهَا إلَى الْأَسْبَابِ أَيْضًا بِالدَّلِيلِ. وَقَوْلُهُمْ لَوْ أُضِيفَ الْوُجُوبُ إلَى الْأَسْبَابِ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ مُضَافًا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّا لَا نَجْعَلُ الْأَسْبَابَ مُوجِبَةً بِذَوَاتِهَا إذْ الْإِيجَابُ وَالْإِلْزَامُ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا مِنْ مُفْتَرِضِ الطَّاعَةِ لَكِنَّ السَّبَبَ مَا يَكُونُ مَوْصِلًا إلَى الْحُكْمِ وَطَرِيقًا إلَيْهِ فَإِضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى السَّبَبِ لَا يَمْنَعُ مِنْ إضَافَتِهِ إلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ مَنْ قَتَلَ إنْسَانًا بِالسَّيْفِ يَحْصُلُ الْقَتْلُ حَقِيقَةً بِالسَّيْفِ ثُمَّ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ إضَافَتِهِ إلَى الْقَاتِلِ حَتَّى يَجِبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ، وَكَذَا الشِّبَعُ يَحْصُلُ بِالطَّعَامِ وَالرَّيُّ بِالْمَاءِ ثُمَّ يُضَافَانِ إلَى الْمُطْعِمِ وَالسَّاقِي فَكَذَا هَذَا. وَقَوْلُهُمْ الْأَسْبَابُ كَانَتْ، وَلَا حُكْمَ فَاسِدٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّا نَجْعَلُهَا مُوجِبَةً بِجَعَلِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهَا كَذَلِكَ لَا بِأَنْفُسِهَا فَلَا تَكُونُ أَسْبَابًا قَبْلَ ذَلِكَ كَأَسْبَابِ الْعُقُوبَاتِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الْخِطَابِ، وَلَمْ تَكُنْ أَسْبَابًا ثُمَّ صَارَتْ أَسْبَابًا بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى.، وَأَمَّا الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَإِنَّمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعِبَادَاتُ قَبْلَ بُلُوغِ الْخِطَابِ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى إيجَابِ الْأَدَاءِ فِي حَقِّهِ تَحْقِيقًا، وَلَا تَقْدِيرًا إذْ لَا ثُبُوتَ لِلْخِطَابَاتِ فِي حَقِّهِ أَصْلًا، وَلَا إلَى إيجَابِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ الْأَدَاءِ؛ وَلِأَنَّ فِي إيجَابِهَا عَلَيْهِ حَرَجًا لِاجْتِمَاعِ عِبَادَاتٍ كَثِيرَةٍ عَلَيْهِ لِطُولِ مُدَّةِ بَقَائِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَادَةً فَيَسْقُطُ عَنْهُ دَفْعًا لِلْحَرَجِ وَالْقَصِيرُ لِنُدْرَتِهِ مُلْحَقٌ بِالْكَثِيرِ وَبَاقِي الْكَلَامِ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ، وَقَوْلُهُ (عَلَى الْأَقْسَامِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا) مِنْ كَوْنِ الْأَمْرِ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ، وَمُقَيَّدًا بِهِ، وَكَوْنِهِ إيجَابًا عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ أَوْ التَّضْيِيقِ وَالتَّخْيِيرِ وَغَيْرِهَا. إنَّمَا يُرَادُ بِهَا أَيْ بِالْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ طَلَبُ الْأَحْكَامِ الْمَشْرُوعَةِ الثَّابِتَةِ قَبْلَ الْخِطَابِ. وَأَدَاؤُهَا تَأْكِيدٌ يَعْنِي الْخِطَابَ لِطَلَبِ أَدَاءِ الْمَشْرُوعَاتِ بِأَسْبَابٍ نَصَبَهَا الشَّرْعُ، وَإِنْ اسْتَقَامَ الْإِيجَابُ بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ. لَا أَثَرَ لِلْأَسْبَابِ فِي ذَلِكَ أَيْ فِي حَقِيقَةِ الْوُجُوبِ بِخِلَافِ السَّبَبِ الْعَقْلِيِّ وَالْحِسِّيِّ فَإِنَّ لَهُمَا أَثَرًا فِي إثْبَاتِ الْمَعْلُولِ بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْ السَّبَبِ كَالْكَسْرِ مَعَ الِانْكِسَارِ وَالْإِحْرَاقِ مَعَ الِاحْتِرَاقِ. وَإِنَّمَا وُضِعَتْ الْأَسْبَابُ لِأَجْلِ التَّيْسِيرِ عَلَى الْعِبَادِ لِيَتَوَصَّلُوا إلَى مَعْرِفَةِ الْوَاجِبَاتِ بِمَعْرِفَةِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ إذْ الْإِيجَابُ الَّذِي هُوَ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ غَيْبًا عَنَّا، وَفِي الْوُقُوفِ عَلَى مَعْرِفَتِهِ حَرَجٌ خُصُوصًا عِنْدَ انْقِطَاعِ زَمَانِ الْوَحْيِ فَوُضِعَتْ الْأَسْبَابُ وَنُسِبَ الْوُجُوبُ إلَيْهَا تَيْسِيرًا، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ أَمَارَاتٌ عَلَى الْإِيجَابِ وَثَبَتَ الْوُجُوبُ جَبْرًا يَعْنِي لَمْ يُشْتَرَطْ لِأَصْلِ الْوُجُوبِ اخْتِيَارُ الْعَبْدِ، وَقُدْرَتُهُ بَلْ يَثْبُتْ بِدُونِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ كَمَا يَثْبُتُ السَّبَبُ بِدُونِ اخْتِيَارِهِ فَأَمَّا وُجُوبُ الْأَدَاءِ الثَّابِتِ بِالْخِطَابِ فَلَا يَنْفَكُّ عَنْ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ عَنَى بِهِ أَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَالٍ لَوْ اخْتَارَ الْعَبْدُ فِيهَا الْأَدَاءَ لَقَدَرَ عَلَيْهِ لَا أَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى اخْتِيَارِهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إنْ اخْتَارَ وُجُوبَهُ ثَبَتَ، وَإِلَّا فَلَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَصْلَ الْوُجُوبِ يَثْبُتُ بِالسَّبَبِ خَبَرًا، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْأَدَاءِ وَوُجُوبُ الْأَدَاءِ يَثْبُتُ بِالْخِطَابِ جَبْرًا، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْأَدَاءِ أَعْنِي قُدْرَةَ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ، وَوُجُودُ الْأَدَاءِ يَتَوَقَّفُ عَلَى اخْتِيَارِهِ الْفِعْلُ. وَلَا يُقَالُ مَا ذَكَرْتُمْ لَا يَسْتَقِيمُ فِي النَّهْيِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُخَاطَبُ بِأَدَاءِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْوَاجِبُ بِالنَّهْيِ انْتِهَاءُ الْعَبْدِ عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ فَانْتِهَاؤُهُ وَامْتِنَاعُهُ عَنْهُ يَكُونُ أَدَاءً

وَدَلَالَةُ صِحَّةِ هَذَا الْأَصْلِ إجْمَاعُهُمْ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّائِمِ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ وَالْخِطَابُ عَنْهُ مَوْضُوعٌ وَوُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَجْنُونِ إذَا انْقَطَعَ جُنُونُهُ دُونَ يَوْمٍ، وَلَيْلَةٍ وَعَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ كَذَلِكَ وَالْخِطَابُ عَنْهُمَا مَوْضُوعٌ، وَكَذَلِكَ الْجُنُونُ إذَا لَمْ يَسْتَغْرِقْ شَهْرَ رَمَضَانَ كُلَّهُ وَالْإِغْمَاءُ وَالنَّوْمُ، وَإِنْ اسْتَغْرَقَهُ لَا يَمْتَنِعُ بِهِمَا الْوُجُوبُ وَلَا خِطَابَ عَلَيْهِمَا بِالْإِجْمَاعِ. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى الصَّبِيِّ، وَهُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ وَقَالُوا جَمِيعًا بِوُجُوبِ الْعُشْرِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَيْهِ فَعُلِمَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ الْوُجُوبَ فِي حَقِّنَا مُضَافٌ إلَى أَسْبَابٍ شَرْعِيَّةٍ غَيْرَ الْخِطَابِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQلِمُوجِبِ النَّهْيِ قَوْلُهُ (وَدَلَالَةُ صِحَّةِ هَذَا الْأَصْلِ) أَيْ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْأَصْلِ، وَهُوَ أَنَّ نَفْسَ الْوُجُوبِ بِالسَّبَبِ وَوُجُوبَ الْأَدَاءِ بِالْخِطَابِ إجْمَاعُهُمْ.، وَهُوَ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ نَحْنُ لَا نَعْلَمُ إيجَابًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا بِالْأَمْرِ فَبِمَ عَرَفْتُمْ أَنَّ وُجُوبَ الْعِبَادَاتِ بِالْأَسْبَابِ. فَقَالَ عَرَفْنَا ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى إيجَابِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ عَلَى مَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْخِطَابِ مِثْلَ النَّائِمِ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَإِنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِالْقَضَاءِ بَعْدَ الِانْتِبَاهِ. وَكَذَا الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْمَجْنُونُ عِنْدَنَا يُؤَاخَذَانِ بِالْقَضَاءِ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ إذَا لَمْ يَزْدَدْ الْإِغْمَاءُ وَالْجُنُونُ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَسْتَغْرِقْ الْجُنُونُ وَالْقَضَاءُ إنَّمَا يَجِبُ بَدَلًا عَنْ الْفَائِتِ مِنْ عِنْدِ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ التَّفْوِيتُ كَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ، وَلَوْلَا التَّفْوِيتُ لَمَا وَجَبَ الْقَضَاءُ، وَلَوْلَا الْوُجُوبُ لَمَا تُصُوِّرَ التَّفْوِيتُ. وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ ابْتِدَاءً عِبَادَةٌ تَجِبُ بَعْدَ الِانْتِبَاهِ أَوْ الْإِفَاقَةِ بِخِطَابٍ جَدِيدٍ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ يَجِبُ رِعَايَةُ شَرَائِطِ الْقَضَاءِ فِيهِ كَنِيَّةِ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهَا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ ابْتِدَاءَ فَرْضٍ لَمَا رُوعِيَتْ فِيهِ شَرَائِطُ الْقَضَاءِ بَلْ كَانَ ذَلِكَ أَدَاءً فِي نَفْسِهِ كَالْمُؤَدَّى فِي الْوَقْتِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّلَاةَ مَتَى لَمْ تَجِبْ فِي الْوَقْتِ لَا يَجِبُ قَضَاؤُهَا بَعْدَ خُرُوجِهِ كَالْكَافِرِ وَالصَّبِيِّ وَالْحَائِضِ إذَا أَسْلَمَ أَوْ بَلَغَ أَوْ ظَهَرَتْ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْقَضَاءُ لِعَدَمِ الْوُجُوبِ فِي الْوَقْتِ وَحَيْثُ وَجَبَ هَاهُنَا، وَمَعَ الْوُجُوبِ رُوعِيَتْ شَرَائِطُ الْقَضَاءِ دَلَّ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ وَوُجُوبُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَجْنُونِ يَنْبَغِي أَنْ يُقْرَأَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ أَوْ عَطْفًا عَلَى إجْمَاعِهِمْ لَا بِالْجَرِّ إذْ لَوْ قُرِئَ بِالْجَرِّ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سَوْقُ الْكَلَامِ لَصَارَ مَعْطُوفًا عَلَى الْوُجُوبِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلَدَخَلَ وُجُوبُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ تَحْتَ الْإِجْمَاعِ أَيْضًا كَوُجُوبِهَا عَلَى النَّائِمِ. وَهُوَ لَيْسَ بِمُجْمَعٍ عَلَيْهِ فَإِنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ إذَا اسْتَغْرَقَ الْجُنُونُ وَالْإِغْمَاءُ وَقْتَ الصَّلَاةِ وَحِينَئِذٍ لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِهَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى الْخَصْمِ. إلَّا إذَا كَانَ الْكَلَامُ مَعَ مَنْ أَنْكَرَ سَبَبِيَّةَ الْأَوْقَاتِ لِلصَّلَوَاتِ مِنْ أَصْحَابِنَا فَحِينَئِذٍ يَسْتَقِيمُ أَنْ يُقْرَأَ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الْوُجُوبِ الْمُتَقَدِّمِ وَيَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِالْمَسْأَلَتَيْنِ أَيْضًا وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ الْإِجْمَاعِ اتِّفَاقَ أَصْحَابِنَا خَاصَّةً دُونَ اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ. وَقَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ الْجُنُونُ إذَا لَمْ يَسْتَغْرِقْ مَذْهَبَنَا أَيْضًا دُونَ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَبِوُجُوبِ كَفَّارَاتِ الْإِحْرَامِ وَالْقَتْلِ مَعَ أَنَّ الْخِطَابَ عَنْهُمَا مَوْضُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَالُوا أَيْ الْفُقَهَاءُ جَمِيعًا بِوُجُوبِ الْعُشْرِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى الصَّبِيِّ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ عِنْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ، وَهُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ وَالرَّأْسُ الَّذِي يُمَوِّنُهُ مَعَ أَنَّ الْخِطَابَ عَنْهُ مَوْضُوعٌ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمَجْنُونِ حُقُوقُ الْعِبَادِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْأَسْبَابِ مِنْهُمَا. وَيَثْبُتُ الْعِتْقُ لِلْقَرِيبِ عَلَيْهِمَا عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِمَا بِالْإِرْثِ لِتَقَرُّرِ السَّبَبِ، وَهُوَ الْمِلْكُ، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ مَوْضُوعًا عَنْهُمَا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَدَاءَ لَمَّا وَجَبَ بِالْخِطَابِ لَمْ يَلْزَمْ عَلَيْهِمَا، وَإِنَّمَا لَزِمَ عَلَى الْمَوْلَى. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَدْ دَلَّ عَلَى مَا بَيَّنَّا قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] فَالْأَلِفُ وَاللَّامُ دَلَّتَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ الَّتِي أَوْجَبْتُهَا عَلَيْكُمْ بِالسَّبَبِ الَّذِي جَعَلْتُهُ سَبَبًا لَهَا، وَأَدُّوا الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْكُمْ بِسَبَبِهَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ أَدِّ الثَّمَنَ إنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْخِطَابُ بِأَدَاءِ ثَمَنِ الْوَاجِبِ بِسَبَبِهِ، وَهُوَ الْبَيْعُ.

وَإِنَّمَا يُعْرَفُ السَّبَبُ بِنِسْبَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ وَتَعَلُّقِهِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي إضَافَةِ الشَّيْءِ إلَى الشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لَهُ حَادِثًا بِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ (وَإِنَّمَا يُعْرَفُ السَّبَبُ) ثُمَّ بَيَّنَ الشَّيْخُ أَمَارَةَ كَوْنِ الشَّيْءِ سَبَبًا فَقَالَ: إنَّمَا يُعْرَفُ السَّبَبُ بِنِسْبَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ أَيْ إضَافَتِهِ إلَيْهِ كَقَوْلِك صَلَاةُ الظُّهْرِ وَصَوْمُ الشَّهْرِ وَحَجُّ الْبَيْتِ وَحَدُّ الشُّرْبِ، وَكَفَّارَةُ الْقَتْلِ. وَتَعَلُّقُهُ بِهِ أَيْ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ بِأَنْ لَا يُوجَدَ بِدُونِهِ وَيَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي إضَافَةِ الشَّيْءِ إلَى الشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْمُضَافُ إلَيْهِ سَبَبًا لِلْمُضَافِ، وَأَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْمُضَافُ حَادِثًا بِالْمُضَافِ إلَيْهِ كَقَوْلِك كَسْبُ فُلَانٍ أَيْ حَدَثَ بِفِعْلِهِ وَاخْتِيَارِهِ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ لَمَّا كَانَتْ مَوْضُوعَةً لِلتَّمْيِيزِ كَانَ الْأَصْلُ فِيهَا الْإِضَافَةَ إلَى أَخَصِّ الْأَشْيَاءِ بِهِ لِيَحْصُلَ التَّمْيِيزُ، وَأَخَصُّ الْأَشْيَاءِ بِالْحُكْمِ سَبَبُهُ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِهِ فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ أَصْلًا فَأَمَّا الشَّرْطُ فَإِنَّمَا يُضَافُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُوجَدُ عِنْدَهُ فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ مَجَازًا، وَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الْحَقِيقَةُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْمَجَازِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْإِضَافَةَ لِلتَّعْرِيفِ فَإِنَّ الْمُضَافَ نَكِرَةٌ قَبْلَ الْإِضَافَةِ، وَقَدْ تُعْرَفُ بَعْدَهَا بِالْمُضَافِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ تُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ، وَالشَّيْءُ مَتَى اُخْتُصَّ فِي نَفْسِهِ تَعَرَّفَ فَإِذَا قُلْت جَاءَنِي غُلَامٌ نَكِرَةٌ لِشُيُوعِهِ فِي الْغِلْمَانِ، وَلَوْ قُلْت جَاءَنِي غُلَامُ زَيْدٍ صَارَ مَعْرِفَةً لِاخْتِصَاصِهِ بِهِ. ثُمَّ اخْتِصَاصُ الشَّيْءِ بِغَيْرِهِ قَدْ يَكُونُ بِمَعَانٍ فَاخْتِصَاصُ الْغُلَامِ بِزَيْدٍ بِمَعْنَى الْمِلْكِ وَاخْتِصَاصُ الِابْنِ بِالْأَبِ فِي قَوْلِك ابْنُ فُلَانٍ بِمَعْنَى النَّسَبِ وَاخْتِصَاصُ الْيَدِ بِزَيْدٍ فِي قَوْلِك يَدُ زَيْدٍ بِمَعْنَى الْجُزْئِيَّةِ، وَقِسْ عَلَيْهِ. ثُمَّ تُعَرَّفُ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ بِإِضَافَتِهِمَا إلَى الْوَقْتِ إمَّا بِمَعْنَى السَّبَبِيَّةِ بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاجِبًا بِمَا أُضِيفَ إلَيْهِ. أَوْ بِمَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْوُجُوبَ يَثْبُتُ عِنْدَهُ. أَوْ بِمَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ وُجُودَ الْوَاجِبِ يَحْصُلُ فِي هَذَا الْوَقْتِ. ثُمَّ تَرَجَّحَ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ عَلَى الشَّرْطِيَّةِ وَالظَّرْفِيَّةِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ إضَافَةِ الْحَادِثِ إلَى شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهِ بِهِ كَقَوْلِك عَبْدُ اللَّهِ وَنَاقَةُ اللَّهِ، وَكَفَّارَةُ الْقَتْلِ، وَكَسْبُ فُلَانٍ وَتَرِكَتُهُ وَالْوُجُوبُ هُوَ الْحَادِثُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بِالْوَقْتِ. وَاعْتَرَضَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى هَذَا الْكَلَامِ فَقَالَ هَذَا كَلَامٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ مَا وَضَعُوا الْإِضَافَةَ لِمَعْرِفَةِ الْحُدُوثِ، وَلَا فَهِمُوهُ مِنْهَا أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا وَضَعُوهَا لِلتَّعْرِيفِ، وَفَهِمُوا مِنْهَا الِاخْتِصَاصَ الْمُوجِبَ لِلتَّعْرِيفِ. وَكَذَا الْإِضَافَةُ إلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي اللُّغَةِ شَائِعٌ، وَلَوْ كَانَ وَضْعُ الْإِضَافَةِ دَالًّا عَلَى الْحُدُوثِ لَمَا جَازَتْ إضَافَةُ الْأَشْيَاءِ إلَى غَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَقِيقَةً لِتَأَدِّيهَا إلَى الشَّرِكَةِ فِي الْأَحْدَاثِ. وَقَدْ يُضَافُ الْأَجْسَامُ وَالْجَوَاهِرُ إلَى الْعِبَادِ فَيُقَالُ دَارُ عَبْدِ اللَّهِ، وَفَرَسُ زَيْدٍ وَسَيْفُ خَالِدٍ وَيُقَالُ هَذَا عَبْدُ فُلَانٍ كَمَا يُقَالُ عَبْدُ اللَّهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِضَافَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى الْحُدُوثِ. وَكَذَا مَا اُسْتُدِلَّ بِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ كَسْبُ فُلَانٍ وَتَرِكَتُهُ يُوجِبُ بُطْلَانَ هَذَا الْكَلَامِ لَا تَصْحِيحَهُ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ قَدْ يَكُونُ عَبْدًا وَجَارِيَةً وَدَارًا وَضَيْعَةً، وَكَذَا التَّرِكَةُ وَرُبَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ أَقْدَمَ وُجُودًا مِنْ الْكَاسِبِ وَالتَّارِكِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ حُدُوثُهَا بِهِ. وَلَوْ كَانَ هُوَ أَسْبَقَ وُجُودًا مِنْهَا فَأَنَّى يُتَصَوَّرُ حُدُوثُهَا بِهِ. وَلَوْ قِيلَ كَانَ مِلْكُهَا حَادِثًا بِسَبَبِهِ تَقُولُ لَمْ يُضَفْ إلَيْهِ الْمِلْكُ إنَّمَا أُضِيفَ إلَيْهِ أَعْيَانُهَا فَإِذَنْ لَمْ تَدُلَّ الْإِضَافَةُ عَلَى حُدُوثِ الْمُضَافِ بِالْمُضَافِ إلَيْهِ بَلْ دَلَّتْ عَلَى حُدُوثِ غَيْرِ الْمُضَافِ بِالْمُضَافِ إلَيْهِ فَيَبْطُلُ هَذَا الْكَلَامُ. ثُمَّ قَالَ فِي قَوْلِهِ صَوْمُ الشَّهْرِ وَصَلَاةُ الظُّهْرِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ حُدُوثُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْوَقْتِ؛ لِأَنَّ

وَكَذَلِكَ إذَا لَازَمَهُ فَتَكَرَّرَ بِتَكَرُّرِهِ دَلَّ أَنَّهُ مُضَافٌ إلَيْهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQحُدُوثَهُمَا بِإِحْدَاثِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ مُبَاشَرَةِ الْعَبْدِ وَاكْتِسَابِهِ إيَّاهُمَا، وَهُمَا يَتَعَلَّقَانِ بِفِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ فَإِضَافَةُ حُدُوثِهِمَا إلَى الْأَزْمِنَةِ مُحَالٌ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ وُجُوبُهُمَا حَادِثًا بِالْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لَيْسَ بِمُضَافٍ إلَى الْوَقْتِ بَلْ نَفْسُ الْعِبَادَةِ هِيَ الْمُضَافَةُ، وَهِيَ لَيْسَتْ بِحَادِثَةٍ بِالْوَقْتِ، وَلَا يَصِحُّ إضَافَةُ مَا يَحْدُثُ عَلَى زَعْمِ هَذَا الْقَائِلِ بِالْوَقْتِ إلَى الْوَقْتِ فَإِنَّك لَوْ قُلْت وُجُوبُ الْوَقْتِ كَانَ فَاسِدًا لَا يُفْهَمُ حُدُوثُهُ بِهِ، وَلَوْ قُلْت وُجُوبُ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ لَا يُفْهَمُ حُدُوثُ الْوُجُوبِ بِفِعْلِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ. وَالْعَجَبُ مِنْ قَوْلِهِ وَالْوُجُوبُ هُوَ الْحَادِثُ فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ بِالْوَقْتِ كَانَ مَا اتَّصَفَ بِالْوُجُوبِ لَيْسَ بِحَادِثٍ أَوْ كَانَ الْوُجُوبُ هُوَ الْمُضَافُ أَوْ مَا اتَّصَفَ بِالْوُجُوبِ لَيْسَ بِمُضَافٍ وَسَاقَ كَلَامًا طَوِيلًا إلَى أَنْ قَالَ: وَالْوَجْهُ الصَّحِيحُ لِتَرْجِيحِ جِهَةِ السَّبَبِيَّةِ عَلَى جِهَتَيْ الشَّرْطِ وَالظَّرْفِ أَنْ يَقُولَ ثَمَرَةُ الْإِضَافَةِ التَّعْرِيفُ، وَلَنْ يَحْصُلَ هُوَ إلَّا بِالِاخْتِصَاصِ، وَهُوَ تَمَيُّزُ الشَّيْءِ عَنْ غَيْرِهِ بِمَا يُوجِبُ ذَلِكَ مِنْ صِفَةٍ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ أَوْ اسْمِ عَلَمٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ثُمَّ قَوْلُك صَوْمُ الشَّهْرِ وَصَلَاةُ الظُّهْرِ تَعْرِيفٌ لَهُمَا فَيَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصِفَةٍ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ مِنْ جِنْسِهِ، وَذَلِكَ إمَّا وُجُودُهُ فِي الْوَقْتِ، وَإِمَّا وُجُوبُهُ بِهِ أَوْ وُجُوبُهُ فِيهِ وَجَانِبُ الْوُجُودِ مُنْتَفٍ لِزَوَالِ الِاخْتِصَاصِ بِهَذَا الْوَصْفِ فَإِنَّ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ يُوجَدُ غَيْرُهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ مِنْ الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ وَالنَّوَافِلِ وَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ، وَكَذَا الصَّوْمُ فِي وَقْتِهِ غَالِبُ الْوُجُودِ لَا مُتَيَقَّنُ الْوُجُودِ فَإِنَّ نِيَّةَ النَّفْلِ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ يَصِحُّ عِنْدَ مَالِكٍ وَيَقَعُ عَنْ النَّفْلِ. وَكَذَا الْمُسَافِرُ لَوْ صَامَ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ يَقَعُ عَنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَكَذَا يُتَصَوَّرُ الِانْفِكَاكُ بَيْنَ الْوُجُودِ وَبَيْنَ الْوَقْتِ فَإِنَّ الِامْتِنَاعَ عَنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ مِنْ جُمْلَةِ النَّاسِ مُتَصَوَّرٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ الِاخْتِصَاصُ بِطَرِيقِ الْيَقِينِ فَلَمْ يَحْصُلْ التَّعْرِيفُ يَقِينًا. فَأَمَّا الْوُجُوبُ بِالْوَقْتِ أَوْ فِيهِ فَمُتَيَقَّنٌ فَكَانَ صَرْفُ مُطْلَقِ الْكَلَامِ إلَيْهِ أَوْلَى. فَصَارَ مُطْلَقُ الْإِضَافَةِ دَلِيلَ تَعَلُّقِ الصَّوْمِ بِهِ وُجُوبًا إمَّا بِطَرِيقِ السَّبَبِيَّةِ أَوْ بِالشَّرْطِيَّةِ. ثُمَّ يُرَجَّحُ جَانِبُ السَّبَبِيَّةِ عَلَى الشَّرْطِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ أَقْوَى اخْتِصَاصًا وَآكَدُ لُزُومًا بِالسَّبَبِ مِنْهُ بِالشَّرْطِ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَهُ بِالسَّبَبِ تَعَلُّقُ الْوُجُودِ وَتَعَلُّقَهُ بِالشَّرْطِ تَعَلُّقُ الْمُجَاوَرَةِ كَمَا فِي الظَّرْفِ فَكَانَ اتِّصَالُ الثُّبُوتِ وَالْوُجُودِ أَقْوَى مِنْهُ، وَكَذَا تَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَتَعَلُّقُهُ بِالشَّرْطِ بِوَاسِطَةٍ بَلْ لَا تَعَلُّقَ لِلشَّرْطِ بِالْحُكْمِ فَإِنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ شَرْطًا لِثُبُوتِ الْحُكْمِ بَلْ جُعِلَ لِانْعِقَادِ الْعِلَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الِاخْتِصَاصَ بِمُقَابَلَةِ هَذَا عَدَمٌ، وَاخْتِصَاصُ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ حَقِيقِيٌّ وَبِالشَّرْطِ جَارٍ مَجْرَى الْمَجَازِ بِمُقَابَلَةِ هَذَا فَانْصَرَفَتْ الْإِضَافَةُ فِي الدَّلَالَةِ إلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الِاخْتِصَاصِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ إذَا لَازَمَهُ) دَلِيلُ قَوْلِهِ وَتَعَلُّقُهُ بِهِ يَعْنِي كَمَا أَنَّ الْإِضَافَةَ تَدُلُّ عَلَى السَّبَبِيَّةِ تَدُلُّ عَلَى مُلَازَمَةِ الشَّيْءِ الشَّيْءَ وَتَعَلُّقِهِ بِهِ وَتَكَرُّرِهِ بِتَكَرُّرِهِ عَلَى السَّبَبِيَّةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْأُمُورَ تُضَافُ إلَى الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ فَلَمَّا تَكَرَّرَ الْحُكْمُ بِتَكَرُّرِ شَيْءٍ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ حَادِثٌ بِهِ إذْ هُوَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ لِحُدُوثِهِ. ثُمَّ الْوُجُوبُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَمْرٌ حَادِثٌ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ يُضَافُ إلَيْهِ، وَلَيْسَ هَاهُنَا إلَّا الْأَمْرُ أَوْ الْوَقْتُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إلَى الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَلَا يَحْتَمِلُهُ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِوَقْتٍ أَوْ شَرْطٍ فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ تَصَدَّقْ مِنْ مَالِي بِدِرْهَمٍ إذَا أَمْسَيْتَ أَوْ إذَا دَلَكَتْ

فَإِذَا ثَبَتَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ قُلْنَا: وُجُوبُ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى كَمَا هُوَ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مُضَافٌ إلَى إيجَابِهِ فِي الْحَقِيقَةِ لَكِنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى حَدَثِ الْعَالَمِ تَيْسِيرًا عَلَى الْعِبَادِ، وَقَطْعًا لِحُجَجِ الْمُعَانِدِينَ، وَهَذَا سَبَبٌ يُلَازِمُ الْوُجُوبَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالشَّمْسُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارُ كَمَا لَوْ قَالَ تَصَدَّقْ مِنْ مَالِي بِدِرْهَمٍ مُطْلَقًا عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ وَالتَّكْرَارُ ثَابِتٌ هَاهُنَا فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْوَقْتَ هُوَ السَّبَبُ، وَأَنَّ أَصْلَ الْوُجُوبِ مُضَافٌ إلَيْهِ، وَأَنَّ تَكَرُّرَهُ بِسَبَبِ تَكَرُّرِهِ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَسْبَابِ مِثْلَ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ فَإِنَّهَا تُكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ أَسْبَابِهَا. قَوْلُهُ (فَإِذَا ثَبَتَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ) وَلَمَّا أَثْبَتَ الشَّيْخُ أَنَّ لِلْمَشْرُوعَاتِ أَسْبَابًا بَيَّنَ سَبَبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَبَدَأَ بِبَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّهُ رَأْسُ الْعِبَادَاتِ. فَقَالَ وُجُوبُ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى كَمَا هُوَ أَيْ الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ مُطَابِقٌ لِلْحَقِيقَةِ بِأَنْ يُؤْمِنَ بِوُجُودِهِ وَبِوَحْدَانِيِّتِهِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَبِأَسْمَائِهِ مِثْلُ الْعَلِيمِ وَالْقَادِرِ وَالْحَكِيمِ وَسَائِرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَصِفَاتِهِ مِثْلُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحَيَاةِ وَجَمِيعِ صِفَاتِهِ الْعُلَى. وَالْبَاءُ بِمَعْنَى مَعَ وَالْأَسْمَاءُ بِمَعْنَى التَّسْمِيَاتِ يَعْنِي يُصَدِّقُ بِقَلْبِهِ وَيُقِرُّ بِلِسَانِهِ أَنَّهُ تَعَالَى وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا مِثْلَ، وَأَنَّ لَهُ أَسْمَاءً كَامِلَةً أَيْ تَسَمِّيَاتٍ يَصِحُّ إطْلَاقُهَا عَلَى ذَاتِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ كَمَا يَصِحُّ إطْلَاقُ الْعَالِمِ عَلَى زَيْدٍ مَثَلًا، وَهِيَ قَائِمَةٌ بِالْوَاصِفِ وَوَصْفٌ لِلْمَوْصُوفِ، وَأَنَّ لَهُ جَلَّ جَلَالُهُ صِفَاتٍ ثُبُوتِيَّةً قَدِيمَةً قَائِمَةً بِذَاتِهِ لَيْسَتْ عَيْنَ ذَاتِهِ، وَلَا غَيْرَهُ تَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ وَتَنَزَّهَتْ صِفَاتُهُ، لَا كَمَا زَعَمَتْ الْمُجَسِّمَةُ أَنَّهُ جِسْمٌ، وَأَنَّ صِفَاتِهِ حَادِثَةٌ. وَلَا كَمَا ذَهَبَتْ الْمُعَطِّلَةُ وَالْفَلَاسِفَةُ إلَيْهِ مِنْ إنْكَارِ الصِّفَاتِ، وَلَا كَمَا ظَنَّ الْبَعْضُ أَنَّ بَعْضَ الصِّفَاتِ قَدِيمٌ وَبَعْضَهَا حَادِثٌ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. مُضَافٌ إلَى إيجَابِهِ أَيْ إيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى كَسَائِرِ الْإِيجَابَاتِ. لَكِنَّهُ أَيْ لَكِنَّ وُجُوبَ الْإِيمَانِ فِي الظَّاهِرِ مَنْسُوبٌ إلَى حَدَثِ الْعَالَمِ تَيْسِيرًا عَلَى الْعِبَادِ؛ لِأَنَّ إيجَابَهُ غَيْبٌ عَنَّا فَنُسِبَ إلَى سَبَبٍ ظَاهِرٍ يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَةِ الْإِيجَابِ بِوَاسِطَتِهِ تَيْسِيرًا لِلْأَمْرِ عَلَيْنَا.، وَقَطْعًا لِحُجَجِ الْمُعَانِدِينَ إذْ لَوْ لَمْ يُوضَعْ لَهُ سَبَبٌ ظَاهِرٌ رُبَّمَا أَنْكَرَ الْمُعَانِدُ وُجُوبَهُ، وَلَمْ يُمْكِنْ الْإِلْزَامُ عَلَيْهِ فَوُضِعَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ إلْزَامًا لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَقَطْعًا لِشُبْهَتِهِ بِالْكُلِّيَّةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ حَدَثُ الْعَالَمِ سَبَبًا رُبَّمَا احْتَجُّوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالُوا مَا ثَبَتَ لَنَا دَلِيلُ الْإِيمَانِ بِك فَلِذَلِكَ لَمْ نُؤْمِنْ بِكَ فَجُعِلَ الْعَالَمُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْإِيمَانِ قَطْعًا لِلِجَاجِهِمْ. ثُمَّ حَدَثُ الْعَالَمِ يَصْلُحُ سَبَبًا لِوُجُوبِهِ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الصَّنْعَةِ وَالْحُدُوثِ، وَهُمَا يَدُلَّانِ عَلَى الصَّانِعِ وَالْمُحْدِثِ فَيُسْتَدَلُّ بِهِمَا عَلَى أَزَلِهِ مُحْدِثًا مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مُنَزَّهًا عَنْ النَّقِيصَةِ وَالزَّوَالِ فَيَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِهِ كَذَا ذَكَرَ أَبُو الْيُسْرِ. وَإِلَيْهِ أَشَارَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ الْبَعْرَةُ تَدُلُّ عَلَى الْبَعِيرِ، وَآثَارُ الْمَشْيِ تَدُلُّ عَلَى الْمَسِيرِ، فَهَذَا الْهَيْكَلُ الْعَلَوِيُّ وَالْمَرْكَزُ السُّفْلِيُّ أَمَا يَدُلَّانِ عَلَى الصَّانِعِ الْعَلِيمِ الْخَبِيرِ. وَهَذَا السَّبَبُ يُلَازِمُ الْوُجُوبَ يَعْنِي لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْوُجُوبِ، وَلَا الْوُجُوبُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كَوْنِهِ سَبَبًا أَنَّهُ مُوجِبٌ لِفِعْلِ الْعَبْدِ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ، وَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُوبُ الْفِعْلِ إلَّا عَلَى مَنْ هُوَ أَهْلُهُ إذْ الْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ كَمَا لَا يَثْبُتُ بِدُونِ السَّبَبِ.، وَلَا وُجُودَ لِمَنْ هُوَ أَهْلُ وُجُوبِ الْإِيمَانِ عَلَى مَا أَجْرَى اللَّهُ بِهِ سُنَّتَهُ إلَّا وَالسَّبَبُ يُلَازِمُهُ إذْ لَا تَصَوُّرَ لِلْمُحْدِثِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُحْدِثٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ. وَالْإِنْسَانُ الْمَقْصُودُ بِهِ أَيْ بِخَلْقِ الْعَالَمِ أَوْ بِالتَّكْلِيفِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَلَكِ وَالْجِنِّ مِمَّنْ يَجِبُ الْإِيمَانُ عَلَيْهِمْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَالِمٌ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ

لِأَنَّا لَا نَعْنِي بِهَذَا أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَإِنَّمَا نَعْنِي بِهِ أَنَّهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْعِبَادِ، وَلَا وُجُوبَ إلَّا عَلَى مَنْ هُوَ أَهْلٌ لَهُ، وَلَا وُجُودَ لِمَنْ هُوَ أَهْلُهُ عَلَى مَا أَجْرَى بِهِ سُنَّتَهُ إلَّا وَالسَّبَبُ يُلَازِمُهُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ الْمَقْصُودَ بِهِ وَغَيْرَهُ مِمَّنْ يَلْزَمُهُ الْإِيمَانُ عَالِمٌ بِنَفْسِهِ سُمِّيَ عَالِمًا؛ لِأَنَّهُ جُعِلَ عَلَمًا عَلَى وُجُودِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ إيمَانَ الصَّبِيِّ صَحِيحٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا وَلَا مَأْمُورًا؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ بِنَفْسِهِ وَسَبَبُهُ قَائِمٌ فِي حَقِّهِ دَائِمٌ لِقِيَامِ دَوَامِ مَنْ هُوَ مَقْصُودٌ بِهِ وَصِحَّةُ الْأَدَاءِ تُبْتَنَى عَلَى كَوْنِ الْمُؤَدَّى مَشْرُوعًا بَعْدَ قِيَامِ سَبَبِهِ مِمَّنْ هُوَ أَهْلُهُ لَا عَلَى لُزُومِ أَدَائِهِ كَتَعْجِيلِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَوَاجِبَةٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِلَا شُبْهَةٍ وَسَبَبُ وُجُوبِهَا فِي الظَّاهِرِ فِي حَقِّنَا الْوَقْتُ الَّذِي تُنْسَبُ وُجُوبُهَا فِي الظَّاهِرِ فِي حَقِّنَا الْوَقْتُ الَّذِي تُنْسَبُ إلَيْهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَوَحْدَانِيِّتِهِ وَصِفَاتِهِ الْكَامِلَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَالَمُ الْأَكْبَرُ فَكَانَ وُجُوبُ الْإِيمَانِ دَائِمًا بِدَوَامِ سَبَبِهِ غَيْرَ مُحْتَمِلٍ لِلنَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، وَكَانَ الشَّيْخُ إنَّمَا ذَكَرَ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّا لَا نَعْنِي بِهِ كَذَا جَوَابًا عَمَّا يُقَالُ كَيْفَ يَصْلُحُ حُدُوثُ الْعَالَمِ سَبَبًا لِلْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى ثُبُوتِ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ أَمْرٌ أَزَلِيٌّ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِسَبَبٍ وَيَلْزَمُ مِنْهُ تَقَدُّمُ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ أَيْضًا. فَقَالَ لَا نَعْنِي بِهِ أَنَّهُ سَبَبٌ لِلْوَحْدَانِيَّةِ، وَإِنَّمَا نَعْنِي بِهِ كَذَا. وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّهُ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْإِيمَانُ يُوجَدُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِدَايَتِهِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَبِفِعْلِ الْعَبْدِ، وَكَسْبِهِ الَّذِي هُوَ مَخْلُوقٌ فَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يُجْعَلَ حَدَثُ الْعَالَمِ سَبَبًا لِفِعْلِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَقَالَ: إنَّمَا نَجْعَلُهُ سَبَبًا لِفِعْلِ الْعَبْدِ لَا لِفِعْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَكِنْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لَا نَعْنِي بِهَذَا أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَهِدَايَتِهِ، وَإِنَّمَا نَعْنِي بِهِ كَذَا، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْفَقُ لِنَظْمِ الْكِتَابِ فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَى مَا أَجْرَى بِهِ سُنَنَهُ، وَأَنَّهُ يُذْكَرُ فِيمَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ عَلَى خِلَافِ الْمَذْكُورِ، وَهَا هُنَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْفَكَّ السَّبَبُ عَنْ الْوُجُوبِ لِاسْتِحَالَةِ زَوَالِ الْحُدُوثِ عَنْ الْمُحْدِثِ، وَلَمْ يُذْكَرْ هَذَا اللَّفْظُ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. (قُلْنَا) ذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِوُجُوبِ الْإِيمَانِ عَلَيْهِ مَعَ وُجُودِ أَشْيَاءَ أُخَرَ مِنْ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَغَيْرِهِمَا، وَكُلُّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْإِيمَانِ عَلَى مَنْ هُوَ أَهْلٌ لَهُ، وَإِنْ كَانَ يُتَصَوَّرُ وُجُودُ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلْوُجُوبِ بِدُونِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْإِيمَانِ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ عَالِمًا بِنَفْسِهِ فَمَعَ وُجُودِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَتَكَثَّرُ أَسْبَابُ وُجُوبِ الْإِيمَانِ. وَالْأَوْجَهُ أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ حَدَثَ الْعَالَمِ الَّذِي هُوَ لَازِمٌ لِلْوُجُوبِ سَبَبًا، وَأَمَارَةً عَلَى إيجَابِهِ الَّذِي هُوَ فِعْلُهُ مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ شَيْئًا آخَرَ سَبَبًا، وَأَمَارَةً عَلَى إيجَابِهِ الْإِيمَانَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ لَازِمًا لِلْوُجُوبِ كَمَا فُعِلَ كَذَلِكَ فِي حَقِّ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ فَإِنَّ الْوَقْتَ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لَيْسَ بِمُلَازِمٍ لِلْوُجُوبِ فَإِنَّ الْوُجُوبَ ثَابِتٌ بَعْدَ مُضِيِّ الْوَقْتِ وَانْقِضَاءِ الشَّهْرِ، وَلَكِنَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ أَجْرَى سُنَّتَهُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ الْإِيمَانِ شَيْئًا دَائِمًا مُلَازِمًا لِلْوُجُوبِ لِيَدُلَّ عَلَى دَوَامِ الْوُجُوبِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ؛ وَلِأَنَّ السَّبَبَ يُلَازِمُ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لَهُ. قُلْنَا إنَّ إيمَانَ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ صَحِيحٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِأَدَاءِ الْإِيمَانِ فِي الْحَالِ، وَلَا مَأْمُورًا بِهِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ مَشْرُوعٌ بِنَفْسِهِ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَشْرُوعٍ، وَقَدْ تَحَقَّقَ سَبَبُهُ فِي حَقِّهِ، وَوُجِدَ رُكْنُهُ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ عَنْ مَعْرِفَةٍ وَتَمْيِيزٍ مِمَّنْ هُوَ أَهْلُهُ، وَهُوَ الصَّبِيُّ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهِ كَمَا إذَا ثَبَتَ تَبَعًا لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ. أَمَّا تَحَقُّقُ السَّبَبِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا وُجُودُ الرُّكْنِ فَكَذَلِكَ إذْ الْكَلَامُ فِي صَبِيٍّ عَاقِلٍ مُمَيِّزٍ يُنَاظِرُ فِي وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحُجَجِ، وَقَدْ ضُمَّ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ إلَى التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ وَلِهَذَا صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ بِأَعْمَالِ الْبَشَرِ عِنْدَ الْخَصْمِ. وَأَمَّا الْأَهْلِيَّةُ فَلِأَنَّ الْإِيمَانَ قَدْ يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّهِ تَبَعًا لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِمَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ أَصْلًا فَبَعْدَ ذَلِكَ امْتِنَاعُ صِحَّةِ الْأَدَاءِ لَا يَكُونُ إلَّا بِحَجْرٍ شَرْعِيٍّ، وَالْقَوْلُ بِالْحَجْرِ عَنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِهِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهِ ضَرُورَةً. ثُمَّ سُقُوطُ الْخِطَابِ عَنْهُ بِسَبَبِ الصِّبَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ لُزُومِ الْأَدَاءِ الَّذِي يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَإِنَّ الْكَافِرَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُسْلِمَ فَأُكْرِهَ عَلَى أَنْ لَا يُسْلِمَ

وَمَا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ بِإِيجَابِهِ وَمِلْكُ الْمَالِ سَبَبُهُ وَالْقِصَاصَ يَجِبُ بِإِيجَابِهِ وَالْقَتْلُ الْعَمْدُ سَبَبُهُ فَرْقٌ، وَلَيْسَ السَّبَبُ بِعِلَّةٍ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا أُضِيفَتْ إلَى الْوَقْتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] فَالنِّسْبَةُ بِاللَّامِ أَقْوَى وُجُوهِ الدَّلَالَةِ عَلَى تَعَلُّقِهَا بِالْوَقْتِ وَكَذَلِكَ يُقَالُ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْفَجْرِ وَعَلَى ذَلِكَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ وَيَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْوَقْتِ وَيَبْطُلُ قَبْلَ الْوَقْتِ أَدَاؤُهُ وَيَصِحُّ بَعْدَ هُجُومِ الْوَقْتِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ لُزُومُهَا فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ أَحْكَامِ هَذَا الْقِسْمِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQوَلَا يَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ رُخِّصَ لَهُ التَّأْخِيرُ. وَالْمُسْلِمُ إذَا أُكْرِهَ عَلَى إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى لِسَانِهِ رُخِّصَ لَهُ ذَلِكَ لَكِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْأَدَاءِ فَإِنَّ صِحَّةَ الْأَدَاءِ يُبْتَنَى عَلَى كَوْنِ الْمُؤَدَّى مَشْرُوعًا بِنَفْسِهِ بَعْدَ قِيَامِ سَبَبِهِ مِنْ أَهْلِهِ لَا عَلَى لُزُومِ أَدَائِهِ أَيْ الْمُؤَدَّى كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ صَحَّ أَدَاؤُهُ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ لِتَقَرُّرِ سَبَبِهِ، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ بِالْأَدَاءِ غَيْرَ مُتَوَجِّهٍ إلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَكَالْمُسَافِرِ أَوْ الْمَرِيضِ إذَا صَامَ فِي حَالِ السَّفَرِ أَوْ الْمَرَضِ صَحَّ الْأَدَاءُ لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ فِي حَقِّ الْأَهْلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا قَبْلَ إدْرَاكِ عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. قَوْلُهُ (وَمَا بَيْنَ هَذَا) أَيْ لَيْسَ بَيْنَ قَوْلِنَا الصَّلَاةُ وَاجِبَةٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسَبَبُ وُجُوبِهَا فِي الظَّاهِرِ الْوَقْتُ وَبَيْنَ قَوْلِ مَنْ قَالَ الزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِلْكُ الْمَالِ النَّامِي سَبَبُهُ فَرْقٌ، وَغَرَضُهُ مِنْهُ رَدُّ قَوْلِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَاجِبَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَبَيْنَ الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيَّةِ حَيْثُ جَوَّزَ إضَافَةَ الْقِسْمِ الثَّانِي إلَى الْأَسْبَابِ دُونَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. وَقَوْلُهُ: وَلَيْسَ السَّبَبُ بِعِلَّةٍ جَوَابٌ عَمَّا قَالُوا لَا تَأْثِيرَ لِلْوَقْتِ فِي إيجَابِ الْعِبَادَةِ لِيَكُونَ سَبَبًا لَهَا فَأَمَّا الْمَالُ فَلَهُ تَأْثِيرٌ فِي إيجَابِ الْمُوَاسَاةِ وَلِلْجِنَايَةِ أَثَرٌ فِي إيجَابِ الْعُقُوبَةِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُضَافَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ إلَى الْمَالِ وَوُجُوبُ الْقِصَاصِ إلَى الْقَتْلِ الْعَمْدِ الَّذِي هُوَ جِنَايَةٌ فَقَالَ لَيْسَ السَّبَبُ بِعِلَّةٍ عَقْلِيَّةٍ لِيُشْتَرَطَ التَّأْثِيرُ لِصِحَّتِهَا كَالْكَسْرِ مَعَ الِانْكِسَارِ بَلْ هِيَ عِلَّةٌ جَعْلِيَّةٌ وَضَعَهَا الشَّارِعُ أَمَارَةً عَلَى الْإِيجَابِ فَلَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهَا التَّأْثِيرُ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَعْضِ نُسْخَةٍ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ أَنَّ الْعِلَّةَ مَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ وَيَظْهَرُ تَأْثِيرُهُ فِي الْأَحْكَامِ وَالسَّبَبَ سَبَبٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ. قَالَ: وَمِثَالُ هَذَا أَفْعَالُ الْعِبَادِ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي فِعْلِ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ أَنْ لَا يَصْلُحَ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ الْجَزَاءِ عَلَى مَوْلَاهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِفَضْلِهِ جَعَلَ أَفْعَالَهُمْ سَبَبًا لِإِحْرَازِ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ فَكَذَا هَاهُنَا. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى أَنَّ الْوَقْتَ سَبَبُ وُجُوبِ الصَّلَاةِ أَنَّهَا أُضِيفَتْ إلَى الْوَقْتِ بِحَرْفِ اللَّامِ وَبِدُونِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] . نَسَبَ الصَّلَاةَ إلَى وَقْتِ الدُّلُوكِ بِحَرْفِ اللَّامِ وَالنِّسْبَةُ بِاللَّامِ أَقْوَى وُجُوهِ الدَّلَالَةِ عَلَى تَعَلُّقِ الصَّلَاةِ بِالْوَقْتِ؛ لِأَنَّ اللَّامَ لِلتَّعْلِيلِ وَالِاخْتِصَاصِ كَمَا يُقَالُ تَطَهَّرَ لِلصَّلَاةِ وَتَأَهَّبَ لِلشِّتَاءِ، وَيُقَالُ اتَّخَذَ فُلَانٌ الضِّيَافَةَ لِفُلَانٍ أَيْ بِسَبَبِهِ، وَخَرَجَ فُلَانٌ لِقُدُومِ فُلَانٍ يَعْنِي قُدُومَ فُلَانٍ سَبَبٌ لِخُرُوجِهِ كَذَا قَالَهُ أَبُو الْيُسْرِ. وَأَمَّا الْإِضَافَةُ بِدُونِ اللَّامِ فَإِجْمَاعُهُمْ عَلَى إضَافَةِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ إلَى الْأَوْقَاتِ يُقَالُ صَلَاةُ الْفَجْرِ وَصَلَاةُ الظُّهْرِ وَنَحْوُهُمَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي إضَافَةِ الشَّيْءِ إلَى الشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِهِ كَإِضَافَةِ الْوَلَدِ إلَى الْوَالِدِ إذْ الْأَصْلُ فِي الْإِضَافَةِ أَنْ تَكُونَ بِأَخَصِّ الْأَوْصَافِ، وَأَخَصُّ الْأَوْصَافِ الْوُجُوبُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الثُّبُوتِ بِالسَّبَبِ سَابِقٌ عَلَى سَائِرِ وُجُوهِ الِاخْتِصَاصِ. وَمَجْمُوعُ قَوْلِهِ وَيَبْطُلُ قَبْلَ الْوَقْتِ إلَى قَوْلِهِ لُزُومُهَا أَيْ لُزُومُ أَدَائِهَا دَلِيلٌ وَاحِدٌ فَثَبَتَ بِمَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ سَبَبٌ. وَعِبَارَةُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا قَبْلَ الْوَقْتِ وَيَجُوزُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ مَعَ تَأَخُّرِ لُزُومِ الْأَدَاءِ بِالْخِطَابِ (فَإِنْ قِيلَ) لَا يُفْهَمُ مِنْ وُجُوبِ الْعِبَادَةِ شَيْءٌ سِوَى وُجُوبِ الْأَدَاءِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ بِالْخِطَابِ فَمَا الَّذِي يَكُونُ وَاجِبًا بِسَبَبِ الْوَقْتِ. (قُلْنَا) الْوَاجِبُ بِسَبَبِ الْوَقْتِ مَا هُوَ الْمَشْرُوعُ نَفْلًا فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وَبَيَانُ هَذَا فِي الصَّوْمِ فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ نَفْلًا فِي كُلِّ يَوْمٍ وُجِدَ الْأَدَاءُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ، وَفِي رَمَضَانَ يَكُونُ مَشْرُوعًا وَاجِبًا بِسَبَبِ الْوَقْتِ

[سبب وجوب الزكاة]

وَسَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ مِلْكُ الْمَالِ الَّذِي هُوَ نِصَابُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي الشَّرْعِ مُضَافٌ إلَى الْمَالِ وَالْغَنَاءِ وَتُنْسَبُ إلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ وَيَجُوزُ تَعْجِيلُهَا بَعْدَ وُجُودِ مَا يَقَعُ بِهِ الْغِنَى غَيْرَ أَنَّ الْغِنَى لَا يَقَعُ عَلَى الْكَمَالِ وَالْيُسْرِ إلَّا بِمَالٍ، وَهُوَ نَامٍ، وَلَا نَمَاءَ إلَّا بِالزَّمَانِ فَأُقِيمَ الْحَوْلُ، وَهُوَ الْمُدَّةُ الْكَامِلَةُ لِاسْتِنْمَاءِ الْمَالِ مَقَامَ النَّمَاءِ وَصَارَ الْمَالُ الْوَاحِدُ بِتَجَدُّدِ النَّمَاءِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَجَدِّدِ بِنَفْسِهِ فَيَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ بِتَكَرُّرِ الْحَوْلِ عَلَى أَنَّهُ مُتَكَرِّرٌ بِتَكَرُّرِ الْمَالِ فِي التَّقْدِيرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQسَوَاءٌ وُجِدَ الْخِطَابُ بِالْأَدَاءِ لِوُجُودِ شَرْطِهِ، وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْأَدَاءِ أَوْ لَمْ يُوجَدْ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي طَرِيقَةِ الْخِلَافِ أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] .، وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ» لَيْسَتْ لِلتَّعْلِيلِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ إذْ هِيَ دَاخِلَةٌ عَلَى الرُّؤْيَةِ دُونَ الْوَقْتِ، وَهِيَ لَيْسَتْ بِعِلَّةٍ بِالْإِجْمَاعِ فَمَا لَمْ تَدْخُلْ فِيهِ أَوْلَى أَنْ لَا تَكُونَ عِلَّةً فَإِنْ قُلْتُمْ الْمُرَادُ مَا يَثْبُتُ بِالرُّؤْيَةِ، وَهُوَ الشَّهْرُ. قُلْنَا أَتَعْنُونَ بِهِ أَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي وُجِدَتْ فِيهِ الرُّؤْيَةُ سَبَبٌ لِصَوْمِ جَمِيعِ الشَّهْرِ أَمْ تَعْنُونَ أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ سَبَبٌ عَلَى حِدَةٍ لِلصَّوْمِ. فَإِنْ قُلْتُمْ بِالْأَوَّلِ قَدْ أَقْرَرْتُمْ بِبُطْلَانِهِ. وَإِنْ قُلْتُمْ بِالثَّانِي فَكَيْفَ عَبَّرَ بِالرُّؤْيَةِ عَنْ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، وَهَلْ فِي اللَّفْظِ مَا يُنْبِئُ وَضْعًا أَوْ دَلَالَةً أَنْ تُذْكَرَ الرُّؤْيَةُ وَيُرَادَ مِنْهَا جُزْءٌ مِنْ يَوْمٍ يُوجَدُ بَعْدَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَوْ عِشْرِينَ مِنْ وَقْتِ الرُّؤْيَةِ. فَإِنْ قُلْتُمْ نَعَمْ فَقَدْ ادَّعَيْتُمْ مَا يَعْرِفُ كُلُّ جَاهِلٍ بُطْلَانَهُ، وَإِنْ قُلْتُمْ لَا فَقَدْ أَبْطَلْتُمْ الِاسْتِدْلَالَ بِالْخَبَرِ. وَكَذَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] أَيْشَ تَعْنُونَ بِهَذَا أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ وَقْتُ الدُّلُوكِ أَمْ جُزْءٌ وَاحِدٌ مِنْ الزَّمَانِ هُوَ مَعْدُومٌ عِنْدَ الدُّلُوكِ. فَإِنْ قُلْتُمْ بِالْأَوَّلِ فَقَدْ تَرَكْتُمْ مَذْهَبَكُمْ، وَإِنْ قُلْتُمْ بِالثَّانِي فَنَقُولُ أَيُّ دَلَالَةٍ فِي الدُّلُوكِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الشَّمْسِ فِي زَمَانٍ مَخْصُوصٍ عَلَى زَمَانٍ آخَرَ يُوجَدُ بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ تَعَيُّنٍ بَلْ عَلَى أَجْزَاءٍ مُتَجَدِّدَةٍ يَتَعَيَّنُ بَعْضُهَا سَبَبًا عِنْدَ اتِّصَالِ الْأَدَاءِ بِهِ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَكُمْ أَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَا زَعَمْتُمْ مِنْ حَيْثُ الْعَقْلُ أَمْ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ فَأَيَّ الْأَمْرَيْنِ ادَّعَيْتُمْ كُلِّفْتُمْ بَيَانَهُ، وَلَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِ. قَالَ ثُمَّ وُرُودُ الْحَدِيثِ لِبَيَانِ أَنَّ الصَّوْمَ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الشَّرْعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] . يُؤَدَّى فِي الشَّهْرِ بِعَدَدِ أَيَّامِهِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَيُبْنَى الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى الرُّؤْيَةِ دُونَ الْعَدَدِ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَةِ الْعَدَدِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَحِينَئِذٍ تَكْمُلُ الْعِدَّةُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا إبْقَاءً لِمَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ لَا بَيَانَ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلصَّوْمِ، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] . لِبَيَانِ، وَقْتِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] . لَا لِبَيَانِ السَّبَبِ.، وَمَجِيءُ اللَّامِ لِلْوَقْتِ كَثِيرٌ شَائِعٌ فِي الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ» . أَيْ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ. وَقَالَتْ الْخَنْسَاءُ: تُذَكِّرُنِي طُلُوعُ الشَّمْسِ صَخْرًا ... وَأَذْكُرُهُ لِكُلِّ مَغِيبِ شَمْسٍ أَيْ: لِوَقْتِ مَغِيبِهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ وُرُودَ اللَّامِ لِلتَّعْلِيلِ أَكْثَرُ مِنْ وُرُودِهَا بِمَعْنَى الْوَقْتِ، وَقَدْ تَأَيَّدَ كَوْنُهَا لِلتَّعْلِيلِ بِتَكَرُّرِ الْحُكْمِ عِنْدَ تَكَرُّرِهِ، وَإِضَافَةُ الْوَاجِبِ إلَيْهِ شَرْعًا وَعُرْفًا فَحُمِلَتْ عَلَى التَّعْلِيلِ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ التَّرْدِيدَاتِ وَارِدٌ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا بِمَعْنَى الْوَقْتِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ وَقْتَ الرُّؤْيَةِ لَيْسَ بِوَقْتِ الصَّوْمِ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَا زَمَانُ الدُّلُوكِ، وَهُوَ سَاعَةٌ لَطِيفَةٌ لَمْ تَتَعَيَّنْ لِوَقْتِ الصَّلَاةِ، وَلَا دَلَالَةَ لَهَا عَلَى الزَّمَانِ الَّذِي يُوجَدُ قُبَيْلَ صَيْرُورَةِ الظِّلِّ مِثْلًا وَمِثْلَيْنِ فَكُلُّ جَوَابٍ لَهُ عَنْهَا فَهُوَ جَوَابٌ لَنَا. [سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ] قَوْلُهُ (وَسَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ مِلْكُ الْمَالِ الَّذِي هُوَ نِصَابُهُ) أَيْ نِصَابُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ مِثْلُ عِشْرِينَ مِثْقَالًا فِي الذَّهَبِ، وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فِي الْفِضَّةِ وَخَمْسِ ذَوْدٍ فِي الْإِبِلِ، وَأَرْبَعِينَ شَاةً فِي الْغَنَمِ مُضَافٌ إلَى الْمَالِ وَالْغِنَى قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «هَاتُوا رُبْعَ عُشُورِ أَمْوَالِكُمْ» .، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» . وَالْغِنَى لَا يَحْصُلُ بِأَصْلِ الْمَالِ مَا لَمْ يَبْلُغْ مِقْدَارًا، وَأَحْوَالُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ فَقُدِّرَ بِالنِّصَابِ فِي حَقِّ الْكُلِّ. وَيُنْسَبُ إلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ فَيُقَالُ زَكَاةُ الْمَالِ وَيَتَضَاعَفُ بِتَضَاعُفِ النِّصَابِ فِي

[سبب وجوب الصوم]

وَسَبَبُ وُجُوبِ الصَّوْمِ أَيَّامُ شَهْرِ رَمَضَانَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] أَيْ فَلْيَصُمْ فِي أَيَّامِهِ وَالْوَقْتُ مَتَى جُعِلَ سَبَبًا كَانَ ظَرْفًا صَالِحًا لِلْأَدَاءِ وَاللَّيْلُ لَا يَصْلُحُ لَهُ فَعُلِمَ أَنَّ الْيَوْمَ سَبَبُهُ بِدَلَالَةِ نِسْبَتِهِ إلَيْهِ وَتَعَلُّقِهِ بِهِ وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالشَّيْءِ شَرْعًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ سَبَبُهُ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْبَابِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ بِتَكَرُّرِهِ وَنُسِبَ إلَيْهِ فَقِيلَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَصَحَّ الْأَدَاءُ بَعْدَهُ مِنْ الْمُسَافِرِ وَقَدْ تَأَخَّرَ الْخِطَابُ بِهِ وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَى صَبِيٍّ يَبْلُغُ فِي بَعْضِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكَافِرٍ يُسْلِمُ بِقَدْرِ مَا أَدْرَكَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ سَبَبٌ لِصَوْمِهِ بِمَنْزِلَةِ كُلِّ مِنْ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ مَرَّتْ أَحْكَامُ هَذَا الْقِسْمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQوَقْتٍ وَاحِدٍ أَيْضًا. وَيَجُوزُ تَعْجِيلُهُ بَعْدَ وُجُودِ مَا يَقَعُ بِهِ الْغِنَى، وَهُوَ مِلْكُ النِّصَابِ فَدَلَّ أَنَّهُ سَبَبٌ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْأَدَاءِ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ السَّبَبِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَلَكَ مَا دُونَ النِّصَابِ فَعَجَّلَ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَمَّ لَهُ مِلْكُ النِّصَابِ وَحَالَ الْحَوْلُ لَا يَنُوبُ الْمُؤَدَّى عَنْ الزَّكَاةِ لِعَدَمِ السَّبَبِ. وَقَوْلُهُ غَيْرَ أَنَّ الْغِنَى جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَمَّا تَحَقَّقَ السَّبَبُ بِمِلْكِ النِّصَابِ وَثَبَتَ الْغِنَى يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْأَدَاءُ فِي الْحَالِ، وَلَا يَتَأَخَّرُ إلَى مُضِيِّ الْحَوْلِ. فَقَالَ أَصْلُ الْغِنَى، وَإِنْ كَانَ يَثْبُتُ بِمِلْكِ النِّصَابِ إلَّا أَنَّ تَكَامُلَهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى النَّمَاءِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْمَالِ يَتَجَدَّدُ زَمَانًا فَزَمَانًا، وَالْمَالُ إذَا لَمْ يَكُنْ نَامِيًا تُفْنِيهِ الْحَوَائِجُ لَا مَحَالَةَ عَنْ قَرِيبٍ، وَإِذَا كَانَ نَامِيًا تَعَيَّنَ النَّمَاءُ لِدَفْعِ الْحَوَائِجِ فَبَقِيَ أَصْلُ الْمَالِ فَاضِلًا عَنْ الْحَاجَةِ فَيَحْصُلُ بِهِ الْغِنَى، وَيَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ مِنْهُ فَشُرِطَ النَّمَاءُ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ تَحْقِيقًا لِلْغِنَى وَالْيُسْرِ اللَّذَيْنِ بُنِيَتْ هَذِهِ الْعِبَادَةُ عَلَيْهِمَا، وَلَا نَمَاءَ إلَّا بِالزَّمَانِ فَأُقِيمَ الْحَوْلُ مَقَامَ النَّمَاءِ؛ لِأَنَّهُ مُدَّةٌ مُسْتَجْمِعَةٌ لِلْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي لَهَا تَأْثِيرٌ فِي حُصُولِ النَّمَاءِ مِنْ عَيْنِ السَّائِمَةِ بِالدَّرِّ وَالنَّسْلِ، وَمِنْ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ بِالرِّبْحِ بِزِيَادَةِ الْقِيمَةِ لِرَغَبَاتِ النَّاسِ فِي كُلِّ فَصْلٍ إلَى مَا يُنَاسِبُهُ فَصَارَ مُضِيُّ الْحَوْلِ شَرْطًا لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ. ثُمَّ يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ لَا يَتَكَرَّرُ الْوَاجِبُ، وَقَدْ يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ هَاهُنَا فِي مَالٍ وَاحِدٍ بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ الْمُتَكَرِّرَةِ فَأَشَارَ إلَى الْجَوَابِ عَنْهُ، وَقَالَ الْمَالُ الْوَاحِدُ يَتَجَدَّدُ النَّمَاءُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَجَدِّدِ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ بِوَصْفِ النَّمَاءِ صَارَ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ فَيَكُونُ تَجَدُّدُهُ بِمَنْزِلَةِ تَجَدُّدِ الْمَالِ كَالرَّأْسِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ لَمَّا صَارَ سَبَبًا بِوَصْفِ الْمُؤْنَةِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَجَدِّدِ بِتَجَدُّدِ الْمُؤْنَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ تَكَرُّرَ الْوُجُوبِ بِاعْتِبَارِ تَكَرُّرِ السَّبَبِ تَقْدِيرًا. [سَبَبُ وُجُوبِ الصَّوْمِ] قَوْلُهُ (وَسَبَبُ وُجُوبِ الصَّوْمِ) يَعْنِي صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ أَيَّامَ شَهْرِ رَمَضَانَ. اتَّفَقَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ مَشَايِخِنَا مِثْلُ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَالشَّيْخِ الْمُصَنِّفِ وَصَدْرِ الْإِسْلَامِ أَبِي الْيُسْرِ، وَمَنْ تَابَعَهُمْ عَلَى أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الصَّوْمِ الشَّهْرُ؛ لِأَنَّهُ يُضَافُ إلَيْهِ وَيَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ وَيَصِحُّ الْأَدَاءُ بَعْدَ دُخُولِ الشَّهْرِ، وَلَا يَصِحُّ قَبْلَهُ لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ. فَذَهَبَ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى أَنَّ السَّبَبَ مُطْلَقُ شُهُودِ الشَّهْرِ حَتَّى اسْتَوَى فِي السَّبَبِيَّةِ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِيُ مُتَمَسِّكًا بِأَنَّ الشَّهْرَ اسْمٌ لِجُزْءٍ مِنْ الزَّمَانِ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ الشَّرْعُ سَبَبًا لِإِظْهَارِ فَضِيلَةِ هَذَا الْوَقْتِ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ لِلْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي جَمِيعًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ كَانَ مُفِيقًا فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ الشَّهْرِ ثُمَّ جُنَّ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، وَمَضَى الشَّهْرُ، وَهُوَ مَجْنُونٌ ثُمَّ أَفَاقَ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَلَوْ لَمْ يَتَقَرَّرْ السَّبَبُ فِي حَقِّهِ بِمَا شَهِدَ مِنْ الشَّهْرِ فِي حَالِ الْإِفَاقَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ، وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ إذَا أَفَاقَ فِي لَيْلَةٍ ثُمَّ جُنَّ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ ثُمَّ أَفَاقَ بَعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ. وَكَذَا نِيَّةُ أَدَاءِ الْفَرْضِ تَصِحُّ بَعْدَ وُجُودِ اللَّيْلَةِ الْأُولَى بِغُرُوبِ الشَّمْسِ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ نِيَّةَ أَدَاءِ الْفَرْضِ قَبْلَ تَصَوُّرِ سَبَبِ الْوُجُوبِ لَا تَصِحُّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَوَى قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ» . فَإِنَّهُ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] . وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ لَوْ كَانَ سَبَبًا لَجَازَ الْأَدَاءُ فِيهِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ السَّبَبِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَمَكُّنِ الْأَدَاءِ فِيهِ فَإِنَّ مَنْ أَسْلَمَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ يَلْزَمُهُ فَرْضُ الْوَقْتِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ التَّمَكُّنُ مِنْ الْأَدَاءِ فِيهِ

[سبب وجوب صدقة الفطر]

سَبَبُ وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ غَنِيٍّ رَأْسٌ يُمَوِّنُهُ بِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ» بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُونَ» وَبَيَانُهُ أَنَّ كَلِمَةَ عَنْ لِانْتِزَاعِ الشَّيْءِ فَدَلَّ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ سَبَبًا يَنْتَزِعُ الْحُكْمَ عَنْهُ أَوْ مَحَلًّا يَجِبُ الْحَقُّ عَلَيْهِ فَيُؤَدِّيَ عَنْهُ وَبَطَلَ الثَّانِي لِاسْتِحَالَةِ الْوُجُوبِ عَلَى الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ وَالْفَقِيرِ فَعُلِمَ بِهِ أَنَّهُ سَبَبٌ وَلِذَلِكَ يَتَضَاعَفُ الْوُجُوبُ بِتَضَاعُفِ الرُّءُوسِ، وَأَمَّا وَقْتُ الْفِطْرِ فَشَرْطُهُ حَتَّى لَا يَعْمَلَ السَّبَبُ إلَّا لِهَذَا الشَّرْطِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبَلْ الشَّرْطُ احْتِمَالُ الْأَدَاءِ فِي الْوَقْتِ، وَهُوَ ثَابِتٌ وَلِهَذَا لَوْ أَسْلَمَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ أَوْ قَبْلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الصَّوْمُ، وَإِنْ أَدْرَكَ جُزْءًا مِنْ الشَّهْرِ لِانْقِطَاعِ احْتِمَالِ الْأَدَاءِ فِي الْوَقْتِ. وَذَهَبَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ وَالشَّيْخُ الْمُصَنِّفُ وَصَدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيُسْرِ إلَى أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الصَّوْمِ أَيَّامُ شَهْرِ رَمَضَانَ دُونَ اللَّيَالِي أَيْ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ سَبَبٌ لِصَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَيَجِبُ صَوْمُ جَمِيعِ الْيَوْمِ مُقَارِنًا إيَّاهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الشَّهْرِ أَشْيَاءُ مُتَغَايِرَةٌ إذْ صَوْمُ كُلِّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ عَلَى حِدَةٍ غَيْرُ مُرْتَبِطٍ بِغَيْرِهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِشَرَائِطِ وُجُودِهِ، وَانْفِرَادُهُ بِالِارْتِفَاعِ عِنْدَ طُرُوءِ النَّاقِضِ كَالصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا بَلْ التَّفَرُّقُ فِي الصِّيَامِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الصَّلَوَاتِ فَإِنَّ التَّفَرُّقَ فِي الصَّلَوَاتِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَدَاءَ الظُّهْرِ لَا يَجُوزُ فِي وَقْتِ الْفَجْرِ وَيَفُوتُ بِمَجِيءِ وَقْتِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَدَاءِ الظُّهْرِ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مَوْجُودٌ وَزِيَادَةٌ، وَهِيَ أَنَّ بَيْنَ كُلِّ يَوْمَيْنِ وَقْتًا لَا يَصْلُحُ لِلصَّوْمِ لَا أَدَاءً، وَلَا قَضَاءً لِمَا مَضَى، وَلَا نَفْلًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ كُلُّ عِبَادَةٍ مُتَعَلِّقَةً بِسَبَبٍ عَلَى حِدَةٍ وَذَلِكَ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا جَعَلَ وَقْتًا سَبَبًا لِعِبَادَةٍ فَذَلِكَ بَيَانُ شَرَفِ ذَلِكَ الْوَقْتِ لِحَقِّ تِلْكَ الْعِبَادَةِ وَالْعِبَادَةُ فِي الْأَدَاءِ دُونَ الْإِيجَابِ فَإِنَّهُ صُنْعُ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَسْتَقِمْ الْوَقْتُ الْمُنَافِي لِلْأَدَاءِ شَرْعًا سَبَبًا لِوُجُوبِهِ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْأَسْبَابَ هِيَ الْأَيَّامُ دُونَ اللَّيَالِي، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ وَالْوَقْتُ مَتَى جُعِلَ سَبَبًا كَانَ ظَرْفًا لِلْأَدَاءِ أَيْ مَحَلًّا لَهُ كَوَقْتِ الصَّلَاةِ لَمَّا جُعِلَ سَبَبًا لِوُجُوبِهَا كَانَ مَحَلًّا لِأَدَائِهَا. وَالْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ ظَرْفًا هَاهُنَا أَنَّ الْوَاجِبَ يُؤَدَّى فِيهِ لَا أَنَّ الْوَقْتَ يَفْضُلُ عَنْ الْأَدَاءِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ كَلَامِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ فَهُوَ أَنَّ شَرَفَ اللَّيَالِي بِاعْتِبَارِ شَرْعِيَّةِ الصَّوْمِ فِي أَيَّامِهَا فَكَانَ شَرَفُهَا تَابِعًا لِشَرَفِ الْأَيَّامِ أَوْ شَرَفُهَا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا أَوْقَاتًا لِقِيَامِ رَمَضَانَ، وَكَلَامُنَا فِي شَرَفٍ يَحْصُلُ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِيَّةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِأَدَاءِ مُسَبَّبِهِ. وَأَمَّا عَدَمُ سُقُوطِ الصَّوْمِ عَنْ الْمَجْنُونِ الَّذِي لَمْ يُفِقْ إلَّا فِي جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلَةِ فَلِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلْوُجُوبِ مَعَ الْجُنُونِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ عَنْهُ عِنْدَ تَضَاعُفِ الْوَاجِبَاتِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ وَاعْتُبِرَ الْحَرَجُ فِي حَقِّ الصَّوْمِ بِاسْتِغْرَاقِ الْجُنُونِ جَمِيعَ الشَّهْرِ، وَلَمْ يُوجَدْ. وَأَمَّا جَوَازُ النِّيَّةِ فِي اللَّيْلِ فَبِاعْتِبَارِ أَنَّ اللَّيْلَ جُعِلَ تَابِعًا لِلْيَوْمِ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ ضَرُورَةَ تَعَذُّرِ اقْتِرَانِ النِّيَّةِ بِأَوَّلِ أَجْزَاءِ الصَّوْمِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي مَسْأَلَةِ التَّبْيِيتِ فَأُقِيمَتْ النِّيَّةُ فِي اللَّيْلِ مَقَامَ النِّيَّةِ الْمُقْتَرِنَةِ بِأَوَّلِ الصَّوْمِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. هَذَا هُوَ الْأَصْلُ احْتِرَازٌ عَنْ الشَّرْطِ فَإِنَّ الْحُكْمَ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُودًا وَلِهَذَا أَيْ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ سَبَبٌ لِوُجُوبِ صَوْمِهِ، وَقَدْ مَرَّتْ أَحْكَامُ هَذَا الْقِسْمِ أَيْضًا كَأَحْكَامِ الصَّلَاةِ فِي بَابِ تَقْسِيمِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي حَقِّ الْوَقْتِ. [سَبَبُ وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ] قَوْلُهُ (وَسَبَبُ وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ) رَأْسٌ يُمَوِّنُهُ أَيْ يَقُومُ الْمُكَلَّفُ بِكِفَايَتِهِ وَيَتَحَمَّلُ مُؤْنَتَهُ بِوِلَايَتِهِ أَيْ بِسَبَبِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ مِثْلُ التَّزْوِيجِ وَالْإِجَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. إذْ الْبَاءُ بِمَعْنَى مَعَ، وَمَعْنَى الْوِلَايَةِ تَنْفِيذُ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ الْغَيْرُ أَوْ أَبَى. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الرَّأْسَ بِصِفَةِ الْمُؤْنَةِ وَالْوِلَايَةِ جُعِلَ سَبَبًا لِصَدَقَةِ الْفِطْرِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - السَّبَبُ رَأْسٌ يَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ وَيَعْقُبُهُ كَذَا ذَكَرَ أَبُو الْيُسْرِ. وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْوَقْتُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِدَلِيلِ إضَافَتِهَا إلَيْهِ يُقَالُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَبِدَلِيلِ تَكَرُّرِهَا بِتَكَرُّرِ الْوَقْتِ فِي رَأْسٍ وَاحِدٍ. وَلَكِنَّا نَقُولُ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ رَأْسُهُ وَالصَّدَقَةُ جُعِلَتْ مُؤْنَةً شَرْعِيَّةً، وَالْمُؤْنَةُ الْأَصْلِيَّةُ تَتَعَلَّقُ بِكَوْنِهِ مَالِكَ رَأْسِهِ وَوَلِيَّهُ فَكَذَا الصَّدَقَةُ، وَكَذَا رَأْسُ غَيْرِهِ يَلْتَحِقُ بِرَأْسِهِ بِمُؤْنَةِ الرَّأْسِ بِسَبَبِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْوِلَايَةِ لِيَصِيرَ كَرَأْسِهِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ. فَإِذَا عُدِمَتْ الْوِلَايَةُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ وَالِابْنِ الزَّمِنِ الْبَالِغِ

وَإِنَّمَا نُسِبَتْ إلَى الْفِطْرِ مَجَازًا وَالنِّسْبَةُ تَحْتَمِلُ الِاسْتِعَارَةَ فَأَمَّا تَضَاعُفُ الْوُجُوبِ فَلَا يَحْتَمِلُ الِاسْتِعَارَةَ وَبَيَانُ قَوْلِنَا إنَّ الْإِضَافَةَ تَحْتَمِلُ الِاسْتِعَارَةَ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يُضَافُ إلَى الشَّرْطِ مَجَازًا فَأَمَّا تَضَاعُفُ الْوُجُوبِ فَلَا يَحْتَمِلُ الِاسْتِعَارَةَ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ إنَّمَا يَكُونُ بِسَبَبٍ أَوْ عِلَّةٍ لَا يَكُونُ بِغَيْرِ ذَلِكَ وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الِاسْتِعَارَةُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُعْسِرِ لَمْ يَجِبْ الصَّدَقَةُ عَلَى الزَّوْجِ وَالْأَبِ، وَإِنْ وُجِدَتْ الْمُؤْنَةُ، وَإِذَا عُدِمَتْ الْمُؤْنَةُ بِأَنْ كَانَ لِلصَّغِيرِ مَالٌ حَتَّى وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ فِيهِ لَمْ تَجِبْ صَدَقَتُهُ عَلَى الْأَبِ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَإِنْ وُجِدَتْ الْوِلَايَةُ. قَالَ نَهْجُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا بِالشَّرْعِ وَبِدَلَالَةٍ مِنْ الْمَعْنَى. أَمَّا الشَّرْعُ فَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. قَالَ «أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُونَ» . فَقَدْ اعْتَبَرَ الْمُؤْنَةَ، وَأَمَّا الْوِلَايَةُ فَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا أَوْجَبَ فِي الصِّغَارِ وَالْمَمَالِيكِ فَقَدْ اعْتَبَرَ الْوِلَايَةَ أَيْضًا فَدَلَّ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا.، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْوُجُوبِ رَأْسُ الْإِنْسَانِ، وَإِنَّمَا يَلْحَقُ رَأْسُ غَيْرِهِ بِهِ إذَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا. ثَبَتَ ذَلِكَ أَيْ كَوْنُ الرَّأْسِ سَبَبًا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَذَا. وَبَيَانُهُ أَيْ بَيَانُ ثُبُوتِ كَوْنِ الرَّأْسِ سَبَبًا بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ كَلِمَةَ عَنْ لِانْتِزَاعِ الشَّيْءِ أَيْ لِانْفِصَالِ الشَّيْءِ عَنْ الشَّيْءِ وَتَعَدِّيهِ مِنْهُ يُقَالُ رَمَيْتُ عَنْ الْقَوْسِ، وَأَخَذَتْ عَنْهُ حَدِيثًا أَيْ انْفَصَلَ عَنْهُ إلَيَّ وَبَلَغَنِي عَنْهُ كَذَا أَيْ تَعَدَّى وَتَجَاوَزَ عَنْهُ إلَيَّ وَأَخَذْتُ الدِّرَّةَ عَنْ الْحِقَّةِ أَيْ نَزَعْتُهَا عَنْهَا. فَيَدُلُّ أَيْ حَرْفُ عَنْ أَوْ الْحَدِيثُ. عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ بِالِاسْتِقْرَاءِ. إمَّا أَنْ يَكُونَ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ عَنْ. سَبَبًا يَنْتَزِعُ الْحُكْمُ عَنْهُ أَيْ عَنْ السَّبَبِ كَمَا يُقَالُ أَدِّ الزَّكَاةَ عَنْ مَالِهِ، وَأَدِّ الْخَرَاجَ عَنْ أَرْضِهِ أَيْ بِسَبَبِهِمَا وَيُقَالُ سَمِنَ عَنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ أَيْ بِسَبَبِهِمَا، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات: 9] . إذَا جُعِلَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إلَى قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ أَيْ يَصْدُرُ إفْكُهُمْ عَنْ الْقَوْلِ الْمُخْتَلَفِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَدُّوا الصَّدَقَةَ الْوَاجِبَةَ النَّاشِئَةَ عَنْ كَذَا. أَوْ مَحَلًّا يَجِبُ الْحَقُّ عَلَيْهِ فَيُؤَدَّى عَنْهُ كَالدِّيَةِ تَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ ثُمَّ يَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ عَنْهُ لِاسْتِحَالَةِ الْوُجُوبِ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَصَوَّرْ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ اسْتَحَالَ تَكْلِيفُهُ بِمَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ ذَلِكَ. وَالْكَافِرِ؛ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا. وَالْفَقِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْجِرَابِ خَرَاجٌ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ انْتِزَاعُ الْحُكْمِ عَنْ سَبَبِهِ، وَأَنَّ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ كَلِمَةٌ عَنْ سَبَبٍ. وَذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ فِي مِثْلِيَّةِ وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَنْ عَبْدِهِ الْكَافِرِ أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْعَبْدِ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ وَالْمَوْلَى يَنُوبُ عَنْهُ كَالنَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا قَالَ: «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ» . عُلِمَ أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْعَبْدِ إذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَكَانَ أَدَاءُ الْمَوْلَى عَنْ نَفْسِهِ لَا عَنْ الْعَبْدِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي الزَّكَاةِ أَدِّ عَنْ الشَّاةِ أَوْ أَدِّ عَنْ الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ أَدُّوا مِنْ أَمْوَالِكُمْ. ثُمَّ ذُكِرَ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ أَنَّ الْوُجُوبَ لَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ كَالْبَهِيمَةِ فِي بَابِ الْوِلَايَةِ وَالْمُؤْنَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ السَّبَبُ فِي حَقِّهِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَدُّوا عَنْهُ. عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ فَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إنْسَانٌ مُخَاطَبٌ، وَهَذِهِ صَدَقَةٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا عَلَيْهِ كَالنَّفَقَةِ وَالْمَوْلَى يَنُوبُ عَنْهُ، وَلَكِنْ فِي بَاطِنِ الْمَعْنَى فَلَا وُجُوبَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ اُلْتُحِقَ بِالْبَهِيمَةِ فِيمَا مَلَكَ عَلَيْهِ وَالْأَجْزَاءُ الَّتِي تَحْتَاجُ إلَى النَّفَقَةِ مَمْلُوكَةٌ وَالصَّدَقَةُ كَذَلِكَ تَجِبُ بِسَبَبِ الرَّأْسِ كَالنَّفَقَةِ فَعَلَى اعْتِبَارِ أَصْلِ الْخِلْقَةِ الْوُجُوبُ عَلَى الْعَبْدِ وَعَلَى اعْتِبَارِ الْعَارِضِ عَلَى الْمَوْلَى فَصَحَّتْ الْعِبَارَةُ بِكَلِمَةِ عَنْ إشَارَةً إلَى الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ. وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِكَوْنِ الرَّأْسِ سَبَبًا تَضَاعَفَ وُجُوبُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ بِتَضَاعُفِ الرُّءُوسِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ كَانَ الْوَقْتُ سَبَبًا لَمَا تَضَاعَفَ بِتَعَدُّدِ الرَّأْسِ فَدَلَّ أَنَّ الرَّأْسَ هُوَ السَّبَبُ دُونَ الْوَقْتِ، وَلَكِنَّ الْوَقْتَ شَرْطُهُ. حَتَّى لَا يُعْمَلَ السَّبَبُ أَيْ لَا يَجِبَ الْأَدَاءُ إلَّا بِهَذَا الشَّرْطِ، وَهُوَ الْوَقْتُ كَالنِّصَابِ لَا يَظْهَرُ عَمَلُهُ فِي إيجَابِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ إلَّا عِنْدَ مُضِيِّ الْحَوْلِ. قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا نُسِبَتْ إلَى الْفِطْرِ) جَوَابٌ عَمَّا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ إضَافَتَهَا إلَى الْوَقْتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَبَبٌ فَقَالَ إنَّمَا نُسِبَتْ إلَى الْفِطْرِ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ زَمَانُ الْوُجُوبِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ سَبَبًا.، وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهَا عَلَى الْمَجَازِ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ تَحْتَمِلُ الْمَجَازَ

وَكَذَلِكَ وَصْفُ الْمُؤْنَةِ يُرَجِّحُ الرَّأْسَ فِي كَوْنِهِ سَبَبًا، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ فِيهِ فِي مَوْضِعِهِ. وَسَبَبُ وُجُوبِ الْحَجِّ الْبَيْتُ؛ لِأَنَّهُ يُنْسَبُ إلَيْهِ وَلَمْ يَتَكَرَّرْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] ، وَأَمَّا الْوَقْتُ فَهُوَ شَرْطُ الْأَدَاءِ بِدَلَالَةِ أَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ غَيْرَ أَنَّ الْأَدَاءَ شُرِعَ مُتَفَرِّقًا مُنْقَسِمًا عَلَى أَمْكِنَةٍ وَأَزْمِنَةٍ يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا جُمْلَةُ وَقْتِ الْحَجِّ فَلَمْ يَصْلُحْ تَغَيُّرُ التَّرْتِيبِ كَمَا لَا يَصْلُحُ السُّجُودُ قَبْلَ الرُّكُوعِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ طَوَافُ الزِّيَارَةِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ وَالْوُقُوفُ قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَأَمَّا الِاسْتِطَاعَةُ بِالْمَالِ فَشَرْطٌ لَا سَبَبٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ، وَلَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ وَيَصِحُّ الْأَدَاءُ دُونَهُ مِنْ الْفَقْرِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ فَلَا يَصْلُحُ الْمَالُ سَبَبًا لَهَا، وَلَكِنَّهَا عِبَادَةُ هِجْرَةٍ وَزِيَادَةٍ فَكَانَ الْبَيْتُ سَبَبًا لَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــQفَإِنَّ الشَّيْءَ قَدْ يُضَافُ إلَى الشَّيْءِ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ وَأُضِيفَتْ الْحُجَّةُ إلَى الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ شَرْطُهَا فَقِيلَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ وَيُقَالُ بَنُو فُلَانٍ لِنَوَافِلِهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ فَأَمَّا تَضَاعُفُ الْوُجُوبِ بِتَضَاعُفِ الرُّءُوسِ فَأَمْرٌ حَقِيقِيٌّ لَا يَقْبَلُ الِاسْتِعَارَةَ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَوْصَافِ اللَّفْظِ، وَهَذَا لَيْسَ بِلَفْظٍ فَكَانَ التَّضَاعُفُ بِمَنْزِلَةِ الْمُحَكَّمِ فِي كَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَى السَّبَبِيَّةِ فَإِنَّ الْحُكْمَ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَتَكَرَّرَ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ بِوَجْهٍ.، وَإِنَّمَا يَكُونُ أَيْ الْوُجُوبُ بِسَبَبٍ أَوْ عِلَّةٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ فَلِذَلِكَ جَعَلْنَا الرَّأْسَ سَبَبًا وَالْوَقْتَ شَرْطَهَا فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ يَتَكَرَّرُ هَذَا الْوَاجِبُ بِتَكَرُّرِ الْوَقْتِ مَعَ اتِّحَادِ السَّبَبِ؟ . قُلْنَا لَمْ يَتَكَرَّرْ بِتَكَرُّرِ الْوَقْتِ بَلْ بِتَكَرُّرِ الْحَاجَةِ وَالْمُؤْنَةُ أَبَدًا يَتَكَرَّرُ وُجُوبُهَا بِتَكَرُّرِ الْحَاجَةِ فَالشَّرْعُ جَعَلَ يَوْمَ الْفِطْرِ وَقْتَ الْحَاجَةِ فَإِذَا جَاءَ يَوْمُ الْفِطْرِ تَجَدَّدَتْ الْحَاجَةُ فَتَجَدَّدَ الْوُجُوبُ لِأَجْلِهِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ أَنَّ الْإِضَافَةَ قَدْ تَحَقَّقَتْ إلَى الرَّأْسِ وَالْوَقْتِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَظٌّ مِنْ الْوُجُوبِ بِحُكْمِ الْإِضَافَةِ وَذَلِكَ إذَا جَعَلْنَا الرَّأْسَ سَبَبًا وَالْوَقْتُ زَمَانُ الْوُجُوبِ فَيَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اتِّصَالٌ بِالْوُجُوبِ لِأَحَدِهِمَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَبَبٌ وَلِلْآخَرِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ شَرْطٌ فَأَمَّا إذَا جَعَلْنَا الْفِطْرَ سَبَبًا فَلَا يَبْقَى لِلرَّأْسِ اتِّصَالٌ بِالْوَاجِبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ شَيْءٌ لِيَجْعَلَ الرَّأْسَ شَرْطًا بِاعْتِبَارِ الْمَحَلِّيَّةِ بَلْ يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى لِأَجْلِهِ فَإِذَا أُضِيفَتْ إلَى رَأْسِ الْعَبْدِ فَأَيُّ اتِّصَالٍ يَبْقَى لَهُ بِالْوَاجِبِ فَلَا وَجْهَ لِهَذَا فَثَبَتَ أَنَّ الرَّأْسَ سَبَبٌ (فَإِنْ قِيلَ) نَجْعَلُ الرَّأْسَ شَرْطًا مِنْ حَيْثُ الْوُجُوبُ عَلَى الْمَوْلَى لَا مِنْ حَيْثُ الْوُجُوبُ عَلَى الْعَبْدِ كَمَا جَعَلْتُمْ الْوَقْتَ شَرْطًا لِلْوُجُوبِ عَلَى الْمَوْلَى بِسَبَبِ الرَّأْسِ (قُلْنَا) حِينَئِذٍ لَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ، وَهُوَ الرَّأْسُ، وَإِنَّمَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ السَّبَبِ، وَإِنْ اتَّحَدَ الشَّرْطُ، وَقَدْ تَكَرَّرَ بِتَكَرُّرِ الرَّأْسِ بِالِاتِّفَاقِ فَدَلَّ أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الرَّأْسُ، وَالْوَقْتُ شَرْطُ الْوُجُوبِ كَوَقْتِ الْحَجِّ. وَكَذَلِكَ وَصْفُ الْمُؤْنَةِ يُرَجِّحُ الرَّأْسَ فِي كَوْنِهِ سَبَبًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ وَجَبَتْ وُجُوبَ الْمُؤَنِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَجْرَاهَا مَجْرَى الْمُؤَنِ فِي قَوْلِهِ «أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُونَ» . أَيْ تَحَمَّلُوا هَذِهِ الْمُؤْنَةَ عَمَّنْ وَجَبَ عَلَيْكُمْ مُؤْنَتُهُمْ. وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الْمُؤَنِ رَأْسٌ يَلِي عَلَيْهِ لَا الْوَقْتُ فَإِنَّ نَفَقَةَ الْعَبِيدِ وَالدَّوَابِّ تَجِبُ بِالرَّأْسِ لَا بِالْوَقْتِ إذْ الرَّأْسُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى الْمُؤْنَةِ دُونَ الْوَقْتِ، وَكَذَلِكَ مُؤْنَةُ الشَّيْءِ سَبَبٌ لِبَقَائِهِ وَذَلِكَ يُتَصَوَّرُ فِي الرَّأْسِ دُونَ الْوَقْتِ فَكَانَ الرَّأْسُ سَبَبَ الْوُجُوبِ كَمَا هُوَ سَبَبُ وُجُوبِ النَّفَقَةِ، وَالْفِطْرُ عَنْ رَمَضَانَ شَرْطُهُ كَالْإِقَامَةِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ وَالْمُرَادُ بِالْفِطْرِ الْيَوْمُ لَا الْفِطْرُ عَنْ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ يَكُونُ كُلَّ لَيْلَةٍ فَيَكُونُ الْمُرَادُ فِطْرًا مَخْصُوصًا، وَهُوَ الْفِطْرُ فِي وَقْتِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ يَتَّصِفُ بِهِمَا وَاللَّيْلُ لَا يَتَّصِفُ بِالصَّوْمِ شَرْعًا وَالْفِطْرُ بِنَاءً عَلَيْهِ فَكَانَ الْيَوْمُ وَقْتًا لَهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ مِنْهُ أَيْ مِنْ هَذَا الْوَاجِبِ فِي مَوْضِعِهِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ فِي نُسْخَةٍ مِنْ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ الَّتِي صَنَّفَهَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَحْتَاجُ إلَى صِيَانَةِ دِينِهِ، وَإِصْلَاحِهِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَى صِيَانَةِ نَفْسِهِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ الصَّدَقَةُ مُؤْنَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَجَبَتْ لِإِصْلَاحِ عِبَادَةِ الصَّوْمِ حَيْثُ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «صَدَقَةُ الْفِطْرِ طُهْرَةٌ لِلصَّائِمِ عَنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ» . وَالنَّفَقَةُ لِإِصْلَاحِ الْبَدَنِ وَالْعَبْدُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِمَا جَمِيعًا فَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ فِيهَا. وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَضْلِ الْكَرْمَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي إشَارَاتِ الْأَسْرَارِ أَنَّ السَّبَبَ رَأْسٌ يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «صَدَقَةُ الْفِطْرِ طُهْرَةٌ لِلصَّائِمِينَ وَطُعْمَةٌ لِلْمَسَاكِينِ» فَقَوْلُهُ طُهْرَةٌ إشَارَةٌ إلَى مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَقَوْلُهُ طُعْمَةٌ إشَارَةٌ إلَى مَعْنَى الْمُؤْنَةِ فَكَانَتْ الصَّدَقَةُ مُشْتَمِلَةً عَلَى الْوَصْفَيْنِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْمُؤْنَةِ فَتَعَلَّقَتْ بِرَأْسٍ يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ مِنْ بَابِ الْعِبَادَةِ وَالْمُؤْنَةَ مِنْ بَابِ الْغَرَامَةِ لِيَكُونَ

[سبب وجوب الحج]

وَسَبَبُ وُجُوبِ الْعُشْرِ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِحَقِيقَةِ الْخَارِجِ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ يُنْسَبُ إلَى الْأَرْضِ، وَفِي الْعُشْرِ مَعْنَى مُؤْنَةِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهَا أَصْلٌ، وَفِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ لِلسَّبَبِ وَصْفٌ وَصَارَ السَّبَبُ بِتَجَدُّدِ وَصْفِهِ مُتَجَدِّدًا فِي التَّقْدِيرِ فَلَمْ يَجُزْ التَّعْجِيلُ قَبْلَ الْخَارِجِ؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ بِمَعْنَى السَّبَبِ لِوَصْفِ الْعِبَادَةِ فَلَوْ صَحَّ التَّعْجِيلُ لَخَلُصَ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ فَلَمَّا صَارَتْ الْأَرْضُ نَامِيَةً أَشْبَهَ تَعْجِيلَ زَكَاةِ السَّائِمَةِ وَالْإِبِلِ الْعَلُوفَةِ ثُمَّ أَسَامَهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْحُكْمُ عَلَى وِفَاقِ السَّبَبِ وَلِهَذَا تُضَافُ إلَى الرَّأْسِ فَيُقَالُ زَكَاةُ الرَّأْسِ وَتُضَافُ إلَى الْوَقْتِ أَيْضًا فَيُقَالُ زَكَاةُ الْفِطْرِ وَالْمُرَادُ بِهِ وَقْتُهُ فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ إلَى الرَّأْسِ إضَافَةَ الْأَحْكَامِ إلَى أَسْبَابِهَا، وَالْإِضَافَةُ إلَى الْوَقْتِ عَلَى سَبِيلِ الشَّرْطِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ ظَرْفٌ إذْ لَوْ قُلْت الْوَقْتُ سَبَبٌ لَكَانَتْ الْإِضَافَةُ إلَى الرَّأْسِ لَغْوًا. قَالَ وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو نَصْرٍ الزَّوْزَنِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّ السَّبَبَ كِلَاهُمَا الرَّأْسُ وَالْوَقْتُ فَكَانَ حُكْمًا مُعَلَّقًا بِعِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ ثُمَّ قَالَ وَالْمَسَائِلُ تَسْتَغْنِي عَنْ هَذَا الْأَصْلِ. [سَبَبُ وُجُوبِ الْحَجِّ] قَوْلُهُ (وَسَبَبُ وُجُوبِ الْحَجِّ الْبَيْتُ) دُونَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ نُسِبَ إلَيْهِ، وَلَوْ يَتَكَرَّرُ أَيْ لَمْ يَجِبْ إلَّا مَرَّةً؛ لِأَنَّ السَّبَبَ، وَهُوَ الْبَيْتُ غَيْرُ مُتَجَدِّدٍ. قَالَ أَبُو الْيُسْرِ إنَّ لِلْبَيْتِ حُرْمَةً شَرْعًا فَيَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ سَبَبًا لِزِيَارَتِهِ شَرْعًا فَإِنَّ الْمَكَانَ الْمُحْتَرَمَ قَدْ يُزَارُ تَعْظِيمًا لَهُ وَاحْتِرَامًا إلَّا أَنَّ احْتِرَامَهُ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ زِيَارَتُهُ تَعْظِيمًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا لَهُ؛ وَلِأَنَّ هَذَا الْبَيْتَ لِحُرْمَتِهِ أَمَانٌ لِلْخَلْقِ فَكَانَ نِعْمَةً فِي نَفْسِهِ فَصَارَ سَبَبًا لِكَوْنِهِ نِعْمَةً.، وَأَمَّا الْوَقْتُ فَهُوَ شَرْطُ الْأَدَاءِ أَيْ شَرْطُ جَوَازِ الْأَدَاءِ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْأَدَاءِ بِدُونِهِ، وَلَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْوُجُوبِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ، وَلَمْ يُنْسَبْ إلَيْهِ أَيْضًا. وَتَوَقُّفُ صِحَّةِ الْأَدَاءِ عَلَيْهِ مَعَ انْتِفَاءِ التَّكَرُّرِ بِتَكَرُّرِهِ دَلِيلُ الشَّرْطِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّ الْأَدَاءَ أَيْ لَكِنَّ الْأَدَاءَ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: وَقْتُ الْحَجِّ أَشْهُرُ الْحَجِّ، وَهِيَ شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَالْأَدَاءُ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَوَّلِ شَوَّالٍ فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّهُ شَرْطُ الْأَدَاءِ فَعُلِمَ أَنَّهُ سَبَبُ الْوُجُوبِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لَهُ لَمْ يَكُنْ إضَافَةُ الْوَقْتِ إلَيْهِ مُفِيدَةً، وَقَدْ يُقَالُ أَشْهُرُ الْحَجِّ كَمَا يُقَالُ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَدَلَّ أَنَّهُ سَبَبٌ. فَقَالَ: الْوَقْتُ شَرْطُ الْأَدَاءِ كَمَا ذَكَرْنَا وَيَجُوزُ الْأَدَاءُ بَعْدَ دُخُولِهِ لَكِنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ ذَاتُ أَرْكَانٍ شُرِعَ أَدَاؤُهَا مُتَفَرِّقًا مُنْقَسِمًا عَلَى أَمْكِنَةٍ، وَأَزْمِنَةٍ وَاخْتُصَّ كُلُّ رُكْنٍ بِوَقْتٍ عَلَى حِدَةٍ كَمَا اُخْتُصَّ بِمَكَانٍ مَخْصُوصٍ فَلَمْ يَجُزْ قَبْلَ وَقْتِهِ الْخَاصِّ كَمَا لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ مَكَانِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ طَوَافُ الزِّيَارَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ مَعَ أَنَّهُ وَقْتُ أَدَاءِ الرُّكْنِ الْأَعْظَمِ، وَهُوَ الْوُقُوفُ، وَلَمْ يَجُزْ رَمْيُ الْيَوْمِ الثَّانِي فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَلَا قَبْلَ الزَّوَالِ حَتَّى أَنَّ مَا كَانَ مِنْهَا غَيْرَ مُوَقَّتٍ بِوَقْتٍ خَاصٍّ يَتَأَدَّى فِي جَمِيعِ وَقْتِ الْحَجِّ كَالسَّعْيِ فَإِنَّ مَنْ طَافَ وَسَعَى فِي رَمَضَانَ لَمْ يَكُنْ سَعْيُهُ مُعْتَدًّا بِهِ مِنْ سَعْيِ الْحَجِّ حَتَّى إذَا طَافَ لِلزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ يَلْزَمُهُ السَّعْيُ، وَلَوْ كَانَ طَافَ وَسَعَى فِي شَوَّالٍ كَانَ سَعْيُهُ مُعْتَدًّا بِهِ حَتَّى لَمْ يَلْزَمْهُ إعَادَتُهُ يَوْمَ النَّحْرِ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ غَيْرُ مُوَقَّتٍ بِوَقْتٍ خَاصٍّ فَجَازَ أَدَاؤُهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَأَمَّا الِاسْتِطَاعَةُ بِالْمَالِ فَشَرْطٌ أَيْ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ لَا لِجَوَازِهِ فَإِنَّ الْأَدَاءَ صَحِيحٌ مِنْ الْفَقِيرِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، وَلَكِنَّهَا شَرْطُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ فَإِنَّ السَّفَرَ الَّذِي يُوَصِّلُهُ إلَى الْأَدَاءِ لَا يَتَهَيَّأُ لَهُ بِدُونِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ إلَّا بِحَرَجٍ عَظِيمٍ، وَهُوَ مَدْفُوعٌ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَالَ شَرْطُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ لَا أَنَّهُ سَبَبٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ تَفْسِيرَ الِاسْتِطَاعَةِ مِلْكُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَالْأَدَاءُ قَبْلَ مِلْكِهِمَا جَائِزٌ كَمَا ذَكَرْنَا لِوُجُودِ السَّبَبِ كَمَا يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَصُومَ قَبْلَ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ وُجِدَ، وَكَذَلِكَ لَا يَتَجَدَّدُ الْوُجُوبُ بِتَجَدُّدِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَلَا يُضَافُ إلَيْهَا كَمَا لَا يُضَافُ إلَى الْوَقْتِ، وَلَا يَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِهِ فَعُلِمَ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ شَرْطٌ كَالْوَقْتِ فَصَارَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ الْمُسْتَطِيعِينَ حَجُّ الْبَيْتِ حَقًّا وَاجِبًا بِسَبَبِهِ إذَا جَاءَ وَقْتُ الْأَدَاءِ كَذَا فِي التَّقْوِيمِ. [سَبَبُ وُجُوبِ الْعُشْرِ] قَوْلُهُ (وَسَبَبُ وُجُوبِ الْعُشْرِ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِحَقِيقَةِ الْخَارِجِ) الْبَاءُ يَتَعَلَّقُ بِالنَّامِيَةِ، وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ الْخَرَاجِ فَإِنَّ سَبَبَهُ الْأَرْضُ بِالنَّمَاءِ التَّقْدِيرِيِّ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْخَارِجُ سَبَبُ وُجُوبِ الْعُشْرِ، وَالْأَرْضُ سَبَبُ وُجُوبِ الْخَرَاجِ حَتَّى أَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ إنْ كَانَتْ الْأَرْضُ خَرَاجِيَّةً؛ لِأَنَّ

[سبب الخراج]

وَكَذَلِكَ سَبَبُ الْخَرَاجِ إلَّا أَنَّ النَّمَاءَ مُعْتَبَرٌ فِي الْخَرَاجِ تَقْدِيرًا لَا تَحْقِيقًا بِالتَّمَكُّنِ بِهِ مِنْ الزِّرَاعَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعُشْرَ يَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ وَيَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُهُ، وَلَوْ كَانَ الْأَرْضُ هِيَ السَّبَبُ لَجَازَ تَعْجِيلُهُ كَالْخَرَاجِ، وَكَالزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ. وَلَنَا أَنَّهُ يُنْسَبُ إلَى الْأَرْضِ يُقَالُ عُشْرُ الْأَرَاضِيِ، وَالْأَرْضُ تُوصَفُ بِهِ فَيُقَالُ أَرْضٌ عُشْرِيَّةٌ، وَالشَّيْءُ يُضَافُ إلَى سَبَبِهِ فِي الْأَصْلِ، وَيَتَّصِفُ السَّبَبُ بِحُكْمِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا حَقٌّ مَالِيٌّ وَجَبَ لِلَّهِ تَعَالَى فَكَانَ سَبَبُهُ مَالًا نَامِيًا، وَالْخَارِجُ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِصِفَةِ النَّمَاءِ بَلْ مُعَدٌّ لِلِانْتِفَاعِ وَالْإِتْلَافُ إنَّمَا الْأَرْضُ هِيَ الْمَوْصُوفَةُ بِهِ إلَّا أَنَّ نَمَاءَ الْأَرْضِ عَلَى وَجْهَيْنِ نَمَاءٌ حَقِيقِيٌّ، وَهُوَ الْخَارِجُ وَنَمَاءٌ حُكْمِيٌّ، وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ وَالزِّرَاعَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِوُجُوبِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا تَارَةً تَجِبُ بِنَمَاءٍ حَقِيقِيٍّ، وَهُوَ نَمَاءُ الْإِسَامَةِ مِنْ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَتَارَةً تَجِبُ بِالنَّمَاءِ الْحُكْمِيِّ، وَهُوَ كَوْنُ الْمَالِ مُعَدًّا لِلتِّجَارَةِ فَالْعُشْرُ يَتَعَلَّقُ بِالنَّمَاءِ الْحَقِيقِيِّ؛ لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِجُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ فَلَا يُمْكِنُ أَدَاؤُهُ إلَّا بَعْدَ تَحَقُّقِ الْخَارِجِ، وَالْخَرَاجُ مُقَدَّرٌ بِالدِّرْهَمِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِالنَّمَاءِ الْحُكْمِيِّ. وَفِي الْعُشْرِ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ أَيْ وُجُوبُ الْعُشْرِ مَعْنَى مُؤْنَةِ الْأَرَاضِي؛ لِأَنَّهَا أَيْ الْأَرَاضِيَ أَصْلٌ فِي وُجُوبِهِ يَعْنِي إذَا وَجَبَ الْعُشْرُ يَجِبُ مُؤْنَةً لِلْأَرْضِ حَتَّى لَا يُشْتَرَطَ فِيهِ الْأَهْلِيَّةُ الْكَامِلَةُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِبَقَاءِ الْعَالَمِ إلَى الْحِينِ الْمَوْعُودِ، وَسَبَبُ بَقَائِهِ هُوَ الْأَرْضُ فَإِنَّ الْقُوتَ مِنْهَا يَخْرُجُ فَوَجَبَ الْعُشْرُ، وَالْخَرَاجُ عِمَارَةٌ لَهَا وَنَفَقَةٌ عَلَيْهَا كَمَا وَجَبَ عَلَى الْمُلَّاكِ مُؤْنَةُ عَبِيدِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ وَعِمَارَةُ دُورِهِمْ وَعِمَارَةُ الْأَرَاضِي وَبَقَاؤُهَا بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ يَذُبُّونَ عَنْ الدَّارِ وَيَصُونُونَهَا عَنْ الْأَعْدَاءِ فَوَجَبَ الْخَرَاجُ لِلْمُقَاتِلَةِ كِفَايَةً لَهُمْ لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ إقَامَةِ النُّصْرَةِ. وَالْعُشْرُ لِلْمُحْتَاجَيْنِ كِفَايَةٌ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ هُمْ الذَّابُّونَ عَنْ حَرِيمِ الْإِسْلَامِ مَعْنًى كَمَا «قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَوْمَ بَدْرٍ: إنَّكُمْ تُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ» . فَكَانَ الصَّرْفُ إلَيْهِمْ صَرْفًا إلَى الْأَرْضِ وَإِنْفَاقًا عَلَيْهَا فَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ فِيهِ. وَفِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ أَيْضًا بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْوَاجِبِ جُزْءًا مِنْ النَّمَاءِ قَلِيلًا مِنْ كَثِيرٍ كَالزَّكَاةِ تَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ النَّامِي بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَاشْتَمَلَ عَلَى مَعْنَى الْمُؤْنَةِ وَالْعِبَادَةِ، وَلَمَّا كَانَتْ الْأَرْضُ الَّتِي هِيَ سَبَبٌ لِوُجُوبِهِ أَصْلًا وَالنَّمَاءُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَصْفًا لَهَا كَانَ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ فِيهِ أَصْلًا، وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهِ تَبَعًا، وَقَوْلُهُ: وَصَارَ السَّبَبُ بِتَجَدُّدِ وَصْفِهِ مُتَجَدِّدًا جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِ الْخَصْمِ يَعْنِي تَكَرُّرَ الْوَاجِبِ عِنْدَ تَكَرُّرِ الْخَارِجِ بِاعْتِبَارِ تَجَدُّدِ الْأَرْضِ بِهِ تَقْدِيرًا لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْخَارِجَ سَبَبٌ كَمَا قُلْنَا فِي النِّصَابِ الْوَاحِدِ بِتَكَرُّرِ الْحَوْلِ وَالرَّأْسِ الْوَاحِدِ بِتَجَدُّدِ الْفِطْرِ، وَلَا يَتَكَرَّرُ الْخَرَاجُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ النَّمَاءَ التَّقْدِيرِيَّ غَيْرُ مُتَكَرِّرٍ. وَلَمْ يَجُزْ التَّعْجِيلُ أَيْ تَعْجِيلُ الْعُشْرِ قَبْلَ الْخَارِجِ؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ لَمَّا جُعِلَ بِمَعْنَى السَّبَبِ لِوَصْفِ الْعِبَادَةِ فِي الْعُشْرِ كَانَ التَّعْجِيلُ قَبْلَ الْخَارِجِ مُفَوِّتًا لِمَعْنَى الْعِبَادَةِ عَنْهُ، وَمُبْطِلًا لَهُ لِاسْتِحَالَةِ حُصُولِ الْمُسَبَّبِ قَبْلَ السَّبَبِ، وَإِذَا بَطَلَ مَعْنَى الْعِبَادَةِ عَنْهُ بَقِيَ مُؤْنَةً خَالِصَةً مُتَعَلِّقَةً بِالْأَرْضِ وَحْدَهَا، وَهَذَا تَغْيِيرٌ لَهُ فَلَا يَجُوزُ فَصَارَ تَعْجِيلُ الْعُشْرِ قَبْلَ الْخَارِجِ كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ فِي الْإِبِلِ الْحَوَامِلِ وَالْعَلُوفَةِ قَبْلَ الْإِسَامَةِ بِخِلَافِ الْخَرَاجِ فَإِنَّ تَعْجِيلَهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مُؤْنَةٌ مَحْضَةٌ، وَلَا يُؤَدِّي التَّعْجِيلُ فِيهِ إلَى تَغْيِيرٍ كَمَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ بَعْدَ مِلْكِ النِّصَابِ النَّامِي؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى التَّغْيِيرِ. [سَبَبُ الْخَرَاجِ] قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ سَبَبُ الْخَرَاجِ) أَيْ، وَكَمَا أَنَّ سَبَبَ

[سبب وجوب الطهارة]

فَصَارَ مُؤْنَةً بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَعُقُوبَةً بِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ؛ لِأَنَّ الزِّرَاعَةَ عِمَارَةُ الدُّنْيَا، وَإِعْرَاضٌ عَنْ الْجِهَادِ فَكَانَ سَبَبًا لِضَرْبٍ مِنْ الْمَذَلَّةِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَجْتَمِعَا عِنْدَنَا. وَسَبَبُ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهَا تُنْسَبُ إلَيْهَا ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعُشْرِ الْأَرْضُ فَإِنَّ سَبَبَ الْخَرَاجِ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ أَيْضًا لَكِنَّ النَّمَاءَ مُعْتَبَرٌ فِي الْخَرَاجِ تَقْدِيرًا لَا تَحْقِيقًا بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الزِّرَاعَةِ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْوَاجِبَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْخَارِجِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِحَقِيقَةِ الْخَارِجِ وَعُلِّقَ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الزِّرَاعَةِ لِئَلَّا يَتَعَطَّلَ حَقُّ الْمُقَاتِلَةِ. فَصَارَ مُؤْنَةً بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ أَيْ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهِ بِأَصْلِ الْأَرْضِ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْعُشْرِ، وَعُقُوبَةً بِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ، وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ طَلَبِ النَّمَاءِ بِالزِّرَاعَةِ؛ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالزِّرَاعَةِ عِمَارَةُ الدُّنْيَا، وَإِعْرَاضٌ عَنْ الْجِهَادِ فَيَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمَذَلَّةِ الَّتِي هِيَ نَوْعُ عُقُوبَةٍ؛ لِأَنَّ عِمَارَةَ الْأَرْضِ مِنْ صَنِيعِ الْكُفَّارِ وَعَادَتِهِمْ، وَقَدْ ذَمَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ: {وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم: 9] . وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَاتَّبَعْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ ذَلَلْتُمْ وَظَهَرَ عَلَيْكُمْ عَدُوُّكُمْ» «وَرَأَى النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شَيْئًا مِنْ آلَاتِ الزِّرَاعَةِ فِي بَيْتٍ فَقَالَ مَا دَخَلَ هَذَا بَيْتَ قَوْمٍ إلَّا ذَلُّوا» وَلِهَذَا كَانَ أَصْلُ الْخَرَاجِ عَلَى الْكَافِرِ حَيْثُ لَمْ يَقْبَلْ الْإِسْلَامَ وَاشْتَغَلَ بِعِمَارَةِ الدُّنْيَا فَوُضِعَ عَلَيْهِمْ الْخَرَاجُ لِضَرْبٍ مِنْ الْمَذَلَّةِ كَمَا وُضِعَتْ الْجِزْيَةُ عَلَى رُءُوسِهِمْ لِذَلِكَ، وَالْخَرَاجُ فِي الْأَرَاضِيِ أَصْلٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ نَقَلَ عَنْهُ إلَى الْعُشْرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، وَأَوْجَبَ الصَّرْفَ إلَى مَصَارِفِ الزَّكَاةِ لِيَتَّصِلَ بِهِ نَوْعُ عِبَادَةٍ تَكْرِمَةً لِلْمُسْلِمِينَ؛ وَلِهَذَا لَا يُبْتَدَأُ الْخَرَاجُ عَلَى الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَوْعَ صَغَارٍ، وَمَذَلَّةٍ وَجَازَ الْبَقَاءُ بِاعْتِبَارِ الْمُؤْنَةِ. وَلَا يُقَالُ بِأَنَّ وُجُودَ الْخَارِجِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الزِّرَاعَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَجِبُ الْعُشْرُ؛ لِأَنَّهُ اُعْتُبِرَ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْعُشْرِ اكْتِسَابُ الْمَالِ فَقَطْ كَاكْتِسَابِ مَالٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ عِمَارَةَ الدُّنْيَا وَالِاشْتِغَالَ بِهَا فِي حَقِّ الْكُفَّارِ أَصْلٌ، وَفِي حَقَّ الْمُسْلِمِ عَارِضٌ فَلَا يُعْتَبَرُ الْعَارِضُ فِي جَعْلِ الْعُشْرِ عُقُوبَةً.؛ وَلِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالزِّرَاعَةِ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْ الدِّينِ وَالْجِهَادِ سَبَبٌ لِلْمَذَلَّةِ لَا نَفْسَ الزِّرَاعَةِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اُطْلُبُوا الرِّزْقَ فِي خَبَايَا الْأَرْضِ» .، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِعْرَاضُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَكَانَتْ اكْتِسَابًا؛ وَلِأَنَّ مَعْنَى الزِّرَاعَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْعُشْرِ حَتَّى وَجَبَ الْعُشْرُ إنْ خَرَجَ مِنْ الْأَرْضِ شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُزْرَعَ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجْتَمِعَا عِنْدَنَا أَيْ؛ وَلِأَنَّ سَبَبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْأَرْضُ النَّامِيَةُ لَا يَجْتَمِعُ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ وُجُوبًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُؤْنَةٌ، وَفِي الْعُشْرِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَفِي الْخَرَاجِ مَعْنَى الْمَذَلَّةِ وَالْعُقُوبَةِ وَبِسَبَبٍ وَاحِدٍ لَا يَجِبُ حُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ. وَقَوْلُهُمْ: مَحَلُّ كُلِّ وَاحِدٍ مُخْتَلِفٌ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ قَدْ يَكُونُ مُتَّحِدًا أَيْضًا إذْ الْخَرَاجُ قَدْ يَكُونُ مُقَاسَمَةً، وَقَدْ رَوَى الْإِمْلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَجْتَمِعُ فِي أَرْضِ مُسْلِمٍ عُشْرٌ وَخَرَاجٌ» . وَكَذَلِكَ أَئِمَّةُ الْعَدْلِ وَالْجَوْرِ لَمْ يَشْتَغِلُوا بِذَلِكَ مَعَ كَثْرَةِ احْتِيَالِهِمْ لِأَخْذِ الْمَالِ. [سَبَبُ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ] قَوْلُهُ (وَسَبَبُ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ الصَّلَاةُ) اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ فَقِيلَ سَبَبُهُ الْحَدَثُ لَا الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَا وُضُوءَ إلَّا عَنْ حَدَثٍ. وَحَرْفُ عَنْ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ يَدُلُّ عَلَى السَّبَبِيَّةِ كَمَا قُلْنَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُونَ» .؛ وَلِأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْحَدَثِ وَتَكَرُّرُ الصَّلَاةِ بِتَكَرُّرِ الْوَقْتِ، وَلَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مَتَى قَامَ إلَى الصَّلَاةِ، وَهُوَ طَاهِرٌ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ فَعَلِمْنَا أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْحَدَثُ.، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْوُضُوءِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ سَبَبًا لَهُ؛ لِأَنَّا إنَّمَا جَعَلْنَاهُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْوُضُوءِ لَا لِحُصُولِهِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ وُجُوبِهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ الصَّلَاةُ أَعْنِي وُجُوبَ الصَّلَاةِ أَوْ إرَادَةَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا أَيْ الطَّهَارَةَ تُضَافُ

[سبب الكفارات]

وَتَقُومُ بِهَا، وَهُوَ شَرْطُهَا فَتَعَلَّقَ بِهَا حَتَّى لَمْ يَجِبْ قَصْدًا لَكِنْ عِنْدَ إرَادَةِ الصَّلَاةِ وَالْحَدَثِ شَرْطُهُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ، وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُجْعَلَ الْحَدَثُ سَبَبًا أَلَا يُرَى أَنَّهُ إزَالَةٌ لَهُ وَتَبْدِيلٌ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لَهُ، وَأَمَّا أَسْبَابُ الْحُدُودِ وَالْعُقُوبَاتِ فَمَا نُسِبَ إلَيْهِ مِنْ قَتْلٍ وَزِنًا وَسَرِقَةٍ. وَسَبَبُ الْكَفَّارَاتِ مَا نُسِبَ إلَيْهِ مِنْ أَمْرٍ دَائِرٍ بَيْنَ حَظْرٍ، وَإِبَاحَةٍ مِثْلُ الْفِطْرِ، وَقَتْلِ الْخَاطِئِ وَقَتْلِ الصَّيْدِ ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَى الصَّلَاةِ شَرْعًا وَعُرْفًا يُقَالُ طَهَارَةُ الصَّلَاةِ وَتَطَهَّرْ لِلصَّلَاةِ وَالْإِضَافَةُ دَلِيلُ السَّبَبِيَّةِ فِي الْأَصْلِ. وَتَقُومُ بِهَا أَيْ تَثْبُتُ الطَّهَارَةُ بِالصَّلَاةِ حَتَّى وَجَبَتْ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَسَقَطَتْ بِسُقُوطِهَا، وَهَذَا التَّعَلُّقُ دَلِيلُ السَّبَبِيَّةِ أَيْضًا، وَهِيَ أَيْ الطَّهَارَةُ شَرْطُ الصَّلَاةِ، وَمَا يَكُونُ شَرْطًا لِلشَّيْءِ كَانَ وُجُوبُهُ بِوُجُوبِ الْأَصْلِ كَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَطَهَارَةِ الثَّوْبِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ وُجُوبَهَا مُتَعَلِّقٌ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ، وَكَالشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ ثُبُوتُهَا بِثُبُوتِ النِّكَاحِ.، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ تَبَعٌ لِلْمَشْرُوطِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ فَلَوْ تَعَلَّقَ بِسَبَبٍ آخَرَ كَانَ تَبَعًا لَهُ فَلَا يَبْقَى تَبَعًا لِلْمَشْرُوطِ. وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ وُجُوبَ الْوُضُوءِ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْحَدَثِ بَلْ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّ الْحَدَثَ شَرْطُ وُجُوبِهِ كَالِاسْتِطَاعَةِ فِي الْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ تَحْصِيلُ صِفَةِ الطَّهَارَةِ لِحِلِّ الصَّلَاةِ فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ حَاصِلَةً لَا يُؤَثِّرُ السَّبَبُ فِي إيجَابِهِ كَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَطَهَارَةِ الثَّوْبِ إذَا كَانَتْ حَاصِلَةً لَا يَجِبُ تَحْصِيلُهَا، وَإِنْ وُجِدَ السَّبَبُ فَكَذَا هَاهُنَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ لَيْسَ بِسَبَبٍ أَنَّ الْوُضُوءَ عَلَى الْوُضُوءِ مَشْرُوعٌ حَتَّى كَانَ نُورًا عَلَى نُورٍ وَبَعْدَ تَحَقُّقِ الْحَدَثِ لَا يَجِبُ بِدُونِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ الْجُنُبَ إذَا حَاضَتْ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الِاغْتِسَالُ مَا لَمْ تَطْهُرْ. حَتَّى لَمْ تَجِبْ قَصْدًا لَكِنَّهَا عِنْدَ إرَادَةِ الصَّلَاةِ حَتَّى قِيلَ إنَّ مَنْ تَوَضَّأَ، وَلَمْ يُصَلِّ بِذَلِكَ الْوُضُوءِ خَاصَمَهُ ذَلِكَ الْوُضُوءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ. أَلَا يُرَى أَنَّهُ أَيْ الْحَدَثَ إزَالَةٌ لَهُ أَيْ لِلْوُضُوءِ وَتَبْدِيلٌ لِصِفَةِ الطَّهَارَةِ بِصِفَةِ النَّجَاسَةِ، وَمَا يَكُونُ رَافِعًا لِلشَّيْءِ، وَمُزِيلًا لَهُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لَهُ. وَلَا يَتَخَالَجْنَ فِي وَهْمِكَ أَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطُ الصَّلَاةِ بِالِاتِّفَاقِ فَيَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ إضَافَتِهَا إلَى الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهَا شَرْطًا لَهَا يَقْتَضِي تَقَدُّمَهَا، وَكَوْنَهَا مُضَافَةً إلَى الصَّلَاةِ وَحُكْمًا لَهَا يَقْتَضِي تَأَخُّرَهَا فَلَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا فَيُضَافُ إلَى الْحَدَثِ؛ لِأَنَّ وُجُودَهَا شَرْطُ صِحَّةِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ لَا وُجُوبِ الصَّلَاةِ فَكَوْنُهَا شَرْطًا لِلْأَدَاءِ لَا يَمْنَعُ مِنْ إضَافَةِ وُجُوبِهَا إلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ لِتَغَايُرِهِمَا. وَلَا يُقَالُ لَوْ كَانَ وُجُوبُهَا مُضَافًا إلَى الصَّلَاةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ التَّوَضُّؤُ قَبْلَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَقْدِيمِ الْحُكْمِ عَلَى السَّبَبِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ وُجُوبُ الصَّلَاةِ، وَإِرَادَتُهَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الطَّهَارَةِ لَا لِشَرْعِيَّتِهَا وَوُجُوبُهَا لَا يَثْبُتُ قَبْلَهُ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا تَوَضَّأَ قَبْلُ وَدَامَ وَصْفُ الطَّهَارَةِ إلَى حَالِ الْأَدَاءِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ الْوُضُوءِ لِحُصُولِ الشَّرْطِ كَمَا إذَا سَتَرَ الْعَوْرَةَ أَوْ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ قَبْلَ الْوَقْتِ وَاسْتَدَامَ إلَى حَالِ الْأَدَاءِ إذْ الشَّرْطُ يُرَاعَى وُجُودُهُ لَا وُجُودُهُ قَصْدًا. [سَبَبُ الْكَفَّارَاتِ] قَوْلُهُ (وَسَبَبُ الْكَفَّارَاتِ) أَيْ سَبَبُ وُجُوبِهَا مَا أُضِيفَتْ الْكَفَّارَاتُ إلَيْهِ مِنْ أَمْرٍ دَائِرٍ أَيْ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ حَظْرٍ، وَإِبَاحَةٍ. مِثْلُ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ بِصِفَةِ الْجَنَابَةِ فَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُلَاقِي فِعْلَ نَفْسِهِ الَّذِي هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ مُبَاحٌ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى الْعِبَادَةِ مَحْظُورٌ، كَذَا فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ يُعْرَفُ فِي بَابِ مَعْرِفَةِ الْأَسْبَابِ. وَقَتْلُ الْخَطَأِ؛ لِأَنَّهُ دَائِرٌ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْقَتْلَ بَلْ قَصْدُ الصَّيْدِ وَنَحْوِهِ مُبَاحٌ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُقَصِّرٌ مَحْظُورٌ، وَقَتْلُ الصَّيْدِ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ اصْطِيَادٌ، وَمَحْظُورٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى الْإِحْرَامِ. وَكَذَا الِارْتِفَاقُ بِاللُّبْسِ وَالطِّيبِ وَالْأَهْلِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ حَلَالٌ فِي ذَوَاتِهَا إلَّا أَنَّهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهَا، وَهُوَ تَحْقِيقُ مَعْنَى السَّفَرِ فَإِنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ أَنَّ الْمُسَافِرَ لَا يَتَمَتَّعُ بِأَهْلِهِ، وَمَالِهِ إلَّا بَعْدَ بُلُوغِهِ بِمَا لَهُ فَاَللَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ التَّمَتُّعَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي هَذَا السَّفَرِ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى السَّفَرِ فَكَانَتْ حَرَامًا لِمَعْنًى فِي غَيْرِهَا فَدَارَتْ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فَصَلُحَتْ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ

وَالْيَمِينِ وَنَحْوِهَا، وَقَتْلِ الْعَمْدِ وَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ وَيُفَسَّرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْكَفَّارَاتِ عَلَى الصَّبِيِّ فَإِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ دَائِرَةً بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ، وَالْعِبَادَاتُ شُرِعَتْ ابْتِلَاءً، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِابْتِلَاءِ، وَالْعُقُوبَاتُ شُرِعَتْ جَزَاءَ فِعْلٍ مَحْظُورٍ، وَفِعْلُهُ لَا يُوصَفُ بِالْحَظْرِ فَلَا يَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ، كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَالْيَمِينُ. الْيَمِينُ سَبَبٌ لِلْكَفَّارَةِ بِلَا خِلَافٍ لِإِضَافَةِ الْكَفَّارَةِ إلَيْهَا شَرْعًا وَعُرْفًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] . وَيُقَالُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ إلَّا أَنَّهَا سَبَبٌ بِصِفَةِ كَوْنِهَا مَعْقُودَةً عِنْدَنَا وَشَرْطُ وُجُوبِهَا فَوَاتُ الْبِرِّ، وَمُوجِبُهَا الْأَصْلِيُّ وُجُوبُ الْبِرِّ وَالْكَفَّارَةُ وَجَبَتْ خَلَفًا عَنْهُ عِنْدَ فَوَاتِهِ لِيَصِيرَ بِاعْتِبَارِهَا كَأَنَّهُ تَمَّ عَلَى بِرِّهِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هِيَ سَبَبٌ بِصِفَةِ كَوْنِهَا مَقْصُودَةً وَيَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِهَا أَصْلًا لَا خَلَفًا عَنْ الْبِرِّ، وَشَرْطُهَا فَوْتُ الصِّدْقِ مِنْ الْخَبَرِ الَّذِي عُقِدَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَيَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي الْغَمُوسِ لِوُجُودِ الشَّرْطِ. هُوَ يَقُولُ الْكَفَّارَةُ مُؤَاخَذَةٌ شُرِعَتْ سَتْرًا لِلذَّنْبِ، وَمَحْوًا لِلْإِثْمِ فَيَتَعَلَّقُ بِارْتِكَابِ مَحْظُورٍ، وَهُوَ هَتْكُ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ كَالتَّوْبَةِ تَجِبُ بِارْتِكَابِ الذَّنْبِ مَحْوًا لَهُ ثُمَّ الْهَتْكُ لَا يَحْصُلُ إلَّا عَنْ قَصْدٍ فَأَخْرَجَ الشَّرْعُ اللَّغْوَ عَنْ السَّبَبِيَّةِ لِعَدَمِ الْقَصْدِ وَبَقِيَتْ الْغَمُوسُ وَالْمُنْعَقِدَةُ سَبَبَيْنِ لِلْكَفَّارَةِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْقَصْدِ، وَإِلَيْهِ أُشِيرَ فِي قَوْله تَعَالَى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] .، وَقُلْنَا نَحْنُ لَمَّا كَانَتْ الْكَفَّارَةُ مُشْتَمِلَةً عَلَى صِفَةِ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ لِكَوْنِهَا عِبَادَةً فِي ذَاتِهَا، وَكَوْنِهَا أَجْزِيَةً اسْتَدْعَتْ سَبَبًا دَائِرًا بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ كَمَا قُلْنَا، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ إلَّا فِي الْمُنْعَقِدَةِ فَيَكُونُ الْيَمِينُ بِصِفَةِ كَوْنِهَا مَعْقُودَةً سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ ثُمَّ إنَّ الْحَالِفَ لَمَّا أَكَّدَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى حَرُمَ عَلَيْهِ هَتْكُ حُرْمَتِهِ، وَالِاحْتِرَازُ عَنْ الْهَتْكِ لَا يُحَصِّلُ إلَّا الْبِرَّ فَوَجَبَ الْبِرُّ بِالْيَمِينِ احْتِرَازًا عَنْ الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمِ كَمَا وَجَبَ الْكَفُّ عَنْ الزِّنَا فِرَارًا عَنْ الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمِ فَإِذَا فَاتَ الْبِرُّ وَحَصَلَ الْهَتْكُ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ خَلَفًا عَنْ الْبِرِّ لِيَصِيرَ كَأَنْ لَمْ يَفُتْ بِأَدَاءِ الْكَفَّارَةِ وَدَفْعِ الْهَتْكِ فَهَذَا هُوَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْخِلَافَةِ فِيهَا. فَإِنْ قِيلَ الْخَلَفُ يَجِبُ بِالسَّبَبِ الَّذِي وَجَبَ بِهِ الْأَصْلُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا لِيَثْبُتَ الْخَلَفُ بِهِ أَوَّلًا ثُمَّ يُقَامُ مَقَامَ الْأَصْلِ، وَهَاهُنَا الْيَمِينُ قَدْ انْحَلَّتْ بِالْحِنْثِ وَصَارَتْ مَعْدُومَةً فَكَيْفَ يُجْعَلُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ. قُلْنَا هَذَا يَلْزَمُك أَيْضًا فَإِنَّك تَجْعَلُهَا مُوجِبَةً لِلْكَفَّارَةِ عِنْدَ الْحِنْثِ لَا قَبْلَهُ فَكَيْفَ تَقُولُ بِالْوُجُوبِ حَالَةَ الِانْحِلَالِ. ثُمَّ تَقُولُ إنَّهَا قَدْ انْحَلَّتْ فِي حَقِّ الْبِرِّ لِفَوَاتِهِ وَصَارَتْ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ الْآنَ فَهِيَ مُنْحَلَّةٌ مَعْدُومَةٌ فِي حَقِّ الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ الْبِرُّ، وَهِيَ قَائِمَةٌ لِتَصِيرَ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ فَكَانَتْ وَاجِبَةً بِذَلِكَ السَّبَبِ بِعَيْنِهِ لَكِنَّهُ بَطَلَ فِي حَقِّ الْبِرِّ وَانْقَلَبَ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ إلَّا أَنَّ مِنْ شَرْطِ انْعِقَادِهِ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ أَنْ يَكُونَ مُنْعَقِدًا لِوُجُوبِ الْبِرِّ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ خَلَفٌ عَنْهُ فَيَصِيرُ الْبِرُّ بَعْدَ فَوَاتِهِ مُبْقًى بِالْكَفَّارَةِ، وَبَاقِي الْكَلَامِ مَذْكُورٌ فِي إشَارَاتِ الْأَسْرَارِ. قَوْلُهُ (وَنَحْوُهَا) مِثْلُ الظِّهَارِ فَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ كَانَ طَلَاقًا مُبَاحٌ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ مَحْظُورٌ فَيَصْلُحُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَنَّ الظِّهَارَ مَعَ الْعَوْدِ سَبَبٌ لِلْكَفَّارَةِ فَإِنَّ الظِّهَارَ مَحْظُورٌ وَالْعَوْدَ مُبَاحٌ فَإِذَا اجْتَمَعَا صَارَ السَّبَبُ دَائِرًا بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] . الْآيَةَ أَضَافَ إلَيْهِمَا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ بِكَلِمَةِ ثُمَّ، وَهِيَ كَلِمَةُ التَّرَاخِي؛ لِأَنَّ الْمُظَاهِرَ عَزَمَ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ عَزَمَ عَلَى شَيْءٍ لَا يَرْجِعُ مِنْ سَاعَتِهِ فَأَدْخَلَ كَلِمَةَ التَّأْخِيرِ بِنَاءً عَلَى

[سبب المعاملات]

وَسَبَبُ الْمُعَامَلَاتِ تَعَلُّقُ الْبَقَاءِ الْمَقْدُورِ بِتَعَاطِيهَا، وَالْبَقَاءُ مُعَلَّقٌ بِالنَّسْلِ، وَالْكِفَايَةُ وَطَرِيقُهَا أَسْبَابٌ شَرْعِيَّةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْمِلْكِ وَالِاخْتِصَاصِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعَادَةِ، وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَيْ بَيَانُ كَوْنِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَائِرَةً بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ أَوْ بَيَانُ أَنَّ الْعَمْدَ وَالْغَمُوسَ، وَأَشْبَاهَهُمَا لَا يَصْلُحُ سَبَبًا. نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ أَيْ فِي الْمَبْسُوطِ إنْ كَانَ تَصْنِيفُهُ بَعْدَ تَصْنِيفِ هَذَا الْكِتَابِ أَوْ فِي هَذَا الْكِتَابِ بَعْدَ بَابِ الْقِيَاسِ. [سَبَبُ الْمُعَامَلَاتِ] قَوْلُهُ (وَسَبَبُ الْمُعَامَلَاتِ) أَيْ سَبَبُ شَرْعِيَّتِهَا تَعَلُّقُ الْبَقَاءِ الْمَقْدُورِ أَيْ الْمَحْكُومِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ. بِتَعَاطِيهَا أَيْ بِمُبَاشَرَتِهَا مِنْ قَوْلِك فُلَانٌ يَتَعَاطَى كَذَا أَيْ يَخُوضَ فِيهِ وَيَتَنَاوَلَهُ. فَإِنْ قِيلَ لَمَّا كَانَ الْبَقَاءُ مُتَعَلِّقًا بِهَا كَانَتْ هِيَ سَبَبًا لِلْبَقَاءِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْبَقَاءُ سَبَبًا لَهَا؟ . قُلْنَا: وُجُودُهَا سَبَبٌ لِلْبَقَاءِ، وَلَكِنَّ تَعَلُّقَ الْبَقَاءِ وَافْتِقَارَهُ إلَيْهَا سَبَبٌ لِشَرْعِيَّتِهَا، وَهُوَ أَمْرٌ سَابِقٌ عَلَى شَرْعِيَّتِهَا فَيَصْلُحُ سَبَبًا. وَبَيَانُهُ مَا ذَكَرَ الْمَشَايِخُ الثَّلَاثَةُ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَالشَّيْخُ الْمُصَنِّفُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ هَذَا الْعَالَمَ، وَقَدَّرَ بَقَاءَهُ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَهَذَا الْبَقَاءُ إنَّمَا يَكُونُ بِبَقَاءِ الْجِنْسِ وَبَقَاءِ النَّفْسِ، فَبَقَاءُ الْجِنْسِ بِالتَّنَاسُلِ، وَذَلِكَ بِإِتْيَانِ الذُّكُورِ الْإِنَاثَ فِي مَوَاضِعِ الْحَرْثِ فَشُرِعَ لَهُ طَرِيقٌ يَتَأَدَّى بِهِ مَا قَدَّرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ فَسَادٌ، وَلَا ضَيَاعٌ، وَهُوَ طَرِيقُ الِازْدِوَاجِ بِلَا شَرِكَةٍ؛ لِأَنَّ فِي التَّغَلُّبِ فَسَادًا، وَفِي الشَّرِكَةِ ضَيَاعًا فَإِنَّ الْأَبَ مَتَى اشْتَبَهَ يَتَعَذَّرُ إيجَابُ الْمُؤْنَةِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْأُمِّ قُوَّةُ كَسْبِ الْكِفَايَاتِ فِي أَصْلِ الْجِبِلَّةِ. وَكَذَا لَا طَرِيقَ لِبَقَاءِ النَّفْسِ إلَى أَجَلِهِ غَيْرَ إصَابَةِ الْمَالِ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كُلُّ نَفْسٍ لِكِفَايَتِهَا لَا يَكُونُ حَاصِلًا فِي يَدِهَا، وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْصِيلِهِ بِالْمَالِ فَشُرِعَ سَبَبُ اكْتِسَابِ الْمَالِ وَسَبَبُ اكْتِسَابِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَهُوَ التِّجَارَةُ عَنْ تَرَاضٍ لِمَا فِي التَّغَالُبِ مِنْ الْفَسَادِ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ. هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ طَرِيقَةُ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ وَتَابَعَهُ فِيهَا عَامَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمَشَايِخِ. فَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا فَقَالُوا سَبَبُ وُجُوبِ الْعِبَادَاتِ نِعَمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ عِبَادِهِ فَإِنَّهُ تَعَالَى أَسْدَى إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا مِنْ أَنْوَاعِ النِّعَمِ مَا يَقْصُرُ الْعُقُولُ عَنْ الْوُقُوفِ عَلَى كُنْهِهَا فَضْلًا عَنْ الْقِيَامِ بِشُكْرِهَا، وَأَوْجَبَ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ عَلَيْنَا بِإِزَائِهَا، وَرَضِيَ بِهَا شُكْرًا لِسَوَابِغِ نِعَمِهِ بِفَضْلِهِ وَكَرْمِهِ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ الْخُرُوجُ عَنْ شُكْرِ نِعَمِهِ، وَإِنْ قَلَّتْ مُدَّةُ عُمْرِهِ وَإِنْ طَالَتْ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ شُكْرَ النِّعْمَةِ وَاجِبٌ بِلَا شَكٍّ عَقْلًا أَوْ نَصًّا عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14] .، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ نِعْمَةٌ فَلْيَشْكُرْهَا» . فِي نُصُوصٍ كَثِيرَةٍ وَرَدَتْ فِيهِ وَكُلُّ عِبَادَةٍ صَالِحَةٌ لِكَوْنِهَا شُكْرًا لِنِعْمَةٍ مِنْ النِّعَمِ. وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ الدَّالُّ عَلَى كَوْنِ الْعِبَادَةِ شُكْرًا، وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَلَّى حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ فَقِيلَ لَهُ إنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك، وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ: أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» . أَخْبَرَ أَنَّهُ يُصَلِّي لِلَّهِ تَعَالَى شُكْرًا عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ. ثُمَّ نِعَمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ، مِنْهَا إيجَادُهُ مِنْ الْعَدَمِ وَتَكْرِيمُهُ بِالْعَقْلِ وَالْحَوَاسِّ الْبَاطِنَةِ. وَمِنْهَا الْأَعْضَاءُ السَّلِيمَةُ، وَمَا يَحْصُلُ لَهُ بِهَا مِنْ التَّقَلُّبِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ حَالَةٍ إلَى مَا يُخَالِفُهَا مِنْ نَحْوِ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالِانْحِنَاءِ. وَمِنْهَا مَا يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ مَنَافِعِ الْأَطْعِمَةِ الشَّهِيَّةِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِصُنُوفِ الْمَأْكُولَاتِ. وَمِنْهَا صُنُوفُ الْأَمْوَالِ الَّتِي بِهَا يُتَوَصَّلُ إلَى تَحْصِيلِ مَنَافِعِ النَّفْسِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ عَنْهَا فَعَلَى حَسْبِ اخْتِلَافِهَا وَجَبَتْ الْعِبَادَاتُ. فَالْإِيمَانُ وَجَبَ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْوُجُودِ، وَقُوَّةِ النُّطْقِ، وَكَمَالِ الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ أَنْفَسُ الْمَوَاهِبِ الَّتِي اخْتَصَّ الْإِنْسَانُ بِهَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ النِّعَمِ فَالْوُجُوبُ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنْ بِالْعَقْلِ يُعْرَفُ أَنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ وَاجِبٌ فَكَانَ النِّعَمُ مُعَرِّفًا لَهُ وُجُوبَ شُكْرِ الْمُنْعِمِ بِوَاسِطَةِ آلَةِ الْمَعْرِفَةِ، وَهِيَ الْعَقْلُ، وَهَذَا

[باب بيان أقسام السنة]

(بَابُ بَيَانِ أَقْسَامِ) (السُّنَّةِ) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اعْلَمْ أَنَّ سُنَّةَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جَامِعَةٌ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَسَائِرِ الْأَقْسَامِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا، وَكَانَتْ السُّنَّةُ فَرْعًا لِلْكِتَابِ فِي بَيَانِ تِلْكَ الْأَقْسَامِ بِأَحْكَامِهَا فَلَا نُعِيدُهَا، وَإِنَّمَا هَذَا الْبَابُ لِبَيَانِ وُجُوهِ الِاتِّصَالِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا فِيمَا يُفَارِقُ الْكِتَابَ وَتَخْتَصُّ السُّنَنُ بِهِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ قِسْمٌ فِي كَيْفِيَّةِ الِاتِّصَالِ بِنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَقِسْمٌ فِي الِانْقِطَاعِ، وَقِسْمٌ فِي بَيَانِ مَحَلِّ الْخَبَرِ الَّذِي جُعِلَ حُجَّةً فِيهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَعْنَى قَوْلِ النَّاسِ الْعَقْلُ مُوجِبٌ أَيْ دَلِيلٌ، وَمُعَرِّفٌ لِوُجُوبِ الْإِيمَانِ بِالنَّظَرِ فِي سَبَبِهِ، وَهُوَ النِّعَمُ بِالْعَقْلِ. وَوَجَبَتْ الصَّلَاةُ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْأَعْضَاءِ السَّلِيمَةِ فَيُعْرَفُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْمَشَقَّةِ قَدْرَ الرَّاحَةِ الَّتِي يَنَالُهَا بِالتَّقَلُّبِ عَلَى حَسْبِ إرَادَتِهِ إذْ النِّعْمَةُ مَجْهُولَةٌ فَإِذَا فُقِدَتْ عُرِفَتْ. وَوَجَبَ الصَّوْمُ شُكْرًا لِنِعْمَةِ اقْتِضَاءِ الشَّهَوَاتِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهَا مُدَّةً فَيَعْرِفُ بِمَا يُقَاسِي مِنْ مَرَارَةِ الْجُوعِ وَشِدَّةِ الظَّمَأِ فِي الْهَوَاجِرِ قَدْرَ مَا يَتَنَاوَلُ مِنْ صُنُوفِ الْأَطْعِمَةِ الشَّهِيَّةِ وَالْأَشْرِبَةِ الْبَارِدَةِ. وَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَالِ فَيَعْرِفُ بِمَا يَجِدُ طَبِيعَتَهُ مِنْ الْمَشَقَّةِ فِي زَوَالِ الْمَحْبُوبِ إلَى مَنْ لَا يَتَحَمَّلُ لَهُ مِنْهُ، وَلَا تَكْثُرُ لَهُ عَدَدًا، وَلَا يَطْمَعُ مِنْهُ مُكَافَأَةً قَدْرَ مَا حَوَّلَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ وَأُوتِيَ مِنْ النَّشْطَةِ فِي فَنُونِهَا. وَوَجَبَ الْحَجُّ شُكْرًا لِلنِّعْمَةِ أَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَضَافَ الْبَيْتَ إلَى نَفْسِهِ كَرَامَةً لَهُ، وَإِظْهَارًا لِشَرَفِهِ صَارَ أَمَانُ الْخَلْقِ لِحُرْمَتِهِ فَوَجَبَ زِيَارَتُهُ أَدَاءً لِشُكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ وَتَحْصِيلًا لِلْأَمَانِ مِنْ النِّيرَانِ وَلِيَعْرِفَ بِمُقَاسَاةِ شَدَائِدِ السَّفَرِ قَدْرَ التَّقَلُّبِ فِي النِّعَمِ فِي حَالَةِ الْإِقَامَةِ بَيْنَ الْأَهْلِ وَالْأَوْلَادِ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ أَسْبَابَ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ النِّعَمُ. وَإِلَى هَذَا الطَّرِيقِ مَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيُسْرِ وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ صَاحِبُ الْمِيزَانِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذْ قَدْ فَرَغْنَا عَنْ شَرْحِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ الْكِتَابِ بِتَوْفِيقِ الْمَلِكِ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ، كَاشِفِينَ لِلْحُجُبِ عَنْ حَقَائِقِ مَعَانِيهِ، رَافِعِينَ لِلْأَسْتَارِ عَنْ دَقَائِقِ مَبَانِيهِ، فَلْنَنْتَقِلْ إلَى تَحْقِيقِ الْقِسْمِ الثَّانِي وَتَقْرِيرِهِ، مُسْتَمِدِّينَ لِلتَّوْفِيقِ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى تَهْدِيَتِهِ وَتَنْقِيرِهِ، شَاكِرِينَ لَهُ عَلَى نِعَمِهِ، وَأَفْضَالِهِ، وَمُصَلِّينَ عَلَى خَيْرِ الْبَرِيَّةِ مُحَمَّدٌ وَآلِهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَوَّلًا وَآخِرًا. [بَابُ بَيَانِ أَقْسَامِ السُّنَّةِ] إنَّمَا اخْتَارَ لَفْظَ السُّنَّةِ دُونَ لَفْظِ الْخَبَرِ كَمَا ذَكَرَ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ لَفْظَ السُّنَّةِ شَامِلٌ لِقَوْلِ الرَّسُولِ، وَفِعْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَمُنْطَلِقٌ عَلَى طَرِيقَةِ الرَّسُولِ وَالصَّحَابَةِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ وَالشَّيْخُ قَدْ أَلْحَقَ بِآخِرِ هَذَا الْقِسْمِ بَيَانَ أَفْعَالِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فَاخْتَارَ لَفْظَةً تَشْمَلُ الْكُلَّ. ثُمَّ السُّنَّةُ وَالْمُرَادُ بِهَا قَوْلُ الرَّسُولِ هَاهُنَا تُشَارِكُ الْكِتَابَ فِي الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ الْخَاصِّ إلَى الْمُقْتَضَى؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حُجَّةٌ مِثْلُ الْكِتَابِ، وَهُوَ كَلَامٌ مُسْتَجْمِعٌ لِوُجُوهِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ فَيَجْرِي فِيهِ هَذِهِ الْأَقْسَامُ أَيْضًا وَيَكُونُ بَيَانُهَا فِي الْكِتَابِ بَيَانًا فِيهَا؛ لِأَنَّهَا فَرْعُ الْكِتَابِ فِي كَوْنِهَا حُجَّةً. وَتُفَارِقُهُ فِي طُرُقِ الِاتِّصَالِ إلَيْنَا فَإِنَّ الْكِتَابَ لَيْسَ لَهُ إلَّا طَرِيقٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ التَّوَاتُرُ وَلِلسُّنَّةِ طُرُقٌ مُخْتَلِفَةٌ كَمَا سَتَقِفُ عَلَيْهَا فَهَذَا الْبَابُ، وَهُوَ الَّذِي شُرِعَ فِيهِ إلَى بَابِ الْمُعَارَضَةِ لِبَيَانِ تِلْكَ الطُّرُقِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا.، وَقَوْلُهُ وَيَخْتَصُّ السُّنَنُ بِهِ تَأْكِيدٌ، وَلَا يُقَالُ التَّوَاتُرُ لَا يَخْتَصُّ بِالسُّنَنِ بَلْ هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْكِتَابِ فَكَيْفَ يَصِحُّ إيرَادُهُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّا نَقُولُ اخْتِلَافُ الطُّرُقِ مُخْتَصٌّ بِالسُّنَنِ وَالتَّوَاتُرُ دَاخِلٌ فِي الطُّرُقِ فَيَصِحُّ إيرَادُهُ.، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْقِسْمُ كَلَامًا فِي أَخْبَارٍ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ حَقِيقَةِ الْخَبَرِ، وَأَقْسَامِهِ. فَنَقُولُ: الْخَبَرُ يُطْلَقُ عَلَى قَوْلٍ مَخْصُوصٍ مِنْ الْأَقْوَالِ وَيُطْلَقُ عَلَى الْإِشَارَاتِ الْحَالِيَّةِ وَالدَّلَالَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَمَا يُقَالُ أَخْبَرَتْنِي عَيْنَاك. وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ: وَكَمْ لِظَلَامِ اللَّيْلِ عِنْدَكَ مِنْ يَدٍ ... تُخْبِرُ أَنَّ الْمَانَوِيَّةَ تَكْذِبُ وَلَكِنَّهُ

[باب المتواتر]

وَقِسْمٌ فِي بَيَانِ نَفْسِ الْخَبَرِ فَأَمَّا الِاتِّصَالُ بِرَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَعَلَى مَرَاتِبَ اتِّصَالٌ كَامِلٌ بِلَا شُبْهَةٍ وَاتِّصَالٌ فِيهِ ضَرْبُ شُبْهَةٍ صُورَةً، وَاتِّصَالٌ فِيهِ شُبْهَةٌ صُورَةً، وَمَعْنًى أَمَّا الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى فَهُوَ الْمُتَوَاتِرُ. وَهَذَا (بَابُ الْمُتَوَاتِرِ) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ الَّذِي اتَّصَلَ بِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتِّصَالًا بِلَا شُبْهَةٍ حَتَّى صَارَ كَالْمُعَايَنِ الْمَسْمُوعِ مِنْهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQحَقِيقَةٌ فِي الْأَوَّلِ لِتَبَادُرِ الْفَهْمِ إلَيْهِ عِنْدَ إطْلَاقِ لَفْظِ الْخَبَرِ دُونَ الثَّانِي، وَاخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِهِ فَقِيلَ إنَّهُ لَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّهُ ضَرُورِيُّ التَّصَوُّرِ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَحْسُنُ فِيهِ الْخَبَرُ وَيُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَحْسُنُ فِيهِ الْأَمْرُ، وَلَوْلَا أَنَّ هَذِهِ الْحَقَائِقَ مُتَصَوَّرَةٌ ضَرُورَةً لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا يَحْسُنُ فِيهِ الْأَمْرُ، وَمَا يَحْسُنُ فِيهِ الْخَبَرُ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمَا أَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَقِيلَ هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ، وَقِيلَ يَدْخُلُهُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ، وَقِيلَ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ. وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذِهِ الْحُدُودِ بِأَنَّ خَبَرَ اللَّهِ تَعَالَى وَخَبَرَ رَسُولِهِ لَا يَدْخُلُهُمَا الْكَذِبُ، وَلَا التَّكْذِيبُ، وَلَا يَحْتَمِلَانِ الْكَذِبَ أَيْضًا فَلَا تَكُونُ جَامِعَةً؛ وَلِأَنَّ صَاحِبَ الْحَدِّ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْجُبَّائِيُّ، وَمَنْ تَابَعَهُ عَرَّفَ الصِّدْقَ بِأَنَّهُ الْخَبَرُ الْمُوَافِقُ لِمُخْبِرِهِ وَالْكَذِبُ نَقِيضُهُ فَكَانَ تَعْرِيفُهُ الْخَبَرَ بِالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ دَوْرًا. وَقِيلَ هُوَ كَلَامٌ يُفِيدُ بِنَفْسِهِ إضَافَةَ مَذْكُورٍ إلَى مَذْكُورٍ بِالنَّفْيِ أَوْ بِالْإِثْبَاتِ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَانِعٍ لِدُخُولِ نَحْوِ قَوْلِك الْغُلَامُ الَّذِي لِزَيْدٍ أَوْ لَيْسَ لِزَيْدٍ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ عِنْدَ صَاحِبِ هَذَا الْحَدِّ، وَهُوَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ إذْ الْكَلِمَةُ عِنْدَهُ كَلَامٌ. وَمُخْتَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْخَبَرَ هُوَ مَا تَرَكَّبَ مِنْ أَمْرَيْنِ حُكِمَ فِيهِ بِنِسْبَةِ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ نِسْبَةً خَارِجِيَّةً يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَلَيْهَا. وَإِنَّمَا قَالَ أَمْرَيْنِ دُونَ كَلِمَتَيْنِ أَوْ لَفْظَيْنِ لِيَشْمَلَ الْخَبَرَ النَّفْسَانِيَّ.، وَقَالَ حَكَمَ فِيهِ بِنِسْبَةٍ لِيُخْرِجَ مَا تَرَكَّبَ مِنْ غَيْرِ نِسْبَةٍ. وَقَالَ يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَلَيْهَا لِيُخْرِجَ الْمُرَكَّبَاتِ التَّقْيِيدِيَّةَ، وَقَيَّدَ النِّسْبَةَ بِالْخَارِجِيَّةِ لِيُخْرِجَ الْأَمْرَ وَنَحْوَهُ إذْ الْمُرَادُ بِالْخَارِجِيَّةِ أَنْ يَكُونَ لِتِلْكَ النِّسْبَةِ أَمْرٌ خَارِجِيٌّ بِحَيْثُ يُحْكَمُ بِصِدْقِهَا إنْ طَابَقَتْهُ وَبِكَذِبِهَا إنْ خَالَفَتْهُ، وَلَيْسَ لِلْأَمْرِ وَنَحْوِهِ ذَلِكَ. ثُمَّ إنَّهُ يَنْقَسِمُ أَقْسَامًا ثَلَاثَةً خَبَرٌ يُعْلَمُ صِدْقُهُ بِيَقِينٍ مِثْلُ خَبَرِ الرَّسُولِ وَالْخَبَرُ الْمُوَافِقُ لِلْكِتَابِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ وَخَبَرٌ يُعْلَمُ كَذِبُهُ بِيَقِينٍ مَا بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ أَوْ نَظَرِهِ أَوْ الْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ كَمَنْ أَخْبَرَ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ أَوْ أَخْبَرَ بِمَا يُحِسُّ بِخِلَافِهِ أَوْ أَخْبَرَ بِمَا يُخَالِفُ النَّصَّ الْقَاطِعَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَخَبَرٌ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَهُوَ عَلَى مَرَاتِبَ مَا تَرَجَّحَ جَانِبُ صِدْقِهِ كَخَبَرِ الْعَدْلِ، وَمَا تَرَجَّحَ جَانِبُ كَذِبِهِ كَخَبَرِ الْفَاسِقِ، وَمَا اسْتَوَى طَرَفَاهُ كَخَبَرِ الْمَجْهُولِ. [بَابُ الْمُتَوَاتِرِ] فَمِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ، وَهُوَ خَبَرُ جَمَاعَةٍ مُفِيدٌ بِنَفْسِهِ الْعِلْمَ بِصِدْقِهِ، وَقَيَّدَ بِنَفْسِهِ لِيُخْرِجَ الْخَبَرَ الَّذِي عُرِفَ صِدْقُ الْقَائِلِينَ فِيهِ بِالْقَرَائِنِ الزَّائِدَةِ كَخَبَرِ جَمَاعَةٍ وَافَقَ دَلِيلَ الْعَقْلِ أَوْ دَلَّ قَوْلُ الصَّادِقِ عَلَى صِدْقِهِمْ. وَالتَّوَاتُرُ لُغَةً تَتَابُعُ أُمُورٍ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ مَأْخُوذٌ مِنْ الْوِتْرِ يُقَالُ تَوَاتَرَتْ الْكُتُبُ أَيْ جَاءَتْ بَعْضُهَا فِي إثْرِ بَعْضٍ وِتْرًا وِتْرًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَنْقَطِعَ، وَمِنْهُ جَاءُوا تَتْرَى أَيْ مُتَتَابِعِينَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ.، وَإِنَّمَا قَيَّدَ الشَّيْخُ الْمُتَوَاتِرَ بِقَوْلِهِ اتَّصَلَ بِك مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ فِي بَيَانِ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ السُّنَّةِ إذْ هُوَ فِي بَيَانِ أَقْسَامِهَا فَأَمَّا تَعْرِيفُ نَفْسِ الْمُتَوَاتِرِ بِالنَّظَرِ إلَى ذَاتِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى هَذَا الْقَيْدِ كَالْخَبَرِ عَنْ الْبُلْدَانِ الْقَاصِيَةِ وَالْمُلُوكِ الْمَاضِيَةِ. ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ تَكَثُّرَ الْمُخْبِرِينَ كَثْرَةً تَمْنَعُ صُدُورَ الْكَذِبِ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الِاتِّفَاقِ وَعَلَى سَبِيلِ الْمُوَاضَعَةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ لَا يُتَوَهَّمُ تَوَاطُؤُهُمْ أَيْ تَوَافُقُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَأَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِمَا أَخْبَرُوا عِلْمًا يَسْتَنِدُ إلَى الْحِسِّ لَا إلَى غَيْرِهِ كَدَلِيلِ الْعَقْلِ مَثَلًا فَإِنَّ أَهْلَ بَغْدَادَ لَوْ أَخْبَرُوا عَنْ حَدَثِ الْعَالَمِ لَا يَحْصُلُ لَنَا الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ. وَأَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُونَ فِي الطَّرَفَيْنِ وَالْوَسَطِ مُسْتَوِينَ فِي هَذِهِ الشُّرُوطِ أَعْنِي فِي الْكَثْرَةِ وَالِاسْتِنَادِ، وَإِلَيْهِ أُشِيرُ بِقَوْلِهِ وَيَدُومُ هَذَا الْحَدُّ وَاخْتَلَفُوا فِي أَقَلِّ عَدَدٍ يَحْصُلُ مَعَهُ الْعِلْمُ فَقِيلَ هُوَ خَمْسَةٌ؛ لِأَنَّ

وَذَلِكَ أَنْ يَرْوِيَهُ قَوْمٌ لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ، وَلَا يُتَوَهَّمُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ لِكَثْرَتِهِمْ وَعَدَالَتِهِمْ وَتَبَايُنِ أَمَاكِنِهِمْ وَيَدُومُ هَذَا الْحَدُّ فَيَكُونُ آخِرُهُ كَأَوَّلِهِ، وَأَوْسَطُهُ كَطَرَفَيْهِ وَذَلِكَ مِثْلُ نَقْلِ الْقُرْآنِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَمَقَادِيرِ الزَّكَوَاتِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا دُونَهَا كَأَرْبَعَةٍ بَيِّنَةٌ شَرْعِيَّةٌ يَجُوزُ لِلْقَاضِي عَرْضُهَا عَلَى الْمُزَكِّينَ لِيَحْصُلَ غَلَبَةُ الظَّنِّ، وَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ حَاصِلًا بِقَوْلِ الْأَرْبَعَةِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. وَقِيلَ اثْنَا عَشَرَ بِعَدَدِ نُقَبَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ فَإِنَّهُمْ خُصُّوا بِذَلِكَ الْعَدَدِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِمْ. وَقِيلَ أَرْبَعُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] .، وَكَانُوا أَرْبَعِينَ فَلَوْ لَمْ يُفْدِ قَوْلُهُمْ الْعِلْمَ لَمْ يَكُونُوا حَسَبًا لِاحْتِيَاجِهِ إلَى مَنْ يَتَوَاتَرُ بِهِ أَمْرُهُ. وَقِيلَ سَبْعُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف: 155] وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ لِمَا مَرَّ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ تَحَكُّمَاتٌ فَاسِدَةٌ، وَأَنَّ مَا تَمَسَّكُوا بِهِ لَيْسَ شُبْهَةً فَضْلًا عَنْ حُجَّةٍ؛ لِأَنَّهَا مَعَ تَعَارُضِهَا وَعَدَمِ مُنَاسَبَتِهَا الْمَطْلُوبَ مُضْطَرِبَةٌ إذْ مَا مِنْ عَدَدٍ يُفْرَضُ حُصُولُ الْعِلْمِ بِهِ لِقَوْمٍ إلَّا وَيُمْكِنُ أَنْ لَا يَحْصُلَ بِهِ لِآخَرِينَ وَلِلْأَوَّلِينَ فِي وَاقِعَةٍ أُخْرَى، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْعَدَدُ هُوَ الضَّابِطُ لِحُصُولِ الْعِلْمِ لَمَا اخْتَلَفَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي عَدَدٍ مَخْصُوصٍ. وَضَابِطُهُ مَا حَصَلَ الْعِلْمُ عِنْدَهُ فَبِحُصُولِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّ الْعَدَدَ الَّذِي هُوَ كَامِلٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ تَوَافَقُوا عَلَى الْأَخْبَارِ لَا أَنَّا نَسْتَدِلُّ بِكَمَالِ الْعَدَدِ عَلَى حُصُولِ الْعِلْمِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِعَدَدٍ أَنَّا نَقْطَعُ بِحُصُولِ الْعِلْمِ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ أَصْلًا بَلْ لَوْ كَلَّفْنَا أَنْفُسَنَا مَعْرِفَةَ ذَلِكَ الْعَدَدِ الْحَالَةَ الَّتِي يَكْمُلُ فِيهَا لَمْ نَجِدْ إلَيْهَا فِي الْعَادَةِ سَبِيلًا؛ لِأَنَّهَا تَحْصُلُ بِتَزَايُدِ الظُّنُونِ عَلَى تَدْرِيجٍ خَفِيٍّ كَمَا يَحْصُلُ كَمَالُ الْعَقْلِ بِالتَّدْرِيجِ، وَكَمَا يَحْصُلُ الشِّبَعُ بِالْأَكْلِ، وَالرَّيُّ بِالْمَاءِ وَالسُّكْرُ بِالْخَمْرِ بِالتَّدْرِيجِ وَالْقُوَّةُ الْبَشَرِيَّةُ قَاصِرَةٌ عَنْ الْوُقُوفِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ. ثُمَّ لَفْظُ الْكِتَابِ يُشِيرُ إلَى شُرُوطٍ بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ بِقَوْلِهِ لَا يُتَوَهَّمُ تَوَاطُؤُهُمْ، وَقَوْلُهُ وَيَدُومُ هَذَا الْحَدُّ يُشِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ إلَى شَرْطٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَقَوْلُهُ وَذَلِكَ أَيْ صَيْرُورَتُهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَسْمُوعِ أَنْ يَرْوِيَهُ قَوْمٌ لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ يُشِيرُ إلَى اشْتِرَاطِ خُرُوجِ عَدَدِ الْمُخْبِرِينَ عَنْ الْإِحْصَاءِ وَالْحَصْرِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ قَوْمٌ؛ لِأَنَّهُمْ مَتَى كَانُوا مُحْصِينَ كَانَ لِإِمْكَانِ التَّوَاطُؤِ مَدْخَلٌ فِي خَبَرِهِمْ عَادَةً فَشُرِطَ خُرُوجُهُمْ عَنْ الْإِحْصَاءِ وَالْحَصْرِ دَفْعًا لِذَلِكَ الْإِمْكَانِ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَإِنَّ الْحَجِيجَ أَوْ أَهْلَ الْجَامِعِ لَوْ أَخْبَرُوا عَنْ وَاقِعَةٍ صَدَّتْهُمْ عَنْ الْحَجِّ أَوْ عَنْ الصَّلَاةِ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ مَعَ كَوْنِهِمْ مَحْصُورِينَ. وَقَوْلُهُ: وَعَدَالَتِهِمْ يُشِيرُ إلَى اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ وَالْعَدَالَةِ كَمَا قَالَهُ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْعَدَالَةَ ضَابِطَا الصِّدْقِ وَالتَّحْقِيقِ، وَالْكُفْرَ وَالْفِسْقَ مَظِنَّتَا الْكَذِبِ وَالْمُجَازَفَةِ فَشُرِطَ عَدَمُهُمَا. وَعِنْدَ الْعَامَّةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلْقَطْعِ، وَقَوْلُهُ وَتَبَايُنِ أَمَاكِنِهِمْ أَيْ تَبَاعُدِهَا يُشِيرُ إلَى اشْتِرَاطِ اخْتِلَافِ بُلْدَانِهِمْ أَوْ أَوْطَانِهِمْ وَمَحَلَّاتِهِمْ، وَهُوَ مُخْتَارُ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّهُ أَشَدُّ تَأْثِيرًا فِي دَفْعِ إمْكَانِ التَّوَاطُؤِ. وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ أَيْضًا لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِأَخْبَارِ مُتَوَطِّنِي بُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ؛ وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْكَثْرَةِ إلَى كَمَالِ الْعَدَدِ كَمَا بَيَّنَّا يَدْفَعُ هَذَا الْإِمْكَانَ. وَكَأَنَّ الشَّيْخَ إنَّمَا أَشَارَ إلَى هَذِهِ الْمَعَانِي؛ لِأَنَّهَا أَقْطَعُ لِلِاحْتِمَالِ، وَأَظْهَرُ فِي الْإِلْزَامِ عَلَى الْخُصُومِ، لَا لِأَنَّهَا شَرْطٌ حَقِيقَةً بِحَيْثُ يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ الْعِلْمِ بِالتَّوَاتُرِ عَلَيْهَا بَلْ الشَّرْطُ فِيهِ حَقِيقَةُ مَا ذَكَرْنَاهُ بَدْءًا. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَجَابَ عَنْ أَخْبَارِ الْمَجُوسِ، وَأَخْبَارِ الْيَهُودِ بِأَنَّ اسْتِوَاءَ الطَّرَفَيْنِ لَمْ يُوجَدْ، وَلَمْ يُجِبْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا كَفَرَةً فَلَا يَكُونُ تَوَاتُرُهُمْ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ حَتَّى صَارَ كَالْمُعَايَنِ الْمَسْمُوعِ مِنْهُ أَيْ حَتَّى صَارَ هَذَا الْخَبَرُ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا عَايَنْتَ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَسَمِعْتَهُ مِنْهُ بِحَاسَّةِ سَمْعِكَ، وَلَيْسَ لَفْظُ الْمُعَايَنِ فِي سَائِرِ الْكُتُبِ

وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَهَذَا الْقِسْمُ يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ بِمَنْزِلَةِ الْعِيَانِ عِلْمًا ضَرُورِيًّا، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ الْعِلْمَ، بِطَرِيقِ الْخَبَرِ أَصْلًا، وَهَذَا رَجُلٌ سَفِيهٌ لَمْ يَعْرِفْ نَفْسَهُ، وَلَا دِينَهُ، وَلَا دُنْيَاهُ وَلَا أُمَّهُ، وَلَا أَبَاهُ مِثْلُ مَنْ أَنْكَرَ الْعِيَانَ، وَقَالَ قَوْمٌ إنَّ الْمُتَوَاتِرَ يُوجِبُ عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ لَا يَقِينٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْمَذْكُورُ فِي التَّقْوِيمِ، وَمَتَى ارْتَفَعَتْ الشُّبْهَةُ ضَاهَى الْمُتَّصِلَ مِنْهُ بِكَ بِحَاسَّةِ سَمْعِك.، وَلَوْ قِيلَ كَالْمُعَايَنِ وَالْمَسْمُوعِ لَكَانَ أَحْسَنَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ لَفْظَ الْمُعَايَنِ؛ لِأَنَّ سَمَاعَ الْكَلَامِ مَعَ مُعَايَنَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَالنَّظَرِ إلَى وَجْهِهِ أَقْرَبُ إلَى الْفَهْمِ مِنْ السَّمَاعِ بِدُونِ مُعَايَنَتِهِ، وَكَانَ يَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ يَصِفَ الْمُتَكَلِّمَ بِالْمُعَايَنِ دُونَ الْكَلَامِ إلَّا أَنَّهُ جَعَلَ حَرَكَةَ الشَّفَةِ الَّتِي تُدْرَكُ بِالْبَصَرِ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ فَيَصِحُّ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَصْفُ الْكَلَامِ بِكَوْنِهِ مُعَايَنًا كَمَا يَصِحُّ وَصْفُهُ بِكَوْنِهِ مَسْمُوعًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِثْلَ أُرُوشِ الْجِنَايَاتِ، وَأَعْدَادِ الطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ. قَوْلُهُ (وَهَذَا الْقِسْمُ) وَلَمَّا بَيَّنَ تَفْسِيرَ الْمُتَوَاتِرِ وَشُرُوطَهُ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِهِ فَقَالَ، وَهَذَا الْقِسْمُ أَيْ الْمُتَوَاتِرُ مِنْ الْأَخْبَارِ يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ بِمَنْزِلَةِ الْعِيَانِ عِلْمًا ضَرُورِيًّا. وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ وَذَهَبَتْ السُّمَنِيَّةُ، وَهُمْ قَوْمٌ مِنْ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ. وَالْبَرَاهِمَةُ، وَهُمْ قَوْمٌ مِنْ مُنْكِرِي الرِّسَالَةِ بِأَرْضِ الْهِنْدِ إلَى أَنَّ الْخَبَرَ لَا يَكُونُ حُجَّةً أَصْلًا، وَلَا يَقَعُ الْعِلْمُ بِهِ بِوَجْهٍ لَا عِلْمَ يَقِينٍ، وَلَا عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ بَلْ يُوجِبُ ظَنًّا. وَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ الْمُتَوَاتِرَ يُوجِبُ عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ لَا عِلْمَ يَقِينٍ وَيُرِيدُونَ بِهِ أَنَّ جَانِبَ الصِّدْقِ يَتَرَجَّحُ فِيهِ بِحَيْثُ تَطْمَئِنُّ إلَيْهِ الْقُلُوبُ مِثْلَ مَا يَثْبُتُ بِالدَّلِيلِ الظَّاهِرِ، وَلَكِنْ لَا يَنْتَفِي عَنْهُ تَوَهُّمُ الْكَذِبِ وَالْغَلَطِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ إلَّا مِنْ حَيْثُ إنَّ الطُّمَأْنِينَةَ أَقْرَبُ إلَى الْيَقِينِ مِنْ الظَّنِّ وَلِهَذَا كَانَ مُتَمَسَّكُ الْفَرِيقَيْنِ وَاحِدًا، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ يُوجِبُ الْيَقِينَ اخْتَلَفُوا فَذَهَبَ عَامَّتُهُمْ إلَى أَنَّهُ يُوجِبُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا. وَذَهَبَ أَبُو الْقَاسِمِ الْكَعْبِيُّ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَبُو بَكْرٍ الدَّقَّاقُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّهُ يُوجِبُ عِلْمًا اسْتِدْلَالِيًّا وَسَنُبَيِّنُهُ فِي آخِرِ الْبَابِ. قَوْلُهُ: (وَهَذَا) أَيْ مَنْ أَنْكَرَ حُصُولَ الْعِلْمِ بِالْخَبَرِ أَصْلًا رَجُلٌ سَفِيهٌ، وَهُوَ الَّذِي يَشْتَغِلُ بِمَا لَيْسَ لَهُ عَاقِبَةٌ حَمِيدَةٌ وَيَلْحَقُهُ ضَرَرُ ذَلِكَ. لَمْ يَعْرِفْ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ كَوْنِهِ مَخْلُوقًا مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ لَا تَثْبُتُ لَهُ إلَّا بِالْخَبَرِ فَإِذَا أَنْكَرَ كَوْنَ الْخَبَرِ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ لَا يَحْصُلُ لَهُ مَعْرِفَةُ نَفْسِهِ. وَلَا يُقَالُ لَعَلَّ مَعْرِفَةَ كَوْنِهَا مَخْلُوقَةً مِنْ الْمَاءِ حَصَلَتْ بِالِاسْتِدْلَالِ بِالْوَلَدِ فَإِنَّهُ لَمَّا عَايَنَهُ أَنَّهُ خُلِقَ مِنْ الْمَاءِ اعْتَبَرَ وُجُودَ نَفْسِهِ بِهِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ إنْكَارِ الْخَبَرِ عَدَمُ مَعْرِفَةِ النَّفْسِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ مَآلُ ذَلِكَ إلَى الْخَبَرِ أَيْضًا فَإِنَّ كَوْنَهُ مَخْلُوقًا مِنْ الْمَاءِ لَيْسَ بِمَحْسُوسٍ، وَلَا مَعْقُولٍ إذْ الْفِعْلُ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ ثَابِتٌ بِالْخَبَرِ، وَلَا دِينِهِ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ مَعْرِفَتِهِ الْخَبَرُ وَالسَّمَاعُ أَيْضًا خُصُوصًا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْأَحْكَامِ، وَلَا دُنْيَاهُ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ تَحْصُلُ بِالْخَبَرِ؛ لِأَنَّ فِيهَا مَا هُوَ مُهْلِكٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ نَافِعٌ وَالْعَقْلُ لَا يُطِقْ التَّجْرِبَةَ لِاحْتِمَالِ الْهَلَاكِ، وَكَذَا مَعْرِفَةُ الْأَبِ وَالْأُمِّ تَحْصُلُ بِالْخَبَرِ؛ لِأَنَّ التَّرْبِيَةَ وَالْقِيَامَ بِأُمُورِهِ يَحْصُلُ مِنْ الْمُلْتَقِطَةِ وَالظِّئْرِ كَمَا يَحْصُلُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ ثُمَّ كُلُّ أَحَدٍ يَجِدُ نَفْسَهُ سَاكِنَةً بِمَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَتَحْصُلُ لَهُ الْعِلْمُ بِهَا قَطْعًا بِالْخَبَرِ بِمَنْزِلَةِ الْعِلْمِ الْحَاصِلِ لَهُ بِالْعِيَانِ وَالْمُشَاهَدَةِ فَكَانَ مُنْكِرُهُ كَالْمُنْكِرِ لِلْمُشَاهَدَاتِ مِنْ السُّوفِسْطَائِيَّة فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُكَالَمَةَ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَكُونُ الْكَلَامُ مَعَ هَذَا الْمُنْكِرِ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِجَاجِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ، وَمَا ثَبَتَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعِلْمِ دُونَ مَا يَثْبُتُ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا وَالِاسْتِدْلَالُ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ مَعَهُ مِنْ حَيْثُ التَّقْرِيرُ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ بِمَا لَا يَشُكُّ هُوَ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ فِي أَنَّهُ مُكَابَرَةٌ وَجَحْدٌ لِمَا يُعْلَمُ اضْطِرَارًا بِمَنْزِلَةِ اللَّازِمِ مَعَ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لِلْأَشْيَاءِ الْمَحْسُوسَةِ. فَنَقُولُ إذَا رَجَعَ الْمَرْءُ إلَى نَفْسِهِ عَلِمَ أَنَّهُ مَوْلُودٌ اضْطِرَارًا بِالْخَبَرِ كَمَا عَلِمَ أَنَّ وَلَدَهُ مَوْلُودٌ بِالْمُعَايَنَةِ. وَعَلِمَ أَنَّ أَبَوَيْهِ كَانَا مِنْ جِنْسِهِ بِالْخَبَرِ كَمَا عَلِمَ أَنَّ أَوْلَادَهُ مِنْ جِنْسِهِ بِالْعِيَانِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ كَانَ صَغِيرًا ثُمَّ شَابَ

وَمَعْنَى الطُّمَأْنِينَةِ عِنْدَهُمْ مَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَخَالَجَهُ شَكٌّ أَوْ يَعْتَرِيَهُ وَهْمٌ قَالُوا إنَّ الْمُتَوَاتَرَ صَارَ جَمْعًا بِالْآحَادِ، وَخَبَرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُحْتَمَلٌ، وَالِاجْتِمَاعُ يَحْتَمِلُ التَّوَاطُؤَ وَذَلِكَ كَإِخْبَارِ الْمَجُوسِ قِصَّةَ زَرَادُشْتَ اللَّعِينِ، وَإِخْبَارِ الْيَهُودِ صَلْبَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الزَّيْغِ بَعْدَ الْهُدَى. بَلْ الْمُتَوَاتِرُ يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ ضَرُورَةً بِمَنْزِلَةِ الْعِيَانِ بِالْبَصَرِ وَالسَّمْعِ بِالْأُذُنِ وَضْعًا وَتَحْقِيقًا أَمَّا الْوَضْعُ فَإِنَّا نَجِدُ الْمَعْرِفَةَ بِآبَائِنَا بِالْخَبَرِ مِثْلَ الْمَعْرِفَةِ بِأَوْلَادِنَا عِيَانًا وَنَجِدُ الْمَعْرِفَةَ بِأَنَّا مَوْلُودُونَ نَشَأْنَا عَنْ صِغَرٍ مِثْلَ مَعْرِفَتِنَا بِهِ فِي أَوْلَادِنَا وَتَجِدُ الْمَعْرِفَةَ بِجِهَةِ الْكَعْبَةِ خَبَرًا مِثْلَ مَعْرِفَتِنَا بِجِهَةِ مَنَازِلِنَا سَوَاءٌ، وَأَمَّا التَّحْقِيقُ فَلِأَنَّ الْخَلْقَ خُلِقُوا عَلَى هِمَمٍ مُتَفَاوِتَةٍ وَطَبَائِعَ مُتَبَايِنَةٍ لَا تَكَادُ تَقَعُ أُمُورُهُمْ إلَّا مُخْتَلِفَةً فَلَمَّا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ كَانَ ذَلِكَ لِدَاعٍ إلَيْهِ، وَهُوَ سَمَاعٌ أَوْ اخْتِرَاعٌ وَبَطَلَ الِاخْتِرَاعُ؛ لِأَنَّ تَبَايُنَ الْأَمَاكِنِ وَخُرُوجَهُمْ عَنْ الْإِحْصَاءِ مَعَ الْعَدَالَةِ يَقْطَعُ الِاخْتِرَاعَ فَتَعَيَّنَ الْوَجْهُ الْآخَرُ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالْخَبَرِ كَمَا عَلِمَ ذَلِكَ مِنْ وَلَدِهِ بِالْعِيَانِ. وَعَلِمَ أَنَّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ كَانَتَا قَبْلَهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ بِالْخَبَرِ كَمَا يَعْلَمُ أَنَّهُمَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ لِلْحَالِ بِالْعِيَانِ فَمَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَهُوَ مُكَابِرٌ جَاحِدٌ لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ ضَرُورَةً بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَنْكَرَ الْعِيَانَ قَوْله (وَمَعْنَى الطُّمَأْنِينَةِ عِنْدَهُمْ مَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَتَخَالَجَهُ) أَيْ يَقَعَ فِيهِ شَكٌّ، أَوْ يَعْتَرِيَهُ أَيْ يَغْشَاهُ وَيَدْخُلَهُ وَهْمٌ أَيْ غَلَطٌ مِنْ وَهَمَ يَهِمُ إذَا غَلِطَ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِقَوْلِهِ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّا نُوَافِقُهُمْ فِي أَنَّهُ يُوجِبُ عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ أَيْضًا، وَلَكِنَّا نَعْنِي بِالطُّمَأْنِينَةِ الْيَقِينَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى الْيَقِينِ أَيْضًا لِاطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ إلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إخْبَارًا عَنْ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] . أَرَادَ بِهِ كَمَالَ الْيَقِينِ فَقَالَ مَعْنَاهَا عِنْدَهُمْ كَذَا لِيَتَحَقَّقَ الْخِلَافُ قَالُوا؛ لِأَنَّ الْمُتَوَاتِرَ صَارَ جَمْعًا بِالْآحَادِ وَخَبَرُ كُلِّ وَاحِدٍ مُحْتَمِلٌ لِلْكَذِبِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ بِانْضِمَامِ الْمُحْتَمَلِ إلَى الْمُحْتَمَلِ لَا يَزْدَادُ إلَّا الِاحْتِمَالُ إذْ لَوْ انْقَطَعَ الِاحْتِمَالُ. وَلَمْ يَجُزْ الْكَذِبُ عَلَيْهِمْ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ لَانْقَلَبَ الْجَائِزُ مُمْتَنِعًا، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ فَثَبَتَ أَنَّ الِاجْتِمَاعَ مُحْتَمَلٌ لِلتَّوَاطُؤِ عَلَى الْكَذِبِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ لَا يَثْبُتُ عِلْمُ الْيَقِينِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ، وَهُوَ كَوْنُ الْمُخْبِرِ غَيْرَ مَعْصُومٍ عَنْ الْكَذِبِ مَوْجُودٌ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ، وَإِذَا جَازَ الْكَذِبُ عَلَيْهِمْ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ انْتَفَى الْيَقِينُ عَنْ خَبَرِهِمْ عَلَى أَنَّ اجْتِمَاعَ الْجَمِّ الْغَفِيرِ عَلَى الْإِخْبَارِ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْآرَاءِ، وَقَصْدَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ كَمَا لَا يُتَصَوَّرُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَكْلِ طَعَامٍ وَاحِدٍ وَوُقُوعُ الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى تَصَوُّرِهِ لَا مَحَالَةَ ثُمَّ إذَا انْتَفَى الْيَقِينُ عَنْهُ فَأَمَّا أَنْ يَثْبُتَ بِهِ ظَنٌّ كَمَا قَالَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ أَوْ طُمَأْنِينَةٌ كَمَا قَالَ الْفَرِيقُ الثَّانِي وَذَلِكَ أَيْ الِاجْتِمَاعُ عَلَى التَّوَاطُؤِ عَلَى الْكَذِبِ مِثْلُ إخْبَارِ الْمَجُوسِ عَنْ زَرَادُشْتَ اللَّعِينِ فَإِنَّهُ خَرَجَ فِي زَمَنِ مَلِكٍ يُسَمَّى كشتاسب بِبَلْخٍ وَادَّعَى الرِّسَالَةَ مِنْ أَصْلَيْنِ قَدِيمَيْنِ وَآمَنَ بِهِ الْمَلِكُ، وَأَطْبَقَتْ الْمَجُوسُ عَلَى نَقْلِ مُعْجِزَاتِهِ، وَقَدْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنَّا عَدَدًا ثُمَّ كَانَ ذَلِكَ كَذِبًا بِيَقِينٍ إذْ لَوْ كَانَ صِدْقًا لَزِمَ مِنْهُ صِحَّةُ دَعْوَاهُ، وَهِيَ بَاطِلَةٌ بِيَقِينٍ، وَكَذَلِكَ الْيَهُودُ اتَّفَقُوا عَلَى قَتْلِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَصَلْبِهِ وَالنَّصَارَى وَافَقُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَنَقَلُوا ذَلِكَ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا، وَعَدَدُهُمْ لَا يَخْفَى كَثْرَةً وَوُفُورًا ثُمَّ قَدْ ثَبَتَ كَذِبُهُمْ بِالنَّصِّ الْقَاطِعِ فَثَبَتَ أَنَّ احْتِمَالَ الْكَذِبِ لَا يَنْقَطِعُ بِالتَّوَاتُرِ، وَمَعَ بَقَائِهِ لَا يَثْبُتُ عِلْمُ الْيَقِينِ، وَلَكِنْ يَثْبُتُ بِهِ طُمَأْنِينَةٌ لِلْقَلْبِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَعْلَمُ حَيَاةَ رَجُلٍ ثُمَّ يَمُرُّ بِدَارِهِ فَيَسْمَعُ النَّوْحَ وَيَرَى آثَارَ التَّهَيُّؤِ لِغُسْلِ الْمَيِّتِ وَدَفْنِهِ فَيُخْبِرُونَهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ فَيَتَبَدَّلُ بِهَذَا الْحَادِثِ عِلْمُهُ بِحَيَاتِهِ بِعِلْمِهِ بِمَوْتِهِ عَلَى وَجْهِ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ مَعَ احْتِمَالِ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ حِيلَةٌ مِنْهُمْ وَتَلْبِيسٌ لِغَرَضٍ كَانَ لِأَهْلِهِ فِي ذَلِكَ فَهَذَا مِثْلُهُ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ. وَهَذَا أَيْ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُتَوَاتِرَ يُوجِبُ عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ لَا يَقِينٍ قَوْلٌ بَاطِلٌ يُؤَدِّي إلَى الْكُفْرِ فَإِنَّ وُجُودَ الْأَنْبِيَاءِ، وَمُعْجِزَاتِهِمْ لَا يَثْبُتُ خُصُوصًا فِي زَمَانِنَا إلَّا بِالنَّقْلِ فَإِذَا لَمْ يُوجِبْ الْمُتَوَاتِرُ يَقِينًا لَا يَثْبُتُ الْعِلْمُ لِأَحَدٍ فِي زَمَانِنَا بِنُبُوَّتِهِمْ وَحَقِّيَّتِهِمْ حَقِيقَةً، وَهَذَا كُفْرٌ صَرِيحٌ، وَضْعًا أَيْ يُوجِبُ بِوَضْعِهِ وَذَاتِهِ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى اسْتِدْلَالٍ، وَتَحْقِيقًا أَيْ يَدُلُّ الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ عَلَى أَنَّهُ يُوجِبُ الْيَقِينَ لَوْ رَجَعَتْ إلَى الِاسْتِدْلَالِ. وَذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ وَنَوْعٌ مِنْ الْمَعْقُولِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّ الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ إمَّا أَنْ يَكُونَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَقَعَ اتِّفَاقًا أَوْ لِلتَّدَيُّنِ أَوْ لِلْمُوَاضَعَةِ مِنْهُمْ عَلَيْهِ أَوْ لِدَاعٍ دَعَاهُمْ إلَيْهِ. وَالْأَوَّلُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ صُدُورَ الْكَذِبِ اتِّفَاقًا مِنْ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ خَرَجُوا عَنْ حَدِّ الْإِحْصَاءِ لَا يُتَصَوَّرُ عَادَةً كَمَا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى مَأْكَلٍ وَاحِدٍ، وَمَشْرَبٍ وَاحِدٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ اتِّفَاقًا. وَكَذَا الثَّانِي؛ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ مِثْلِ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْكَذِبِ تَدَيُّنًا

وَالطُّمَأْنِينَةُ عَلَى مَا فَسَّرَهُ الْمُخَالِفُ إنَّمَا يَقَعُ بِغَفْلَةٍ مِنْ الْمُتَأَمِّلِ لَوْ تَأَمَّلَ حَقَّ تَأَمُّلِهِ لَوَضَحَ لَهُ فَسَادُ بَاطِنِهِ فَلَمَّا اطْمَأَنَّ بِظَاهِرِهِ كَانَ أَمْرًا مُحْتَمَلًا فَأَمَّا أَمْرٌ يُؤَكِّدُ بَاطِنُهُ ظَاهِرَهُ، وَلَا يَزِيدُ التَّأَمُّلُ إلَّا تَحْقِيقًا فَلَا كَالدَّاخِلِ عَلَى قَوْمٍ جَلَسُوا لِلْمَأْتَمِ يَقَعُ لَهُ الْعِلْمُ بِهِ عَنْ غَفْلَةٍ عَنْ التَّأَمُّلِ، وَلَوْ تَأَمَّلَ حَقَّ تَأَمُّلِهِ لَوَضَحَ لَهُ الْحَقُّ مِنْ الْبَاطِلِ فَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْمُتَوَاتِرِ قَلَّمَا يَجِبُ عَنْ دَلِيلٍ أَوْجَبَ عِلْمًا بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ بِهِ لِمَعْنًى فِي الدَّلِيلِ لَا لِغَفْلَةٍ مِنْ الْمُتَأَمِّلِ، وَصَحَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا قَوْمًا عُدُولًا أَئِمَّةً لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ، وَلَا يَتَّفِقُ أَمَاكِنُهُمْ طَالَتْ صُحْبَتُهُمْ وَاتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ بَعْدَمَا تَفَرَّقُوا شَرْقًا وَغَرْبًا، وَهَذَا يَقْطَعُ الِاخْتِرَاعَ، وَلَمَا تُصُوِّرَ الْخَفَاءُ مَعَ بُعْدِ الزَّمَانِ وَلِهَذَا صَارَ الْقُرْآنُ مُعْجِزَةً؛ لِأَنَّهُمْ عَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ وَاشْتَغَلُوا بِبَذْلِ الْأَرْوَاحِ فَكَانَ خَبَرُهُمْ فِي نِهَايَةِ الْبَيَانِ قَاطِعًا احْتِمَالَ الْوَضْعِ يَقِينًا بِلَا شُبْهَةٍ إذْ لَوْ كَانَ شُبْهَةُ وَضْعٍ لَمَا خَفِيَ مَعَ كَثْرَةِ الْأَعْدَاءِ وَاخْتِلَاطِ أَهْلِ النِّفَاقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47] ذَلِكَ مِثْلُ سَلَامَةِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ الْمُعَارَضَةِ وَعَجْزِ الْبَشَرِ عَنْ ذَلِكَ إذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمَا خَفِيَ مَعَ كَثْرَةِ الْمُتَعَنِّتِينَ، وَهَذَا مِثْلُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQمَعَ كَوْنِ الْعَقْلِ صَارِفًا عَنْهُ وَدَاعِيًا إلَى الصِّدْقِ، وَعَدَمَ دَعْوَةِ الطَّبْعِ وَالْهَوَى إلَيْهِ لِعَدَمِ اللَّذَّةِ وَالرَّاحَةِ فِي نَفْسِ الْكَذِبِ أَمْرٌ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ عَادَةً. وَكَذَا الثَّالِثُ؛ لِأَنَّ كَثْرَتَهُمْ وَتَفَرُّقَ أَمَاكِنِهِمْ وَاخْتِلَافَ هِمَمِهِمْ يَمْنَعُ عَنْ الْمُوَاضَعَةِ عَادَةً.، وَكَذَا الرَّابِعُ؛ لِأَنَّ الدَّاعِيَ إمَّا الرَّغْبَةُ أَوْ الرَّهْبَةُ فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَرْءَ يُقَدَّمُ عَلَى الْكَذِبِ لِرَغْبَتِهِ إلَى الْجَاهِ وَالْمَالِ، وَأَنْوَاعِ النَّفْعِ أَوْ لِخَوْفِ الْإِضْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَالِهِ، وَأَهْلِهِ بِالِامْتِنَاعِ عَنْهُ مِمَّنْ يَأْمُرُهُ بِذَلِكَ، وَهَذَا الدَّاعِي مِمَّا لَا يُتَصَوَّرُ شُمُولُهُ فِي الْجَمَاعَةِ الْعَظِيمَةِ لِاسْتِغْنَاءِ الْبَعْضِ عَلَى حِشْمَةِ الْأَمْرِ وَجَاهِهِ، وَمَالِهِ بِالْكَذِبِ لِكَمَالِ جَاهِهِ، وَكَثْرَةِ أَمْوَالِهِ، وَكَذَا احْتِمَالُ خَوْفِ الضَّرَرِ مَعْدُومٌ فِي حَقِّ الْبَعْضِ لِكَمَالِ قُوَّتِهِ بِنَفْسِهِ، وَأَتْبَاعِهِ نَحْوَ السَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا تَعَيَّنَ كَوْنُهُ صِدْقًا إذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي الْأَخْبَارِ فَكَانَ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فَتْحَ بَابِ الِاسْتِدْلَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُفْضِي إلَى تَطْوِيلِ الْكَلَامِ وَيَزْدَادُ ذَاكَ إشْكَالَاتٍ وَاعْتِرَاضَاتٍ لَا يَتِمُّ الْمَقْصُودُ إلَّا بِالْجَوَابِ الْقَاطِعِ عَنْهَا، وَلَا يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهَا إلَّا بَعْدَ تَدْقِيقَاتٍ عَظِيمَةٍ، وَمِنْ الْبَيِّنِ لِكُلِّ عَاقِلٍ أَنَّ عِلْمَهُ بِوُجُودِ مَكَّةَ، وَمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَظْهَرُ مِنْ عِلْمِهِ بِصِحَّةِ الِاسْتِدْلَالَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَالتَّمَسُّكُ بِالدَّلِيلِ الْخَفِيِّ مَعَ وُجُودِ الدَّلِيلِ الظَّاهِرِ، وَبِنَاءُ الْوَاضِحِ عَلَى الْخَفِيِّ غَيْرُ جَائِزٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْحَقَّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ بِهِ ضَرُورِيٌّ وَالتَّشْكِيكُ وَالتَّرْدِيدُ فِي الضَّرُورِيَّاتِ بَاطِلٌ لَا يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ كَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ. قَوْلُهُ (وَالطُّمَأْنِينَةُ عَلَى مَا فَسَّرَهُ الْمُخَالِفُ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ سَلَّمْنَا أَنَّ تَوَاطُؤَ مِثْلِ هَذَا الْجَمْعِ خِلَافُ الْعَادَةِ، وَلِذَلِكَ أَثْبَتْنَا عِلْمَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَوَهُّمَ الِاتِّفَاقِ مُنْقَطِعٌ بِالْكُلِّيَّةِ فَلِبَقَاءِ هَذَا التَّوَهُّمِ لَمْ يَثْبُتْ عِلْمُ الْيَقِينِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَالِ مَنْ رَأَى آثَارَ الْمَوْتِ فِي دَارِ إنْسَانٍ، وَأَخْبَرَ بِمَوْتِهِ. فَقَالَ الطُّمَأْنِينَةُ أَيْ الِاطْمِئْنَانُ عَلَى مَا فَسَّرَهُ الْمُخَالِفُ فَإِنَّهُ عِلْمٌ يَتَخَالَجُهُ شَكٌّ أَوْ يَعْتَرِيهِ وَهْمٌ. وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ عَلَى تَفْسِيرِ الْمُخَالِفِ إنَّمَا يَقَعُ فِيمَا يَقَعُ مِنْ الصُّوَرِ لِغَفْلَةٍ مِنْ الْمُتَأَمِّلِ حَيْثُ يُكْتَفَى بِالظَّاهِرِ، وَلَا يُتَأَمَّلُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، وَلَوْ تَأَمَّلَ فِي الْأَمْرِ حَقَّ تَأَمُّلِهِ وَجَدَّ فِي طَلَبِ حَقِيقَتِهِ لَوَضَحَ لَهُ فَسَادُ بَاطِنِهِ فَأَمَّا أَمْرٌ يُؤَكِّدُ بَاطِنُهُ ظَاهِرَهُ، وَلَا يَزِيدُهُ التَّأَمُّلُ إلَّا تَحْقِيقًا فَلَا أَيْ لَا يُوجِبُ طُمَأْنِينَةً عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ بَلْ يُوجِبُ يَقِينًا ثُمَّ بَيَّنَ نَظِيرَ مَا يُوجِبُ طُمَأْنِينَةً فَقَالَ كَالدَّاخِلِ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ لَوَضَحَ لَهُ فَسَادُ بَاطِنِهِ، جَلَسُوا لِلْمَأْتَمِ أَيْ لِلْمُصِيبَةِ وَالْمَأْتَمُ عِنْدَ الْعَرَبِ النِّسَاءُ يَجْتَمِعْنَ فِي فَرَحٍ أَوْ حُزْنٍ وَالْجَمْعُ الْمَآتِمُ وَعِنْدَ الْعَامَّةِ الْمُصِيبَةُ يَقُولُونَ كُنَّا فِي مَأْتَمِ فُلَانٍ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ فِي مَنَاحَةِ فُلَانٍ كَذَا فِي الصِّحَاحِ. يَقَعُ لَهُ الْعِلْمُ أَيْ عِلْمُ الطُّمَأْنِينَةِ. وَقَوْلُهُ فَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْمُتَوَاتِرِ نَظِيرُ قَوْلِهِ فَأَمَّا أَمْرٌ يُؤَكِّدُ بَاطِنُهُ ظَاهِرَهُ لِمَعْنًى فِي الدَّلِيلِ، وَهُوَ انْقِطَاعُ تَوَهُّمِ الْمُوَاطَأَةِ، وَفِي مِثْلِ هَذَا كُلَّمَا زَادَ الْمَرْءُ تَأَمُّلًا ازْدَادَ يَقِينًا فَالتَّشْكِيكُ فِيهِ يَكُونُ دَلِيلُ نُقْصَانِ الْعَقْلِ بِمَنْزِلَةِ التَّشْكِيكِ فِي حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ الْمَحْسُوسَةِ. ثُمَّ أَشَارَ إلَى الْمَعْنَى الَّذِي فِي الدَّلِيلِ بِقَوْلِهِ وَصَحَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُمْ كَانُوا كَذَا وَذَكَرَ أَوْصَافًا يُؤَثِّرُ كُلُّ وَاحِدٍ فِي قَطْعِ تَوَهُّمِ الْكَذِبِ مِنْ الْعَدَالَةِ، وَكَثْرَةِ الْعَدَدِ وَاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ وَطُولِ صُحْبَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَاتِّفَاقِ الْكَلِمَةِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ. ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا أَيْ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا يَقْطَعُ الِاخْتِرَاعَ أَيْ الْإِنْشَاءَ وَالِابْتِدَاءَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ عَادَةً. وَقَوْلُهُ، وَلَمَا تُصُوِّرَ الْخَفَاءُ مَعَ بُعْدِ الزَّمَانِ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ إنْ صَحَّ ذَلِكَ أَيْ، وَلَوْ تُصُوِّرَ الِاخْتِرَاعُ مِنْهُمْ لَمَا تُصُوِّرَ خَفَاءُ اخْتِرَاعِهِمْ مَعَ بُعْدِ الزَّمَانِ. وَلَفْظُ بَعْضِ الْكُتُبِ، وَلَوْ كَانَ لَظَهَرَ لَنَا خُصُوصًا مَعَ بُعْدِ الزَّمَانِ، وَكَأَنَّهُ جَوَابُ سُؤَالٍ يَرِدُ عَلَى قَوْلِهِ، وَهَذَا يَقْطَعُ الِاخْتِرَاعَ بِأَنْ يُقَالَ تَوَهُّمُ التَّوَاطُؤِ عَلَى الْكَذِبِ

فَأَمَّا أَخْبَارُ زَرَادُشْتَ فَتَخْيِيلٌ كُلُّهُ فَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّهُ أَدْخَلَ قَوَائِمَ الْفَرَسِ فِي بَطْنِ الْفَرَسِ فَإِنَّمَا رَوَوْا أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي خَاصَّةِ الْمَلِكِ وَحَاشِيَتِهِ وَذَلِكَ آيَةُ الْوَضْعِ وَالِاخْتِرَاعِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ الْمَلِكَ لَمَّا رَأَى شَهَامَتَهُ تَابَعَهُ عَلَى التَّزْوِيرِ وَالِاخْتِرَاعِ فَكَانَ الْعِلْمُ بِهِ لِغَفْلَةِ الْمُتَأَمِّلِ دُونَ صِحَّةِ الدَّلِيلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQغَيْرُ مُنْقَطِعٍ بِمَا ذَكَرْتُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تُصُوِّرَ مِنْهُمْ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الصِّدْقِ وَصُحْبَةُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَعَ تَبَايُنِ أَمَاكِنِهِمْ، وَكَثْرَتِهِمْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُمْ الِاخْتِرَاعُ أَيْضًا. فَقَالَ لَوْ تُصُوِّرَ الِاخْتِرَاعُ مِنْهُمْ لَمْ يُتَصَوَّرْ خَفَاؤُهُ وَعَدَمُ ظُهُورِهِ مَعَ بُعْدِ الزَّمَانِ، وَكَثْرَةِ الْمُخَالِفِينَ وَالْمُعَانِدِينَ فِيهِمْ لِدَعْوَةِ الطِّبَاعِ إلَى إفْشَاءِ الْأَسْرَارِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَضِيقُ صَدْرُهُ عَنْ سِرِّهِ حَتَّى يُفْشِيَهُ إلَى غَيْرِهِ وَيَسْتَكْتِمَهُ ثُمَّ السَّامِعُ يُفْشِيَهُ إلَى غَيْرِهِ فَيَصِيرَ ظَاهِرًا عَنْ قَرِيبٍ فَلَوْ كَانَ هُنَا اخْتِرَاعٌ لَظَهَرَ ذَلِكَ خُصُوصًا عِنْدَ طُولِ الْمُدَّةِ، وَكَثْرَةِ الْأَعْدَاءِ. وَلِهَذَا أَيْ؛ وَلِأَنَّ تَصَوُّرَ احْتِمَالِ الْخَفَاءِ مُنْقَطِعٌ. صَارَ الْقُرْآنُ مُعْجِزَةً أَيْ تَحَقَّقَ وَظَهَرَ كَوْنُهُ مُعْجِزًا؛ لِأَنَّ إعْجَازَهُ تَوَقَّفَ عَلَى عَجْزِهِمْ عَنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ عَجْزُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ قَدَرُوا عَلَيْهِ لَأَتَوْا بِهِ بَعْدَ تَحَدِّيهِمْ فِي مَحَافِلِهِمْ بِذَلِكَ، وَلَمَا اشْتَغَلُوا بِبَذْلِ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ، وَلَوْ أَتَوْا بِهِ لَمَا خَفِيَ ذَلِكَ مَعَ كَثْرَةِ الْمُشْرِكِينَ وَتَبَاعُدِ الزَّمَانِ كَمَا لَمْ تَخْفَ خُرَافَاتُ مُسَيْلِمَةَ، وَهَذَيَانَاتُ الْمُتَنَبِّئِينَ قَاطِعًا احْتِمَالَ الْوَضْعِ أَيْ احْتِمَالَ الِاخْتِرَاعِ وَالتَّقَوُّلِ، وَذَلِكَ أَيْ انْقِطَاعُ احْتِمَالِ الِاخْتِرَاعِ. الْمُتَعَنِّتِينَ أَيْ الطَّالِبِينَ لِمَعَايِبِ الْإِسْلَامِ يُقَالُ جَاءَنِي فُلَانٌ مُتَعَنِّتًا إذَا جَاءَ يَطْلُبُ زَلَّتَكَ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا أَخْبَارُ زَرَادُشْتَ) جَوَابٌ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِنَقْلِ الْمَجُوسِ قِصَّةَ زَرَادُشْتَ بِالتَّوَاتُرِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ مَا نَقَلَ الْمَجُوسُ عَنْهُ مِنْ أَفْعَالِهِ الْخَارِجَةِ عَنْ الْعَادَةِ مِثْلُ عَدَمِ تَضَرُّرِهِ بِوَضْعِ طَسْتٍ مِنْ نَارٍ عَلَى صَدْرِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ فِعْلِ الْمُشَعْوِذِينَ لَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ، وَعَدَمُ تَضَرُّرِهِ بِالنَّارِ مِنْ بَابِ خَوَاصِّ الْأَشْيَاءِ لَا مِنْ بَابِ الْإِعْجَازِ فَأَنَّا قَدْ رَأَيْنَا الْمُشَعْوِذِينَ يَلْعَبُونَ بِالنَّارِ مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ بِهِمْ، وَمِثْلُهُ فِي مَلَاعِبِهِمْ وَشَعْوَذَتِهِمْ كَثِيرٌ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّهُ أَدْخَلَ قَوَائِمَ الْفَرَسِ فِي بَطْنِ الْفَرَسِ فَبَقِيَ مُعَلَّقًا فِي الْهَوَاءِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ فَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ شَرْطُ التَّوَاتُرِ، وَهُوَ اسْتِوَاءُ الطَّرَفَيْنِ وَالْوَسَطِ؛ لِأَنَّهُمْ رَوَوْا أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي خَاصَّةِ الْمَلِكِ وَحَاشِيَتِهِ أَيْ صِغَارِ قَوْمِهِ لَا فِي كِبَارِهِمْ وَلَا فِي الْأَسْوَاقِ، وَمَجَامِعِ النَّاسِ، وَقَدْ يُتَصَوَّرُ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْقَوْمِ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ التَّوَاتُرُ، وَلَا حَقِيقَةُ دَعْوَاهُ، إلَّا أَنَّ أَيْ: لَكِنَّ ذَلِكَ الْمَلِكَ، وَهُوَ كشتاسب لَمَّا رَأَى شَهَامَتَهُ أَيْ دَهَاءَهُ وَذَكَاءَهُ تَابَعَهُ عَلَى التَّزْوِيرِ وَالِاخْتِرَاعِ وَوَاطَأَهُ عَلَى أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ وَيَجْعَلَهُ أَحَدَ أَرْكَانِ مَمْلَكَتِهِ لِيَدْعُوَ النَّاسَ إلَى تَعْظِيمِ الْمُلُوكِ وَتَحْسِينِ أَفْعَالِهِمْ، وَمُرَاعَاةِ حُقُوقِهِمْ فِي كُلِّ حَقٍّ وَبَاطِلٍ، وَيَكُونُ الْمَلِكُ مِنْ وَرَائِهِ بِالسَّيْفِ يُجْبِرُ النَّاسَ عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِهِ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى هَذِهِ الْمُوَاطَأَةِ حَاجَتُهُ إلَيْهَا فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيْتٌ قَدِيمٌ فِي الْمُلْكِ، وَكَانَ النَّاسُ لَا يُعَظِّمُونَهُ فَاحْتَالُوا بِهَذِهِ الْحِيلَةِ ثُمَّ نَقَلُوا عَنْهُ أُمُورًا لَا أَصْلَ لَهَا تَرْوِيجًا لِأَمْرِهِ وَتَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الْمِلْكِ. وَقَدْ سَمِعْتُ عَنْ بَعْضِ الثِّقَاتِ أَنَّهُ كَانَ لِلْمَلِكِ أُخْتٌ جَمِيلَةٌ فِي نِهَايَةِ الْحُسْنِ، وَقَدْ شَغَفَ بِهَا الْمَلِكُ، وَكَانَ يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لَكِنَّهُ كَانَ يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ انْقِلَابِ الرَّعِيَّةِ وَالْمُلْكِ وَاحْتِرَازًا عَنْ الْمَلَامَةِ فَتَفَرَّسَ زَرَادُشْتُ اللَّعِينُ مِنْهُ وَادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَأَبَاحَ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ فَوَافَقَ ذَلِكَ رَأْيَ الْمَلِكِ فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِمُتَابَعَتِهِ فَفَشَا أَمْرُهُ بَيْنَ النَّاسِ وَنَقَلُوا عَنْهُ أُمُورًا كُلُّهَا كَذِبٌ لَا أَصْلَ لَهَا. وَالثَّانِي أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا تَسْلِيمَ جَدَلٍ أَنَّ مَا نُقِلَ عَنْهُ مِنْ أَفْعَالِهِ الْخَارِجَةِ عَنْ الْعَادَةِ لَمْ يَكُنْ كَذِبًا لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ

وَكَذَلِكَ أَخْبَارُ الْيَهُودِ مَرْجِعُهَا إلَى الْآحَادِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا سَبْعَةَ نَفَرٍ دَخَلُوا عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمَصْلُوبُ فَلَا يُتَأَمَّلُ عَادَةً مَعَ تَغَيُّرِ هَيْئَاتِهِ وَعَلَى أَنَّهُ أُلْقِيَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شَبَهُهُ كَمَا قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى، {وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى صِدْقِ دَعْوَاهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ظُهُورَ خِلَافِ الْعَادَةِ لَا يَجُوزُ عَلَى يَدِ الْمُتَنَبِّي إذَا ادَّعَى شَيْئًا لَا يَرُدُّهُ الْعَقْلُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ أَدَّى إلَى اشْتِبَاهِ أَمْرِ النُّبُوَّةِ فَأَمَّا إذَا ادَّعَى مَا يَدُلُّ الْعَقْلُ عَلَى كَذِبِهِ وَبُطْلَانِهِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَظْهَرَ عَلَى يَدِهِ خِلَافُ الْعَادَةِ اسْتِدْرَاجًا كَمَا يَجُوزُ ظُهُورُهُ عَلَى يَدِ الْمُتَأَلِّهِ لِعَدَمِ تَأْدِيَتِهِ حِينَئِذٍ إلَى اشْتِبَاهِ الْأَمْرِ عَلَى النَّاسِ فَإِنَّ مَنْ ادَّعَى أَنَّ الْخَمْسَةَ ثُلُثُ الْعَشَرَةِ، وَظَهَرَ عَلَى يَدِهِ خِلَافُ عَادَةٍ لَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ، وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ لِظُهُورِ كَذِبِهِ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ ثُمَّ إنَّ اللَّعِينَ ادَّعَى أَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ أَصْلَيْنِ قَدِيمَيْنِ يزدان وآهرمن، وَهَذَا قَوْلٌ بَيِّنُ التَّنَاقُضِ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ عُرِفَ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ فَسَادُهُ وَبُطْلَانُهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَظْهَرَ عَلَى يَدَيْهِ خِلَافُ الْعَادَةِ اسْتِدْرَاجًا لِظُهُورِ كَذِبِ دَعْوَاهُ كَمَا يَجُوزُ ظُهُورُهُ عَلَى يَدَيْ الدَّجَّالِ اللَّعِينِ كَمَا جَاءَ بِهِ الْأَثَرُ قَوْلُهُ. (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَمِثْلُ أَخْبَارِ الْمَجُوسِ أَخْبَارُ الْيَهُودِ مَرْجِعُهَا إلَى الْآحَادِ فَإِنَّ الَّذِينَ دَخَلُوا عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ كَانُوا سَبْعَةَ نَفَرٍ أَوْ سِتَّةً، وَاحْتِمَالُ التَّوَطُّؤِ عَلَى الْكَذِبِ فِيهِمْ ثَابِتٌ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ الْمَسِيحَ بِحِلْيَتِهِ، وَإِنَّمَا جَعَلُوا لِرَجُلٍ جُعَلًا فَدَلَّهُمْ عَلَى شَخْصٍ فِي بَيْتٍ فَهَجَمُوا عَلَيْهِ، وَقَتَلُوهُ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ قَتَلُوا عِيسَى، وَأَشَاعُوا الْخَبَرَ وَبِمِثْلِهِ لَا يَحْصُلُ التَّوَاتُرُ. وَكَذَلِكَ أَخْبَارُ النَّصَارَى بِقَتْلِهِ لَمْ تَثْبُتْ بِالتَّوَاتُرِ فَإِنَّ خَبَرَ قَتْلِهِ مِنْهُمْ مُسْنَدٌ إلَى أَرْبَعَةٍ مِنْهُمْ يُوحَنَّا، وَمَتَى وَلُوقَا، وَمَرْعَشُ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ يُوحَنَّا وَيُوَفِّنَا، وَمَتَى، وَمَارْقِيشَ وَيَتَحَقَّقُ الْكَذِبُ مِنْهُمْ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْمَصْلُوبُ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الصَّلْبُ أَمْرٌ مُعَايَنٌ، وَقَدْ شَاهَدَهُ جَمَاعَةٌ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ فَقَالَ الْمَصْلُوبُ يُنْظَرُ مِنْ بَعِيدٍ، وَلَا يُتَأَمَّلُ فِيهِ عَادَةً؛ لِأَنَّ الطِّبَاعَ تَنْفِرُ عَنْ التَّأَمُّلِ فِيهِ مَعَ أَنَّ الْحِلْيَةَ وَالْهَيْئَةَ تَتَغَيَّرُ بِهِ أَيْضًا فَيَتَمَكَّنُ فِيهِ الِاشْتِبَاهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ التَّوَاتُرَ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي صَلْبِهِ كَمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي قَتْلِهِ عَلَى أَنَّ الْعِيسَوِيَّةَ مِنْ النَّصَارَى، وَهُوَ فِرْقَةٌ كَثِيرَةٌ تُوَافِقُنَا أَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يُقْتَلْ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَعَلَيْهِ نَصَارَى الْحَبَشَةِ، وَفِي الْيَهُودِ مَنْ يَقُولُ بِهِ أَيْضًا كَذَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ. وَقَوْلُهُ عَلَى أَنَّهُ أُلْقِيَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شَبَهُهُ جَوَابٌ آخَرُ لِلسُّؤَالِ الْمُقَدَّرِ يَعْنِي سَلَّمْنَا أَنَّ التَّوَاتُرَ فِي قَتْلِ رَجُلٍ ظَنُّوهُ عِيسَى وَصَلْبُهُ قَدْ وُجِدَ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ لَمْ يَكُنْ عِيسَى، وَإِنَّمَا كَانَ مُشَبَّهًا بِهِ كَمَا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] . وَقَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ «أَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لِمَنْ كَانَ مَعَهُ مَنْ يُرِيدُ مِنْكُمْ أَنْ يُلْقِيَ اللَّهُ شَبَهِي عَلَيْهِ فَيُقْتَلَ، وَلَهُ الْجَنَّةُ فَقَالَ رَجُلٌ أَنَا فَأَلْقَى اللَّهُ تَعَالَى شَبَهَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقُتِلَ الرَّجُلُ وَرُفِعَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَى السَّمَاءِ» . ثُمَّ يَرِدُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَ بِإِلْقَاءِ الشَّبَهِ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ الْحَقَائِقِ كَمَا قَالَهُ السُّوفِسْطَائِيَّة فَإِنَّهُ لَمَّا جَازَ إلْقَاءُ شَبَهِ عِيسَى عَلَى غَيْرِهِ جَازَ إلْقَاءُ شَبَهِ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى غَيْرِهِ. وَيُؤَدِّي أَيْضًا إلَى أَنَّ مَا نُقِلَ بِالتَّوَاتُرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ السَّامِعِينَ تَلَقَّوْهُ مِنْ رَجُلٍ ظَنُّوهُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَمْ يَكُنْ بَلْ أُلْقِيَ شَبَهُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ. وَيُؤَدِّي أَيْضًا إلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِالرُّسُلِ لَا يَتَحَقَّقُ لِمَنْ يُعَايِنُهُمْ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ شَبَهُهُمْ مُلْقًى عَلَى غَيْرِهِمْ كَيْفَ وَالْإِيمَانُ بِالْمَسِيحِ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَمَنْ أُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُ الْمَسِيحُ كَانَ الْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبًا عَلَى زَعْمِكُمْ، وَفِي هَذَا قَوْلٌ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ عَلَى عِبَادِهِ

وَذَلِكَ جَائِزٌ اسْتِدْرَاجًا، وَمَكْرًا عَلَى قَوْمٍ مُتَعَنِّتِينَ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فَكَانَ مُحْتَمَلًا مَعَ أَنَّ الرُّوَاةَ أَهْلُ تَعَنُّتٍ وَعَدَاوَةٍ فَبَطَلَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ بِالتَّوَاتُرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فَصَارَ مُنْكِرُ الْمُتَوَاتِرِ، وَمُخَالِفُهُ كَافِرًا. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْكُفْرَ بِالْحُجَّةِ، وَهِيَ الْمُعْجِزَةُ الَّتِي جَرَتْ عَلَى يَدِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَكَانَ بَاطِلًا. فَأَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَذَلِكَ جَائِزٌ اسْتِدْرَاجًا يَعْنِي إلْقَاءُ الشَّبَهِ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْرَاجِ جَائِزٌ فِي حَقِّ قَوْمٍ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ لِيَزْدَادُوا طُغْيَانًا، وَمَرَضًا إلَى مَرَضِهِمْ، وَلَكِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي حَقِّ قَوْمِ الرَّسُولِ لِيُؤْمِنُوا بِهِ حَتَّى لَوْ جَاءَهُ قَوْمٌ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِيُؤْمِنُوا بِهِ رَفَعَ اللَّهُ الشَّبَهَ مِنْهُ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى التَّلْبِيسِ فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ لَوْ ادَّعَى أَحَدٌ النُّبُوَّةَ بَيْنَ قَوْمٍ، وَفِي يَدِهِ حَجَرُ الْمِغْنَاطِيسِ، وَلَمْ يَعْرِفْ الْقَوْمُ الْحَجَرَ، وَقَالَ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَايَ أَنْ يَجْذِبَ هَذَا الْحَجَرُ الْحَدِيدَ رَفَعَ اللَّهُ تِلْكَ الْخَاصِّيَّةَ عَنْ ذَلِكَ الْحَجَرِ لِئَلَّا يَصِيرَ تَلْبِيسًا. ثُمَّ فِيهِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، وَهِيَ دَفْعُ شَرِّ الْأَعْدَاءِ عَنْ الْمَسِيحِ بِوَجْهٍ لَطِيفٍ وَلِلَّهِ تَعَالَى لَطَائِفُ فِي دَفْعِ الْمَكَارِهِ عَنْ الرُّسُلِ كَمَا دَفَعَ شَرَّ أَبِي لَهَبٍ عَنْ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِمَنْعِهِ عَنْ رُؤْيَةِ الرَّسُولِ، وَقَدْ كَانَ جَالِسًا مَعَ أَبِي بَكْرٍ حَيْثُ قَالَ أَبُو لَهَبٍ أَيْنَ صَاحِبُك الَّذِي هَجَانِي أَرَادَ بِهِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] . وَقَوْلُهُ فَكَانَ أَيْ خَبَرُهُمْ مُحْتَمِلًا لِلْكَذِبِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ مَرْجِعُهَا إلَى الْآحَادِ. مَعَ أَنَّ الرُّوَاةَ يَعْنِي السَّبْعَةَ الدَّاخِلِينَ عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَبَطَلَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا الْمُخَالِفُ مِنْ قِصَّةِ زَرَادُشْتَ، وَأَخْبَارِ الْيَهُودِ عَنْ قَتْلِ عِيسَى وَصَلْبِهِ بِالْمُتَوَاتِرِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِتَخْيِيلٍ، وَلَا مِنْ خَاصَّةِ مِلْكٍ، وَلَيْسَ مَرْجِعُهُ إلَى الْآحَادِ أَيْضًا يَعْنِي لَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ هَذِهِ الْوُجُوهِ تَمَكُّنُ الشُّبْهَةِ فِي الْمُتَوَاتِرِ؛ لِأَنَّ مَا نَشَأَ مِنْهُ فَسَادُهَا لَمْ يُوجَدْ فِي الْمُتَوَاتِرِ أَصْلًا. أَوْ مَعْنَاهُ لَمَّا كَانَتْ قِصَّةُ زَرَادُشْتَ، وَأَخْبَارُ الْيَهُودِ مَبْنِيَّةً عَلَى التَّخْيِيلِ وَرَاجِعَةً إلَى الْآحَادِ كَانَتْ مُحْتَمِلَةً لِلْكَذِبِ، وَقَدْ وَرَدَتْ نُصُوصٌ قَاطِعَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ بِخِلَافِهَا مِثْلَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} [النساء: 157] . وَالنُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ بَطَلَتْ تِلْكَ الْأَخْبَارُ الْمُحْتَمَلَةُ أَيْ ظَهَرَ كَذِبُهَا وَبُطْلَانُهَا بِهَذِهِ النُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي لَا مَدْخَلَ لِلِاحْتِمَالِ فِيهَا؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الْمُحْتَمَلَ لَا يَبْقَى مُعْتَبَرًا إذَا اعْتَرَضَ عَلَيْهِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ كَمَنْ أَخْبَرَ بِهَلَاكِ زَيْدٍ ثُمَّ رَآهُ بَعْدُ حَيًّا. وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمْ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ فَسَيَأْتِي جَوَابُهُ. ثُمَّ مَنْ قَالَ الْمُتَوَاتِرُ يُوجِبُ عِلْمًا اسْتِدْلَالِيًّا تَمَسَّكَ بِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ لَيْسَ إلَّا تَرْتِيبُ مُقَدِّمَاتٍ صَادِقَةٍ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِهِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ أَمْرٌ مَحْسُوسٌ، وَأَنَّ الْمُخْبِرِينَ جَمَاعَةٌ لَا حَامِلَ لَهُمْ عَلَى التَّوَاطُؤِ عَلَى الْكَذِبِ، وَأَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ كَذِبًا فَيَلْزَمُ مِنْهُ الصِّدْقُ لِعَدَمِ الْوَاسِطَةِ وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ضَرُورِيًّا لَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ كَمَا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ الشَّيْءَ أَعْظَمُ مِنْ جُزْئِهِ، وَأَنَّ الْمَوْجُودَ لَا يَكُونُ مَعْدُومًا وَحَيْثُ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلِمْنَا أَنَّهُ مُكْتَسَبٌ بِمَنْزِلَةِ مَا يَثْبُتُ مِنْ الْعِلْمِ بِالنُّبُوَّةِ عِنْدَ مَعْرِفَةِ الْمُعْجِزَاتِ. وَجْهُ قَوْلِ الْعَامَّةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ اسْتِدْلَالِيًّا لَاخْتَصَّ بِهِ مَنْ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِدْلَالِ، وَقَدْ رَأَيْنَا أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِهِمْ فَإِنَّ وَاحِدًا فِي صِغَرِهِ يَعْلَمُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ بِالْخَبَرِ كَمَا يَعْلَمُهُمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الِاسْتِدْلَالَ أَصْلًا. وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ اسْتِدْلَالِيًّا لَجَازَ الْخِلَافُ فِيهِ عَقْلًا؛ لِأَنَّ شَأْنَ الْعُلُومِ الِاسْتِدْلَالِيَّة كَذَلِكَ. قَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ: الْعِلْمُ بِالْمُلُوكِ الْمَاضِيَةِ وَالْبُلْدَانِ النَّائِيَةِ حَاصِلٌ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ وَصُنْعٍ مِنْ جِهَةِ الْعَالِمِ بِهِ، وَهُوَ حَدُّ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، وَإِنَّمَا اشْتَغَلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِالِاسْتِدْلَالِ لِلْإِلْزَامِ عَلَى مَنْ يُنْكِرُ الضَّرُورَةَ تَعَنُّتًا، وَمُكَابَرَةً، وَهُوَ يَعْتَقِدُ الْعِلْمَ الِاسْتِدْلَالِيَّ فَيَقُومُ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ هَذَا مَعْلُومًا لَمَا خَالَفْنَاكُمْ قُلْنَا مَنْ يُخَالِفُ فِي هَذَا فَإِنَّمَا يُخَالِفُ بِلِسَانِهِ أَوْ لِخَبْطٍ فِي عَقْلِهِ أَوْ عِنَادٍ، وَلَوْ تَرَكْنَا مَا عَلِمْنَا ضَرُورَةً بِقَوْلِكُمْ لَلَزِمَكُمْ تَرْكُ الْمَحْسُوسَاتِ بِسَبَبِ

[باب المشهور]

(بَابُ الْمَشْهُورِ) (مِنْ الْأَخْبَارِ) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمَشْهُورُ مَا كَانَ مِنْ الْآحَادِ فِي الْأَصْلِ ثُمَّ انْتَشَرَ فَصَارَ يَنْقُلُهُ قَوْمٌ لَا يُتَوَهَّمُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَهُمْ الْقَرْنُ الثَّانِي بَعْدَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَأُولَئِكَ قَوْمٌ ثِقَاتٌ أَئِمَّةٌ لَا يُتَّهَمُونَ فَصَارَ بِشَهَادَتِهِمْ وَتَصْدِيقِهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَوَاتِرِ حُجَّةً مِنْ حُجَجِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى قَالَ الْجَصَّاصُ: إنَّهُ أَحَدُ قِسْمَيْ الْمُتَوَاتِرِ، وَقَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ: إنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ الْأَخْبَارِ يُضَلَّلُ جَاحِدُهُ، وَلَا يُكَفَّرُ مِثْلُ حَدِيثِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَحَدِيثِ الرَّجْمِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْمَشْهُورَ بِشَهَادَةِ السَّلَفِ صَارَ حُجَّةً لِلْعَمَلِ بِهِ كَالْمُتَوَاتِرِ فَصَحَّتْ الزِّيَادَةُ بِهِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ نَسْخٌ عِنْدَنَا وَذَلِكَ ـــــــــــــــــــــــــــــQخِلَافِ السُّوفِسْطَائِيَّة. ، وَقَوْلُهُمْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَرْتِيبِ الْمُقَدِّمَاتِ قُلْنَا لَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْتِيبِهَا كَوْنُ الْقَضِيَّةِ الْحَاصِلَةِ مِنْهَا نَظَرِيَّةً؛ لِأَنَّ صُورَةَ التَّرْتِيبِ أَوْ التَّرْكِيبِ مُمْكِنَةٌ فِي كُلِّ ضَرُورِيٍّ حَتَّى فِي أَظْهَرِ الضَّرُورِيَّاتِ كَقَوْلِنَا الشَّيْءُ إمَّا أَنْ يَكُونَ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ بِأَنْ يُقَالَ الْكَوْنُ، وَهُوَ الْوُجُودُ وَاللَّا كَوْنُ، وَهُوَ الْعَدَمُ مُتَقَابِلَانِ وَالْمُتَقَابَلَانِ يَمْتَنِعُ إنْصَافُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ بِهِمَا فَالشَّيْءُ إمَّا أَنْ يَكُونَ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ إمْكَانَ صُورَةِ التَّرْتِيبِ لَا يَكْفِي فِي كَوْنِ الْعِلْمِ نَظَرِيًّا بَلْ يُحْتَاجُ مَعَ ذَلِكَ إلَى الْعِلْمِ بِارْتِبَاطِ تِلْكَ الْمُقَدِّمَاتِ بِالْمَطْلُوبِ، وَأَنَّهَا الْوَاسِطَةُ الْمُفْضِيَةُ إلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْمَشْهُورِ] (بَابُ الْمَشْهُورِ مِنْ الْأَخْبَارِ هَذَا الْبَابُ لِبَيَانِ الْقِسْمِ الثَّانِي) مِنْ أَقْسَامِ الِاتِّصَالِ، وَهُوَ الَّذِي فِيهِ ضَرْبُ شُبْهَةٍ صُورَةً لَا مَعْنًى؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ الْآحَادِ فِي الْأَصْلِ كَانَ فِي الِاتِّصَالِ ضَرْبُ شُبْهَةِ صُورَةٍ، وَلِمَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ مَعَ عَدَالَتِهِمْ وَتَصَلُّبِهِمْ فِي الدِّينِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَوَاتِرِ. وَهُوَ اسْمٌ لِخَبَرِ كَانَ مِنْ الْآحَادِ فِي الْأَصْلِ أَيْ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ انْتَشَرَ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي حَتَّى رَوَتْهُ جَمَاعَةٌ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَقِيلَ هُوَ مَا تَلَقَّتْهُ الْعُلَمَاءُ بِالْقَبُولِ. وَالِاعْتِبَارُ لِلِاشْتِهَارِ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، وَلَا عِبْرَةَ لِلِاشْتِهَارِ فِي الْقُرُونِ الَّتِي بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ فَإِنَّ عَامَّةَ أَخْبَارِ الْآحَادِ اُشْتُهِرَتْ فِي هَذِهِ الْقُرُونِ، وَلَا تُسَمَّى مَشْهُورَةً فَلَا يَجُوزُ بِهَا الزِّيَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ مِثْلُ خَبَرِ الْفَاتِحَةِ وَالتَّسْمِيَةِ فِي الْوُضُوءِ وَغَيْرِهِمَا. وَيُسَمَّى هَذَا الْقِسْمُ مَشْهُورًا، وَمُسْتَفِيضًا مِنْ شَهَرَ يَشْهَرُ شَهْرًا وَشُهْرَةً فَاشْتُهِرَ أَيْ وَضَحَ، وَمِنْهُ شَهَرَ سَيْفَهُ إذَا سَلَّهُ. وَاسْتَفَاضَ الْخَبَرُ أَيْ شَاعَ وَخَبَرٌ مُسْتَفِيضٌ أَيْ مُنْتَشِرٌ بَيْنَ النَّاسِ. وَأَمَّا حُكْمُهُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّهُ مُلْحَقٌ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَلَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ. وَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ مِثْلُ الْمُتَوَاتِرِ فَيَثْبُتُ بِهِ عِلْمُ الْيَقِينِ لَكِنْ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ لَا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْقَوَاطِعِ: خَبَرُ الْوَاحِدِ الَّذِي تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ يُقْطَعُ بِصِدْقِهِ مِثْلَ خَبَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ وَخَبَرِ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا وَخَبَرِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ فِي الْجَنِينِ، وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْأَخْبَارَ. وَذَهَبَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ يُوجِبُ عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ لَا عِلْمَ يَقِينٍ فَكَانَ دُونَ الْمُتَوَاتِرِ، وَفَوْقَ خَبَرِ الْوَاحِدِ حَتَّى جَازَتْ الزِّيَادَةُ بِهِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ تَعْدِلُ النَّسْخَ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ النَّسْخُ بِهِ مُطْلَقًا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ وَالشَّيْخَيْنِ وَعَامَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ. قَالَ أَبُو الْيُسْرِ وَحَاصِلُ الِاخْتِلَافِ رَاجِعٌ إلَى الْإِكْفَارِ فَعِنْدَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ يَعْنِي مِنْ أَصْحَابِنَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ وَعِنْدَ الْفَرِيقِ الثَّانِي لَا يَكْفُرُ وَنَصَّ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى أَنَّ جَاحِدَهُ لَا يَكْفُرُ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْمِيزَانِ أَيْضًا وَعَلَى هَذَا لَا يَظْهَرُ أَثَرُ الْخِلَافِ فِي الْأَحْكَامِ. وَجْهُ قَوْلِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ التَّابِعِينَ لَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ ثَبَتَ صِدْقُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَهَّمُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى الْقَبُولِ إلَّا بِجَامِعِ جَمْعِهِمْ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا تَعْيِينَ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي الرُّوَاةِ وَلِهَذَا سَمَّيْنَا الْعِلْمَ الثَّابِتَ بِهِ اسْتِدْلَالِيًّا لَا ضَرُورِيًّا إلَّا أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ؛ لِأَنَّ إنْكَارَهُ وَجُحُودَهُ لَا يُؤَدِّي إلَى تَكْذِيبِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَدَدٌ لَا يُتَصَوَّرُ

مِثْلُ زِيَادَةِ الرَّجْمِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالتَّتَابُعِ فِي صِيَامِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي الْأَصْلِ مِنْ الْآحَادِ ثَبَتَ بِهِ شُبْهَةٌ فَسَقَطَ بِهِ عِلْمُ الْيَقِينِ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ اعْتِبَارُهُ فِي الْعَمَلِ فَاعْتَبَرْنَاهُ فِي الْعِلْمِ؛ لِأَنَّا لَا نَجِدُ وُسْعًا فِي رَدِّ الْمُتَوَاتِرِ، وَإِنَّمَا يَشُكُّ فِيهِ صَاحِبُ الْوَسْوَاسِ، وَنَخْرُجُ فِي رَدِّ الْمَشْهُورِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَازُ عَنْ الْمُتَوَاتِرِ إلَّا بِمَا يَشُقُّ دَرْكُهُ لَكِنَّ الْعِلْمَ بِالْمُتَوَاتِرِ كَانَ لِصِدْقٍ فِي نَفْسِهِ فَصَارَ يَقِينًا، وَالْعِلْمُ بِالْمَشْهُورِ لِغَفْلَةٍ عَنْ ابْتِدَائِهِ وَسُكُونٍ إلَى حَالِهِ فَسُمِّيَ عِلْمُ طُمَأْنِينَةٍ، وَالْأَوَّلُ عِلْمُ الْيَقِينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQتَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ بَلْ هُوَ خَبَرٌ وَاحِدٌ قَبِلَهُ الْعُلَمَاءُ فِي الْعَصْرِ الثَّانِي، وَإِنَّمَا يُؤَدِّي إلَى تَخْطِئَةِ الْعُلَمَاءِ فِي الْقَبُولِ وَاتِّهَامِهِمْ بِعَدَمِ التَّأَمُّلِ فِي كَوْنِهِ عَنْ الرَّسُولِ غَايَةَ التَّأَمُّلِ، وَتَخْطِئَةُ الْعُلَمَاءِ لَيْسَتْ بِكُفْرٍ بَلْ هِيَ بِدْعَةٌ وَضَلَالٌ بِخِلَافِ إنْكَارِ الْمُتَوَاتِرِ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَكْذِيبِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذْ الْمُتَوَاتِرُ بِمَنْزِلَةِ الْمَسْمُوعِ مِنْهُ وَتَكْذِيبُ الرَّسُولِ كُفْرٌ. وَجْهُ قَوْلِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ، وَإِنْ صَارَ حُجَّةً بِشَهَادَةِ السَّلَفِ بِحَيْثُ صَحَّتْ الزِّيَادَةُ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ لَكِنْ بَقِيَ فِيهِ شُبْهَةُ الِانْفِصَالِ، وَتَوَهُّمُ الْكَذِبِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ رُوَاتَهُ فِي الْأَصْلِ لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ التَّوَاتُرِ فَيَسْقُطُ بِهِ عِلْمُ الْيَقِينِ وَلِهَذَا لَمْ يَكْفُرْ جَاحِدُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِإِنْكَارِ الْيَقِينِ.، وَلَمْ يَسْتَقِمْ اعْتِبَارُهُ أَيْ اعْتِبَارُ مَا يَثْبُتُ فِيهِ مِنْ الشُّبْهَةِ أَوْ اعْتِبَارُ كَوْنِهِ مِنْ الْآحَادِ فِي الْأَصْلِ. فِي الْعَمَلِ أَيْ فِي كَوْنِهِ مُوجِبًا لِلْعَمَلِ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ الثَّابِتَةَ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسَ الَّتِي هِيَ فَوْقَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ لَا تُؤَثِّرُ فِي إسْقَاطِ الْعَمَلِ بِهِمَا فَهَذِهِ أَوْلَى. فَاعْتَبَرْنَاهُ فِي الْعِلْمِ فَأَثَّرَتْ فِي سُقُوطِ الْيَقِينِ، إلَّا بِمَا يَشُقُّ دَرْكُهُ فَيَكُونُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَالْمُتَوَاتِرِ لَكِنَّ الْعِلْمَ بِالْمُتَوَاتِرِ كَانَ لِصِدْقٍ فِي نَفْسِهِ لِانْقِطَاعِ تَوَهُّمِ الْكَذِبِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالْعِلْمِ بِالْمَشْهُورِ لِغَفْلَةٍ عَنْ ابْتِدَائِهِ وَسُكُونٍ إلَى حَالِهِ يَعْنِي إنَّمَا يَحْصُلُ لَهُ الْعِلْمُ بِلَا اضْطِرَابٍ وَشُبْهَةٍ إذَا غُفِلَ عَنْ كَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ فِي الْأَصْلِ وَسَكَنَ إلَى شُهْرَتِهِ الْحَادِثَةِ فِي الْحَالِ، وَكَوْنِهِ مَقْبُولًا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ لَكِنْ لَوْ تَأَمَّلَ فِي ابْتِدَائِهِ لَاعْتَرَاهُ وَهْمٌ وَتَخَالَجَهُ شَكٌّ فَلِذَلِكَ سُمِّيَ عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ. قَوْلُهُ (وَذَلِكَ) أَيْ الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ. مِثْلُ زِيَادَةِ الرَّجْمِ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ» . وَبِرَجْمِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَاعِزًا وَغَيْرَهُمَا. وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ بِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ وَغَيْرِهِ. وَالتَّتَابُعِ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ. وَقَدْ تَحَقَّقَ النَّسْخُ مَعْنًى فِي هَذِهِ الصُّوَرِ بِهَذِهِ الزِّيَادَاتِ فَإِنَّ عُمُومَ قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] . يَتَنَاوَلُ الْمُحْصَنَ كَمَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ فَبِزِيَادَةِ الرَّجْمِ انْتَسَخَ حُكْمُ الْجَلْدِ فِي حَقِّهِ. وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] . يَتَنَاوَلُ حَالَةَ التَّخَفُّفِ فِي إيجَابِ الْغُسْلِ فَبِزِيَادَةِ الْمَسْحِ انْتَسَخَ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَكَذَا إطْلَاقُ قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] . يُوجِبُ جَوَازَ التَّفَرُّقِ وَالتَّتَابُعِ فِيهِ فَبِتَقْيِيدِهِ بِالتَّتَابُعِ انْتَسَخَ جَوَازُ التَّفَرُّقِ.، وَلَيْسَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبِيلِ التَّخْصِيصِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ عِنْدَنَا أَنْ يَكُونَ الْمُخَصِّصُ مِثْلَ الْمَخْصُوصِ مِنْهُ فِي الْقُوَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا لَا مُتَرَاخِيًا، وَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطَانِ جَمِيعًا. ثُمَّ النَّظَائِرُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَسَاوِيَةً فِي جَوَازِ الزِّيَادَةِ بِهَا عَلَى الْكِتَابِ، وَلَكِنَّهَا مُتَفَاوِتَةٌ فِي حَقِّ تَضْلِيلِ جَاحِدِهَا فَقَدْ قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ إنَّ هَذَا الْقِسْمَ يَعْنِي الْخَبَرَ الَّذِي دُونَ الْمُتَوَاتِرِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ. قِسْمٌ يُضَلَّلُ جَاحِدُهُ، وَلَا يُكَفَّرُ مِثْلُ خَبَرِ الرَّجْمِ لِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي عَلَى قَبُولِهِ. وَقِسْمٌ لَا يُضَلَّلُ جَاحِدُهُ، وَلَكِنْ يُخَطَّأُ وَيُخْشَى عَلَيْهِ الْمَأْثَمُ نَحْوُ خَبَرِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ لِشُبْهَةِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ عَائِشَةَ وَابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانَا يَقُولَانِ سَلُوا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَرَوْنَ الْمَسْحَ مِثْلَ مَسْحِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعْدَ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَقَدْ نُقِلَ رُجُوعُهُمَا عَنْ ذَلِكَ فَلِشُبْهَةِ الِاخْتِلَافِ لَا يُضَلَّلُ جَاحِدُهُ، وَلَكِنْ يُخْشَى عَلَيْهِ الْإِثْمُ؛ لِأَنَّ بِاعْتِبَارِ الرُّجُوعِ يَثْبُتُ الْإِجْمَاعُ، وَقَدْ ثَبَتَ الْإِجْمَاعُ عَلَى قَبُولِهِ فِي الصَّدْرِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، وَلَا يَسَعُ مُخَالَفَةُ الْإِجْمَاعِ فَلِذَلِكَ يُخْشَى عَلَى جَاحِدِهِ

[باب خبر الواحد]

(بَابُ خَبَرِ الْوَاحِدِ) وَهُوَ الْفَصْلُ الثَّالِثُ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ كُلُّ خَبَرٍ يَرْوِيهِ الْوَاحِدُ أَوْ الِاثْنَانِ فَصَاعِدًا لَا عِبْرَةَ لِلْعَدَدِ فِيهِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ دُونَ الْمَشْهُورِ وَالْمُتَوَاتِرِ، وَهَذَا يُوجِبُ الْعَمَلَ وَلَا يُوجِبُ الْعِلْمَ يَقِينًا عِنْدَنَا، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لَا يُوجِبُ الْعَمَلَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ، وَلَا عَمَلَ إلَّا عَنْ عِلْمٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ مَوْصُوفٌ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ فَلَا ضَرُورَةَ لَهُ فِي التَّجَاوُزِ عَنْ دَلِيلٍ يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ بِخِلَافِ الْمُعَامَلَاتِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ ضَرُورَاتِنَا وَكَذَلِكَ الرَّأْيُ مِنْ ضَرُورَاتِهَا فَاسْتَقَامَ أَنْ يَثْبُتَ غَيْرُ مُوجِبِ عِلْمِ الْيَقِينِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَأْثَمُ. وَقِسْمٌ لَا يُخْشَى عَلَى جَاحِدِهِ الْمَأْثَمُ، وَلَكِنْ يُخَطَّأُ فِي ذَلِكَ مِثْلُ الْأَخْبَارِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ الِاخْتِلَافُ فِيهَا فِي كُلِّ قَرْنٍ كَانَ لِكُلِّ مَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ جَانِبُ الصِّدْقِ أَنْ يُخَطِّئَ صَاحِبَهُ، وَلَكِنْ لَا يُؤَثَّمُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ إلَيْهِ عَنْ اجْتِهَادٍ، وَالْإِثْمُ فِي الْخَطَأِ مَوْضُوعٌ عَنْ الْمُجْتَهِدِ كَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. [بَابُ خَبَرِ الْوَاحِدِ] (بَابُ خَبَرِ الْوَاحِدِ) وَهُوَ الْفَصْلُ الثَّالِثُ، وَهُوَ الِاتِّصَالُ الَّذِي فِيهِ شُبْهَةٌ صُورَةً وَمَعْنًى مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الِاتِّصَالُ أَمَّا ثُبُوتُ الشُّبْهَةِ فِيهِ صُورَةً فَلِأَنَّ الِاتِّصَالَ بِالرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَثْبُتْ قَطْعًا.، وَأَمَّا مَعْنًى فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ مَا تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ. وَهُوَ كُلُّ خَبَرٍ يَرْوِيهِ الْوَاحِدُ أَيْ الْمُخْبِرُ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ أَيْ أَوْ الِاثْنَانِ. لَا عِبْرَةَ لِلْعَدَدِ فِيهِ يَعْنِي لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ حُكْمًا، وَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ مُتَعَدِّدًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ التَّوَاتُرِ وَالِاشْتِهَارِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ خَبَرِ الِاثْنَيْنِ وَالْوَاحِدِ فَقُبِلَ خَبَرُ الِاثْنَيْنِ دُونَ الْوَاحِدِ. وَبَعْضُهُمْ قَبِلَ خَبَرَ الْأَرْبَعَةِ دُونَ مَا عَدَاهَا فَسَوَّى الشَّيْخُ بَيْنَ الْكُلِّ قَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ خَبَرُ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعَمَلَ، وَلَا يُوجِبُ الْعِلْمَ يَقِينًا أَيْ لَا يُوجِبُ عِلْمَ يَقِينٍ، وَلَا عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَجُمْلَةِ الْفُقَهَاءِ. وَذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ أَصْلًا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ لَا يُوجِبُ الْعَمَلَ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ أَبَى جَوَازَ الْعَمَلِ بِهِ عَقْلًا مِثْلَ الْجُبَّائِيُّ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ سَمْعًا مِثْلَ الْقَاشَانِيِّ، وَأَبِي دَاوُد وَالرَّافِضَةِ. وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ عَنْهُ سَمْعًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] . أَيْ لَا تَتْبَعْ مَا لَا عِلْمَ لَك بِهِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ فَلَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ بِظَاهِرِ هَذَا النَّصِّ. قَالُوا، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّ الْعِلْمَ ذُكِرَ نَكِرَةً فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ فَيَقْتَضِي انْتِفَاءَهُ أَصْلًا وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يُوجِبُ نَوْعَ عِلْمٍ، وَهُوَ عِلْمُ غَالِبِ الظَّنِّ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى عِلْمًا فِي قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] . فَلَا يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ؛ لِأَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ يُفِيدُ الظَّنَّ فَهُوَ مُحَرَّمُ الِاتِّبَاعِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى. {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] . ثُمَّ أَشَارَ الشَّيْخُ إلَى شُبْهَةِ مَنْ مَنَعَ عَنْهُ عَقْلًا بِقَوْلِهِ، وَهَذَا أَيْ عَدَمُ جَوَازِ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ أَيْ مَنْ يَتَوَلَّى وَضْعَ الشَّرَائِعِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى إذْ الرَّسُولُ مُبَلِّغٌ عَنْهُ مَوْصُوفٌ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ فَكَانَ قَادِرًا عَلَى إثْبَاتِ مَا شَرَعَهُ بِأَوْضَحِ دَلِيلٍ فَأَيُّ ضَرُورَةٍ لَهُ فِي التَّجَاوُزِ عَنْ الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ إلَى مَا لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ. كَيْفَ، وَأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى مَفْسَدَةٍ عَظِيمَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْوَاحِدَ لَوْ رَوَى خَبَرًا فِي سَفْكِ دَمٍ أَوْ اسْتِحْلَالِ بُضْعٍ وَرُبَّمَا يَكْذِبُ فَنَظَرَ أَنَّ السَّفْكَ وَالْإِبَاحَةَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَكُونَانِ بِأَمْرِهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ الْهُجُومُ بِالْجَهْلِ، وَمَنْ شَكَكْنَا فِي إبَاحَةِ بُضْعِهِ وَسَفْكِ دَمِهِ لَا يَجُوزُ الْهُجُومُ بِالشَّكِّ فَيَقْبُحُ مِنْ الشَّارِعِ حَوَالَةُ الْخَلْقِ عَلَى الْجَهْلِ، وَاقْتِحَامُ الْبَاطِلِ بِالتَّوَهُّمِ بَلْ إذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَمْرٍ فَلْيُعَرِّفْنَا أَمْرَهُ لِنَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ إمَّا مُمْتَثِلُونَ أَوْ مُخَالِفُونَ. بِخِلَافِ الْمُعَامَلَاتِ فَإِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُقْبَلُ فِيهَا بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِنَا أَيْ قَبُولَهُ فِيهَا مِنْ بَابِ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّا نَعْجِزُ عَنْ إظْهَارِ كُلِّ حَقٍّ لَنَا بِطَرِيقٍ لَا يَبْقَى فِيهِ شُبْهَةٌ فَلِهَذَا جَوَّزْنَا الِاعْتِمَادَ فِيهَا عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ. وَقَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ الرَّأْيُ مِنْ ضَرُورَاتِنَا جَوَابٌ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِالْقِيَاسِ فِي

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَوْجَبَ الْعَمَلَ، وَلَا عَمَلَ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ، وَقَدْ وَرَدَ الْآحَادُ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ مِثْلُ عَذَابِ الْقَبْرِ وَرُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَبْصَارِ وَلَا حَظَّ لِذَلِكَ إلَّا الْعِلْمُ قَالُوا: وَهَذَا الْعِلْمُ يَحْصُلُ كَرَامَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَثَبَتَ عَلَى الْخُصُوصِ لِلْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ كَالْوَطْءِ تَعَلَّقَ مِنْ بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ وَدَلِيلُنَا فِي أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعَمَلَ وَاضِحٌ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالدَّلِيلِ الْمَعْقُولِ أَمَّا الْكِتَابُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 187] وَكُلُّ وَاحِدٍ إنَّمَا يُخَاطَبُ بِمَا فِي وُسْعِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَبَرُهُ حُجَّةً لَمَا أَمَرَ بِبَيَانِ الْعِلْمِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْأَحْكَامِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ فَقَالَ هُوَ مِنْ بَابِ الضَّرُورَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحَادِثَةَ إذَا وَقَعَتْ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا نَصٌّ يُعْمَلُ بِهِ يُحْتَاجُ إلَى الْقِيَاسِ ضَرُورَةً.؛ وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ لَيْسَ بِمُثْبِتٍ بَلْ هُوَ مُظْهِرٌ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ مُثْبِتٌ وَالْإِظْهَارُ دُونَ الْإِثْبَاتِ. وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَوَّزَ التَّمَسُّكَ بِالْقِيَاسِ مِنْهُمْ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ الْقِيَاسَ حُجَّةً مِثْلُ النَّظَّامِ، وَأَهْلِ الظَّاهِرِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْفَرْقِ. قَوْلُهُ (وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ) كَذَا ذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ إلَى أَنَّ الْأَخْبَارَ الَّتِي حَكَمَ أَهْلُ الصَّنْعَةِ بِصِحَّتِهَا تُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَذَهَبَ دَاوُد الظَّاهِرِيُّ إلَى أَنَّهَا تُوجِبُ عِلْمًا اسْتِدْلَالِيًّا، وَأَشَارَ الشَّيْخُ إلَى شُبْهَةِ الْفَرِيقَيْنِ فَمَنْ قَالَ إنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ الِاسْتِدْلَالِيَّ تَمَسَّكَ بِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَوْ لَمْ يُفِدْ الْعِلْمَ لَمَا جَازَ اتِّبَاعُهُ لِنَهْيِهِ تَعَالَى عَنْ اتِّبَاعِ الظَّنِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] . وَذَمِّهِ عَلَى اتِّبَاعِهِ فِي قَوْلِهِ جَلَّ جَلَالُهُ: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ} [الأنعام: 116] ، {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] . وَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ الِاتِّبَاعِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ فَيَسْتَلْزِمُ إفَادَةَ الْعِلْمِ لَا مَحَالَةَ. وَمَنْ قَالَ إنَّهُ يُوجِبُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا قَالَ إنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ الَّذِي وُجِدَ شَرَائِطُ صِحَّتِهِ الْعِلْمَ بِالْمُخْبَرِ بِهِ ضَرُورَةً مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ وَنَظَرٍ بِمَنْزِلَةِ الْعِلْمِ الْحَاصِلِ بِالْمُتَوَاتِرِ. وَيُرَدُّ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ ضَرُورِيًّا لَمَا، وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ، وَلَاسْتَوَى الْكُلُّ فِيهِ فَقَالُوا هَذَا الْعِلْمُ يَحْصُلُ كَرَامَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَيَجُوزُ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ الْبَعْضُ وَوُقُوعُ الِاخْتِلَافِ لَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ ضَرُورِيًّا كَالْعِلْمِ الْحَاصِلِ بِالْمُتَوَاتِرِ فَإِنَّهُ ضَرُورِيٌّ، وَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ قَوْلُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آل عمران: 187] الْآيَةَ، أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَخَذَ الْمِيثَاقَ وَالْعَهْدَ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ، وَلَا يَكْتُمُوهُ عَنْهُمْ فَكَانَ هَذَا أَمْرًا بِالْبَيَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَنَهْيًا لَهُ عَنْ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يُكَلَّفُونَ بِمَا فِي وُسْعِهِمْ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِمْ أَنْ يَجْتَمِعُوا ذَاهِبِينَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَلْقِ شَرْقًا وَغَرَبَا بِالْبَيَانِ فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَدَاءُ مَا عِنْدَهُ مِنْ الْأَمَانَةِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ؛ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْجَمْعِ الْمُضَافِ إلَى جَمَاعَةٍ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ؛ وَلِأَنَّ أَخْذَ الْمِيثَاقِ مِنْ أَصْلِ الدِّينِ وَالْخِطَابُ لِجَمَاعَةٍ بِمَا هُوَ أَصْلُ الدِّينِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَفْرَادِ ثُمَّ ضَرُورَةُ تَوَجُّهِ الْأَمْرِ بِالْإِظْهَارِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ أَمْرُ السَّامِعِ بِالْقَبُولِ مِنْهُ وَالْعَمَلِ بِهِ إذْ أَمْرُ الشَّرْعِ لَا يَخْلُوَا عَنْ فَائِدَةٍ حَمِيدَةٍ، وَلَا فَائِدَةَ فِي الْأَمْرِ بِالْبَيَانِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْكِتْمَانِ سِوَى هَذَا. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ انْحِصَارَ الْفَائِدَةِ عَلَى الْقَبُولِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ بَلْ الْفَائِدَةُ هِيَ الِابْتِلَاءُ فَيُسْتَحَقُّ الثَّوَابُ إنْ امْتَثَلُوا وَالْعِقَابُ إنْ لَمْ يَمْتَثِلُوا أَلَا تَرَى أَنَّ الْفَاسِقَ مِنْهُمْ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْخِطَابِ مَأْمُورٌ بِالْبَيَانِ بِحَيْثُ لَوْ امْتَنَعَ عَنْهُ يَأْثَمُ ثُمَّ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَكَذَا الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - مَأْمُورِينَ بِالتَّبْلِيغِ، وَإِنْ عُلِمَ قَطْعًا بِالْوَحْيِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ لِلْبَيَانِ وَالتَّبْلِيغِ طَرَفَيْنِ طَرَفِ الْمُبَلِّغِ وَطَرَفِ السَّامِعِ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِكُلِّ طَرَفٍ فَائِدَةٌ ثُمَّ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْفَائِدَةِ مُخْتَصٌّ بِجَانِبِ الْمُبَلِّغِ، وَلَيْسَ فِي طَرَفِ السَّامِعِ فَائِدَةٌ سِوَى وُجُوبِ الْقَبُولِ وَالْعَمَلِ بِهِ. وَلَا يُقَالُ بَلْ فِيهِ فَائِدَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ جَوَازُ الْعَمَلِ بِهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ جَوَازُ الْعَمَلِ مُسْتَلْزِمٌ لِوُجُوبِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ قَالَ بِالْوُجُوبِ، وَمَنْ أَنْكَرَ الْوُجُوبَ أَنْكَرَ الْجَوَازَ، وَأَمَّا الْفَاسِقُ فَلَا نُسَلِّمُ وُجُوبَ الْبَيَانِ عَلَيْهِ

وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] ، وَهَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَبُولُهُ خَبَرَ الْوَاحِدِ ـــــــــــــــــــــــــــــQقَبْلَ التَّوْبَةِ بَلْ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ ثُمَّ تَرْتِيبُ الْبَيَانِ عَلَيْهِ فَعَلَى هَذَا بَيَانُهُ يُفِيدُ وُجُوبَ الْقَبُولِ وَالْعَمَلِ بِهِ كَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] الْآيَةَ وَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ خَرَجَتْ مِنْ فِرْقَةٍ الْإِنْذَارَ، وَهُوَ الْإِخْبَارُ الْمَخُوفُ عِنْدَ الرُّجُوعِ إلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَ الْإِنْذَارَ طَلَبًا لِلْحَذَرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] . وَالتَّرَجِّي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ فَيُحْمَلُ عَلَى الطَّلَبِ اللَّازِمِ، وَهُوَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَمْرٌ فَيَقْتَضِي وُجُوبَ الْحَذَرِ، وَالثَّلَاثَةُ فِرْقَةٌ، وَالطَّائِفَةُ مِنْهَا إمَّا وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ فَإِذَا رَوَى الرَّاوِي مَا يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ فِعْلٍ وَجَبَ تَرْكُهُ لِوُجُوبِ الْحَذَرِ عَلَى السَّامِعِ، وَإِذَا وَجَبَ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَوْ الِاثْنَيْنِ هَاهُنَا وَجَبَ مُطْلَقًا إذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ. وَلَا يُقَالُ الطَّائِفَةُ اسْمٌ لِلْجَمَاعَةِ بِدَلِيلِ لُحُوقِ هَاءِ التَّأْنِيثِ بِهَا فَلَا يَصِحُّ حَمْلُهَا عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ.؛ لِأَنَّا نَقُولُ اخْتَلَفَ الْمُتَقَدِّمُونَ فِي تَفْسِيرِهَا فَقِيلَ هِيَ اسْمٌ لِعَشَرَةٍ، وَقِيلَ لِثَلَاثَةٍ، وَقِيلَ لِاثْنَيْنِ، وَقِيلَ لِوَاحِدٍ، وَهُوَ الْأَصَحُّ فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] . الْوَاحِدُ فَصَاعِدًا كَمَا قَالَ قَتَادَةُ، وَكَذَا نُقِلَ فِي سَبَبِ نُزُولِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] . أَنَّهُمَا كَانَا رَجُلَيْنِ أَنْصَارِيَّيْنِ بَيْنَهُمَا مُدَافَعَةٌ فِي حَقٍّ فَجَاءَ أَحَدُهُمَا إلَى النَّبِيِّ دُونَ الْآخَرِ. وَقِيلَ كَانَ أَحَدُهُمَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالْآخَرُ مِنْ أَتْبَاعِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ الْمُنَافِقِ عَلَى مَا عُرِفَ عَلَى أَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهَا عَلَى أَكْثَرِ مَا قِيلَ، وَهُوَ الْعَشَرَةُ لَا يَنْتَفِي تَوَهُّمُ الْكَذِبِ عَنْ خَبَرِهِمْ، وَلَا يَخْرُجُ خَبَرُهُمْ عَنْ الْآحَادِ إلَى التَّوَاتُرِ. وَلَا يُقَالُ سَلَّمْنَا أَنَّ الرَّاجِعَ مَأْمُورٌ بِالْإِنْذَارِ بِمَا سَمِعَهُ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ السَّامِعَ مَأْمُورٌ بِالْقَبُولِ كَالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَلَا يَجِبُ الْقَبُولُ مَا لَمْ يَتِمَّ نِصَابُ الشَّهَادَةِ وَتَظْهَرُ الْعَدَالَةُ بِالتَّزْكِيَةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ وُجُوبُ الْإِنْذَارِ مُسْتَلْزِمٌ لِوُجُوبِ الْقَبُولِ عَلَى السَّامِعِ كَمَا بَيَّنَّا كَيْفَ، وقَوْله تَعَالَى: {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] . يُشِيرُ إلَى وُجُوبِ الْقَبُولِ وَالْعَمَلِ. فَأَمَّا الشَّاهِدُ الْوَاحِدُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ عَلَيْهِ وُجُوبَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُ الْمُدَّعِيَ، وَرُبَّمَا يَضُرُّ بِالشَّاهِدِ بِأَنْ يُحَدَّ حَدَّ الْقَذْفِ إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ زِنًا، وَلَمْ يَتِمَّ نِصَابُ الشَّهَادَةِ. وَهَذَا أَيْ الدَّلِيلُ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى مِنْهُ قَوْله تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] . أَمَرَ بِسُؤَالِ أَهْلِ الذِّكْرِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِ وَغَيْرِهِ وَسُؤَالُ الْمُجْتَهِدِ لِغَيْرِهِ مُنْحَصِرٌ فِي طَلَبِ الْأَخْبَارِ بِمَا سَمِعَ دُونَ الْفَتْوَى، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْقَبُولُ وَاجِبًا لَمَا كَانَ السُّؤَالُ وَاجِبًا. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135] . أَمَرَ بِالْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَالشَّهَادَةِ لِلَّهِ، وَمَنْ أَخْبَرَ عَنْ الرَّسُولِ بِمَا سَمِعَهُ فَقَدْ قَامَ بِالْقِسْطِ وَشَهِدَ لِلَّهِ، وَكَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ وَاجِبًا لَوْ كَانَ الْقَبُولُ وَاجِبًا، وَإِلَّا كَانَ وُجُوبُ الشَّهَادَةِ كَعَدَمِهَا، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ جَلَّ جَلَالُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [البقرة: 159] . الْآيَةَ أَوْعَدَ عَلَى كِتْمَانِ الْهُدَى فَيَجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إظْهَارُهُ فَلَوْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْنَا قَبُولُهُ لَكَانَ الْإِظْهَارُ كَعَدَمِهِ.، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] . أَمَرَ بِالتَّبَيُّنِ وَالتَّثَبُّتِ وَعَلَّلَ بِمَجِيءِ الْفَاسِقِ بِالْخَبَرِ إذْ تَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ

مِثْلُ خَبَرِ بَرِيرَةَ فِي الْهَدِيَّةِ وَخَبَرِ سَلْمَانَ فِي الْهَدِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ وَذَلِكَ لَا تُحْصَى عَدَدُهُ، وَمَشْهُورٌ عَنْهُ أَنَّهُ بَعَثَ الْأَفْرَادَ إلَى الْآفَاقِ مِثْلَ عَلِيٍّ، وَمُعَاذٍ وَعَتَّابِ بْنِ أُسَيْدٍ وَدَحْيَةَ وَغَيْرِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَهَكَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى، وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُنَاسِبِ يُشْعِرُ بِالْعِلِّيَّةِ، وَلَوْ كَانَ كَوْنُ الْخَبَرِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ مَانِعًا مِنْ الْقَبُولِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا التَّعْلِيلِ فَائِدَةٌ إذْ عِلِّيَّةُ الْوَصْفُ اللَّازِمُ تَمْنَعُ مَنْ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ الْعَارِضِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ الْمَيِّتُ لَا يَكْتُبُ لِعَدَمِ الدَّوَاةِ وَالْقَلَمِ عِنْدَهُ يُسْتَقْبَحُ وَيُسَفَّهُ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَمَّا كَانَ وَصْفًا لَازِمًا صَالِحًا لِعِلِّيَّةِ امْتِنَاعِ صُدُورِ الْكِتَابَةِ عَنْ الْمَيِّتِ اسْتَحَالَ تَعْلِيلُ امْتِنَاعِ الْكِتَابَةِ بِالْوَصْفِ الْعَارِضِ، وَهُوَ عَدَمُ الدَّوَاةِ وَالْقَلَمِ. وَفِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ التَّمَسُّكَاتِ اعْتِرَاضَاتٌ مَعَ أَجْوِبَتِهَا تَرَكْنَاهَا احْتِرَازًا عَنْ الْإِطْنَابِ. قَوْلُهُ (مِثْلُ خَبَرِ بَرِيرَةَ فِي الْهَدِيَّةِ) فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَبِلَ قَوْلَهَا فِي الْهَدَايَا. وَخَبَرِ سَلْمَانَ فِي الْهَدِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ سَلْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ مِنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْخَيْلَ الْبُلْقَ فَوَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى شَيْءٍ وَجَعَلَ يَنْتَقِلُ مِنْ دِينٍ إلَى دِينٍ طَالِبًا لِلْحَقِّ حَتَّى قَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الصَّوَامِعِ لَعَلَّك تَطْلُبُ الْحَنِيفِيَّةَ، وَقَدْ قَرُبَ أَوَانُهَا فَعَلَيْك بِيَثْرِبَ، وَمِنْ عَلَامَةِ النَّبِيِّ الْمَبْعُوثِ أَنَّهُ يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ، وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ وَبَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْمَدِينَةِ فَأَسَرَهُ بَعْضُ الْعَرَبِ وَبَاعَهُ مِنْ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ يَعْمَلُ فِي نَخِيلِ مَوْلَاهُ بِإِذْنِهِ حَتَّى هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْمَدِينَةِ فَلَمَّا سَمِعَ بِمَقْدِمِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَتَاهُ بِطَبَقٍ فِيهِ رُطَبٌ وَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ مَا هَذَا فَقَالَ صَدَقَةٌ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ كُلُوا، وَلَمْ يَأْكُلْ فَقَالَ سَلْمَانُ فِي نَفْسِهِ هَذِهِ وَاحِدَةٌ ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ الْغَدِ بِطَبَقٍ فِيهِ رُطَبٌ فَقَالَ مَا هَذَا يَا سَلْمَانُ فَقَالَ هَدِيَّةٌ فَجَعَلَ يَأْكُلُ وَيَقُولُ لِأَصْحَابِهِ كُلُوا فَقَالَ سَلْمَانُ هَذِهِ أُخْرَى ثُمَّ تَحَوَّلَ خَلْفَهُ فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرَادَهُ فَأَلْقَى الرِّدَاءَ عَنْ كَتِفِهِ حَتَّى نَظَرَ سَلْمَانُ إلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَأَسْلَمَ فَقَبِلَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَوْلَهُ فِي الصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا حِينَئِذٍ. وَذَلِكَ أَيْ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْهُ كَثِيرٌ فَإِنَّهُ قَبِلَ خَبَرَ أُمِّ سَلْمَى فِي الْهَدَايَا أَيْضًا. وَكَانَتْ الْمُلُوكُ يَهْدُونَ إلَيْهِ عَلَى أَيْدِي الرُّسُلِ، وَكَانَ يَقْبَلُ قَوْلَهُمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِهْدَاءَ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ عَلَى أَيْدِي قَوْمٍ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ. وَكَانَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ وَيَعْتَمِدُ عَلَى خَبَرِهِ أَنِّي مَأْذُونٌ. وَقَبِلَ شَهَادَةَ الْأَعْرَابِيِّ فِي الْهِلَالِ، وَقَبِلَ خَبَرَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ حِينَ بَعَثَهُ سَاعِيًا إلَى قَوْمٍ فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ ارْتَدُّوا حَتَّى أَجْمَعَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى غَزْوِهِمْ وَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} [الحجرات: 6] الْآيَةَ، وَكَانَ يَقْبَلُ إخْبَارَ الْجَوَاسِيسِ وَالْعُيُونِ الْمَبْعُوثَةِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ. وَمَشْهُورٌ عَنْهُ أَيْ قَدْ اُشْتُهِرَ وَاسْتَفَاضَ بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ بَعَثَ الْأَفْرَادَ إلَى الْآفَاقِ لِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَتَعْلِيمِ الْأَحْكَامِ. فَإِنَّهُ بَعَثَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى الْيَمَنِ أَمِيرًا. وَبَعْدَهُ بَعَثَ مُعَاذًا أَيْضًا إلَى الْيَمَنِ أَمِيرًا لِتَعْلِيمِ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ. وَبَعَثَ دَحْيَةَ بْنَ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيَّ بِكِتَابِهِ إلَى قَيْصَرَ أَوْ هِرَقْلَ بِالرُّومِ. وَبَعَثَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ إلَى مَكَّةَ أَمِيرًا مُعَلِّمًا لِلشَّرَائِعِ. وَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ السَّهْمِيَّ بِكِتَابِهِ إلَى كِسْرَى. وَعَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ إلَى الْحَبَشَةِ. وَعُثْمَانَ بْنَ الْعَاصِ إلَى الطَّائِفِ. وَحَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ إلَى الْمُقَوْقَسِ صَاحِبِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة. وَشُجَاعَ بْنَ وَهْبٍ الْأَسَدِيَّ إلَى الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ الْغَسَّانِيِّ بِدِمَشْقَ. وَسَلِيطَ بْنَ عَمْرٍو الْعَامِرِيَّ إلَى هَوْذَةَ بْنِ خَلِيفَةَ بِالْيَمَامَةِ.، وَأَنْفَذَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ إلَى أَهْلِ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ. وَوَلَّى عَلَى الصَّدَقَاتِ عُمَرَ وَقَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ، وَمَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ وَالزِّبْرِقَانَ بْنَ بَدْرٍ وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَعَمْرَو بْنَ حَزْمٍ

وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَمِلُوا بِالْآحَادِ وَحَاجُّوا بِهَا ـــــــــــــــــــــــــــــQوَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَأَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَغَيْرَهُمْ مِمَّنْ يَطُولُ ذِكْرُهُمْ. وَإِنَّمَا بَعَثَ هَؤُلَاءِ لِيَدْعُوَ إلَى دِينِهِ وَلِيُقِيمَ الْحُجَّةَ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي مَوْضِعٍ مَعَ أَنَّهُ بَعَثَ فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ عَدَدًا يَبْلُغُونَ حَدَّ التَّوَاتُرِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السِّيَرِ أَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُهُمْ قَبُولُ قَوْلِ رَسُولِهِ وَسُعَاتِهِ وَحُكَّامِهِ، وَإِنْ احْتَاجَ فِي كُلِّ رِسَالَةٍ إلَى إنْفَاذِ عَدَدِ التَّوَاتُرِ لَمْ يَفِ بِذَلِكَ جَمِيعُ أَصْحَابِهِ وَخَلَتْ دَارُ هِجْرَتِهِ عَنْ أَصْحَابِهِ، وَأَنْصَارِهِ وَتَمَكَّنَ مِنْهُ أَعْدَاؤُهُ، وَفَسَدَ النِّظَامُ وَالتَّدْبِيرُ وَذَلِكَ وَهْمٌ بَاطِلٌ قَطْعًا فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مُوجِبٌ لِلْعَمَلِ مِثْلَ الْمُتَوَاتِرِ، وَهَذَا دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ لَا يَبْقَى مَعَهُ عُذْرٌ فِي الْمُخَالَفَةِ كَذَا ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ وَصَاحِبُ الْقَوَاطِعِ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ) عَمِلُوا بِالْآحَادِ وَحَاجُّوا بِهَا فِي وَقَائِعَ خَارِجَةٍ عَنْ الْعَدِّ وَالْحَصْرِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ، وَلَا مُدَافَعَةِ دَافِعٍ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ إجْمَاعًا عَلَى قَبُولِهَا وَصِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِهَا. فَمِنْهَا مَا تَوَاتَرَ أَنَّ يَوْمَ السَّقِيفَةِ لَمَّا احْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى الْأَنْصَارِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» : قَبِلُوهُ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ عَلَيْهِ.، وَمِنْهَا رُجُوعُهُمْ إلَى خَبَرِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْأَنْبِيَاءُ يُدْفَنُونَ حَيْثُ يَمُوتُونَ» .، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وَنَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» . وَمِنْهَا رُجُوعُهُ إلَى تَوْرِيثِ الْجَدَّةِ بِخَبَرِ الْمُغِيرَةِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَعْطَاهَا السُّدُسَ. وَنَقْضُهُ حُكْمَهُ فِي الْقَضِيَّةِ الَّتِي أَخْبَرَ بِلَالٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَكَمَ فِيهَا بِخِلَافِ مَا حَكَمَ هُوَ فِيهَا. وَرُجُوعُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ تَفْصِيلِ الْأَصَابِعِ فِي الدِّيَةِ حَيْثُ كَانَ يَجْعَلُ فِي الْخِنْصَرِ سِتَّةً مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي الْبِنْصِرِ تِسْعَةً، وَفِي الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ عَشَرَةً عَشَرَةً، وَفِي الْإِبْهَامِ خَمْسَةَ عَشَرَ إلَى خَبَرِ عَمْرِو بْنِ حِزَامٍ أَنَّ فِي كُلِّ إصْبُعٍ عَشَرَةً. وَعَنْ عَدَمِ تَوْرِيثِ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا إلَى تَوْرِيثِهَا مِنْهَا بِقَوْلِ «الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَتَبَ إلَيْهِ أَنْ يُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا» . وَعَمَلُهُ بِخَبَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمَجُوسِيِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» . وَعَمَلُهُ بِخَبَرِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ «كُنْتُ بَيْنَ حَاذَّتَيْنِ لِي يَعْنِي ضَرَّتَيْنِ فَضَرَبَتْ أَحَدُهُمَا الْأُخْرَى بِمِسْطَحٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَقَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِغُرَّةٍ فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَوْ لَمْ نَسْمَعْ هَذَا لَقَضَيْنَا فِيهِ بِرَأْيِنَا» . وَمِنْهَا أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَخَذَ بِرِوَايَةِ «فُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكٍ حِينَ قَالَ جِئْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَسْتَأْذِنُهُ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِي فِي مَوْضِعِ الْعِدَّةِ فَقَالَ: اُمْكُثِي حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُكِ» . وَلَمْ يُنْكِرْ الْخُرُوجَ لِلِاسْتِفْتَاءِ فِي أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا تَعْتَدُّ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ، وَلَا تَخْرُجُ لَيْلًا، وَلَا نَهَارًا إذَا وَجَدَتْ مَنْ يَقُومُ بِأَمْرِهَا.، وَمِنْهَا مَا اُشْتُهِرَ مِنْ عَمَلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِرِوَايَةِ الْمِقْدَادِ فِي حُكْمِ الْمَذْيِ، وَمِنْ قَبُولِهِ خَبَرَ الْوَاحِدِ وَاسْتِظْهَارِهِ بِالْيَمِينِ حَتَّى قَالَ فِي الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ كُنْتُ إذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ حَدِيثًا نَفَعَنِي اللَّهُ بِمَا شَاءَ، وَإِذَا حَدَّثَنِي غَيْرُهُ حَلَّفْتُهُ فَإِذَا حَلَفَ صَدَّقْتُهُ، وَالتَّحْلِيفُ إنَّمَا كَانَ لِلِاحْتِيَاطِ فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ عَلَى وَجْهٍ وَلِئَلَّا يَقْدُمَ عَلَى الرِّوَايَةِ بِالظَّنِّ لَا لِتُهْمَةِ الْكَذِبِ. وَمِنْهَا رُجُوعُ الْجُمْهُورِ إلَى خَبَرِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ. وَمِنْهَا عَمَلُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِخَبَرِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي الرِّبَا فِي النَّقْدِ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يَحْكُمُ بِالرِّبَا فِي غَيْرِ النَّسِيئَةِ.، وَمِنْهَا عَمَلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بِخَبَرِ امْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ أَنَّ الْحَائِضَ تَنْفِرُ بِلَا وَدَاعٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يَرَى ذَلِكَ

قَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا غَيْرَ حَدِيثٍ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ وَاخْتَصَرْنَا عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِوُضُوحِهَا وَاسْتِفَاضَتِهَا، وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ مِنْ الْوُكَلَاءِ وَالرُّسُلِ وَالْمُضَارِبِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ الْخَبَرَ يَصِيرُ حُجَّةً بِصِفَةِ الصِّدْقِ، وَالْخَبَرُ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ وَبِالْعَدَالَةِ بَعْدَ أَهْلِيَّةِ الْأَخْبَارِ يَتَرَجَّحُ الصِّدْقُ وَبِالْفِسْقِ الْكَذِبُ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِرُجْحَانِ الصِّدْقِ لِيَصِيرَ حُجَّةً لِلْعَمَلِ وَيُعْتَبَرُ احْتِمَالُ السَّهْوِ وَالْكَذِبِ لِسُقُوطِ عِلْمِ الْيَقِينِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ صَحِيحٌ مِنْ غَيْرِ عِلْمِ الْيَقِينِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ صَحِيحٌ بِغَالِبِ الرَّأْيِ وَعَمَلَ الْحُكَّامِ بِالْبَيِّنَاتِ صَحِيحٌ بِلَا يَقِينٍ فَكَذَلِكَ هَذَا الْخَبَرُ مِنْ الْعَدْلِ يُفِيدُ عِلْمًا بِغَالِبِ الرَّأْيِ وَذَلِكَ كَافٍ لِلْعَمَلِ، وَهَذَا ضَرْبُ عِلْمٍ فِيهِ اضْطِرَابٌ فَكَانَ دُونَ عِلْمِ الطُّمَأْنِينَةِ. وَأَمَّا دَعْوَى عِلْمِ الْيَقِينِ بِهِ فَبَاطِلٌ بِلَا شُبْهَةٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ، وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَيُّ بْنَ كَعْبٍ شَرَابًا إذْ أَتَانَا آتٍ، وَقَالَ الْخَمْرُ قَدْ حُرِّمَتْ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ قُمْ يَا أَنَسُ إلَى هَذِهِ الْجِرَارِ فَاكْسِرْهَا فَقُمْتُ إلَى مُهْرٍ لَيْسَ لَنَا فَضَرَبْتُهَا إلَى أَسْفَلِهِ حَتَّى تَكَسَّرَتْ. وَمِنْهَا مَا اُشْتُهِرَ مَعَ عَمَلِ أَهْلِ قُبَاءَ فِي التَّحَوُّلِ عَنْ الْقِبْلَةِ إلَى الْكَعْبَةِ حَيْثُ أَخْبَرَهُمْ وَاحِدٌ أَنَّ الْقِبْلَةَ نُسِخَتْ. وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَمْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ كُنَّا نُخَابِرُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَا نَرَى بِهِ بَأْسًا حَتَّى رَوَى لَنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَهَى عَنْ الْمُخَابَرَةِ فَانْتَهَيْنَا. وَعَلَى ذَلِكَ جَرَتْ سُنَّةُ التَّابِعِينَ كَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَّارٍ وَعَطَاءِ بْنِ يَسَّارٍ وَطَاوُسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَفُقَهَاءِ الْحَرَمَيْنِ، وَفُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ كَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، وَفُقَهَاءِ الْكُوفَةِ وَتَابِعِيهِمْ كَعَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ وَالشَّعْبِيِّ وَمَسْرُوقٍ. وَعَلَيْهِ جَرَى مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ عَلَيْهِمْ مِنْ أَحَدٍ فِي عَصْرٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ، وَإِنْ كَانَتْ أَخْبَارَ آحَادٍ لَكِنَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى كَالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ بِسَخَاءِ حَاتِمٍ وَشَجَاعَةِ عَلِيٍّ فَلَا يَكُونُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي إثْبَاتِ كَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً هِيَ أَخْبَارُ آحَادٍ وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِهَا حُجَّةً فَيَدُورُ.، وَلَئِنْ قَالَ الْخُصُومُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ عَلِمُوا بِهَا بَلْ لَعَلَّهُمْ عَلِمُوا بِغَيْرِهَا مِنْ نُصُوصٍ مُتَوَاتِرَةٍ أَوْ أَخْبَارِ آحَادٍ مَعَ مَا اقْتَرَنَ بِهَا مِنْ الْمَقَايِيسِ، وَقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ فَلَا وَجْهَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ عُرِفَ مِنْ سِيَاقِ تِلْكَ الْأَخْبَارِ أَنَّهُمْ إنَّمَا عَلِمُوا بِهَا عَلَى مَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَوْ لَمْ نَسْمَعْ بِهَذَا لَقَضَيْنَا بِرَأْيِنَا وَحَيْثُ قَالَ ابْنُهُ حَتَّى رَوَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ إلَى آخِرِهِ. فَإِنْ قِيلَ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ قَبُولِهِمْ خَبَرَ الْوَاحِدِ مُعَارَضٌ بِإِنْكَارِهِمْ إيَّاهُ فِي وَقَائِعَ كَثِيرَةٍ. فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْكَرَ خَبَرَ الْمُغِيرَةِ فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ حَتَّى انْضَمَّ إلَيْهِ رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ. وَأَنْكَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَبَرَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فِي السُّكْنَى.، وَأَنْكَرَتْ عَائِشَةُ خَبَرَ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي تَعْذِيبِ الْمَيِّتِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ. وَرَدَّ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَبَرَ مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيِّ فِي قِصَّةِ بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ قُلْنَا إنَّهُمْ إنَّمَا أَنْكَرُوا لِأَسْبَابٍ عَارِضَةٍ مِنْ وُجُودِ مُعَارِضٍ أَوْ فَوَاتِ شَرْطٍ لَا لِعَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بِهَا فِي جِنْسِهَا فَلَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْأَصْلِ كَمَا أَنَّ رَدَّهُمْ بَعْضَ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَتَرْكَهُمْ بَعْضَ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ وَرَدَّ الْقَاضِي بَعْضَ الشَّهَادَاتِ لَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْأَصْلِ. قَوْلُهُ (قَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي هَذَا) أَيْ فِي قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ غَيْرَ حَدِيثٍ أَيْ أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَكْثَرَهَا فِيمَا أَوْرَدْنَاهُ. وَاخْتَصَرْنَا هَذِهِ الْجُمْلَةَ أَيْ اكْتَفَيْنَا بِإِيرَادِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ خَبَرِ بَرِيرَةَ وَسَلْمَانَ وَتَبْلِيغِ مُعَاذٍ وَغَيْرِهَا لِوُضُوحِهَا. أَوْ مَعْنَاهُ لَمْ تَذْكُرْ مَا أَوْرَدَهُ مُحَمَّدٌ لِشُهْرَتِهَا. وَلَفْظُ التَّقْوِيمِ وَنَحْنُ سَكَتْنَا عَنْهَا اخْتِصَارًا وَاكْتِفَاءً بِمَا فَعَلَ النَّاسُ قَوْلُهُ (وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى) كَذَا أَيْ الْإِجْمَاعُ مِنْهُمْ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ عَلَى الْقَبُولِ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ. وَبَيَانُهُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ قَدْ انْعَقَدَ مِنْهُمْ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ فَإِنَّ الْعُقُودَ كُلَّهَا بُنِيَتْ عَلَى أَخْبَارِ الْآحَادِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَا هُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي الْإِخْبَارِ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ وَالْإِخْبَارِ بِأَنَّ هَذَا الشَّيْءَ أَوْ هَذِهِ الْجَارِيَةَ أَهْدَى إلَيْكَ فُلَانٌ

لِأَنَّ الْعِيَانَ يَرُدُّهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَشْهُورَ لَا يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ فَهَذَا أَوْلَى؛ وَهَذَا لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مُحْتَمَلٌ لَا مَحَالَةَ، وَلَا يَقِينَ مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا فَقَدْ سَفَّهُ نَفْسَهُ، وَأَضَلَّ عَقْلَهُ. وَإِذَا اجْتَمَعَ الْآحَادُ حَتَّى تَوَاتَرَتْ حَدَثَ حَقِّيَّةَ الْخَبَرِ وَلُزُومُ الصِّدْقِ بِاجْتِمَاعِهِمْ، وَذَلِكَ وَصْفٌ حَادِثٌ مِثْلُ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ إذَا ازْدَحَمَتْ الْآرَاءُ سَقَطَتْ الشُّبْهَةُ فَأَمَّا الْآحَادُ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ فَمِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ مَشْهُورٌ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ دُونَهُ لَكِنَّهُ يُوجِبُ ضَرْبًا مِنْ الْعِلْمِ عَلَى مَا قُلْنَا، وَفِيهِ ضَرْبٌ مِنْ الْعَمَلِ أَيْضًا، وَهُوَ عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَيْهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَأَنَّ فُلَانًا وَكَّلَنِي بِبَيْعِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ أَوْ بَيْعِ هَذَا الشَّيْءِ. وَأَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ مَنْ لَا يَقَعُ الْعِلْمُ بِقَوْلِهِ مَعَ أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ فِي إبَاحَةِ دَمٍ، وَإِقَامَةِ حَدٍّ وَاسْتِبَاحَةِ فَرْجٍ. وَعَلَى قَبُولِ قَوْلِ الْمُفْتِي لِلْمُسْتَفْتِي مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَجِبُ بِمَا بَلَغَهُ عَنْ الرَّسُولِ بِطَرِيقِ الْآحَادِ فَإِذَا جَازَ الْقَبُولُ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا جَازَ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ. فَإِنْ قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَحَلَّيْنِ ثَابِتٌ فَإِنَّ فِي بَعْضِ الْمُعَامَلَاتِ قَدْ يُقْبَلُ خَبَرُ مَنْ يَسْكُنُ الْقَلْبُ إلَى صِدْقِهِ مِنْ صَبِيٍّ، وَفَاسِقٍ بَلْ كَافِرٍ، وَلَا يُقْبَلُ خَبَرُ هَؤُلَاءِ فِي أَخْبَارِ الدِّينِ فَكَيْفَ يُحْتَجُّ بِهَذَا الْفَصْلِ مَعَ وُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. قُلْنَا مَحَلُّ الِاسْتِدْلَالِ هُوَ اسْتِعْمَالُ قَوْلِ مَنْ لَا يُؤْمَنُ الْغَلَطُ عَلَيْهِ وَوُقُوعُ الْكَذِبِ مِنْهُ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْأَمْرَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يُتَسَاهَلُ فِيهِ فِي الْآخَرِ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِي الْجَمْعِ وَالْفَرْقِ الْوَصْفُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ دُونَ مَا عَدَاهُ. وَمَا ذَكَرُوا مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُعَامَلَاتِ، وَأَخْبَارِ الدِّينِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الْأَخْبَارِ لِتَحَقُّقِهَا فِي الْمُعَامَلَاتِ؛ لِأَنَّ الْمُتَوَاتِرَ لَا يُوجَدُ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ فَلَوْ رُدَّ خَبَرُ الْوَاحِدِ لِشُبْهَةٍ فِي النَّقْلِ لَتَعَطَّلَتْ الْأَحْكَامُ فَأَسْقَطْنَا اعْتِبَارَهَا فِي حَقِّ الْعَمَلِ كَمَا فِي الْقِيَاسِ وَالشَّهَادَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِالْآيَتَيْنِ فَنَقُولُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُمَا الْمَنْعُ عَنْ اتِّبَاعِ الظَّنِّ مُطْلَقًا بَلْ الْمُرَادُ الْمَنْعُ عَنْ اتِّبَاعِهِ فِيمَا الْمَطْلُوبُ مِنْهُ الْعِلْمُ الْيَقِينِيُّ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ أَوْ فُرُوعِهِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْ الْآيَةِ أَعْنِي قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] . مَنْعُ الشَّاهِدِ عَنْ جَزْمِ الشَّهَادَةِ إلَّا بِمَا يَتَحَقَّقُ. عَلَى أَنَّا مَا اتَّبَعْنَا الظَّنَّ فِيهِ، وَإِنَّمَا اتَّبَعْنَا الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ الَّذِي يُوجِبُ الْعَمَلَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْإِجْمَاعِ. قَوْلُهُ (لِأَنَّ الْعِيَانَ يَرُدُّهُ) أَرَادَ بِهِ أَنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا عَدَمَ حُصُولِ الْعِلْمِ بِهِ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ كَمَا نَجِدُ حُصُولَ الْعِلْمِ بِالْمُتَوَاتِرِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: خَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَهُوَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ فَإِنَّا لَا نُصَدِّقُ بِكُلِّ مَا نَسْمَعُ، وَلَوْ صَدَّقْنَاهُ لَوْ تَعَارَضَ خَبَرَانِ فَكَيْفَ نُصَدِّقُ بِالضِّدَّيْنِ. قَالَ، وَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّهُ يُورِثُ الْعِلْمَ لَعَلَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ إذْ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مَعْلُومُ الْوُجُوبِ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ أَوْجَبَهُ عِنْدَ ظَنِّ الصِّدْقِ أَوْ سَمَّوْا الظَّنَّ عِلْمًا، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ يُورِثُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ، وَالْعِلْمُ لَيْسَ لَهُ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ، وَإِنَّمَا هُوَ الظَّنُّ. قَوْلُهُ (وَإِذَا اجْتَمَعَ الْآحَادُ حَتَّى تَوَاتَرَتْ) إلَى آخِرِهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَمَّا ذُكِرَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ كَلَامِ الْخُصُومِ أَنَّ الْمُتَوَاتِرَ صَارَ جَمْعًا بِالْآحَادِ وَخَبَرُ كُلِّ وَاحِدٍ مُحْتَمَلٌ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْيَقِينُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَمَّا يُتَمَسَّكُ لِمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِثُبُوتِ الْعِلْمِ الِاسْتِدْلَالِيِّ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِأَنَّ الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ لَمَّا أَوْجَبَ الْعِلْمَ، وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا اجْتِمَاعُ الْآحَادِ لَزِمَ أَنْ يُوجِبَ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْعِلْمَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلِاجْتِمَاعِ فِي تَغْيِيرِ ذَوَاتِ الْأَفْرَادِ فَإِنَّ الْغَنَمَ الْمُجْتَمِعَةَ لَا تَصِيرُ بَقَرًا، وَإِبِلًا بِالِاجْتِمَاعِ وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا فِي الْمَحْسُوسِ وَالْمَعْقُولِ وَالْمَشْرُوعِ أَنَّهُ قَدْ يَثْبُتُ بِاجْتِمَاعِ الْأَفْرَادِ مَا لَا يَثْبُتُ بِالْأَفْرَادِ بِدُونِ الِاجْتِمَاعِ فَإِنَّ بِاجْتِمَاعِ الطَّاقَاتِ فِي الْحَبْلِ يَحْدُثُ مِنْ الْقُوَّةِ مَا لَا يُوجَدُ فِي طَاقَةٍ أَوْ طَاقَتَيْنِ، وَبِاجْتِمَاعِ الْمُقَدِّمَاتِ الصَّادِقَةِ تَثْبُتُ الْحُجَّةُ الْعَقْلِيَّةُ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي إفْرَادِهَا، وَبِاجْتِمَاعِ الْحُرُوفِ وَالْكَلِمَاتِ صَارَ الْقُرْآنُ مُعْجِزًا، وَلَا يُوجَدُ الْإِعْجَازُ فِي آحَادِهَا. وَيَجِبُ بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ أَوْ أَرْبَعَةٍ عَلَى الْقَاضِي مَا لَا يَجِبُ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ. وَيَثْبُتُ بِغُسْلِ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ

[باب تقسيم الراوي الذي جعل خبره حجة]

إذْ الْعَقْدُ فَضْلٌ عَلَى الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] ، وَقَالَ تَعَالَى {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] فَصَحَّ الِابْتِلَاءُ بِالْعَقْدِ كَمَا صَحَّ بِالْعَمَلِ بِالْبَدَنِ وَلِهَذَا جَوَّزْنَا الْقَوْلَ بِالنَّسْخِ قَبْلَ الْعَمَلِ، وَقَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْعَمَلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ قُلْنَا: إنَّهُ مُنْقَسِمٌ وَهَذَا (بَابُ تَقْسِيمِ الرَّاوِي الَّذِي جُعِلَ خَبَرُهُ حُجَّةً) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ ضَرْبَانِ مَعْرُوفٌ وَمَجْهُولٌ وَالْمَعْرُوفُ نَوْعَانِ مَنْ عُرِفَ بِالْفِقْهِ وَالتَّقَدُّمِ فِي الِاجْتِهَادِ وَمَنْ عُرِفَ بِالرِّوَايَةِ دُونَ الْفِقْهِ وَالْفُتْيَا وَأَمَّا الْمَجْهُولُ فَعَلَى وُجُوهٍ إمَّا أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ الثِّقَاتُ وَيَعْمَلُوا بِحَدِيثِهِ وَيَشْهَدُوا لَهُ بِصِحَّةِ حَدِيثِهِ وَيَسْكُتُوا عَنْ الطَّعْنِ فِيهِ أَوْ يُعَارِضُوهُ بِالطَّعْنِ وَالرَّدِّ أَوْ اُخْتُلِفَ فِيهِ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ حَدِيثُهُ بَيْنَ السَّلَفِ فَصَارَ قِسْمُ الْمَجْهُولِ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ حِلِّ الصَّلَاةِ مَا لَا يَثْبُتُ بِغُسْلِ عُضْوٍ وَاحِدٍ. وَيَثْبُتُ بِالطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ مَا لَا يَثْبُتُ بِطَلْقَةٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ اعْتِبَارَ الِاجْتِمَاعِ بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ وَعَكْسَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَأَنَّهُ يَحْدُثُ لِلْخَبَرِ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ مِنْ الْقُوَّةِ مَا لَا يَكُونُ لَهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ قَوْلُهُ (إذْ الْعَقْدُ) أَيْ اعْتِقَادُ الْقَلْبِ فَضْلٌ عَلَى الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ قَدْ يَكُونُ بِدُونِ عَقْدِ الْقَلْبِ كَعِلْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِحَقِّيَّةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَعَ عَدَمِ اعْتِقَادِهِمْ حَقِّيَّتَهُ، وَكَعِلْمِنَا بِدَلَائِلِ الْخُصُومِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَقِدَهَا وَعَلَى الْعَكْسِ، وَالْعَقْدُ قَدْ يَكُونُ بِدُونِ الْعِلْمِ أَيْضًا كَاعْتِقَادِ الْمُقَلِّدِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ الْوَاحِدِ مُوجِبًا لِلِاعْتِقَادِ الَّذِي هُوَ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ. قَالَ أَبُو الْيُسْرِ: الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ مِنْ بَابِ الْعَمَلِ فَإِنَّ الْعَمَلَ نَوْعَانِ عَمَلُ الْجَوَارِحِ وَاعْتِقَادُ الْقَلْبِ فَالْعَمَلُ بِالْجَوَارِحِ إنْ تَعَذَّرَ لَمْ يَتَعَذَّرْ الْعَمَلُ بِالْقَلْبِ اعْتِقَادًا عَلَى أَنَّا إنَّمَا عَرَفْنَا عَذَابَ الْقَبْرِ بِدَلَالَاتِ النُّصُوصِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَإِشَارَاتِهَا لَا بِأَخْبَارِ الْآحَادِ. وَلِهَذَا أَيْ؛ وَلِأَنَّ الِابْتِلَاءَ بِعَقْدِ الْقَلْبِ يَصِحُّ بِدُونِ عَمَلِ الْبَدَنِ جَوَّزْنَا النَّسْخَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْعَمَلِ لِحُصُولِ الْفَائِدَةِ، وَهُوَ الِابْتِلَاءُ لِعَقْدِ الْقَلْبِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [بَابُ تَقْسِيمِ الرَّاوِي الَّذِي جُعِلَ خَبَرُهُ حُجَّةً] [الرَّاوِي الْمَعْرُوفُ] (بَابُ تَقْسِيمِ الرَّاوِي الَّذِي جُعِلَ خَبَرُهُ حُجَّةً) : وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ فَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ خَبَرٍ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْقَبُولِ التَّصْدِيقُ، وَلَا بِالرَّدِّ التَّكْذِيبُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْنَا قَبُولُ قَوْلِ الْعَدْلِ، وَرُبَّمَا يَكُونُ كَاذِبًا أَوْ غَالِطًا، وَلَا يَجُوزُ قَبُولُ قَوْلِ الْفَاسِقِ، وَرُبَّمَا يَكُونُ صَادِقًا بَلْ الْمَقْبُولُ مَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَالْمَرْدُودُ مَا لَا تَكْلِيفَ عَلَيْنَا فِي الْعَمَلِ بِهِ ثُمَّ لِلْقَبُولِ شَرَائِطُ بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهَذَا الْبَابُ لِبَيَانِ بَعْضِ شَرَائِطِهِ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ اشْتِرَاطُ كَوْنِ الرَّاوِي مَعْرُوفًا بِالرِّوَايَةِ وَالْعَدَالَةِ وَالضَّبْطِ وَالْفَقَاهَةِ لِقَبُولِ خَبَرِهِ مُطْلَقًا، مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ أَوْ مُخَالِفًا وَلَيْسَتْ الْفَقَاهَةُ فِيهِ شَرْطًا عِنْدَ الْبَعْضِ. أَمَّا الْمَعْرُوفُونَ يَعْنِي بِالْفِقْهِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ مِثْلِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَوْلُهُ (وَحَدِيثُهُمْ حُجَّةٌ إنْ وَافَقَ الْقِيَاسَ أَوْ خَالَفَهُ) وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ فَإِنْ وَافَقَهُ تَأَيَّدَ بِهِ أَيْ قَوِيَ الْحَدِيثُ بِالْقِيَاسِ يَعْنِي يَكُونُ التَّمَسُّكُ بِالْحَدِيثِ لَا بِالْقِيَاسِ بَلْ يَكُونُ الْقِيَاسُ مُؤَيِّدًا لَهُ وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا يُحْكَى عَنْهُ: بَلْ الْقِيَاسُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْحَدِيثِ أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يُشْتَهَرْ هَذَا الْمَذْهَبُ عَنْهُ قَالَ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ وَقَدْ حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ لَا يُقْبَلُ وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ سَمْجٌ مُسْتَقْبَحٌ عَظِيمٌ، وَأَنَا أُجِلُّ مَنْزِلَةَ مَالِكٍ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ وَلَا يُدْرَى ثُبُوتُهُ مِنْهُ. وَذَكَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ فِي الْمُعْتَمَدِ أَنَّ الْقِيَاسَ إذَا عَارَضَهُ خَبَرُ وَاحِدٍ فَإِنْ كَانَتْ عِلَّةُ الْقِيَاسِ مَنْصُوصَةً بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يَنْفِي مُوجِبَهَا، وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ النَّصَّ عَلَى الْعِلَّةِ كَالنَّصِّ عَلَى حُكْمِهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَارِضَهَا خَبَرُ الْوَاحِدِ. وَإِنْ كَانَتْ مَنْصُوصَةً بِنَصٍّ ظَنِّيٍّ يَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ وَيَكُونُ الْعَمَلُ بِالْخَبَرِ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى الْحُكْمِ بِصَرِيحِهِ وَالْخَبَرُ الدَّالُّ عَلَى الْعِلَّةِ يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ بِوَاسِطَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَنْبَطَةً مِنْ أَصْلٍ ظَنِّيٍّ كَانَ الْأَخْذُ بِالْخَبَرِ أَوْلَى بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الظَّنَّ وَالِاحْتِمَالَ كُلَّمَا كَانَ أَقَلَّ كَانَ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ وَذَلِكَ فِي الْخَبَرِ، وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَنْبَطَةً مِنْ أَصْلٍ قَطْعِيٍّ وَالْخَبَرُ الْمُعَارِضُ لِلْقِيَاسِ خَبَرُ وَاحِدٍ فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ

أَمَّا الْمَعْرُوفُونَ فَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهُ بْنُ عَمْرٍو وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبْلٍ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ اُشْتُهِرَ بِالْفِقْهِ وَالنَّظَرِ وَحَدِيثُهُمْ حُجَّةٌ إنْ وَافَقَ الْقِيَاسَ أَوْ خَالَفَهُ فَإِنْ وَافَقَهُ تَأَيَّدَ بِهِ، وَإِنْ خَالَفَهُ تُرِكَ الْقِيَاسُ بِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا يُحْكَى عَنْهُ بَلْ الْقِيَاسُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَفِي اتِّصَالِ هَذَا الْحَدِيثِ شُبْهَةٌ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْخَبَرَ يَقِينٌ بِأَصْلِهِ؛ وَإِنَّمَا دَخَلَتْ الشُّبْهَةُ فِي نَقْلِهِ وَالرَّأْيُ مُحْتَمَلٌ بِأَصْلِهِ فِي كُلِّ وَصْفٍ عَلَى الْخُصُوصِ فَكَانَ الِاحْتِمَالُ فِي الرَّأْيِ أَصْلًا وَفِي الْحَدِيثِ عَارِضًا ـــــــــــــــــــــــــــــQوَإِنْ كَانَ الْأُصُولِيُّونَ ذَكَرُوا الْخِلَافَ مُطْلَقًا. فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ الْخَبَرُ رَاجِحٌ سَوَاءٌ كَانَ الرَّاوِي عَالِمًا فَقِيهًا أَوْ لَمْ يَكُنْ بَعْدُ إنْ كَانَ عَدْلًا ضَابِطًا وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ وَقَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ إنْ كَانَ الرَّاوِي عَدْلًا ضَابِطًا عَالِمًا وَجَبَ تَقْدِيمُ خَبَرِهِ عَلَى الْقِيَاسِ وَإِلَّا كَانَ مَوْضِعَ الِاجْتِهَادِ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ رَجَّحَ الْقِيَاسَ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ عَمِلَ بِالْقِيَاسِ فِي الصَّائِمِ إذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا وَلَمْ يَعْمَلْ بِالْخَبَرِ الْوَارِدِ فِيهِ وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ قَدْ اُشْتُهِرَ مِنْ الصَّحَابَةِ الْأَخْذُ بِالْقِيَاسِ وَرَدُّ خَبَرِ الْوَاحِدِ فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمَّا سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَرْوِي «تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ» قَالَ لَوْ تَوَضَّأْت بِمَاءٍ سُخْنٍ أَكُنْت تَتَوَضَّأُ مِنْهُ وَلَمَّا سَمِعَهُ يَرْوِي «مَنْ حَمَلَ جِنَازَةً فَلْيَتَوَضَّأْ» قَالَ أَيَلْزَمُنَا الْوُضُوءُ مِنْ حَمْلِ عِيدَانٍ يَابِسَةٍ وَرَدَّ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَدِيثَ بِرْوَعَ بِالْقِيَاسِ وَرَدَّ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَدِيثَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ بِالْقِيَاسِ وَرَدَّ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ مَا يُرْوَى أَنَّ وَلَدَ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ: لَوْ كَانَ وَلَدُ الزِّنَا شَرَّ الثَّلَاثَةِ لَمَا اُنْتُظِرَ بِأُمِّهِ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا وَهَذَا نَوْعُ قِيَاسٍ وَبِأَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَفِي اتِّصَالِ خَبَرٍ إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شُبْهَةٌ فَكَانَ الثَّابِتُ بِالْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ أَقْوَى مِنْ الثَّابِتِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَكَانَ الْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى وَبِأَنَّ الْقِيَاسَ أَثْبَتُ مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ لِجَوَازِ السَّهْوِ وَالْكَذِبِ عَلَى الرَّاوِي، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ وَبِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَحْتَمِلُ تَخْصِيصًا وَالْخَبَرُ يَحْتَمِلُهُ فَكَانَ غَيْرُ الْمُحْتَمَلِ أَوْلَى مِنْ الْمُحْتَمَلِ وَاحْتَجَّ مَنْ قَدَّمَ خَبَرَ الْوَاحِدِ عَلَى الْقِيَاسِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتْرُكُونَ أَحْكَامَهُمْ بِالْقِيَاسِ إذَا سَمِعُوا خَبَرَ الْوَاحِدِ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَقَضَ حُكْمًا حَكَمَ فِيهِ بِرَأْيِهِ لِحَدِيثٍ سَمِعَهُ مِنْ بِلَالٍ وَتَرَكَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأْيَهُ فِي الْجَنِينِ وَفِي دِيَةِ الْأَصَابِعِ بِالْحَدِيثِ حَتَّى قَالَ كِدْنَا نَقْضِي فِيهِ بِرَأْيِنَا وَفِيهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَتَرَكَ رَأْيَهُ فِي عَدَمِ تَوْرِيثِ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ وَتَرَكَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رَأْيَهُ فِي الْمُزَارَعَةِ بِالْحَدِيثِ الَّذِي سَمِعَهُ مِنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَنَقَضَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَا حَكَمَ بِهِ مِنْ رَدِّ الْغَلَّةِ عَلَى الْبَائِعِ عِنْدَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّ «الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ» وَفِي نَظَائِرِهِ كَثْرَةٌ. وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ رَدِّهِمْ خَبَرَ الْوَاحِدِ فَذَلِكَ لِأَسْبَابٍ عَارِضَةٍ لَا لِتَرْجِيحِهِمْ الْقِيَاسَ عَلَيْهِ وَبِأَنَّ الْخَبَرَ يَقِينٌ بِأَصْلِهِ؛ لِأَنَّهُ قَوْلُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا احْتِمَالَ لِلْخَطَأِ فِيهِ؛ وَإِنَّمَا الشُّبْهَةُ فِي طَرِيقِهِ وَهُوَ النَّقْلُ؛ وَلِهَذَا لَوْ ارْتَفَعَتْ الشُّبْهَةُ كَانَ حُجَّةً قَطْعًا بِمَنْزِلَةِ الْمَسْمُوعِ مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالرَّأْيُ مُحْتَمَلٌ بِأَصْلِهِ فِي كُلِّ وَصْفٍ أَيْ كُلِّ وَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِ النَّصِّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُؤَثِّرَ فِي الْحُكْمِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ فَكَانَ الِاحْتِمَالُ الثَّابِتُ فِي الْأَصْلِ أَقْوَى مِنْ الِاحْتِمَالِ الثَّابِتِ فِي الطَّرِيقِ بَعْدَ التَّيَقُّنِ بِالْأَصْلِ فَكَانَ الْأَخْذُ بِمَا هُوَ أَضْعَفُ احْتِمَالًا وَهُوَ الْخَبَرُ أَوْلَى. وَقَوْلُهُ فَكَانَ الِاحْتِمَالُ فِي الرَّأْيِ أَصْلًا يَعْنِي الْأَصْلَ فِي الرَّأْيِ الِاحْتِمَالُ وَعَدَمُ الْيَقِينِ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ الْحُكْمِ لَا يَتَحَقَّقُ بِطَرِيقِ التَّيَقُّنِ إلَّا بِالنَّصِّ أَوْ بِالْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ عَارِضٌ وَالْيَقِينُ فِي الْخَبَرِ أَصْلٌ؛ لِأَنَّهُ الْكَلَامُ الْمَسْمُوعُ مِنْ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ حُجَّةٌ بِلَا شُبْهَةٍ؛ وَإِنَّمَا تَحَقَّقَتْ الشُّبْهَةُ

وَلِأَنَّ الْوَصْفَ فِي النَّصِّ كَالْخَبَرِ، وَالرَّأْيُ وَالنَّظَرُ فِيهِ كَالسَّمَاعِ، وَالْقِيَاسُ عَمَلٌ بِهِ وَالْوَصْفُ سَاكِتٌ عَنْ الْبَيَانِ وَالْخَبَرُ بَيَانُ نَفْسِهِ فَكَانَ الْخَبَرُ فَوْقَ الْوَصْفِ فِي الْإِبَانَةِ، وَالسَّمَاعُ فَوْقَ الرَّأْيِ فِي الْإِصَابَةِ. وَلِهَذَا قَدَّمْنَا خَبَرَ الْوَاحِدِ عَلَى التَّحَرِّي فِي الْقِبْلَةِ فَلَا يَجُوزُ التَّحَرِّي مَعَهُ، وَأَمَّا رِوَايَةُ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِالْفِقْهِ وَلَكِنَّهُ مَعْرُوفٌ بِالْعَدَالَةِ وَالضَّبْطِ مِثْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَإِنْ وَافَقَ الْقِيَاسَ عُمِلَ بِهِ، وَإِنْ خَالَفَهُ لَمْ يُتْرَكْ إلَّا بِالضَّرُورَةِ وَانْسِدَادِ بَابِ الرَّأْيِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ ضَبْطَ حَدِيثِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَظِيمُ الْخَطَرِ وَقَدْ كَانَ النَّقْلُ بِالْمَعْنَى مُسْتَفِيضًا فِيهِمْ فَإِذَا قَصُرَ فِقْهُ الرَّاوِي عَنْ دَرْكِ مَعَانِي حَدِيثِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَإِحَاطَتِهَا لَمْ يُؤْمَنْ مِنْ أَنْ يَذْهَبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مَعَانِيهِ بِنَقْلِهِ فَيَدْخُلُهُ شُبْهَةٌ زَائِدَةٌ يَخْلُو عَنْهَا الْقِيَاسُ فَيُحْتَاطُ فِي مِثْلِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِعَارِضِ النَّقْلِ وَتَخَلُّلِ الْوَاسِطَةِ وَاحْتِمَالِ الْغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ فَكَانَ الِاحْتِمَالُ فِيهِ عَارِضًا وَالِاحْتِمَالُ الْأَصْلِيُّ أَقْوَى مِنْ الِاحْتِمَالِ الْعَارِضِ فَلِهَذَا كَانَ الْعَمَلُ بِالْخَبَرِ أَوْلَى وَذَكَرَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْخَبَرِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِثَلَاثِ مُقَدِّمَاتٍ ثُبُوتِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَلَالَتِهِ عَلَى الْحُكْمِ وَوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ وَالْأُولَى ظَنِّيَّةٌ وَالثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ يَقِينِيَّتَانِ فَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِالْقِيَاسِ فَلَا يَتِمُّ إلَّا بِأَرْبَعِ مُقَدِّمَاتٍ أَوْ خَمْسٍ ثُبُوتِ حُكْمِ الْأَصْلِ. وَكَوْنِهِ مُعَلَّلًا بِالْعِلَّةِ الْفُلَانِيَّةِ وَحُصُولِ تِلْكَ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ وَعَدَمِ الْمَانِعِ فِي الْفَرْعِ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ وَوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ، وَالْأُولَى وَالْخَامِسَةُ يَقِينِيَّتَانِ، وَالْبَوَاقِي ظَنِّيَّةٌ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْعَمَلُ بِالْخَبَرِ أَقَلَّ ظَنًّا مِنْ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ رَاجِحًا، قَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْوَصْفَ فِي النَّصِّ كَالْخَبَرِ) أَيْ الْوَصْفُ الَّذِي عَيَّنَهُ الْمُجْتَهِدُ لِتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ إلَيْهِ كَالْخَبَرِ وَالنَّظَرُ فِيهِ أَيْ التَّأَمُّلُ وَالْوُقُوفُ عَلَى تَأْثِيرِهِ بِمَنْزِلَةِ سَمَاعِ الْخَبَرِ مِنْ الرَّاوِي وَالْقِيَاسُ عَمَلٌ بِهِ أَيْ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ بِوَسَاطَتِهِ إلَى الْفَرْعِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الْوَصْفِ بِمَنْزِلَةِ الْعَمَلِ بِالْخَبَرِ. وَالْوَصْفُ سَاكِتٌ عَنْ الْبَيَانِ أَيْ عَنْ إثْبَاتِ الْمُدَّعَى نَصًّا؛ لِأَنَّ الْقَايِسَ إنَّمَا جَعَلَهُ شَاهِدًا عَلَى الْحُكْمِ بِضَرْبِ إشَارَةٍ مِنْ الشَّرْعِ وَالْخَبَرُ بَيَانُ نَفْسِهِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ نَاطِقٌ بِالْحُكْمِ فَكَانَ أَقْوَى مِنْ الْوَصْفِ فِي الْإِبَانَةِ أَيْ فِي إظْهَارِ الْحُكْمِ وَإِثْبَاتِهِ، وَالسَّمَاعُ فَوْقَ الرَّأْيِ فِي الْإِصَابَةِ إذْ لَا مَدْخَلَ لِلِاحْتِمَالِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ حِسًّا، وَالْغَلَطُ لَا يَجْرِي فِي الْمَحْسُوسَاتِ، وَلَا كَذَلِكَ الرَّأْيُ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْقَوِيِّ بِالضَّعِيفِ وَأَمَّا مَا تَمَسّك الْخَصْمُ بِهِ مِنْ رَدِّ الصَّحَابَةِ الْخَبَرَ بِالْقِيَاسِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ رَدُّوهُ لِعَدَمِ فِقْهِ الرَّاوِي أَوْ لَمَعَانٍ عَارِضَةٍ ذَكَرْنَاهَا وَنَذْكُرُهَا أَيْضًا. وَقَوْلُهُ بِأَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ وَفِي اتِّصَالِ خَبَرِ الْوَاحِدِ شُبْهَةٌ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ أَيْضًا وَالشُّبْهَةُ فِي الْقِيَاسِ أَكْثَرُ مِنْهَا فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ فَكَيْفَ يَكُونُ أَقْوَى مِنْهُ وَقَوْلُهُ لِاحْتِمَالِ الْكَذِبِ وَالسَّهْوِ مَدْخَلٌ فِي الْخَبَرِ دُونَ الْقِيَاسِ مُعَارَضٌ بِأَنَّ احْتِمَالَ كَوْنِ الْحُكْمِ غَيْرَ مُتَعَلِّقٍ بِالْوَصْفِ الْمُسْتَنْبَطِ ثَابِتٌ فِي الْقِيَاسِ دُونَ الْخَبَرِ وَقَوْلُهُ الْخَبَرُ مُحْتَمِلٌ لِلتَّخْصِيصِ، وَالْقِيَاسُ لَا يَحْتَمِلُهُ قُلْنَا: الْكَلَامُ فِي خَبَرٍ يَرِدُ وَيُخَالِفُهُ الْقِيَاسُ وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا احْتِمَالَ، قَوْلُهُ (فَإِنْ وَافَقَ) أَيْ خَبَرُ مَنْ عُرِفَ بِالْعَدَالَةِ وَالضَّبْطِ دُونَ الْفِقْهِ الْقِيَاسَ عُمِلَ بِهِ أَيْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الْخَبَرِ، وَإِنْ خَالَفَ الْقِيَاسَ لَمْ يُتْرَكْ الْخَبَرُ إلَّا بِالضَّرُورَةِ وَانْسِدَادِ بَابِ الرَّأْيِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ حَتَّى إذَا كَانَ مُوَافِقًا لِقِيَاسٍ مُخَالِفًا لِقِيَاسٍ آخَرَ لَمْ يُتْرَكْ الْحَدِيثُ بِخِلَافِ خَبَرِ الْمَجْهُولِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ مُوَافِقًا لِقِيَاسٍ مُخَالِفًا لِآخَرَ جَازَ تَرْكُهُ وَالْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ الْمُخَالِفِ كَذَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ فَوَائِدِ هَذَا الْكِتَابِ. وَقَوْلُهُ وَانْسِدَادِ بَابِ الرَّأْيِ تَفْسِيرٌ لِلضَّرُورَةِ وَفِي قَوْلِهِ لَمْ يُتْرَكْ إلَّا بِالضَّرُورَةِ لُطْفٌ وَرِعَايَةُ أَدَبٍ كَمَا تَرَى وَوَجْهُ ذَلِكَ أَيْ وَجْهُ عَدَمِ الْقَبُولِ عِنْدَ انْسِدَادِ بَابِ الرَّأْيِ أَنَّ ضَبْطَ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَظِيمُ الْخَطَرِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَاخْتُصِرَ لَهُ اخْتِصَارًا كَمَا أَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ، وَالْوُقُوفُ عَلَى كُلِّ مَعْنًى ضَمَّنَهُ فِي كَلَامِهِ أَمْرٌ عَظِيمٌ؛ وَلِهَذَا قَلَّتْ رِوَايَةُ الْكِبَارِ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَمْرُو بْنِ مَيْمُونَ أَنَّهُ قَالَ

وَإِنَّمَا نَعْنِي بِمَا قُلْنَا قُصُورًا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِفِقْهِ الْحَدِيثِ فَأَمَّا الِازْدِرَاءُ بِهِمْ فَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحْكِي عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ احْتَجَّ بِمَذْهَبِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَلَّدَهُ فَمَا ظَنَّك فِي أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَتَّى أَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُرَدُّ حَدِيثُ أَمْثَالِهِمْ إلَّا إذَا انْسَدَّ بَابُ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ إذَا انْسَدَّ صَارَ الْحَدِيثُ نَاسِخًا لِلْكِتَابِ وَالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَمُعَارِضًا لِلْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ مِثْلُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمُصَرَّاةِ أَنَّهُ انْسَدَّ فِيهِ بَابُ الرَّأْيِ فَصَارَ نَاسِخًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمَعْرُوفَةِ مُعَارِضًا لِلْإِجْمَاعِ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ بِالْمِثْلِ وَالْقِيمَةِ دُونَ التَّمْرِ ـــــــــــــــــــــــــــــQصَحِبْت ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سِنِينَ مَا سَمِعْتُهُ يَرْوِي حَدِيثًا إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ثُمَّ أَخَذَهُ الْبُهْرُ وَالْفَرَقُ وَجَعَلَتْ فَرَائِصُهُ تَرْتَعِدُ فَقَالَ نَحْوَ هَذَا أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَقُولُ كَذَا وَقَدْ كَانَ نَقْلُ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى مُسْتَفِيضًا فِيهِمْ عَلَى مَا جَاءَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَخْبَارِ أَمَرَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِكَذَا وَنَهَى عَنْ كَذَا وَلَمَّا ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ اُحْتُمِلَ أَنَّ هَذَا الرَّاوِيَ نَقَلَ مَعْنَى كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعِبَارَةٍ لَا تَنْتَظِمُ الْمَعَانِيَ الَّتِي انْتَظَمَهَا عِبَارَةُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِقُصُورِ فِقْهِهِ عَنْ دَرْكِهَا إذْ النَّقْلُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِقَدْرِ فَهْمِ الْمَعْنَى فَيَدْخُلُ هَذَا الْخَبَرُ شُبْهَةٌ زَائِدَةٌ تَخْلُو عَنْهَا الْقِيَاسُ فَإِنَّ الشُّبْهَةَ فِي الْقِيَاسِ لَيْسَتْ إلَّا فِي الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْقِيَاسِ وَهَاهُنَا تَمَكَّنَتْ شُبْهَةٌ فِي مَتْنِ الْخَبَرِ بَعْدَمَا تَمَكَّنَتْ شُبْهَةٌ فِي الِاتِّصَالِ فَكَانَ فِيهِ شُبْهَتَانِ وَفِي الْقِيَاسِ شُبْهَةٌ وَاحِدَةٌ فَيُحْتَاطُ فِي مِثْلِ هَذَا الْخَبَرِ بِتَرْجِيحِ مَا هُوَ أَقَلُّ شُبْهَةً وَهُوَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ؛ 1 - وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي نَقْلُ عِبَارَةِ الشُّهُودِ إلَى عِبَارَةِ نَفْسِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا لِاحْتِمَالِ الزِّيَادَةِ فِي مَحَلِّ النُّقْصَانِ أَوْ النُّقْصَانِ فِي مَحَلِّ الزِّيَادَةِ. ثُمَّ هَذَا الْكَلَامُ لَمَّا أَوْهَمَ أَنَّهُ ازْدَرَى بِبَعْضِ الصَّحَابَةِ وَطَعَنَ فِيهِمْ بِالْغَلَطِ وَعَدَمِ الْفَهْمِ كَمَا تَرَى اعْتَذَرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ؛ وَإِنَّمَا نَعْنِي بِمَا قُلْنَا مِنْ قُصُورِ فِقْهِ الرَّاوِي قُصُورًا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِفِقْهِ الْحَدِيثِ أَيْ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِمَا هُوَ فِقْهُ لَفْظِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِمَّا أَنْ نَعْنِيَ بِهِ الِازْدِرَاءَ أَيْ الِاسْتِخْفَافَ بِهِمْ فَمَعَاذَ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا حَكَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ احْتَجَّ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِثْلِ تَقْدِيرِ الْحَيْضِ وَغَيْرِهِ بِمَذْهَبِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُقَلِّدًا لَهُ فَمَا ظَنُّك فِي أَبِي هُرَيْرَةَ مَعَ أَنَّهُ أَعْلَى دَرَجَةً فِي الْعِلْمِ مِنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الصُّحْبَةِ وَاخْتِصَاصِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِدُعَاءِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَهُ بِالْفَهْمِ وَنَفْثِهِ فِي رِدَائِهِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ «حَضَرْت مَجْلِسًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ مَنْ يَبْسُطُ مِنْكُمْ رِدَاءَهُ حَتَّى أُفِيضَ فِيهِ مَقَالَتِي فَيَضُمُّهَا إلَيْهِ ثُمَّ لَا يَنْسَاهَا فَبَسَطْت بُرْدَةً كَانَتْ عَلَيَّ فَأَفَاضَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيهَا مَقَالَتَهُ فَضَمَمْتُهَا إلَى صَدْرِي فَمَا نَسِيتُ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا» ؛ لِأَنَّهُ إذَا انْسَدَّ بَابُ الرَّأْيِ صَارَ الْحَدِيثُ نَاسِخًا يَعْنِي إذَا تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ بِانْسِدَادِ بَابِ الرَّأْيِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَجَبَ تَرْكُ الْخَبَرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عُمِلَ بِهِ وَتُرِكَ الْقِيَاسُ صَارَ الْحَدِيثُ مَعَ التَّوَهُّمِ الَّذِي ذَكَرْنَا نَاسِخًا لِلْكِتَابِ وَهُوَ، قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] فَإِنَّهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ وَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وَهُوَ حَدِيثُ مُعَاذٍ وَغَيْرِهِ مُعَارِضًا لِلْإِجْمَاعِ فَإِنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى كَوْنِ الْقِيَاسِ حُجَّةً عِنْدَ عَدَمِ دَلِيلٍ أَقْوَى مِنْهُ وَنُفَاة الْقِيَاسِ حَدَثُوا بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ فَلَا يُعْبَأُ بِخِلَافِهِمْ بِخِلَافِ خَبَرِ الْفَقِيهِ؛ لِأَنَّ التَّوَهُّمَ الْمَذْكُورَ لَمَّا انْقَطَعَ عَنْهُ كَانَ أَقْوَى مِنْ الْقِيَاسِ لِبَقَاءِ الشُّبْهَةِ فِي طَرِيقِهِ دُونَ أَصْلِهِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَقْدِيمِهِ عَلَيْهِ مُخَالَفَةُ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْعَمَلَ بِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَقْوَى فَأَمَّا عِنْدَ وُجُودِهِ فَتُوجِبُ الْعَمَلَ بِالْأَقْوَى وَتَرْكَ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ فَلَا يَتَحَقَّقُ النَّسْخُ وَالْمُعَارَضَةُ. وَإِنَّمَا قَالَ مُعَارِضًا؛ لِأَنَّهُ لَا نَسْخَ لِلْإِجْمَاعِ بِالْحَدِيثِ؛ وَإِنَّمَا يُنْسَخُ بِإِجْمَاعٍ آخَرَ مِثْلِهِ، قَوْلُهُ (وَذَلِكَ) أَيْ كَوْنُ الْحَدِيثِ نَاسِخًا عِنْدَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQانْسِدَادِ بَابِ الرَّأْيِ، مِثْلُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ مِثَالُ مَا ذَكَرْنَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْمُصَرَّاةِ وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تُصَرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ فَمَنْ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا إنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ» وَيُرْوَى بِأَحَدِ النَّظَرَيْنِ وَيُرْوَى «مَنْ اشْتَرَى شَاةً مُحَفَّلَةً فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» الْحَدِيثَ وَالتَّصْرِيَةُ فِي اللُّغَةِ الْجَمْعُ يُقَالُ صَرَيْت الْمَاءَ وَصَرَّيْتُهُ أَيْ جَمَعْتُهُ وَالْمُرَادُ بِهَا فِي الْحَدِيثِ جَمْعُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ بِالشَّدِّ وَتَرْكُ الْحَلْبِ مُدَّةً لِيَتَخَيَّلَ الْمُشْتَرِي أَنَّهَا غَزِيرَةُ اللَّبَنِ وَالتَّحْفِيلُ بِمَعْنَاهَا أَيْضًا وَقَوْلُهُ بِأَحَدِ النَّظَرَيْنِ قِيلَ النَّظَرُ الْأَوَّلُ عِنْدَ الْحَلْبَةِ الْأُولَى وَالنَّظَرُ الْآخَرُ عِنْدَ الْحَلْبَةِ الْأُخْرَى، وَمَعْنَى قَوْلِهِ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ نَظَرُهُ لِنَفْسِهِ بِالِاخْتِيَارِ وَالْإِمْسَاكِ، وَنَظَرُهُ لِلْبَائِعِ بِالرَّدِّ وَالْفَسْخِ ثُمَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَعَلَ التَّصْرِيَةَ عَيْبًا حَتَّى كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ إذَا تَبَيَّنَ بَعْدَ الْحَلْبِ خِلَافَ مَا تَخَيَّلَهُ تَمَسُّكًا بِهَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَإِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ يُتْرَكُ الْقِيَاسُ بِمُقَابَلَتِهِ مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ مُوَافِقٌ لِلْأُصُولِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ إنَّمَا يَثْبُتُ لِغُرُورٍ كَانَ مِنْ الْبَائِعِ، وَالْغُرُورُ يُثْبِتُ لِلْمُشْتَرِي حَقَّ الرُّجُوعِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى صُبْرَةَ حِنْطَةٍ فَوَجَدَ فِي وَسَطِهَا دُكَّانًا أَوْ اشْتَرَى قُفَّةً مِنْ الثِّمَارِ فَوَجَدَ فِي أَسْفَلِهَا حَشِيشًا. وَالْمَذْكُورُ فِي بَعْضِ كُتُبِهِمْ أَنَّ التَّغْرِيرَ الْفِعْلِيَّ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الِالْتِزَامِ اللَّفْظِيِّ فَصَارَ كَمَا لَوْ شَرَطَ الْغَزَارَةَ، وَعِنْدَنَا التَّصْرِيَةُ لَيْسَتْ بِعَيْبٍ، وَلَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي وِلَايَةُ الرَّدِّ بِسَبَبِهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَقْتَضِي سَلَامَةَ الْمَبِيعِ وَبِقِلَّةِ اللَّبَنِ لَا يَنْعَدِمُ صِفَةُ السَّلَامَةِ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ ثَمَرَةٌ وَبِعَدَمِهَا لَا تَنْعَدِمُ صِفَةُ السَّلَامَةِ فَبِقِلَّتِهَا أَوْلَى، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ الْخِيَارُ لِلْغُرُورِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مُغْتَرٌّ لَا مَغْرُورٌ فَإِنَّهُ ظَنَّهَا غَزِيرَةَ اللَّبَنِ بِنَاءً عَلَى شَيْءٍ مُشْتَبَهٍ فَإِنَّ انْتِفَاخَ الضَّرْعِ قَدْ يَكُونُ بِكَثْرَةِ اللَّبَنِ وَقَدْ يَكُونُ بِالتَّحْفِيلِ وَهُوَ أَظْهَرُ عَلَى مَا عَلَيْهِ عَادَاتُ النَّاسِ فِي تَرْوِيجِ السِّلْعَةِ بِالْحِيَلِ فَيَكُونُ هُوَ مُغْتَرًّا فِي بِنَاءِ ظَنِّهِ عَلَى الْمُحْتَمَلِ وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً. فَأَمَّا الْحَدِيثُ فَمُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ فَكَانَ نَاسِخًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُوجِبَيْنِ لِلْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ مُعَارِضًا لِلْإِجْمَاعِ الْمُوجِبِ لِلْعَمَلِ بِهِ كَمَا ذَكَرْنَا فَيَكُونُ مَرْدُودًا؛ لِأَنَّ مِنْ أَحَادِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّمَا يُقْبَلُ مَا لَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ فَأَمَّا مَا خَالَفَهُ فَالْقِيَاسُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَالْمَبْسُوطِ وَأَمَّا الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ سَوْقُ الْكَلَامِ فِي الْكِتَابِ فَهُوَ أَنَّ حَدِيثَ الْمُصَرَّاةِ وَرَدَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ وَانْسَدَّ فِيهِ بَابُ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْعُدْوَانِ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ مُقَدَّرٌ بِالْمِثْلِ بِالْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] . وَفِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ مُقَدَّرٌ بِالْقِيمَةِ بِالْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ، قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي عَبْدٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا» عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي بَابِ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ وَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ أَيْضًا عَلَى وُجُوبِ الْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ عِنْدَ فَوَاتِ الْعَيْنِ وَتَعَذُّرِ الرَّدِّ ثُمَّ اللَّبَنُ إنْ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ يُضْمَنُ بِالْمِثْلِ وَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي بَيَانِ الْمِقْدَارِ قَوْلَ مَنْ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ فَإِيجَابُ التَّمْرِ مَكَانَهُ يَكُونُ مُخَالِفًا لِلْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَيَكُونُ نَسْخًا وَمُعَارَضَةً كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ. وَقَوْلُهُ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ مُتَعَلِّقٌ بِمَجْمُوعِ قَوْلِهِ صَارَ نَاسِخًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُعَارِضًا لِلْإِجْمَاعِ أَيْ يَلْزَمُ مِنْ الْعَمَلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ نَسْخُ الْكِتَابِ

وَفِي وُجُوهٍ أُخَرَ ذَكَرْنَاهَا فِي مَوْضِعِهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالسُّنَّةِ وَمُعَارَضَةُ الْإِجْمَاعِ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ وَقَوْلُهُ وَفِي وُجُوهٍ أُخَرَ ذَكَرْنَاهَا فِي مَوْضِعِهَا عَطْفٌ عَلَيْهِ أَيْ صَارَ مُعَارِضًا لِلْإِجْمَاعِ فِي هَذَا الْوَجْهِ وَفِي وُجُوهٍ أُخَرَ وَهِيَ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَالْقَاضِي الْإِمَامُ فِي الْأَسْرَارِ أَنَّ حَدِيثَ الْمُصَرَّاةِ وَرَدَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ أَوْجَبَ رَدَّ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ بِإِزَاءِ اللَّبَنِ وَاللَّبَنُ الَّذِي يُحْلَبُ بَعْدَ الشِّرَاءِ وَالْقَبْضِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ فَرْعُ مِلْكِهِ الصَّحِيحِ فَلَا يُضْمَنُ بِالتَّعَدِّي لِعَدَمِ التَّعَدِّي. وَلَا يُضْمَنُ بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْعَقْدِ يَنْتَهِي بِالْقَبْضِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ اللَّبَنَ الَّذِي يَحْدُثُ بَعْدَ الْقَبْضِ فَكَذَلِكَ اللَّبَنُ الَّذِي كَانَ حِينَ الْعَقْدِ ثُمَّ حُلِبَ بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ الَّذِي كَانَ عِنْدَ الْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ مَالًا؛ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ كَالْحَبَلِ؛ وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَالًا بِالْحَلْبِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْعَقْدِ وَهُوَ فِي حُكْمِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَيَصِيرُ كَالْكَسْبِ وَلَئِنْ كَانَ مَالًا كَانَ صِفَةً لِلشَّاةِ فَيُعْتَبَرُ مَالًا تَبَعًا كَالصُّوفِ فَلَا يَكُونُ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ مَا لَمْ يُزَايِلْ الْأَصْلَ وَلَوْ زَالَ قَبْلَ الْقَبْضِ بِآفَةٍ لَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ نَقْدًا فَكَذَا إذَا قُبِضَ وَالْوَصْفُ مُتَّصِلٌ بِالْأَصْلِ لَا يَصِيرُ حِصَّةً مِنْ الثَّمَنِ، وَلَا يَصِيرُ مَضْمُونًا وَلَئِنْ جَازَ أَنْ يُقَابِلَهُ ضَمَانٌ فَهُوَ ضَمَانُ الْعَقْدِ يَنْبَغِي أَنْ يُسْقِطَ مِنْ الْبَائِعِ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى شَيْئَيْنِ ثُمَّ رَدَّ أَحَدَهُمَا وَلَئِنْ كَانَ ضَمَانَ التَّعَدِّي وَجَبَ أَنْ يَضْمَنَ مِثْلَ اللَّبَنِ كَيْلًا أَوْ دَرَاهِمَ كَمَا قُلْنَا أَمَّا الصَّاعُ مِنْ التَّمْرِ بِلَا تَقْوِيمٍ قَلَّ اللَّبَنُ أَوْ كَثُرَ فَلَا وَجْهَ لَهُ فِي الشَّرْعِ وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى تَوْقِيتِ خِيَارِ الْعَيْبِ وَهُوَ غَيْرُ مُوَقَّتٍ بِوَقْتٍ بِالْإِجْمَاعِ فَثَبَتَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَوَجَبَ رَدُّهُ بِالْقِيَاسِ أَوْ حَمْلُهُ عَلَى تَأْوِيلٍ وَإِنْ بَعُدَ احْتِرَازًا عَنْ الرَّدِّ وَهُوَ أَنَّ الْخُصُومَةَ فِي شَاةٍ مُحَفَّلَةٍ فَنَدَبَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْبَائِعَ إلَى الِاسْتِرْدَادِ صُلْحًا لَا حُكْمًا فَأَبَى بِعِلَّةِ اللَّبَنِ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَزَادَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِذَلِكَ السَّبَبِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ فَقَبِلَ الْبَائِعُ الشَّاةَ وَالتَّمْرَ وَرَدَّ الثَّمَنَ صُلْحًا لَا حُكْمًا، وَكَانَ هَذَا شِرَاءً مُبْتَدَأً لَا حُكْمًا فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهُ كَانَ حُكْمًا وَكَانُوا يَسْتَجِيزُونَ نَقْلَ الْخَبَرِ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْمَعْنَى فَنَقَلَ عَلَى مَا ظَنَّ بِعِبَارَتِهِ فَإِنْ قِيلَ إنَّكُمْ حَمَلْتُمْ بِخَبَرِ الْقَهْقَهَةِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ مَعَ أَنَّ رَاوِيَهُ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ وَأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ بِالْفِقْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَخَبَرُ الْمُصَرَّاةِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ وَالْعَمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتُ مَتْنًا وَأَقْوَى سَنَدًا وَرَاوِيهِ وَهُوَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَعْلَى رُتْبَةً فِي الْعِلْمِ مِنْ مَعْبَدٍ. قُلْنَا: قَدْ رَوَى خَبَرَ الْقَهْقَهَةِ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ مِثْلُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَجَابِرٍ وَأَنَسٍ وَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَعَمِلَ بِهِ كُبَرَاءُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِثْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وَمَكْحُولٍ فَلِذَلِكَ وَجَبَ قَبُولُهُ وَتَقْدِيمُهُ عَلَى الْقِيَاسِ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْأَسْرَارِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَضْلِ الْكَرْمَانِيُّ فِي إشَارَاتِ الْأَسْرَارِ أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ شَنَّعَ عَلَيْنَا وَنَسَبَ أَصْحَابَنَا إلَى الطَّعْنِ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَمْثَالِهِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ سُلُوكًا لِلْمُعَانَدَةِ؛ لِأَنَّا إنَّمَا نَتَّبِعُ الصَّحَابَةَ فَنَقُولُ: لَا إشْكَالَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَكَانَا مُقَدَّمَيْنِ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْفِقْهِ وَالْفَتْوَى وَكَانَا لَا يَرَيَانِ تَرْكَ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ بِقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنَّهُ رَوَى أَنَّ الْوُضُوءَ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ فَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالْقِيَاسِ وَلَمْ يَشْتَغِلْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالسُّنَّةِ وَكَذَا عَائِشَةُ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَاتَّبَعْنَا الصَّحَابَةَ فِي تَرْكِ رِوَايَتِهِ بِالْقِيَاسِ وَلَكِنَّا لَا نَظُنّ بِهِ وَبِجَمِيعِ الصَّحَابَةِ إلَّا الصِّدْقَ وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ اشْتِرَاطِ فِقْهِ الرَّاوِي لِتَقْدِيمِ خَبَرِهِ عَلَى الْقِيَاسِ مَذْهَبُ عِيسَى بْنِ أَبَانَ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ وَخَرَّجَ عَلَيْهِ حَدِيثَ الْمُصَرَّاةِ وَخَبَرَ الْعَرَايَا وَتَابَعَهُ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ. فَأَمَّا عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا فَلَيْسَ فِقْهُ الرَّاوِي بِشَرْطٍ لِتَقْدِيمِ خَبَرِهِ عَلَى الْقِيَاسِ بَلْ يُقْبَلُ خَبَرُ كُلِّ عَدْلٍ ضَابِطٍ إذَا لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ وَيُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ قَالَ أَبُو الْيُسْرِ وَإِلَيْهِ مَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ التَّغْيِيرَ مِنْ الرَّاوِي بَعْدَ ثُبُوتِ عَدَالَتِهِ وَضَبْطِهِ مَوْهُومٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَرْوِي كَمَا سَمِعَ وَلَوْ غَيَّرَ لَغَيَّرَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَغَيَّرُ الْمَعْنَى هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ أَحْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالرُّوَاةِ الْعُدُولِ؛ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ وَرَدَّتْ بِلِسَانِهِمْ فَعِلْمُهُمْ بِاللِّسَانِ يَمْنَعُ مِنْ غَفْلَتِهِمْ عَنْ الْمَعْنَى وَعَدَمِ وُقُوفِهِمْ عَلَيْهِ وَعَدَالَتُهُمْ وَتَقْوَاهُمْ تَدْفَعُ تُهْمَةَ التَّزَايُدِ عَلَيْهِ وَالنُّقْصَانِ عَنْهُ قَالَ: وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ هُوَ الَّذِي يُوجِبُ وَهْنًا فِي رِوَايَتِهِ، وَالْوُقُوفُ عَلَى الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ مُتَعَذِّرٌ فَيَجِبُ الْقَبُولُ كَيْ لَا يَتَوَقَّفَ الْعَمَلُ بِالْأَخْبَارِ. وَاسْتَدَلَّ غَيْرُهُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَبِلَ حَدِيثَ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ فِي الْجَنِينِ وَقَضَى بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْجَنِينَ إنْ كَانَ حَيًّا وَجَبَتْ الدِّيَةُ كَامِلَةً، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا لَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ كِدْنَا أَنْ نَقْضِيَ فِيهِ بِرَأْيِنَا وَفِيهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَبِلَ أَيْضًا خَبَرَ الضَّحَّاكِ فِي تَوْرِيثِ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا وَكَانَ الْقِيَاسُ خِلَافَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ إنَّمَا يَثْبُتُ فِيمَا كَانَ يَمْلِكُهُ الْمُوَرِّثُ قَبْلَ الْمَوْتِ وَالزَّوْجُ لَا يَمْلِكُ الدِّيَةَ قَبْلَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ وَلَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ وَلَمْ يُنْقَلْ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أَصْحَابِنَا أَيْضًا بَلْ الْمَنْقُولُ عَنْهُمْ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ وَلَمْ يُنْقَلْ التَّفْضِيلُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ عَمِلُوا بِخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الصَّائِمِ إذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَوْلَا الرِّوَايَةُ لَقُلْتُ بِالْقِيَاسِ وَنُقِلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَعْضِ أَمَالِيهِ أَنَّهُ أَخَذَ لِحَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ وَأَثْبَتَ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ مَا جَاءَنَا عَنْ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ فَعَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ اشْتِرَاطُ الْفِقْهِ فِي الرَّاوِي فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُسْتَحْدَثٌ وَأَجَابَ عَنْ حَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ وَالْعَرِيَّةِ وَأَشْبَاهِهِمَا فَقَالَ: إنَّمَا تَرَكَ أَصْحَابُنَا الْعَمَلَ بِهَا لِمُخَالَفَتِهَا الْكِتَابَ أَوْ السُّنَّةَ الْمَشْهُورَة لَا لِفَوَاتِ فِقْهِ الرَّاوِي وَأَنَّ حَدِيثَ الْمُصَرَّاةِ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا بَيَّنَّا وَحَدِيثُ الْعَرِيَّةِ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ وَهِيَ، قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ كَيْلٌ بِكَيْلٍ» عَلَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا بَلْ كَانَ فَقِيهًا وَلَمْ يَعْدَمْ شَيْئًا مِنْ أَسْبَابِ الِاجْتِهَادِ وَقَدْ كَانَ يُفْتِي فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ وَمَا كَانَ يُفْتِي فِي ذَلِكَ الزَّمَانَ إلَّا فَقِيهٌ مُجْتَهِدٌ وَكَانَ مِنْ عِلْيَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُمْ وَقَدْ دَعَا النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَهُ بِالْحِفْظِ فَاسْتَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ فِيهِ حَتَّى انْتَشَرَ فِي الْعَالَمِ ذِكْرُهُ وَحَدِيثُهُ وَقَالَ إِسْحَاقُ الْحَنْظَلِيُّ ثَبَتَ عِنْدَنَا فِي الْأَحْكَامِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ مِنْهَا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَوَى عَنْهُ سَبْعُمِائَةِ نَفَرٍ مِنْ أَوْلَادِ الْمُهَاجِرِينَ

[الراوي المجهول]

وَأَمَّا الْمَجْهُولُ فَإِنَّمَا نَعْنِي بِهِ الْمَجْهُولَ فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ بِأَنْ لَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِحَدِيثٍ أَوْ بِحَدِيثَيْنِ مِثْلُ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْأَنْصَارِ وَقَدْ رَوَى جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ عَنْهُ فَلَا وَجْهَ إلَى رَدِّ حَدِيثِهِ بِالْقِيَاسِ. [الرَّاوِي الْمَجْهُولُ] ، قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْمَجْهُولُ) إلَى آخِرِهِ وَاعْلَمْ أَنَّ عَامَّةَ السَّلَفِ وَجَمَاهِيرَ الْخَلَفِ اتَّفَقُوا عَلَى عَدَالَةِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لِأَنَّ عَدَالَتَهُمْ ثَبَتَتْ بِتَعْدِيلِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُمْ وَثَنَائِهِ عَلَيْهِمْ فِي آيٍ كَثِيرَةٍ مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100] الْآيَةَ وَقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح: 29] وَقَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] فِي شَوَاهِدَ لَهَا كَثِيرَةٍ وَبِقَوْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا اهْتِدَاءَ مِنْ غَيْرِ عَدَالَةٍ وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تَذْكُرُوا أَصْحَابِي إلَّا بِخَيْرٍ فَلَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِلْءَ الْأَرْضِ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلَا نَصِيفَهُ» . وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَارَ لِي أَصْحَابًا وَأَصْهَارًا وَأَنْصَارًا» وَاخْتِيَارُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَكُونُ لِمَنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ، وَلَا تَعْدِيلَ أَعْلَى مِنْ تَعْدِيلِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ وَتَعْدِيلِ رَسُولِهِ كَيْفَ وَلَوْ لَمْ يَرِدْ الثَّنَاءُ لَكَانَ مَا اُشْتُهِرَ وَتَوَاتَرَ مِنْ حَالِهِمْ فِي الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ وَبَذْلِهِمْ الْجُهْدَ وَالْأَمْوَالَ وَقَتْلِهِمْ الْآبَاءَ وَالْأَوْلَادَ فِي مُوَالَاةِ الرَّسُولِ وَنُصْرَتِهِ كَافِيًا فِي الْقَطْعِ بِعَدَالَتِهِمْ. وَأَمَّا مَا جَرَى بَيْنَهُمْ مِنْ الْفِتَنِ فَبِنَاءً عَلَى التَّأْوِيلِ وَالِاجْتِهَادِ فَإِنَّ كُلَّ فَرِيقٍ ظَنَّ أَنَّ الْوَاجِبَ مَا صَارَ إلَيْهِ، وَأَنَّهُ أَوْفَقَ لِلدِّينِ وَأَصْلَحَ لِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ طَعْنًا فِيهِمْ وَلَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الصَّحَابِيِّ فَذَهَبَ عَامَّةُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّ مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَحْظَةً فَهُوَ صَحَابِيٌّ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مُشْتَقٌّ مِنْ الصُّحْبَةِ وَهِيَ تَعُمُّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ إلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِمَنْ اخْتَصَّ بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَطَالَتْ صُحْبَتُهُ مَعَهُ عَلَى طَرِيقِ التَّتَبُّعِ لَهُ وَالْأَخْذِ مِنْهُ؛ وَلِهَذَا لَا يُوصَفُ مَنْ جَالَسَ عَالِمًا سَاعَةً بِأَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَكَذَا إذَا أَطَالَ الْمُجَالَسَةَ مَعَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى طَرِيقِ التَّتَبُّعِ لَهُ وَالْأَخْذِ عَنْهُ. وَكَذَا لَوْ حَلَفَ زَيْدٌ أَنَّهُ لَيْسَ صَاحِبَ عَمْرٍو وَقَدْ صَحِبَهُ لَحْظَةً لَا يَحْنَثُ بِالِاتِّفَاقِ قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاسْمُ لَا يَنْطَلِقُ إلَّا عَلَى مَنْ صَحِبَهُ ثُمَّ يَكْفِي لِلِاسْمِ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعُ الصُّحْبَةُ وَلَوْ سَاعَةً، وَلَكِنَّ الْعَرَبَ تُخَصِّصُ الِاسْمَ بِمَنْ كَثُرَتْ صُحْبَتُهُ وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ وَالنَّقْلِ الصَّحِيحِ، وَلَا حَدَّ لِتِلْكَ الْكَثْرَةِ بِتَقْدِيرٍ بَلْ بِتَقْرِيبٍ قُلْت وَسَمِعْت عَنْ شَيْخِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ أَدْنَاهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَذَكَرَ فِي الْكِفَايَةِ لِأَبِي بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْبَغْدَادِيِّ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ كَانَ يَقُولُ: الصَّحَابَةُ لَا نَعُدُّهُمْ إلَّا مَنْ أَقَامَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ وَغَزَا مَعَهُ غَزْوَةً أَوْ غَزْوَتَيْنِ وَإِذَا عَرَفْت هَذَا عَلِمْت أَنَّ الْمَجْهُولَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ لَا يَكُونُ مِنْ الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ ذَاتُهُ إلَّا بِرِوَايَةٍ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ رَوَاهُ وَلَمْ يُعْرَفْ عَدَالَتُهُ، وَلَا فِسْقُهُ، وَلَا طُولُ صُحْبَتِهِ وَقَدْ عُرِفَتْ عَدَالَةُ الصَّحَابَةِ وَاشْتُهِرَ طُولُ صُحْبَتِهِمْ فَكَيْفَ يَكُونُ هُوَ دَاخِلًا فِيهِمْ وَعَلِمْت أَنَّ وَابِصَةَ وَسَلَمَةَ وَمَعْقِلًا، وَإِنْ رَأَوْا النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَرَوَوْا عَنْهُ لَا يُعَدُّونَ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْأُصُولِيُّونَ لِعَدَمِ مَعْرِفَةِ طُولِ صُحْبَتِهِمْ وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ وَإِنَّمَا نَعْنِي بِهَذَا اللَّفْظِ أَيْ بِالْمَجْهُولِ مَنْ لَمْ يَشْتَهِرْ بِطُولِ الصُّحْبَةِ مَعَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ وَإِنَّمَا

وَسَلَمَةَ بْنُ الْمُحَبِّقِ وَمَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ فَإِنْ رَوَى عَنْهُ السَّلَفُ وَشَهِدُوا لَهُ بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ صَارَ حَدِيثُهُ مِثْلَ حَدِيثِ الْمَعْرُوفِ بِشَهَادَةِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، وَإِنْ سَكَتُوا عَنْ الطَّعْنِ بَعْدَ النَّقْلِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ بَيَانٌ، وَلَا يُتَّهَمُ السَّلَفُ بِالتَّقْصِيرِ، وَإِنْ اُخْتُلِفَ فِيهِ مَعَ نَقْلِ الثِّقَاتِ عَنْهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا مِثْلُ حَدِيثِ مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ أَبِي مُحَمَّدٍ الْأَشْجَعِيِّ فِي حَدِيثِ «بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ الْأَشْجَعِيَّةِ أَنَّهُ مَاتَ عَنْهَا هِلَالُ بْنُ أَبِي مُرَّةَ وَلَمْ يَكُنْ فَرَضَ لَهَا وَلَا دَخَلَ بِهَا فَقَضَى لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَهْرِ مِثْلِ نِسَائِهَا» فَعَمِلَ بِحَدِيثِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ـــــــــــــــــــــــــــــQعُرِفَ بِمَا رَوَى مِنْ حَدِيثٍ أَوْ حَدِيثَيْنِ. وَإِنَّمَا فَسَّرَ الشَّيْخُ الْمَجْهُولَ بِقَوْلِهِ: نَعْنِي بِهِ الْمَجْهُولَ فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهَذَا اللَّفْظِ مَجْهُولَ النَّسَبِ وَتِلْكَ الْجَهَالَةُ مَانِعَةٌ عَنْ الْقَبُولِ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَانِعَةً عِنْدَ عَامَّةِ الْأُصُولِيِّينَ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ فَكَأَنَّهُ احْتَرَزَ بِهِ عَنْهَا وَسَلَمَةُ بْنُ الْمُحَبِّقِ بِكَسْرِ الْبَاءِ لَا غَيْرُ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ يَرْوُونَهُ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَاسْمُ الْمُحَبِّقِ صَخْرُ بْنُ الْبُلَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ وَيُقَالُ سَلَمَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْمُحَبِّقِ نُسِبَ إلَى جَدِّهِ رَوَى عَنْ «النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ فَإِنْ طَاوَعَتْهُ فَهِيَ لَهُ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا، وَإِنْ اسْتَكْرَهَهَا فَهِيَ حُرَّةٌ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا» وَلَمْ نَعْمَلْ بِهَذَا الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ يَرُدُّهُ وَهُوَ كَالْمُخَالِفِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ وَالْإِجْمَاعِ كَحَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ. وَمَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ وَكِلَاهُمَا مِمَّنْ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَمَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ مِنْ مُزَيْنَةِ مُضَرَ وَهُوَ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ سَكَنَ الْبَصْرَةَ مَاتَ فِي وِلَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ فِي آخَرِ سِنِي مُعَاوِيَةَ وَمَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ مِنْ أَشْجَعَ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ أَبِي مُحَمَّدٍ وَيُقَالُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ شَهِدَ فَتْحَ مَكَّةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَكَنَ الْكُوفَةَ وَقُتِلَ يَوْمَ الْحَرَّةِ بِالْمَدِينَةِ صَبْرًا سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَوَابِصَةُ وَهُوَ ابْنُ مَعْبَدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ كَعْب نَزَلَ الْكُوفَةَ ثُمَّ تَحَوَّلَ إلَى الْجَزِيرَةِ وَبِهَا مَاتَ. وَعَنْ وَابِصَةَ أَنَّ «رَجُلًا صَلَّى خَلْفَ الصُّفُوفِ وَحْدَهُ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يُعِيدَ» وَقَوْلُهُ وَشَهِدُوا لَهُ بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ بَيَانٌ أَنَّ رِوَايَتَهُمْ عَنْهُ لِلْقَبُولِ وَالْعَمَلِ بِهِ لَا لِلرَّدِّ عَلَيْهِ صَارَ حَدِيثُهُ مِثْلَ حَدِيثِ الْمَعْرُوفِ بِشَهَادَةِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ يَعْنِي مِثْلَ حَدِيثِ الْمَعْرُوفِ بِالْفِقْهِ وَالْعَدَالَةِ وَالضَّبْطِ فَيُقْبَلُ وَيُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ فِقْهٍ وَضَبْطٍ وَتَقْوَى وَلَمْ يُتَّهَمُوا بِالتَّقْصِيرِ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَكَانُوا لَا يَقْبَلُونَ الْحَدِيثَ حَتَّى يَصِحَّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُمْ رَدُّ مَا خَالَفَ الْقِيَاسَ مِنْ رِوَايَتِهِمْ فَلَا يَكُونُ قَبُولُهُمْ إلَّا لِعِلْمِهِمْ بِعَدَالَةِ هَذَا الرَّاوِي وَحُسْنِ ضَبْطِهِ أَوْ؛ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَا سَمِعُوهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْ لِرِوَايَةِ بَعْضِ الْمَشْهُورِينَ عَنْهُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ بِشَهَادَةِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ كَيْفَ يُقْبَلُ رِوَايَتُهُ وَهُوَ مَجْهُولٌ لَمْ يَظْهَرْ عَدَالَتُهُ وَلَا ضَبْطُهُ فَقَالَ قَدْ صَارَ مِثْلَ الْمَعْرُوفِ بِشَهَادَةِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَتَعْدِيلِهِمْ إيَّاهُ، وَإِنْ سَكَتُوا عَنْ الطَّعْنِ بَعْدَ النَّقْلِ فَكَذَلِكَ يَعْنِي إنْ سَكَتُوا عَنْ الرَّدِّ بَعْدَمَا بَلَغَهُمْ رِوَايَتُهُ الْحَدِيثَ فَهُوَ مَقْبُولٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ لَا يَحِلُّ إلَّا عَلَى وَجْهِ الرِّضَاءِ بِالْمَسْمُوعِ وَالْمَرْئِيِّ فَكَانَ سُكُوتُهُمْ عَنْ الرَّدِّ دَلِيلَ التَّقْرِيرِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَبِلُوهُ وَرَوَوْا عَنْهُ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَتَطَرَّقَتْ نِسْبَةُ التَّقْصِيرِ إلَيْهِمْ وَأَنَّهُمْ لَمْ يُتَّهَمُوا بِذَلِكَ. ، وَإِنْ اُخْتُلِفَ فِيهِ مَعَ نَقْلِ الثِّقَاتِ عَنْهُ فَكَذَلِكَ أَيْ إنْ عَمِلَ بِهِ الْبَعْضُ وَرَدَّ الْبَعْضُ يُقْبَلُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَبِلَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْمَشْهُورِينَ صَارَ كَأَنَّهُ رَوَاهُ بِنَفْسِهِ مِثْلُ حَدِيثِ مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيِّ فِي حَدِيثِ بِرْوَعَ أَيْ قِصَّتِهَا وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سُئِلَ عَمَّنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا حَتَّى مَاتَ عَنْهَا فَلَمْ يُجِبْ شَهْرًا وَكَانَ السَّائِلُ يَتَرَدَّدُ إلَيْهِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ شَهْرٍ: أَجْتَهِدُ فِيهِ بِرَأْيِي فَإِنْ يَكُ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُ خَطَأً فَمِنْ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ وَفِي رِوَايَةٍ فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ

وَرَدَّهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا خَالَفَ رَأْيَهُ، وَقَالَ: مَا نَصْنَعُ بِقَوْلِ أَعْرَابِيٍّ بَوَّالٍ عَلَى عَقِبَيْهِ وَلَمْ يَعْمَلْ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِهَذَا الْقِسْمِ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ الْقِيَاسَ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا هُوَ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّهُ وَافَقَ الْقِيَاسَ عِنْدَنَا؛ وَإِنَّمَا يُتْرَكُ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ وَقَدْ رَوَى عَنْهُ الثِّقَاتُ، مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَلْقَمَةَ وَمَسْرُوقٍ وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ فَثَبَتَ بِرِوَايَتِهِمْ عَدَالَتُهُ مَعَ أَنَّهُ مِنْ قَرْنِ الْعُدُولِ فَلِذَلِكَ صَارَ حُجَّةً، وَسَاعَدَهُ عَلَيْهِ أُنَاسٌ مِنْ أَشْجَعَ مِنْهُمْ أَبُو الْجَرَّاحِ وَغَيْرُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQوَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ أَرَى فِيهَا مَهْرَ مِثْلِ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ فِيهِ، وَلَا شَطَطَ أَيْ لَا نَقْصَ وَلَا مُجَاوَزَةَ حَدٍّ فَقَامَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيُّ وَأَبُو الْجَرَّاحِ صَاحِبُ رَايَةِ الْأَشْجَعِيِّينَ وَقَالَا: نَشْهَدُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ الْأَشْجَعِيَّةِ مِنْ بَنِي رَآَّسِ بْنِ كِلَابٍ بِمِثْلِ قَضَائِك هَذَا وَقَدْ كَانَ هِلَالُ بْنُ مُرَّةَ مَاتَ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ فَرْضِ مَهْرٍ وَدُخُولٍ» فَسُرَّ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِذَلِكَ سُرُورًا لَمْ يُسَرَّ مِثْلَهُ بَعْدَ إسْلَامِهِ لِمَا وَافَقَ قَضَاؤُهُ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَرَدَّهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ مَا نَصْنَعُ بِقَوْلِ إعْرَابِيٍّ بَوَّالٍ عَلَى عَقِبَيْهِ حَسْبُهَا الْمِيرَاثُ وَلَمَّا اُخْتُلِفَ فِي قَبُولِهِ أَخَذْنَا بِهِ لِمَا ذَكَرْنَا وَفِي قَوْلِهِ لَمَّا خَالَفَ رَأْيَهُ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ إنَّمَا رَدَّهُ لِمُخَالَفَتِهِ الْقِيَاسَ الَّذِي عِنْدَهُ وَهُوَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ عَادَ إلَيْهَا سَالِمًا فَلَا يَسْتَوْجِبُ بِمُقَابَلَتِهِ عِوَضًا كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَجَعَلَ الرَّأْيَ أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ مِثْلِ هَذَا الْمَجْهُولِ وَهُوَ مَذْهَبُنَا أَيْضًا كَمَا سَنُبَيِّنُ وَقِيلَ إنَّمَا رَدَّهُ لِمَذْهَبٍ تَفَرَّدَ بِهِ وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ تَخَلُّفَ الرَّاوِي وَلَمْ يَرَ هَذَا الرَّجُلَ لِتَخَلُّفِهِ. وَقَوْلُهُ أَعْرَابِيٍّ بَوَّالٍ عَلَى عَقِبَيْهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ مِنْ الَّذِينَ غَلَبَ فِيهِمْ الْجَهْلُ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي وَسُكَّانِ الرِّمَالِ إذْ مِنْ عَادَتِهِمْ الِاحْتِبَاءُ فِي الْجُلُوسِ مِنْ غَيْرِ إزَارٍ وَالْبَوْلُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي جَلَسُوا فِيهِ إذَا احْتَاجُوا إلَيْهِ وَعَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِإِصَابَتِهِ أَعْقَابَهُمْ وَذَلِكَ مِنْ الْجَهْلِ وَقِلَّةِ الِاحْتِيَاطِ وَذَكَرَ فِي الصِّحَاحِ بِرْوَعَ اسْمُ امْرَأَةٍ وَهِيَ بِرْوَعَ بِنْتُ وَاشِقٍ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ يَقُولُونَهُ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَالصَّوَابُ الْفَتْحُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ فِعْوَلٌ إلَّا خِرْوَعٌ وَعِتْوَدٌ اسْمُ وَادٍ وَاعْلَمْ أَنَّ خَبَرَ الْمَجْهُولِ مَرْدُودٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رَدُّوا أَخْبَارَ الْمَجَاهِيلِ فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَدَّ خَبَرَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ وَعَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَدَّ خَبَرَ الْأَشْجَعِيَّ وَمَنْ رَدَّ خَبَرَ الْمَجْهُولِ مِنْهُمْ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى رَدِّهِ وَعِنْدَنَا خَبَرُ الْمَجْهُولِ مِنْ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ مَقْبُولٌ؛ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ كَانَتْ أَصْلًا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ بِخَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي الَّذِي بُعِثْت فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» الْحَدِيثَ «وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَبِلَ شَهَادَةَ الْأَعْرَابِيِّ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ مِنْ غَيْرِ تَفَحُّصٍ عَنْ عَدَالَتِهِ؛ وَإِنَّمَا تَفَحَّصَ عَنْ إسْلَامِهِ فَقَطْ فَقَالَ حِينَ أَخْبَرَ عَنْ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ قَالَ نَعَمْ فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ فَأَمَرَ بِلَالًا أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ بِالصَّوْمِ» : وَهَذَا يَرُدُّ تَأْوِيلَهُمْ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَرَفَ عَدَالَتَهُ إمَّا بِالْوَحْيِ أَوْ بِالْخِبْرَةِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِإِسْلَامِهِ فَكَيْفَ بِعَدَالَتِهِ وَأَمَّا رَدُّ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَخْبَارَ الْمَجَاهِيلِ فَبِنَاءً عَلَى عَوَارِضَ عَلَى مَا عُرِفَ كَذَا ذَكَرَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ ثُمَّ هُوَ مُنْقَسِمٌ عَلَى الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ مَقْبُولٌ لِمَا بَيَّنَّا. وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْقَوَاطِعِ، وَإِنْ عَمِلَ الرَّاوِي بِالْخَبَرِ كَانَ ذَلِكَ تَعْدِيلًا لِلْمَرْوِيِّ عَنْهُ إلَّا أَنْ يَعْمَلَ بِمُوجِبِ الْخَبَرِ لَا لِأَجْلِ الْخَبَرِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقِسْمُ الثَّانِي مَقْبُولًا بِلَا خِلَافٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِهِمْ السُّكُوتُ عِنْدَ مَعْرِفَةِ بُطْلَانِهِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْقِسْمَ الرَّابِعَ مَرْدُودٌ فَكَانَ الْقِسْمُ الْخَامِسُ مَوْضِعَ الْخِلَافِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ كَذَلِكَ أَيْضًا وَإِلَيْهِ يُشِيرُ، قَوْلُهُ عِنْدَنَا فِي هَذَا الْقِسْمِ دُونَ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَيُقْبَلُ عِنْدَنَا لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَا يُقْبَلُ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ عَارَضَ الْقَبُولَ فَيَتَسَاقَطَانِ وَيَصِيرُ الْخَبَرُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ لَمْ يَلْحَقْهُ

فَأَمَّا إذَا كَانَ ظَهَرَ حَدِيثُهُ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ السَّلَفِ إلَّا الرَّدُّ لَمْ يُقْبَلْ حَدِيثُهُ وَصَارَ مُسْتَنْكَرًا لَا يُعْمَلُ بِهِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَصَارَ هَذَا غَيْرَ حُجَّةٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً عَلَى الْعَكْسِ مِنْ الْمَشْهُورِ أَنَّهُ حُجَّةٌ يُحْتَمَلُ شُبْهَةً عِنْدَ التَّأَمُّلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQرَدٌّ وَلَا قَبُولٌ فَيَلْتَحِقُ بِالْقِسْمِ الْخَامِسِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقِسْمُ مَقْبُولًا بِالِاتِّفَاقِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ فَإِنْ خَالَفَهُ يُرَدُّ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ الْوَاقِعَ فِي قَبُولِهِ كَانَ أَدْنَى حَالًا مِنْ الَّذِي اُتُّفِقَ عَلَى قَبُولِهِ فَيُشْتَرَطُ تَأَيُّدُهُ بِالْقِيَاسِ كَالْقِسْمِ الْخَامِسِ عِنْدَنَا إلَّا أَنَّ هَذَا الْمِثَالَ وَهُوَ حَدِيثُ مَعْقِلٍ مُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عِنْدَنَا وَيَتَأَكَّدُ بِالْمَوْتِ كَمَا يَتَأَكَّدُ بِالْوَطْءِ؛ لِأَنَّ بِالْمَوْتِ يَنْتَهِي النِّكَاحُ الَّذِي هُوَ عَقْدُ الْعُمْرِ وَالشَّيْءُ إذَا انْتَهَى تَقَرَّرَ كَانْتِهَاءِ الصَّلَاةِ بِالسَّلَامِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْوَطْءُ؛ وَلِهَذَا وَجَبَتْ الْعِدَّةُ فَيَجِبُ تَمَامُ مَهْرِ الْمِثْلِ وَإِذَا كَانَ مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُ أَنَّ الْمَهْرَ لَا يَجِبُ إلَّا بِالْفَرْضِ وَبِالتَّرَاضِي أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهَا إلَى أَنْ مَاتَ الزَّوْجُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ رَجَعَ إلَيْهَا سَالِمًا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَبِمَنْزِلَةِ هَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِذَا كَانَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ وَجَبَ رَدُّهُ بِهِ فَعَلَى هَذَا كَانَ، قَوْلُهُ وَلَمْ يَعْمَلْ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْقِسْمِ إلَى آخِرِهِ بَيَانًا أَنَّ خِلَافَ الشَّافِعِيِّ فِي الْمِثَالِ لَا فِي الْأَصْلِ وَهُوَ قَوْلُهُ، وَإِنْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَكَذَلِكَ وَكَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ بِهَذَا الْقِسْمِ بِهَذَا الْمِثَالِ الَّذِي هُوَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ وَلَوْ جَعَلْت اسْمَ الْإِشَارَةِ رَاجِعًا إلَى قَوْلِهِ، وَإِنْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَكَذَلِكَ لَا يُلَائِمُهُ التَّعْلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَخْلُو الْكَلَامُ عَنْ نَوْعِ اشْتِبَاهٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِ الْمُصَنِّفِ وَقَوْلُهُ وَقَدْ رَوَى أَيْ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْهُ أَيْ عَنْ مَعْقِلٍ الثِّقَاتُ أَيْ الْعُدُولُ مِثْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ وَعَلْقَمَةُ وَغَيْرِهِ مِنْ الْقَرْنِ الثَّانِي فَثَبَتَ بِرِوَايَتِهِمْ عَنْهُ وَعِلْمِهِمْ بِهِ عَدَالَتُهُ دَلِيلٌ ثَانٍ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ. وَقَوْلُهُ مَعَ أَنَّهُ أَيْ مَعْقِلًا مِنْ قَرْنِ الْعُدُولِ دَلِيلٌ ثَالِثٌ، وَإِشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَمَّا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إنَّ رِوَايَةَ الْمَجْهُولِ فِي الْكُفْرِ وَالصِّبَا لَا تُقْبَلُ فَكَذَا رِوَايَةُ مَجْهُولِ الْحَالِ فِي الْفِسْقِ فَأَشَارَ إلَى أَنَّ الْعَدَالَةَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَصْلٌ بِشَهَادَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَوَجَبَ التَّمَسُّكُ بِهِ إلَى أَنْ يَظْهَرَ مُعَارِضٌ يَنْقُضُهُ فَأَمَّا الصِّبَا وَالْكُفْرُ فِي مَجْهُولِ الْحَالِ فِيهِمَا فَأَصْلٌ فَلَا يُتْرَكُ إلَّا بِيَقِينٍ يُعَارِضُهُ فَيَفْتَرِقَانِ. قَوْلُهُ (فَأَمَّا إذَا ظَهَرَ حَدِيثُهُ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ السَّلَفِ إلَّا الرَّدُّ) فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ إذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُتَّهَمُونَ بِرَدِّ الْحَدِيثِ الثَّابِتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا يُتْرَكُ الْعَمَلُ بِهِ وَتَرْجِيحُ الرَّأْيِ بِخِلَافِهِ عَلَيْهِ فَاتِّفَاقُهُمْ عَلَى الرَّدِّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ اتَّهَمُوهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَلَوْ قَالَ الرَّاوِي أَوْهَمْت لَمْ يُعْمَلْ بِرِوَايَتِهِ فَإِذَا ظَهَرَ ذَلِكَ مِمَّنْ فَوْقَهُ وَهُوَ رَدُّ الْفُقَهَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانَ أَوْلَى كَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ مُنْكَرًا وَمُسْتَنْكَرًا؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ لَمْ يَعْرِفُوا صِحَّتَهُ وَهُوَ دُونَ الْمَوْضُوعِ فَإِنَّ الْمَوْضُوعَ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَدِيثًا مِثْلَ مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدِي إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ» فَوَضَعَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ لِمَا كَانَ يَدْعُو إلَيْهِ مِنْ الْإِلْحَادِ وَالزَّنْدَقَةِ وَيَدَّعِي التَّنَبُّؤَ فَأَمَّا الْمُنْكَرُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَدِيثًا؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ حَدِيثًا إنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ فَكَوْنُهُ مَوْضُوعًا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ لَهُمْ أَيْضًا فَكَانَ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي صَادِقًا فِي الرِّوَايَةِ وَلَكِنَّهُ مَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لَا فِي حَقِّ

وَأَمَّا إذَا لَمْ يَظْهَرْ حَدِيثُهُ فِي السَّلَفِ فَلَمْ يُقَابَلْ بِرَدٍّ، وَلَا قَبُولٍ لَمْ يُتْرَكْ بِهِ الْقِيَاسُ وَلَمْ يَجِبْ الْعَمَلُ بِهِ لَكِنْ الْعَمَلُ بِهِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ أَصْلٌ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَلِذَلِكَ جَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقَضَاءَ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْدِيلٍ حَتَّى أَنَّ رِوَايَةَ مِثْلِ هَذَا الْمَجْهُولِ فِي زَمَانِنَا لَا تُحِلُّ الْعَمَلَ بِهِ لِظُهُورِ الْفِسْقِ فَصَارَ الْمُتَوَاتِرُ يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ وَالْمَشْهُورُ عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ عِلْمَ غَالِبِ الرَّأْيِ وَالْمُسْتَنْكَرُ مِنْهُ يُفِيدُ الظَّنَّ {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] وَالْمُسْتَتِرُ مِنْهُ فِي حَيِّزِ الْجَوَازِ لِلْعَمَلِ بِهِ دُونَ الْوُجُوبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْجَوَازِ، وَلَا فِي حَقِّ الْوُجُوبِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو الدِّمَشْقِيُّ إذَا انْفَرَدَ الرَّاوِي بِشَيْءٍ فَإِنْ كَانَ مَا انْفَرَدَ بِهِ مُخَالِفًا لِمَا رَوَاهُ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ بِالْحِفْظِ لِذَلِكَ وَالضَّبْطِ كَانَ مَا انْفَرَدَ بِهِ شَاذًّا مَرْدُودًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِمَا رَوَاهُ غَيْرُهُ بَلْ هُوَ أَمْرٌ رَوَاهُ هُوَ وَلَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ فَإِنْ كَانَ عَدْلًا حَافِظًا مَوْثُوقًا بِإِتْقَانِهِ وَضَبْطِهِ قُبِلَ مَا انْفَرَدَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يُوثَقُ بِحِفْظِهِ كَانَ انْفِرَادُهُ بِهِ جَازِمًا لَهُ مُزَحْزِحًا لَهُ عَنْ حَيِّزِ الصَّحِيحِ ثُمَّ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ دَائِرٌ بَيْنَ مَرَاتِبَ مُتَفَاوِتَةٍ بِحَسَبِ الْحَالِ فِيهِ فَإِنْ كَانَ الْمُنْفَرِدُ بِهِ غَيْرَ بَعِيدٍ مِنْ دَرَجَةِ الْحَافِظِ الضَّابِطِ الْمَقْبُولِ تَفَرُّدُهُ اسْتَحْسَنَّا حَدِيثَهُ ذَلِكَ وَلَمْ نَحُطَّهُ إلَى قَبِيلِ الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا مِنْ ذَلِكَ رَدَدْنَا مَا انْفَرَدَ بِهِ وَكَانَ مِنْ قَبِيلِ الشَّاذِّ الْمُنْكَرِ فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّ الشَّاذَّ الْمَرْدُودَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا الْحَدِيثُ الْفَرْدُ الْمُخَالِفُ وَالثَّانِي الْفَرْدُ الَّذِي لَيْسَ فِي رَاوِيهِ مِنْ الثِّقَةِ وَالضَّبْطِ مَا يَقَعُ جَابِرًا لِمَا يُوجِبُهُ التَّفَرُّدُ وَالشُّذُوذُ مِنْ النَّكَارَةِ وَالضَّعْفِ ثُمَّ قَالَ وَالصَّوَابُ فِي الْمُنْكَرِ التَّفْصِيلُ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي الشَّاذِّ فَإِنَّهُ بِمَعْنَاهُ فَالْمُنْكَرُ يَكُونُ قِسْمَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الشَّاذِّ، قَوْلُهُ (وَأَمَّا إذَا لَمْ يَظْهَرْ حَدِيثُهُ) أَيْ لَمْ يَبْلُغْهُمْ حَدِيثُ هَذَا الْمَجْهُولِ وَلَمْ يَظْهَرْ فِيهِ مِنْهُمْ رَدٌّ، وَلَا قَبُولٌ فَلَمْ يُتْرَكْ بِهِ الْقِيَاسُ وَلَمْ يَجِبْ الْعَمَلُ بِهِ فِي زَمَانِنَا يَعْنِي إذَا ظَهَرَ حَدِيثُهُ فِي زَمَانِنَا لَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَلَكِنَّ الْعَمَلَ بِهِ يَجُوزُ إذَا وَافَقَ الْقِيَاسَ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ فَالْعَدَالَةُ ثَابِتَةٌ لَهُ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ غَلَبَةِ الْعَدَالَةِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَبِاعْتِبَارِ هَذَا الظَّاهِرِ يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ وَبِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَهِرْ فِي السَّلَفِ يَتَمَكَّنُ تُهْمَةُ الْوَهْمِ فِيهِ فَيَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ إذَا وَافَقَ الْقِيَاسَ عَلَى وَجْهِ حُسْنِ الظَّنِّ بِهِ وَلَكِنْ لَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ شَرْعًا لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِ هَذَا الطَّرِيقِ الضَّعِيفِ كَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فَإِنْ قِيلَ: إذَا وَافَقَهُ الْقِيَاسُ وَلَمْ يَجِبْ الْعَمَلُ بِهِ كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ فَمَا فَائِدَةُ جَوَازِ الْعَمَلِ بِهِ قُلْنَا: هِيَ جَوَازُ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ فَلَا يَتَمَكَّنُ نَافِي الْقِيَاسِ مِنْ مَنْعِ هَذَا الْحُكْمِ لِكَوْنِهِ مُضَافًا إلَى الْحَدِيثِ. ؛ وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِكَوْنِ الْعَدَالَةِ أَصْلًا فِي تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ جَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقَضَاءَ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ أَيْ بِشَهَادَةِ الْمَسْتُورِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْقَاضِي الْقَضَاءُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ، وَالْغَالِبُ عَلَى أَهْلِهِ الصِّدْقُ فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَخَبَرُ مِثْلِ هَذَا الْمَجْهُولِ لَا يُقْبَلُ، وَلَا يَصِحُّ الْعَمَلُ بِهِ مَا لَمْ يَتَأَيَّدْ بِقَبُولِ الْعُدُولِ لِغَلَبَةِ الْفِسْقِ عَلَى أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزْ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْقَضَاءَ بِشَهَادَةِ الْمَسْتُورِ؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا فِي زَمَانِ فُشُوِّ الْكَذِبِ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَذَكَرَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيُسْرِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الرَّاوِيَ إذَا كَانَ مَجْهُولًا لَا يُعْرَفُ عَدَالَتُهُ إنْ عَمِلَ بِهِ الصَّحَابَةُ أَوْ التَّابِعُونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِمَا رَوَى يَجِبُ قَبُولُ خَبَرِهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْمَلُونَ بِهِ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الرَّاوِي بِالْعَدَالَةِ وَثُبُوتِ مَا رَوَى وَأَمَّا إذَا لَمْ يَظْهَرْ عَمَلُ الصَّحَابَةِ، وَلَا عَمَلُ التَّابِعِينَ فَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - اخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ مَا لَمْ يُخَالِفْ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ فَإِذَا خَالَفَهُ لَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ حِينَئِذٍ وَبَعْضُهُمْ قَالُوا: لَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ مَا لَمْ يُوَافِقْ الْقِيَاسَ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنْ خَالَفَ الْقِيَاسَ وَالصَّحِيحُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ فَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ بِأَنَّ الْمَجْهُولَ لَا يُعْرَفُ عَدَالَتُهُ وَهِيَ شَرْطٌ لِقَبُولِ الْأَخْبَارِ فَلَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَقْبَلْ خَبَرَ مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ فِي إيجَابِ الْمَهْرِ فِي الْمُفَوِّضَةِ. وَأَصْحَابُنَا قَالُوا الظَّاهِرُ

وَمِثَالُ الْمُسْتَنْكَرِ مِثْلُ حَدِيثِ «فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَجْعَلْ لَهَا نَفَقَةً، وَلَا سُكْنَى» فَقَدْ رَدَّهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا، وَلَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ أَحَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ حَالِهِمْ الْعَدَالَةُ، وَالْفِسْقُ بِأُمُورٍ عَارِضَةٍ فَيَجِبُ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَى الظَّاهِرِ كَمَا يُجْعَلُ فِي حَقِّ الْإِسْلَامِ وَأَمَّا حَدِيثُ مَعْقِلٍ فَقَدْ قَبِلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَا يَقْبَلُ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِالْعَدَالَةِ فَثَبَتَ عَدَالَتُهُ فَيَجِبُ قَبُولُ خَبَرِهِ عَلَى أَنَّ مَعْقِلًا رَجُلٌ مَعْرُوفٌ عَدْلٌ عَدَّلَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الثِّقَاتِ مِنْهُمْ الْبُخَارِيُّ قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَإِنْ كَانَا يَشْتَرِطَانِ الْعَدَالَةَ حَقِيقَةً وَلَا يَكْتَفِيَانِ بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ هُوَ زَمَانُ الصَّحَابَةِ كَانَ الْغَالِبُ الْعَدَالَةُ فِيهِمْ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ ثُمَّ لَخَصَّ الشَّيْخُ الْكَلَامَ وَبَيَّنَ حَاصِلَهُ فَقَالَ: فَصَارَ الْمُتَوَاتِرُ مِنْ الْخَبَرِ يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ وَفِي مُقَابَلَتِهِ الْمَوْضُوعُ لِانْقِطَاعِ احْتِمَالِ كَوْنِهِ حُجَّةً بِالْكُلِّيَّةِ وَالْمَشْهُورُ عِلْمُ طُمَأْنِينَةٍ وَفِي مُقَابَلَتِهِ الْمُنْكَرُ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُورَ حُجَّةٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ حُجَّةٍ وَالْمُنْكَرُ عَلَى عَكْسِهِ. وَالْمُرَادُ مِنْ الظَّنِّ فِي قَوْلِهِ وَالْمُسْتَنْكَرُ مِنْهُ أَيْ مِنْ الْخَبَرِ يُفِيدُ الظَّنَّ الْوَهْمُ فَإِنَّ الظَّنَّ مَا كَانَ جَانِبُ الثُّبُوتِ فِيهِ رَاجِحًا وَهُوَ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِغَالِبِ الرَّأْيِ وَالْوَهْمُ مَا كَانَ عَدَمُ الثُّبُوتِ فِيهِ رَاجِحًا وَالْمُسْتَنْكَرُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ عِلْمُ غَالِبِ الرَّأْيِ أَيْ خَبَرُ الْوَاحِدِ الَّذِي هُوَ مَعْرُوفٌ بِالضَّبْطِ وَالْعَدَالَةِ أَوْ فِي حُكْمِ الْمَعْرُوفِ وَفِي مُقَابَلَتِهِ الْمُسْتَتِرُ أَيْ خَبَرُ الْمَجْهُولِ الَّذِي هُوَ لَمْ يُقَابَلْ بِرَدٍّ، وَلَا قَبُولٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْعَمَلَ وَهَذَا لَا يُوجِبُهُ، قَوْلُهُ (وَمِثَالُ الْمُسْتَنْكَرِ) كَذَا الْمَبْتُوتَةُ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى عِنْدَنَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ لَهَا السُّكْنَى دُونَ النَّفَقَةِ إلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا، وَلَا سُكْنَى إلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَالشَّعْبِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ لِحَدِيثِ «فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَخْبَرَتْ أَنَّ زَوْجَهَا أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ الْمَخْزُومِيَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَأُمِرَ بِنَفَقَةِ أَصْوُعٍ مِنْ شَعِيرٍ فَاسْتَقَلَّتْهَا وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَهُ مَعَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - نَحْوَ الْيَمَنِ فَانْطَلَقَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي نَفَرٍ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَا عَمْرٍو طَلَّقَ فَاطِمَةَ ثَلَاثًا فَهَلْ لَهَا نَفَقَةٌ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ لَهَا نَفَقَةٌ، وَلَا سُكْنَى وَأَرْسَلَ إلَيْهَا أَنْ تَنْتَقِلَ إلَى أُمِّ شَرِيكٍ ثُمَّ أَرْسَلَ إلَيْهَا أَنَّ أُمَّ شَرِيكٍ يَأْتِيهَا الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ فَانْتَقِلِي إلَى ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ فَإِنَّك إذَا وَضَعْت خِمَارَكِ لَمْ يَرَكِ» وَأَمَّا الْفَرِيقُ الثَّانِي فَيَقُولُونَ لَيْسَ فِي رِوَايَاتِ أَهْلِ الْحِجَازِ ذِكْرُ السُّكْنَى فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ وَالْمَذْكُورُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «لَا نَفَقَةَ لَك إلَّا أَنْ تَكُونِي حَامِلًا إنَّمَا النَّفَقَةُ لِمَنْ يَمْلِكُ الزَّوْجُ رَجْعَتَهَا» فَأَوْجَبْنَا السُّكْنَى بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَعُمُّ الْمَبْتُوتَةَ وَالْمُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ وَلَمْ يُوجِبْ النَّفَقَةَ بِالْحَدِيثِ وَبِمَفْهُومِ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] فَإِنَّهُ بِمَفْهُومِهِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَائِهَا عِنْدَ عَدَمِ الْحَمْلِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهَا إنَّمَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ صِلَةً لِلزَّوْجِيَّةِ وَقَدْ انْقَطَعَتْ بِالطَّلَاقِ الْبَائِنِ

قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ فِيهِ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْقِيَاسَ وَقَدْ رَدَّهُ غَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ أَيْضًا ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَّا أَنَّهَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ صِيَانَةً لِلْوَلَدِ وَحَضَانَةً لَهُ كَمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِالْوِلَادَةِ إذَا كَانَتْ تُرْضِعُهُ وَعُلَمَاؤُنَا قَالُوا إنَّهَا مُحْتَبَسَةٌ بِحَقِّ نِكَاحِهِ فَتَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ كَالْحَامِلِ وَالْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ وَكَمَا تَسْتَحِقُّ السُّكْنَى فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ مَالِيٌّ مُسْتَحَقٌّ لَهَا بِالنِّكَاحِ، وَالْعِدَّةُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ فَكَمَا يَبْقَى بِاعْتِبَارِ هَذَا الْحَقِّ مَا كَانَ لَهَا مِنْ اسْتِحْقَاقِ السُّكْنَى فَكَذَلِكَ النَّفَقَةُ وَلِأَنَّ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ بِقِرَاءَتِهِ يُزَادُ عَلَى الْكِتَابِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ مُسْتَحَقَّةٌ لَهَا بِسَبَبِ الْعِدَّةِ وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] لِإِزَالَةِ إشْكَالٍ كَانَ يَقَعُ عَسَى، فَإِنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ تَطُولُ عَادَةً فَكَانَ يُشْكِلُ أَنَّهَا هَلْ تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ بِسَبَبِ الْعِدَّةِ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ وَإِنْ طَالَتْ فَأَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْإِشْكَالَ بِقَوْلِهِ {حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] . وَأَمَّا حَدِيثُ فَاطِمَةَ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ أَنَّ الزِّيَادَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «لَا نَفَقَةَ لَك إلَّا أَنْ تَكُونِي حَامِلًا» غَيْرُ ثَابِتَةٍ فِي مَوْضِعٍ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ مِنْ الْكُتُبِ وَالرِّوَايَاتِ وَأَمَّا مَتْنُ الْحَدِيثِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ حِينَ رُوِيَ لَهُ هَذَا الْحَدِيثُ لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا، وَلَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ أَحَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ فَهَذَا مِنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طَعْنٌ مَقْبُولٌ فَإِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهَا مُتَّهَمَةٌ بِالْكَذِبِ وَالْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ وَرَدَ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَفَقَةً لِهَذِهِ الْمُعْتَدَّةِ قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ إنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ عَيْنَ النَّصِّ لَتَلَاهُ وَلَرَوَى السُّنَّةَ فَيَكُونُ بَيَانًا أَنَّهُ وَرَدَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ فَلَا يُقْبَلُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَشْهُورًا أَوْ الرَّاوِي فَقِيهًا. وَأَشَارَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآثَارِ إلَى أَنَّهُ أَرَادَ مِنْ الْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] الْآيَةَ وَمِنْ السُّنَّةِ مَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ» وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ مَا لِفَاطِمَةَ إلَّا تَتَّقِي اللَّهَ تَعْنِي فِي قَوْلِهَا لَا سُكْنَى، وَلَا نَفَقَةَ وَكَانَتْ تَقُولُ تِلْكَ امْرَأَةٌ فَتَنَتْ الْعَالِمَ وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ زَوْجِهَا أَنَّهَا إذَا ذَكَرَتْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا رَمَاهَا بِكُلِّ شَيْءٍ تَنَالُهُ يَدُهُ وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنْكَرَ النَّاسُ عَلَى فَاطِمَةَ مَا كَانَتْ تُحَدِّثُ بِهِ مِنْ خُرُوجِهَا قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ كُنْت جَالِسًا مَعَ الْأَسْوَدِ فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ وَمَعَنَا الشَّعْبِيُّ فَحَدَّثَ الشَّعْبِيُّ بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ فَأَخَذَ الْأَسْوَدُ كَفًّا مِنْ حَصْبَاءَ فَقَالَ وَيْلَك تُحَدِّثُ بِمِثْلِ هَذَا. وَرَدَّهُ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ وَهُوَ أَمِيرٌ بِالْمَدِينَةِ وَرَدُّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ بِحَضْرَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُمْ وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَدَلَّ تَرْكُهُمْ النَّكِيرَ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَهُمْ فِيهِ كَمَذْهَبِهِ وَقِيلَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَيْنَ تَعْتَدُّ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا؟ فَقَالَ فِي بَيْتِهَا فَذَكَرَ لَهُ حَدِيثَ فَاطِمَةَ فَقَالَ تِلْكَ الْمَرْأَةُ فَتَنَتْ النَّاسَ إنَّهَا اسْتَطَالَتْ عَلَى أَحْمَائِهَا فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ لِفَاطِمَةَ إنَّمَا لَمْ يَقْضِ لَك بِالنَّفَقَةِ؛ لِأَنَّك كُنْت نَاشِزَةً أَوْ تَأْوِيلُهُ أَنَّ زَوْجَهَا كَانَ غَائِبًا وَوَكَّلَ أَخَاهُ بِالنَّفَقَةِ

وَكَذَلِكَ حَدِيثُ بُسْرَةَ بِنْتِ صَفْوَانَ فِي مَسِّ الذَّكَرِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ؛ وَإِنَّمَا جُعِلَ خَبَرًا لِعَدْلٍ حُجَّةً بِشَرَائِطَ فِي الرَّاوِي. وَهَذَا ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَيْهَا مِنْ الشَّعِيرِ فَأَبَتْ فَلَمْ يَقْضِ لَهَا بِشَيْءٍ آخَرَ لِغَيْبَةِ الزَّوْجِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَغَيْرِهِ فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ عَمِلَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَتَابَعَهُ جَمَاعَةٌ وَقَدْ سَمَّيْنَاهُمْ فَكَانَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّالِثِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَقْبُولًا عِنْدَكُمْ كَخَبَرِ الْأَشْجَعِيِّ فِي الْمُفَوِّضَةِ، وَلَا يَكُونُ مُسْتَنْكَرًا. قُلْنَا: إنَّمَا يُقْبَلُ الْقِسْمُ الثَّالِثُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ كَمَا بَيَّنَّا وَهَذَا الْحَدِيثُ مَعَ لُحُوقِ الرَّدِّ بِهِ مِمَّنْ ذَكَرْنَا مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلِلْقِيَاسِ أَيْضًا فَلَا يُعْتَبَرُ قَبُولُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ فِي مُقَابَلَةِ رَدِّ تِلْكَ الْجَمَاعَةِ فَلِذَلِكَ كَانَ مُسْتَنْكَرًا قَوْلَهُ (وَكَذَلِكَ حَدِيثُ بُسْرَةَ) أَيْ وَكَحَدِيثِ بُسْرَةَ بِنْتِ صَفْوَانَ الَّذِي تَمَسَّكَ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي أَنَّ مَسَّ فَرْجِ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ بِبَاطِنِ الْكَفِّ بِلَا حَائِلٍ حَدَثٌ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ وَهُوَ الْمُسْتَنْكَرُ فَإِنَّ عُمَرَ وَعَلِيًّا وَابْنَ مَسْعُودٍ وَابْنَ عَبَّاسٍ وَعَمَّارًا وَأَبَا الدَّرْدَاءِ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَعِمْرَانَ بْن الْحُصَيْنَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ حَتَّى قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا أُبَالِي أَمَسِسْتُهُ أَمْ أَرْنَبَةَ أَنْفِي، وَكَذَا نُقِلَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنْ كَانَ نَجَسًا فَاقْطَعْهُ وَتَذَاكَرَ عُرْوَةُ وَمَرْوَانُ الْوُضُوءَ مِنْ مَسِّ الْفَرْجِ فَقَالَ مَرْوَانُ حَدَّثَتْنِي بُسْرَةُ بِنْتُ صَفْوَانَ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ بِالْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الْفَرْجِ فَلَمْ يَرْفَعْ عُرْوَةُ بِحَدِيثِهَا رَأْسًا وَرَوَى ابْنُ زَيْدٍ عَنْ رَبِيعَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: هَلْ يَأْخُذُ بِحَدِيثِ بُسْرَةَ أَحَدٌ وَاَللَّهِ لَوْ أَنَّ بُسْرَةَ شَهِدَتْ عَلَى هَذِهِ النَّقْلَةِ لَمَا أَجَزْت شَهَادَتَهَا إنَّمَا قِوَامُ الدِّينِ الصَّلَاةُ؛ وَإِنَّمَا قِوَامُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ فَلَمْ يَكُنْ فِي صَحَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَنْ يُقِيمُ هَذَا الدِّينَ إلَّا بُسْرَةُ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ عَلَى هَذَا أَدْرَكْنَا مَشَايِخَنَا مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَرَى فِي مَسِّ الذَّكَرِ وُضُوءً وَعَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ قَالَ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْأَخْبَارِ لَا تَصِحُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْهَا خَبَرُ مَسِّ الذَّكَرِ وَوَقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي زَمَنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَشَاوَرَ الصَّحَابَةَ فَأَجْمَع مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا وُضُوءَ فِيهِ قَالُوا لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ يَعْنُونَ بُسْرَةَ بِنْتَ صَفْوَانَ. وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ كِتَابَ رَبِّنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ الْأَحْدَاثَ وَكَانَتْ نَجِسَةً مِنْ دَمِ حَيْضٍ وَغَائِطٍ وَمَنِيٍّ وَشَرَعَ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْمَاءِ بِقَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108] وَالِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِمَسِّ الْفَرْجَيْنِ فَلَمَّا ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّهُ مِنْ التَّطْهِيرِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ حَدَثًا بِمِثْلِ هَذَا الْخَبَرِ وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفِي مَسِّ الذَّكَرِ وُضُوءٌ فَقَالَ لَا» وَرَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ مَسِّ الذَّكَرِ فَقَالَ مَا أُبَالِي مَسِسْته أَمْ مَسِسْت أَنْفِي» فَنَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ وَهِيَ أَنَّهُ عُضْوٌ طَاهِرٌ وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْت مَسِسْت ذَكَرِي وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِهِ» وَقَدْ رُوِيَتْ آثَارٌ تُوَافِقُ حَدِيثَ بُسْرَةَ إلَّا أَنَّهَا مُضْطَرِبَةُ الْأَسَانِيدِ وَحَدِيثُ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ مُسْتَقِيمُ الْإِسْنَادِ غَيْرُ مُضْطَرِبٍ قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ حَدِيثُ قَيْسٍ أَحْسَنُ مِنْ حَدِيثِ بُسْرَةَ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَشَرْحِ الْآثَارِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

[باب بيان شرائط الراوي]

بَابُ بَيَانِ شَرَائِطِ الرَّاوِي) الَّتِي هِيَ مِنْ صِفَاتِ الرَّاوِي وَهِيَ أَرْبَعَةٌ الْعَقْلُ وَالضَّبْطُ وَالْإِسْلَامُ وَالْعَدَالَةُ أَمَّا الْعَقْلُ فَهُوَ شَرْطٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلَامِ مَا يُسَمَّى كَلَامًا صُورَةً وَمَعْنًى وَمَعْنَى الْكَلَامِ لَا يُوجَدُ إلَّا بِالتَّمْيِيزِ وَالْعَقْلِ؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِلْبَيَانِ، وَلَا يَقَعُ الْبَيَانُ بِمُجَرَّدِ الصَّوْتِ وَالْحُرُوفِ بِلَا مَعْنَى وَلَا يُوجَدُ مَعْنَاهُ إلَّا بِالْعَقْلِ وَكُلُّ مَوْجُودٍ مِنْ الْحَوَادِثِ فَبِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ يَكُونُ فَلِذَلِكَ كَانَ الْعَقْلُ شَرْطًا لِيَصِيرَ الْكَلَامَ مَوْجُودًا، وَأَمَّا الضَّبْطُ فَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ إذَا صَحَّ خَبَرًا فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَالْحُجَّةُ هُوَ الصِّدْقُ فَأَمَّا الْكَذِبُ فَبَاطِلٌ وَالْكَلَامُ فِي خَبَرٍ هُوَ حُجَّةٌ فَصَارَ الصِّدْقُ وَالِاسْتِقَامَةُ شَرْطًا لِلْخَبَرِ لِيَثْبُتَ حُجَّةً بِمَنْزِلَةِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّمْيِيزِ لِأَصْلِ الْكَلَامِ، وَالصِّدْقُ بِالضَّبْطِ يَحْصُلُ فَأَمَّا الْعَدَالَةُ فَإِنَّمَا شُرِطَتْ؛ لِأَنَّ كَلَامَنَا فِي خَبَرِ مُخْبِرٍ غَيْرِ مَعْصُومٍ عَنْ الْكَذِبِ فَلَا يَثْبُتُ صِدْقُهُ ضَرُورَةً بَلْ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالِاحْتِمَالِ وَذَلِكَ بِالْعَدَالَةِ وَهُوَ الِانْزِجَارُ عَنْ مَحْظُورَاتِ دِينِهِ لِيَثْبُتَ بِهِ رُجْحَانُ الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِثُبُوتِ الصِّدْقِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ لَا يُنَافِي الصِّدْقَ وَلَكِنْ الْكُفْرُ فِي هَذَا الْبَابِ يُوجِبُ شُبْهَةً يَجِبُ بِهَا رَدُّ الْخَبَرِ؛ لِأَنَّ الْبَابَ بَابُ الدِّينِ، وَالْكَافِرُ سَاعٍ لِمَا يَهْدِمُ الدِّينَ الْحَقَّ فَيَصِيرُ مُتَّهَمًا فِي بَابِ الدِّينِ فَثَبَتَ بِالْكُفْرِ تُهْمَةٌ زَائِدَةٌ لَا نُقْصَانُ حَالٍ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ فِيمَا يَشْهَدُ لِوَلَدِهِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُقْبَلْ شَهَادَةُ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ لِمَا قُلْنَا: مِنْ الْعَدَاوَةِ وَلِانْقِطَاعِ الْوَلَايَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQ [بَابُ بَيَانِ شَرَائِطِ الرَّاوِي] (بَابُ بَيَانِ شَرَائِطِ الرَّاوِي الَّتِي هِيَ مِنْ صِفَاتِ الرَّاوِي) مَا ذُكِرَ فِي الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ كَوْنِ الرَّاوِي مَعْرُوفًا أَوْ مَجْهُولًا لَيْسَ بِصِفَةٍ لَهُ حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ أَوْ الْجَهْلَ لَيْسَ بِقَائِمٍ بِهِ بَلْ يَقُومُ بِغَيْرِهِ كَالْعِلْمِ لَا يَقُومُ بِالْمَعْلُومِ بَلْ بِالْعَالِمِ فَأَمَّا الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الْعَقْلِ وَالضَّبْطِ وَالْإِسْلَامِ وَالْعَدَالَةِ فَقَائِمٌ بِالرَّاوِي وَصِفَةٌ لَهُ فَلِهَذَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ مِنْ صِفَاتِ الرَّاوِي، قَوْلُهُ (لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلَامِ) كَذَا يَعْنِي الْخَبَرُ الَّذِي يَرْوِيهِ كَلَامٌ لَا مَحَالَةَ وَالْكَلَامُ فِي الْعُرْفِ مَالَهُ صُورَةٌ وَهِيَ أَنْ يُنَظَّمَ مِنْ حُرُوفٍ مُهَجَّاةٍ وَمَعْنًى وَهُوَ أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَدْلُولِهِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَعْنًى لَا تُوجَدُ بِدُونِ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّهُ أَيْ الْكَلَامُ وُضِعَ لِلْبَيَانِ أَيْ لِإِظْهَارِ الْمَعْنَى الَّذِي وَقَعَ فِي الْقَلْبِ، وَلَا يَحْصُلُ الْبَيَانُ بِمُجَرَّدِ الصَّوْتِ وَالْحُرُوفِ بِلَا مَعْنًى، وَلَا يُوجَدُ الْمَعْنَى بِدُونِ الْعَقْلِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يُسْمَعُ مِنْ الطُّيُورِ حُرُوفٌ مَنْظُومَةٌ وَيُسَمَّى ذَلِكَ لَحْنًا لَا كَلَامًا لِعَدَمِ صُدُورِهَا عَنْ عَقْلٍ وَتَمْيِيزٍ؛ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ سُجُودُ التِّلَاوَةِ بِقِرَاءَةِ الْبَبَّغَاءِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ لِعَدَمِ صُدُورِهَا عَنْ عَقْلٍ وَتَمْيِيزٍ وَكَذَلِكَ لَوْ سُمِعَ مِنْ إنْسَانٍ حُرُوفٌ مَنْظُومَةٌ لَا تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى مَعْلُومٍ لَا تُسَمَّى كَلَامًا فَعَرَفْنَا أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ فِي الشَّاهِدِ مَا يَكُونُ مُمَيِّزًا بَيْنَ أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ فَمَا لَا يَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَكُونُ كَلَامًا صُورَةً لَا مَعْنًى بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ صُنِعَ مِنْ خَشَبٍ صُورَةُ آدَمِيٍّ لَا يَكُونُ آدَمِيًّا لِعَدَمِ مَعْنَاهُ فِيهَا، ثُمَّ التَّمْيِيزُ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ الْكَلَامُ بِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْعَقْلِ فَلِذَلِكَ شَرَطْنَاهُ فِي الْمُخْبِرِ لِيَصِيرَ خَبَرُهُ كَلَامًا بِمَنْزِلَةِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّمْيِيزِ لِأَصْلِ الْكَلَامِ يَعْنِي لَا بُدَّ لِأَصْلِ الْكَلَامِ عَنْ أَنْ يَصْدُرَ عَنْ مَعْرِفَةٍ أَيْ عَنْ عَقْلٍ وَتَمْيِيزٍ لِيَقَعَ صَحِيحًا هَكَذَا لَا بُدَّ لِهَذَا النَّوْعِ مِنْهُ وَهُوَ الْخَبَرُ عَنْ أَنْ يَصْدُرَ عَنْ ضَبْطٍ لِيَكُونَ مُحْتَمَلًا لِلصِّدْقِ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ بِدُونِ الضَّبْطِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّكَلُّمِ صَادِقًا وَبِالضَّبْطِ يَتَمَكَّنُ مِنْهُ. ثُمَّ الضَّابِطُ قَدْ يَكْذِبُ وَقَدْ يَصْدُقُ؛ لِأَنَّ كَلَامَنَا فِي خَبَرِ مُخْبِرٍ غَيْرِ مَعْصُومٍ فَلَا يَثْبُتُ صِدْقُهُ فِي خَبَرِهِ ضَرُورَةً أَيْ لَا يَكُونُ جِهَةُ الصِّدْقِ مُتَعَيِّنَةً فِي خَبَرِهِ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ كَمَا فِي خَبَرِ الرَّسُولِ بَلْ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالِاحْتِمَالِ أَوْ بَلْ يَثْبُتُ الصِّدْقُ فِي خَبَرِهِ بِالِاسْتِدْلَالِ وَذَلِكَ بِالْعَدَالَةِ وَالِانْزِجَارِ أَيْ الِامْتِنَاعِ عَنْ مَحْظُورَاتِ دِينِهِ لِيَثْبُتَ بِهِ أَيْ بِالِانْزِجَارِ عَنْ الْمَحْظُورَاتِ رُجْحَانُ الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ مَحْظُورُ دِينِهِ فَيُسْتَدَلُّ بِانْزِجَارِهِ عَنْ سَائِرِ مَا يَعْتَقِدُهُ مَحْظُورًا عَلَى انْزِجَارِهِ عَنْ الْكَذِبِ الَّذِي يَعْتَقِدُهُ مَحْظُورًا أَوْ لَمَّا كَانَ مُنْزَجِرًا عَنْ الْكَذِبِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا كَانَ ذَلِكَ دَلِيلَ انْزِجَارِهِ عَنْ الْكَذِبِ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَأَحْكَامِ الشَّرْعِ بِالطَّرِيقِ أَوْلَى وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَدْلًا فِي تَعَاطِيهِ فَاعْتِبَارُ جَانِبِ اعْتِقَادِهِ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ فَاعْتِبَارُ جَانِبِ تَعَاطِيهِ يُرَجِّحُ مَعْنَى الْكَذِبِ فِي خَبَرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَالِ مِنْ ارْتِكَابِ سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ مَعَ اعْتِقَادِ حُرْمَتِهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُبَالِي مِنْ الْكَذِبِ مَعَ اعْتِقَادِ حُرْمَتِهِ أَيْضًا فَيَقَعُ الْمُعَارَضَةُ وَيَجِبُ التَّوَقُّفُ لِلْعَمَلِ شَرْعًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعَدَالَةَ فِي الرَّاوِي شَرْطٌ لِكَوْنِ خَبَرِهِ حُجَّةً، قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْإِسْلَامُ) فَكَذَا ذَكَرَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْإِسْلَامِ فِي الرَّاوِي بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْكُفْرَ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْفِسْقِ، وَالْفَاسِقُ غَيْرُ مَقْبُولِ الرِّوَايَةِ فَالْكَافِرُ أَوْلَى بِأَنْ لَا يُوثَقَ بِهِ فَشُرِطَ الْإِسْلَامُ لِتَرَجُّحِ الصِّدْقِ كَمَا شُرِطَتْ الْعَدَالَةُ وَالضَّبْطُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQفَأَشَارَ الشَّيْخُ إلَى ضَعْفِ هَذَا الدَّلِيلِ وَقَالَ لَيْسَ الْإِسْلَامُ بِشَرْطٍ لِثُبُوتِ الصِّدْقِ إذْ الْكُفْرُ لَا يُنَافِي الصِّدْقَ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ إذَا كَانَ مُتَرَهِّبًا عَدْلًا فِي دِينِهِ مُعْتَقِدًا لِحُرْمَةِ الْكَذِبِ تَقَعُ الثِّقَةُ بِخَبَرِهِ كَمَا لَوْ أَخْبَرَ عَنْ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا بِخِلَافِ الْفَاسِقِ فَإِنَّ جُرْأَتَهُ عَلَى فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ مَعَ اعْتِقَادِ تَحْرِيمِهَا تُزِيلُ الثِّقَةَ عَنْ خَبَرِهِ وَلَكِنَّ اشْتِرَاطَ الْإِسْلَامِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْكُفْرَ يُورِثُ تُهْمَةً زَائِدَةً فِي خَبَرِهِ يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْأَخْبَارِ الَّتِي تَثْبُتُ بِهَا أَحْكَامُ الشَّرْعِ وَهُمْ يُعَادُونَنَا فِي الدِّينِ أَشَدَّ الْعَدَاوَةِ فَتَحْمِلُهُمْ الْمُعَادَاةُ عَلَى السَّعْيِ فِي هَدْمِ أَرْكَانِ الدِّينِ بِإِدْخَالِ مَا لَيْسَ مِنْهُ فِيهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا} [آل عمران: 118] أَيْ لَا يُقَصِّرُونَ فِي الْإِفْسَادِ عَلَيْكُمْ وَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُمْ هَذَا بِطَرِيقِ الْكِتْمَانِ فَإِنَّهُمْ كَتَمُوا نَعْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَثُبُوتَهُ مِنْ كِتَابِهِمْ بَعْدَمَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ الْمِيثَاقُ بِإِظْهَارِ ذَلِكَ فَلَا يُؤْمَنُ مِنْ أَنْ يَقْصِدُوا مِثْلَ ذَلِكَ بِزِيَادَةٍ هِيَ كَذِبٌ لَا أَصْلَ لَهُ بِطَرِيقِ الرِّوَايَةِ بَلْ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فَلِهَذَا شَرَطْنَا الْإِسْلَامَ فِي الرَّاوِي فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ رَدَّ خَبَرَ الْكَافِرِ لَيْسَ لِعَيْنِ الْكُفْرِ بَلْ لِمَعْنًى زَائِدٍ: تَمَكُّنُ تُهْمَةُ الْكَذِبِ فِي خَبَرِهِ وَهُوَ الْمُعَادَاةُ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ الْأَبِ لِوَلَدِهِ فَإِنَّهَا لَا تُقْبَلُ لِمَعْنًى زَائِدٍ: تَمَكُّنُ تُهْمَةُ الْكَذِبِ فِي شَهَادَتِهِ وَهُوَ الشَّفَقَةُ وَالْمَيْلُ إلَى الْوَلَدِ طَبْعًا وَذَكَرَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الِاعْتِمَادَ فِي رَدِّ رِوَايَةِ الْكَافِرِ عَلَى الْإِجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ عَلَى سَلْبِ أَهْلِيَّةِ هَذَا الْمَنْصِبِ فِي الدِّينِ عَنْ الْكَافِرِ لِخِسَّتِهِ. وَإِنْ كَانَ عَدْلًا فِي دِينِ نَفْسِهِ؛ وَلِهَذَا أَيْ وَلِثُبُوتِ التُّهْمَةِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ رُبَّمَا تَحْمِلُهُمْ عَلَى الْقَصْدِ إلَى الْإِضْرَارِ بِالْمُسْلِمِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ كَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ ذِي الضَّغَنِ لِظُهُورِ عَدَاوَتِهِ بِسَبَبٍ بَاطِلٍ وَقَبِلْنَا شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لِانْتِفَاءِ هَذِهِ التُّهْمَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ ثُمَّ أَشَارَ إلَى مَعْنًى آخَرَ لِرَدِّ شَهَادَتِهِ بِقَوْلِهِ وَلِانْقِطَاعِ الْوِلَايَةِ يَعْنِي لَوْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ التُّهْمَةُ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ وَانْقَطَعَتْ وِلَايَةُ الْكَافِرِ عَنْ الْمُسْلِمِ شَرْعًا بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] . وَاعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ، وَإِنْ كَانَ يَرْجِعُ إلَى اثْنَيْنِ وَهُمَا الضَّبْطُ وَالْعَدَالَةُ؛ لِأَنَّ الضَّبْطَ بِدُونِ الْعَقْلِ لَا يُتَصَوَّرُ وَكَذَا الْعَدَالَةُ بِدُونِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ تَفْسِيرَهَا الِاسْتِقَامَةُ فِي الدِّينِ وَهِيَ بِدُونِ الْإِسْلَامِ لَا تُوجَدُ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ: مَلَاكُ الْأَمْرِ شَيْئَانِ صِدْقُ اللَّهْجَةِ وَجَوْدَةُ الضَّبْطِ لِمَا يَرْوِيهِ إلَّا أَنَّ عَامَّتَهُمْ لَمَّا رَأَوْا الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْعَقْلِ وَالضَّبْطِ وَبَيْنَ الْعَدَالَةِ وَالْإِسْلَامِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَقْلَ لَا يَسْتَلْزِمُ الضَّبْطَ وَالْإِسْلَامَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْعَدَالَةَ فَصَلُوا بَيْنَهَا وَجَعَلُوا كُلَّ وَاحِدٍ شَرْطًا عَلَى حِدَةٍ وَلِأَنَّهُمْ لَوْ ذَكَرُوا الضَّبْطَ وَلَمْ يَذْكُرُوا الْعَقْلَ لَا يَحْصُلُ الِاحْتِرَازُ عَنْ رِوَايَةِ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ الضَّبْطُ الْكَامِلُ كَالْبَالِغِ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ الضَّبْطُ الْكَامِلُ مُتَوَقِّفًا عَلَى الْعَقْلِ الْكَامِلِ وَهُوَ بَعِيدٌ وَلَوْ اقْتَصَرُوا عَلَى ذِكْرِ الْعَدَالَةِ رُبَّمَا لَا يَحْصُلُ الِاحْتِرَازُ عَنْ رِوَايَةِ الْكَافِرِ فَإِنَّ الْكَافِرَ قَدْ يُوصَفُ بِالْعَدَالَةِ لِاسْتِقَامَتِهِ عَلَى مُعْتَقَدِهِ وَيُسَمَّى مُعْتَقَدُهُ دِينًا. وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا؛ وَلِهَذَا يَسْأَلُ الْقَاضِي عَنْ عَدَالَةِ الْكَافِرِ إذَا شَهِدَ عَلَى كَافِرٍ آخَرَ عِنْدَ طَعْنِ الْخَصْمِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْكُلِّ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -

[باب تفسير شروط الراوي وتقسيمها]

(بَابُ تَفْسِيرِ هَذِهِ الشُّرُوطِ وَتَقْسِيمِهَا) قَالَ الشَّيْخُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَمَّا الْعَقْلُ فَنُورٌ يُضَاءُ بِهِ طَرِيقٌ يُبْتَدَأُ بِهِ مِنْ حَيْثُ يُنْتَهَى إلَيْهِ دَرْكُ الْحَوَاسِّ فَيَبْتَدِئُ الْمَطْلُوبُ لِلْقَلْبِ فَيُدْرِكُهُ الْقَلْبُ بِتَأَمُّلِهِ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ فِي الْبَشَرِ إلَّا بِدَلَالَةِ اخْتِيَارِهِ فِيمَا يَأْتِيهِ وَيَذَرُهُ مَا يَصْلُحُ لَهُ فِي عَاقِبَتِهِ وَهُوَ نَوْعَانِ: قَاصِرٌ لِمَا يُقَارِنُهُ مَا يَدُلُّ عَلَى نُقْصَانِهِ فِي ابْتِدَاءِ وُجُودِهِ وَهُوَ عَقْلُ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ يُوجَدُ زَائِدًا ثُمَّ هُوَ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقِسْمَتِهِ مُتَفَاوِتٌ لَا يُدْرَكُ تَفَاوُتُهُ فَعُقِلَتْ أَحْكَامُ الشَّرْعِ بِأَدْنَى دَرَجَاتِ كَمَالِهِ وَاعْتِدَالِهِ وَأُقِيمَ الْبُلُوغُ الَّذِي هُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ مَقَامَهُ تَيْسِيرًا ـــــــــــــــــــــــــــــQ [بَابُ تَفْسِيرِ شُرُوطِ الرَّاوِي وَتَقْسِيمِهَا] (بَابُ تَفْسِيرِ هَذِهِ الشُّرُوطِ وَتَقْسِيمِهَا) ، قَوْلُهُ (أَمَّا الْعَقْلُ) فَكَذَا أَكْثَرُ النَّاسِ الِاخْتِلَافُ فِي الْعَقْلِ قَبْلَ الشَّرْعِ وَبَعْدَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: سَلْ النَّاسَ إنْ كَانُوا لَدَيْكَ أَفَاضِلًا ... عَنْ الْعَقْلِ وَانْظُرْ هَلْ جَوَابٌ مُحَصَّلٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ الْعَقْلُ جَوْهَرٌ لَطِيفٌ يُفْصَلُ بِهِ بَيْنَ حَقَائِقِ الْمَعْلُومَاتِ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَوْهَرًا لَصَحَّ قِيَامُهُ بِذَاتِهِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ عَقْلٌ بِلَا عَاقِلٍ كَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ جِسْمٌ بِغَيْرِ عَقْلٍ وَحِينَ لَمْ يُتَصَوَّرْ ذَلِكَ دَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِجَوْهَرٍ كَذَا فِي الْقَوَاطِعِ وَقِيلَ مَعْنَى الْعَقْلِ: هُوَ الْعِلْمُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَ قَوْلِهِمْ عَقَلْت وَعَلِمْت فَاسْتَعْمَلُوهُمَا لِمَعْنًى وَاحِدٍ وَقَالُوا هَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ وَمَعْقُولٌ وَهُوَ فَاسِدٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوصَفُ بِالْعِلْمِ، وَلَا يُوصَفُ بِالْعَقْلِ فَدَلَّ أَنَّهُمَا مُفْتَرِقَانِ وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ اسْتِعْمَالَ الْعَقْلِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَلَكِنْ كَلَامُنَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ يَتَمَيَّزُ مَنْ اتَّصَفَ بِهِ عَنْ الطِّفْلِ الرَّضِيعِ وَالْبَهِيمَةِ وَالْمَجْنُونِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ غَيْرُ الْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ يُوصَفُ بِهِ عَامَّةُ الْخَلْقِ، وَلَا يُوصَفُ بِالْعِلْمِ إلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَقِيلَ: هُوَ قُوَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ بِوُجُودِهَا يَصِحُّ دَرْكُ الْأَشْيَاءِ وَيُتَوَجَّهُ تَكْلِيفُ الشَّرْعِ وَهُوَ مِمَّا يَعْرِفُهُ كُلُّ إنْسَانٍ مِنْ نَفْسِهِ وَمُخْتَارُ الشَّيْخِ وَالْقَاضِي الْإِمَامِ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَعَامَّةِ الْأَشْعَرِيَّةِ أَنَّ الْعَقْلَ نُورٌ يُضَاءُ بِهِ طَرِيقُ إصَابَةِ الْحَقِّ وَالْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ فَيُدْرِكُ الْقَلْبُ بِهِ كَمَا يُدْرِكُ الْعَيْنُ بِالنُّورِ الْحِسِّيِّ الْمُبْصَرَاتِ. وَإِنَّمَا سَمَّاهُ نُورًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى النُّورِ هُوَ الظُّهُورُ لِلْإِدْرَاكِ فَإِنَّ النُّورَ هُوَ الظَّاهِرُ الْمُظْهِرُ وَالْعَقْلُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ لِلْبَصِيرَةِ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ عَيْنِ الْبَاطِنِ كَالشَّمْسِ وَالسِّرَاجِ لِعَيْنِ الظَّاهِرِ بَلْ هُوَ أَوْلَى بِتَسْمِيَةِ النُّورِ مِنْ الْأَنْوَارِ الْحِسِّيَّةِ؛ لِأَنَّ بِهَا لَا يَظْهَرُ إلَّا ظَوَاهِرُ الْأَشْيَاءِ فَتُدْرِكُ الْعَيْنُ بِهَا تِلْكَ الظَّوَاهِرَ لَا غَيْرُ فَأَمَّا الْعَقْلُ فَيَسْتَنِيرُ بِهِ بَوَاطِنَ الْأَشْيَاءِ وَمَعَانِيَهَا وَيُدْرِكُ حَقَائِقَهَا وَأَسْرَارَهَا فَكَانَ أَوْلَى بِاسْمِ النُّورِ وَقَوْلُهُ يُبْتَدَأُ مُسْنَدٌ إلَى الظَّرْفِ وَهُوَ الْجَارُ وَالْمَجْرُورُ وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِطَرِيقٍ وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ رَاجِعٌ إلَى الطَّرِيقِ وَفِي بِتَأَمُّلِهِ إلَى الْقَلْبِ يَعْنِي ابْتِدَاءَ عَمَلِ الْقَلْبِ بِنُورِ الْعَقْلِ مِنْ حَيْثُ يَنْتَهِي إلَيْهِ دَرْكُ الْحَوَاسِّ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إذَا أَبْصَرَ شَيْئًا يَتَّضِحُ لِقَلْبِهِ طَرِيقُ الِاسْتِدْلَالِ بِنُورِ الْعَقْلِ فَإِذَا نَظَرَ إلَى بِنَاءٍ رَفِيعٍ وَانْتَهَى إلَيْهِ بَصَرُهُ يُدْرِكُ بِنُورِ عَقْلِهِ أَنَّ لَهُ بَانِيًا لَا مَحَالَةَ ذَا حَيَاةٍ وَقُدْرَةٍ وَعِلْمٍ إلَى سَائِرِ أَوْصَافِهِ الَّذِي لَا بُدَّ لِلْبِنَاءِ مِنْهُ وَإِذَا نَظَرَ إلَى السَّمَاءِ وَرَأَى إحْكَامَهَا وَرِفْعَتَهَا وَاسْتِنَارَةَ كَوَاكِبِهَا وَعِظَمَ هَيْئَتِهَا وَسَائِرَ مَا فِيهَا مِنْ الْعَجَائِبِ اسْتَدَلَّ بِنُورِ عَقْلِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ صَانِعٍ قَدِيمٍ مُدَبِّرٍ حَكِيمٍ قَادِرٍ عَظِيمٍ حَيٍّ عَلِيمٍ فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فَيَبْتَدِي أَيْ يَظْهَرُ الْمَطْلُوبُ لِلْقَلْبِ فَيُدْرِكُ الْقَلْبُ الْمَطْلُوبَ إذَا تَأَمَّلَ - إنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لِذَلِكَ - قَوْلُهُ (وَإِنَّهُ) أَيْ الْعَقْلَ لَا يُعْرَفُ فِي الْبَشَرِ أَيْ الْإِنْسَانِ إلَّا بِدَلَالَةِ اخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ فِيمَا يَأْتِيهِ مِنْ الْعَقْلِ وَمَا يَتْرُكُ مِنْهُ مَا يَصْلُحُ لَهُ فِي عَاقِبَتِهِ أَمْرِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي عَاقِبَتِهِ رَاجِعًا إلَى مَا فِي قَوْلِهِ فِيمَا يَأْتِيهِ وَيَذَرُهُ أَيْ يَخْتَارُ فِعْلَهُ وَتَرْكَهُ مَا يَصْلُحُ لَهُ فِي عَاقِبَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فَإِنَّ الْفِعْلَ وَالتَّرْكَ قَدْ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ لِحِكْمَةٍ وَعَاقِبَةٍ حَمِيدَةٍ وَقَدْ يَكُونُ لِغَيْرِ حِكْمَةٍ كَمَا يَكُونُ مِنْ الْبَهَائِمِ وَبِالْعَقْلِ يُوقَفُ عَلَى الْعَوَاقِبِ الْحَمِيدَةِ فَإِذَا وَقَعَ فِعْلُهُ عَلَى نَهْجِ أَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى حُصُولِ الْعَقْلِ فِيهِ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ

وَالْمُطْلَقُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَقَعُ عَلَى كَمَالِهِ فَشَرْطُنَا لِوُجُوبِ الْحُكْمِ وَقِيَامِ الْحُجَّةِ كَمَالَ الْعَقْلِ فَقُلْنَا: إنَّ خَبَرَ الصَّبِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا لَمْ يَجْعَلْهُ وَلِيًّا فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ فَفِي أَمْرِ الدِّينِ أَوْلَى وَكَذَلِكَ الْمَعْتُوهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالِاسْتِدْلَالِ بِالْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ قَالَ الشَّيْخُ فِي مُخْتَصَرِ التَّقْوِيمِ فَصَارَ فِي الْحَاصِلِ الْعَقْلُ مَا يُوقَفُ بِهِ عَلَى الْعَوَاقِبِ وَالْعَاقِلُ مَنْ يَكُونُ أَكْثَرُ أَفْعَالِهِ عَلَى سَنَنِ أَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ ثُمَّ الْعَقْلُ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا بِالْفِعْلِ فِي الْإِنْسَانِ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78] وَلَكِنْ فِيهِ اسْتِعْدَادٌ وَصَلَاحِيَةٌ لَأَنْ يُوجَدَ فِيهِ الْعَقْلُ فَهَذَا الِاسْتِعْدَادُ يُسَمَّى عَقْلًا بِالْقُوَّةِ وَعَقْلًا غَرِيزِيًّا ثُمَّ يَحْدُثُ الْعَقْلُ فِيهِ شَيْئًا فَشَيْئًا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى أَنْ بَلَغَ دَرَجَاتِ الْكَمَالِ وَيُسَمَّى هَذَا عَقْلًا مُسْتَفَادًا فَقَبْلَ بُلُوغِهِ إلَى أُولَى دَرَجَاتِ الْكَمَالِ يَكُونُ قَاصِرًا لَا مَحَالَةَ، وَلَمَّا تَعَذَّرَ الْوُقُوفُ عَلَى وُجُودِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ بِحَسَبِ مَا يَمْضِي مِنْ الزَّمَانِ إلَى أَنْ يَبْلُغَ أُولَى دَرَجَاتِ الْكَمَالِ، وَلَا طَرِيقَ لَنَا إلَى الْوُقُوفِ عَنْ حَدِّ ذَلِكَ بَلْ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْعَالِمُ بِحَقِيقَتِهِ أُقِيمَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ فِي حَقِّنَا وَهُوَ الْبُلُوغُ مِنْ غَيْرِ آفَةٍ مَقَامَ كَمَالِ الْعَقْلِ تَيْسِيرًا وَبُنِيَ التَّكْلِيفُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اعْتِدَالَ الْعَقْلِ يَحْصُلُ عِنْدَهُ غَالِبًا؛ لِأَنَّ بِكَمَالِ الْبِنْيَةِ يَكْمُلُ قُوَى النَّفْسِ فَيَكْمُلُ بِكَمَالِ الْبِنْيَةِ الْعَقْلُ إذَا لَمْ تُعَارِضْهُ آفَةٌ، وَسَقَطَ اعْتِبَارُ مَا يَكُونُ مَوْجُودًا قَبْلَهُ مِنْ الْعَقْلِ فِي الصَّبِيِّ مَرْحَمَةً وَفَضْلًا فَصَارَ الصَّبِيُّ فِي حُكْمِ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ فِيمَا يُخَافُ لُحُوقُ عُهْدَةٍ بِهِ، وَالْمُطْلَقُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَقَعُ عَلَى كَمَالِهِ أَيْ كَمَالِهِ فِي مُسَمَّاهُ. فَشَرَطْنَا لِوُجُوبِ الْحُكْمِ أَيْ لِوُجُوبِ حُكْمِ الشَّرْعِ عَلَيْهِ وَصَيْرُورَتِهِ مُكَلَّفًا وَقِيَامِ الْحُجَّةِ بِخَبَرِهِ عَلَى الْغَيْرِ كَمَالَ الْعَقْلِ فَقُلْنَا: إنَّ خَبَرَ الصَّبِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي الشَّرْعِ احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ فِي الشَّرْعِ عَنْ الْمُعَامَلَاتِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا لَمْ يُوَلِّهِ أُمُورَ نَفْسِهِ لِنُقْصَانِ عَقْلِهِ فَلَأَنْ لَا يُوَلِّيَهُ أَمْرَ شَرْعِهِ أَوْلَى، وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ رِوَايَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يُفَوِّضْ إلَيْهِ أُمُورَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِحَقِّ الْمَوْلَى لَا لِنُقْصَانٍ فِي الْعَقْلِ فَلَا يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي أَمْرِ الشَّرْعِ فَأَمَّا عَدَمُ تَوْلِيَةِ أُمُورِ الصَّبِيِّ إلَى نَفْسِهِ فَلِنُقْصَانِ الْعَقْلِ فَيَظْهَرُ فِي أَمْرِ الدِّينِ أَيْضًا وَلِأَنَّ خَبَرَ الْفَاسِقِ مَرْدُودٌ مَعَ أَنَّهُ أَوْثَقُ مِنْ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ اللَّهَ تَعَالَى لِعِلْمِهِ بِالتَّكْلِيفِ وَالصَّبِيُّ لَا يَخَافُهُ، وَلَا رَادِعَ لَهُ مِنْ الْكَذِبِ أَصْلًا لِعِلْمِهِ بِعَدَمِ التَّكْلِيفِ فَكَانَ خَبَرُهُ أَوْلَى بِالرَّدِّ وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ رِوَايَةَ الصَّبِيِّ إذَا كَانَ مُمَيِّزًا وَوَقَعَ فِي ظَنِّ السَّامِعِ صِدْقُهُ مَقْبُولَةٌ؛ لِأَنَّ خَبَرَهُ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالدِّيَانَاتِ مَقْبُولٌ مَعَ تَحْكِيمِ الرَّأْيِ فَكَذَا هَذَا، أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ قَبِلُوا إخْبَارَ ابْنِ عُمَرَ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً؛ لِأَنَّ التَّحْوِيلَ كَانَ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ وَقَدْ رَدَّهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيهِ لِصِبَاهُ ثُمَّ إنَّهُمْ اعْتَمَدُوا خَبَرَهُ فِيمَا لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ إلَّا بِعِلْمٍ وَهُوَ الصَّلَاةُ إلَى الْقِبْلَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ رَجَعَ إلَى رِوَايَةِ صَبِيٍّ. وَلِأَنَّ غَالِبَ أَحْوَالِهِ اللَّهْوُ وَاللَّعِبُ وَالْمُسَامَحَةُ وَالْمُسَاهَلَةُ فَيُعْتَبَرُ مَا هُوَ الْغَالِبُ مِنْ حَالِهِ احْتِيَاطًا فِي أَمْرِ الرِّوَايَةِ وَأَمَّا أَهْلُ قُبَاءَ فَالصَّحِيحُ أَنَّ الَّذِي أَتَاهُمْ أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَانَ اعْتِمَادُهُمْ عَلَى خَبَرِهِ أَوْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ بَالِغًا يَوْمَئِذٍ إلَّا أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَدَّهُ لِضَعْفِ بِنْيَتِهِ يَوْمَئِذٍ لَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَالِغًا؛ لِأَنَّ ابْنَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا وَهَذَا إذَا كَانَ السَّمَاعُ وَالرِّوَايَةُ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَإِنْ كَانَ السَّمَاعُ قَبْلَهُ وَالرِّوَايَةُ بَعْدَهُ يُقْبَلُ خِلَافًا لِقَوْمٍ إذْ لَا خَلَلَ فِي تَحَمُّلِهِ لِكَوْنِهِ مُمَيِّزًا، وَلَا فِي رِوَايَتِهِ لِكَوْنِهِ عَامِلًا مُكَلَّفًا

وَأَمَّا الضَّبْطُ فَإِنَّ تَفْسِيرَهُ سَمَاعُ الْكَلَامِ كَمَا يَحِقُّ سَمَاعُهُ ثُمَّ فَهْمُهُ بِمَعْنَاهُ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ ثُمَّ حِفْظُهُ بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ لَهُ ثُمَّ الثَّبَاتُ عَلَيْهِ بِمُحَافَظَةِ حُدُودِهِ مُرَاقَبَتِهِ بِمُذَاكَرَتِهِ عَلَى إسَاءَةِ الظَّنِّ بِنَفْسِهِ إلَى حِينِ أَدَائِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَلَا تَرَى أَنَّ الشَّهَادَةَ بَعْدَ الْبُلُوغِ مَقْبُولَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ التَّحَمُّلُ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَكَذَا الرِّوَايَةُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى قَبُولِ خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَحْدَاثِ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ مَا تَحَمَّلُوهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَقَبْلَهُ وَقَدْ اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ عَلَى إحْضَارِ الصِّبْيَانِ مَجَالِسَ الرِّوَايَةِ وَإِسْمَاعِهِمْ الْأَحَادِيثَ وَقَبُولِ رِوَايَةِ مَا تَحَمَّلُوهُ فِي الصِّبَا بَعْدَ الْبُلُوغِ ثُمَّ قِيلَ أَقَلُّ مُدَّةٍ يَصِيرُ الصَّبِيُّ فِيهَا أَهْلًا لِلتَّحَمُّلِ: أَرْبَعُ سِنِينَ لِحَدِيثِ «مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ حَفِظْت مَجَّةً مَجَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي وَجْهِي مِنْ دَلْوٍ كَانَتْ مُعَلَّقَةً فِي دَارِهِمْ» وَكَانَ ابْنُ أَرْبَعَ سِنِينَ أَوْ خَمْسَ سِنِينَ وَالْأَصَحُّ أَنْ لَا تَقْدِيرَ. وَكَذَا الْحُكْمُ إذَا كَانَ فَاسِقًا أَوْ كَافِرًا عِنْدَ التَّحَمُّلِ عَدْلًا مُسْلِمًا عِنْدَ الرِّوَايَةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ فِي النَّصْرَانِيِّ وَالْمَمْلُوكِ وَالصَّبِيِّ يَشْهَدُونَ شَهَادَةً فَلَا يُدْعَوْنَ لَهَا حَتَّى يُسْلِمَ هَذَا وَيَعْتِقَ هَذَا وَيَحْتَلِمَ هَذَا ثُمَّ يَشْهَدُونَ بِهَا فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ وَإِذَا كَانَ هَذَا جَائِزًا فِي الشَّهَادَةِ فَهُوَ فِي الرِّوَايَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ أَوْسَعُ فِي الْحُكْمِ مِنْ الشَّهَادَةِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَتْ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا حَفِظُوهَا قَبْلَ إسْلَامِهِمْ وَأَدَّوْهَا بَعْدَهُ كَذَا فِي الْكِفَايَةِ الْبَغْدَادِيَّةِ وَكَذَلِكَ الْمَعْتُوهُ أَيْ وَكَالصَّبِيِّ الْمَعْتُوهُ وَهُوَ نَاقِصُ الْعَقْلِ مِنْ غَيْرِ صِبًا وَلَا جُنُونٍ فَيُشْبِهُ كَلَامُهُ وَأَفْعَالُهُ تَارَةً بِكَلَامِ الْمَجَانِينِ وَأَفْعَالِهِمْ وَتَارَةً بِكَلَامِ الْعُقَلَاءِ وَأَفْعَالِهِمْ فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْعَقْلِ بِالْعَتَهِ فَوْقَ النُّقْصَانِ بِالصِّبَا إذْ الصَّبِيُّ قَدْ يَكُونُ أَعْقَلَ مِنْ الْبَالِغِ، وَلَا يَكُونُ الْمَعْتُوهُ كَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12] فَكَانَ خَبَرُهُ أَوْلَى بِالرَّدِّ مِنْ خَبَرِ الصَّبِيِّ وَقَوْلُهُ ثُمَّ هُوَ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَقِسْمَتِهِ مُتَفَاوِتٌ بَيَانُ النَّوْعِ الثَّانِي مِنْ الْعَقْلِ أَيْ الْقَاصِرِ مَا يُقَارِنُهُ مَا يَدُلُّ عَلَى نُقْصَانِهِ وَهُوَ الصِّبَا وَالْكَامِلُ لَا حَدَّ لِأَعْلَاهُ، وَلَا يُدْرَكُ إذْ هُوَ فِي التَّزَايُدِ إلَى آخِرِ الْعُمْرِ مَعَ أَنَّهُ فِي الْقِسْمَةِ مُتَفَاوِتٌ فَاعْتُبِرَ أَدْنَى دَرَجَاتِ كَمَالِهِ وَذَلِكَ خَفِيٌّ أَيْضًا فَأُقِيمَ الْبُلُوغُ مَقَامَهُ تَيْسِيرًا إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا وَقَوْلُهُ وَاعْتِدَالِهِ بَيَانُ أَدْنَى دَرَجَاتِ الْكَمَالِ وَتَفْسِيرٌ لَهُ، قَوْلُهُ. (وَأَمَّا الضَّبْطُ) فَكَذَا ضَبْطُ الشَّيْءِ لُغَةً حِفْظُهُ بِالْجَزْمِ وَمِنْهُ الْأَضْبَطُ الَّذِي يَعْمَلُ بِكِلْتَا يَدَيْهِ وَضَبْطُ الْخَبَرِ سَمَاعُهُ كَمَا يَحِقُّ سَمَاعُهُ بِأَنْ يَصْرِفَ هِمَّتَهُ إلَيْهِ وَيُقْبِلَ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَشِذَّ مِنْهُ وَقَدْ بَيَّنَهُ الشَّيْخُ فِي آخِرِ هَذَا الْفَصْلِ ثُمَّ فَهِمَهُ أَيْ فَهِمَ الْكَلَامَ مُلْتَبِسًا بِمَعْنَاهُ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ يَعْنِي مَعْنَاهُ اللُّغَوِيَّ أَوْ اللُّغَوِيَّ وَالشَّرْعِيَّ جَمِيعًا ثُمَّ حَفِظَهُ بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ لَهُ أَيْ حَفِظَ الْكَلَامَ بِبَذْلِ الطَّاقَةِ فِي حِفْظِهِ بِأَنْ يُكَرِّرَهُ إلَى أَنْ يَحْفَظَهُ ثُمَّ الثَّبَاتُ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى الْحِفْظِ بِمُحَافَظَةِ حُدُودِ ذَلِكَ الْكَلَامِ بِأَنْ يَعْمَلَ بِمُوجِبِهِ بِبَدَنِهِ وَيُذَاكِرَهُ بِلِسَانِهِ فَإِنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ وَالْمُذَاكَرَةِ يُورِثُ النِّسْيَانَ عَلَى إسَاءَةِ الظَّنِّ بِنَفْسِهِ بِأَنْ لَا يَعْتَمِدَ عَلَى نَفْسِهِ: أَنِّي لَا أَنْسَاهُ، وَلَا يُسَامِحُ فِي حِفْظِ الْحَدِيثِ بَلْ يُسِيءُ الظَّنَّ بِنَفْسِهِ وَيُذَاكِرَهُ دَائِمًا مُقَدِّرًا فِي نَفْسِهِ: أَنِّي إذَا تَرَكْت الْمُذَاكَرَةَ نَسِيَتُهُ إذْ الْجَزْمُ سُوءُ الظَّنِّ؛ وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا رَوَى حَدِيثًا أَخَذَهُ الْبُهْرُ وَجَعَلَتْ فَرَائِصُهُ تَرْتَعِدُ بِاعْتِبَارِ سُوءِ الظَّنِّ بِنَفْسِهِ مَعَ أَنَّهُ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الزُّهْدِ وَالْعَدَالَةِ وَالضَّبْطِ وَالْفَقَاهَةِ إلَى حِينِ أَدَائِهِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ ثُمَّ الثَّبَاتُ عَلَيْهِ؛ وَإِنَّمَا فَسَّرَ الضَّبْطَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّ بِدُونِ السَّمَاعِ لَا يُتَصَوَّرُ الْفَهْمُ وَبَعْدَ السَّمَاعِ إذَا لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَى الْكَلَامِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ سَمَاعًا مُطْلَقًا بَلْ يَكُونُ سَمَاعُ صَوْتٍ لَا سَمَاعَ كَلَامٍ هُوَ خَبَرٌ وَبَعْدَ فَهْمِ الْمَعْنَى يَتِمُّ التَّحَمُّلُ وَذَلِكَ يَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ كَمَا تَحَمَّلَ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إلَّا بِالْحِفْظِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهِ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ، ثُمَّ الْأَدَاءُ إنَّمَا يَكُونُ مَقْبُولًا عَنْهُ

وَهُوَ نَوْعَانِ: ضَبْطُ الْمَتْنِ بِصِيغَتَيْهِ وَمَعْنَاهُ لُغَةً، وَالثَّانِي أَنْ يَضُمَّ إلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ ضَبْطَ مَعْنَاهُ فِقْهًا وَشَرِيعَةً وَهَذَا أَكْمَلُهُمَا وَالْمُطْلَقُ مِنْ الضَّبْطِ يَتَنَاوَلُ الْكَامِلَ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ خَبَرُ مَنْ اشْتَدَّتْ غَفْلَتُهُ خِلْقَةً أَوْ مُسَامَحَةً وَمُجَازَفَةً حُجَّةً لِعَدَمِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ الضَّبْطِ؛ وَلِهَذَا قَصُرَتْ رِوَايَةُ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِالْفِقْهِ عِنْدَ مُعَارَضَةِ مَنْ عُرِفَ بِالْفِقْهِ فِي بَابِ التَّرْجِيحِ، وَهُوَ مَذْهَبُنَا فِي التَّرْجِيحِ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّ نَقْلَ الْقُرْآنِ مِمَّنْ لَا ضَبْطَ لَهُ جُعِلَ حُجَّةً ـــــــــــــــــــــــــــــQبِاعْتِبَارِ مَعْنَى الصِّدْقِ فِيهِ وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِهَذَا؛ وَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزْ أَبُو حَنِيفَةَ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ لِمَنْ عَرَفَ خَطَّهُ فِي الصَّكِّ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ الْحَادِثَةَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ ضَابِطٍ لِمَا تَحَمَّلَ وَبِدُونِ الضَّبْطِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ كَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قَوْلُهُ (وَهُوَ) أَيْ الضَّبْطُ نَوْعَانِ ضَبْطُ الْمَتْنِ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ لُغَةً أَيْ الضَّبْطِ نَفْسِ الْحَدِيثِ وَلَفْظِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَتَصْحِيفٍ مَعَ مَعْرِفَةِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، مِثْلُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ» بِالرَّفْعِ أَوْ النَّصْبِ وَأَنَّ مَعْنَاهُ عَلَى تَقْدِيرِ الرَّفْعِ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ وَعَلَى تَقْدِيرِ النَّصْبِ بِيعُوا الْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ فَهَذَا هُوَ ضَبْطُ الصِّيغَةِ بِمَعْنَاهَا لُغَةً وَالثَّانِي أَنْ يَضُمَّ إلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ ضَبْطَ مَعْنَاهُ فِقْهًا وَشَرِيعَةً مِثْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ حُكْمَ هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ وُجُوبُ الْمُسَاوَاةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَدْرِ وَالْجِنْسِ مَثَلًا وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ حُرْمَةَ الْقَضَاءِ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» مُتَعَلِّقَةٌ بِشُغْلِ الْقَلْبِ وَهَذَا أَيْ ضَبْطُ الْحَدِيثِ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ أَكْمَلُ النَّوْعَيْنِ أَيْ الْكَامِلِ مِنْهُمَا وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِك الْأَشَجُّ وَالنَّاقِصُ أَعْدَلَا بَنِي مَرْوَانَ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ وَالْمُطْلَقُ مِنْ الضَّبْطِ يَتَنَاوَلُ الْكَامِلَ أَيْ الضَّبْطَ الَّذِي هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الرَّاوِي الضَّبْطُ الْكَامِلُ لَا النَّاقِصُ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْعَقْلِ أَنَّ الشَّرْطَ مِنْهُ هُوَ الْكَامِلُ وَذَلِكَ لِمَا مَرَّ أَنَّ النَّقْلَ بِالْمَعْنَى مَشْهُورٌ بَيْنَهُمْ فَإِذَا لَمْ يَضْبِطْ الرَّاوِي فِقْهَ الْحَدِيثِ رُبَّمَا يَقَعُ خَلَلٌ فِي النَّقْلِ بِأَنْ يُقَصِّرَ فِي أَدَاءِ الْمَعْنَى بِلَفْظِهِ بِنَاءً عَلَى فَهْمِهِ وَيُؤْمَنُ عَنْ مِثْلِهِ إذَا كَانَ فَقِيهًا؛ وَلِهَذَا أَيْ وَلِاشْتِرَاطِ أَصْلِ الضَّبْطِ لَمْ يَكُنْ خَبَرُ مَنْ اشْتَدَّتْ غَفْلَتُهُ خِلْقَةً بِأَنْ كَانَ سَهْوُهُ وَنِسْيَانُهُ أَغْلَبَ مِنْ ضَبْطِهِ وَحِفْظِهِ أَوْ مُسَامَحَةً أَيْ مُسَاهَلَةً لِعَدَمِ اهْتِمَامِهِ بِشَأْنِ الْحَدِيثِ حُجَّةً، وَإِنْ وَافَقَ الْقِيَاسَ كَذَا رَأَيْت فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي وَالْمُجَازَفَةُ التَّكَلُّمُ مِنْ غَيْرِ خِبْرَةٍ وَتَيَقُّظٍ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ. ؛ وَلِهَذَا أَيْ وَلِاشْتِرَاطِ كَمَالِ الضَّبْطِ قَصُرَتْ رِوَايَةُ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِالْفِقْهِ أَيْ لَا تُعَارِضُ رِوَايَةُ غَيْرِ الْفَقِيهِ رِوَايَةَ الْفَقِيهِ بَلْ يَتَرَجَّحُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ لِفَوَاتِ كَمَالِ الضَّبْطِ فِي الْأَوَّلِ وَوُجُودِهِ فِي الثَّانِي وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّ جَابِرَ بْنَ زَيْدٍ أَبِي الشَّعْثَاءِ رَوَى لَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» قَالَ عَمْرُو فَقُلْتُ لِجَابِرٍ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ» فَقَالَ: إنَّهَا كَانَتْ خَالَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهُوَ أَعْلَمُ بِحَالِهَا فَقُلْت وَقَدْ كَانَتْ خَالَةُ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ أَيْضًا فَقَالَ أَنَّى يُجْعَلُ يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ الْبَوَّالُ عَلَى عَقِبَيْهِ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَدَلَّ أَنَّ رِوَايَةَ غَيْرِ الْفَقِيهِ لَا تُعَارِضُ رِوَايَةَ الْفَقِيهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا بِاعْتِبَارِ تَمَامِ الضَّبْطِ مِنْ الْفَقِيهِ وَمَا ذَكَرْنَا مَذْهَبُ عَامَّةِ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمَحْصُولِ وَغَيْرِهِ أَنَّ رِوَايَةَ الْفَقِيهِ رَاجِحَةٌ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِ الْفَقِيهِ وَقَالَ قَوْمٌ هَذَا التَّرْجِيحُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي خَبَرَيْنِ مَرْوِيَّيْنِ بِالْمَعْنَى أَمَّا الْمَرْوِيُّ بِاللَّفْظِ فَلَا، وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْفَقِيهَ يُمَيِّزُ بَيْنَ مَا يَجُوزُ، وَبَيْنَ مَا لَا يَجُوزُ فَإِذَا حَضَرَ الْمَجْلِسَ وَسَمِعَ كَلَامًا لَا يَجُوزُ إجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ بَحَثَ عَنْهُ وَسَأَلَ عَنْ مُقَدِّمَتِهِ وَسَبَبِ وُرُودِهِ فَيَطَّلِعُ عَلَى مَا يُزِيلُ الْإِشْكَالَ أَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا فَإِنَّهُ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ مَا يَجُوزُ وَبَيْنَ مَا لَا يَجُوزُ فَيَنْقُلُ الْقَدْرَ الَّذِي سَمِعَهُ فَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ الْقَدْرُ وَحْدَهُ سَبَبًا لِلضَّلَالِ. وَكَذَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَفْقَهَ مِنْ الْآخَرِ كَانَتْ رِوَايَتُهُ رَاجِحَةً؛ لِأَنَّ الْوُثُوقَ بِاحْتِرَازِ الْأَفْقَهِ عَنْ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ أَتَمُّ مِنْ الْوُثُوقِ بِاحْتِرَازِ الْأَضْعَفِ وَكَذَا ذُكِرَ فِي الْقَوَاطِعِ أَيْضًا فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ

لِأَنَّ نَقْلَهُ فِي الْأَصْلِ إنَّمَا ثَبَتَ بِقَوْمٍ هُمْ أَئِمَّةُ الْهُدَى وَخَيْرُ الْوَرَى وَلِأَنَّ نَظْمَ الْقُرْآنِ مُعْجِزٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ عَلَى الْخُصُوصِ مِثْلُ جَوَازِ الصَّلَاةِ وَحُرْمَةِ التِّلَاوَةِ عَلَى الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ فَاعْتُبِرَ فِي نَقْلِهِ نَظْمُهُ وَبُنِيَ عَلَيْهِ مَعْنَاهُ فَأَمَّا السُّنَّةُ فَإِنَّ الْمَعْنَى أَصْلُهَا وَالنَّظْمُ غَيْرُ لَازِمٍ فِيهَا؛ لِأَنَّ نَقْلَ الْقُرْآنِ مِمَّنْ لَا يَضْبِطُ الصِّيغَةَ بِمَعْنَاهَا إنَّمَا يَصِحُّ إذَا بَذَلَ مَجْهُودَهُ وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ وَلَوْ فُعِلَ ذَلِكَ فِي السُّنَّةِ لَصَارَ ذَلِكَ حُجَّةً إلَّا أَنَّهُ لَمَّا عُدِمَ ذَلِكَ عَادَةً شَرَطْنَا كَمَالَ الضَّبْطِ لِيَصِيرَ حُجَّةً وَمَعْنَى قَوْلِنَا أَنْ يَسْمَعَهُ حَقَّ سَمَاعِهِ أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَنْتَهِي إلَى الْمَجْلِسِ وَقَدْ مَضَى صَدْرٌ مِنْ الْكَلَامِ فَرُبَّمَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَكَلِّمِ هُجُومُهُ لِيُعِيدَ عَلَيْهِ مَا سَبَقَ مِنْ كَلَامِهِ فَعَلَى السَّامِعِ الِاحْتِيَاطُ فِي مِثْلِهِ ثُمَّ قَدْ يَزْدَرِي السَّامِعُ بِنَفْسِهِ فَلَا يَرَاهَا أَهْلًا لِتَبْلِيغِ الشَّرِيعَةِ فَيُقَصِّرُ فِي بَعْضِ مَا أُلْقِي إلَيْهِ ثُمَّ يُفْضَى بِهِ فَضْلُ اللَّهِ تَعَالَى إلَى أَنْ يَتَصَدَّى لِإِقَامَةِ الشَّرِيعَةِ وَقَدْ قَصَّرَ فِي بَعْضِ مَا لَزِمَهُ فَلِذَلِكَ شَرَطْنَا مُرَاقَبَتَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالشَّيْخِ وَهُوَ مَذْهَبُنَا فِي التَّرْجِيحِ لَيْسَ لِبَيَانِ خِلَافِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بَلْ لِبَيَانِ نَفْسِ الْمَذْهَبِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ خِلَافٌ لَا نَعْرِفُهُ مِمَّنْ لَا ضَبْطَ لَهُ أَيْ لَا يَضْبِطُ الْمَعْنَى الشَّرْعِيَّ، وَلَا اللُّغَوِيَّ؛ لِأَنَّ نَقْلَهُ فِي الْأَصْلِ أَيْ أَصْلِ نَقْلِ الْقُرْآنِ ثَبَتَ لِقَوْمٍ كَانُوا أَئِمَّةَ الْهُدَى وَخَيْرَ الْوَرَى أَيْ الْخَلْقِ وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ قَرْنٍ إلَى يَوْمِنَا هَذَا فَوَقَعَ الْأَمْنُ عَنْ الْغَلَطِ وَالتَّصْحِيفِ بِنَقْلِهِمْ فَيَكُونُ نَقْلُ مَنْ لَا ضَبْطَ لَهُ تَبَعًا لِنَقْلِهِمْ فَيُقْبَلُ وَلِأَنَّ نَظْمَ الْقُرْآنِ مُعْجِزٌ فَإِنَّ إعْجَازَهُ مُتَعَلِّقٌ بِالنَّظْمِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا فَكَانَ النَّظْمُ فِيهِ مَقْصُودًا كَالْمَعْنَى وَالْمَعْنَى مُودَعٌ فِي اللَّفْظِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى تَبَعًا لِلَّفْظِ وَلِذَلِكَ حَرُمَ عَلَى الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَمَا حَرُمَ ذُكِرَ مَعْنَاهُ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى وَكَذَلِكَ جَوَازُ الصَّلَاةِ يَتَعَلَّقُ بِقِرَاءَةِ النَّظْمِ دُونَ الْمَعْنَى عِنْدَ الْعَامَّةِ أَوْ عِنْدَ الْكُلِّ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الرُّجُوعِ عَنْ أَصْلِ الْمَذْهَبِ وَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ هُوَ النَّظْمَ وَالْكُلُّ فِي ضَبْطِ النَّظْمِ سَوَاءٌ صَحَّ النَّقْلُ عَنْ الْكُلِّ، وَفِي الْإِخْبَارِ الْمَعْنَى هُوَ الْمَقْصُودُ وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فِي النَّقْلِ بِالْمَعْنَى فَصَحَّ النَّقْلُ مِمَّنْ يَعْقِلُ الْمَعْنَى، وَهُوَ الْفَقِيهُ دُونَ مَنْ لَا يَعْقِلُهُ بَذَلَ مَجْهُودَهُ وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ تَرَادُفٌ إذْ اسْتِفْرَاغُ الْوُسْعِ بَذْلُ الطَّاقَةِ أَيْضًا وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي السُّنَّةِ أَيْ بَذَلَ مَجْهُودَهُ فِي ضَبْطِ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ ضَبْطِ الْمَعْنَى فِي الْخَبَرِ كَانَ حُجَّةً أَيْضًا وَهُوَ مَعْنَى مَا ذُكِرَ فِي الْمُعْتَمَدِ وَغَيْرِهِ أَنَّ حَدِيثَ مَنْ لَا يَعْرِفُ مَعْنَى مَا يَنْقُلُهُ كَالْأَعْجَمِيِّ لَا يُرَدُّ؛ لِأَنَّ جَهْلَهُ بِمَعْنَى الْكَلَامِ لَا يَمْنَعُ مِنْ ضَبْطِهِ لِلْحَدِيثِ؛ وَلِهَذَا يُمْكِنُ لِلْأَعْجَمِيِّ أَنْ يَحْفَظَ الْقُرْآنَ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَعْنَاهُ وَقَدْ قَبِلَتْ الصَّحَابَةُ أَخْبَارَ الْأَعْرَابِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا كَثِيرًا مِنْ مَعَانِي الْكَلَامِ الَّتِي يَفْتَقِرُ إلَيْهَا فِي الِاسْتِدْلَالِ. وَقَدْ يَزْدَرِي السَّامِعُ بِنَفْسِهِ أَيْ يَسْتَخِفُّهَا وَيَسْتَحْقِرُهَا إلَى أَنْ يَتَصَدَّى لِإِقَامَةِ الشَّرِيعَةِ أَيْ يَتَعَرَّضُ لَهَا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَقَدْ أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ لَسْنَا نُسْأَلُ وَلَسْنَا هُنَاكَ ثُمَّ قَضَى اللَّهُ أَنْ بَلَغْنَا مِنْ الْأَمْرِ مَا تَرَوْنَ قِيلَ هَذَا إشَارَةٌ مِنْهُ إلَى زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَدْ كَانَتْ الصَّحَابَةُ مُتَوَافِرِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَمَا كَانَ يُحْتَاجُ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقِيلَ هَذَا مِنْهُ إشَارَةٌ إلَى حَاصِلِ صِغَرِهِ وَجَهْلِهِ؛ وَإِنَّمَا قَصَدَ بِهَذَا التَّحَدُّثَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ رَفَعَهُ مِنْ تِلْكَ الدَّرَجَةِ إلَى مَا بَلَّغَهُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ هَذَا حِينَ كَانَ بِالْكُوفَةِ وَلَهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ تِلْمِيذٍ يَتَعَلَّمُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْكُوفَةِ خَرَجَ إلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ مَعَ أَصْحَابِهِ حَتَّى سَدُّوا الْأُفُقَ فَلَمَّا رَآهُمْ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ مُلِئَتْ هَذِهِ الْقَرْيَةُ عِلْمًا وَفِقْهًا كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ فَلِذَلِكَ شَرَطْنَا مُرَاقَبَتَهُ أَيْ مُرَاقَبَةَ السَّمَاعِ فَإِنْ تَحَقَّقَ سَمَاعُهُ كَمَا هُوَ حَقُّهُ وَتَمَّ ضَبْطُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ يَرْوِيهِ وَإِلَّا لَمْ يُجَازِفْ فِي الرِّوَايَةِ فَإِنَّ بِكَثْرَةِ رِوَايَةِ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فِي الِابْتِدَاءِ يُسْتَدَلُّ عَلَى قِلَّةِ مُبَالَاتِهِ فَيُرَدُّ خَبَرُهُ؛ وَلِهَذَا ذَمَّ السَّلَفُ الصَّالِحُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - كَثْرَةَ الرِّوَايَةِ وَكَانَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَكْبَرَ الصَّحَابَةِ وَأَدْوَمَهُمْ صُحْبَةً وَكَانَ أَقَلَّهُمْ رِوَايَةً وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا شَرِيكُكُمْ يَعْنِي فِي تَقْلِيلِ الرِّوَايَةِ. وَلَمَّا قِيلَ لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، أَلَا تَرْوِي لَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شَيْئًا قَالَ قَدْ كَبِرْنَا وَنَسِينَا، وَالرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَمْرٌ شَدِيدٌ؛ وَلِهَذَا قَلَّتْ رِوَايَاتُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَتَّى قَالَ بَعْضُ الطَّاغِينَ إنَّهُ كَانَ لَا يَعْرِفُ الْحَدِيثَ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنُّوا بَلْ كَانَ أَعْلَمَ عَصْرِهِ بِالْحَدِيثِ وَلَكِنْ لِمُرَاعَاةِ شَرْطِ كَمَالِ الضَّبْطِ قَلَّتْ رِوَايَتُهُ كَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

وَأَمَّا الْعَدَالَةُ فَإِنَّ تَفْسِيرَهَا الِاسْتِقَامَةُ يُقَالُ طَرِيقٌ عَدْلٌ لِلْجَادَّةِ وَجَائِرٌ لِلْبُنَيَّاتِ وَهِيَ نَوْعَانِ أَيْضًا: قَاصِرٌ وَكَامِلٌ أَمَّا الْقَاصِرُ فَمَا ثَبَتَ مِنْهُ بِظَاهِرِ الْإِسْلَامِ وَاعْتِدَالِ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ حَالَةُ الِاسْتِقَامَةِ لَكِنْ هَذَا الْأَصْلُ لَا يُفَارِقُهُ هَوًى يُضِلُّهُ وَيَصُدُّهُ عَنْ الِاسْتِقَامَةِ وَلَيْسَ الْكَمَالُ إلَّا اسْتِقَامَةَ حَدٍّ يُدْرَكُ مَدَاهُ؛ لِأَنَّهَا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ يَتَفَاوَتُ فَاعْتُبِرَ فِي ذَلِكَ مَا لَا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ وَتَضْيِيعِ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ رُجْحَانُ جِهَةِ الدِّينِ وَالْعَقْلِ عَلَى طَرِيقِ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ فَقِيلَ: مَنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ وَصَارَ مُتَّهَمًا بِالْكَذِبِ وَإِذَا أَصَرَّ عَلَى مَا دُونَ الْكَبِيرَةِ كَانَ مِثْلَهَا فِي وُقُوعِ التُّهْمَةِ وَجَرْحِ الْعَدَالَةِ فَأَمَّا مَنْ اُبْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْ غَيْرِ الْكَبَائِرِ مِنْ غَيْرِ إصْرَارٍ فَعَدْلٌ كَامِلُ الْعَدَالَةِ وَخَبَرُهُ حُجَّةٌ فِي إقَامَةِ الشَّرِيعَةِ وَالْمُطْلَقُ مِنْ الْعَدَالَةِ يَنْصَرِفُ إلَى أَكْمَلِ الْوَجْهَيْنِ ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ (أَمَّا الْعَدَالَةُ فَكَذَا) هِيَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ ضِدِّ الْجَوْرِ وَهُوَ اتِّصَافُ الْغَيْرِ بِفِعْلِ مَا يَجِبُ فِعْلُهُ وَتَرْكِ مَا يَجِبُ لَهُ تَرْكُهُ، وَعَنْ الِاسْتِقَامَةِ يُقَالُ فُلَانٌ عَادِلٌ أَيْ مُسْتَقِيمُ السِّيرَةِ فِي الْحُكْمِ بِالْحَقِّ وَيُقَالُ لِلْجَادَّةِ طَرِيقٌ عَادِلٌ لِاسْتِقَامَتِهَا وَجَائِرٌ لِلْبُنَيَّاتِ بِضَمِّ الْبَاءِ وَفَتْحِ النُّونِ وَهِيَ الطُّرُقُ الْحَادِثَةُ مِنْ الْجَادَّةِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَهِيَ فِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى طَرِيقِ الرَّشَادِ وَالدِّينِ وَضِدُّهَا الْفِسْقُ وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنْ الْحَدِّ الَّذِي جُعِلَ لَهُ وَفَسَّرَهَا الْبَعْضُ بِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ أَهْلِيَّةِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ اسْتِقَامَةِ السِّيرَةِ وَالدِّينِ، وَحَاصِلُهَا يَرْجِعُ إلَى هَيْئَةٍ رَاسِخَةٍ فِي النَّفْسِ تَحْمِلُ عَلَى مُلَازَمَةِ التَّقْوَى وَالْمُرُوءَةِ جَمِيعًا حَتَّى يَحْصُلَ ثِقَةُ النُّفُوسِ بِصِدْقِهِ فَلَا ثِقَةَ بِقَوْلِ مَنْ لَا يَخَافُ اللَّهَ خَوْفًا وَازِعًا عَنْ الْكَذِبِ. أَمَّا الْقَاصِرُ فَمَا ثَبَتَ مِنْهُ أَيْ مِنْ الْعَدَالَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ بِظَاهِرِ الْإِسْلَامِ وَاعْتِدَالِ الْعَقْلِ مَعَ السَّلَامَةِ عَنْ فِسْقٍ ظَاهِرٍ فَإِنَّ مَنْ اتَّصَفَ بِهِمَا فَهُوَ عَدْلٌ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّهُمَا يَحْمِلَانِهِ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ وَيَزْجُرَانِهِ عَنْ الْمَعَاصِي وَالْخُرُوجِ عَنْ حَدِّ الشَّرِيعَةِ وَبِهَذِهِ الْعَدَالَةِ لَا يَصِيرُ الْخَبَرُ حُجَّةً؛ لِأَنَّ هَذَا الظَّاهِرَ عَارَضَهُ ظَاهِرٌ مِثْلُهُ وَهُوَ هَوَى النَّفْسِ فَإِنَّهُ الْأَصْلُ قَبْلَ الْعَقْلِ وَحِينَ رُزِقَ الْعَقْلَ وَالنُّهَى مَا زَايَلَهُ الْهَوَى وَأَنَّهُ دَاعٍ إلَى الْعَمَلِ بِخِلَافِ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ فَكَانَ عَدْلًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ كَالْمَعْتُوهِ وَالصَّبِيِّ عَاقِلَانِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَتَرَدَّدَ الصِّدْقُ فِي خَبَرِهِ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ مِنْ غَيْرِ رُجْحَانٍ فَشُرِطَ كَمَالُ الْعَدَالَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُجَانِبًا لِمَحْظُورِ دِينِهِ لِيَثْبُتَ رُجْحَانُ دَلِيلِ الْعَقْلِ عَلَى الْهَوَى فَيَتَرَجَّحُ الصِّدْقُ فِي خَبَرِهِ وَلَا يُفَارِقُهُ هَوًى يُضِلُّهُ قَالَ تَعَالَى {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] . وَقَوْلُهُ وَلَيْسَ لِكَمَالِ الِاسْتِقَامَةِ بَيَانُ النَّوْعِ الثَّانِي كَأَنَّهُ قَالَ: وَالْكَامِلُ مِنْ الِاسْتِقَامَةِ بِالِانْزِجَارِ عَنْ الْمَعَاصِي إلَّا أَنَّ هَذَا كَمَالٌ لَا يُدْرَكُ مَدَاهُ أَيْ غَايَتُهُ فَاعْتُبِرَ فِي ذَلِكَ أَيْ فِي كَمَالِ الِاسْتِقَامَةِ مَا لَا يُؤَدِّي اعْتِبَارُهُ إلَى الْحَرَجِ وَتَضْيِيعِ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ أَيْ أَحْكَامِهَا فَاشْتُرِطَ الِامْتِنَاعُ عَنْ الْكَبَائِرِ وَالِاحْتِرَازُ عَنْ الْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ حَتَّى لَوْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً تُبْطِلُ عَدَالَتَهُ، وَإِنْ أَصَرَّ عَلَى صَغِيرَةٍ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ ارْتَكَبَ صَغِيرَةً وَلَمْ يُصِرَّ عَلَيْهَا لَا تَبْطُلُ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَبْطُلَ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ الْخُرُوجُ عَنْ الْحَدِّ الْمَحْدُودِ لَهُ شَرْعًا إلَّا أَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ جَمِيعِ الصَّغَائِرِ مُتَعَذِّرٌ عَادَةً فَإِنَّ غَيْرَ الْمَعْصُومِ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ التَّحَرُّزُ عَنْ الزَّلَّاتِ جَمِيعًا فَاشْتِرَاطُ التَّحَرُّزِ عَنْ جَمِيعِهَا لِإِثْبَاتِ الْعَدَالَةِ حِينَئِذٍ إلَّا نَادِرًا فَسَقَطَ فَأَمَّا الِاجْتِنَابُ عَنْ الْكَبَائِرِ وَعَنْ الْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ فَغَيْرُ مُتَعَذِّرٍ فَلَمْ يُجْعَلْ عَفْوًا وَاضْطَرَبَتْ كَلِمَةُ الْأُمَّةِ فِي الْكَبَائِرِ فَرَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْكَبَائِرُ تِسْعٌ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ. وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ، وَالْفِرَارُ عَنْ الزَّحْفِ وَالسِّحْرُ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ، وَالْإِلْحَادُ فِي الْحَرَمِ» أَيْ الظُّلْمُ فِي الْبَيْتِ الْحَرَامِ: مِنْ أَلْحَدَ الرَّجُلُ إذَا ظَلَمَ فِي الْحَرَمِ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَعَ ذَلِكَ أَكْلُ الرِّبَا وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَضَافَ إلَى ذَلِكَ السَّرِقَةَ وَشُرْبَ الْخَمْرِ وَقِيلَ مَا خَصَّهُ الشَّارِعُ بِالذِّكْرِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُسْتَصْفَى لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْعِصْمَةُ مِنْ جَمِيعِ الْمَعَاصِي، وَلَا يَكْفِي أَيْضًا اجْتِنَابُ

فَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ خَبَرُ الْفَاسِقِ وَالْمَسْتُورِ حُجَّةً وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا لَمْ يَكُنْ خَبَرُ الْمَسْتُورِ حُجَّةً فَخَبَرُ الْمَجْهُولِ أَوْلَى وَالْجَوَابُ أَنَّ خَبَرَ الْمَجْهُولِ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مَقْبُولٌ عِنْدَنَا عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي قُلْنَا: بِشَهَادَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى ذَلِكَ الْقَرْنِ بِالْعَدَالَةِ. وَأَمَّا الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ فَإِنَّ تَفْسِيرَهُ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَا هُوَ بِصِفَاتِهِ وَقَبُولُ شَرَائِعِهِ وَأَحْكَامِهِ وَهُوَ نَوْعَانِ: ظَاهِرٌ بِنُشُوِّهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَثُبُوتُ حُكْمِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِهِ مِنْ الْوَالِدَيْنِ، وَثَابِتٌ بِالْبَيَانِ بِأَنْ يَصِفَ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا هُوَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْكَبَائِرِ بَلْ مِنْ الصَّغَائِرِ مَا يُرَدُّ بِهِ كَسَرِقَةِ بَصَلَةٍ أَوْ تَطْفِيفٍ فِي حَبَّةٍ قَصْدًا وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَى رَكَاكَةِ دِينِهِ إلَى حَدٍّ يَسْتَجْرِئُ عَلَى الْكَذِبِ بِالْأَغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ يُرَدُّ بِهِ كَيْفَ وَقَدْ شُرِطَ فِي الْعَدَالَةِ التَّوَقِّي عَنْ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ الْقَادِحَةِ فِي الْمُرُوءَةِ نَحْوِ الْأَكْلِ فِي الطَّرِيقِ وَالسُّوقِ لِغَيْرِ السُّوقِيِّ وَالْبَوْلِ فِي الشَّارِعِ وَصُحْبَةِ الْأَرْذَالِ وَأَفْرَادِ الْمَزْحِ وَالْحِرَفِ الدَّنِيَّةِ مِنْ دِبَاغَةٍ وَحِجَامَةٍ وَحِيَاكَةٍ مِمَّنْ لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ؛ لِأَنَّ مُرْتَكِبَهَا لَا يَجْتَنِبُ الْكَذِبَ غَالِبًا فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ مَوْثُوقًا بِهِ. قَالَ وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ فِيمَا جَاوَزَ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ أَنْ يُرَدَّ إلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ فَمَا دَلَّ عِنْدَهُ عَلَى جُرْأَتِهِ عَلَى الْكَذِبِ يُرَدُّ الشَّهَادَةَ بِهِ وَمَا لَا فَلَا وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْمُجْتَهِدِينَ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ مِنْ الْفِقْهِ لَا مِنْ الْأُصُولِ وَرُبَّ شَخْصٍ يَعْتَادُ الْغِيبَةَ وَيَعْلَمُ الْحَاكِمُ أَنَّ ذَلِكَ لَهُ طَبْعٌ لَا يَصْبِرُ عَنْهُ وَلَوْ حُمِلَ عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ لَمْ يَشْهَدْ أَصْلًا فَقَبُولُهُ شَهَادَتَهُ بِحُكْمِ اجْتِهَادِهِ جَائِزٌ فِي حَقِّهِ وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِعَادَاتِ الْبِلَادِ وَأَحْوَالِ النَّاسِ فِي اسْتِعْظَامِ بَعْضِ الصَّغَائِرِ دُونَ بَعْضٍ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الشَّرْطِ هُوَ الِاجْتِنَابُ عَنْ الْكَبَائِرِ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ الصَّغَائِرِ وَالْمُبَاحَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى دَنَاءَةِ الْهِمَّةِ وَقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ وَتَقْدَحُ فِي الْمُرُوءَةِ، وَتَرْكُ الْإِصْرَارِ عَلَى سَائِرِ الصَّغَائِرِ؛ وَلِهَذَا أَيْ وَلِاشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ لَمْ يُجْعَلْ خَبَرُ الْفَاسِقِ وَالْمَسْتُورِ حُجَّةً لِفَوَاتِ أَصْلِ الْعَدَالَةِ فِي حَقِّ الْفَاسِقِ وَفَوَاتِ كَمَالِهَا فِي حَقِّ الْمَسْتُورِ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُعْرَفْ عَدَالَتُهُ، وَلَا فِسْقُهُ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ وَلَمْ يَجِبْ بِشَهَادَةِ الْمَسْتُورِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا لَمْ يَكُنْ خَبَرُ الْمَسْتُورِ حُجَّةً فَخَبَرُ الْمَجْهُولِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَسْتُورَ مَعْلُومُ الذَّاتِ مَجْهُولُ الْحَالِ وَالْمَجْهُولُ غَيْرُ مَعْلُومٍ بِالذَّاتِ وَالْحَالِ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَتَهُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ وَثُبُوتَ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَعْرِفَةِ عَدَالَتِهِ وَهِيَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ فَيَكُونُ هُوَ أَدْنَى حَالًا مِنْ الْمَسْتُورِ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ خَبَرُ الْمَسْتُورِ فِي غَيْرِ قُرُونِ الثَّلَاثَةِ حُجَّةً مَعَ أَنَّهُ مَعْلُومُ الذَّاتِ كَانَ خَبَرُ الْمَجْهُولِ مِنْ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ إذَا لَمْ يُقَابَلْ بِقَبُولٍ، وَلَا بِرَدٍّ أَوْلَى بِالرَّدِّ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ مَعْنَاهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ خَبَرُ الْمَسْتُورِ حُجَّةً فَخَبَرُ الْمَجْهُولِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَسْتُورَ مَنْ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ رَدٌّ مِنْ السَّلَفِ وَالْمَجْهُولُ قَدْ رَدَّهُ بَعْضُ السَّلَفِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يُقْبَلَ، وَالْكَلَامُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَجْهُولِ الَّذِي رَدَّهُ بَعْضُ السَّلَفِ وَفِي الْحَقِيقَةِ الْمَجْهُولُ وَالْمَسْتُورُ وَاحِدٌ إلَّا أَنَّ خَبَرَ الْمَجْهُولِ فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ مَقْبُولٌ لِغَلَبَةِ الْعَدَالَةِ فِيهِمْ وَخَبَرُ الْمَجْهُولِ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ مَرْدُودٌ لِغَلَبَةِ الْفِسْقِ. مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ أَيْ مِنْهُمْ وَمِمَّنْ هُوَ فِي مَعْنَاهُمْ مِنْ الْقَرْنَيْنِ الْآخَرَيْنِ لِشُمُولِ دَلِيلِ الْقَبُولِ وَهُوَ شَهَادَةُ الرَّسُولِ بِالْعَدَالَةِ لِلْجَمِيعِ عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي قُلْنَا بِأَنْ شَهِدَ الثِّقَاتُ بِصِحَّتِهِ وَعَمِلُوا بِهِ أَوْ سَكَتُوا عَنْهُ أَوْ اخْتَلَفُوا أَوْ لَمْ يَظْهَرْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَلَكِنْ يُوَافِقُهُ الْقِيَاسُ، وَلَا يَرُدُّهُ وَذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الدِّمَشْقِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الصَّلَاحِ فِي كِتَابِهِ أَنَّ الْمَجْهُولَ أَقْسَامٌ أَحَدُهَا الْمَجْهُولُ الْعَدَالَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَرِوَايَتُهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ وَالثَّانِي الْمَجْهُولُ الَّذِي جُهِلَتْ عَدَالَتُهُ الْبَاطِنَةُ وَهُوَ عَدْلٌ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ الْمَسْتُورُ عَلَى مَا فَسَّرَهُ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا فَيَقْبَلُ رِوَايَتَهُ بَعْضُ مَنْ رَدَّ رِوَايَةَ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْأَخْبَارِ مَبْنِيٌّ

إلَّا أَنَّ هَذَا كَمَالٌ يَتَعَذَّرُ شَرْطُهُ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْخَلْقِ بِأَوْصَافِهِ عَلَى التَّفْسِيرِ مُتَفَاوِتَةٌ؛ وَإِنَّمَا شُرِطَ الْكَمَالُ بِمَا لَا حَرَجَ فِيهِ وَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ بِمَا قُلْنَا: إجْمَالًا، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ بَيَانِهِ وَتَفْسِيرِهِ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يُسْتَوْصَفَ الْمُؤْمِنُ فَيُقَالُ أَهُوَ كَذَا فَإِذَا قَالَ نَعَمْ فَقَدْ ظَهَرَ كَمَالُ إسْلَامِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اسْتَوْصَفَ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ عَنْ ذِكْرِ الْجُمَلِ دُونَ التَّفْسِيرِ وَكَانَ ذَلِكَ دَأْبَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُطْلَقُ مِنْ هَذَا يَقَعُ عَلَى الْكَامِلِ أَيْضًا بِذَلِكَ أُمِرْنَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} [الممتحنة: 10] وَكَانَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَمْتَحِنُ الْأَعْرَابَ بَعْدَ دَعْوَى الْإِيمَان ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى حُسْنِ الظَّنِّ بِالرَّاوِي؛ وَلِأَنَّ رِوَايَةَ الْأَخْبَارِ تَكُونُ عِنْدَ مَنْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ الْعَدَالَةِ فِي الْبَاطِنِ فَاقْتَصَرَ فِيهَا عَلَى مَعْرِفَتِهَا فِي الظَّاهِرِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ عَلَى هَذَا فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورَةِ فِي غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الرُّوَاةِ الَّذِينَ تَقَادَمَ الْعَهْدُ بِهِمْ وَتَعَذَّرَتْ الْخِبْرَةُ الْبَاطِنَةُ فِي حَقِّهِمْ وَالثَّالِثُ - الْمَجْهُولُ الْعَيْنِ وَقَدْ يَقْبَلُ رِوَايَةَ الْمَجْهُولِ الْعَدَالَةِ مَنْ لَا يَقْبَلُ رِوَايَةَ الْمَجْهُولِ الْعَيْنِ، وَمَنْ رَوَى عَنْهُ عَدْلَانِ وَعَيَّنَاهُ فَقَدْ ارْتَفَعَتْ عَنْهُ هَذِهِ الْجَهَالَةُ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ الْخَطِيبَ الْبَغْدَادِيَّ قَالَ: وَأَقَلُّ مَا يَرْفَعُ الْجَهَالَةَ أَنْ يَرْوِيَ عَنْ الرَّجُلِ اثْنَانِ مِنْ الْمَشْهُورِينَ بِالْعِلْمِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْعَدَالَةِ بِرِوَايَتِهِمَا عَنْهُ، قَوْلُهُ. (وَأَمَّا الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ) فَكَذَا هُمَا هَاهُنَا عِبَارَتَانِ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ فَإِنَّ تَفْسِيرَهُ وَلَمْ يَقُلْ تَفْسِيرَهُمَا وَذَكَرَ فِي التَّأْوِيلَاتِ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ إذَا ذُكِرَا مَعًا كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُمَا وَاحِدًا، وَإِنْ ذُكِرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ الْإِيمَانِ التَّصْدِيقَ الْبَاطِنِيَّ وَمِنْ الْإِسْلَامِ الطَّاعَاتِ وَعَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّ الْإِيمَانَ تَصْدِيقُ الْإِسْلَامِ وَالْإِسْلَامَ تَحْقِيقُ الْإِيمَانِ وَتَفْسِيرُهُ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَيْ يُصَدِّقُ بِقَلْبِهِ وَيُقِرُّ بِلِسَانِهِ بِوُجُودِ الصَّانِعِ جَلَّ جَلَالُهُ وَبِكَوْنِهِ مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مِثْلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحَيَاةِ وَسَائِرِ الْأَوْصَافِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا لِلْأُلُوهِيَّةِ وَبِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى مِثْلِ الرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ وَالْقَادِرِ وَالْعَلِيمِ إلَى سَائِرِ أَسْمَائِهِ - جَلَّ ذِكْرُهُ - وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَائِبٌ عَنْ الْحِسِّ وَالْغَائِبُ يُعْرَفُ بِالصِّفَاتِ وَالْأَسْمَاءِ وَيُضَمُّ إلَيْهِ أَيْضًا التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ بِمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَبِأَنَّ الْقَدَرَ خَيْرَهُ وَشَرَّهُ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبِسَائِرِ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ ظَاهِرٌ بِنُشُوئِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبِأَنْ وُلِدَ فِيهِمْ وَنَشَأَ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ شَهَادَةً وَعِبَادَةً يُقَالُ نَشَأْت فِي بَنِي فُلَانٍ نَشْئًا أَوْ نُشُوءًا إذَا شَبَبْت فِيهِمْ. وَثَابِتٌ بِالْبَيَانِ بِأَنْ يَصِفَ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا هُوَ وَيَصِفَ جَمِيعَ مَا وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ وَصْفًا عَنْ عِلْمٍ وَتَيَقُّنٍ لَا عَنْ ظَنٍّ وَتَلَقُّنٍ؛ لِأَنَّ حِفْظَ اللُّغَةِ غَيْرُ الْعِلْمِ بِالْمَعْنَى، وَالْوَاجِبُ هُوَ الْعِلْمُ فَلَا يُفِيدُ حِفْظَ اللُّغَةِ بِدُونِهِ فَإِذَا وُصِفَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ مُسْلِمًا حَقِيقَةً إلَّا أَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى لَكِنْ وَجَوَابٌ عَمَّا قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ ذِكْرُ الْوَصْفِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ لَا يَكْفِي بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ مَا يَجِبُ الْإِقْرَارُ بِهِ وَبَيَانُهُ عَلَى التَّفْصِيلِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَعْلَمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَانَ كَافِرًا. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَلَا يَعْرِفُ مَنْ هُوَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا فَقَالَ الشَّيْخُ مَا ذَكَرْتُمْ وَهُوَ الْوَصْفُ عَلَى التَّفْصِيلِ كَمَالٌ يَتَعَذَّرُ اشْتِرَاطُهُ لِصِحَّةِ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْخَلْقِ بِأَوْصَافِ اللَّهِ تَعَالَى مُتَفَاوِتَةٌ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى بَيَانِ تَفْسِيرِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالِاسْتِقْصَاءِ فَيُشْتَرَطُ الْكَمَالُ الَّذِي لَا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ وَهُوَ أَنْ يُصَدِّقَ وَيُقِرَّ إجْمَالًا بِمَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ فَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي لِثُبُوتِ الْإِيمَانِ حَقِيقَةً؛ وَلِهَذَا أَيْ وَلِأَنَّ الْإِيمَانَ يَثْبُتُ حَقِيقَةً بِالْبَيَانِ إجْمَالًا قُلْنَا: الْوَاجِبُ لَا يُسْتَوْصَفُ الْمُؤْمِنُ فَيُقَالُ: أَتُؤْمِنُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ قَادِرٌ عَالِمٌ حَيٌّ سَمِيعٌ بَصِيرٌ مُرِيدٌ خَالِقٌ إلَى آخِرِ أَوْصَافِهِ الَّتِي يَجِبُ ذِكْرُهَا فِي الْإِيمَانِ أَوْ يُقَالُ: أَتُؤْمِنُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ حَقٌّ فَإِذَا قَالَ نَعَمْ حُكِمَ بِصِحَّةِ إسْلَامِهِ وَلَا يُطْلَبُ مِنْهُ حَقِيقَةُ الْوَصْفِ

إلَّا أَنْ تَظْهَرَ أَمَارَاتُهُ فَيَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْجَمَاعَةَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ» وَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ» فَأَمَّا مَنْ اُسْتُوْصِفَ فَجَهِلَ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ كَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ فِي الصَّغِيرَةِ بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ إذَا لَمْ تَصِفْ الْإِيمَانِ حَتَّى أَدْرَكَتْ فَلَمْ تَصِفْهُ أَنَّهَا تَبِينُ مِنْ زَوْجِهَا وَإِذَا ثَبَتَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ كَانَ الْأَعْمَى وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ وَالْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ الرِّوَايَةِ وَكَانَ خَبَرُهُمْ حُجَّةً بِخِلَافِ الشَّهَادَاتِ فِي حُقُوقِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهَا تَفْتَقِرُ إلَى تَمْيِيزٍ زَائِدٍ يَنْعَدِمُ بِالْعَمَى وَإِلَى وِلَايَةٍ كَامِلَةٍ مُتَعَدِّيَةٍ يَنْعَدِمُ بِالرِّقِّ وَتَقْصُرُ بِالْأُنُوثَةِ وَبِحَدِّ الْقَذْفِ عَلَى مَا عُرِفَ ـــــــــــــــــــــــــــــQقَالُوا وَهَذَا إذَا وَافَقَ هَذَا الِاسْتِفْهَامَ مَا فِي قَلْبِهِ وَلَمْ يَعْتَقِدْ مَا يُخَالِفُ الْإِسْلَامَ فَإِنْ اعْتَقَدَهُ فَلَا يُفِيدُ هَذَا الِاسْتِيصَافُ إلَّا بِتَبْدِيلِ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ. ثُمَّ اسْتَوْضَحَ هَذَا بِفِعْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ، أَلَا يُرَى أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اسْتَوْصَفَ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُ عَنْ ذِكْرِ الْجُمَلِ دُونَ التَّفْسِيرِ حَتَّى «قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي شَهِدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ نَعَمْ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ يَكْفِي الْمُسْلِمِينَ أَحَدُهُمْ» وَحِينَ سَأَلَهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - عَنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ تَعْلِيمًا لِلنَّاسِ مَعَالِمَ الدِّينِ بَيَّنَ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ وَالْمُطْلَقُ مِنْ هَذَا يَقَعُ عَلَى الْكَامِلِ أَيْضًا يَعْنِي لَا يُكْتَفَى فِي الْإِسْلَامِ بِظَاهِرِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ بَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْكَمَالُ وَهُوَ الْبَيَانُ إجْمَالًا كَمَا فِي سَائِرِ الشُّرُوطِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] أَيْ اخْتَبِرُوهُنَّ بِبَيَانِ الشَّهَادَتَيْنِ أَمَرَ بِالِامْتِحَانِ وَالِاسْتِيصَافِ بَعْدَ أَنْ سَمَّاهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ وَلَمْ يَكْتَفِ بِمَا فِي ضَمِيرِهِنَّ وَدَعْوَاهُنَّ الْإِيمَانَ وَهِجْرَتِهِنَّ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الِاسْتِيصَافَ فِيهِ شَرْطٌ وَلَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لَا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ وَأَمَّا السُّنَّةُ فَهِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَمْتَحِنُ الْأَعْرَابَ بَعْدَ دَعْوَى الْإِيمَانِ مِنْهُمْ. قَوْلُهُ (إلَّا أَنْ تَظْهَرَ أَمَارَاتُهُ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَالْمُطْلَقُ مِنْ هَذَا يَقَعُ عَلَى الْكَامِلِ يَعْنِي لَا يَكْتَفِي فِي الْإِسْلَامِ بِالظَّاهِرِ وَيُشْتَرَطُ الِاسْتِيصَافُ إلَّا أَنْ تَظْهَرَ أَمَارَاتُ الْإِسْلَامِ فَحِينَئِذٍ لَا يُشْتَرَطُ الِاسْتِيصَافُ وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ الِاسْتِيصَافَ إنَّمَا يَجِبُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الدَّلَالَاتُ الظَّاهِرَةُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَمَّا فِي حَقِّ مَنْ وُجِدَتْ مِنْهُ نَحْوُ إقَامَةِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَأَكْلِ ذَبِيحَتِنَا فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ مَقَامَ الْوَصْفِ مِنْهُ فِي الْحُكْمِ بِإِيمَانِهِ لِلْحَدَثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْكِتَابِ فَأَمَّا مَنْ اُسْتُوْصِفَ فَجَهِلَ بِأَنْ وُصِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَا أَعْرِفُ مَا تَقُولُ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ فَإِنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ فِي نِكَاحِ الْجَامِعِ مُسْلِمٌ تَزَوَّجَ صَبِيَّةً مُسْلِمَةً فَأَدْرَكَتْ وَلَمْ تَصِفْ الْإِسْلَامَ قَبْلَهُ، وَلَا بَعْدَهُ بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُسْلِمَةً تَبَعًا وَقَدْ انْقَطَعَتْ التَّبَعِيَّةُ فَإِذَا لَمْ تَصِفْ الْإِسْلَامَ كَانَ ذَلِكَ جَهْلًا مَحْضًا وَالْجَهْلُ بِالصَّانِعِ كُفْرٌ مِنْهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَصَارَتْ مُرْتَدَّةً، قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ الْجَامِعِ: وَهَذَا مِمَّا يَجِبُ حِفْظُهُ وَالِاحْتِرَازُ عَنْهُ بِأَنْ تُلَقَّنَ الْإِسْلَامَ قَبْلَ الْبُلُوغِ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ احْتِرَازًا عَنْ هَذَا وَعَلَى الزَّوْجِ الِاحْتِيَاطُ بِالنَّظَرِ فِي هَذَا حِينَ تُزَفُّ إلَيْهِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ لَمْ تَصِفْ الْإِسْلَامَ أَنَّهَا لَا تُحْسِنُ الْوَصْفَ، وَلَا تَعْرِفُ إنْ وُصِفَ بَيْنَ يَدَيْهَا حَتَّى إذَا أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يَسْتَوْصِفَهَا الْإِسْلَامَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لَهَا صِفِي الْإِسْلَامَ فَإِنَّهَا تَعْجِزُ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ تُحْسِنُهُ حَيَاءً مِنْ زَوْجِهَا وَلَكِنْ يَصِفُ بَيْنَ يَدَيْهَا وَيَقُولُ هَذَا اعْتِقَادِي وَظَنِّي بِك أَنَّك تَعْتَقِدِينَ هَذَا فَإِنْ قَالَتْ نَعَمْ كَفَى ذَلِكَ وَكَانَتْ مُسْلِمَةً حَلَالًا لَهُ، وَإِنْ قَالَتْ لَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا تَقُولُ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا حِينَئِذٍ. قَوْلُهُ (فَإِذَا ثَبَتَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ) وَهِيَ أَنَّ الْعَقْلَ وَالضَّبْطَ وَالْعَدَالَةَ وَالْإِسْلَامَ مِنْ شَرَائِطِ الرَّاوِي كَانَ الْأَعْمَى وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ وَالْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ الرِّوَايَةِ لِتَحَقُّقِ هَذِهِ الشَّرَائِطِ فِي حَقِّهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ

فَأَمَّا هَذَا فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مَا يَلْزَمُ السَّامِعَ مِنْ خَبَرِ الْمُخْبِرِ بِأُمُورِ الدِّينِ فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ بِالْتِزَامِهِ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا يَلْزَمُ الْقَاضِيَ الْفَصْلُ وَالْقَضَاءُ وَالسَّمَاعُ بِالْتِزَامِهِ لَا بِإِلْزَامِ الْخَصْمِ، وَالثَّانِي أَنَّ خَبَرَ الْمُخْبِرِ فِي الدِّينِ يَلْزَمُهُ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ بِمِثْلِهِ قِيَامُ الْوِلَايَةِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ ـــــــــــــــــــــــــــــQتَوَقَّفَتْ عَلَى مَعَانٍ أُخَرَ لَا تُشْتَرَطُ فِي الْخَبَرِ أَمَّا الْأَعْمَى فَلِأَنَّ الْعَمَى إنَّمَا مَنَعَ قَبُولَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ يَحْتَاجُ إلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَدَاءِ وَالْإِشَارَةِ إلَيْهِمَا وَإِلَى الْمَشْهُودِ بِهِ فِيمَا يَجِبُ إحْضَارُهُ مَجْلِسَ الْحُكْمِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ مِنْ الْبَصِيرِ بِالْمُعَايَنَةِ وَمِنْ الْأَعْمَى بِالِاسْتِدْلَالِ وَبَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فِي جِنْسِ الشُّهُودِ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ لَا حَاجَةَ إلَى هَذَا التَّمْيِيزِ فَكَانَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ فِيهِ سَوَاءً وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَمْيِيزٌ زَائِدٌ وَأَمَّا الْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ فَلِأَنَّ الشَّرْطَ فِي الشَّهَادَةِ الْوِلَايَةِ الْكَامِلَةِ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ تَنْفِيذُ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ الْغَيْرُ أَوْ أَبَى، وَالشَّهَادَةُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ وَبِالرِّقِّ تَنْعَدِمُ الْوِلَايَةُ أَصْلًا وَبِالْأُنُوثَةِ تُنْتَقَضُ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ تُسْتَفَادُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَرْأَةُ، وَإِنْ صَلَحَتْ مَالِكَةً لِلْمَالِ لَا تَصْلُحُ مَالِكَةً فِي النِّكَاحِ بَلْ هِيَ مَمْلُوكَةٌ فِيهِ؛ وَلِهَذَا أُقِيمَتْ شَهَادَةُ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ مَقَامَ شَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ. وَكَذَا انْتَقَصَتْ وِلَايَةُ الشَّهَادَةِ بِحَدِّ الْقَذْفِ أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ تَنْعَدِمْ حَتَّى انْعَقَدَ النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ فَلِفَوَاتِ الْوِلَايَةِ أَوْ لِنُقْصَانِهَا رُدَّتْ شَهَادَةُ هَؤُلَاءِ فَأَمَّا هَذَا أَيْ قَبُولُ الرِّوَايَةِ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُخْبِرَ لَا يُلْزِمُ أَحَدًا شَيْئًا وَلَكِنَّ السَّامِعَ قَدْ الْتَزَمَ بِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ مُفْتَرَضُ الطَّاعَةِ فَإِذَا تَرَجَّحَ جَانِبُ الصِّدْقِ فِي الْخَبَرِ شَابَهُ ذَلِكَ الْمَسْمُوعَ مِمَّنْ هُوَ مُفْتَرَضُ الطَّاعَةِ فَيَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِاعْتِبَارِ اعْتِقَادِهِ كَمَا يَلْزَمُ الْقَاضِيَ الْقَضَاءُ وَالْفَصْلُ عِنْدَ سَمَاعِ الشَّهَادَةِ بِالْتِزَامِهِ وَتَقَلُّدِهِ هَذِهِ الْأَمَانَةَ لَا بِإِلْزَامِ الْخَصْمِ أَيْ الشَّاهِدِ فَإِنَّ كَلَامَ الشَّاهِدِ يَلْزَمُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ دُونَ الْقَاضِي فَصَارَ تَقَلُّدُهُ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَوْ الْمُرَادُ مِنْ الْخَصْمِ الْمُدَّعِي أَيْ لَا يَلْزَمُ الْمُدَّعِيَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بَلْ يَلْزَمُهُ بِتَقَلُّدِهِ أَمَانَةَ الْقَضَاءِ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الِاسْتِمَاعُ إلَى دَعْوَى الْمُدَّعِي الْكَافِرِ وَإِلَى إنْكَارِهِ وَإِلَى شَهَادَتِهِ عَلَى كَافِرٍ مِثْلِهِ وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِمُوجِبِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ وَلَوْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ مُلْزِمَةً عَلَيْهِ الْقَضَاءَ لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِمَاعُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ: وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ» لَيْسَ فِي ظَاهِرِهِ إلْزَامُ شَيْءٍ عَلَى أَحَدٍ بَلْ فِيهِ بَيَانُ صِفَةٍ تَتَأَدَّى بِهَا الصَّلَاةُ إذَا أَرَادَهَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ لَا خِيَاطَةَ إلَّا بِالْإِبْرَةِ وَالثَّانِي أَنَّ حُكْمَ الْخَبَرِ يَلْزَمُ الْمُخْبَرَ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَعَدَّى الْحُكْمُ إلَى غَيْرِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي مِثْلِهِ قِيَامُ الْوِلَايَةِ؛ وَلِهَذَا جُعِلَ الْعَبْدُ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي الشَّهَادَةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْتِزَامٌ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْخَبَرِ وَهُوَ الشَّهَادَةُ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ. بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ فَإِنَّهَا تَلْزَمُ عَلَى الْغَيْرِ ابْتِدَاءً فَلَا بُدَّ مِنْ كَمَالِ الْوِلَايَةِ فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ مَنْعُ كَوْنِ الْخَبَرِ مُلْزِمًا وَالْوَجْهُ الثَّانِي تَسْلِيمُ ذَلِكَ وَبَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ وَقَدْ ثَبَتَ رِوَايَةُ الْحَدِيثِ مِمَّنْ اُبْتُلِيَ بِذَهَابِ الْبَصَرِ مِنْ الصَّحَابَةِ، مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَعِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَالْأَخْبَارُ الْمَرْوِيَّةُ عَنْهُمْ مَقْبُولَةٌ وَلَمْ يَتَفَحَّصْ أَحَدٌ أَنَّهُمْ رَوَوْا قَبْلَ الْعَمَى أَمْ بَعْدَهُ وَكَذَلِكَ كَانُوا يَرْجِعُونَ إلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُنَّ فِيمَا يُشْكِلُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فَيَعْتَمِدُونَ خَبَرَهُنَّ خُصُوصًا إلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ رِوَايَةُ الْحَدِيثِ مِمَّنْ اُبْتُلِيَ بِذَهَابِ الْبَصَرِ، وَقَبُولُ رِوَايَةِ النِّسَاءِ وَالْعَبْدِ وَرُجُوعُهُمْ إلَى قَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَقَبُولُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خَبَرَ بَرِيرَةَ وَسَلْمَانَ وَغَيْرَهُمَا - وَاَللَّهُ أَعْلَم - أَمَّا الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ ـــــــــــــــــــــــــــــQ «تَأْخُذُونَ ثُلُثَيْ دِينِكُمْ مِنْ عَائِشَةَ» وَقَدْ كَانَتْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ رَأْيًا وَرِوَايَةً وَقَدْ صَحَّ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ يَعْتَمِدُ خَبَرَهُ أَنَّ مَوْلَاهُ أَذِنَ لَهُ وَسَلْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ كَانَ عَبْدًا أَتَاهُ بِصَدَقَةٍ فَاعْتَمَدَ خَبَرَهُ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْأَكْلِ ثُمَّ أَتَى بِهَدِيَّةٍ فَاعْتَمَدَ خَبَرَهُ وَأَكَلَ مِنْهُ، وَكَانَ يَعْتَمِدُ خَبَرَ بَرِيرَةَ قَبْلَ أَنْ تَعْتِقَ وَبَعْدَ عِتْقِهَا وَكَثِيرٌ مِنْ الْمَوَالِي نَقَلُوا أَخْبَارًا وَتَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ مِنْ غَيْرِ تَفَحُّصٍ عَنْ التَّارِيخِ مِثْلُ نَافِعٍ وَسَالِمٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَدَلَّ أَنَّ الْأَعْمَى وَالْمَمْلُوكَ وَالْأُنْثَى فِي ذَلِكَ كَالْبَصِيرِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ، ثُمَّ الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَيْسَ بِمَقْبُولِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِكَذِبِهِ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] . وَالْمَحْكُومُ بِالْكَذِبِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى التَّعَاطِي لَا يَكُونُ عَدْلًا مُطْلَقًا وَمِنْ شَرْطِ كَوْنِ الْخَبَرِ حُجَّةً الْعَدَالَةُ مُطْلَقَةً وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ رِوَايَتُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ مَقْبُولَةٌ فَإِنَّ أَبَا بِكْرَةَ مَقْبُولُ الْخَبَرِ وَلَمْ يَشْتَغِلْ أَحَدٌ بِطَلَبِ التَّارِيخِ فِي خَبَرِهِ أَنَّهُ رَوَى بَعْدَمَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَمْ قَبْلَهُ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّ رَدَّ شَهَادَتِهِ مِنْ تَمَامِ حَدِّهِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالنَّصِّ وَرِوَايَةُ الْخَبَرِ لَيْسَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ ثُمَّ التَّائِبُ مِنْ أَسْبَابِ الْفِسْقِ وَالْكَذِبِ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ إلَّا التَّائِبَ مِنْ الْكَذِبِ مُعْتَمِدًا فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ أَبَدًا، وَإِنْ حَسُنَتْ تَوْبَتُهُ عَلَى مَا ذُكِرَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي شَرْحِهِ لِرِسَالَةِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَسْقَطْنَا خَبَرَهُ مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ بِكَذِبٍ وَجَدْنَاهُ عَلَيْهِ لَمْ نَعُدْ لِقَبُولِهِ بِتَوْبَةٍ تَظْهَرُ وَمَنْ ضَعَّفْنَا نَقْلَهُ لَمْ نَجْعَلْهُ قَوِيًّا بَعْدَ ذَلِكَ وَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا افْتَرَقَتْ فِيهِ الرِّوَايَةُ وَالشَّهَادَةُ وَذَكَرَ أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ أَنَّ مَنْ كَذَبَ فِي خَبَرٍ وَاحِدٍ وَجَبَ إسْقَاطُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِهِ وَكَذَا ذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو فِي كِتَابِ مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ عِلْمِ الْحَدِيثِ، قَوْلُهُ وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ أَيْ مِنْ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَّلِ بَابِ أَقْسَامِ السُّنَّةِ بَابُ بَيَانِ قِسْمِ الِانْقِطَاعِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَوَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ أَجْمَعِينَ

[باب بيان قسم الانقطاع وهو نوعان]

(بَابُ بَيَانِ قِسْمِ) (الِانْقِطَاعِ) وَهُوَ نَوْعَانِ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ أَمَّا الظَّاهِرُ فَالْمُرْسَلُ مِنْ الْأَخْبَارِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ مَا أَرْسَلَهُ الصَّحَابِيُّ وَالثَّانِي مَا أَرْسَلَهُ الْقَرْنُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ مَا أَرْسَلَهُ الْعَدْلُ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَالرَّابِعُ مَا أُرْسِلَ مِنْ وَجْهٍ وَاتَّصَلَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَمَقْبُولٌ بِالْإِجْمَاعِ وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنَّ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ كَانَ مِنْ الْفِتْيَانِ قَلَّتْ صُحْبَتُهُ فَكَانَ يَرْوِي عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ فَإِذَا أَطْلَقَ الرِّوَايَةَ فَقَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ مَقْبُولًا وَإِنْ احْتَمَلَ الْإِرْسَالَ؛ لِأَنَّ مَنْ ثَبَتَتْ صُحْبَتُهُ لَمْ يُحْمَلْ حَدِيثُهُ إلَّا عَلَى سَمَاعِهِ بِنَفْسِهِ إلَّا أَنْ يُصَرِّحَ بِالرِّوَايَةِ عَنْ غَيْرِهِ. ، وَأَمَّا إرْسَالُ الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَحُجَّةٌ عِنْدَنَا، وَهُوَ فَوْقَ الْمُسْنَدِ كَذَلِكَ ذَكَرَهُ عِيسَى بْنُ أَبَانَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُقْبَلُ الْمُرْسَلُ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ اتِّصَالُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ـــــــــــــــــــــــــــــQ [بَابُ بَيَانِ قِسْمِ الِانْقِطَاعِ وَهُوَ نَوْعَانِ] [الإنقطاع الظَّاهِرُ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ] [مَا أَرْسَلَهُ الصَّحَابِيُّ] (بَابُ بَيَانِ قِسْمِ الِانْقِطَاعِ) الْإِرْسَالُ خِلَافُ التَّقْيِيدِ لُغَةً، وَكَأَنَّ هَذَا النَّوْعَ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ سُمِّيَ مُرْسَلًا لِعَدَمِ تَقَيُّدِهِ بِذِكْرِ الْوَاسِطَةِ الَّتِي بَيْنَ الرَّاوِي وَالْمَرْوِيِّ عَنْهُ، وَهُوَ فِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ أَنْ يَتْرُكَ التَّابِعِيُّ الْوَاسِطَةَ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَيَقُولَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَذَا كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَمَكْحُولٌ الدِّمَشْقِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ. فَإِنْ تَرَكَ الرَّاوِي وَاسِطَةً بَيْنَ الرَّاوِيَيْنِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ مَنْ لَمْ يُعَاصِرْ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَهَذَا يُسَمَّى مُنْقَطِعًا عِنْدَهُمْ. هَذَا إذَا كَانَ الْمَتْرُوكُ وَاسِطَةً وَاحِدَةً فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ فَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمُعْضَلِ عِنْدَهُمْ. قَالَ أَبُو عُمَرَ وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدِّمَشْقِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الصَّلَاحِ فِي كِتَابِ مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ عِلْمِ الْحَدِيثِ الْمُعْضَلُ لَقَبٌ لِنَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ الْمُنْقَطِعِ، وَهُوَ الَّذِي سَقَطَ عَنْ إسْنَادِهِ اثْنَانِ فَصَاعِدًا وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ يَقُولُونَ أَعْضَلَهُ فَهُوَ مُعْضَلٌ بِفَتْحِ الضَّادِ، وَهُوَ اصْطِلَاحٌ مُشْكِلُ الْمَأْخَذِ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ وَبَحَثْت فَوَجَدْت لَهُ قَوْلَهُمْ أَمْرٌ عَضِيلٌ أَيْ مُسْتَغْلِقٌ شَدِيدٌ وَلَا الْتِفَاتَ فِي ذَلِكَ إلَى مُعْضِلِ بِكَسْرِ الضَّادِ وَإِنْ كَانَ مِثْلَ عَضِيلٍ فِي الْمَعْنَى، وَالْكُلُّ يُسَمَّى إرْسَالًا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ وَتَقْسِيمُهُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ مُرْسَلُ الصَّحَابَةِ مَقْبُولٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ فَإِنَّهُ حُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ خَصَّ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ بِالْقَبُولِ، وَحُكِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَذَا وَكَذَا قُبِلَتْ إلَّا إنْ أَعْلَمَ أَنَّهُ أَرْسَلَهُ، كَذَا فِي الْمُعْتَمَدِ. [إرْسَالُ الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ] وَأَمَّا إرْسَالُ الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَحُجَّةٌ عِنْدَنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَعِنْدَ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ لَا يُقْبَلُ الْمُرْسَلُ أَصْلًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يُقْبَلُ إلَّا إذَا اقْتَرَنَ بِهِ مَا يَتَقَوَّى بِهِ فَحِينَئِذٍ يُقْبَلُ وَذَلِكَ بِأَنْ يَتَأَيَّدَ بِآيَةٍ أَوْ سُنَّةٍ مَشْهُورَةٍ أَوْ مُوَافِقَةٍ أَوْ غَيْرِهَا قِيَاسٌ أَوْ قَوْلُ صَحَابِيٍّ أَوْ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ أَوْ عُرِفَ مِنْ حَالِ الْمُرْسِلِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي عَمَّنْ فِيهِ عِلَّةٌ مِنْ جَهَالَةٍ

وَلِهَذَا قَبِلْتُ مَرَاسِيلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ لِأَنِّي وَجَدْتهَا مَسَانِيدَ وَحَكَى أَصْحَابُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْبَلُ الْمَرَاسِيلَ وَيَعْمَلُ بِهَا مِثْلَ قَوْلِنَا احْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِأَنَّ الْجَهْلَ بِالرَّاوِي جَهْلٌ بِصِفَاتِهِ الَّتِي بِهَا يَصِحُّ رِوَايَتُهُ لَكِنَّا نَقُولُ لَا بَأْسَ بِالْإِرْسَالِ اسْتِدْلَالًا بِعَمَلِ الصَّحَابَةِ وَالْمَعْنَى الْمَعْقُولِ أَمَّا عَمَلُ الصَّحَابَةِ؛ فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمَّا رَوَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ» فَرَدَّتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَ سَمِعْته مِنْ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ وَلَمَّا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ «لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ» فَعُورِضَ فِي ذَلِكَ بِرِبَا النَّقْدِ قَالَ سَمِعْته مِنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا كُلُّ مَا نُحَدِّثُ سَمِعْنَاهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَإِنَّمَا حُدِّثْنَا عَنْهُ لَكِنَّا لَا نَكْذِبُ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ كَلَامَنَا فِي إرْسَالِ مَنْ لَوْ أَسْنَدَ عَنْ غَيْرِهِ قُبِلَ إسْنَادُهُ وَلَا يُظَنُّ بِهِ الْكَذِبُ عَلَيْهِ فَلَأَنْ لَا يُظَنَّ بِهِ الْكَذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْلَى ـــــــــــــــــــــــــــــQأَوْ غَيْرِهَا أَوْ اشْتَرَكَ فِي إرْسَالِهِ عَدْلَانِ ثِقَتَانِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ شُيُوخُهُمَا مُخْتَلِفَةً أَوْ ثَبَتَ اتِّصَالُهُ بِوَجْهٍ آخَرَ بِأَنْ أَسْنَدَهُ غَيْرُ مُرْسِلِهِ أَوْ أَسْنَدَهُ مُرْسِلُهُ مَرَّةً أُخْرَى. قَالَ: وَلِهَذَا أَيْ وَلِثُبُوتِ الِاتِّصَالِ بِوَجْهٍ آخَرَ قُبِلَتْ مَرَاسِيلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ لِأَنِّي اتَّبَعْتهَا فَوَجَدْتهَا مَسَانِيدَ وَأَكْثَرُ مَا رَوَاهُ مُرْسَلًا إنَّمَا سَمِعَهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَالْمَذْكُورُ فِي كُتُبِهِمْ قَالَ: وَأَقْبَلُ مَرَاسِيلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ لِأَنِّي اعْتَبَرْتهَا فَوَجَدْتهَا بِهَذِهِ الشَّرَائِطِ قَالَ وَمَنْ هَذَا حَالُهُ أُحِبُّ قَبُولَ مَرَاسِيلِهِ وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ: إنَّ الْحُجَّةَ ثَبَتَتْ بِهِ كَثُبُوتِهَا بِالْمُتَّصِلِ. وَفِي الْمُغْرِبِ الْمَرَاسِيلُ اسْمُ جَمْعٍ لِلْمُرْسَلِ كَالْمَنَاكِيرِ لِلْمُنْكَرِ، وَفِي غَيْرِهِ الْمَرَاسِيلُ جَمْعُ الْمُرْسَلِ وَالْيَاءُ فِيهَا لِلْإِشْبَاعِ كَمَا فِي الدَّرَاهِيمِ وَالصَّيَارِيفِ تَمَسَّكَ مَنْ أَبَى قَبُولَ الْمُرْسَلِ بِأَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً بِاعْتِبَارِ أَوْصَافٍ فِي الرَّاوِي وَلَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَةِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ فِي الرَّاوِي إذَا كَانَ غَيْرَ مَعْلُومٍ وَالْعِلْمُ بِهِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْإِشَارَةِ عِنْدَ حَضْرَتِهِ وَبِذِكْرِ اسْمِهِ وَنَسَبِهِ عِنْدَ غَيْبَتِهِ فَإِذَا لَمْ يَذْكُرْهُ أَصْلًا لَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ بِهِ وَلَا بِأَوْصَافِهِ فَتَحَقَّقَ انْقِطَاعُ هَذَا الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَكُونُ حُجَّةً، يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ وَلَمْ يُعَدِّلْهُ وَبَقِيَ مَجْهُولًا لَمْ يَقْبَلْهُ فَإِذَا لَمْ يَذْكُرْهُ فَالْجَهْلُ أَتَمُّ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يُعْرَفُ عَيْنُهُ لَا يُعْرَفُ عَدَالَتُهُ وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ رِوَايَةُ الْعَدْلِ عَنْهُ تَعْدِيلٌ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَهُ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ مَعْرِفَةِ الْجُرْحِ وَالْعَدَالَةِ الِاجْتِهَادُ، وَقَدْ يَكُونُ الْوَاحِدُ عَدْلًا عِنْدَ إنْسَانٍ مَجْرُوحًا عِنْدَ غَيْرِهِ بِأَنْ يَقِفَ مِنْهُ عَلَى مَا كَانَ الْآخَرُ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ وَالْمُعْتَبَرُ عَدَالَتُهُ عِنْدَ الْمَرْوِيِّ لَهُ فَلَوْ قَبِلْنَا الرِّوَايَةَ مِنْ غَيْرِ كَشْفٍ لَكُنَّا قَبِلْنَاهَا تَقْلِيدًا لَا عِلْمًا. وَكَيْفَ يَجْعَلُ رِوَايَةَ الْعَدْلِ تَعْدِيلًا لِلْمَرْوِيِّ عَنْهُ وَقَدْ رَوَوْا حَدِيثًا وَقَدِيمًا عَمَّنْ لَمْ يَحْمَدُوا فِي الرِّوَايَةِ أَمْرَهُ؟ ، قَالَ الشَّعْبِيُّ حَدَّثَنِي الْحَارِثُ وَكَانَ وَاَللَّهِ كَذَّابًا، وَرَوَى شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ مَعَ ظُهُورِ أَمْرِهِ فِي الْكَذِبِ، وَرَوَى عَنْهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: مَا رَأَيْت أَحَدًا أَكْذَبَ مِنْ جَابِرٍ وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ إبْرَاهِيمَ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْأَسْلَمِيِّ وَكَانَ قَدَرِيًّا رَافِضِيًّا وَرَضِيَ بِالْكَذِبِ أَيْضًا وَرَوَى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ أَبِي أُمَيَّةَ الْبَصْرِيِّ، وَهُوَ مِمَّنْ تَكَلَّمُوا فِيهِ وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُحَرَّرِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمَجْرُوحِينَ وَأَرْسَلَ الزُّهْرِيُّ فَقِيلَ لَهُ: مَنْ حَدَّثَك؟ فَقَالَ: رَجُلٌ عَلَى بَابِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ إرْسَالَهُ تَعْدِيلًا لِلْمَرْوِيِّ عَنْهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ حَدَّثَنِي فُلَانٌ، وَهُوَ عَدْلٌ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ لِلْمَرْوِيِّ لَهُ أَنْ يَتَأَمَّلَ فِيهِ فَإِنْ سَكَنَتْ نَفْسُهُ إلَى قَوْلِهِ قَبِلَهُ، وَإِلَّا يَتَفَحَّصْ عَنْهُ وَبِأَنَّ النَّاسَ تَكَلَّفُوا لِحِفْظِ أَسَانِيدَ فِي بَابِ الْأَخْبَارِ فَلَوْ كَانَتْ الْحُجَّةُ تَقُومُ بِالْمُرْسَلِ لَكَانَ تَكَلُّفُهُمْ اشْتِغَالًا بِمَا لَا يُفِيدُ فَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى مَا لَا يُفِيدُ، وَتَمَسَّكَ مَنْ قَبْلَهُ بِالْإِجْمَاعِ وَالدَّلِيلِ الْمَعْقُولِ. أَمَّا الْإِجْمَاعُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا اتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى قَبُولِ الْمُرْسَلِ؛ فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى قَبُولِ رِوَايَاتِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَّا أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ لِصِغَرِ سِنِّهِ كَذَا ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ إلَّا بِضْعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ حَيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي بِهِ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَرُوِيَ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا زَالَ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ»

وَالْمُعْتَادُ مِنْ الْأَمْرِ أَنَّ الْعَدْلَ إذَا وَضَحَ لَهُ الطَّرِيقُ وَاسْتَبَانَ لَهُ الْإِسْنَادُ طَوَى الْأَمْرَ وَعَزَمَ عَلَيْهِ فَقَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِذَا لَمْ يَتَّضِحْ لَهُ الْأَمْرُ نَسَبَهُ إلَى مَنْ سَمِعَهُ لِتَحَمُّلِهِ مَا تَحَمَّلَ عَنْهُ فَعَمَدَ أَصْحَابُ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ فَرَدُّوا أَقْوَى الْأَمْرَيْنِ وَفِيهِ تَعْطِيلُ كَثِيرٍ مِنْ السُّنَنِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَلَمَّا رُوجِعَ قَالَ حَدَّثَنِي بِهِ أَخِي الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ. وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ» الْحَدِيثُ ثُمَّ أَسْنَدَهُ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَسْنَدَهُ إلَى الْفَضْلِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ، وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ مَذْكُورٌ فِيهِ أَيْضًا وَنُعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَّا حَدِيثًا وَاحِدًا، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ سَائِرُ الْجَسَدِ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» ، ثُمَّ كَثُرَتْ رِوَايَتُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُرْسَلًا وَلَمَّا أَرْسَلَ هَؤُلَاءِ وَقَبِلَ الصَّحَابَةُ مَرَاسِيلَهُمْ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ إنْكَارُ ذَلِكَ وَتَفَحَّصَ أَنَّهُمْ رَوَوْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ صَارَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ وَوُجُوبِ قَبُولِهِ. (فَإِنْ قِيلَ) نَحْنُ نُسَلِّمُ ذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ وَنَقْبَلُ مَرَاسِيلَهُمْ لِثُبُوتِ عَدَالَتِهِمْ قَطْعًا بِالنُّصُوصِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَنْ بَعْدَهُمْ (قُلْنَا) لَا فَرْقَ بَيْنَ صَحَابِيٍّ يُرْسِلُ وَتَابِعِيٍّ يُرْسِلُ؛ لِأَنَّ عَدَالَتَهُمْ ثَبَتَتْ بِشَهَادَةِ الرَّسُولِ أَيْضًا خُصُوصًا إذَا كَانَ الْإِرْسَالُ مِنْ وُجُوهِ التَّابِعِينَ مِثْلُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَبَعْضِ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، وَمِثْلُ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَمَكْحُولٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُرْسِلُونَ وَلَا يُظَنُّ بِهِمْ إلَّا الصِّدْقُ، وَقَالَ الْحَسَنُ كُنْت إذَا اجْتَمَعَ لِي أَرْبَعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى حَدِيثٍ أَرْسَلْته إرْسَالًا وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَتَى قُلْت لَكُمْ حَدَّثَنِي فُلَانٌ فَهُوَ حَدِيثُهُ لَا غَيْرُ وَمَتَى قُلْت قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعْته مِنْ سَبْعِينَ أَوْ أَكْثَرَ، وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ مَا كُنَّا نُسْنِدُ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ، وَقَالَ الْأَعْمَشُ قُلْت لِإِبْرَاهِيمَ إذَا رَوَيْت لِي حَدِيثًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فَأَسْنِدْهُ لِي فَقَالَ: إذَا قُلْت لَك حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فَهُوَ الَّذِي رَوَى لِي ذَلِكَ، وَإِذَا قُلْت لَك قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَقَدْ رَوَاهُ لِي غَيْرُ وَاحِدٍ ثُمَّ تَقُولُ: إرْسَالُ هَؤُلَاءِ الْكِبَارِ، إمَّا أَنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ سَمَاعِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ عِنْدَهُمْ أَوْ بِاعْتِبَارِ سَمَاعِهِمْ مِنْ عَدْلٍ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ أَوْ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ كَالْمُسْنَدِ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ مَنْ يَسْتَجِيزُ الرِّوَايَةَ مِمَّنْ يَعْرِفُهُ غَيْرُ عَدْلٍ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ مُرْسَلًا وَلَا مُسْنَدًا وَلَا يُظَنُّ بِهِمْ هَذَا وَالثَّانِي بَاطِلٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ بِأَنَّهُمْ كَتَمُوا مَوْضِعَ الْحُجَّةِ بِتَرْكِ الْإِسْنَادِ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ الْحُجَّةَ لَا تَقُومُ بِدُونِهِ فَتَعَيَّنَ الثَّالِثُ وَهُمْ أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ كَالْمُسْنَدِ وَمَا قِيلَ إنَّهُمْ أَرْسَلُوا لِيَطْلُبَ ذَلِكَ فِي الْمَسَانِيدِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُقَالَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ إسْنَادُ ذَلِكَ أَوْ كَانَ وَلَمْ يَذْكُرُوا وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ بِأَنَّهُمْ تَقَوَّلُوا مَا لَمْ يَسْمَعُوا لِيَطْلُبَ ذَلِكَ فِي الْمَسْمُوعَاتِ وَلَا يُظَنُّ هَذَا بِمَنْ دُونَهُمْ فَكَيْفَ بِهِمْ وَالثَّانِي كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ عِنْدَهُمْ الْإِسْنَادُ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ الْحُجَّةَ لَا تَقُومُ بِدُونِهِ فَلَيْسَ فِي تَرْكِهِ إلَّا الْقَصْدُ إلَى إتْعَابِ النَّفْسِ بِالطَّلَبِ وَلَوْ قَالَ مَنْ لَا يَرَى الِاحْتِجَاجَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إنَّهُمْ إنَّمَا رَوَوْا ذَلِكَ لِيَطْلُبَ ذَلِكَ فِي الْمُتَوَاتِرِ لَا يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ مَقْبُولًا مِنْهُ بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَلِكَ هَذَا وَذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ إنَّا أَجْمَعْنَا أَنَّ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ إنَّمَا قُبِلَتْ لِكَوْنِهِمْ عُدُولًا لَا لِكَوْنِهِمْ صَحَابَةً كَمَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ وَصَارَ إجْمَاعُهُمْ حُجَّةً لِذَلِكَ ثُمَّ شَهَادَةُ غَيْرِهِمْ مِنْ الْعُدُولِ مَقْبُولَةٌ وَإِجْمَاعُ كُلِّ عَصْرٍ حُجَّةٌ لِوُجُودِ الْعَدَالَةِ فَوَجَبَ قَبُولُ إرْسَالِهِمْ أَيْضًا لِوُجُودِ الْعِلَّةِ، وَالثَّانِي أَنَّ مِنْ زَمَانِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا يُرْسِلُونَ مِنْ غَيْرِ تَحَاشٍ وَامْتِنَاعٍ وَمَلَؤُا الْكُتُبَ

إلَّا أَنَّا أَخَّرْنَاهُ مَعَ هَذَا عَنْ الْمَشْهُورِ؛ لِأَنَّ هَذَا ضَرْبُ مَزِيَّةٍ لِلْمَرَاسِيلِ بِالِاجْتِهَادِ فَلَمْ يَجُزْ النَّسْخُ بِمِثْلِهِ بِخِلَافِ الْمُتَوَاتِرِ وَالْمَشْهُورِ فَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الْجَهَالَةَ تُنَافِي شُرُوطَ الْحُجَّةِ فَغَلَطٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَرْسَلَ إذَا كَانَ ثِقَةً تُقْبَلُ إسْنَادُهُ لَمْ يُتَّهَمْ بِالْغَفْلَةِ عَنْ حَالِ مَنْ سَكَتَ عَنْ ذِكْرِهِ وَإِنَّمَا عَلَيْنَا تَقْلِيدُ مَنْ عَرَفْنَا عَدَالَتَهُ لَا مَعْرِفَةَ مَا أَبْهَمَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ الْمَرَاسِيلِ وَلَمْ يَرَوْا أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأُمَّةِ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَزَلْ الْعُلَمَاءُ مِنْ سَلَفِهِمْ وَخَلَفِهِمْ يَقُولُونَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ كَذَا وَقَالَ فُلَانٌ كَذَا وَلَوْ كَانَ الْمُرْسَلُ مَرْدُودًا لَامْتَنَعُوا مِنْ رِوَايَتِهِ وَلَمْ يُقِرُّوا عَلَيْهِ فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى قَبُولِهِ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَالْإِسْنَادُ فِي قَوْلِهِ لَوْ أُسْنِدَ عَنْ غَيْرِهِ ضَمِنَ مَعْنَى الرِّوَايَةِ فَعَدَّى بِكَلِمَةِ عَنْ عَزَمَ عَلَيْهِ أَيْ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ وَحَكَمَ بِثُبُوتِهِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَعَمَدَ بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ قَصَدَ يُقَالُ عَمَدْت لِلشَّيْءِ أَعْمِدُ عَمْدًا إذَا قَصَدَ لَهُ أَيْ تَعَمَّدْت، وَهُوَ نَقِيضُ الْخَطَاءِ أَقْوَى الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ الْمُرْسَلُ وَالْأَمْرَانِ الْمُسْنَدُ وَالْمُرْسَلُ وَفِيهِ أَيْ فِي رَدِّ الْمُرْسَلِ تَعْطِيلُ كَثِيرٍ مِنْ السُّنَنِ؛ فَإِنَّ الْمَرَاسِيلَ جُمِعَتْ فَبَلَغَتْ قَرِيبًا مِنْ خَمْسِينَ جُزْءًا وَهَذَا تَشْنِيعٌ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ وَانْتَصَبُوا لِحِيَازَةِ الْأَحَادِيثِ وَالْعَمَلِ بِهَا، ثُمَّ رَدُّوا مِنْهَا مَا هُوَ أَقْوَى أَقْسَامِهَا مَعَ كَثْرَتِهِ فِي نَفْسِهِ فَكَانَ هَذَا تَعْطِيلًا لِلسُّنَنِ وَتَضْيِيعًا لَهَا لَا حِفْظًا لَهَا وَإِحَاطَةً بِهَا، ثُمَّ الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ يُشِيرُ إلَى تَرْجِيحِ الْمُرْسَلِ عَلَى الْمُسْنَدِ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ، وَقَدْ نَصَّ الشَّيْخُ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ تَصَانِيفِهِ أَيْضًا فَقَالَ الْمُرْسَلُ عِنْدَنَا مِثْلُ الْمُسْنَدِ الْمَشْهُورِ وَفَوْقَ الْمُسْنَدِ الْوَاحِدِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الَّذِينَ جَعَلُوا الْمَرَاسِيلَ حُجَّةً اخْتَلَفُوا عِنْدَ تَعَارُضِ الْمُرْسَلِ وَالْمُسْنَدِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ فَذَهَبَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ إلَى تَرْجِيحِ الْمُرْسَلِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ كَلَامِهِ وَذَهَبَ عَبْدُ الْجَبَّارِ إلَى أَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ وَذَهَبَ الْبَاقُونَ إلَى تَرْجِيحِ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُرْسَلِ لِتَحَقُّقِ الْمَعْرِفَةِ بِرُوَاةِ الْمُسْنَدِ وَعَدَالَتِهِمْ دُونَ رُوَاةِ الْمُرْسَلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ رِوَايَةَ مَنْ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ أَوْلَى مِمَّنْ لَا يُعْرَفُ عَدَالَتُهُ وَلَا نَفْسُهُ وَتَمَسَّكَ مَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْإِرْسَالَ لَا يُمْكِنُ إجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْجَزْمَ بِصِحَّةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَذَا، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنِّي أَظُنُّ أَنَّهُ قَالَ كَذَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مِثْلَ الْإِسْنَادِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِسْنَادِ هَذَا أَيْضًا. فَإِنْ قَالَ الرَّاوِي إذَا أَرْسَلْت الْحَدِيثَ فَقَدْ حَدَّثْته عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الثِّقَاتِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُرْسَلُهُ أَقْوَى مِنْ حَدِيثٍ أَسْنَدَهُ إلَى وَاحِدٍ لِأَجْلِ الْكَثْرَةِ. وَاحْتَجَّ مَنْ رَجَّحَ الْمُرْسَلَ بِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ. قَوْلُهُ (إلَّا أَنَّا أَخَّرْنَاهُ) اسْتِثْنَاءٌ بِمَعْنَى لَكِنَّ وَجَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَمَّا كَانَ الْمُرْسَلُ عِنْدَكُمْ فَوْقَ الْمُسْنَدِ كَانَ مِثْلَ الْمَشْهُورِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ الزِّيَادَةُ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ كَمَا يَجُوزُ بِالْمَشْهُورِ، فَقَالَ هَذِهِ مَزِيَّةٌ ثَبَتَتْ لِلْمَرَاسِيلِ بِالِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ فَيَكُونُ مِثْلَ قُوَّةٍ ثَبَتَتْ بِالْقِيَاسِ وَقُوَّةُ الْمَشْهُورِ ثَبَتَتْ بِالتَّنْصِيصِ وَمَا ثَبَتَتْ بِالتَّنْصِيصِ فَوْقَ مَا ثَبَتَتْ بِالرَّأْيِ فَلَا يَكُونُ الْمُرْسَلُ مِثْلَ الْمَشْهُورِ فَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ بِهِ. قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا عَلَيْنَا تَقْلِيدُ مَنْ عَرَفْنَا عَدَالَتَهُ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ مَا ذَكَرْتُمْ لَا يَكْفِي لِلتَّعْدِيلِ؛ لِأَنَّ الرَّاوِيَ سَاكِتٌ عَنْ الْجُرْحِ وَلَوْ كَانَ السُّكُوتُ عَنْ الْجُرْحِ تَعْدِيلًا لَكَانَ السُّكُوتُ عَنْ التَّعْدِيلِ جُرْحًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَالَ الْوَاجِبُ عَلَيْنَا تَقْلِيدُ مَنْ عَرَفْنَا عَدَالَتَهُ، وَهُوَ الْمُرْسِلُ لَا اتِّبَاعُ مَنْ أَبْهَمَهُ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ وَالْمُرْسِلُ عَدْلٌ فَلَا يُتَّهَمُ بِالْغَفْلَةِ عَنْ حَالِ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ، وَمَا ذَكَرُوا أَنَّ الْعُدُولَ قَدْ نَقَلُوا عَنْ الْمَجْرُوحِينَ فَكَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُمْ نَبَّهُوا عَلَى جُرْحِهِمْ وَأَخْبَرُوا عَنْ حَالِهِمْ، فَأَمَّا إنْ سَكَتُوا بَعْدَ الرِّوَايَةِ عَنْ حَالِهِمْ فَلَا وَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِمْ ذَلِكَ وَفِيهِ تَلْبِيسُ الْأَمْرِ عَلَى الْمَرْوِيِّ لَهُ وَتَحْمِيلٌ لَهُ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ

أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَثْنَى عَلَى مَنْ أَسْنَدَ إلَيْهِ خَيْرًا وَلَمْ يَعْرِفْهُ بِمَا يَقَعُ لَنَا الْعِلْمُ بِهِ صَحَّتْ رِوَايَتُهُ فَكَذَلِكَ هَذَا. ـــــــــــــــــــــــــــــQكَمَا بَيَّنَّا وَمَا ذَكَرُوا مِنْ الِاحْتِمَالَاتِ الْأُخَرِ لَيْسَ بِمَانِعٍ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْعَنْعَنَةَ كَافِيَةٌ فِي الرِّوَايَةِ وَتِلْكَ الِاحْتِمَالَاتُ مَوْجُودَةٌ فِيهَا؛ فَإِنَّ مَنْ قَالَ: رَوَى فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ، يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَع فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ بَلْ بَلَغَهُ بِوَاسِطَةٍ هِيَ مَجْهُولَةٌ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ تِلْكَ الْوَاسِطَةَ لَا يَكُونُ عَدْلًا أَوْ يَكُونُ عَدْلًا عِنْدَ الرَّاوِي غَيْرَ عَدْلٍ عِنْدَ الْمَرْوِيِّ لَهُ وَمَعَ هَذَا يُقْبَلُ بِالْإِجْمَاعِ فَكَذَلِكَ هَذَا. وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ اشْتِرَاطِ انْضِمَامِ بَعْضِ مَا ذَكَرْنَا إلَى الْمُرْسَلِ لِقَبُولِهِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمُنْضَمَّ إلَيْهِ إنْ كَانَ حُجَّةً بِنَفْسِهِ يَكُونُ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِهِ وَلَا يَكُونُ لِلْمُرْسَلِ تَأْثِيرٌ فِي مُقَابَلَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً فَاقْتِرَانُهُ إلَى مَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ لَا يُفِيدُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْضَمَّ مَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ إلَى مَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَيَصِيرُ حُجَّةً كَذَا فِي الْمُعْتَمَدِ. وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الظَّنَّ قَدْ يَحْصُلُ أَوْ يَتَقَوَّى بِانْضِمَامِ مَا لَا يُفِيدُ الظَّنَّ إلَى مِثْلِهِ كَانْضِمَامِ شَاهِدٍ إلَى شَاهِدٍ وَكَانْضِمَامِ أَخْبَارِ آحَادٍ إلَى أَمْثَالِهَا يُفِيدُ الْعِلْمَ. قَوْلُهُ (أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَثْنَى عَلَى مَنْ أَسْنَدَ إلَيْهِ خَيْرًا وَلَمْ يَعْرِفْهُ) يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّاوِيَ إذَا ذَكَرَ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ، وَقَالَ: هُوَ ثِقَةٌ عِنْدِي أَوْ عَدْلٌ لَزِمَ قَبُولُ خَبَرِهِ بِالِاتِّفَاقِ كَذَا فِي الْمُعْتَمَدِ وَالْقَوَاطِعِ وَلَا يَلْزَمُ التَّفَحُّصُ عَنْ حَالِهِ مَعَ احْتِمَالِ أَنَّهُ لَوْ تَفَحَّصَ عَنْهَا يَقِفُ عَلَى بَعْضِ أَسْبَابِ الْجُرْحِ أَوْ يَقِفُ عَلَى مَا لَمْ يَعُدَّهُ الرَّاوِي جُرْحًا، وَهُوَ جُرْحٌ عِنْدَهُ، فَكَذَا هَذَا. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الضَّمِيرُ الْبَارِزُ فِي لَمْ يَعْرِفْهُ رَاجِعًا إلَى الْخَيْرِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّ الرَّاوِيَ إذَا أَبْهَمَ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا بِأَنْ قَالَ حَدَّثَنِي الثِّقَةُ أَوْ سَمِعْته عَنْ عَدْلٍ أَوْ أَخْبَرَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُهُ صَحَّتْ الرِّوَايَةُ وَيَكُونُ الْخَبَرُ مَقْبُولًا، فَكَذَا إذَا أَرْسَلَ يَكُونُ مَقْبُولًا؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ مَعَ السُّكُوتِ عَنْ الطَّعْنِ فِي الْمَرْوِيِّ عَنْهُ تَعْدِيلٌ لَهُ أَيْضًا، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ إلْزَامًا عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ الشَّرْطَ عِنْدَهُمْ أَنْ يُسَمِّيَ الرَّاوِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الرُّوَاةِ بِاسْمِهِ الْمَشْهُورِ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ لِيَثْبُتَ الِاتِّصَالُ فَيَكُونُ هَذَا مِنْ الشَّيْخِ رَدًّا لِلْمُخْتَلِفِ إلَى الْمُخْتَلِفِ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ، أَوْ يَكُونُ إلْزَامًا عَلَى الشَّافِعِيِّ؛ فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ حَدَّثَنِي الثِّقَةُ حَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُهُ ثُمَّ لَمْ يَقْبَلْ الْمُرْسَلَ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَاهُ وَرَأَيْت فِي بَعْضِ كُتُبِهِمْ أَنَّهُ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اُشْتُهِرَ مَنْ عَنَاهُ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْكَلَامِ فَأَرَادَ بِمَنْ يَثِقُ بِهِ إبْرَاهِيمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ وَبِمَنْ لَا يَتَّهِمُهُ يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ فَصَارَتْ الْكِنَايَةُ كَالتَّسْمِيَةِ وَقِيلَ: إنَّهُ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ احْتِجَاجًا لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَقُلْهُ احْتِجَاجًا عَلَى خَصْمِهِ وَلَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا يَثِقُ بِصِحَّتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَخْلُو عَنْ تَكَلُّفٍ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا إلَى مَنْ. وَقَوْلُهُمْ إذَا سَمَّى الْمَرْوِيَّ عَنْهُ وَلَمْ يُعَدِّلْهُ وَبَقِيَ مَجْهُولًا لَمْ يَقْبَلْهُ قُلْنَا عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا: يُقْبَلُ خَبَرُهُ إذَا كَانَ الرَّاوِي عَدْلًا وَيَكُونُ رِوَايَتُهُ مَعَ السُّكُوتِ عَنْ الْجُرْحِ تَعْدِيلًا لَهُ كَمَا لَوْ قَالَ هُوَ عَدْلٌ صَرِيحًا وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُرْسِلَ قَدْ حَكَمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ وَالْعَدْلُ الْمُتَدَيِّنُ لَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ إلَّا إذَا كَانَ مَنْ سَمِعَهُ عَنْهُ ثِقَةً عِنْدَهُ فَيَكُونُ هَذَا تَعْدِيلًا عَنْهُ تَقْدِيرًا بِخِلَافِ مَا إذَا سَمَّاهُ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِذَلِكَ بَلْ يَنْسُبُ ذَلِكَ إلَى الْمُخْبِرِ الَّذِي سَمَّاهُ فَلَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ عَدْلٌ عِنْدَهُ بَلْ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ مَسْتُورًا عِنْدَهُ يَرْوِي عَنْهُ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ حَالِهِ وَفَوَّضَ تَعَرُّفَ حَالِهِ إلَى السَّامِعِ حَقِيقَةً حَيْثُ ذَكَرَ اسْمَهُ

[إرسال كل عدل]

وَأَمَّا إرْسَالُ مَنْ دُونَ هَؤُلَاءِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا يُقْبَلُ إرْسَالُ كُلِّ عَدْلٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يُقْبَلُ أَمَّا وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَمَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الزَّمَانَ زَمَانُ فِسْقٍ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ إلَّا أَنْ يَرْوِيَ الثِّقَاتُ مُرْسَلَهُ كَمَا رَوَوْا مُسْنَدَهُ مِثْلَ إرْسَالِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَمْثَالِهِ. وَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَخِيرُ فَقَدْ رَدَّ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ الِاتِّصَالَ بِالِانْقِطَاعِ وَعَامَّتُهُمْ عَلَى أَنَّ الِانْقِطَاعَ يُجْعَلُ عَفْوًا بِالِاتِّصَالِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. ، وَأَمَّا الِانْقِطَاعُ الْبَاطِلُ فَنَوْعَانِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَقَوْلُهُمْ لَوْ جَازَ الْعَمَلُ بِالْمَرَاسِيلِ لَمْ يَكُنْ لِلِاسْتِيثَاقِ وَالتَّفَحُّصِ عَنْ عَدَالَةِ الرُّوَاةِ فَائِدَةٌ: قُلْنَا: فَائِدَتُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إذَا أَسْنَدَ أَمْكَنَ لِلسَّامِعِ الْفَحْصُ عَنْ عَدَالَتِهِمْ فَيَكُونُ ظَنُّهُ بِعَدَالَتِهِمْ آكَدَ مِنْ ظَنِّهِ بِهَا عِنْدَ الْإِرْسَالِ؛ لِأَنَّ ظَنَّ الْإِنْسَانِ إلَى فَحْصِهِ وَخِبْرَتِهِ أَقْوَى مِنْ طُمَأْنِينَتِهِ إلَى خِبْرَةِ غَيْرِهِ وَهَذَا يَقْتَضِي تَرْجِيحَ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُرْسَلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ يُشْتَبَهُ عَلَيْهِ حَالُ مَنْ أَخْبَرَهُ بِهِ فَلَا يُقْدِمُ عَلَى جُرْحِهِ وَتَزْكِيَتِهِ فَيَذْكُرُهُ لِيَتَفَحَّصَ عَنْهُ غَيْرُهُ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اشْتِغَالُ النَّاسِ بِالْإِسْنَادِ كَاشْتِغَالِهِمْ بِالتَّكَلُّفِ لِسَمَاعِ الْخَبَرِ مِنْ وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ حُجَّةً فَكَذَلِكَ اشْتِغَالُهُمْ بِالْإِسْنَادِ لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمُرْسَلَ لَا يَكُونُ حُجَّةً. [إرْسَالُ كُلِّ عَدْلٍ] قَوْلُهُ (وَأَمَّا إرْسَالُ مَنْ دُونَ هَؤُلَاءِ) أَيْ دُونِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ: يُقْبَلُ إرْسَالُ كُلِّ عَدْلٍ فِي كُلِّ عَصْرٍ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي تُوجِبُ قَبُولَ مَرَاسِيلِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الْعَدَالَةُ وَالضَّبْطُ تَشْمَلُ سَائِرَ الْقُرُونِ، وَقَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ لَا يُقْبَلُ إلَّا مَرَاسِيلُ مَنْ كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ النَّقْلِ مَشْهُورًا بِأَخْذِ النَّاسِ الْعِلْمَ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَكَانَ عَدْلًا لَا يُقْبَلُ مُسْنَدُهُ وَيُوقَفُ مُرْسَلُهُ إلَى أَنْ يُعْرَضَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ: لَا يُقْبَلُ إرْسَالُ مَنْ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ إلَّا إذَا اُشْتُهِرَ بِأَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عَمَّنْ هُوَ عَدْلٌ ثِقَةٌ لِشَهَادَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى مَنْ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ بِالْكَذِبِ بِقَوْلِهِ ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ فَلَا يَثْبُتُ عَدَالَةُ مَنْ كَانَ فِي زَمَنٍ شَهِدَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى أَهْلِهِ بِالْكَذِبِ إلَّا بِرِوَايَةِ مَنْ كَانَ مَعْلُومَ الْعَدَالَةِ بِعِلْمِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ عَدْلٍ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَذَكَرَ فِي الْمُعْتَمَدِ إذَا قَالَ الْإِنْسَانُ فِي عَصْرِنَا: قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَذَا يُقْبَلُ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْخَبَرُ مَعْرُوفًا فِي جُمْلَةِ الْأَحَادِيثِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا لَا يُقْبَلُ لَا لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ بَلْ لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ قَدْ ضُبِطَتْ وَجُمِعَتْ فَمَا لَا يَعْرِفُهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ مِنْهَا فِي وَقْتِنَا هَذَا فَهُوَ كَذِبٌ وَإِنْ كَانَ الْعَصْرُ الَّذِي أُرْسِلَ فِيهِ الْمُرْسَلُ عَصْرًا لَمْ يُضْبَطْ فِيهِ السُّنَنُ قُبِلَ مُرْسَلُهُ. قَوْلُهُ (إلَّا أَنْ يَرْوِيَ الثِّقَاتُ مُرْسَلَهُ كَمَا رَوَوْا مُسْنَدَهُ) بِالْإِضَافَةِ وَالْهَاءُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ لَا يُقْبَلُ وَمَعْنَاهُ لَا يُقْبَلُ مُرْسَلٌ مِنْ بَعْدِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ إلَّا إذَا رَوَى الثِّقَاتُ مُرْسَلَهُ عَنْهُ وَقَبِلُوهُ كَمَا رَوَوْا مُسْنَدَهُ فَحِينَئِذٍ يُقْبَلُ ذَلِكَ الْمُرْسَلُ؛ لِأَنَّ رِوَايَةَ الثِّقَاتِ عَنْهُ وَقَبُولَهُمْ ذَلِكَ الْمُرْسَلَ تَعْدِيلٌ لَهُ وَشَهَادَةٌ عَلَى اتِّصَالِ الْمُرْسَلِ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيُقْبَلُ كَإِرْسَالِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ عِيسَى بْنِ أَبَانَ يُوقَفُ إلَى أَنْ يُعْرَضَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ وَاخْتَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. [الِاتِّصَالَ بِالِانْقِطَاعِ] قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَخِيرُ) وَهُوَ مَا أُرْسِلَ مِنْ وَجْهٍ وَاتَّصَلَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ أَسْنَدَهُ هَذَا الْمُرْسِلُ أَوْ غَيْرُهُ فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ الْمَرَاسِيلَ لَا يَقْبَلُ هَذَا الْخَبَرَ وَإِنْ أَسْنَدَهُ هَذَا الرَّاوِي؛ لِأَنَّ إرْسَالَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ الرَّاوِيَ لِضَعْفٍ فِيهِ فَسَتَرَهُ لَهُ وَالْحَالُ هَذِهِ خِيَانَةٌ مِنْهُ فَلَمْ يُقْبَلْ وَهَذَا لَمْ يَقْبَلْ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ سَائِرَ مَسَانِيدِ هَذَا الْمُرْسَلِ وَجَعَلُوهُ بِالْإِرْسَالِ سَاقِطَ الْحَدِيثِ وَعَامَّتُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ هَذَا الْمُسْنَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَسَانِيدِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ الْحَدِيثَ مُسْنَدًا وَنَسِيَ مَنْ يَرْوِي عَنْهُ، وَقَدْ عَلِمَ

[الانقطاع الباطل]

انْقِطَاعٌ بِالْمُعَارَضَةِ وَانْقِطَاعٌ لِنُقْصَانٍ وَقُصُورٍ فِي النَّاقِلِ أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَإِنَّمَا يَظْهَرُ بِالْعَرْضِ عَلَى الْأُصُولِ فَإِذَا خَالَفَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَانَ مَرْدُودًا مُنْقَطِعًا وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ أَيْضًا مَا خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ وَالثَّانِي مَا خَالَفَ السُّنَّةَ الْمَعْرُوفَةَ وَالثَّالِثُ مَا شَذَّ مِنْ الْحَدِيثِ فِيمَا اُشْتُهِرَ مِنْ الْحَوَادِثِ وَعَمَّ بِهِ الْبَلْوَى فَوَرَدَ مُخَالِفًا لِلْجَمَاعَةِ. وَالرَّابِعُ أَنْ يَعْرِضَ عَنْهُ الْأَئِمَّةُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْكِتَابَ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ فَلَا يُتْرَكُ بِمَا فِيهِ شُبْهَةٌ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ وَالنَّصُّ وَالظَّاهِرُ، حَتَّى إنَّ الْعَامَّ مِنْ الْكِتَابِ لَا يُخَصُّ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا يُزَادُ عَلَى الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عِنْدَنَا وَلَا يُتْرَكُ الظَّاهِرُ مِنْ الْكِتَابِ وَلَا يُنْسَخُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ نَصًّا؛ لِأَنَّ الْمَتْنَ أَصْلٌ وَالْمَعْنَى فَرْعٌ لَهُ وَالْمَتْنُ مِنْ الْكِتَابِ فَوْقَ الْمَتْنِ مِنْ السُّنَّةِ لِثُبُوتِهِ ثُبُوتًا بِلَا شُبْهَةٍ فِيهِ فَوَجَبَ التَّرْجِيحُ بِهِ قَبْلَ الْمَصِيرِ إلَى الْمَعْنَى ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّهُ سَمِعَهُ مُسْنَدًا مُتَّصِلًا فَأَرْسَلَهُ اعْتِمَادًا عَلَيْهِ ثُمَّ تَذَكَّرَهُ فَأَسْنَدَهُ ثَانِيًا أَوْ كَانَ ذَاكِرًا لِلْإِسْنَادِ فَأَسْنَدَهُ ثُمَّ نَسِيَ مَنْ يَرْوِي عَنْهُ فَأَرْسَلَهُ ثَانِيًا فَلَا يَقْدَحُ إرْسَالُهُ فِي إسْنَادِهِ وَلَكِنْ إنَّمَا يُقْبَلُ إسْنَادُهُ عِنْدَهُمْ إذَا أَتَى بِلَفْظٍ صَرِيحٍ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ حَدَّثَنِي فُلَانٌ أَوْ سَمِعْت فُلَانًا وَلَا يُقْبَلُ إذَا أَتَى بِلَفْظٍ مُوهِمٍ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ عَنْ فُلَانٍ وَنَحْوِهِ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْضًا إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْمُعْتَمَدِ. ، وَأَمَّا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الصَّلَاحِ فِي كِتَابِ مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ عِلْمِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ بَعْضُ الثِّقَاتِ مُرْسَلًا وَبَعْضُهُمْ مُتَّصِلًا مِثْلُ حَدِيثِ «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» رَوَاهُ إسْرَائِيلُ بْنُ يُونُسَ فِي أُخْرَى عَنْ جَدِّهِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْنَدًا هَكَذَا مُتَّصِلًا، وَرَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَشُعْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَحَكَى الْخَطِيبُ الْحَافِظُ أَنَّ أَكْثَرَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ يَرَوْنَ الْحُكْمَ فِي هَذَا وَأَشْبَاهِهِ لِلْمُرْسَلِ وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْحُكْمَ لِلْأَحْفَظِ فَإِذَا كَانَ مَنْ أَرْسَلَهُ أَحْفَظَ مِمَّنْ وَصَلَهُ فَالْحُكْمُ لِمَنْ أَرْسَلَهُ لَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي عَدَالَةِ مَنْ وَصَلَهُ وَأَهْلِيَّتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ مَنْ أَسْنَدَ حَدِيثًا قَدْ أَرْسَلَهُ الْحَافِظُ فَإِرْسَالُهُمْ لَهُ يَقْدَحُ فِي مُسْنَدِهِ وَفِي عَدَالَتِهِ وَأَهْلِيَّتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْحُكْمُ مَنْ أَسْنَدَهُ إذَا كَانَ ضَابِطًا عَدْلًا فَيُقْبَلُ خَبَرُهُ وَإِنْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْمُخَالِفُ لَهُ وَاحِدًا أَوْ جَمَاعَةً قَالَ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ الْمَأْخُوذُ فِي الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ وَيَلْتَحِقُ بِهَذَا مَا إذَا كَانَ الَّذِي وَصَلَهُ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَهُ، وَهَكَذَا إذَا رَفَعَ بَعْضُهُمْ الْحَدِيثَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَقَفَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الصَّحَابِيِّ أَوْ رَفَعَهُ وَاحِدٌ فِي وَقْتٍ وَوَقَفَهُ هُوَ أَيْضًا فِي وَقْتٍ آخَرَ فَالْحُكْمُ عَلَى الْأَصَحِّ لِمَا زَادَهُ الثِّقَةُ مِنْ الْوَصْلِ وَالرَّفْعِ. فَوَجْهُ عَدَمِ الْقَبُولِ أَنَّ الرَّاوِيَ لَمَّا سَكَتَ عَنْ تَسْمِيَتِهِ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْجُرْحِ فِيهِ وَإِسْنَادُ الْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ التَّعْدِيلِ، وَإِذَا اسْتَوَى الْجُرْحُ وَالتَّعْدِيلُ يَغْلِبُ الْجُرْحُ لِمَا عُرِفَ. وَوَجْهُ الْقَبُولِ أَنَّ عَدَالَةَ الْمُسْنِدِ يَقْتَضِي قَبُولَ الْخَبَرِ وَلَيْسَ فِي إرْسَالِ مَنْ أَرْسَلَهُ مَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يُقْبَلَ إسْنَادُ مَنْ يُسْنِدُهُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ أَرْسَلَهُ سَمِعَهُ مُرْسَلًا أَوْ نَسِيَ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ كَمَا ذَكَرْنَا وَمَنْ أَسْنَدَهُ سَمِعَهُ مُسْنَدًا فَلَا يَقْدَحُ إرْسَالُهُ فِي إسْنَادِ الْآخَرِ وَلِأَنَّ الْمُسْنَدَ مُثْبِتٌ وَالْمُرْسَلَ سَاكِتٌ وَلَوْ كَانَ نَافِيًا فَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ مَا خَفَى عَلَيْهِ. [الِانْقِطَاعُ الْبَاطِلُ] قَوْلُهُ (انْقِطَاعٌ بِالْمُعَارَضَةِ) ، وَهُوَ أَنْ تُعَارِضَ الْخَبَرَ دَلِيلٌ أَقْوَى مِنْهُ يَمْنَعُ ثُبُوتَ حُكْمِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَارَضَهُ مَا هُوَ فَوْقَهُ سَقَطَ حُكْمُهُ؛ لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ فِي مُقَابَلَةِ الْغَالِبِ سَاقِطٌ فَيَنْقَطِعُ مَعْنًى ضَرُورَةً لِنُقْصَانٍ وَقُصُورٍ فِي النَّاقِلِ بِفَوَاتِ بَعْضِ شَرَائِطِهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْ الْعَدَالَةِ وَالْإِسْلَامِ وَالضَّبْطِ وَالْعَقْلِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَيْ مِمَّا يَعْرِضُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْأُصُولُ، وَذَلِكَ أَيْ الِانْقِطَاعُ الْمَعْنَوِيُّ الْحَاصِلُ بِمُخَالَفَةِ الْأُصُولِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ أَيْضًا كَالِانْقِطَاعِ الظَّاهِرِ السُّنَّةُ الْمَعْرُوفَةُ أَيْ الْمَشْهُورَةُ أَوْ الْمُتَوَاتِرَةُ مُخَالِفًا لِلْجَمَاعَةِ أَيْ لِقَوْلِ الْجَمَاعَةِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِقَوْلِهِمْ لَصَارَ مِثْلَ الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ بِمُوَافَقَتِهِمْ عَلَى مَا بَيَّنَّا. قَوْلَهُ (وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ) اعْلَمْ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا وَرَدَ مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى الْعَقْلِ. فَإِنْ أَمْكَنَ تَأْوِيلُهُ مِنْ غَيْرِ تَعَسُّفٍ يُقْبَلُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَأْوِيلُهُ إلَّا بِتَعَسُّفٍ لَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ التَّأْوِيلُ مَعَ التَّعَسُّفِ لَبَطَلَ التَّنَاقُضُ مِنْ الْكَلَامِ كُلِّهِ وَيَجِبُ فِيمَا لَا يُمْكِنُ تَأْوِيلُهُ الْقَطْعُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَقُلْهُ إلَّا حِكَايَةً عَنْ الْغَيْرِ أَوْ مَعَ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِنَصِّ الْكِتَابِ أَوْ لِلسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ أَوْ لِلْإِجْمَاعِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ قَطْعِيَّةٌ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ ظَنِّيٌّ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْقَطْعِيِّ وَالظَّنِّيِّ بِوَجْهٍ بَلْ الظَّنِّيُّ يَسْقُطُ بِمُقَابَلَةِ الْقَطْعِيِّ فَإِنْ خَالَفَ خَبَرُ الْوَاحِدِ عُمُومَ الْكِتَابِ أَوْ ظَاهِرَهُ فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ فَعِنْدَنَا لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ وَتَرْكُ الظَّاهِرِ وَحَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَمَا لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْخَاصِّ وَالنَّصِّ مِنْ الْكِتَابِ بِهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ أَيْ فِي عَدَمِ جَوَازِ التَّرْكِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ وَالنَّصُّ وَالظَّاهِرُ حَتَّى إنَّ الْعَامَّ مِنْ الْكِتَابِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] لَا يُخَصُّ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْحَرَمُ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ» وَلَا يُتْرَكُ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ وَشَرْطُهُ شَرْطُ الصَّلَاةِ» وَلَا ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الْآيَةُ بِحَدِيثِ التَّسْمِيَةِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَعَامَّةِ الْأُصُولِيِّينَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِهِ وَيَثْبُتُ التَّعَارُضُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ظَاهِرِ الْكِتَابِ، وَعُمُومَاتُهُ لَا تُوجِبُ الْيَقِينَ عِنْدَهُمْ وَإِنَّمَا تُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ فَيَجُوزُ تَخْصِيصُهَا وَمُعَارَضَتُهَا بِهِ عِنْدَهُمْ. وَعِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ مَشَايِخِنَا وَالْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لِمَا أَفَادَتْ عُمُومَاتُ الْكِتَابِ وَظَوَاهِرُ الْيَقِينِ كَالنُّصُوصِ وَالْخُصُوصَاتُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا وَمُعَارَضَتُهَا بِهِ فَأَمَّا عِنْدَ مَنْ جَعَلَهَا ظَنِّيَّةً مِنْ مَشَايِخِنَا مِثْلَ الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ مَشَايِخِ سَمَرْقَنْدَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجُوزَ تَخْصِيصُهَا بِهِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ، وَالْأَوْجَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ فَوْقَ الِاحْتِمَالِ فِي الْعَامِّ وَالظَّاهِرِ مِنْ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِيهِمَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَهُوَ احْتِمَالُ إرَادَةِ الْبَعْضِ مِنْ الْعُمُومِ وَإِرَادَةُ الْمَجَازِ مِنْ الظَّاهِرِ وَلَكِنْ لَا شُبْهَةَ فِي ثُبُوتِ مَتْنِهِمَا أَيْ نَظْمِهِمَا وَعِبَارَتِهِمَا وَالشُّبْهَةُ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي ثُبُوتِ مَتْنِهِ وَمَعْنَاهُ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ الظَّوَاهِرِ فَظَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ نَصًّا فِي مَعْنَاهُ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى مُودَعٌ فِي اللَّفْظِ وَتَابِعٌ لَهُ فِي الثُّبُوتِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ الْمَتْنُ أَصْلٌ وَالْمَعْنَى فَرْعٌ لَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُؤَثِّرَ الشُّبْهَةُ الْمُتَمَكِّنَةُ فِي اللَّفْظِ فِي ثُبُوتِ مَعْنَاهُ ضَرُورَةً، وَلِهَذَا لَا يَكْفُرُ مُنْكِرُ لَفْظِهِ وَلَا مُنْكِرُ مَعْنَاهُ بِخِلَافِ مُنْكِرِ الظَّاهِرِ وَالْعَامِّ مِنْ الْكِتَابِ؛ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَرْجِيحُ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى ظَاهِرِ الْكِتَابِ وَلَا تَخْصِيصُ عُمُومِهِ بِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الْأَقْوَى بِمَا هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَإِنْ قِيلَ إنَّ الصَّحَابَةَ خَصُّوا قَوْله تَعَالَى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا مِيرَاثَ لِقَاتِلٍ» وقَوْله تَعَالَى {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى» وقَوْله تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا» فِي شَوَاهِدَ لَهَا كَثِيرَةٍ فَثَبَتَ أَنَّ تَخْصِيصَ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ جَائِزٌ. قُلْنَا: هَذِهِ أَحَادِيثُ مَشْهُورَةٌ يَجُوزُ الزِّيَادَةُ بِمِثْلِهَا عَلَى

وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «تَكْثُرُ لَكُمْ الْأَحَادِيثُ مِنْ بَعْدِي فَإِذَا رُوِيَ لَكُمْ عَنِّي حَدِيثٌ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى فَاقْبَلُوهُ وَمَا خَالَفَهُ فَرَدُّوهُ» فَلِذَلِكَ نَقُولُ: إنَّهُ لَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِي نَسْخِ الْكِتَابِ وَيُقْبَلُ فِيمَا لَيْسَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْسَخُهُ وَمَنْ رَدَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ فَقَدْ أَبْطَلَ الْحُجَّةَ فَوَقَعَ فِي الْعَمَلِ بِالشُّبْهَةِ وَهُوَ الْقِيَاسُ أَوْ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ الَّذِي لَيْسَ بِحُجَّةٍ أَصْلًا وَمَنْ عَمِلَ بِالْآحَادِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ وَنَسْخِهِ فَقَدْ أَبْطَلَ الْيَقِينَ وَالْأَوَّلُ فَتْحُ بَابِ الْجَهْلِ وَالْإِلْحَادِ. وَالثَّانِي فَتْحُ بَابِ الْبِدْعَةِ وَإِنَّمَا سَوَاءُ السَّبِيلِ فِيمَا قَالَهُ أَصْحَابُنَا فِي تَنْزِيلِ كُلٍّ مَنْزِلَتَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْكِتَابِ وَلَا كَلَامَ فِيهَا إنَّمَا الْكَلَامُ فِي خَبَرٍ شَاذٍّ خَالَفَ عُمُومَ الْكِتَابِ هَلْ يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرْتُمْ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ أَنَّ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَأُسَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رَوَوْا خَبَرَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ وَلَمْ يَخُصُّوا بِهِ قَوْله تَعَالَى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] حَتَّى قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي صَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ حَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ. قَوْلُهُ (وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَكْثُرُ لَكُمْ الْأَحَادِيثُ) الْحَدِيثُ أَهْلُ الْحَدِيثِ طَعَنُوا فِيهِ وَقَالُوا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ يَزِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ عَنْ ثَوْبَانَ وَيَزِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ مَجْهُولٌ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ سَمَاعٌ عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ الرَّحَبِيِّ عَنْ ثَوْبَانَ فَكَانَ مُنْقَطِعًا أَيْضًا فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَحُكِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ قَالَ هَذَا حَدِيثٌ وَضَعَتْهُ الزَّنَادِقَةُ، وَهُوَ عِلْمُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ وَتَزْكِيَةُ الرُّوَاةِ عَلَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ أَيْضًا، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] فَيَكُونُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ سَاقِطًا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُهُ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِهِ، وَهُوَ الطَّوْدُ الْمُتَّبَعُ فِي هَذَا الْفَنِّ وَإِمَامُ أَهْلِ هَذِهِ الصَّنْعَةِ فَكَفَى بِإِيرَادِهِ دَلِيلًا عَلَى صِحَّتِهِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى طَعْنِ غَيْرِهِ بَعْدُ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَبُولِ بِالْكِتَابِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِيمَا تَحَقَّقَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالسَّمَاعِ مِنْهُ أَوْ بِالتَّوَاتُرِ وَوُجُوبِ الْعَرْضِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِيمَا تَرَدَّدَ ثُبُوتُهُ مِنْ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذْ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ إذَا رُوِيَ لَكُمْ عَنِّي حَدِيثٌ فَلَا يَكُونُ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِلْكِتَابِ بِوَجْهٍ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْآيَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا أَعْطَاكُمْ الرَّسُولُ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَاقْبَلُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ أَيْ عَنْ أَخْذِهِ فَانْتَهُوا، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ هُوَ الْغُلُولُ، وَقَدْ تَأَيَّدَ هَذَا الْحَدِيثُ بِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ «مَا حُدِّثْتُمْ عَنِّي مِمَّا تَعْرِفُونَ فَصَدِّقُوا بِهِ وَمَا حُدِّثْتُمْ عَنِّي مِمَّا تُنْكِرُونَ فَلَا تُصَدِّقُوا فَإِنِّي لَا أَقُولُ الْمُنْكَرَ» وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالْعَرْضِ عَلَى الْكِتَابِ. وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِأَنَّ تَرْكَ الْكِتَابِ لَا يَجُوزُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ يَقُولُ لَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِي نَسْخِ الْكِتَابِ وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ فِي النَّسْخِ صُورَةً وَمَعْنًى؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ لَا يَجُوزُ رَفْعُهُ بِالدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ لِاشْتِرَاطِ الْمُمَاثَلَةِ فِي النَّسْخِ، وَأَمَّا النَّسْخُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْمُخَالِفِ يَجُوزُ عَلَى أَنَّهُ بَيَانٌ لَا عَلَى أَنَّهُ نَسْخٌ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَيُقْبَلُ فِيمَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْسَخُهُ أَيْ يُعْمَلُ بِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُؤَدِّي إلَى النَّسْخِ فَإِذَا أَدَّى إلَيْهِ يُتْرَكُ مِثَالُ الْأَوَّلِ حَدِيثُ حِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا يَقْتَضِي نَسْخَ ظَاهِرِ الْكِتَابِ فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ وَلَا يُقْبَلُ أَصْلًا. وَمِثَالُ الثَّانِي خَبَرُ تَعْيِينِ الْفَاتِحَةِ وَتَعْدِيلِ الْأَرْكَانِ وَوُجُوبِ الطَّهَارَةِ فِي الطَّوَافِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فِيمَا لَا يُؤَدِّي إلَى نَسْخِ الْكِتَابِ فَيُشْتَرَطُ التَّعْيِينُ وَالتَّعْدِيلُ وَالطَّهَارَةُ عَلَى وَجْهٍ يَتَحَقَّقُ النُّقْصَانُ بِفَوَاتِهَا فِي الْعِبَادَةِ وَلَمْ يَفُتْ أَصْلُ الْجَوَازِ إذْ لَوْ فَاتَ لَأَدَّى إلَى نَسْخِ الْكِتَابِ وَمَنْ أَرَادَ أَخْبَارَ الْآحَادِ فَقَدْ أَبْطَلَ الْحُجَّةَ لِمَا مَرَّ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مِنْ حِجَجِ الشَّرْعِ فَوَقَعَ فِي الْعَمَلِ بِالشُّبْهَةِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِي الْقِيَاسِ فِي أَصْلِهِ بِحَيْثُ لَا يَخْلُو عَنْهَا وَفِي الْخَبَرِ عَارِضٌ أَوْ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ الَّذِي لَيْسَ بِحُجَّةٍ أَصْلًا ثُمَّ بَعْضُ مَنْ رَدَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ

وَمِثَالُ هَذَا مَسُّ الذَّكَرِ أَنَّهُ يُخَالِفُ الْكِتَابَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَحَ الْمُتَطَهِّرِينَ بِالِاسْتِنْجَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108] وَالْمُسْتَنْجِي يَمَسُّ ذَكَرَهُ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَوْلِ عِنْدَ مَنْ جَعَلَهُ حَدَثًا وَمِثْلُ حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ الَّذِي رَوَيْنَاهُ فِي النَّفَقَةِ أَنَّهُ يُخَالِفُ الْكِتَابَ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] الْآيَةُ. وَمَعْنَاهُ وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ، وَقَدْ قُلْنَا: إنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْكِتَابِ أَحَقُّ مِنْ نَصِّ الْآحَادِ وَكَذَلِكَ مِمَّا خَالَفَ الْكِتَابَ مِنْ السُّنَنِ أَيْضًا حَدِيثُ الْقَضَاءِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ بِنَوْعَيْنِ بِرَجُلَيْنِ بِقَوْلِهِ {مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] وَبِقَوْلِهِ {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] وَمِثْلُ هَذَا إنَّمَا يُذْكَرُ لِقَصْرِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَمِلَ بِالْقِيَاسِ عِنْدَ وُقُوعِ الْحَادِثَةِ وَبَعْضُهُمْ رَدَّ الْقِيَاسَ أَصْلًا وَعَمِلَ بِالِاسْتِصْحَابِ فِي الْحَوَادِثِ فَالشَّيْخُ أَشَارَ إلَى فَسَادِ الْمَذْهَبَيْنِ جَمِيعًا، فَقَدْ أَبْطَلَ الْيَقِينَ يَعْنِي بِمَا فِيهِ شُبْهَةٌ وَالْأَوَّلُ فَتْحُ بَابِ الْجَهْلِ وَالْإِلْحَادِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْحُجَّةِ وَالْأَخْذَ بِالشُّبْهَةِ أَوْ بِمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عُدُولٌ عَنْ الصَّوَابِ وَمَنْشَؤُهُ الْجَهْلُ، وَالثَّانِي: وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْآحَادِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ وَنَسْخِهِ فَتْحُ بَابِ الْبِدْعَةِ؛ لِأَنَّ السَّلَفَ لَمْ يَعْمَلُوا بِالْآحَادِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ عَلَى مَا حَكَيْنَا مِنْ قَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا بِكَذَا. قَوْلُهُ (وَمِثَالُ هَذَا) أَيْ مِثَالُ الِانْقِطَاعِ بِمُخَالَفَةِ الْكِتَابِ حَدِيثُ مَسِّ الذَّكَرِ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَحَ الْمُتَطَهِّرِينَ بِالِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108] فَإِنَّهُ نَزَلَ فِيهِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ نَزَلَتْ الْآيَةُ مَشَى إلَى مَسْجِدِ قُبَاءَ فَإِذَا الْأَنْصَارُ جُلُوسٌ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ إنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَثْنَى عَلَيْكُمْ فَمَا الَّذِي تَصْنَعُونَ عِنْدَ الْوُضُوءِ وَعِنْدَ الْغَائِطِ؟ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نُتْبِعُ الْغَائِطَ الْأَحْجَارَ الثَّلَاثَةَ ثُمَّ نُتْبِعُ الْأَحْجَارَ الْمَاءَ فَتَلَا النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108] » وَالِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِمَسِّ الْفَرْجَيْنِ جَمِيعًا، وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّهُ مِنْ التَّطَهُّرِ فَلَوْ جُعِلَ الْمَسُّ حَدَثًا لَا يُتَصَوَّرَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِنْجَاءُ تَطَهُّرًا؛ لِأَنَّ التَّطَهُّرَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِزَوَالِ الْحَدَثِ فَلَا يَحْصُلُ مَعَ إثْبَاتِ حَدَثٍ آخَرَ كَمَا لَوْ تَوَضَّأَ مَعَ سَيَلَانِ الدَّمِ وَالْبَوْلِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: نَحْنُ لَا نَجْعَلُهُ تَطَهُّرًا عَنْ الْحَدَثِ لِيَكُونَ الْمَسُّ مُنَافِيًا لَهُ بَلْ هُوَ تَطَهُّرٌ عَنْ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ تَطْهِيرِ الثَّوْبِ وَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الطَّهَارَةِ اسْتَحَقُّوا الْمَدْحَ لَا بِاعْتِبَارِ الطَّهَارَةِ عَنْ الْحَدَثِ إذْ الْكُلُّ كَانُوا فِيهَا سَوَاءً وَهَذِهِ الطَّهَارَةُ لَا تَزُولُ بِالْمَسِّ كَمَا لَوْ فَسَا أَوْ رَعَفَ بَعْدَ الِاسْتِنْجَاءِ فَلَا يَكُونُ الْحَدِيثُ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الِاسْتِنْجَاءَ تَطَهُّرًا مُطْلَقًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ تَطَهُّرًا حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَلَوْ جَعَلَ الْمَسَّ حَدَثًا لَا يَكُونُ تَطَهُّرًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَا يَخْلُو هَذَا الْجَوَابُ عَنْ ضَعْفٍ. 1 - قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَكَحَدِيثِ الْمَسِّ وَحَدِيثِ فَاطِمَةَ حَدِيثُ الْقَضَاءِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ الَّذِي تَمَسَّكَ بِهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ يَمِينُ الْمُدَّعِي، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِشَاهِدٍ» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينِ الطَّالِبِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَعُلَمَاؤُنَا لَمْ يَعْمَلُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ لِمُخَالَفَتِهِ الْكِتَابَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَاسْتَشْهِدُوا} [البقرة: 282] أَمَرَ بِالِاسْتِشْهَادِ لِإِحْيَاءِ الْحَقِّ، وَهُوَ مُجْمَلٌ فِي حَقِّ مَا هُوَ شَهَادَةٌ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ كُلٌّ يَكُونُ مُجْمَلًا ثُمَّ فَسَّرَهُ بِنَوْعَيْنِ بِرَجُلَيْنِ وَبِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ أَمَّا عَلَى الْمُسَاوَاةِ أَوْ التَّرْتِيبِ فَيَقْتَضِي ذَلِكَ اقْتِصَارُ الِاسْتِشْهَادِ الْمَطْلُوبِ بِالْأَمْرِ عَلَى النَّوْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُجْمَلَ إذَا فُسِّرَ كَانَ ذَلِكَ بَيَانًا لِجَمِيعِ مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ كَقَوْلِ الرَّجُلِ: كُلْ طَعَامَ كَذَا أَوْ طَعَامَ كَذَا، كَانَ التَّفْسِيرُ اللَّاحِقُ بَيَانًا لِجَمِيعِ مَا أُرِيدَ مِنْ الْمَأْكُولِ بِقَوْلِهِ كُلْ. وَكَذَا لَوْ قَالَ تَفَقَّهْ مِنْ فُلَانٍ أَوْ فُلَانٍ كَانَ التَّفْسِيرُ الْمُلْحَقُ بِهِ قَصْرَ الْأَمْرِ بِالتَّفَقُّهِ عَلَيْهِمَا حَتَّى لَا يَكُونَ التَّفَقُّهُ عَلَى غَيْرِهِمَا مِنْ مُوجِبَاتِ الْأَمْرِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: اسْتَشْهِدْ زَيْدًا عَلَى صَفْقَتِك أَوْ خَالِدًا. لَمْ يَكُنْ اسْتِشْهَادُ غَيْرِهِمَا مِنْ الْمَأْمُورِ اسْتِشْهَادًا لِحُكْمِ الْأَمْرِ لَا مَحَالَةَ بَلْ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا

وَلِأَنَّهُ قَالَ {وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] وَلَا مَزِيدَ عَلَى الْأَدْنَى وَلِأَنَّهُ انْتَقَلَ إلَى غَيْرِ الْمَعْهُودِ، وَهُوَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَلَوْ كَانَ الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ حُجَّةً لَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَى غَيْرِ الْمَعْهُودِ وَصَارَ ذَلِكَ بَيَانًا عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ، وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] فَنَقَلَ إلَى شَهَادَةِ الْكَافِرِ حِينَ كَانَتْ حُجَّةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي مَوْتِ الْمُسْلِمِينَ وَوَصَايَاهُمْ فَيَبْعُدُ أَنْ يَتْرُكَ الْمَعْهُودَ وَيَأْمُرَ بِغَيْرِهِ وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي ذَلِكَ يَمِينَ الشَّاهِدِ بِقَوْلِهِ {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 106] وَيَمِينُ الْخَصْمِ فِي الْجُمْلَةِ مَشْرُوعٌ فَأَمَّا يَمِينُ الشَّاهِدِ فَلَا فَصَارَ النَّقْلُ إلَى يَمِينِ الشَّاهِدِ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ بِأَنَّ يَمِينَ الْمُدَّعِي لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ وَمِثْلُهُ خَبَرُ الْمُصَرَّاةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَصِيرُ الْمَذْكُورُ بَيَانًا لِلْكُلِّ فَمَنْ جَعَلَ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ حُجَّةً فَقَدْ زَادَ عَلَى النَّصِّ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ جَارٍ مَجْرَى النَّسْخِ فَلَا يَجُوزُ بِهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] نَصَّ عَلَى أَدْنَى مَا يَنْتَفِي بِهِ الرِّيبَةُ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ أَوْ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَلَيْسَ وَرَاءَ الْأَدْنَى شَيْءٌ يَنْتَفِي بِهِ الرِّيبَةُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَلَا مَزِيدَ عَلَى الْأَدْنَى يَعْنِي فِي جَانِبِ الْقِلَّةِ وَالتَّسَفُّلِ فَلَوْ كَانَ الشَّاهِدُ مَعَ الْيَمِينِ حُجَّةً لَزِمَ مِنْهُ انْتِفَاءُ كَوْنِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ أَدْنَى فِي انْتِفَاءِ الرِّيبَةُ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَكَانَ فِي جَعْلِهِ حُجَّةً إبْطَالُ مُوجِبِ الْكِتَابِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى نَقَلَ الْحُكْمَ مِنْ الْمُعْتَادِ، وَهُوَ اسْتِشْهَادُ الرِّجَالِ إلَى غَيْرِ الْمُعْتَادِ، وَهُوَ اسْتِشْهَادُ النِّسَاءِ مُبَالَغَةً فِي الْبَيَانِ مَعَ أَنَّ حُضُورَهُنَّ مَجَالِسَ الْحُكَّامِ وَمَحَافِلَ الرَّجُلِ غَيْرُ مَعْهُودٍ بَلْ هُوَ حَرَامٌ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ؛ لِأَنَّهُنَّ أُمِرْنَ بِالْقَرَارِ فِي الْبُيُوتِ بِقَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] فَلَوْ كَانَ يَمِينُ الْمُدَّعِي مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ حُجَّةً وَأَمْكَنَ لِلْمُدَّعِي الْوُصُولُ إلَى حَقِّهِ بِهَا لَمَا اسْتَقَامَ السُّكُوتُ عَنْهَا فِي الْحِكْمَةِ وَالِانْتِقَالِ إلَى ذِكْرِ مَنْ لَا يُسْتَشْهَدُ عَادَةً مَعَ كُلِّ هَذَا الِاسْتِقْصَاءِ فِي الْبَيَانِ بَلْ كَانَ الِابْتِدَاءُ بِالْيَمِينِ وَالشَّاهِدِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ وَأَيْسَرُ وُجُودًا مِنْ الشَّهِيدَيْنِ أَوْ كَانَ ذِكْرُ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ بَعْدَ ذِكْرِ الرَّجُلَيْنِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ الْوَاحِدَ لَمَّا كَانَ مَوْجُودًا وَبِانْضِمَامِ عَيْنِ الْمُدَّعِي إلَيْهِ يَتَمَكَّنُ الْمُدَّعِي مِنْ الْوُصُولِ إلَى حَقِّهِ لَمْ يَتَحَقَّقْ الضَّرُورَةُ الْمُبِيحَةُ لِحُضُورِ النِّسَاءِ مَحْفِلَ الرِّجَالِ كَمَا لَوْ وُجِدَ الرَّجُلَانِ فَكَانَ النَّصُّ دَلِيلًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَكَانَ ذَلِكَ أَيْ الِانْتِقَالُ مِنْ الْمَعْهُودِ، وَهُوَ اسْتِشْهَادُ الرِّجَالِ إلَى غَيْرِ الْمَعْهُودِ، وَهُوَ اسْتِشْهَادُ النِّسَاءِ بَيَانًا عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ أَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ شَيْءٌ آخَرُ يَصْلُحُ حُجَّةً لِلْمُدَّعِي وَإِنَّ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَهَذَا تَقْرِيرُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ. وَلَكِنْ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: لَا أُسَلِّمُ الْقَصْرَ؛ لِأَنَّ لَهُ طُرُقًا أَرْبَعَةً عَلَى مَا ذُكِرَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْكِتَابِ وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهَا فَكَيْفَ تَسْتَقِيمُ دَعْوَى الْقَصْرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلِهِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا الْقَصْرَ عَلَى مَا زَعَمْتُمْ فَهُوَ ثَابِتٌ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ، وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَكُمْ وَعِنْدِي وَإِنْ كَانَ حُجَّةً وَلَكِنْ إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ دَلِيلٌ آخَرُ فَإِذَا عَارَضَهُ سَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فَلَا يَكُونُ فِي الْعَمَلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ مُخَالَفَةُ الْكِتَابِ وَأَنْ يَقُولَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: لَا دَلَالَةَ لِهَذَا النَّصِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ؛ لِأَنَّ نَظْمَ الْكِتَابِ لَيْسَ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكُتُبِ بَلْ نَظْمُهُ {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] وَاسْمُ الْإِشَارَةِ رَاجِعٌ إلَى أَنْ تَكْتُبُوهُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} [البقرة: 282] وَالْأَدْنَى بِمَعْنَى الْأَقْرَبِ لَا بِمَعْنَى الْأَقَلِّ أَيْ ذَلِكُمْ الْكَتْبُ أَقْسَطُ أَيْ أَعْدَلُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ أَيْ أَعْدَلُ عَلَى أَدَائِهَا وَأَدْنَى أَنْ لَا تَرْتَابُوا أَيْ أَقْرَبُ مِنْ انْتِفَاءِ الرَّيْبِ، كَذَا فِي الْكَشَّافِ وَغَيْرِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَ الْإِشَارَةَ إلَى قَوْلِهِ {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] وَأَنْ يَجْعَلَ الْأَدْنَى بِمَعْنَى الْأَقَلِّ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} [البقرة: 282] لَا يَنْقَادُ لَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ الْحَدِيثُ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا ثُمَّ أَكَّدَ الشَّيْخُ الْوَجْهَ الْأَخِيرَ بَيَانَ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ. أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تَعَالَى نَقَلَ الْحُكْمَ عَنْ اسْتِشْهَادِ

وَكَذَلِكَ مَا خَالَفَ السُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا: إنَّهُ فَوْقَهُ فَلَا يُنْسَخُ بِهِ وَذَلِكَ مِثْلُ حَدِيثِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ الْمَشْهُورَ، وَهُوَ قَوْلُهُ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» يَعْنِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمُسْلِمَيْنِ عَلَى وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ إلَى اسْتِشْهَادِ كَافِرَيْنِ حِينَ كَانَتْ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ حُجَّةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِاعْتِبَارِ قِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] أَيْ عَدَدُ الشُّهُودِ فِيمَا بَيْنَكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ عَدْلَانِ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دِينِكُمْ إنْ لَمْ يَجِدُوا مُسْلِمِينَ وَأَوْ لِلتَّرْتِيبِ، كَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَلَوْ كَانَ الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ حُجَّةً لَنُقِلَ الْحُكْمُ إلَيْهِ لَا إلَى شَهَادَةِ الْكُفَّارِ؛ لِأَنَّ تَجْوِيزَ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَانَ بِاعْتِبَارِ الضَّرُورَةِ، وَقَدْ أَمْكَنَ دَفْعُهَا بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِّ مِنْ شَهَادَةِ الْكُفَّارِ وَأَيْسَرُ وُجُودًا مِنْهَا فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَالثَّانِي أَنَّهُ تَعَالَى نَقَلَ الْحُكْمَ عِنْدَ وُقُوعِ الِارْتِيَابِ وَالشَّكِّ فِي صِدْقِ الشَّاهِدِ إلَى تَحْلِيفِ الشَّاهِدِ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا} [المائدة: 106] الْآيَةُ وَتَحْلِيفُ الشَّاهِدِ حِينَئِذٍ كَانَ مَشْرُوعًا ثُمَّ نُسِخَ، وَلَوْ كَانَ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ حُجَّةً لَكَانَ النَّقْلُ إلَيْهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْيَمِينِ الْمَشْرُوعَةِ إذْ الْيَمِينُ الْمَشْرُوعَةُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَأَنَّهُ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ وَالْمُدَّعِي يُشْبِهُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ خَصْمٌ وَتَحْلِيفُهُ فِي الْجُمْلَةِ مَشْرُوعٌ أَيْضًا كَمَا فِي التَّحَالُفِ وَكَمَا فِي الْقَسَامَةِ عَلَى مَذْهَبِ الْبَعْضِ، فَأَمَّا يَمِينُ الشَّاهِدِ فَلَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَلَا يَمِينَ عَلَى الْأَمِينِ فِي مَوْضِعٍ فَكَانَ النَّقْلُ إلَى يَمِينِ الشَّاهِدِ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ أَنَّ يَمِينَ الْمُدَّعِي لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ. وَأَمْثَالُ هَذَا أَيْ نَظَائِرُ مَا وَرَدَ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ مِنْ السُّنَنِ الْغَرِيبَةِ كَثِيرَةٌ مِثْلُ خَبَرِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ وَخَبَرِ وُجُوبِ الْمُلْتَجِئِي إلَى الْحَرَمِ وَخَبَرِ وُجُوبِ الطَّهَارَةِ فِي الطَّوَافِ وَسَائِرِ مَا مَرَّ بَيَانُهُ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ مَا خَالَفَ السُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ أَيْضًا) أَيْ وَمِثْلُ الْخَبَرِ الْمُخَالِفِ لِلْكِتَابِ الْخَبَرُ الْمُخَالِفُ لِلسُّنَّةِ فِي أَنَّهُ يَكُونُ مَرْدُودًا أَيْضًا وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الِانْقِطَاعِ الْبَاطِنِ لِمَا قُلْنَا إنَّهُ أَيْ الْخَبَرَ الْمَشْهُورَ فَوْقَ خَبَرِ الْوَاحِدِ حَتَّى جَازَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ بِالْمَشْهُورِ دُونَ خَبَرِ الْوَاحِدِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ الْمَشْهُورُ الَّذِي هُوَ أَقْوَى بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الَّذِي هُوَ أَضْعَفُ وَذَلِكَ أَيْ مِثَالُ هَذَا الْأَصْلِ حَدِيثُ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ أَيْضًا؛ فَإِنَّهُ وَرَدَ مُخَالِفًا لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ، وَهُوَ مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» وَفِي رِوَايَةٍ «عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَبَيَانُ الْمُخَالَفَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ جَمِيعَ الْأَيْمَانِ فِي جَانِبِ الْمُنْكِرِ دُونَ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ اللَّامَ يَقْتَضِي اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ فَمَنْ جَعَلَ يَمِينَ الْمُدَّعِي حُجَّةً فَقَدْ خَالَفَ النَّصَّ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَاهُ، وَهُوَ الِاسْتِغْرَاقُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْخُصُومَ قِسْمَيْنِ: قِسْمًا مُدَّعِيًا وَقِسْمًا مُنْكِرًا، وَالْحُجَّةُ قِسْمَيْنِ: قِسْمًا بَيِّنَةً وَقِسْمًا يَمِينًا، وَحَصَرَ جِنْسَ الْيَمِينِ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ وَجِنْسَ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي وَهَذَا يَقْتَضِي قَطْعَ الشَّرِكَةِ وَعَدَمَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْيَمِينِ وَالْبَيِّنَةِ فِي جَانِبٍ وَالْعَمَلُ بِخَبَرِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ تُوجِبُ تَرْكَ الْعَمَلِ بِمُوجِبِ هَذَا الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ فَيَكُونُ مَرْدُودًا. كَيْفَ وَقَدْ طَعَنَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ حَتَّى قَالَ الزُّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ أَوَّلُ مَنْ أَفْرَدَ الْإِقَامَةَ مُعَاوِيَةُ وَأَوَّلُ مَنْ قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ مُعَاوِيَةُ

وَمِثْلُ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي بَيْعِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ» ـــــــــــــــــــــــــــــQوَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْخَضْرَمِيِّ حِينَ امْتَنَعَ عَنْ اسْتِحْلَافِ الْكِنْدِيِّ فِي دَعْوَى أَرْضٍ لَيْسَ لَك مِنْهُ إلَّا ذَلِكَ» فَهَذَا يَقْتَضِي الْحَصْرَ وَلَوْ كَانَتْ يَمِينُ الْمُدَّعِي مَشْرُوعَةً لَكَانَ لَهُ طَرِيقٌ آخَرُ غَيْرَ الِاسْتِحْلَافِ. قَوْلُهُ (وَمِثْلُ حَدِيثِ سَعْدٍ) إلَى آخِرِهِ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ كَيْلًا بِكَيْلٍ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لِحَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ فَقَالَ أَتَنْقُصُ إذَا جَفَّ قَالُوا نَعَمْ قَالَ فَلَا إذًا» ، فَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَفْسَدَ الْبَيْعَ وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ أَتَنْقُصُ إذَا جَفَّ إلَى وُجُوبِ بِنَاءِ مَعْرِفَةِ الْمُسَاوَاةِ عَلَى أَعْدَلِ الْأَحْوَالِ وَعِنْدَ الْبِنَاءِ عَلَيْهِ يَصِيرُ أَجْزَاءُ الرُّطَبِ أَقَلَّ فَلَا يَجُوزُ لِتَفَاوُتٍ قَائِمٍ لِلْحَالِ عِنْدَ الِاعْتِبَارِ بِأَجْزَاءِ التُّمُورَةِ كَمَا لَا يَجُوزُ الْمَقْلِيُّ بِغَيْرِ الْمَقْلِيِّ لِتَفَاوُتٍ قَائِمٍ فِي الْحَالِ عِنْدَ الِاعْتِبَارِ بِأَجْزَاءِ غَيْرِ الْمَقْلِيِّ وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ» ؛ فَإِنَّهُ يَسْتَدْعِي الْجَوَازَ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّمْرَ يَنْطَلِقُ عَلَى الرُّطَبِ؛ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ لِلتَّمْرَةِ الْخَارِجَةِ مِنْ النَّخْلِ مِنْ حِينِ يَنْعَقِدُ إلَى أَنْ يُدْرَكَ وَبِمَا يَتَرَدَّدُ عَلَيْهَا مِنْ الْأَحْوَالِ وَالصِّفَاتِ لَا يَخْتَلِفُ اسْمُ الذَّاتِ كَاسْمِ الْآدَمِيِّ لَا يَتَبَدَّلُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَهَى عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ حَتَّى يُزْهَى فَقِيلَ: وَمَا يُزْهَى فَقَالَ أَنْ يَحْمَرَّ أَوْ يَصْفَرَّ» فَسَمَّاهُ تَمْرًا وَهُوَ بُسْرٌ، وَقَالَ شَاعِرُهُمْ: وَمَا الْعَيْشُ إلَّا نَوْمَةٌ وَتَشَرُّقٌ ... وَتَمْرٌ عَلَى رَأْسِ النَّخِيلِ وَمَاءُ وَالْمُرَادُ الرُّطَبُ. وَكَذَا لَوْ أَوْصَى بِرُطَبٍ عَلَى رَأْسِ النَّخِيلِ فَيَبِسَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ الْمُوصِي لَا يُبْطِلُ الْوَصِيَّةَ وَلَوْ تَبَدَّلَ الْجِنْسُ بِالْيُبْسِ لَبَطَلَتْ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِعِنَبٍ فَصَارَ زَبِيبًا قَبْلَ الْمَوْتِ وَكَذَا لَوْ أَسْلَمَ فِي تَمْرٍ فَاقْتَضَى رُطَبًا أَوْ عَلَى الْعَكْسِ صَحَّ وَلَوْ اخْتَلَفَا لَكَانَ هَذَا اسْتِبْدَالًا، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَمْرٌ، وَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ الْعَقْدِ، وَهُوَ الْمُمَاثَلَةُ حَالَةَ الْعَقْدِ فَيَجُوزُ وَلَا يُعْتَبَرُ الْمُمَاثَلَةُ فِي أَعْدَلِ الْأَحْوَالِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْعَقْدِ يُعْتَبَرُ عِنْدَ الْعَقْدِ فَيَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ الْمُسَاوَاةُ فِي الْبَدَلَيْنِ اللَّذَيْنِ وَرَدَ عَلَيْهِمَا الْعَقْدُ وَهُمَا الرُّطَبُ وَالتَّمْرُ فَأَمَّا اعْتِبَارُ حَالَةٍ مَفْقُودَةٍ يَتَوَقَّعُ حُدُوثُهَا فِي بَابَيْ الْحَالِ فَلَا فَكَانَ اعْتِبَارُ الْأَعْدَلِ كَاعْتِبَارِ الْأَجْوَدِ وَأَنَّهُ سَاقِطٌ بِالنَّصِّ. وَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ التَّفَاوُتِ فِي الْجَوْدَةِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «جَيِّدُهَا وَرَدِيُّهَا سَوَاءٌ» وَاعْتُبِرَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ النَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ حَيْثُ شَرَطَ الْيَدَ بِالْيَدِ وَصِفَةُ الْجُودَةِ لَا تَكُونُ حَادِثَةً بِصُنْعِ الْعِبَادِ وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ النَّقْدِ وَالنَّسِيئَةُ حَادِثٌ بِصُنْعِ الْعِبَادِ، وَهُوَ اشْتِرَاطُ الْأَجَلِ فَصَارَ هَذَا أَصْلًا إنَّ كُلَّ تَفَاوُتٍ يُبْتَنَى عَلَى صُنْعِ الْعِبَادِ فَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ وَفِي الْمَقْلِيَّةِ بِغَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ وَالْحِنْطَةُ بِالدَّقِيقِ التَّفَاوُتُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَكُلُّ تَفَاوُتٍ يُبْتَنَى عَلَى مَا هُوَ ثَابِتٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ الْعِبَادِ فَهُوَ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ الرُّطَبِ وَالتَّمْرِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا كَالتَّفَاوُتِ بَيْنَ الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الْحَدِيثِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُخَالِفٌ لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ؛ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي اشْتِرَاطَ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْكَيْلِ مُطْلَقًا لِجَوَازِ الْعَقْدِ حَتَّى لَوْ وُجِدَتْ الْمُسَاوَاةُ فِي حَالِ يُبُوسَةِ الْبَدَلَيْنِ أَوْ فِي حَالِ رُطُوبَتِهِمَا أَوْ فِي حَالِ يُبُوسَةِ

بِزِيَادَةِ مُمَاثَلَةٍ هِيَ نَاسِخَةٌ لِلْمَشْهُورِ، بِاعْتِبَارِ جَوْدَةٍ لَيْسَتْ مِنْ الْمِقْدَارِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَحَدِهِمَا وَرُطُوبَةِ الْآخَرِ جَازَ الْعَقْدُ فَالتَّقْيِيدُ بِاشْتِرَاطِ الْمُمَاثَلَةِ فِي أَعْدِلْ الْأَحْوَالِ، وَهُوَ حَالُ يُبُوسَتِهِمَا كَمَا هُوَ مُقْتَضَى حَدِيثِ سَعْدٍ مُتَضَمِّنٌ لِنَسْخِ ذَلِكَ الْإِطْلَاقِ فَلَا يَجُوزُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ بِزِيَادَةِ مُمَاثَلَةٍ هِيَ نَاسِخَةٌ لِلْمَشْهُورِ وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ الْمُخَالَفَةُ بِسَبَبِ اقْتِضَائِهِ زِيَادَةَ مُمَاثَلَةٍ لَا يَقْتَضِيهَا الْخَبَرُ الْمَشْهُورُ وَهِيَ الْمُسَاوَاةُ فِي حَالَةِ الْجَفَافِ، وَالْبَاءُ فِي بِاعْتِبَارِ جَوْدَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِالزِّيَادَةِ أَيْ اشْتِرَاطُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ بِاعْتِبَارِ جَوْدَةٍ وُجِدَتْ فِي أَحَدِهِمَا وَفُقِدَتْ فِي الْآخَرِ لَا بِاعْتِبَارِ زِيَادَةٍ فِي الْقَدْرِ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ لِلتَّمْرِ فَضْلَ جَوْدَةٍ عَلَى الرُّطَبِ مِنْ حَيْثُ الِادِّخَارُ مِنْ غَيْرِ انْتِقَاصٍ وَلَكِنْ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الْإِجْزَاءُ؛ لِأَنَّ لِلتَّمْرِ إنْ كَانَ فَضْلُ اكْتِنَازٍ فَفِي الرُّطَبِ فَضْلُ رُطُوبَةٍ هِيَ مَقْصُودَةٌ شَاغِلَةٌ لِلْكَيْلِ لَا يَظْهَرُ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا إلَّا بَعْدَ ذَهَابِهَا بِالْجَفَافِ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الْفَضْلَ وَالْمُسَاوَاةَ فِي الْجَوْدَةِ سَاقِطَا الِاعْتِبَارِ شَرْعًا إنَّمَا الْمُعْتَبَرُ الْمُسَاوَاةُ وَالْفَضْلُ قَدْرًا فَكَيْفَ يَصْلُحُ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ الرَّاجِعَةِ إلَى الْجَوْدَةِ نَاسِخًا لِمَا ثَبَتَ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ. وَقَوْلُهُ لَيْسَتْ مِنْ الْمِقْدَارِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ احْتِرَازًا عَنْ فَوَاتِ الْمُمَاثَلَةِ بِاعْتِبَارِ الْقَلْيِ؛ فَإِنَّ بِالْقَلْيِ يَنْتَفِخُ الْحَبَّاتُ إذَا كَانَتْ رَطْبَةً وَتَضْمُرُ إذَا قُلِيَتْ يَابِسَةً فَلَا تُسَاوِي الْمَقْلِيَّةُ فِي الدُّخُولِ فِي الْكَيْلِ غَيْرَ الْمَقْلِيَّةِ بِاعْتِبَارِ الِانْتِفَاخِ وَالضُّمُورِ وَهَذَا التَّفَاوُتُ رَجَعَ إلَى الْقَدْرِ فَيَجُوزُ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي مَنْعِ الْجَوَازِ وَذَكَرَ فِي مُخْتَصَرِ التَّقْوِيمِ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ يُوجِبُ أَحْكَامًا ثَلَاثَةً: أَحَدُهَا: وُجُوبُ الْمُمَاثَلَةِ شَرْطًا لِلْجَوَازِ فَيَجُوزُ الْبَيْعُ حَالَ وُجُودِ الْمُمَاثَلَةِ بِهَذَا النَّصِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ فَضْلٍ قَائِمٍ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْفَضْلُ عَلَى الذَّاتِ. وَالثَّالِثُ: الْفَضْلُ الَّذِي يَنْعَدِمُ بِهِ الْمُمَاثَلَةُ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يُخَالِفُهُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ حُرْمَةَ الْبَيْعِ حَالَ وُجُودِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْمِعْيَارِ وَأَوْجَبَ حُرْمَةَ فَضْلٍ لَا يَنْعَدِمُ بِهِ الْمُمَاثَلَةُ؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ شَرْطٌ لِلْجَوَازِ حَالَةَ الْعَقْدِ وَالْفَضْلُ الَّذِي يُوجَدُ بَعْدَ الْجَفَافِ لَا يُعْدِمُ الْمُمَاثَلَةَ الْمَوْجُودَةَ حَالَ الْعَقْدِ وَهَذَا الْفَضْلُ مَوْهُومٌ غَيْرُ قَائِمٍ حَالَ الْعَقْدِ فَإِذَا خَالَفَ الْمَشْهُورَ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ لَمْ يُقْبَلْ. وَالثَّانِي أَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ عَلَى مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ بَغْدَادَ سَأَلُوهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَكَانُوا أَشِدَّاءَ عَلَيْهِ لِمُخَالَفَتِهِ الْخَبَرَ فَقَالَ: الرُّطَبُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ تَمْرًا أَوْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ كَانَ تَمْرًا جَازَ الْعَقْدُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ» وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَمْرًا جَازَ أَيْضًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ» فَأَوْرَدَ عَلَيْهِ حَدِيثَ سَعْدٍ فَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ دَارَ عَلَى زَيْدٍ أَبِي عَيَّاشٍ وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُقْبَلُ حَدِيثُهُ وَاسْتَحْسَنَ أَهْلُ الْحَدِيثِ مِنْهُ هَذَا الطَّعْنَ حَتَّى قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: كَيْفَ يُقَالُ: أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَعْرِفُ الْحَدِيثَ وَهُوَ يَقُولُ زَيْدٌ أَبُو عَيَّاشٍ مِمَّنْ لَا يُقْبَلُ حَدِيثُهُ؟ ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَلَكِنْ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحِنْطَةَ الْمَقْلِيَّةَ إنْ كَانَتْ حِنْطَةً يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ بَيْعُهَا بِغَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ كَيْلًا بِكَيْلٍ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ» وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حِنْطَةً يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ أَيْضًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذَا اخْتَلَفَا النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ» وَالْحُكْمُ بِخِلَافِهِ، وَلِهَذَا قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي الْأَسْرَارِ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ مَا ذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَسَنٌ فِي الْمُنَاظَرَاتِ لِدَفْعِ الْخَصْمِ وَلَكِنَّ الْحُجَّةَ لَا تَتِمُّ بِهِ لِجَوَازِ قِسْمٍ ثَالِثٍ كَمَا فِي الْحِنْطَةِ الْمَقْلِيَّةِ مَعْنَاهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرُّطَبُ قِسْمًا ثَالِثًا لَا يَكُونُ تَمْرًا مُطْلَقًا لِفَوَاتِ وَصْفِ الْيُبُوسَةِ عَنْهُ وَلَا يَكُونُ غَيْرَهُ مُطْلَقًا لِبَقَاءِ أَجْزَائِهِ

[الحادثة إذا اشتهرت وخفي الحديث]

إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَمِلَا بِهِ عَلَى أَنَّ اسْمَ التَّمْرِ لَا يَتَنَاوَلُ الرُّطَبَ فِي الْعَادَةِ كَمَا فِي الْيَمِينِ. ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَلِأَنَّ الْحَادِثَةَ إذَا اُشْتُهِرَتْ وَخَفِيَ الْحَدِيثُ كَانَ ذَلِكَ دَلَالَةً عَلَى السَّهْوِ؛ لِأَنَّ الْحَادِثَةَ إذَا اُشْتُهِرَتْ اسْتَحَالَ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ مَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمُ الْحَادِثَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَيْفَ اشْتَهَرَ فِي الْحَلِفِ فَإِذَا شَذَّ الْحَدِيثُ مَعَ اشْتِهَارِ الْحَادِثَةِ كَانَ ذَلِكَ زِيَافَةً وَانْقِطَاعًا ـــــــــــــــــــــــــــــQعِنْدَ صَيْرُورَتِهِ تَمْرًا كَالْحِنْطَةِ الْمَقْلِيَّةِ لَيْسَتْ عَيْنَ الْحِنْطَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِفَوَاتِ وَصْفِ الْإِثْبَاتِ عَنْهَا بِالْمَقْلِيِّ وَلَيْسَتْ غَيْرَهَا أَيْضًا لِوُجُودِ أَجْزَاءِ الْحِنْطَةِ فِيهَا، وَكَذَا الْحِنْطَةُ مَعَ الدَّقِيقِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الِاعْتِمَادُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا. قَوْلُهُ (إلَّا أَنَّ) أَيْ لَكِنَّ أَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا عَمِلَا بِهِ أَيْ بِحَدِيثِ سَعْدٍ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: إنَّهُمَا وَافَقَا أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُرَدُّ بِمُخَالَفَتِهِ الْمَشْهُورَ ثُمَّ إنَّهُمَا عَمِلَا بِحَدِيثِ سَعْدٍ مَعَ مُخَالَفَتِهِ الْخَبَرَ الْمَشْهُورَ فَقَالَ: إنَّهُمَا إنَّمَا عَمِلَا بِهِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُسَلِّمَا مُخَالَفَتَهُ لِلْمَشْهُورِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَشْهُورَ تَنَاوَلَ التَّمْرَ وَالرُّطَبُ لَيْسَ بِتَمْرٍ عَادَةً أَيْ عُرْفًا بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ تَمْرًا فَأَكَلَ رُطَبًا أَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرُّطَبَ فَأَكَلَهُ بَعْدَمَا صَارَ تَمْرًا لَمْ يَحْنَثْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ الْمَشْهُورُ مُتَنَاوِلًا لِمَا تَضَمَّنَهُ حَدِيثُ سَعْدٍ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْمُخَالَفَةُ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الرُّطَبَ مِنْ جِنْسِ التَّمْرِ لِمَا قُلْنَا لَكِنَّ الْيَمِينَ قَدْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدَّاعِي مَعَ قِيَامِ الْجِنْسِيَّةِ وَالرُّطُوبَةُ فِي الرُّطَبِ وَصْفٌ دَاعٍ إلَى الْمَنْعِ مَرَّةً وَإِلَى الْإِقْدَامِ أُخْرَى فَيَتَقَيَّدُ الْيَمِينُ بِالْوَصْفِ كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ خَرَجْت مِنْ هَذِهِ الدَّارِ فَعَبْدِي حُرٌّ يَتَقَيَّدُ بِحَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ يَدْعُوهُ إلَى الْمَنْعِ عَنْ الْخُرُوجِ وَالْخُرُوجُ فِي الْأَحْوَالِ جِنْسٌ وَاحِدٌ لَكِنْ لَمَّا اخْتَلَفَ الدَّاعِي اخْتَلَفَتْ الْيَمِينُ كَذَا هَاهُنَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرُّطَبَ وَهُوَ تَمْرٌ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ وَلَوْ كَانَ غَيْرُهُ لَمَا انْعَقَدَتْ كَمَا لَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ عِنَبٌ، إلَيْهِ أُشِيرَ فِي مُخْتَلِفَاتِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْدَ بَيَانِ الْقِسْمَيْنِ فَفِي هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنْ الِانْتِقَادِ لِلْحَدِيثِ عِلْمٌ كَثِيرٌ وَصِيَانَةٌ لِلدِّينِ بَلِيغَةٌ؛ فَإِنَّ أَصْلَ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ إنَّمَا ظَهَرَ مِنْ قِبَلِ تَرْكِ عَرْضِ أَخْبَارِ الْآحَادِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَإِنَّ قَوْمًا جَعَلُوهَا أَصْلًا مَعَ الشُّبْهَةِ فِي اتِّصَالِهَا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَ أَنَّهَا لَا تُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ ثُمَّ تَأَوَّلُوا عَلَيْهَا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ فَجَعَلُوا التَّبَعَ مَتْبُوعًا وَجَعَلُوا الْأَسَاسَ مَا هُوَ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ بِهِ فَوَقَعُوا فِي الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَنْكَرَ خَبَرَ الْوَاحِدِ؛ فَإِنَّهُ كَمَا لَمَّا لَمْ يُجَوِّزْ الْعَمَلَ بِهِ احْتَاجَ إلَى الْقِيَاسِ لِيَعْمَلَ بِهِ وَفِيهِ أَنْوَاعٌ مِنْ الشُّبْهَةِ أَوْ إلَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ أَصْلًا، وَتَرْكُ الْعَمَلِ بِالْحُجَّةِ إلَى مَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ يَكُونُ فَتْحًا لِبَاب الْإِلْحَادِ وَجَعْلُ مَا هُوَ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ بِهِ أَصْلًا، ثُمَّ يَخْرُجُ مَا فِيهِ التَّيَقُّنُ عَلَيْهِ يَكُونُ فَتْحًا لِبَابِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَرْدُودٌ وَإِنَّمَا سَوَاءُ السَّبِيلِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مِنْ إنْزَالِ كُلِّ حُجَّةٍ مَنْزِلَتَهَا؛ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ أَصْلًا ثُمَّ خَرَّجُوا عَلَيْهَا مَا فِيهِ بَعْضُ الشُّبْهَةِ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ بِطَرِيقِ الْآحَادِ مِمَّا كَانَ مِنْهُ مُوَافِقًا لِلْكِتَابِ أَوْ الْمَشْهُورِ قَبِلُوهُ وَأَوْجَبُوا الْعَمَلَ بِهِ وَمَا كَانَ مُخَالِفًا لَهُمَا رَدُّوهُ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْجَبُ مِنْ الْعَمَلِ بِالْغَرِيبِ بِخِلَافِهِ وَمَا لَمْ يَجِدُوهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَخْبَارِ صَارُوا حِينَئِذٍ إلَى الْقِيَاسِ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِهِ لِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ. [الْحَادِثَةَ إذَا اُشْتُهِرَتْ وَخَفِيَ الْحَدِيثُ] قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ) فَكَذَا خَبَرُ الْوَاحِدِ إذَا وَرَدَ مُوجِبًا لِلْعَمَلِ فِيمَا يَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى أَيْ فِيمَا يَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ فِي عُمُومِ الْأَحْوَالِ لَا يُقْبَلُ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ، وَهُوَ مُخْتَارُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ، وَعِنْدَ عَامَّةِ الْأُصُولِيِّينَ يُقْبَلُ إذَا صَحَّ سَنَدُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجَمِيعِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ تَمَسَّكَ مَنْ قَبِلَهُ بِعَمَلِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -

وَذَلِكَ مِثْلُ حَدِيثِ الْجَهْرِ بِالتَّسْمِيَةِ وَمِثْلُ حَدِيثِ مَسِّ الذَّكَرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــQفَإِنَّهُمْ عَمِلُوا بِهِ فِيمَا يَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى مِثْلَ مَا رُوِيَ عَنْ «ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نُخَابِرُ أَرْبَعِينَ سَنَةً حَتَّى رَوَى لَنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَهَى عَنْ ذَلِكَ فَانْتَهَيْنَا» وَمِثْلُ رُجُوعِهِمْ إلَى خَبَرِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ وَبِأَنَّ خَبَرَ الْعَدْلِ فِي هَذَا الْبَابِ يُفِيدُ ظَنَّ الصِّدْقِ فَيَجِبُ قَبُولُهُ كَمَا إذَا لَمْ يَعُمَّ بِهِ الْبَلْوَى، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقِيَاسَ يُقْبَلُ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ أَضْعَفُ مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ فَلَأَنْ يُقْبَلَ فِيهِ الْخَبَرُ كَانَ أَوْلَى، وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يَقْبَلْهُ بِأَنَّ الْعَادَةَ تَقْتَضِي اسْتِفَاضَةَ نَقْلِ مَا يَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا يَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى كَمَسِّ الذَّكَرِ لَوْ كَانَ مِمَّا يُنْتَقَضُ بِهِ الطَّهَارَةُ لَأَشَاعَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى مُخَاطَبَةِ الْآحَادِ بَلْ يُلْقِيهِ إلَى عَدَدٍ يَحْصُلُ بِهِ التَّوَاتُرُ أَوْ الشُّهْرَةُ مُبَالَغَةً فِي إشَاعَتِهِ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى بُطْلَانِ صَلَاةِ كَثِيرٍ مِنْ الْأُمَّةِ مِنْ غَيْرِ شُعُورٍ بِهِ، وَلِهَذَا تَوَاتَرَ نَقْلُ الْقُرْآنِ وَاشْتَهَرَ أَخْبَارُ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَغَيْرِهَا وَلَمَّا لَمْ يَشْتَهِرْ عَلِمْنَا أَنَّهُ سَهْوٌ أَوْ مَنْسُوخٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ لَمَّا قَبِلُوهُ اشْتَهَرَ فِيهِمْ فَلَوْ كَانَ ثَابِتًا فِي الْمُتَقَدِّمِينَ لَاشْتَهَرَ أَيْضًا وَلَمَا تَفَرَّدَ الْوَاحِدُ بِنَقْلِهِ مَعَ حَاجَةِ الْعَامَّةِ إلَى مَعْرِفَتِهِ، وَلِهَذَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ إذَا لَمْ تَكُنْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الصَّبِيِّ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ إنْفَاقِ مَالٍ عَظِيمٍ عَلَى الْيَتِيمِ فِي مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُحْتَمَلًا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُكَذِّبُهُ فِي ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَوْ انْفَرَدَ وَاحِدٌ بِنَقْلِ قَتْلِ مَلِكٍ فِي السُّوقِ لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ فِي الْعَادَةِ يَبْعُدُ أَنْ لَا يَسْتَفِيضَ مِثْلُهُ، فَكَذَا هَذَا يُوَضِّحُهُ أَنَّا لَمْ نَقْبَلْ قَوْلَ الرَّافِضَةِ فِي دَعْوَاهُمْ النَّصَّ عَلَى إمَامَةِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْإِمَامَةِ مِمَّا يَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى لِحَاجَةِ الْجَمِيعِ إلَيْهِ فَلَوْ كَانَ النَّصُّ ثَابِتًا لَنُقِلَ نَقْلًا مُسْتَفِيضًا وَحِينَ لَمْ يُنْقَلْ دَلَّ أَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ. وَلَكِنَّ الْمُخَالِفِينَ يَقُولُونَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ عُمُومِ الْبَلْوَى اشْتِهَارُ حُكْمِهَا؛ فَإِنَّ حُكْمَ الْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ وَالْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ وَإِفْرَادِ الْإِقَامَةِ وَتَثْنِيَتِهَا وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ وَتَرْكِهَا وَالْجَهْرِ بِالتَّسْمِيَةِ وَإِخْفَائِهَا وَعَامَّةِ تَفَاصِيلِ الصَّلَاةِ لَمْ تَشْتَهِرْ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْحَوَادِثَ عَامَّةٌ وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِشَاعَةِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ بَلْ كَلَّفَهُ بِإِشَاعَةِ الْبَعْضِ وَجَوَّزَ لَهُ رَدَّ الْخَلْقِ إلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْبَعْضِ كَمَا جَوَّزَ لَهُ رَدَّهُمْ إلَى الْقِيَاسِ فِي قَاعِدَةِ الرِّبَا مَعَ أَنَّهُ يَسْهُلُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ: لَا تَبِيعُوا الْمَطْعُومَ بِالْمَطْعُومِ أَوْ الْمَكِيلَ بِالْمَكِيلِ حَتَّى يُسْتَغْنَى عَنْ الِاسْتِنْبَاطِ عَنْ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا يَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى مِنْ جُمْلَةِ مَا يَقْتَضِي مَصْلَحَةُ الْخَلْقِ أَنْ يَرِدُوا فِيهِ إلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ صِدْقُ الرَّاوِي مُمْكِنًا فَيَجِبُ تَصْدِيقُهُ. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا عَمَّ بِهِ الْبَلْوَى اشْتِهَارُ حُكْمِهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ وَلَكِنَّهُ قَدْ لَا يَشْتَهِرُ أَيْضًا إمَّا لِتَرْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّقَلَةِ الرِّوَايَةَ اعْتِمَادًا عَلَى غَيْرِهِ أَوْ لِعَارِضٍ آخَرَ مِنْ مَوْتِ عَامَّتِهِمْ فِي حَرْبٍ أَوْ وَبَاءٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ كَمَا نُقِلَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا جَمَعَ الصَّحِيحَ سَمِعَهُ مِنْهُ قَرِيبٌ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ وَلَمْ يَثِقْ عِنْدَ الرِّوَايَةِ إلَّا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ مَطَرٍ الْفَرَبْرِيُّ لَكِنَّ الْعَوَارِضَ لَا تُعْتَبَرُ فِي مُقَابَلَةِ الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَقَوْلُهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَذَا لَا يَقْدَحُ فِيمَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّا لَمْ نَدَّعِ الِاشْتِهَارَ عِنْدَ عُمُومِ الْبَلْوَى قَطْعًا بَلْ ادَّعَيْنَاهُ ظَاهِرًا، وَكَذَا الصَّحَابَةُ إنَّمَا عَمِلُوا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ

[الصحابة إذا اختلفوا في حادثة بآرائهم ولم يحاج بعضهم في ذلك بحديث]

وَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَخِيرُ فَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - هُمْ الْأُصُولُ فِي نَقْلِ الشَّرِيعَةِ فَإِعْرَاضُهُمْ يَدُلُّ عَلَى انْقِطَاعِهِ وَانْتِسَاخِهِ وَذَلِكَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي حَادِثَةٍ بِآرَائِهِمْ وَلَمْ يُحَاجَّ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ بِحَدِيثٍ كَانَ ذَلِكَ زِيَافَةً؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الرَّأْيِ وَالْإِعْرَاضَ عَنْ النَّصِّ غَيْرُ سَائِغٍ وَذَلِكَ مِثْلُ حَدِيثِ الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ وَالْعِدَّةُ بِالنِّسَاءِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا وَلَمْ يَرْجِعُوا إلَيْهِ وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي زَكَاةِ الصَّبِيِّ وَلَمْ يَرْجِعُوا إلَى قَوْلِهِ «ابْتَغُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى خَيْرًا ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي تِلْكَ الْحَوَادِثِ لِقَرَائِنَ اخْتَصَّتْ بِهِ أَوْ لِصَيْرُورَتِهِ مَشْهُورًا عِنْدَ بُلُوغِهِ إيَّاهُمْ وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ يُفِيدُ ظَنَّ الصِّدْقِ غَيْرَ مُسَلَّمٍ؛ لِأَنَّ عَدَمَ شُهْرَتِهِ يُعَارِضُ ظَنَّ الصِّدْقِ فَلَا يَحْصُلُ الظَّنُّ مَعَ الْمُعَارِضِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعَارِضَ لَهُ وَذَلِكَ أَيْ شُذُوذُ الْحَدِيثِ مَعَ اشْتِهَارِ الْحَادِثَةِ مِثْلُ حَدِيثِ الْجَهْرِ بِالتَّسْمِيَةِ، وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجْهَرُ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» وَرَوَى أَبُو قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانُوا يَجْهَرُونَ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» وَلَمَّا شَذَّ مَعَ اشْتِهَارِ الْحَادِثَةِ وَمَعَ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِأَحَادِيثَ أَقْوَى مِنْهُ فِي الصِّحَّةِ دَالَّةٍ عَلَى خِلَافِهِ لَمْ يُعْمَلْ بِهِ وَمِثْلُ حَدِيثِ مَسِّ الذَّكَرِ الَّذِي رَوَتْهُ بُسْرَةُ؛ فَإِنَّهُ شَاذٌّ لِانْفِرَادِهَا بِرِوَايَتِهِ مَعَ عُمُومِ الْحَاجَةِ إلَى مَعْرِفَتِهِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى زِيَافَتِهِ إذْ الْقَوْلُ بِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَصَّهَا بِتَعْلِيمِ هَذَا الْحُكْمِ مَعَ أَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ وَلَمْ يَعْلَمْ سَائِرُ الصَّحَابَةِ مَعَ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ شِبْهُ الْمُحَالِ، كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَلَا يُقَالُ: قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَيْضًا ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَجَابِرٌ وَسَالِمٌ وَزَيْدُ بْنُ خَالِدٍ وَعَائِشَةُ وَأُمُّ حَبِيبَةَ وَغَيْرُهُمْ فَكَيْفَ يَكُونُ شَاذًّا مَعَ رِوَايَةِ هَؤُلَاءِ الْكِبَارِ؟ ، لِأَنَّا نَقُولُ: تِلْكَ الرِّوَايَاتُ مُضْطَرِبَةُ الْأَسَانِيدِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ لِضَعْفِ رِجَالِهَا وَلِمُعَارَضَتِهَا أَيْضًا بِرِوَايَاتٍ صَحِيحَةٍ تُخَالِفُهَا عَلَى مَا بَيَّنَهَا أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ الْآثَارِ فَلَا يَنْتَفِي الشُّذُوذُ بِهَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِثْلُ خَبَرِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ وَخَبَرِ الْوُضُوءِ مِنْ حَمْلِ الْجِنَازَةِ وَخَبَرِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عَنْ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ الرُّكُوعِ وَنَحْوِهَا. [الصَّحَابَةَ إذَا اخْتَلِفُوا فِي حَادِثَةٍ بِآرَائِهِمْ وَلَمْ يُحَاجَّ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ بِحَدِيثٍ] قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَخِيرُ) أَيْ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنْ الِانْقِطَاعِ الْبَاطِنِ، وَقَدْ تَفَرَّدَ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الرَّدِّ لِلْحَدِيثِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ وَعَامَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ غَيْرُهُمْ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ قَائِلِينَ بِأَنَّ الْحَدِيثَ إذَا ثَبَتَ وَصَحَّ سَنَدُهُ فَخِلَافُ الصَّحَابِيِّ إيَّاهُ وَتَرْكُهُ الْعَمَلَ وَالْمُحَاجَّةُ بِهِ لَا يُوجِبُ رَدَّهُ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ حُجَّةٌ عَلَى كَافَّةِ الْأُمَّةِ وَالصَّحَابِيُّ مَحْجُوجٌ بِهِ كَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وَرَدَا عَامَّيْنِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ لِبَعْضِ الْأُمَّةِ دُونَ الْبَعْضِ وَمَنْ رَدَّهُ احْتَجَّ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - هُمْ الْأُصُولُ فِي نَقْلِ الدِّينِ لَمْ يُتَّهَمُوا بِتَرْكِ الِاحْتِجَاجِ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ وَالِاشْتِغَالُ بِمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ مَعَ أَنَّ عِنَايَتَهُمْ بِالْحُجَجِ كَانَتْ أَقْوَى مِنْ عِنَايَةِ غَيْرِهِمْ بِهَا فَتَرْكُ الْمُحَاجَاةِ وَالْعَمَلِ بِهِ عِنْدَ ظُهُورِ الِاخْتِلَافِ فِيهِمْ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّهُ سَهْوٌ مِمَّنْ رَوَاهُ بَعْدَهُمْ أَوْ مَنْسُوخٌ وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا إذَا بَلَغَهُمْ الْخَبَرُ ثُمَّ لَمْ يُحَاجُّوا بِهِ فَلَعَلَّهُمْ لَمْ يُحَاجُّوا بِهِ لِعَدَمِ بُلُوغِهِ إيَّاهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ تَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَيَجُوزُ أَنَّ مَنْ سَمِعَ الْخَبَرَ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا عِنْدَ اخْتِلَافِهِمْ وَلَمْ يَبْلُغْهُ اخْتِلَافُهُمْ لِيَرْوِيَ لَهُمْ الْخَبَرَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّ بِمِثْلِهِ لِحَدِيثٍ إذَا ثَبَتَتْ عَدَالَةُ رُوَاتِهِ وَذَلِكَ أَيْ الْحَدِيثُ الْمُنْقَطِعُ بِهَذَا الطَّرِيقِ مِثْلُ حَدِيثِ الطَّلَاقِ بِالرِّجَالِ الَّذِي تَمَسَّكَ بِهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي اعْتِبَارِ عَدَدِ الطَّلَاقِ بِحَالِ الرَّجُلِ، وَهُوَ مَا رَوَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ

كَيْ لَا تَأْكُلَهَا الزَّكَاةُ» فَهَذَا انْقِطَاعٌ بَاطِنٌ مَعْنَوِيٌّ أَعْرَضَ عَنْهُ الْخَصْمُ وَتَمَسَّكَ بِظَاهِرِ الِانْقِطَاعِ كَمَا هُوَ دَأْبُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ وَالْعِدَّةُ بِالنِّسَاءِ» ؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَذَهَبَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَزَيْدٌ وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إلَى أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الرَّجُلِ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَذَهَبَ عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إلَى أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْمَرْأَةِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِمَنْ رُقَّ مِنْهُمَا حَتَّى لَا يَمْلِكَ الزَّوْجُ عَلَيْهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ إلَّا إذَا كَانَا حُرَّيْنِ، ثُمَّ إنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالرَّأْيِ وَأَعْرَضُوا عَنْ الِاحْتِجَاجِ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَعَ أَنَّ رَاوِيَهُ وَهُوَ زَيْدٌ فِيهِمْ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ أَوْ مَنْسُوخٍ وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي زَكَاةِ الصَّبِيِّ أَيْ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ اخْتِلَافًا ظَاهِرًا، فَذَهَبَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي مَالِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا وَذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إلَى الْوُجُوبِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَذَهَبَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى أَنَّ الْوَصِيَّ يَعُدُّ السِّنِينَ عَلَيْهِ ثُمَّ يُخْبِرُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ إنْ شَاءَ أَدَّى وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُؤَدِّ وَلَمْ تَجُزْ الْمُحَاجَّةُ بَيْنَهُمْ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «ابْتَغُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى خَيْرًا كَيْ لَا تَأْكُلَهَا الصَّدَقَةُ» وَفِي رِوَايَةٍ كَيْ لَا تَأْكُلَهَا الزَّكَاةُ وَفِي رِوَايَةٍ «مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ فِيهِ وَلَا يَتْرُكْهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ» وَلَوْ كَانَ ثَابِتًا لَجَرَتْ الْمُحَاجَاةُ بِهِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ بِظُهُورِ الْخِلَافِ كَمَا تَجْرِي الْيَوْمَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَوْلَعَ بِالنَّصِّ مِنَّا وَلَوْ احْتَجُّوا بِهِ لَاشْتُهِرَ أَكْثَرَ مِنْ شُهْرَةِ الْفَتْوَى وَلَرَجَعَ الْمَحْجُوجُ عَلَيْهِ إلَيْهِ إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ انْقِيَادًا لِلْحَقِّ مِنْ غَيْرِهِمْ وَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ مُزَيَّفٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ لَا يَرُدُّ الْحَدِيثَ بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ مِنْ مَشَايِخِنَا أَجَابُوا عَنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي زُيِّفَتْ بِهِمَا بِأَنَّهَا مُعَارَضَةٌ بِأَحَادِيثَ أُخَرَ أَقْوَى مِنْهَا فِي الصِّحَّةِ؛ فَإِنَّ حَدِيثَ الْجَهْرِ بِالتَّسْمِيَةِ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «صَلَّيْت خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ الْقِرَاءَةَ بِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» وَرَوَى مُسْلِمٌ هَذَا الْخَبَرَ فِي صَحِيحِهِ وَفِيهِ أَنَّهُمْ لَا يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَفِي رِوَايَةٍ رَابِعَةٍ وَلَمْ يَجْهَرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَحَدِيثُ مَسِّ الذَّكَرِ مُعَارَضٌ بِمَا مَرَّ ذِكْرُهُ وَحَدِيثُ الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «طَلَاقُ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» مَعَ أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إنَّهُ كَلَامُ زَيْدٍ وَلَمْ يَثْبُتْ رَفْعُهُ إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَنَّهُ مُؤَوَّلٌ بِأَنَّ إيقَاعَ الطَّلَاقِ إلَى الرِّجَالِ وَحَدِيثُ عَمْرٍو مَحْمُولٌ عَلَى النَّفَقَةِ بِمُعَارَضَةِ دَلَائِلَ ذُكِرَتْ فِي مَوْضِعِهَا؛ فَإِنَّ النَّفَقَةَ قَدْ تُسَمَّى صَدَقَةً قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةٌ» وَفَسَّرَ الْإِنْفَاقَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] بِالتَّصَدُّقِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَضَافَ الْأَكْلَ إلَى جَمِيعِ الْمَالِ وَالزَّكَاةُ لَا يَأْكُلُ مَا دُونَ النِّصَابِ وَالنَّفَقَةُ تَأْتِي عَلَى الْكُلِّ وَلَفْظُ الزَّكَاةِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مَحْمُولٌ عَلَى زَكَاةِ الرَّأْسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّ الْخَبَرَ يَصِيرُ مُزَيَّفًا بِالْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ أَيْ مُخَالَفَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ بِمُقَابَلَةِ مَا هُوَ فَوْقَهُ كَنَقْدِ بَلَدٍ رَايِجٍ يَصِيرُ زَيْفًا فِي مُقَابَلَةِ نَقْدٍ فَوْقَهُ بِبَلَدٍ آخَرَ وَيَصِيرُ مُزَيَّفًا بِالْوَجْهَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ

[الانقطاع الباطن وهو أنواع أربعة]

وَأَمَّا الْقِسْمُ الْآخَرُ فَأَنْوَاعٌ أَرْبَعَةٌ خَبَرُ الْمَسْتُورِ وَخَبَرُ الْفَاسِقِ وَخَبَرُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَالْمَعْتُوهِ وَالْمُغَفَّلِ وَالْمُسَاهِلِ وَخَبَرُ صَاحِبِ الْهَوَى أَمَّا خَبَرُ الْمَسْتُورِ فَقَدْ قَالَ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ: إنَّهُ مِثْلُ الْفَاسِقِ فِيمَا يُخْبِرُ مِنْ نَجَاسَةِ الْمَاءِ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ هُوَ مِثْلُ الْعَدْلِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ بِنَاءً عَلَى الْقَضَاءِ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ وَالصَّحِيحُ مَا حَكَاهُ مُحَمَّدٌ أَنَّ الْمَسْتُورَ كَالْفَاسِقِ لَا يَكُونُ خَبَرُهُ حُجَّةً حَتَّى تَظْهَرَ عَدَالَتُهُ وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ فِي بَابِ الْحَدِيثِ احْتِيَاطًا إلَّا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا قُلْنَا فِي الْمَجْهُولِ. وَأَمَّا خَبَرُ الْفَاسِقِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِتُهْمَةِ الْكَذِبِ إمَّا قَصْدًا أَوْ غَفْلَةً كَالزَّيْفِ مِنْ نَقْدِ بَلَدِهِ لِزِيَادَةِ غِشٍّ وَقَعَ فِيهِ فَهَذَا أَيْ النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْ الِانْقِطَاعِ الْمَعْنَوِيِّ الْمُنْقَسِمِ عَلَى الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ انْقِطَاعٌ بَاطِنٌ مَعْنَوِيٌّ لِاتِّصَالِ الْخَبَرِ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صُورَةً بِاعْتِبَارِ الْإِسْنَادِ وَانْقِطَاعُهُ عَنْهُ مَعْنًى لِمَا ذَكَرْنَا أَعْرَضَ عَنْهُ الْخَصْمُ أَيْ الشَّافِعِيُّ حَيْثُ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الِانْقِطَاعِ وَتَمَسَّكَ بِظَاهِرِ الِانْقِطَاعِ أَيْ اعْتَبَرَ الِانْقِطَاعَ الظَّاهِرَ حَتَّى رَدَّ الْمَرَاسِيلَ لِانْقِطَاعِهَا صُورَةً وَإِنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً مَعْنًى كَمَا هُوَ دَأْبُهُ أَيْ عَادَتُهُ فِي بِنَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى الظَّوَاهِرِ. [الِانْقِطَاعِ الْبَاطِنِ وَهُوَ أَنْوَاعٌ أَرْبَعَةٌ] [خَبَرُ الْمَسْتُورِ] قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْقِسْمُ الْآخَرُ) بِفَتْحِ الْخَاءِ يَعْنِي مِنْ الِانْقِطَاعِ الْبَاطِنِ، وَهُوَ الِانْقِطَاعُ لِقُصُورٍ وَنُقْصَانٍ فِي النَّاقِلِ فَأَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: خَبَرُ الْمَسْتُورِ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُعْرَفْ عَدَالَتُهُ وَلَا فِسْقُهُ. وَثَانِيهَا: خَبَرُ الْفَاسِقِ، وَهُوَ الْمُسْلِمُ الَّذِي صَدَرَتْ عَنْهُ كَبِيرَةٌ أَوْ وَاظَبَ عَلَى صَغِيرَةٍ عَلَى مَا قِيلَ. وَثَالِثُهَا: خَبَرُ الْمَعْتُوهِ، وَهُوَ النَّاقِصُ الْعَقْلِ مِنْ غَيْرِ جُنُونٍ عَلَى مَا يُعْرَفُ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالْمُغَفَّلُ عَلَى لَفْظِ اسْمِ الْمَفْعُولِ مِنْ التَّغْفِيلِ، وَهُوَ الَّذِي لَا فِطْنَةَ لَهُ وَقِيلَ الْغَفْلَةُ لِلْعَقْلِ كَالنَّوْمِ لِلْعَيْنِ وَالْمُسَاهِلُ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَأْخُذُ فِي الْأُمُورِ بِالْحَزْمِ، وَإِنَّمَا جُعِلَ الْجَمِيعُ قِسْمًا لِاسْتِوَاءِ أَحْكَامِهِ. وَالرَّابِعُ: خَبَرُ صَاحِبِ الْهَوَى، وَهُوَ الْمُخْطِئُ فِي الْأُصُولِ الْمُعَانِدُ بَعْدَ تَبَيُّنِ الْحَقِّ لِدُعَاءِ هَوَاهُ إلَى خِلَافِ الْحَقِّ، وَأَمَّا خَبَرُ الْمَسْتُورِ فَقَدْ قَالَ أَيْ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ إنَّهُ مِثْلُ الْفَاسِقِ فِيمَا يُخْبِرُ مِنْ نَجَاسَةِ الْمَاءِ فَقَالَ، وَإِذَا حَضَرَ الْمُسَافِرُ الصَّلَاةَ وَلَمْ يَجِدْ مَاءً إلَّا فِي إنَاءٍ أَخْبَرَهُ رَجُلٌ أَنَّهُ قَذَرٌ، وَهُوَ عِنْدَهُ مُسْلِمٌ مَرَضِيٌّ لَمْ يَتَوَضَّأْ بِهِ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا فَلَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِذَلِكَ الْمَاءِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَسْتُورًا لَحِقَ الْمَسْتُورُ بِالْفَاسِقِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْمَسْتُورُ فِي هَذَا الْخَبَرِ كَالْعَدْلِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى مَذْهَبِهِ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ الْمَسْتُورِينَ إذَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ لِثُبُوتِ عَدَالَتِهِمْ ظَاهِرًا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ» . وَكَذَا نَقَلَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَهَذَا مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ تَعْدِيلٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ وَتَعْدِيلُ صَاحِبِ الشَّرْعِ أَوْلَى مِنْ تَعْدِيلِ الْمُزَكِّي وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ لِتَرَجُّحِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي الْخَبَرِ وَمَا كَانَ شَرْطًا لَا يَكْتَفِي بِوُجُودِهِ ظَاهِرًا كَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ لَمْ تَدْخُلْ الدَّارَ الْيَوْمَ فَأَنْتَ حُرٌّ، ثُمَّ مَضَى الْيَوْمُ فَقَالَ الْعَبْدُ: لَمْ أَدْخُلْ، وَقَالَ الْمَوْلَى: دَخَلْت؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ عَدَمَ الدُّخُولِ شَرْطٌ فَلَا يَكْفِي ثُبُوتُهُ ظَاهِرًا لِيَزُولَ الْعِتْقُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. وَهَذَا أَيْ كَوْنُ الْمَسْتُورِ كَالْفَاسِقِ ثَابِتٌ بِلَا خِلَافٍ فِي بَابِ الْحَدِيثِ احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّ أَمْرَ الدِّينِ أَهَمُّ فَلَا يَكُونُ رِوَايَةُ الْمَسْتُورِ حُجَّةً بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ إنَّمَا اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ فِي إخْبَارِهِ عَنْ نَجَاسَةِ الْمَاءِ لَا غَيْرُ إلَّا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ أَيْ فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ؛ فَإِنَّ رِوَايَةَ الْمَسْتُورِ مِنْهُمْ مَقْبُولَةٌ لِكَوْنِ الْعَدَالَةِ أَصْلًا فِيهِمْ عَلَى مَا قُلْنَا فِي الْمَجْهُولِ بَيْنَهُمْ فِي الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ. وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ فِي الْحَدِيثِ أَيْضًا؛ فَإِنَّهُ قَالَ: وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْمَسْتُورَ بِمَنْزِلَةِ الْعَدْلِ فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ لِثُبُوتِ الْعَدَالَةِ ظَاهِرًا إلَّا أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الِاسْتِحْسَانِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْفِسْقَ فِي أَهْلِ الزَّمَانِ غَالِبٌ فَلَا يَعْتَمِدُ رِوَايَةَ الْمَسْتُورِ مَا لَمْ يَثْبُتْ عَدَالَتُهُ

[خبر الفاسق]

فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي الدِّينِ أَصْلًا لِرُجْحَانِ كَذِبِهِ عَلَى صِدْقِهِ، وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْفَاسِقِ إذَا أَخْبَرَ بِحِلٍّ أَوْ حُرْمَةٍ أَنَّ السَّامِعَ يُحَكِّمُ رَأْيَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ خَاصٌّ لَا يَسْتَقِيمُ طَلَبُهُ وَتَلَقِّيهِ مِنْ جِهَةِ الْعُدُولِ فَوَجَبَ التَّحَرِّي فِي خَبَرِهِ فَأَمَّا هُنَا فَلَا ضَرُورَةَ فِي الْمَصِيرِ إلَى رِوَايَتِهِ وَفِي الْعُدُولِ كَثْرَةٌ وَبِهِمْ غُنْيَةً إلَّا أَنَّ الضَّرُورَةَ فِي حِلِّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ غَيْرُ لَازِمَةٍ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْأَصْلِ مُمْكِنٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ طَاهِرٌ فِي الْأَصْلِ فَلَمْ يُجْعَلْ الْفِسْقُ هَدَرًا بِخِلَافِ خَبَرِ الْفَاسِقِ فِي الْهَدَايَا وَجْهٌ وَالْوَكَالَاتُ وَنَحْوُهَا؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ ثَمَّةَ لَازِمَةٌ وَفِيهِ آخَرُ نَذْكُرُهُ فِي بَابِ مَحَلِّ الْخَبَرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَعْتُوهُ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ بَعْدَ ذِكْرِ الْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ وَالْكَافِرِ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ وَالْمَعْتُوهُ إذَا عَقَلَا مَا يَقُولَانِ ـــــــــــــــــــــــــــــQكَمَا لَا يُعْتَمَدُ شَهَادَتُهُ فِي الْقَضَاءِ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ عَدَالَتُهُ وَهَذَا لِحَدِيثِ عَبَّادُ بْنُ كَثِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تُحَدِّثُوا عَمَّنْ لَا تَعْمَلُونَ بِشَهَادَتِهِ» وَلِأَنَّ فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ مَعْنَى الْإِلْزَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُعْتَمَدَ فِيهِ دَلِيلٌ مُلْزِمٌ، وَهُوَ الْعَدَالَةُ الَّتِي تَظْهَرُ بِالتَّفَحُّصِ عَنْ أَحْوَالِ الرَّاوِي وَلَا اعْتِبَارَ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ وَإِنْ بَيَّنَ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ» الِاكْتِفَاءُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَفْشُو الْكَذِبُ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا رِوَايَةُ الْعَبْدِ؛ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مَعَ أَنَّ شَهَادَتَهُ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ إشَارَةً إلَى عَدَمِ قَبُولِ رِوَايَةِ مَنْ كَانَتْ لَهُ شَهَادَةٌ ثُمَّ لَا تُقْبَلُ كَالْفَاسِقِ وَالْعَبْدِ لَا شَهَادَةَ لَهُ أَصْلًا فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْحَدِيثُ. [خَبَرُ الْفَاسِقِ] قَوْلُهُ (فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي الدِّينِ أَصْلًا) زَعَمَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْفَاسِقِ يَجِبُ تَحْكِيمُ الرَّأْيِ فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِ السَّامِعِ أَنَّهُ صَادِقٌ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ اسْتِدْلَالًا بِمَا إذَا أَخْبَرَ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ أَوْ طَهَارَتِهِ أَوْ بِحِلِّ الطَّعَامِ وَحُرْمَتِهِ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ تَحْكِيمُ الرَّأْيِ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ أَمْرٌ دِينِيٌّ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا فَرَدَّ الشَّيْخُ ذَلِكَ، وَقَالَ خَبَرُهُ فِي الدِّينِ أَيْ نَقْلُهُ لِلْحَدِيثِ غَيْرُ مَقْبُولٍ أَصْلًا سَوَاءٌ وَقَعَ فِي قَلْبِ السَّامِعِ صِدْقُهُ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا يَصِيرُ حُجَّةً بِتَرَجُّحِ الصِّدْقِ فِيهِ وَبِالْفِسْقِ يَزُولُ تَرَجُّحُهُ بَلْ يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الْكَذِبِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْهُ الْعَقْلُ وَالدِّينُ عَنْ ارْتِكَابِ مَحْظُورِ الدِّينِ لَا يَمْنَعَانِهِ عَنْ الْكَذِبِ أَيْضًا فَلَا يَكُونُ خَبَرُهُ حُجَّةً بِخِلَافِ أَخْبَارِهِ عَنْ حُرْمَةِ طَعَامٍ أَوْ حِلِّهِ أَوْ نَجَاسَةِ مَاءٍ أَوْ طَهَارَتِهِ حَيْثُ يُقْبَلُ إذَا تَأَيَّدَ بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْ الْحُرْمَةُ وَالْحِلُّ وَالنَّجَاسَةُ وَالطَّهَارَةُ أَمْرٌ خَاصٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى رِوَايَةِ الْحَدِيثِ رُبَّمَا يَتَعَذَّرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ لَهُ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ فَتُقْبَلُ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ التَّحَرِّي أَيْ تَحْكِيمُ الرَّأْيِ لِلضَّرُورَةِ. فَأَمَّا هَاهُنَا أَيْ فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ فَلَا ضَرُورَةَ فِي الْمَصِيرِ إلَى قَبُولِ رِوَايَتِهِ؛ لِأَنَّ فِي الْعُدُولِ الَّذِينَ تَلْقَوْا نَقْلَ الْأَخْبَارِ كَثْرَةَ تَمَكُّنِ الْوُقُوفِ عَلَى مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ بِالسَّمَاعِ مِنْهُمْ فَلَا حَاجَةَ إلَى الِاعْتِمَادِ عَلَى خَبَرِ الْفَاسِقِ، وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ بَعْدَ بَيَانِ مَسْأَلَةِ إخْبَارِ الْفَاسِقِ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ ثُمَّ بَيَّنَ أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْفَاسِقِ وَالْمَسْتُورِ أَنَّهُ يُحَكَّمُ رَأْيُهُ فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ يَتَيَمَّمُ وَلَا يَتَوَضَّأُ بِهِ؛ لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ فِيمَا بُنِيَ عَلَى الِاحْتِيَاطِ كَالْيَقِينِ، وَإِنْ أَرَاقَهُ ثُمَّ تَيَمَّمَ كَانَ أَحْوَطَ وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ تَوَضَّأَ بِهِ وَلَا يَتَيَمَّمُ. (فَإِنْ قِيلَ) كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَيَمَّمَ احْتِيَاطًا لِمَعْنَى التَّعَارُضِ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ كَمَا فِي سُؤْرِ الْحِمَارِ يَجْمَعُ بَيْنَ التَّوَضُّؤِ وَالتَّيَمُّمِ احْتِيَاطًا لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ فِي سُؤْرِ الْحِمَارِ قُلْنَا حُكْمُ التَّوَقُّفِ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ مَعْلُومٌ بِالنَّصِّ وَفِي الْأَمْرِ بِالتَّيَمُّمِ هَاهُنَا عَمَلٌ بِخَبَرِهِ مِنْ وَجْهٍ فَكَانَ بِخِلَافِ النَّصِّ، وَإِذَا ثَبَتَ التَّوَقُّفُ فِي خَبَرِهِ بَقِيَ أَصْلُ الطَّهَارَةِ لِلْمَاءِ فَلَا حَاجَةَ إلَى ضَمِّ التَّيَمُّمِ إلَيْهِ، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ وَرَدَ مَاءَ حِيَاضٍ مَعَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ عَمْرٌو لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَاءِ أَخْبِرْنَا عَنْ السِّبَاعِ أَتَرِدُ مَاءَكُمْ هَذَا فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا تُخْبِرْنَا عَنْ شَيْءٍ فَلَوْلَا أَنَّ خَبَرَهُ عُدَّ خَيْرًا مَا نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِالسُّؤَالِ قَصَدَ الْأَخْذَ بِالِاحْتِيَاطِ، وَقَدْ كَرِهَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لِوُجُودِ دَلِيلِ الطَّهَارَةِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَا بَقِيَ هَذَا الدَّلِيلُ لَا حَاجَةَ إلَى احْتِيَاطٍ آخَرَ، ثُمَّ فَرَّقَ الشَّيْخُ بَيْنَ قَبُولِ خَبَرِهِ فِي حُرْمَةِ الطَّعَامِ وَنَجَاسَةِ الْمَاءِ وَبَيْنَ

[خبر الكافر والصبي والمعتوه إذا عقلا ما يقولان]

فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُمَا مِثْلُ الْعَدْلِ الْمُسْلِمِ الْبَالِغِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا مِثْلُ الْكَافِرِ لَا يَقُومُ حُجَّةٌ بِخَبَرِهِمَا وَلَا يُفَوَّضُ أَمْرُ الدِّينِ إلَيْهِمَا لِمَا قُلْنَا: إنَّ خَبَرَهُمَا لَا يَصْلُحُ مُلْزِمًا بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ الْمُتَعَدِّيَةَ فَرْعٌ لِلْوِلَايَةِ الْقَائِمَةِ وَلَيْسَ لَهُمَا وِلَايَةٌ مُلْزِمَةٌ فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمَا وَإِنَّمَا هِيَ مُجَوَّزَةٌ فَكَيْفَ يَثْبُتُ مُتَعَدِّيَةً مُلْزِمَةً وَإِنَّمَا. قُلْنَا: إنَّهَا مُتَعَدِّيَةٌ مُلْزِمَةٌ؛ لِأَنَّ مَا يُخْبِرُ عَنْهُ الصَّبِيُّ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ فَيَصِيرُ غَيْرُهُ مَقْصُودًا بِخَبَرِهِ فَيَصِيرُ مِنْ بَابِ الْإِلْزَامِ بِمَنْزِلَةِ خَبَرِ الْكَافِرِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ لِمَا قُلْنَا وَالْمَعْتُوهُ مِثْلُ الصَّبِيِّ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مُحَمَّدٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْمَبْسُوطِ ـــــــــــــــــــــــــــــQقَبُولِهِ فِي الْهَدَايَا وَالْوَكَالَاتِ وَالْمُضَارَبَاتِ وَسَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي تَنْفَكُّ عَنْ مَعْنَى الْإِلْزَامِ حَيْثُ يَجِبُ التَّحَرِّي فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَلَا يَجِبُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي بَلْ يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَى خَبَرِهِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَحْكِيمِ الرَّأْيِ فَقَالَ إلَّا أَنَّ الضَّرُورَةَ أَيْ لَكِنَّ الضَّرُورَةَ غَيْرُ لَازِمَةٍ إلَى آخِرِهِ، وَكَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْأَصْلِ مُمْكِنٌ، وَهُوَ أَنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ حَلَالٌ فِي الْأَصْلِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِ حِلِّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ دُونَ نَجَاسَةِ الْمَاءِ وَطَهَارَتِهِ لَكِنَّ الْمَسْأَلَتَيْنِ لَمَّا اتَّفَقَتَا فِي الْحُكْمِ قَالَ الْمَاءُ طَاهِرٌ فِي الْأَصْلِ فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الْحِلُّ أَيْضًا فَلَمْ يُجْعَلْ الْفِسْقُ هَدَرًا أَيْ بَاطِلًا سَاقِطًا بَلْ وَجَبَ ضَمُّ التَّحَرِّي إلَيْهِ بِخِلَافِ خَبَرِ الْفَاسِقِ فِي الْهَدَايَا وَالْوَكَالَاتِ بِأَنْ قَالَ إنَّ فُلَانًا أَهْدَى إلَيْك هَذَا الشَّيْءَ أَوْ قَالَ إنَّ فُلَانًا وَكَّلَك بِبَيْعِ هَذَا الشَّيْءِ أَوْ وَكَّلَنِي بِهِ، وَنَحْوُهَا مِنْ الْمُعَامَلَاتِ حَيْثُ يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَى خَبَرِهِ مِنْ غَيْرِ وُجُوبِ ضَمِّ التَّحَرِّي إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ ثَمَّهْ بِسُكُونِ الْهَاءِ لَازِمَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَبْعَثُ هَدِيَّةً لَا يَجِدُ عَدْلًا يَبْعَثُهَا عَلَى يَدَيْهِ وَكَذَا فِي الْوَكَالَةِ وَلَيْسَ فِيهَا أَصْلٌ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ فَجُعِلَ الْفِسْقُ هَدَرًا وَجَوَّزَ قَبُولَ قَوْلِهِ مُطْلَقًا كَخَبَرِ الْعَدْلِ. وَفِيهِ أَيْ فِي الْفَرْقِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ فِيهِ مَعْنَى الْإِلْزَامِ مِنْ وَجْهٍ فَلَمْ يُجْعَلْ خَبَرُ الْفَاسِقِ فِيهِمَا مُعْتَمَدًا عَلَيْهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ حَتَّى يَنْضَمَّ إلَيْهِ أَكْبَرُ الرَّأْيِ وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمُعَامَلَاتِ يَنْفَكُّ عَنْ مَعْنَى الْإِلْزَامِ فَجَازَ الِاعْتِمَادُ فِيهَا عَلَى خَبَرِهِ مُطْلَقًا. [خَبَر الْكَافِرِ وَالصَّبِيُّ وَالْمَعْتُوهُ إذَا عَقَلَا مَا يَقُولَانِ] قَوْلُهُ (قَالَ بَعْضُهُمْ) كَذَا إنَّمَا نَشَأَ الْخِلَافُ مِنْ تَعَدُّدِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ سَبَقَ ذِكْرُ الْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ وَالْكَافِرِ فَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْمَبْسُوطِ، وَإِذَا حَضَرَ الْمُسَافِرُ الصَّلَاةَ وَلَمْ يَجِدْ مَاءً إلَّا فِي إنَاءٍ أَخْبَرَهُ رَجُلٌ أَنَّهُ قَذَرٌ، وَهُوَ عِنْدَهُ مُسْلِمٌ مَرَضِيٌّ لَمْ يَتَوَضَّأْ بِهِ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا فَلَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِهِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَسْتُورًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَخْبَرَهُ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَهُ وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ وَالْمَعْتُوهُ إذَا عَقَلَا مَا يَقُولَانِ فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مُرَادُهُ بِهَذَا الْعَطْفِ أَنَّ الصَّبِيَّ كَالْبَالِغِ إذَا كَانَ مَرَضِيًّا فَجَعَلَهُ عَطْفًا عَلَى الْعَدْلِ لَا عَلَى الْكَافِرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ إذَا عَقَلَا مَا يَقُولَانِ وَلَوْ كَانَ عَطْفًا عَلَى الْكَافِرِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا التَّقْيِيدِ فَائِدَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا لَمْ يَعْقِلَا مَا يَقُولَانِ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُمَا أَيْضًا، وَهَذَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اعْتِبَارَ الْحُرِّيَّةِ وَالذُّكُورَةِ لَمَّا سَقَطَ فِي هَذَا الْبَابِ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْبُلُوغِ كَمَا فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ قَبِلُوا خَبَرَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ إلَى الْكَعْبَةِ حَتَّى اسْتَدَارُوا كَهَيْئَتِهِمْ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ حِينَئِذٍ صَغِيرًا؛ فَإِنَّهُ عُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ أَوْ أُحُدٍ، وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَرَدَّهُ لِصِغَرِهِ وَتَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ كَانَ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ مُرَادُهُ الْعَطْفُ عَلَى الْفَاسِقِ حَتَّى وَجَبَ ضَمُّ التَّحَرِّي إلَى خَبَرِهِ كَمَا فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ وَالْمَسْتُورِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ مُرَادَهُ الْعَطْفُ عَلَى الْكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَيْهِ فَلَا يُجْعَلُ عَطْفًا عَلَى الْأَبْعَدِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ لِمَا قُلْنَا يَعْنِي فِي أَوَّلِ بَابِ تَفْسِيرِ الشُّرُوطِ أَنَّ خَبَرَهُمَا لَا يَصْلُحُ مُلْزِمًا بِحَالٍ يَعْنِي سَوَاءٌ انْضَمَّ إلَيْهِ التَّحَرِّي أَوْلَمَ يَنْضَمَّ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ الْمُتَعَدِّيَةَ فَرْعٌ لِلْوِلَايَةِ الْقَائِمَةِ أَيْ ثُبُوتُ الْوِلَايَةِ عَلَى الْغَيْرِ فَرْعٌ لِثُبُوتِهَا عَلَى نَفْسِهِ إذْ الْأَصْلُ فِي الْوِلَايَاتِ وِلَايَةُ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ تَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِ التَّعَدِّي؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ قُدْرَةٌ وَمَنْ لَا يَقْدِرُ فِي نَفْسِهِ

أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّحَابَةَ تَحَمَّلُوا فِي صِغَرِهِمْ وَنَقَلُوا فِي كِبَرِهِمْ، وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْكَافِرِ يُخْبِرُ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ: إنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِخَبَرِهِ وَيَتَوَضَّأُ بِهِ فَإِنْ تَيَمَّمَ وَأَرَاقَ الْمَاءَ فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ، وَفِي الْفَاسِقِ جُعِلَ الِاحْتِيَاطُ أَصْلًا ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا يُمْكِنُهُ إثْبَاتُهَا لِغَيْرِهِ، وَلَيْسَ لَهُمَا أَيْ لِلصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ وِلَايَةٌ مُلْزِمَةٌ عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا هِيَ مُجَوَّزَةٌ يَعْنِي تَصَرُّفَهُمَا جَائِزُ الثُّبُوتِ حَتَّى لَوْ انْضَمَّ إلَيْهِ رَأْيُ الْوَلِيِّ يَصِيرُ مُلْزِمًا وَلَوْ كَانَ مُلْزِمًا ابْتِدَاءً لَمْ يَحْتَجْ إلَى انْضِمَامِ رَأْيِهِ إلَيْهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهَا مُتَعَدِّيَةٌ يَعْنِي لَوْ قَبِلْنَا خَبَرَهُمَا صَارَتْ وِلَايَتُهُمَا مُتَعَدِّيَةً إلَى الْغَيْرِ مُلْزِمَةً عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ خَبَرِ الْكَافِرِ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ مُوجَبُ مَا أَخْبَرَ بِهِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُخَاطَبٍ بِالشَّرَائِعِ كَانَ خَبَرُهُ مُلْزِمًا عَلَى الْغَيْرِ ابْتِدَاءً وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِلْزَامِ، فَكَذَا الصَّبِيُّ بِخِلَافِ الْعَبْدِ لِمَا قُلْنَا أَيْ فِي آخِرِ بَابِ تَفْسِيرِ الشُّرُوطِ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَالْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ الرِّوَايَةِ إلَى آخِرِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَاقِلٌ بَالِغٌ مُخَاطَبٌ مُسَاوٍ لِلْحُرِّ فِي أُمُورِ الدِّينِ فَلَا يَكُونُ الْغَيْرُ مَقْصُودًا بِخَبَرِهِ بَلْ يَلْزَمُهُ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى الْغَيْرِ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ بِهِلَالِ رَمَضَانَ فَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ وَبِالرِّقِّ إنْ خَرَجَ مِنْ أَهْلِيَّةِ الْوِلَايَةِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَهْلِيَّةِ الِالْتِزَامِ وَمَا فِيهِ الْتِزَامٌ يُسَاوِي الْعَبْدُ الْحُرَّ فِيهِ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا وَقَوْلُهُ، أَلَا تَرَى مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ لَا يَقُومُ الْحُجَّةُ بِخَبَرِهِمَا أَوَبِقَوْلِهِ فَكَيْفَ يَثْبُتُ مُتَعَدِّيَةً مُلْزِمَةً، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَيْ بَعْضَهُمْ تَحَمَّلُوا الْأَخْبَارَ عَنْ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صِغَرِهِمْ وَنَقَلُوهَا فِي كِبَرِهِمْ دُونَ صِغَرِهِمْ، وَلَوْ كَانَتْ رِوَايَةُ الصِّغَارِ حُجَّةً لَنَقَلُوهَا فِي صِغَرِهِمْ كَمَا نَقَلُوهَا فِي كِبَرِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَهْلِ قُبَاءَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَيْضًا أَنَّ الَّذِي أَتَاهُمْ أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمَا جَاءَا جَمِيعًا وَأَنَّهُمْ اعْتَمَدُوا عَلَى رِوَايَةِ الْبَالِغِ، وَهُوَ أَنَسٌ دُونَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ بَالِغًا يَوْمَئِذٍ؛ فَإِنَّهُ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا إلَّا أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَدَّهُ فِي الْقِتَالِ لِضَعْفِ بِنْيَتِهِ يَوْمَئِذٍ لَا لِأَنَّهُ كَانَ صَغِيرًا كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قَوْلُهُ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ) إلَى آخِرِهِ فَرَّقَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ خَبَرِ الْفَاسِقِ وَالْكَافِرِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الِاحْتِيَاطِ فَأَوْجَبَ الِاحْتِيَاطَ، وَهُوَ الِاحْتِرَازُ عَنْ النَّجَاسَةِ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ وَلَمْ يُوجِبْهُ فِي خَبَرِ الْكَافِرِ فَقَالَ فِي الْكَافِرِ إذَا أَخْبَرَ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ لَا يَعْمَلُ الْمَخْبَرُ عَنْهُ بِخَبَرِهِ وَإِنْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ صِدْقُهُ بَلْ يَتَوَضَّأُ بِذَلِكَ الْمَاءِ وَلَكِنْ إنْ أَرَاقَ الْمَاءَ إذَا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ صِدْقُهُ ثُمَّ تَيَمَّمَ بَعْدُ كَانَ ذَلِكَ أَحَبَّ إلَيَّ، وَإِنْ تَيَمَّمَ مِنْ غَيْرِ إرَاقَةٍ وَصَلَّى لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَالْفَاسِقُ إذْ أَخْبَرَ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ وَوَقَعَ فِي قَلْبِهِ صِدْقُهُ فَالْأَوْلَى أَنْ يُرِيقَ الْمَاءَ ثُمَّ يَتَيَمَّمَ فَإِنْ تَيَمَّمَ وَلَمْ يُرِقْ الْمَاءَ جَازَتْ صَلَاتُهُ وَلَوْ تَوَضَّأَ بِهِ وَصَلَّى مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَيَمَّمَ لَا يَجُوزُ صَلَاتُهُ فَأَوْجَبَ الِاحْتِرَازَ عَنْ النَّجَاسَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْفَاسِقِ حَيْثُ جَوَّزَ التَّيَمُّمَ مِنْ غَيْرِ إرَاقَةٍ وَلَمْ يُجَوِّزْ التَّوَضُّؤَ بِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ جَعَلَ الِاحْتِيَاطَ أَصْلًا أَيْ بَنَى الْحُكْمَ، وَهُوَ الْجَوَازُ وَعَدَمُ الْجَوَازِ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَلَمْ يُجْعَلْ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْكَافِرِ حَيْثُ لَمْ يُجَوِّزْ التَّيَمُّمَ بِدُونِ الْإِرَاقَةِ وَجَوَّزَ التَّوَضُّؤَ بِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ جَعَلَ الِاحْتِيَاطَ أَيْ التَّحَرِّيَ أَصْلًا فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ؛ فَإِنَّ التَّحَرِّيَ هُوَ الِاحْتِيَاطُ حَيْثُ قَالَ يُحَكِّمُ السَّامِعُ رَأْيَهُ فَلَمْ يَجْعَلْ خَبَرَهُ حُجَّةً وَلَا هَدَرًا بَلْ جَعَلَ التَّحَرِّيَ فِيهِ أَصْلًا وَلَمْ يَجْعَلْ الِاحْتِيَاطَ أَيْ التَّحَرِّيَ أَصْلًا فِي خَبَرِ الْكَافِرِ حَيْثُ لَمْ يَعْمَلْ بِخَبَرِهِ أَصْلًا وَذَكَرَ الشَّيْخُ فِي بَعْضِ تَصَانِيفِهِ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى هَذِهِ التَّقَاسِيمِ مَسَائِلُ ذَكَرَهَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّيَمُّمُ وَلَا يَجِبُ الْإِرَاقَةُ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِخَبَرِهِ وَاجِبٌ وَفِي خَبَرِ الْفَاسِقِ يَجِبُ التَّيَمُّمُ لَكِنَّ الْإِرَاقَةَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ خَبَرَهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ بَعْدَ التَّثَبُّتِ لَكِنْ مَعَ شُبْهَةٍ فَلِقِيَامِ شُبْهَةِ عَدَمِ الْوُجُوبِ أَيْ وُجُوبِ الْعَمَلِ أَمَرْنَاهُ بِالْإِرَاقَةِ وَلِوُجُودِ أَصْلِ الْوُجُوبِ أَوْجَبْنَا التَّيَمُّمَ، وَفِي خَبَرِ الْكَافِرِ لَا يَجِبُ التَّيَمُّمُ لَكِنْ أَحَبُّ إلَيَّ

وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ فِيمَا يُسْتَحَبُّ مِنْ الِاحْتِيَاطِ وَكَذَلِكَ رِوَايَةُ الصَّبِيِّ فِيهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ رِوَايَةِ الْكَافِرِ دُونَ الْفَاسِقِ الْمُسْلِمِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْفَاسِقَ شَاهِدٌ عِنْدَنَا بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْكَافِرُ غَيْرُ شَاهِدٍ عَلَى الْمُسْلِمِ أَصْلًا فَصَارَ الصَّبِيُّ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ الْبَالِغُ فِي أُمُورِ الدِّينِ سَوَاءً وَالْفَاسِقُ فَوْقَهُمَا حَتَّى أَنَّا نَقُولُ فِي خَبَرِهِ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ إذَا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ يَتَيَمَّمُ مِنْ غَيْرِ إرَاقَةِ الْمَاءِ فَإِنْ أَرَاقَ الْمَاءَ فَهُوَ أَحْوَطُ لِلتَّيَمُّمِ، وَأَمَّا فِي خَبَرِ الْكَافِرِ إذَا وَقَعَ فِي قَلْبِ السَّامِعِ صِدْقُهُ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ تَوَضَّأَ بِهِ وَلَمْ يَتَيَمَّمْ فَإِنْ أَرَاقَ ثُمَّ تَيَمَّمَ فَهُوَ أَفْضَلُ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ وَالْمَعْتُوهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَلِي هَذَا الْعَطْفَ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ الْكَافِرُ وَفِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِي حُكْمِ الِاحْتِيَاطِ خَاصَّةً، وَأَمَّا الْمُغَفَّلُ الشَّدِيدُ الْغَفْلَةِ، وَهُوَ مِثْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ فَأَمَّا تُهْمَةُ الْغَفْلَةِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَلَا يَخْلُو عَامَّةُ الْبَشَرِ عَنْ ضَرْبِ غَفْلَةٍ إذَا كَانَ عَامَّةُ حَالِهِ التَّيَقُّظَ، وَأَمَّا الْمُسَاهِلُ؛ فَإِنَّمَا نَعْنِي بِهِ الْمُجَازِفَ الَّذِي لَا يُبَالِي مِنْ السَّهْوِ وَالْخَطَأِ وَالتَّزْوِيرِ وَهَذَا مِثْلُ الْمُغَفَّلِ إذَا اعْتَادَ ذَلِكَ فَقَدْ يَكُونُ الْعَادَةُ لَلَزِمَ مِنْ الْخِلْقَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنْ يُرِيقَ الْمَاءَ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِخَبَرِهِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَلَا عَدَالَةَ لَهُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ لَكِنْ شُبْهَةُ وُجُوبِ الْعَمَلِ ثَابِتَةٌ بِشَهَادَتِهِ؛ لِأَنَّهُ ذُو وِلَايَةٍ عَلَى جِنْسِهِ وَفِي خَبَرِ الصَّبِيِّ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ بِخَبَرِهِ شُبْهَةُ وُجُوبِ الْعَمَلِ. قَوْلُهُ (وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ) أَيْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَأْنُ الْكَافِرِ فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ كَشَأْنِهِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ نَجَاسَةِ الْمَاءِ فِيمَا يُسْتَحَبُّ مِنْ الِاحْتِيَاطِ أَيْ مِنْ الْأَخْذِ بِهِ يَعْنِي لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ فِي الدِّينِ وَلَا يَكُونُ حُجَّةً كَمَا لَمْ يُقْبَلْ فِي نَجَاسَةِ الْمَاءِ إلَّا أَنَّ الِاحْتِيَاطَ لَوْ كَانَ فِي الْعَمَلِ بِهِ يُسْتَحَبُّ الْأَخْذُ بِهِ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ كَمَا اسْتَحَبَّ الْإِرَاقَةَ ثُمَّ التَّيَمُّمَ هُنَاكَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْقُ ثَابِتًا بَيْنَ خَبَرِ الْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ فِيمَا يُسْتَحَبُّ مِنْ الِاحْتِيَاطِ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَبَرُ خَبَرِهِمَا حُجَّةً كَثُبُوتِهِ فِي إخْبَارِهِمَا عَنْ نَجَاسَةِ الْمَاءِ فَإِذَا رَوَى الْكَافِرُ حَدِيثًا لَا يَكُونُ حُجَّةً أَصْلًا وَلَكِنْ لَوْ كَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي الْأَخْذِ بِهِ يَكُونُ الِاسْتِحْبَابُ فِي الْعَمَلِ بِهِ فَوْقَ الِاسْتِحْبَابِ فِي الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْكَافِرِ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَدُلُّ سِيَاقُ الْكَلَامِ، فَإِنْ أَرَاقَ الْمَاءَ فَهُوَ أَحْوَطُ لِلتَّيَمُّمِ، أَيْ الْإِرَاقَةُ ثُمَّ التَّيَمُّمُ أَحْوَطُ مِنْ التَّيَمُّمِ بِلَا إرَاقَةٍ لِاحْتِمَالِ كَوْنِ الْمَاءِ طَاهِرًا وَكَوْنِ الْمُخْبِرِ كَاذِبًا فَيَكُونُ الِاحْتِيَاطُ فِي الْإِرَاقَةِ لِيَصِيرَ عَادِمًا لِلْمَاءِ فَيَحْصُلُ الطَّهَارَةُ بِيَقِينٍ، فَإِنْ أَرَاقَهُ ثُمَّ تَيَمَّمَ فَهُوَ أَفْضَلُ أَيْ الْإِرَاقَةُ ثُمَّ التَّيَمُّمُ أَفْضَلُ مِنْ التَّوَضُّؤِ بِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا إذْ الْكُفْرُ لَا يُنَافِي الصِّدْقَ فَلَا يَحْصُلُ الطَّهَارَةُ بِالتَّوَضُّؤِ بِهِ وَيَتَنَجَّسُ الْأَعْضَاءُ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي إرَاقَتِهِ ثُمَّ التَّيَمُّمُ بَعْدَهُ لِيَحْصُلَ الطَّهَارَةُ وَالِاحْتِرَازُ عَنْ النَّجَاسَةِ بِيَقِينٍ. وَقَوْلُهُ إذَا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ صِدْقُهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ فِي مَسْأَلَةِ الْكَافِرِ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ عَلَى جِهَةِ الشَّرْطِ لِلتَّوَضُّؤِ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ عَلَى جِهَةِ الشَّرْطِ لِصِحَّةِ التَّيَمُّمِ فِي مَسْأَلَةِ الْفَاسِقِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَقَعْ فِي قَلْبِهِ صِدْقُ الْكَافِرِ فِي إخْبَارِهِ يَتَوَضَّأُ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى وَلَكِنَّ الْغَرَضَ مِنْ ذِكْرِهِ تَحْقِيقُ الْفَرْقِ بَيْنَ خَبَرِهِ وَخَبَرِ الْفَاسِقِ إذْ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا يَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَقَعْ الصِّدْقُ فِي قَلْبِ السَّامِعِ فَالْكَافِرُ وَالْفَاسِقُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ وَالْمَعْتُوهُ) أَيْ وَكَالْكَافِرِ الصَّبِيُّ وَالْمَعْتُوهُ فِي حُكْمِ الْإِخْبَارِ عَنْ نَجَاسَةِ الْمَاءِ وَطَهَارَتِهِ لِمَا ذُكِرَ وَفِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ أَيْ يَكُونُ الصَّبِيُّ أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا كَالْكَافِرِ أَيْضًا حَتَّى لَا يُقْبَلَ خَبَرُهُ لِمَا مَرَّ. وَقَوْلُهُ فِي حُكْمِ الِاحْتِيَاطِ خَاصَّةً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي رَدِّ خَبَرِ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ كَمَا أَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي رَدِّ خَبَرِ الْكَافِرِ لِتَحَقُّقِ التُّهْمَةِ فِي خَبَرِ هَؤُلَاءِ فَسَوَّيْنَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْكَافِرِ فِي هَذَا الْحُكْمِ الَّذِي كَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي الْقَوْلِ بِهِ خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ الْأَحْكَامِ فَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ فِيهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ وَفِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ كَالْكَافِرِ فَلَا يَكُونُ خَبَرُهُ حُجَّةً خُصُوصًا فِي حُكْمِ الِاحْتِيَاطِ؛ فَإِنَّ الْعَمَلَ بِالِاحْتِيَاطِ فِي خَبَرِ الْكَافِرِ مُسْتَحَبٌّ مَعَ كُفْرِهِ وَاتِّهَامُهُ بِعَدَاوَةِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ الْعَمَلُ بِالِاحْتِيَاطِ فِي خَبَرِ الصَّبِيِّ الْمُسْلِمِ أَوْلَى بِالِاسْتِحْبَابِ أَوْ خُصُوصًا فِي حُكْمِ الِاحْتِيَاطِ؛ فَإِنَّ الْعَمَلَ بِالِاحْتِيَاطِ فِي خَبَرِ الْكَافِرِ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ مَعَ كَمَالِ عَقْلِهِ وَتَدَيُّنِهِ بِحُرْمَةِ الْكَذِبِ فَكَانَ الِاسْتِحْبَابُ وَانْتِفَاءُ الْوُجُوبِ فِي خَبَرِ الصَّبِيِّ أَوْلَى لِنُقْصَانِ عَقْلِهِ وَعَدَمِ احْتِرَازِهِ عَنْ الْكَذِبِ لَا مِنْهُ مِنْ الْعِقَابِ، وَإِنَّمَا قَالَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَا هَاهُنَا وَفِيمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ عَنْ السَّلَفِ فِي نَقْلِ هَؤُلَاءِ الْحَدِيثَ

[خبر صاحب الهوى]

وَأَمَّا صَاحِبُ الْهَوَى؛ فَإِنَّ أَصْحَابَنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَمِلُوا بِشَهَادَتِهِمْ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَأَمَّا الْمُغَفَّلُ الشَّدِيدُ الْغَفْلَةِ أَيْ قَوِيُّهَا وَذَلِكَ بِأَنْ غَلَبَ طَبْعَهُ الْغَفْلَةُ وَالنِّسْيَانُ فِي عَامَّةِ الْأَحْوَالِ فَمِثْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ فِي أَنَّ خَبَرَهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً أَصْلًا كَخَبَرِهِمَا؛ لِأَنَّ مَعْنَى السَّهْوِ وَالْغَلَطِ يَتَرَجَّحُ فِي الرِّوَايَةِ بِاعْتِبَارِ غَلَبَةِ الْغَفْلَةِ كَمَا يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الْكَذِبِ بِاعْتِبَارِ الْفِسْقِ، وَلَا يُقَالُ يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ خَبَرُهُ إذَا كَانَ عَدْلًا؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ لَا يُرْوَى إلَّا عَنْ تَيَقُّظٍ وَضَبْطٍ وَلَا يَجُوزُ الرِّوَايَةُ عَنْ غَفْلَةٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ أَنَّ مَنْ لَا يَضْبِطُ قَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ قَدْ ضَبَطَ وَمَنْ سَهَا يُظَنُّ أَنَّهُ مَا سَهَا فَيَرْوِي عَلَى حَسَبِ ظَنِّهِ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَنْ يُسَاوِي ذِكْرُهُ وَغَفْلَتُهُ إلَّا عِنْدَ قَاضِي الْقُضَاةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ؛ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ خَبَرُهُ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْخَبَرِ الصِّحَّةُ وَكَوْنُهُ حُجَّةً إلَّا بِعَارِضٍ فَإِذَا لَمْ يَتَرَجَّحْ غَفْلَةُ الرَّاوِي عَلَى تَيَقُّظِهِ وَذِكْرِهِ بَقِيَ حُجَّةً كَمَا كَانَ وَلَمْ يُتْرَكْ بِالِاحْتِمَالِ كَمَا إذَا شَكَّ فِي الْحَدَثِ بَعْدَ الطَّهَارَةِ. وَنَحْنُ نَقُولُ الْخَبَرُ لَا يَصِيرُ حُجَّةً إلَّا إذَا تَكَامَلَتْ شَرَائِطُهُ وَذَلِكَ عِنْدَ تَرَجُّحِ ذِكْرِ الرَّاوِي عَلَى غَفْلَتِهِ فَقَبْلَ تَرَجُّحِهِ لَا يَكُونُ حُجَّةً بِخِلَافِ الشَّكِّ فِي الطَّهَارَةِ؛ فَإِنَّ سَبْقَ الطَّهَارَةِ يُرَجِّحُهَا حَتَّى لَوْ انْفَرَدَ الشَّكُّ عَنْ سَبْقِ الطَّهَارَةِ لَمْ يُحْكَمْ بِهَا فَأَمَّا تُهْمَةُ الْغَفْلَةِ أَيْ وَهْمُهَا بِأَنْ يُوهِمَ السَّامِعَ أَنَّ الرَّاوِيَ رَوَى عَنْ غَفْلَةٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَغْفُلُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ فَيُرَدُّ خَبَرُهُ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ إذَا كَانَ عَلَيْهِ التَّيَقُّظُ وَجَوْدَةُ الضَّبْطِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا غَفْلَةَ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ فَيُقْبَلُ خَبَرُهُ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ سَهَا فِيهِ وَالْمُسَاهِلُ الْمُجَازِفُ الَّذِي لَا يُبَالِي مِنْ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ وَلَا يَشْتَغِلُ فِيهِ بِالتَّدَارُكِ بَعْدَ أَنْ يَعْلَمَ بِهِ، وَقِيلَ الْمُسَاهِلُ هُوَ الَّذِي لَا يَصْرِفُ اهْتِمَامَهُ إلَى أُمُورِ الدِّينِ وَلَا يَحْتَاطُ فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ، وَالتَّزْوِيرُ تَزْيِينُ الْكَذِبِ وَزَوَّرْت الشَّيْءَ حَسَّنْته وَقَوَّمْته كَذَا فِي الصِّحَاحِ. [خَبَر صَاحِبُ الْهَوَى] قَوْلُهُ (فَأَمَّا صَاحِبُ الْهَوَى) الْهَوَى مَيَلَانُ النَّفْسِ إلَى مَا تَسْتَلِذُّ بِهِ مِنْ الشَّهَوَاتِ مِنْ غَيْرِ دَاعِيَةِ الشَّرْعِ وَاحْتَرَزَ بِهِ عَمَّا أُبِيحَ فِي الشَّرْعِ مِنْ الشَّهَوَاتِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْهَوَى مِمَّا يُذَمُّ عَلَيْهِ الشَّخْصُ وَيُهَانُ بِهِ وَنَفْسُ الِالْتِذَاذِ بِالشَّهَوَاتِ قَدْ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - مَعَ بَرَاءَتِهِمْ عَنْ الْهَوَى وَعِصْمَتِهِمْ عَنْهُ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ هَذَا الْقَيْدِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مِمَّنْ اتَّبَعَ الْهَوَى مَنْ يَجِبُ إكْفَارُهُ كَغُلَاةِ الْمُجَسِّمَةِ وَالرَّوَافِضِ وَغَيْرِهِمْ وَيُسَمَّى الْكَافِرُ الْمُتَأَوِّلُ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَجِبُ إكْفَارُهُ وَيُسَمَّى الْفَاسِقُ الْمُتَأَوِّلُ. وَاخْتُلِفَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ إلَى أَنَّ شَهَادَةَ مَنْ كَفَرَ فِي هَوَاهُ مَقْبُولَةٌ وَكَذَا رِوَايَتُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَكَانَ مُتَحَرِّجًا مُعَظِّمًا لِلدِّينِ غَيْرَ عَالِمٍ بِكُفْرِهِ يَحْصُلُ ظَنُّ الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ فَيُقْبَلُ كَخَبَرِ الْمُسْلِمِ الْعَدْلِ، وَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إلَى رَدِّهِمَا؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلشَّهَادَةِ وَلَا لِلرِّوَايَةِ لِمَا بَيَّنَّا وَكَوْنُهُ مُتَأَوِّلًا مُمْتَنِعًا عَنْ الْمَعْصِيَةِ غَيْرَ عَالِمٍ بِكُفْرِهِ لَا نَجْعَلُهُ أَهْلًا لَهُمَا؛ فَإِنَّ كُلَّ كَافِرٍ مُتَأَوِّلٌ إذْ الْيَهُودُ لَا يَعْلَمُونَ بِكُفْرِهِمْ وَتَوَرُّعُهُ عَنْ الْكَذِبِ كَتَوَرُّعِ النَّصْرَانِيِّ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ بَلْ هَذَا الْمَنْصِبُ لَا يُسْتَفَادُ إلَّا بِالْإِسْلَامِ كَذَا ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى، وَاخْتُلِفَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي أَيْضًا فَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُ إلَى رَدِّ شَهَادَتِهِ وَرِوَايَتِهِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْفِسْقَ فِي الْعَمَلِ مَانِعٌ مِنْ الْقَبُولِ فَالْفِسْقُ فِي الِاعْتِقَادِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى. أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ جَاهِلٌ بِفِسْقِهِ لَكِنْ جَهْلُهُ بِفِسْقِهِ فِسْقٌ آخَرُ انْضَمَّ إلَى فِسْقٍ فَكَانَ أَوْلَى

إلَّا الْخَطَّابِيَّةَ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْهَوَى وَقَعَ فِيهِ لِتَعَمُّقِهِ وَذَلِكَ يَصُدُّهُ عَنْ الْكَذِبِ فَلَمْ يَصْلُحْ شُبْهَةً وَتُهْمَةً إلَّا مَنْ يَتَدَيَّنُ بِتَصْدِيقِ الْمُدَّعِي إذَا كَانَ يَنْتَحِلُ بِنِحْلَتِهِ فَيُتَّهَمُ بِالْبَاطِلِ وَالزُّورِ مِثْلُ الْخَطَّابِيَّةِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ بِالْإِلْهَامِ: إنَّهُ حُجَّةٌ يَجِبُ أَنْ لَا تَجُوزَ شَهَادَتُهُ أَيْضًا، وَأَمَّا فِي بَابِ السُّنَنِ؛ فَإِنَّ الْمَذْهَبَ الْمُخْتَارَ عِنْدَنَا أَنْ لَا يَقْبَلَ رِوَايَةَ مَنْ انْتَحَلَ الْهَوَى وَالْبِدْعَةَ وَدَعَا النَّاسَ إلَيْهِ عَلَى هَذَا أَئِمَّةُ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ كُلُّهُمْ؛ لِأَنَّ الْمُحَاجَّةَ وَالدَّعْوَةَ إلَى الْهَوَى سَبَبٌ دَاعٍ إلَى التَّقَوُّلِ فَلَا يُؤْتَمَنُ عَلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَيْسَ كَذَلِكَ الشَّهَادَةُ فِي حُقُوقِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَدْعُو إلَى التَّزْوِيرِ فِي ذَلِكَ فَلَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ فَإِذَا صَحَّ هَذَا كَانَ صَاحِبُ الْهَوَى بِمَنْزِلَةِ الْفَاسِقِ فِي بَابِ السُّنَنِ وَالْأَحَادِيثِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالْمَنْعِ وَلَمْ يَكُنْ عُذْرًا كَجَهْلِهِ بِكُفْرِهِ وَبِرِقِّهَا، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ قَبُولَ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ إنَّمَا لَا يُقْبَلُ لِتُهْمَةِ الْكَذِبِ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا تَعَاطَى مَحْظُورَ دِينِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِحُرْمَتِهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى جُرْأَتِهِ عَلَى الْكَذِبِ فَيُقْدَحُ فِي الظَّنِّ بِصِدْقِهِ فَأَمَّا الْفِسْقُ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا وَقَعَ فِيهِ لِغُلُوِّهِ فِي الِاحْتِرَازِ عَنْ الْمَحْظُورِ حَيْثُ قَالَ بِكُفْرِ مَنْ ارْتَكَبَ الذَّنْبَ أَوْ بِخُرُوجِهِ مِنْ الْإِيمَانِ بِهِ فَهَذَا الِاعْتِقَادُ يَحْمِلُ عَلَى التَّحَرُّزِ عَنْ الْكَذِبِ أَشَدَّ الِاحْتِرَازِ لَا عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ فَكَانَ هَذَا الْفِسْقُ نَظِيرَ تَنَاوُلِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا أَوْ شُرْبِ الْمُثَلَّثِ عَلَى اعْتِقَادِ الْإِبَاحَةِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ، إلَّا الْخَطَّابِيَّةَ وَهُمْ قَوْمٌ مِنْ الرَّوَافِضِ نُسِبُوا إلَى أَبِي الْخَطَّابِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي وَهْبٍ الْأَجْدَعِ فَإِنَّ شَهَادَتَهُمْ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَدَيَّنُونَ بِتَصْدِيقِ الْمُدَّعِي إذَا حَلَفَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ مُحِقٌّ وَيَقُولُونَ: الْمُسْلِمُ لَا يَحْلِفُ كَاذِبًا فَاعْتِقَادُهُ هَذَا تَمَكَّنَ تُهْمَةَ الْكَذِبِ فِي شَهَادَتِهِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، وَذَكَرَ فِي التَّهْذِيبِ لِمُحْيِي السُّنَّةِ وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إلَّا الْخَطَّابِيَّةَ؛ فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ الْكَذِبَ كُفْرًا فَرُبَّمَا يَسْمَعُ مِمَّنْ يُوَافِقُهُ فِي الِاعْتِقَادِ أَنَّ لِي عَلَى فُلَانٍ كَذَا فَيَشْهَدُ عَلَى مُوَافَقَةِ قَوْلِهِ لِمَا يَرَى أَنَّهُ لَا يُخْبِرُ الْكَذِبَ إلَّا أَنْ يَقُولَ: أَقَرَّ فُلَانٌ لِفُلَانٍ بِكَذَا أَوْ رَأَيْت فُلَانًا أَقْرَضَ فُلَانًا أَوْ قَتَلَ فُلَانًا فَيُقْبَلُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ إلَّا مَنْ تَدَيَّنَ بِتَصْدِيقِ الْمُدَّعِي أَيْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ إذَا كَانَ يَنْتَحِلُ بِنَحْلَتِهِ أَوْ يَنْتَسِبُ إلَى مِلَّتِهِ يُقَالُ: فُلَانٌ يَنْتَحِلُ مَذْهَبَ كَذَا أَيْ يَنْتَسِبُ إلَيْهِ وَيَتَدَيَّنُ بِهِ وَالنَّحْلَةُ الْمِلَّةُ وَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ يَعْنِي فَلَمْ يَصْلُحْ تَعَمُّقُهُ شُبْهَةً وَتُهْمَةً فَيَكُونُ صَاحِبُ الْهَوَى مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ إلَّا الَّذِي تَدَيَّنَ بِكَذَا، وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَمَنْ تَدَيَّنَ بِتَصْدِيقِ الْمُدَّعِي مَنْ قَالَ بِالْإِلْهَامِ أَيْ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْإِلْهَامَ حُجَّةٌ مُوجِبَةٌ لِلْعِلْمِ لَا يُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ اعْتِقَادَهُ ذَلِكَ تَمَكَّنَ تُهْمَةَ الْكَذِبِ فَرُبَّمَا أَقْدَمَ عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَالْإِلْهَامُ مَا حَرَّكَ الْقَلْبَ بِعِلْمٍ يَدْعُوكَ إلَى الْعَمَلِ بِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ بِدَلِيلٍ وَلَا نَظَرٍ فِي حُجَّةٍ. قَوْلُهُ (فَأَمَّا فِي بَابِ السُّنَنِ) إلَى آخِرِهِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ الشَّهَادَةِ فَأَمَّا رِوَايَةُ هَذَا الْقِسْمِ، وَهُوَ الْفَاسِقُ الْمُتَأَوِّلُ فَمَقْبُولَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ عِنْدَ بَعْضِ مَنْ قَبِلَ شَهَادَتَهُمْ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ انْتِفَاءِ تُهْمَةِ الْكَذِبِ؛ فَإِنَّ مَنْ احْتَرَزَ عَنْ الْكَذِبِ عَلَى غَيْرِ الرَّسُولِ كَانَ أَشَدَّ تَحَرُّزًا مِنْ الْكَذِبِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ جِنَايَةً فَتُقْبَلُ رِوَايَتُهُ كَمَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ تُقْبَلُ إذَا لَمْ يَكُنْ دَاعِيًا لِلنَّاسِ إلَى هَوَاهُ وَلَا يُقْبَلُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ حَيْثُ يُقْبَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِمَا ذُكِرَ مِنْ الْفَرْقِ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ؛ فَإِنَّ الْإِمَامَ الْحَافِظَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيَّ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ ذَكَرَ فِي كِتَابِ مَعْرِفَةِ الْإِكْلِيلِ أَنَّ رِوَايَاتِ الْمُبْتَدَعَةِ وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ إذَا كَانُوا فِيهَا صَادِقِينَ فَقَدْ حَدَّثَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّحِيحِ عَنْ عَبَّادِ بْنِ يَعْقُوبَ الرَّوَاجِنِيِّ، وَكَانَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ يَقُولُ: حَدَّثَنَا الصِّدْقُ فِي رِوَايَتِهِ الْمُتَّهَمُ فِي دِينِهِ عَبَّادُ بْنُ يَعْقُوبَ، وَقَدْ احْتَجَّ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ بِمُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الْأَلْهَانِيِّ وَجَرِيرِ بْنِ عُثْمَانَ الرَّحَبِيِّ، وَقَدْ اُشْتُهِرَ عَنْهُمَا النَّصْبُ وَاتَّفَقَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِأَبِي مُعَاوِيَةَ مُحَمَّدِ بْنِ خَازِمٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى

[باب بيان محل الخبر]

وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ (بَابُ بَيَانِ مَحَلِّ الْخَبَرِ) وَهُوَ الَّذِي جُعِلَ الْخَبَرُ فِيهِ حُجَّةً وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ مَا يَخْلُصُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ شَرَائِعِهِ مِمَّا لَيْسَ بِعُقُوبَةٍ وَالثَّانِي مَا هُوَ عُقُوبَةٌ مِنْ حُقُوقِهِ وَالثَّالِثُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ مَا فِيهِ إلْزَامٌ مَحْضٌ، وَالرَّابِعُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ مَا لَيْسَ فِيهِ إلْزَامٌ، وَالْخَامِسُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ مَا فِيهِ إلْزَامٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَمِثْلُ عَامَّةِ شَرَائِعِ الْعِبَادَاتِ وَمَا شَاكَلَهَا وَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِيهَا حُجَّةٌ عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ شَرَائِطِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَقَدْ اُشْتُهِرَ عَنْهُمَا الْغُلُوُّ فَأَمَّا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَا يُوجَدُ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ صَاحِبِ هَوًى يَدْعُو النَّاسَ إلَى هَوَاهُ، وَلَا مِنْ كَذَّابٍ يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَذَكَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ أَيْضًا فِي الْمُعْتَمَدِ: الْفِسْقُ فِي الِاعْتِقَادِ إذَا كَانَ صَاحِبُهُ مُتَحَرِّجًا فِي أَفْعَالِهِ عِنْدَ جُلِّ الْفُقَهَاءِ لَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الْحَدِيثِ لَا مَنْ تَقَدَّمَ قَبِلَ بَعْضُهُمْ حَدِيثَ بَعْضٍ بَعْدَ الْفُرْقَةِ وَقَبِلَ التَّابِعُونَ رِوَايَةَ الْفَرِيقَيْنِ، قَالَ. وَكَذَا الْكُفْرُ بِتَأْوِيلٍ إذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَكَانَ مُتَحَرِّجًا؛ لِأَنَّ الظَّنَّ بِصِدْقِهِ غَيْرُ زَائِلٍ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ قَبِلُوا رِوَايَةَ سَلَفِنَا كَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ مَعَ عِلْمِهِمْ بِمَذْهَبِهِمْ وَإِكْفَارِهِمْ مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِهِمْ، وَقَدْ نَصَبُوا عَلَى ذَلِكَ فَأَمَّا مَنْ يَظْهَرُ عَنْهُ الْعِنَادُ فِي مَذْهَبِهِ مَعَ ظُهُورِهِ عِنْدَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ حَدِيثُهُ كَمَا لَا يُقْبَلُ حَدِيثُ الْفَاسِقِ بِأَفْعَالِ الْجَوَارِحِ. وَذَكَرَ أَبُو الْيُسْرِ أَيْضًا الْمُبْتَدِعَ إنْ كَانَ مِمَّنْ يَكْفُرُ لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَكْفُرُ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ وَضْعَ الْأَحَادِيثِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ أَيْضًا لِتَوَهُّمِ الْكَذِبِ كَالْكَرَامِيَّةِ؛ فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ جَوَازَ وَضْعِ الْحَدِيثِ لِلتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ الْوَضْعَ وَكَانَ عَدْلًا يُقْبَلُ خَبَرُهُ لِرُجْحَانِ صِدْقِهِ عَلَى كَذِبِهِ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ فِي رِوَايَةِ الْمُبْتَدِعِ هُوَ التَّفْصِيلُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ بَيَانِ مَحَلِّ الْخَبَرِ] قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ) أَيْ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَّلِ بَابِ أَقْسَامِ السُّنَّةِ (بَابُ مَحَلِّ الْخَبَرِ) أَيْ الْمَحَلُّ الَّذِي يُقْبَلُ فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ فَبَابٌ بِالْفَاءِ لِلُزُومِهَا فِي جَوَابِ أَمَّا لَكِنَّ الْمَشَايِخَ قَدْ تَرَكُوهَا كَثِيرًا فِي كَلَامِهِمْ نَظَرًا مِنْهُمْ إلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ فَهْمُ الْمَعْنَى ثُمَّ خَبَرُ الْوَاحِدِ لَمَّا لَمْ يُفِدْ الْيَقِينَ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الِاعْتِقَادِ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْيَقِينِ وَإِنَّمَا كَانَ حُجَّةً فِيمَا قُصِدَ فِيهِ الْعَمَلُ فَقَسَّمَ الشَّيْخُ ذَلِكَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ. قَوْلُهُ (فَمِثْلُ عَامَّةِ شَرَائِعِ الْعِبَادَاتِ) أَيْ مِثْلُ الشَّرَائِعِ الَّتِي هِيَ مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ لَا مِنْ أُصُولِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ ابْتِدَاءَ عِبَادَةٍ أَوْ بِنَاءً عَلَيْهَا؛ فَإِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ فِيهَا حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَزَعَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِيمَا هُوَ ابْتِدَاءُ عِبَادَةٍ وَيُقْبَلُ فِيمَا هُوَ فَرْعٌ عَلَيْهَا فَلَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ مَثَلًا فِي ابْتِدَاءِ نِصَابِ الْفِصْلَانِ وَالْعَجَاجِيلِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ وَابْتِدَاءُ عِبَادَةٍ وَيُقْبَلُ فِي النِّصَابِ الزَّائِدِ عَلَى خَمْسِ أَوَاقٍ؛ لِأَنَّهُ فَرْعٌ وَبِنَاءٌ عَلَى الْأَوَّلِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ أَصْلَ الْعِبَادَةِ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ وَقَوَاعِدِهِ فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةٌ فَأَمَّا مَا هُوَ بِنَاءٌ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِالْقِيَاسِ، وَوَجْهُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْعَامَّةُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْعِبَادَةِ الْمُبْتَدَأَةِ لَمَّا كَانَ هُوَ الْعَمَلُ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِالدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِلْعَمَلِ كَمَا يَثْبُتُ مَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَيْهَا بِهِ إذْ الدَّلَائِلُ الْمُوجِبَةُ لِلْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يُفْصَلُ بَيْنَ مَا هُوَ ابْتِدَاءُ عِبَادَةٍ وَبَيْنَ مَا هُوَ فَرْعٌ عَلَيْهَا وَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا يَتَقَبَّلُونَ أَخْبَارَ الْآحَادِ فِي الْجَمِيعِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَمَا شَاكَلَهَا أَيْ مِنْ الشَّرَائِعِ الَّتِي لَيْسَتْ بِعِبَادَةٍ كَالْوُضُوءِ أَوْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهَا تَابِعٌ كَالْعُشْرِ أَوْ لَيْسَ بِخَالِصٍ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْكَفَّارَاتِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ

وَأَمَّا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي؛ فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَجُوزُ إثْبَاتُ الْعُقُوبَاتِ بِالْآحَادِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْجَصَّاصِ وَاخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُفِيدُ مِنْ الْعِلْمِ مَا يَصْلُحُ الْعَمَلُ بِهِ فِي إقَامَةِ الْحُدُودِ كَمَا فِي الْبَيِّنَاتِ فِي مَجَالِسِ الْحُكْمِ وَكَمَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا بِدَلَالَةِ النَّصِّ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ إثْبَاتَ الْحُدُودِ بِالشُّبُهَاتِ لَا تَجُوزُ فَإِذَا تَمَكَّنَ فِي الدَّلِيلِ شُبْهَةٌ لَمْ يَجُزْ كَمَا لَمْ يَجُزْ بِالْقِيَاسِ فَأَمَّا الْبَيِّنَةُ؛ فَإِنَّمَا صَارَتْ حُجَّةً بِالنَّصِّ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يُوجِبْ الْحَدَّ فِي اللِّوَاطَةِ بِالْقِيَاسِ وَلَا بِالْخَبَرِ الْغَرِيبِ مِنْ الْآحَادِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِيهَا حُجَّةٌ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ يَجِبُ مَعَ الشُّبُهَاتِ فَيَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى مَا قُلْنَا أَيْ بِشَرْطِ رِعَايَةِ مَا قُلْنَا مِنْ شَرَائِطِهِ مِنْ الْعَدَالَةِ وَعَدَمِ مُخَالَفَتِهِ الْكِتَابَ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ شَيْءٍ آخَرَ. وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ الْعَدَدَ أَيْضًا فَقَالُوا: لَا تُقْبَلُ فِيهَا إلَّا رِوَايَةُ الْعَدْلَيْنِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ «النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَقْبَلْ خَبَرَ ذِي الْيَدَيْنِ حَتَّى شَهِدَ لَهُ غَيْرُهُ» وَأَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَقْبَلْ خَبَرَ الْمُغِيرَةِ فِي الْجَدَّةِ حَتَّى شَهِدَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَلَمْ يَعْمَلْ عُمَرُ بِخَبَرِ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي الِاسْتِئْذَانِ، وَهُوَ قَوْلُهُ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ عَلَى صَاحِبِهِ ثَلَاثَةً فَلَمْ يُؤَذِّنْ لَهُ فَلْيَنْصَرِفْ» حَتَّى رَوَى مَعَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاعْتِبَارٌ بِالشَّهَادَةِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ تَقْتَضِي شَرْعًا عَامًّا وَالشَّهَادَةُ شَرْعًا خَاصًّا فَإِذَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْوَاحِدِ فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ فَلَأَنْ لَا يُقْبَلَ فِي حَقِّ كُلِّ الْأُمَّةِ كَانَ أَوْلَى. وَالْحَقُّ أَنَّ الْعَدَدَ لَيْسَ بِشَرْطٍ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْعَامَّةُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَأَنَّهُمْ قَدْ عَمِلُوا بِأَخْبَارِ الْآحَادِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ عَدَدٍ؛ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ عَمِلَ بِخَبَرٍ رَوَاهُ بِلَالٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَعَمِلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِخَبَرٍ رَوَاهُ حَمَلُ بْنُ مَالِكٍ فِي الْجَنِينِ وَبِخَبَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمَجُوسِ وَعَمِلَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِخَبَرِ الْمِقْدَادِ فِي الْمَذْيِ وَعَمِلُوا جَمِيعًا بِخَبَرِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ وَلِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ رُجْحَانُ جَانِبِ الصِّدْقِ لَا انْتِفَاءُ تُهْمَةِ الْكَذِبِ وَذَلِكَ حَاصِلٌ عِنْدَ انْعِدَامِ الْعَدَدِ وَوُجُودِ الشَّرَائِطِ الْمَذْكُورَةِ وَلَيْسَ لِزِيَادَةِ الْعَدَدِ تَأْثِيرٌ فِي انْتِفَاءِ تُهْمَةِ الْكَذِبِ وَاشْتِرَاطُهُ فِي الشَّهَادَةِ بِالنَّصِّ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَلَا يُلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي الرِّوَايَةِ سَائِرُ مَا يُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَالذُّكُورَةِ وَالْبَصَرِ وَعَدَمِ الْقَرَابَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ الْعَدَدُ أَيْضًا. وَأَمَّا عَدَمُ اعْتِبَارِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَبَرَ ذِي الْيَدَيْنِ فَلِقِيَامِ التُّهْمَةِ؛ لِأَنَّ الْحَادِثَةَ كَانَتْ فِي مَحْفِلٍ عَظِيمٍ وَالْوَاجِبُ فِي مِثْلِهَا الِاشْتِهَارُ. وَكَذَا مَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ مِنْ اعْتِبَارِ الْعَدَدِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ فَلِقِيَامِ تُهْمَةٍ فِيهَا أَيْضًا مُخْتَصَّةٍ بِهَا فَطَلَبُوا الْعَدَدَ لِلِاحْتِيَاطِ لَا لِلِاشْتِرَاطِ كَمَا أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُحَلِّفُ الرَّاوِيَ لِلتُّهْمَةِ ثُمَّ عَمِلَ بِخَبَرِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِدُونِ التَّحْلِيفِ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِطَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ وَلَوْ كَانَ شَرْطٌ لَرُوعِيَ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ كَمَا فِي بَابِ الشَّهَادَةِ. قَوْلُهُ (فَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي) إلَى آخِرِهِ، ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ إثْبَاتَ الْحُدُودِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ جَائِزٌ، وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَمَالِي، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الْجَصَّاصِ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا. وَذَهَبَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَإِلَيْهِ مَالَ الْمُصَنِّفُ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ كَلَامِهِمَا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ تَمَسَّكَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْحُدُودَ شَرْعٌ عَمَلِيٌّ مِنْ الشَّرَائِعِ فَجَازَ إثْبَاتُهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَسَائِرِ الشَّرَائِعِ وَتَحَقُّقُ الشُّبْهَةِ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ غَيْرُ مَانِعٍ عَنْ قَبُولِهِ فِي هَذَا الْبَابِ كَتَحَقُّقِ الشُّبْهَةِ فِي الْبَيِّنَاتِ لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ يُفِيدُ مِنْ الْعِلْمِ مَا يَصِحُّ الْعَمَلُ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا يَثْبُتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ؛ فَإِنَّ الرَّجْمَ فِي حَقِّ غَيْرِ مَاعِزٍ ثَابِتٌ بِالدَّلَالَةِ مَعَ أَنَّ الدَّلَالَةَ دُونَ الصَّرِيحِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ ثَابِتَةٍ بِالنَّظْمِ وَلِبَقَاءِ الِاحْتِمَالِ فِيهَا حَتَّى تَرَجَّحَ الصَّرِيحُ عَلَيْهَا فَعَرَفْنَا أَنَّ مُجَرَّدَ الِاحْتِمَالِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي هَذَا الْبَابِ، وَاحْتَجَّ الْفَرِيقُ الثَّانِي بِأَنَّ مَبْنَى الْحُدُودِ عَلَى الْإِسْقَاطِ بِالشُّبُهَاتِ بِالنَّصِّ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِيهِ

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ وَالْعَدَدِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَقِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ بِالْوِلَايَةِ مَعَ سَائِرِ شَرَائِطِ الْأَخْبَارِ لِمَا فِيهَا مِنْ مَحْضِ الْإِلْزَامِ وَتَوْكِيدًا لَهَا ـــــــــــــــــــــــــــــQشُبْهَةٌ بِالِاتِّفَاقِ فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا بِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ بِالْقِيَاسِ فَأَمَّا إثْبَاتُهَا بِالْبَيِّنَاتِ فَجُوِّزَ بِالنَّصِّ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] ، وَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا فَكَانَ ثُبُوتُهَا مُضَافًا إلَى النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فَيَجُوزُ وَمَنْ رَجَّحَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ قَالَ خَبَرُ الْوَاحِدِ صَارَ حُجَّةً بِدَلَائِلَ مُوجِبَةٍ لِلْعِلْمِ أَيْضًا مِنْ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَسَائِرِ الدَّلَائِلِ الَّتِي مَرَّ تَقْرِيرُهَا فَكَانَ مِثْلُ الشَّهَادَةِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ فَيَثْبُتُ بِهِ الْحُدُودُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقِصَاصَ يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؛ فَإِنَّ عُلَمَاءَنَا تَمَسَّكُوا فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ بِخَبَرٍ مُرْسَلٍ، وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَقَادَ مُسْلِمًا بِكَافِرٍ، وَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ بِمَنْ وَفَّى ذِمَّتَهُ» . وَثَبَتَ قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ بِأَثَرِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهُوَ دُونَ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَمَّا ثَبَتَ الْقِصَاصُ بِهِ يَثْبُتُ الْحُدُودُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ بِالْقِيَاسِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِهِ ثَابِتٌ بِدَلَائِلَ مُوجِبَةٍ لِلْعِلْمِ أَيْضًا عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا أَنَّهَا لَا يَثْبُتُ بِهِ قُلْنَا: عَدَمُ الثُّبُوتِ بِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعُقُوبَةَ إنَّمَا تَجِبُ مُقَدَّرَةً مُكَيَّفَةً بِحَسَبِ كُلِّ جِنَايَةٍ وَلَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فَامْتَنَعَ إثْبَاتُهَا بِهِ بِخِلَافِ خَبَرِ الْوَاحِدِ؛ فَإِنَّهُ كَلَامُ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَإِلَيْهِ إثْبَاتُ كُلِّ حُكْمٍ فَيَجِبُ قَبُولُهُ ثُمَّ اسْتَوْضَحَ الْقَوْلَ الْأَخِيرَ وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يُوجِبْ الْحَدَّ فِي اللِّوَاطَةِ بِالْقِيَاسِ يَعْنِي عَلَى الزِّنَا بِجَامِعِ أَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَضَاءَ الشَّهْوَةِ بِسَفْحِ الْمَاءِ فِي مَحَلٍّ مُشْتَهًى مُحَرَّمٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَا بِالْخَبَرِ الْغَرِيبِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «اُقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «اُرْجُمُوا الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ» وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يُعْمَلْ بِهَذَا الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - تَرَكُوا الِاحْتِجَاجَ بِهِ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي حُكْمِ اللِّوَاطَةِ فَدَلَّ عَلَى زِيَافَتِهِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ) وَهُوَ الَّذِي فِيهِ إلْزَامٌ مَحْضٌ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَالْعَدَدُ، وَهُوَ احْتِرَازٌ عَمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ مِثْلُ الْبَكَارَةِ وَالْوِلَادَةِ وَالْعُيُوبِ الَّتِي بِالنِّسَاءِ فِي مَوَاضِعَ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ؛ فَإِنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِيهَا مَقْبُولَةٌ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ عَدَدٍ وَإِنْ اُشْتُرِطَ لَفْظُ الشَّهَادَةِ وَقِيَامُ الْأَهْلِيَّةِ بِالْوِلَايَةِ يَعْنِي يَكُونُ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى نَفْسِهِ لِيَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ بِالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ وَالْحُرِّيَّةِ مَعَ سَائِرِ شَرَائِطِ الْأَخْبَارِ مِنْ الْعَدَالَةِ وَالضَّبْطِ، لِمَا فِيهَا أَيْ فِي هَذِهِ الْحُقُوقِ مِنْ مَحْضِ الْإِلْزَامِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَقِيَامُ الْأَهْلِيَّةِ بِالْوِلَايَةِ وَدَلِيلٌ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ وَتَوْكِيدًا لَهَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَيْ وَلِتَوْكِيدِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاطِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ وَالْعَدَدِ وَبَيَانُهُ أَنَّ هَذِهِ الْحُقُوقَ لَمَّا كَانَتْ مِنْ قَبِيلِ الْإِلْزَامَاتِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ الْمُثْبِتُ لِهَذِهِ الْحُقُوقِ مُلْزِمًا وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِلْزَامَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ إذْ الْوِلَايَةُ تَنْفُذُ الْقَوْلَ عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ الْغَيْرُ أَوْ أَبَى وَالْإِلْزَامُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَإِذًا لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ لِيَصْلُحَ خَبَرُهُ لِلْإِلْزَامِ وَذَلِكَ بِالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ وَالْحُرِّيَّةِ فَلِهَذَا شَرَطْنَا الْأَهْلِيَّةَ بِالْوِلَايَةِ وَلَمَّا حَصَلَ مَعْنَى الْإِلْزَامِ فِي الْخَبَرِ بَعْدَ وُجُودِ شَرَائِطِهِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُشْتَرَطَ الْعَدَدُ وَلَفْظُ الشَّهَادَةِ فِيهِ كَمَا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَقَالَ إنَّمَا شُرِعَ اللَّفْظُ وَالْعَدَدُ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ

لِمَا يَخَافُ فِيهَا مِنْ وُجُوهِ التَّزْوِيرِ وَالتَّلْبِيسِ صِيَانَةً لِلْحُقُوقِ الْمَعْصُومَةِ وَذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ وَالشَّهَادَةُ بِهِلَالِ الْفِطْرِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ فَيَثْبُتُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ بِشَرْطِ التَّمْيِيزِ دُونَ الْعَدَالَةِ وَذَلِكَ مِثْلُ الْوَكَالَاتِ وَالْمُضَارَبَاتِ وَالرِّسَالَاتِ فِي الْهَدَايَا وَالْإِذْنِ فِي التِّجَارَاتِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَقُبِلَ فِيهَا خَبَرُ الصَّبِيِّ وَالْكَافِرِ، وَلِهَذَا قُلْنَا فِي الْفَاسِقِ إذَا أَخْبَرَ رَجُلًا أَنَّ فُلَانًا وَكَّلَك بِكَذَا ـــــــــــــــــــــــــــــQفَإِنَّ الْمَصِيرَ إلَى التَّزْوِيرِ وَالِاشْتِغَالَ بِالْحِيَلِ مِنْ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْحُقُوقِ ظَاهِرٌ فَشَرَطَ الشَّرْعُ الْعَدَدَ وَلَفْظَ الشَّهَادَةِ تَوْكِيدًا لِلْخَبَرِ الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ وَتَقْلِيلًا لِلْحِيَلِ وَهُمَا قَدْ يَصْلُحَانِ لِلتَّوْكِيدِ؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ شَرْطٌ، كَمَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذَا عَلِمْت مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ. وَلَفْظَةُ الشَّهَادَةِ فِي إفَادَةِ الْعِلْمِ أَبْلَغُ؛ لِأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ الشَّاهِدَةِ الَّتِي هِيَ الْمُعَايَنَةُ وَهِيَ أَبْلَغُ أَسْبَابِ الْعِلْمِ فَلِذَلِكَ اخْتَصَّ هَذَا الْخَبَرُ بِهِ تَوْكِيدًا، وَكَذَا فِي زِيَادَةِ الْعَدَدِ أَيْضًا مَعْنَى التَّوْكِيدِ؛ لِأَنَّ طُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ إلَى قَوْلِ الْمُثَنَّى أَظْهَرُ وَإِنْ لَمْ يَنْتِفْ احْتِمَالُ الْكَذِبِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ يَمِيلُ إلَى الْوَاحِدِ عَادَةً وَقَلَّمَا يَتَّفِقُ الِاثْنَانِ عَلَى الْمَيْلِ إلَى الْوَاحِدِ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ إلَيْهِ أَشَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْعَدَدِ وَاللَّفْظِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الشَّهَادَةَ شُرِعَتْ حُجَّةً لِفَصْلِ مُنَازَعَةٍ ثَابِتَةٍ كَانَتْ بَيْنَ اثْنَيْنِ بِخَبَرَيْنِ صَحِيحَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ مِنْ الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارِ فَلَمْ يَقَعْ الْفَصْلُ لِجِنْسِهِ خَبَرًا بَلْ بِنَوْعِ خَبَرٍ ظَهَرَتْ مَزِيَّتُهُ فِي التَّوْكِيدِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ يَمِينٍ أَوْ شَهَادَةٍ ثُمَّ ضَرْبُ احْتِيَاطٍ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِزِيَادَةِ الْعَدَدِ فِي زِيَادَةِ الصِّدْقِ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا احْتَاجَ إلَى إثْبَاتِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ وَإِبْطَالِ الْآخَرِ بِذَلِكَ الْخَبَرِ احْتَاجَ إلَى زِيَادَةِ تَأْكِيدٍ فِيهِ فَشَرَطَ الشَّرْعُ الْعَدَدَ تَأْكِيدًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، أَوْ لِمَعْنًى مَعْقُولٍ وَهُوَ أَنَّ خَبَرَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَخَاصِمَيْنِ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ فَإِذَا أَتَى الْمُدَّعِي بِشَاهِدٍ فَقَدْ تَقَوَّى صِدْقُهُ وَلَكِنَّ صِدْقَ الْمُنْكِرِ قَدْ تَقَوَّى أَيْضًا بِشَهَادَةِ الْأَصْلِ لَهُ، وَهُوَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فَاسْتَوَيَا فِي الصِّدْقِ فَاحْتِيجَ إلَى التَّرْجِيحِ بِشَاهِدٍ آخَرَ، بِخِلَافِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهَا ظُهُورُ الصِّدْقِ فَإِذَا ظَهَرَ الصِّدْقُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ يَلْزَمُ السَّامِعَ الِانْقِيَادُ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْمُخْبِرَ يَصِيرُ مُوجِبًا لَهُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إيجَابٌ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ زِيَادَةُ تَأْكِيدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ رَوَى قَوْلَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ» لَيْسَ فِي صِيغَةِ لَفْظِ الرَّاوِي إيجَابٌ بَلْ إخْبَارٌ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِذَا ثَبَتَ صِدْقُهُ لَزِمَ كُلَّ سَامِعِ مُوجَبُهُ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْخَبَرَ يَلْزَمُ كُلَّ سَامِعٍ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَالْحُقُوقُ لَا تَلْزَمُ بِقَوْلِ الشَّاهِدِ مَا لَمْ يُقْضَ بِهَا فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَهُ مِنْ مَحْضِ الْإِلْزَامِ احْتِرَازٌ عَنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ احْتِرَازًا عَنْ الْقِسْمِ الْخَامِسِ أَوْ عَنْهُمَا جَمِيعًا. وَقَوْلُهُ لِمَا يَخَافُ مُتَعَلِّقٌ بِتَوْكِيدًا لَهَا، وَقَوْلُهُ صِيَانَةً لِلْحُقُوقِ الْمَعْصُومَةِ مُتَعَلِّقٌ بِمَجْمُوعِ قَوْلِهِ تَوْكِيدًا لَهَا لِمَا يَخَافُ فِيهَا مِنْ كَذَا يَعْنِي الْمُجَوِّزَ لِلتَّأْكِيدِ احْتِمَالُ التَّزْوِيرِ وَالتَّلْبِيسِ وَالْمَعْنَى الْمُوجِبُ لَهُ بِنَاءً عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ صِيَانَةُ الْحُقُوقِ الْمَعْصُومَةِ، وَهُوَ نَظِيرُ التَّوْكِيدِ فِي قَوْلِك جَاءَنِي زَيْدٌ نَفْسُهُ؛ فَإِنَّ الْمَعْنَى الْمُجَوِّزَ لَهُ احْتِمَالُ مَجِيءِ خَبَرِهِ أَوْ كِتَابِهِ وَالْمَعْنَى الْحَامِلُ عَلَيْهِ رَفْعُ الِالْتِبَاسِ عَنْ السَّامِعِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ أَيْ مِثَالُ هَذَا الْقِسْمِ كَثِيرٌ وَالشَّهَادَةُ بِهِلَالِ الْفِطْرِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ النَّاسَ يَنْتَفِعُونَ بِالْفِطْرِ فَكَانَ الْفِطْرُ مِنْ حُقُوقِهِمْ. وَكَذَا يَلْزَمُهُمْ الِامْتِنَاعُ عَنْ الصَّوْمِ فِي وَقْتِ الْفِطْرِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَلَا لَا تَصُومُوا الْحَدِيثُ فَكَانَ فِيهِ مَعْنَى الْإِلْزَامِ أَيْضًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ وَلَفْظَةُ الشَّهَادَةِ وَالْحُرِّيَّةِ وَسَائِرُ شَرَائِطِ الشَّهَادَةِ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَا إذَا قَبِلَ الْإِمَامُ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصَّوْمِ فَصَامُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَمْ يَرَوْا الْهِلَالَ؛ فَإِنَّهُمْ يُفْطِرُونَ

فَوَقَعَ فِي قَلْبِهِ صِدْقُهُ حَلَّ لَهُ الْعَمَلُ بِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى مَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ الْفَرْضَ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَهَذَا فِطْرٌ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْفِطْرُ غَيْرُ ثَابِتٍ بِشَهَادَةٍ وَإِنْ كَانَتْ تُفْضِي إلَيْهِ بَلْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا حَكَمَ بِدُخُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصَّوْمِ كَانَ مِنْ ضَرُورَتِهِ الْحُكْمُ بِانْسِلَاخِ رَمَضَانَ بَعْدَ مُضِيِّ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَكَانَ نَظِيرَ شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ عَلَى النَّسَبِ؛ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ وَإِنْ أَفَضْت إلَى اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ عَلَى أَنَّ الْحَسَنَ قَدْ رَوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يُفْطِرُونَ وَإِنْ أَكْمَلُوا الْعِدَّةَ بِدُونِ التَّيَقُّنِ بِانْسِلَاخِ رَمَضَانَ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ فِي الْجَانِبَيْنِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. قَوْلُهُ (فَوَقَعَ فِي قَلْبِهِ) أَيْ فِي قَلْبِ السَّامِعِ صِدْقُ الْمُخْبِرِ حَلَّ لِلسَّامِعِ الْعَمَلُ، وَهُوَ الِاشْتِغَالُ بِالتَّصَرُّفِ بِهَذَا الْخَبَرِ؛ فَإِنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْبَلُ هَدِيَّةَ الطَّعَامِ مِنْ الْبَرِّ التَّقِيِّ وَغَيْرِهِ وَكَانَ يَشْتَرِي مِنْ الْكَافِرِ» وَالْمُعَامَلَاتُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْأَسْوَاقِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا ظَاهِرَةٌ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُمْ لَا يَشْتَرِطُونَ الْعَدَالَةَ فِيمَنْ يُعَامِلُونَهُ وَأَنَّهُمْ يَعْتَمِدُونَ خَبَرَ كُلِّ مُمَيِّزٍ يُخْبِرُهُمْ بِذَلِكَ لِمَا فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ الْبَيِّنِ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثُمَّ هَذَا الْقَيْدُ، وَهُوَ قَوْلُهُ فَوَقَعَ فِي قَلْبِهِ صِدْقُهُ لَازِمٌ؛ فَإِنَّ الشَّيْخَ ذَكَرَ فِي شَرْحِ الْمَبْسُوطِ فِيمَنْ عَلِمَ بِجَارِيَةٍ لِرَجُلٍ وَرَأَى آخَرَ يَبِيعُهَا مُدَّعِيًا لِلْوَكَالَةِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْقَائِلَ إنْ كَانَ عَدْلًا لَا بَأْسَ بِأَنْ يُصَدِّقَهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَشْتَرِيَهَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ إنْ كَانَ أَكْبَرَ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ، فَكَذَا الْجَوَابُ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ يُمْتَنَعُ عَنْهُ وَإِنْ اسْتَوَى الْوَجْهَانِ يُمْتَنَعُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُثْبِتْ مَا يَقُولُ، وَهَكَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَيْضًا فَقِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنْ سَأَلَ ذَا الْيَدِ فَقَالَ إنِّي قَدْ اشْتَرَيْتهَا مِنْهُ أَوْ وَهَبَهَا لِي أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيَّ أَوْ وَكَّلَنِي بِبَيْعِهَا فَإِنْ كَانَ ثِقَةً فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُصَدِّقَهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَشْتَرِيَهَا مِنْهُ وَيَطَأَهَا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ إلَّا أَنَّ أَكْبَرَ رَأْيِهِ أَنَّهُ فِيهِ صَادِقٌ فَكَذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ إذَا انْضَمَّ إلَى خَبَرِ الْفَاسِقِ يَتَأَيَّدُ بِهِ وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَعْرِضَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ فِيمَا لَا تَوَقُّفَ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَالْيَقِينِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّ تَحْكِيمَ الرَّأْيِ لَيْسَ بِلَازِمٍ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ فِي الْهَدَايَا وَالْوَكَالَاتِ وَمَا ذُكِرَ هَاهُنَا يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِهِ وَهَذَا يَتَرَاءَى لِي تَنَاقُصًا فَمَا وَجْهُ التَّقَصِّي عَنْهُ. قُلْنَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كَرَاهِيَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي الرَّجُلِ رَأَى جَارِيَةَ الْغَيْرِ فِي يَدِ آخَرَ يَبِيعُهَا وَأَخْبَرَهَا الْبَائِعُ أَنَّ فُلَانًا وَكَّلَهُ بِبَيْعِهَا وَسِعَهُ أَنْ يَبْتَاعَهَا وَيَطَأَهَا وَلَمْ يَذْكُرْ تَحْكِيمَ الرَّأْيِ فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كَشْفِ الْغَوَامِضِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ تَفْسِيرًا لِهَذَا فَيَكُونُ مَعْنَاهُ وَسِعَهُ أَنْ يَبْتَاعَهَا إذَا كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُوَفِّقَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ؛ فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَمْثَالِهَا فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَمْ يَسَعْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ وَلَمْ يَقُلْ لَا يَسَعُهُ فَيُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ وَسِعَهُ أَنْ يَبْتَاعَهَا وَيَطَأَهَا فَيُحْمَلُ عَلَى الرُّخْصَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ هَذَا حَاصِلُ كَلَامِهِ فَنُخَرِّجُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي وَالثَّالِثُ ظَاهِرٌ فَكَانَ الْمَذْكُورُ فِي الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ أَصْلُ الْجَوَابِ وَالْمَذْكُورُ هَاهُنَا احْتِيَاطًا وَاسْتِحْبَابًا أَوْ الْمَذْكُورُ هُنَاكَ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَالْمَذْكُورُ هَاهُنَا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَأَمَّا تَخْرِيجُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَالْمَذْكُورُ أَوَّلًا

وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عُمُومُ الضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى سُقُوطِ شَرْطِ الْعَدَالَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَبَرَ غَيْرُ مُلْزِمٍ فَلَمْ يُشْتَرَطْ شَرْطُ الْإِلْزَامِ بِخِلَافِ أُمُورِ الدِّينِ مِثْلُ طَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ تَسْلِيمِ الْحَمْلِ وَإِجْرَائِهِ عَلَى الظَّاهِرِ وَالْمَذْكُورُ ثَانِيًا عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ يَعْنِي لَوْ أَجْرَى لَفْظَ الْجَامِعِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ التَّحْكِيمَ فَالْفَرْقُ بَيْنَ إخْبَارِ الْفَاسِقِ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ وَإِخْبَارِهِ بِالْوَكَالَةِ وَالْهَدِيَّةِ وَنَحْوِهِمَا مَا ذُكِرَ فِي ذَلِكَ الْبَابِ وَلَكِنَّ جَوَابَ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ مَا ذُكِرَ هَاهُنَا؛ فَإِنَّ الشَّيْخَ ذَكَرَ فِي شَرْحِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ فِي الْمُعَامَلَاتِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ ضَرُورَةً وَلِذَلِكَ جَعَلْنَا خَبَرَ الْفَاسِقِ حُجَّةً فِي هَذَا الْبَابِ لَكِنَّهُ يُحَكِّمُ رَأْيَهُ فِي الْفَاسِقِ بِخِلَافِ الْعَدْلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ (وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ) أَيْ ثُبُوتُ هَذَا الْقِسْمِ بِخَبَرِ كُلِّ مُمَيِّزٍ وَسُقُوطُ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ وَغَيْرِهَا فِيهِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا عُمُومُ الضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى سُقُوطِ شَرْطِ الْعَدَالَةِ وَسَائِرِ الشَّرَائِطِ سِوَى التَّمْيِيزِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّمَا يَجِدُ الْعَدْلَ الْحُرَّ الْبَالِغَ الْمُسْلِمَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ لِيَبْعَثَهُ إلَى وَكِيلِهِ أَوْ غُلَامِهِ فَلَوْ شُرِطَ فِي هَذَا الْقِسْمِ مَا شُرِطَ فِي الْأَقْسَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَتَعَطَّلَتْ الْمَصَالِحُ وَفِيهِ حَرَجٌ عَظِيمٌ فَسَقَطَ لِلضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ لَهَا أَثَرًا فِي التَّخْفِيفِ بِخِلَافِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ؛ فَإِنَّ شَرْطَ الْعَدَالَةِ فِيهِ لَمْ يَسْقُطْ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ عَدَمِ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ فِيهِ إذْ فِي الْعُدُولِ الَّذِينَ تَلْقَوْا نَقْلَ الْأَخْبَارِ كَثْرَةٌ، وَقَدْ يَتَمَكَّنُ السَّامِعُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ يَعْمَلُ بِهِ إذَا لَمْ يَصِحَّ الْخَبَرُ عِنْدَهُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ وَبِخِلَافِ الْإِخْبَارِ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ وَطَهَارَتِهِ؛ فَإِنَّ الضَّرُورَةَ فِيهِ لَيْسَتْ مِثْلَهَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى مَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ. وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ فِي مَسْأَلَةِ الْإِخْبَارِ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ إنْ كَانَ الْمُخْبِرُ فَاسِقًا فَلَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِذَلِكَ الْمَاءِ لِعَدَمِ تَرَجُّحِ الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ؛ فَإِنَّ اعْتِبَارَ دِينِهِ وَإِنْ دَلَّ عَلَى صِدْقِهِ فِي خَبَرِهِ فَاعْتِبَارُ تَعَاطِيهِ وَارْتِكَابِهِ مَا يَعْتَقِدُ الْحُرْمَةَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى كَذِبِهِ فِي خَبَرِهِ فَيَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَهُمَا، وَلِهَذَا وَجَبَ التَّثَبُّتُ فِي خَبَرِهِ وَالْأَصْلُ فِي الْمَاءِ هُوَ الطَّهَارَةُ فَيَتَمَسَّكُ بِهِ وَيَتَوَضَّأُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُعَامَلَاتِ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْأَخْذُ فِيهَا بِخَبَرِ الْفَاسِقِ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ وَعَدَمِ دَلِيلٍ يَتَمَسَّكُ بِهِ سِوَى الْخَبَرِ، وَالثَّانِي وَهُوَ الْمَوْعُودُ بَيَانُهُ فِي ذَلِكَ الْبَابِ أَنَّ الْخَبَرَ هَاهُنَا أَيْ فِي هَذَا الْقِسْمِ غَيْرُ مُلْزِمٍ أَيْ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مَعْنَى الْإِلْزَامِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ وَالْوَكِيلَ يُبَاحُ لَهُمَا الْإِقْسَامُ عَلَى التَّصَرُّفِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُمَا ذَلِكَ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا شُرِطَ لِلْإِلْزَامِ مِنْ الْعَدَالَةِ وَغَيْرِهَا إذْ الْعَدَالَةُ شُرِطَتْ لِيَتَرَجَّحَ جَانِبُ الصِّدْقِ فِي الْخَبَرِ فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُلْزِمًا. وَكَذَا الْعَدَدُ وَلَفْظُ الشَّهَادَةِ شَرْطًا لِتَأْكِيدِ الْإِلْزَامِ فِيمَا تَحَقَّقَتْ فِيهِ مُنَازَعَةٌ وَخُصُومَةٌ فَلَا وَجْهَ لِاشْتِرَاطِهِمَا عِنْدَ الْمُسَالَمَةِ وَانْقِطَاعِ الْإِلْزَامِ ثُمَّ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ إذَا كَانَ الْمُبَلِّغُ رَسُولًا، فَأَمَّا إذَا كَانَ فُضُولِيًّا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي الْقِسْمِ الْخَامِسِ لِانْتِفَاءِ الضَّرُورَةِ فِي حَقِّهِ إلَّا أَنَّ الْوَجْهَ الثَّانِيَ يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ اشْتِرَاطِهَا فِي حَقِّ الْفُضُولِيِّ أَيْضًا بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي حَقِّهِ فِي ذَلِكَ الْقِسْمِ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُلْزِمًا وَهَذَا الْقِسْمُ خَلَا عَنْ مَعْنَى الْإِلْزَامِ فَهَذِهِ فَائِدَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ. قَوْلُهُ (بِخِلَافِ أُمُورِ الدِّينِ مِثْلَ طَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ) فَإِنَّ شَرْطَ الْعَدَالَةِ فِيهَا لَمْ يَسْقُطْ؛ لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى الْإِلْزَامِ مِنْ وَجْهٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ السَّامِعَ يَلْزَمُهُ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ إذَا أَخْبَرَ بِطَهَارَتِهِ وَيَلْزَمُهُ التَّحَرُّزُ إذَا أَخْبَرَ بِنَجَاسَتِهِ وَلَيْسَ فِيهَا مَعْنَى الْإِلْزَامِ مِنْ وَجْهٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ بَلْ يُفَوَّضُ إلَى اخْتِيَارِهِ بِخِلَافِ حُقُوقِ الْعِبَادِ وَكَذَا الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ أَحَدِ شَرْطَيْ الشَّهَادَةِ لِيَكُونَ مُلْزِمًا مِنْ وَجْهٍ، وَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ بِالِاتِّفَاقِ فَتَعَيَّنَ اعْتِبَارُ الْعَدَالَةِ قُلْت وَهَذَا الْفَرْقُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ

وَلِهَذَا الْأَصْلِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ بِالرَّضَاعِ فِي النِّكَاحِ وَفِي الْمِلْكِ بِالْيَمِينِ وَبِالْحُرِّيَّةِ لِمَا فِيهِ مِنْ إلْزَامِ حَقِّ الْعِبَادِ، وَلِهَذَا لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ فِي مَوْضِعِ الْمُنَازَعَةِ لِحَاجَتِنَا إلَى الْإِلْزَامِ وَقَبِلْنَا فِي مَوْضِعِ الْمُسَالَمَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQإذَا لَمْ يُجْعَلْ تَحْكِيمُ الرَّأْيِ شَرْطًا فِي قَبُولِ خَبَرِ الْفَاسِقِ فِي الْمُعَامَلَاتِ كَذَا فِي الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ وَحُمِلَ مَا ذُكِرَ هَاهُنَا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، فَأَمَّا إذَا جُعِلَ شَرْطًا فِيهِ وَحُمِلَ الْمَذْكُورُ هَاهُنَا عَلَى ظَاهِرِهِ فَلَا لِاسْتِوَاءِ الْمَوْضِعَيْنِ فِي اشْتِرَاطِ التَّحْكِيمِ وَتَوَقُّفِ الْقَبُولِ فِيهِمَا عَلَيْهِ فَلَا يَتَأَتَّى الْفَرْقُ. 1 - قَوْلُهُ (وَلِهَذَا الْأَصْلِ) وَهُوَ أَنَّ مَا فِيهِ إلْزَامٌ مَحْضٌ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ يُشْتَرَطُ فِيهِ شَرَائِطُ الشَّهَادَةِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ بِالرَّضَاعِ فِي النِّكَاحِ بِأَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَأَخْبَرَهُ مُسْلِمٌ ثِقَةٌ أَوْ امْرَأَةٌ أَنَّهُمَا ارْتَضَعَا مِنْ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَفِي مِلْكِ الْيَمِينِ بِأَنْ اشْتَرَى أَمَةً فَأَخْبَرَهُ عَدْلٌ أَنَّهَا أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ وَبِالْحُرِّيَّةِ أَيْ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ بِأَنْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ أَنَّهَا حُرُّ الْأَبَوَيْنِ بَلْ يُشْتَرَطُ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقْبَلُ فِي الرَّضَاعِ قَوْلُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ إذَا كَانَتْ ثِقَةً. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِحَدِيثِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ «أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ الْحَارِثِ تَزَوَّجَ بِنْتَ أَبِي إهَابٍ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ وَأَخْبَرَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُمَا فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ ذَكَرَ ثَانِيًا فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ ثَالِثًا فَقَالَ فَارِقْهَا إذًا فَقَالَ إنَّهَا سَوْدَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ» وَفِي بَعْضِ الرَّوِيَّاتِ فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَيْنَهُمَا وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يُقْبَلُ فِي الرَّضَاعِ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَلِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ تَقُومُ لِإِبْطَالِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لَا تَقْبَلُ الْفَضْلَ عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ فِي بَابِ النِّكَاحِ فَلَا يَتِمُّ الْحُجَّةُ فِيهِ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ كَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ لِمَا فِيهِ أَيْ فِي ثُبُوتِ الرَّضَاعِ وَالْحُرِّيَّةِ أَوْ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ الْوَاحِدِ مِنْ إلْزَامِ حَقِّ الْعِبَادِ أَيْ إلْزَامِ إبْطَالِ حَقِّ الْعِبَادِ، وَحَدِيثُ عُقْبَةَ دَلِيلُنَا؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْرَضَ عَنْهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ فَلَوْ كَانَتْ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ ثُمَّ لَمَّا رَأَى مِنْهُ طُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ إلَى قَوْلِهَا حَيْثُ كَرَّرَ السُّؤَالَ أَمَرَهُ أَنْ يُفَارِقَهَا احْتِيَاطًا عَلَى وَجْهِ التَّنَزُّهِ وَإِلَى التَّنَزُّهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ وَالزِّيَادَةُ الْمَرْوِيَّةُ غَيْرُ ثَابِتَةٍ عِنْدَنَا. وَهَذَا بِخِلَافِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ حَيْثُ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ هُنَاكَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ وَلَمْ تَثْبُتْ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْحِلَّ أَوْ الْحُرْمَةَ فِيمَا سِوَى الْبُضْعِ مَقْصُودٌ بِنَفْسِهِ لِمَا كَانَ يَثْبُتُ الْحِلُّ بِدُونِ مِلْكِ الْمَحَلِّ حَتَّى لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ كُلْ طَعَامِي هَذَا أَوْ تَوَضَّأْ بِمَائِي هَذَا أَوْ اشْرَبْهُ وَسِعَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ وَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ كَالْعَصِيرِ إذَا تَخَمَّرَ وَكَمَنْ اشْتَرَى لَحْمًا فَأَخْبَرَهُ عَدْلٌ أَنَّهُ ذَبِيحَةُ مَجُوسِيٍّ يَحْرُمُ عَلَيْهِ تَنَاوُلُهُ وَلَا يَسْقُطُ مِلْكُهُ حَتَّى لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى بَائِعِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْإِخْبَارُ بِهِ إخْبَارًا بِأَمْرٍ دِينِيٍّ وَقَوْلُ الْوَاحِدِ فِيهِ مُلْزِمٌ فَأَمَّا فِي الْوَطْءِ فَالْحِلُّ أَوْ الْحُرْمَةُ يَثْبُتُ حُكْمًا لِلْمِلْكِ وَزَوَالُهُ لَا مَقْصُودًا حَتَّى لَوْ قَالَ لِآخَرَ طَأْ جَارِيَتِي هَذِهِ قَدْ أَذِنْت لَك فِيهِ أَوْ قَالَتْ لَهُ ذَلِكَ حُرَّةٌ فِي نَفْسِهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْوَطْءُ لِعَدَمِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ بِهِ وَقَوْلُ الْوَاحِدِ فِي إبْطَالِ الْمِلْكِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَكَذَلِكَ فِي الْحِلِّ الَّذِي يُبْتَنَى عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ فِي الْوَطْءِ مَعْنَى الْإِلْزَامِ عَلَى الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ الْمَنْكُوحَةَ يَلْزَمُهَا الِانْقِيَادُ لِلزَّوْجِ فِي الِاسْتِفْرَاشِ وَالْمَمْلُوكَةُ يَلْزَمُهَا الِانْقِيَادُ لِمَوْلَاهَا وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي إبْطَالِ الِاسْتِحْقَاقِ الثَّابِتِ لِشَخْصٍ عَلَى شَخْصٍ فَأَمَّا حِلُّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَلَيْسَ فِيهِ اسْتِحْقَاقُ حَقٍّ عَلَى أَحَدٍ يَبْطُلُ بِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ بَلْ هُوَ أَمْرٌ دِينِيٌّ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِي مِثْلِهِ حُجَّةٌ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ مَا فِيهِ الْإِلْزَامُ الْمَحْضُ

وَعَلَى ذَلِكَ بَنَى مُحَمَّدٌ مَسَائِلَ فِي آخِرِ كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ مِثْلَ خَبَرِ الرَّجُلِ أَنَّ فُلَانًا كَانَ غَصَبَ مِنِّي هَذَا الْعَبْدَ فَأَخَذْته مِنْهُ لَمْ يُقْبَلْ، وَلَوْ قَالَ تَابَ فَرَدَّهُ عَلَيَّ قُبِلَ خَبَرُهُ، وَلِهَذَا قَبِلْنَا خَبَرَ الْفَاسِقِ فِي إثْبَاتِ الْإِذْنِ لِلْعَبْدِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: خَبَرُ الْمُخْبِرِ فِي الرَّضَاعِ الطَّارِئِ عَلَى النِّكَاحِ أَوْ الْمَوْتِ أَوْ الطَّلَاقِ إذَا أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يَنْكِحَ أُخْتَهَا أَوْ أَرَادَتْ الْمَرْأَةُ نِكَاحَ زَوْجٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ مُجَوِّزٌ غَيْرُ مُلْزِمٍ وَأَمْثِلَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى وَالشَّهَادَةُ بِهِلَالِ رَمَضَانَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ لَا يُقْبَلُ فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ بَلْ يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ وَفِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْإِلْزَامِ يُقْبَلُ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ فِي مَوْضِعِ الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْإِلْزَامِ وَيُقْبَلُ فِي مَوْضِعِ الْمُسَالَمَةِ مِثْلُ الْوَكَالَاتِ وَنَحْوِهَا لِخُلُوِّهِ عَنْ مَعْنَى الْإِلْزَامِ وَعَلَى ذَلِكَ أَيْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَهُوَ اعْتِبَارُ الْمُنَازَعَةِ وَالْمُسَالَمَةِ بَنَى مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَسَائِلَ فِي آخِرِ كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ فَقَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَلِمَ أَنَّ جَارِيَةً لِرَجُلٍ يَدَّعِيهَا ثُمَّ رَآهَا فِي آخَرَ يَبِيعُهَا وَيَزْعُمُ أَنَّهَا قَدْ كَانَتْ فِي يَدِ فُلَانٍ وَأَنَّهُ كَانَ يَدَّعِيهَا غَيْرَ أَنَّهَا كَانَتْ لِي وَإِنَّمَا أَمَرْته بِذَلِكَ لِأَمْرٍ خِفْته وَصَدَّقَتْهُ الْجَارِيَةُ بِذَلِكَ، وَالرَّجُلُ الْبَائِعُ مُسْلِمٌ ثِقَةٌ فَلَا بَأْسَ بِشِرَائِهَا مِنْهُ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ هَذَا وَلَكِنَّهُ قَالَ ظَلَمَنِي وَغَصَبَنِي فَأَخَذْتهَا مِنْهُ لَمْ يَنْبَغِ أَنْ يَعْرِضَ لَهَا بِشِرَاءٍ وَلَا قَبُولٍ إنْ كَانَ الْمُخْبِرُ ثِقَةً أَوْ غَيْرَ ثِقَةٍ؛ لِأَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَخْبَرَ عَنْ حَالِ مُسَالَمَةٍ وَمُوَاضَعَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا فَيُعْتَمَدُ خَبَرُهُ إذَا كَانَ ثِقَةً وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي أَخْبَرَ عَنْ حَالِ مُنَازَعَةٍ بَيْنَهُمَا فِي غَصْبِ الْأَوَّلِ مِنْهُ وَاسْتِرْدَادِ هَذَا مِنْهُ فَلَا يَكُونُ خَبَرُهُ حُجَّةً فَإِنْ قَالَ: إنَّهُ كَانَ ظَلَمَنِي وَغَصَبَنِي ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ظُلْمِهِ فَأَقَرَّ لِي بِهَا وَدَفَعَهَا إلَيَّ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ ثِقَةٌ فَلَا بَأْسَ بِشِرَائِهَا مِنْهُ وَقَبُولِ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ حَالِ مُسَالَمَةٍ وَهِيَ إقْرَارُهُ لَهُ بِهَا وَدَفْعُهَا إلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: خَاصَمْته إلَى الْقَاضِي فَقَضَى لِي بِالْبَيِّنَةِ وَبِالنُّكُولِ وَأَخَذَهَا مِنْهُ فَدَفَعَهَا إلَيَّ أَوْ قَالَ قَضَى لِي بِهَا فَأَخَذْتهَا مِنْ مَنْزِلِهِ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ أَخْذَهُ كَانَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ أَنَّ الْقَاضِيَ دَفَعَهَا إلَيْهِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ حَالِ مُسَالَمَةٍ مَعْنًى؛ لِأَنَّ كُلَّ ذِي دِينٍ يَكُونُ مُسْتَسْلِمًا لِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَإِنْ قَالَ قَضَى لِي بِهَا فَجَحَدَنِي قَضَاءَهُ فَأَخَذْتهَا لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَحَدَ الْقَضَاءَ جَاءَتْ الْمُنَازَعَةُ؛ فَإِنَّمَا أَخْبَرَ بِالْأَخْذِ فِي حَالِ الْمُنَازَعَةِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِيهَا لَا يَكُونُ حُجَّةً لِمَا فِيهَا مِنْ الْإِلْزَامِ. وَنَظِيرُ تَغَيُّرِ الْحُكْمِ بِتَغَيُّرِ الْعِبَارَةِ مَا إذَا قَدِمَ رَجُلٌ لِيُقْتَلَ بِالْخَشَبِ فَقَالَ اُقْتُلُونِي بِالسَّيْفِ يَأْثَمُ وَلَوْ قَالَ لَا تَقْتُلُونِي بِالْخَشَبِ لَا يَأْثَمُ وَلَوْ قَدِمَ الْأَبُ وَالِابْنُ لِلْقَتْلِ فَقَالَ الْأَبُ: قَدِّمُوا ابْنِي لِأَحْتَسِبَ بِالصَّبْرِ عَلَى قَتْلِهِ يَأْثَمُ وَلَوْ قَالَ لَا تُقَدِّمُونِي عَلَى ابْنِي لَا يَأْثَمُ فَعَرَفْنَا أَنْ بِتَغَيُّرِ الْعِبَارَةِ قَدْ يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ مَعَ اتِّحَادِ الْمَقْصُودِ، وَلِهَذَا قَبِلْنَا أَيْ وَلِأَنَّ فِي مَوْضِعِ الْمُسَالَمَةِ يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ قَبِلْنَا خَبَرَ الْمُخْبِرِ فِي الرَّضَاعِ الطَّارِئِ عَلَى النِّكَاحِ بِأَنْ تَزَوَّجَ صَغِيرَةً فَأَخْبَرَ ثِقَةٌ أَنَّهَا قَدْ ارْتَضَعَتْ مِنْ أُمِّهِ أَوْ أُخْتِهِ أَوْ الْمَوْتِ أَوْ الطَّلَاقِ بِأَنْ غَابَ رَجُلٌ عَنْ امْرَأَتِهِ فَأَخْبَرَهُ مُسْلِمٌ ثِقَةٌ أَنَّهَا قَدْ مَاتَتْ أَوْ أَخْبَرَهَا مُسْلِمٌ ثِقَةٌ أَنَّ زَوْجَهَا قَدْ مَاتَ أَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَى خَبَرِهِ وَيَحِلُّ لِلزَّوْجِ التَّزَوُّجُ بِأَرْبَعٍ سِوَاهَا أَوْ بِأُخْتِهَا وَلِلْمَرْأَةِ التَّزَوُّجُ بِزَوْجٍ آخَرَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحُرْمَةِ الطَّارِئَةِ بِالرَّضَاعِ أَوْ الْفُرْقَةِ الطَّارِئَةِ بِالْمَوْتِ أَوْ الطَّلَاقِ مَعْنَى الْمُنَازَعَةِ. بِخِلَافِ مَا إذَا أَخْبَرَ أَنَّ النِّكَاحَ كَانَ فَاسِدًا بِسَبَبِ رَضَاعٍ مُتَقَدِّمٍ أَوْ رِدَّةٍ قَائِمَةٍ عِنْدَ الْعَقْدِ مِنْ الرَّجُلِ أَوْ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ فِي الْحُرْمَةِ الْمُقَارِنَةِ مَعْنَى الْمُنَازَعَةِ إذْ إقْدَامُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ تَصْرِيحٌ بِثُبُوتِ الْحِلِّ فَلِذَلِكَ اُعْتُبِرَ فِيهِ شَرَائِطُ الشَّهَادَةِ قَوْلُهُ (وَالشَّهَادَةُ بِهِلَالِ رَمَضَانَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ) الرَّابِعِ لَا خِلَافَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُقْبَلُ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ لِحَدِيثِ عِكْرِمَةَ عَنْ

وَأَمَّا الْقِسْمُ الْخَامِسُ فَمِثْلُ عَزْلِ الْوَكِيلِ وَحَجْرِ الْمَأْذُونِ وَوُقُوعِ الْعِلْمِ لِلْبِكْرِ الْبَالِغَةِ بِإِنْكَاحِ وَلِيِّهَا إذَا سَكَتَتْ وَوُقُوعِ الْعِلْمِ بِفَسْخِ الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَوُجُوبِ الشَّرَائِعِ عَلَى الْمُسْلِمِ الَّذِي لَمْ يُهَاجِرْ فَفِي هَذَا كُلِّهِ إذَا كَانَ الْمُبَلِّغُ وَكِيلًا أَوْ رَسُولًا مِمَّنْ إلَيْهِ الْإِبْلَاغُ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ الْعَدَالَةُ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ غَيْرِهِ، وَإِذَا أَخْبَرَهُ فُضُولِيٌّ بِنَفْسِهِ مُبْتَدِيًا؛ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: لَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا خَبَرُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ وَفِي الِاثْنَيْنِ كَذَلِكَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ فِي الْمُثَنَّى وَلَفْظُ الْكِتَابِ فِي الِاثْنَيْنِ مُحْتَمَلٌ قَالَ حَتَّى يُخْبِرَهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَدْلٌ أَوْ رَجُلَانِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْعَدَالَةَ فِيهِمَا نَصًّا ـــــــــــــــــــــــــــــQابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّاسَ أَصْبَحُوا يَوْمَ الشَّكِّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدِمَ أَعْرَابِيٌّ وَشَهِدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ نَعَمْ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اللَّهُ أَكْبَرُ يَكْفِي الْمُسْلِمِينَ أَحَدُهُمْ فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَصُومُوا بِشَهَادَتِهِ» وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ وَالْبُلُوغِ وَعَدَمِ اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ وَالذُّكُورَةِ وَلَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هِيَ شَرْطٌ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ مَقْبُولَةٌ عَدْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ مِنْ خَبَرِهِ هَذَا لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ مِنْ الصَّوْمِ مَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَلِهَذَا يُكْتَفَى فِيهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَخَبَرِ الْفَاسِقِ فِي بَابِ الدِّينِ غَيْرُ مَقْبُولٍ بِمَنْزِلَةِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَكَأَنَّ الشَّيْخَ بِقَوْلِهِ " مِنْ الْقِسْمِ الرَّابِعِ " اخْتَارَ مَذْهَبَ الطَّحَاوِيِّ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا الْقِسْمِ لَا يُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ خَبَرَهُ لَيْسَ بِمُلْزِمٍ لِلصَّوْمِ بَلْ الْمُوجِبُ هُوَ النَّصُّ وَجَعَلَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَشْتَرِطَ فِيهِ الْعَدَالَةَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَيْسَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ لِيَكُونَ مِنْ الْقِسْمِ الرَّابِعِ بَلْ هُوَ أَمْرٌ دِينِيٌّ إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِسْلَامُ وَالْبُلُوغُ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَلَوْ كَانَ مِنْ الْقِسْمِ الرَّابِعِ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ وَالشَّهَادَةُ عَلَى هِلَالِ الْأَضْحَى كَالشَّهَادَةِ عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي النَّوَادِرِ لِتَعَلُّقِ أَمْرٍ دِينِيٍّ بِهِ، وَهُوَ ظُهُورُ وَقْتِ الْحَجِّ الَّذِي هُوَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَهِلَالِ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلنَّاسِ بِالتَّوَسُّعِ بِلُحُومِ الْأَضَاحِيّ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْقِسْمُ الْخَامِسُ) وَهُوَ الَّذِي فِيهِ إلْزَامٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَمِثْلُ عَزْلِ الْوَكِيلِ وَحَجْرِ الْمَأْذُونِ وَسَائِرِ الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ الْوَجْهَيْنِ فِيهَا وَالْإِخْبَارُ بِالشَّرَائِعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ لَكِنَّهُ أُلْحِقَ بِهَا لِمَا سَنَذْكُرُهُ فَفِي هَذَا كُلِّهِ إذَا كَانَ الْمُبَلِّغُ وَكِيلًا أَوْ رَسُولًا مِمَّنْ إلَيْهِ الْإِبْلَاغُ بِأَنْ قَالَ الْمُوَكِّلُ أَوْ الْمَوْلَى أَوْ الشَّرِيكُ أَوْ رَبُّ الْمَالِ أَوْ الْإِمَامُ أَوْ الْأَبُ وَكَّلْتُك بِأَنْ تُخْبِرَ فُلَانًا بِالْعَزْلِ وَالْحَجْرِ وَنَحْوِهِمَا وَأَرْسَلْتُك إلَى فُلَانٍ لِتُبَلِّغَ عَنِّي إلَيْهِ هَذَا الْخَبَرَ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ الْعَدَالَةُ بِالِاتِّفَاقِ؛ فَإِنَّ عِبَارَةَ الرَّسُولِ كَعِبَارَةِ الْمُرْسَلِ وَكَذَا عِبَارَةُ الْوَكِيلِ فِي هَذَا كَعِبَارَةِ الْمُوَكِّلِ إذْ الْوَكِيلُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ كَالرَّسُولِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي غَيْرِهَا ثُمَّ فِي الْمُوَكِّلِ وَالْمُرْسِلِ لَا يُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ، فَكَذَا فِيمَنْ قَامَ مَقَامَهُمَا وَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ فُضُولِيًّا فَلَا بُدَّ مِنْ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ مَشَايِخِنَا. فَأَمَّا إذَا أَخْبَرَهُ فُضُولِيَّانِ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ عَلَى قَوْلِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يُشْتَرَطُ كَمَا لَوْ كَانَ الْمُخْبِرُ وَاحِدًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ فِي الْمَثْنَى وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ لِاشْتِبَاهِ لَفْظِ الْكِتَابِ أَيْ الْمَبْسُوطِ؛ فَإِنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ فِي الْمَأْذُونِ الْكَبِيرِ إذَا حَجَرَ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ مَنْ لَمْ يُرْسِلْهُ مَوْلَاهُ لَمْ يَكُنْ حَجْرًا فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يُخْبِرَهُ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ عَدْلٌ يَعْرِفُهُ الْعَبْدُ، فَالْفَرِيقُ الْأَوَّلُ قَالُوا مَعْنَاهُ رَجُلَانِ عَدْلٌ أَوْ رَجُلٌ عَدْلٌ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ عَدْلٌ يَصْلُحُ نَعْتًا لِلْوَاحِدِ وَالْمُثَنَّى

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَشْتَرِطَ سَائِرَ شَرَائِطِ الشَّهَادَةِ إلَّا الْعَدَدَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَوْ الْعَدَدُ مَعَ سَائِرِ الشَّرَائِطِ غَيْرُ الْعَدَالَةِ فَلَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ فَأَمَّا عِنْدَهُمَا؛ فَإِنَّ الْكُلَّ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُعَامَلَاتِ وَلَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: إنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْحُقُوقِ اللَّازِمَةِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ حُكْمًا بِالْعَزْلِ وَالْحَجْرِ فَيَلْزَمُهُ فِيهِ الْعُهْدَةُ مِنْ لُزُومِ عَقْدٍ أَوْ فَسَادِ عَمَلٍ وَمِنْ وَجْهٍ يُشْبِهُ سَائِرَ الْمُعَامَلَاتِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَفْسَخُ يَتَصَرَّفُ فِي حَقِّهِ كَمَا يَتَصَرَّفُ فِي حَقِّهِ بِالْإِطْلَاقِ فَشَرَطْنَا فِيهِ الْعَدَدَ أَوْ الْعَدَالَةَ لِكَوْنِهَا بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ بِخِلَافِ الْمُخْبِرِ إذَا كَانَ رَسُولًا لِمَا قُلْنَا وَفِي شَرْطِ الْمُثَنَّى مِنْ غَيْرِ عَدَالَةٍ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا فَائِدَةٌ لِتَوْكِيدِ الْحُجَّةِ وَالْعَدَدِ أَثَرٌ فِي التَّوْكِيدِ بِلَا إشْكَالٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْجَمَاعَةِ وَالْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَصْدَرًا. قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» وَلَمْ يَقُلْ عَدْلَيْنِ وَوَجْهُهُ أَنَّ خَبَرَ الْفَاسِقَيْنِ كَخَبَرِ الْفَاسِقِ الْوَاحِدِ فِي أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ مُلْزِمًا وَإِنَّ التَّوَقُّفَ يَجِبُ فِيهِ فَلَا يَكُونُ لِزِيَادَةِ الْعَدَدِ فَائِدَةٌ وَالْفَرِيقُ الثَّانِي قَالُوا: الْقَيْدُ الْمَذْكُورُ يَخْتَصُّ بِالْوَاحِدِ وَالْمُثَنَّى عَلَى الْإِطْلَاقِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ لِزِيَادَةِ الْعَدَدِ تَأْثِيرًا فِي سُكُونِ الْقَلْبِ كَمَا أَنَّ لِلْعَدَالَةِ تَأْثِيرًا فِيهِ بَلْ تَأْثِيرُ الْعَدَدِ أَقْوَى؛ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ لَا يَنْفُذُ وَلَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ الْفَاسِقَيْنِ يَنْفُذُ وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ السُّنَّةِ ثُمَّ إذَا وُجِدَتْ الْعَدَالَةُ بِدُونِ الْعَدَدِ يُثْبِتُ الْمُخْبِرُ بِهِ فَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَ الْعَدَدُ دُونَ الْعَدَالَةِ، ثُمَّ لَا بُدَّ لِاشْتِرَاطِ الْعَدَدِ أَوْ الْعَدَالَةِ مِنْ تَكْذِيبِ الْمُخْبِرِ لَهُ وَلَا بُدَّ لِثُبُوتِ الْمُخْبِرِ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ صِدْقًا عَلَى الْحَقِيقَةِ فَإِذَا أَخْبَرَ بِالْعَزْلِ مَثَلًا رَجُلٌ عَدْلٌ أَوْ رَجُلَانِ عَدْلَانِ أَوْ غَيْرُ عَدْلَيْنِ يَثْبُتُ الْعَزْلُ بِالْإِجْمَاعِ صَدَّقَهُ الْوَكِيلُ أَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُ إذَا ظَهَرَ صِدْقُ الْمُخْبِرِ. وَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ وَاحِدًا غَيْرَ عَدْلٍ وَكَذَّبَهُ الْوَكِيلُ لَا يَنْعَزِلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنْ ظَهَرَ صِدْقُ الْخَبَرِ وَعِنْدَهُمَا يَنْعَزِلُ إذَا ظَهَرَ صِدْقُهُ، وَإِنْ صَدَّقَهُ يَنْعَزِلُ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَذَا فِي الْوَكَالَةِ الَّتِي لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ حَتَّى يَنْفَرِدَ الْمُوَكِّلُ بِعَزْلِهِ أَمَّا إذَا تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ كَالْوَكَالَةِ الثَّابِتَةِ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ فَلَا يَنْعَزِلُ وَإِنْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ عَدْلَانِ. قَوْلُهُ (وَيُحْتَمَلُ) كَذَا يَعْنِي أَنَّ الْعَدَدَ أَوْ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ عِنْدَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَائِرُ شَرَائِطِ الشَّهَادَةِ مِنْ الذُّكُورَةِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْبُلُوغِ شَرْطًا مَعَ أَحَدِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمُخْبِرُ وَاحِدًا عَدْلًا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا حُرًّا بَالِغًا عَاقِلًا. وَكَذَا إذَا كَانَ اثْنَيْنِ غَيْرَ عَدْلَيْنِ فَعَلَى هَذَا لَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ أَصْلًا وَإِنْ وُجِدَتْ الْعَدَالَةُ أَوْ الْعَدَدُ لِعَدَمِ سَائِرِ الشَّرَائِطِ وَإِنَّمَا قَالَ يُحْتَمَلُ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَذْكُرْهَا فِي الْمَبْسُوطِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا؛ فَإِنَّ الْكُلَّ سَوَاءٌ أَيْ الْقِسْمُ الْخَامِسُ وَالرَّابِعُ سَوَاءٌ فَيَثْبُتُ الْعَزْلُ وَالْحَجْرُ بِقَوْلِ كُلِّ مُمَيَّزٍ كَالتَّوْكِيلِ وَالْإِذْنِ؛ لِأَنَّهُ أَيْ هَذَا الْقِسْمُ مِنْ بَابِ الْمُعَامَلَاتِ يَعْنِي مَا خَلَا الْإِخْبَارَ بِالشَّرَائِعِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَوَقَّفَ عَلَى شَرَائِطِ الشَّهَادَةِ كَالْقِسْمِ الرَّابِعِ، وَهَذَا لِأَنَّ لِلنَّاسِ فِي بَابِ الْمُعَامَلَاتِ ضَرُورَةً تَوْكِيلًا وَعَزْلًا عَلَى مَا يَعْرِضُ لَهُمْ الْحَاجَاتُ فَلَوْ شُرِطَتْ الْعَدَالَةُ فِي الْخَبَرِ عَنْهَا لَضَاقَ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ فَلَمْ يُشْتَرَطْ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، كَذَا فِي الْأَسْرَارِ. فَأَمَّا الْإِخْبَارُ بِالشَّرَائِعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ فَقَدْ أُلْحِقَ بِهَا؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ تَحَقَّقَتْ فِي حَقِّهِ إذْ لَوْ تَوَقَّفَ عَلَى الْعَدَالَةِ يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ وَتَفْوِيتِ الْمَصْلَحَةِ؛ لِأَنَّ انْتِقَالَ الْعُدُولِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ قَلَّمَا يَكُونُ فَلِهَذِهِ الضَّرُورَةِ أُلْحِقَ بِالْمُعَامَلَاتِ وَلَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ إنَّهُ أَيْ الْقِسْمُ الْخَامِسُ مِنْ جِنْسِ الْحُقُوقِ اللَّازِمَةِ دُونَ الْجَائِزَةِ وَالْحُقُوقُ اللَّازِمَةُ هِيَ الَّتِي تَلْزَمُ عَلَى الْغَيْرِ وَلَا يَنْفَرِدُ بِإِبْطَالِهَا وَالْجَائِزَةُ عَلَى خِلَافِهَا؛ لِأَنَّهُ أَيْ الْمُوَكِّلُ أَوْ الْمَوْلَى يُلْزِمُهُ أَيْ الْوَكِيلُ أَوْ الْعَبْدُ حُكْمًا بِالْعَزْلِ أَوْ الْحَجْرِ، ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ الْحُكْمَ بِقَوْلِهِ يَلْزَمُهُ فِيهِ الْعُهْدَةُ مِنْ لُزُومِ عَقْدٍ يَعْنِي فِي الْوَكِيلِ؛ فَإِنَّهُ إذَا انْعَزَلَ يَقْتَصِرُ الشِّرَاءُ عَلَيْهِ وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ عُهْدَتُهُ أَوْ فَسَادُ عَمَلٍ يَعْنِي فِي الْحَجْرِ عَلَى الْعَبْدِ؛ فَإِنَّهُ كَانَ نَافِذَ التَّصَرُّفِ وَبِالْحَجْرِ يَخْرُجُ تَصَرُّفَاتُهُ مِنْ الصِّحَّةِ إلَى الْفَسَادِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَانَ هَذَا الْقِسْمُ مِنْ قَبِيلِ الْإِلْزَامَاتِ

وَالتَّزْكِيَةُ مِنْ الْقِسْمِ الرَّابِعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ عَلَى مَا عُرِفَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQوَمِنْ وَجْهٍ يُشْبِهُ سَائِرَ الْمُعَامَلَاتِ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ أَوْ الْمَوْلَى أَوْ مَنْ بِمَعْنَاهُمَا مُتَصَرِّفٌ فِي حَقِّهِ بِالْعَزْلِ وَالْحَجْرِ وَالْفَسْخِ كَمَا هُوَ مُتَصَرِّفٌ فِي حَقِّهِ بِالتَّوْكِيلِ وَالْإِذْنِ وَالْإِجَارَةِ إذْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ وِلَايَةُ الْمَنْعِ مِنْ التَّصَرُّفِ كَمَا لَهُ وِلَايَةُ الْإِطْلَاقِ وَكَذَا الْإِخْبَارُ بِالشَّرَائِعِ فِي الْمُسْلِمِ الَّذِي لَمْ يُهَاجِرْ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ الشَّرَائِعَ لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً فِي حَقِّهِ قَبْلَ الْإِخْبَارِ حَتَّى لَمْ يَلْحَقْهُ ضَمَانٌ وَلَا إثْمٌ بِتَرْكِهَا، وَقَدْ ثَبَتَ الْوُجُوبُ فِي حَقِّهِ بَعْدَ الْإِخْبَارِ كَانَ مَلْزُومًا وَمِنْ حَيْثُ إنَّ وُجُوبَهَا مُضَافٌ إلَى الشَّرْعِ وَالْتِزَامُهُ أَوْ أَمْرُهُ لَا يَكُونُ مُلْزِمًا فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ أَخَذَ شَبَهًا مِنْ أَصْلَيْنِ ثُمَّ شَبَهُ الْإِلْزَامِ يُوجِبُ اشْتِرَاطَ الْعَدَالَةِ وَالْعَدَدِ وَشَبَهُ الْمُعَامَلَاتِ يُوجِبُ سُقُوطَهُمَا فَشَرَطْنَا أَحَدَهُمَا وَأَسْقَطْنَا الْآخَرَ تَوْفِيرًا عَلَى الشَّبَهَيْنِ حَظُّهُمَا. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: خَبَرُ الْفَاسِقِ فِي هَذَا الْقِسْمِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا أَنْشَأَ الْخَبَرَ مِنْ عِنْدِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى اللُّزُومِ؛ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْكَفُّ عَنْ التَّصَرُّفِ إذَا أَخْبَرَهُ بِالْحَجْرِ وَالْعَزْلِ وَيَلْزَمُهَا النِّكَاحُ إذَا سَكَتَتْ بَعْدَ الْعِلْمِ وَالْكَفِّ عَنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ إذَا سَكَتَ بَعْدَ الْعِلْمِ وَخَبَرُ الْفَاسِقِ لَا يَصْلُحُ مُلْزِمًا؛ لِأَنَّ التَّوَقُّفَ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ لَا يَكُونَ مُلْزِمًا بِخِلَافِ الرَّسُولِ؛ فَإِنَّ عِبَارَتَهُ كَعِبَارَةِ الْمُرْسِلِ ثُمَّ بِالْمُرْسَلِ حَاجَةٌ إلَى تَبْلِيغِ ذَلِكَ وَقَلَّمَا يَجِدُ عَدْلًا يَسْتَعْمِلُهُ فِي الْإِرْسَالِ إلَى عَبْدِهِ وَوَكِيلِهِ فَأَمَّا الْفُضُولِيُّ فَمُتَكَلِّفٌ لَا حَاجَةَ بِهِ إلَى هَذَا التَّبْلِيغِ وَالسَّامِعُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَعَهُ دَلِيلًا يُعْتَمَدُ لِلتَّصَرُّفِ إلَى أَنْ يُبَلِّغَهُ مَا يَرْفَعُهُ فَلِهَذَا شَرَطْنَا الْعَدَالَةَ فِي الْخَبَرِ فِي هَذَا الْقِسْمِ وَلَمْ يُشْتَرَطْ الْعَدَدُ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَهُمَا لِأَجْلِ مُنَازَعَةٍ مُتَحَقِّقَةٍ وَهِيَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ هَاهُنَا وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي شَرْحِ الْمَأْذُونِ الْكَبِيرِ وَاخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا أَخْبَرَهُ فَاسِقٌ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ هَلْ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِاعْتِبَارِ خَبَرِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الْقَضَاءُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ أَخْبَارِ الدِّينِ وَالْعَدَالَةُ فِيهَا شَرْطٌ بِالِاتِّفَاقِ وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ كَالْحَجْرِ وَالْعَزْلِ، قَالَ وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ مَنْ يُخْبِرُهُ فَهُوَ رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالتَّبْلِيغِ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا مَقَالَةً فَوَعَاهَا كَمَا سَمِعَهَا ثُمَّ أَدَّاهَا إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «أَلَا فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» وَخَبَرُ الرَّسُولِ بِمَنْزِلَةِ كَلَامِ الْمُرْسِلِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ، فَكَذَا هَذَا وَلَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا رِوَايَةُ الْفَاسِقِ الْأَخْبَارَ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يَظْهَرُ رُجْحَانُ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ كَوْنُ الْمَخْبَرِ بِهِ حَقًّا وَهَاهُنَا نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ حَقٌّ فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ مَنْ أَخْبَرَهُ الْفَاسِقُ بِهِ حَتَّى يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ فِيمَا يَتْرُكُهُ بَعْدَ ذَلِكَ. قَوْلُهُ (وَالتَّزْكِيَةُ مِنْ الْقِسْمِ الرَّابِعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ) يَعْنِي فِي حَقِّ سُقُوطِ شَرْطِ الْعَدَدِ لَا فِي حَقِّ سُقُوطِ شَرْطِ الْعَدَالَةِ؛ فَإِنَّ مُحَمَّدًا نَصَّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُزَكِّيَ الْوَاحِدَ إنْ كَانَ عَدْلًا أَمْضَى شَهَادَةَ الشَّاهِدَيْنِ بِقَوْلِ هَذَا الْوَاحِدِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَدْ نَصَّ فِي الْمَبْسُوطِ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَرْجِمُ عَدْلًا مُسْلِمًا بِلَا خِلَافٍ وَحُكْمُ الْمُتَرْجِمِ وَالْمُزَكِّي وَاحِدٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، وَلِهَذَا عَدَّ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - التَّزْكِيَةَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ عَلَى قَوْلِهِمَا، وَهُوَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ عَلَى الْقَاضِي مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ لَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ هُوَ أَيْ الْمَذْكُورُ، وَهُوَ التَّزْكِيَةُ مِنْ الْقِسْمِ الثَّالِثِ حَتَّى يُشْتَرَطَ فِيهَا سَائِرُ شَرَائِطِ

[باب بيان الخبر]

(بَابُ بَيَانِ الْقِسْمِ الرَّابِعِ مِنْ أَقْسَامِ السُّنَّةِ) وَهُوَ الْخَبَرُ هَذَا الْبَابُ قِسْمَانِ قِسْمٌ رَجَعَ إلَى نَفْسِ الْخَبَرِ وَقِسْمٌ رَجَعَ إلَى مَعْنَاهُ فَأَمَّا نَفْسُ الْخَبَرِ فَلَهُ طَرَفَانِ طَرَفُ السَّامِعِ وَطَرَفُ الْمُبَلِّغِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قِسْمَيْنِ عَزِيمَةٍ وَرُخْصَةٍ، أَمَّا الطَّرَفُ الَّذِي هُوَ طَرَفُ السَّامِعِ؛ فَإِنَّ الْعَزِيمَةَ فِي ذَلِكَ مَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْأَسْمَاعِ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَالرُّخْصَةُ مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْمَاعٌ أَمَّا الْأَسْمَاعُ الَّذِي هُوَ عَزِيمَةٌ فَأَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ قِسْمَانِ فِي نِهَايَةِ الْعَزِيمَةِ وَأَحَدُهُمَا أَحَقُّ مِنْ صَاحِبِهِ وَقِسْمَانِ آخَرَانِ يَخْلُفَانِ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ هُمَا مِنْ بَابِ الْعَزِيمَةِ أَيْضًا لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ فَصَارَ لَهُمَا شَبَهٌ بِالرُّخْصَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالشَّهَادَةِ سِوَى لَفْظَةِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الْمُذَكِّيَ بِمَعْنَى الشَّاهِدِ؛ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ الْقَضَاءُ عَلَى الْقَاضِي بِالشَّهَادَةِ وَهَذَا آكَدُ مَا يَكُونُ مِنْ الْإِلْزَامِ فَيُشْتَرَطُ الْعَدَدُ لِطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهَا مَا يُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَالْعَدَالَةِ وَالْإِسْلَامِ، فَكَذَا الْعَدَدُ إلَّا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَهَا لَيْسَ لِمَعْنَى الْإِلْزَامِ بَلْ يَثْبُتُ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ أَوْ لِمَعْنَى الزَّجْرِ عَنْ الشَّهَادَةِ بِالْبَاطِلِ بِقَوْلِهِ اشْهَدْ؛ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ احْلِفْ وَالْمُدَّعِي يَأْتِي بِالشُّهُودِ فَلِاحْتِمَالِ الْمُوَاضَعَةِ وَالتَّلْبِيسِ بَيْنَهُمْ شَرَطْنَا لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ. وَأَمَّا الْمُذَكِّي فَيَخْتَارُهُ الْقَاضِي فَيَنْعَدِمُ فِي حَقِّهِ مِثْلُ هَذِهِ التُّهْمَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّهِ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ وَلَكِنَّهُمَا قَالَا: الْمُذَكِّي مُخْبِرٌ بِخَبَرٍ دِينِيٍّ فَلَا يَكُونُ الْعَدَدُ فِيهِ شَرْطًا كَمَا فِي رِوَايَةِ الْإِخْبَارِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ وَلَا مَجْلِسُ الْقَاضِي وَلَوْ كَانَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ لَشَرَطَ فِيهِ مَا اخْتَصَّ بِهِ الشَّهَادَةُ، وَإِذَا لَمْ يُجْعَلْ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ فِيهِ فَفِي الْعَدَدِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ أَمْرٌ مُؤَكَّدٌ غَيْرُ مَعْقُولٍ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ سَوَاءٌ وَاشْتِرَاطُ الْعَدَالَةِ وَالْإِسْلَامِ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِهِمَا فِي رِوَايَةِ الْإِخْبَارِ وَاشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْغَيْرُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْتَزِمَ شَيْئًا فَكَانَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ وَالرِّقُّ يَنْفِي الْوِلَايَةَ عَلَى الْغَيْرِ بِخِلَافِ رِوَايَةِ الْإِخْبَارِ؛ فَإِنَّهُ يَلْتَزِمُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ فَلَا يَشْتَرِطُ الْحُرِّيَّةَ، وَكَذَا الْمَرْأَةُ الْوَاحِدَةُ تَكْفِي لِذَلِكَ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْإِخْبَارِ وَلَكِنْ رَجُلٌ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْثَقُ؛ لِأَنَّهُ إلَى الِاحْتِيَاطِ أَقْرَبُ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. وَذَكَرَ فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ أَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ فِي تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ عِنْدَ الْكُلِّ وَإِنْ كَانَ لَا يُشْتَرَطُ فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ لِاخْتِصَاصِهَا بِمَجْلِسِ الْقَاضِي فَيُشْتَرَطُ فِيهَا الْعَدَدُ، وَلِهَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ لِتَزْكِيَةِ السِّرِّ حَتَّى إنَّ الرَّجُلَ إذَا عَدَّلَ أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ أَوْ الْمَرْأَةُ عَدَّلَتْ زَوْجَهَا أَوْ الْعَبْدُ عَدَّلَ مَوْلَاهُ صَحَّ وَتُشْتَرَطُ فِي تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ حَتَّى أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّعْدِيلِ فِي الْعَلَانِيَةِ، وَإِلَّا فَلَا وَفِيهِ أَيْضًا قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أُجِيزَ فِي التَّزْكِيَةِ سِرًّا تَزْكِيَةُ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ وَالْأَعْمَى إذَا كَانُوا عُدُولًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خَبَرٌ وَخَبَرُ هَؤُلَاءِ مَقْبُولٌ فِي بَابِ الدِّينِ. وَأَمَّا التَّزْكِيَةُ عَلَانِيَةً فَلَا تُقْبَلُ إلَّا مِمَّنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ لِمَا قُلْنَا، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا فِي تَزْكِيَةِ الشَّاهِدِ أَمَّا فِي تَزْكِيَةِ الرَّاوِي فَلَا شَكَّ أَنَّ عِنْدَهُمَا لَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ آكَدُ فِي الرِّوَايَةِ فَلَمَّا لَمْ يُشْتَرَطْ الْعَدَدُ فِي تَزْكِيَةِ الشَّهَادَةِ لَا يُشْتَرَطُ فِي تَزْكِيَةِ الرِّوَايَةِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ إنَّمَا شُرِطَ فِي تَزْكِيَةِ الشَّاهِدِ لِوُجُودِ مَعْنَى الْإِلْزَامِ فِيهَا بِاعْتِبَارِ اسْتِحْقَاقِ الْمُدَّعِي الْقَضَاءَ عَلَى الْقَاضِي بِالشَّهَادَةِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي تَزْكِيَةِ الرَّاوِي بَلْ هِيَ أَخْبَارٌ فَلَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ فِي قَبُولِهِ كَنَصِّ الرِّوَايَةِ، وَمِنْ الْأُصُولِيِّينَ مَنْ شَرَطَ الْعَدَدَ فِي تَعْدِيلِ الرَّاوِي وَالشَّاهِدِ جَمِيعًا اعْتِبَارًا بِالشَّهَادَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَهُ فِي تَعْدِيلِ الشَّاهِدِ دُونَ الرَّاوِي إلْحَاقًا لِلتَّعْدِيلِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ بِمَشْرُوطِهِ فِي كُلِّ بَابٍ وَالْعَدَدُ شَرْطٌ فِي الشَّهَادَةِ دُونَ الرِّوَايَةِ، فَكَذَا بِالْمُلْحَقِ بِهِمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ بَيَانِ الْخَبَرُ] (بَابُ بَيَانِ قِسْمِ الرَّابِعِ، وَهُوَ الْخَبَرُ) قَوْلُهُ (أَمَّا الطَّرَفُ الَّذِي هُوَ طَرَفُ السَّامِعِ) وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ التَّبْلِيغُ مَكَانَ السَّامِعِ وَقِيلَ هَذَا أَصَحُّ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ مَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْأَسْمَاعِ يَدُلُّ عَلَيْهِ إذْ الْإِسْمَاعُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ جِهَةِ الْمُبَلِّغِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْأَصَحُّ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ وَأَنْتَ تَسْمَعُهُ، وَهُوَ يَسْمَعُ. وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ الْبَابِ، وَإِذَا صَحَّ

أَمَّا الْقِسْمَانِ الْأَوَّلَانِ فَمَا يَقْرَؤُهُ عَلَيْكَ مِنْ كِتَابٍ أَوْ حِفْظٍ وَأَنْتَ تَسْمَعُهُ وَمَا تَقْرَأُ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابٍ أَوْ حِفْظٍ، وَهُوَ يَسْمَعُ فَتَقُولُ لَهُ أَهُوَ كَمَا قَرَأْت عَلَيْك فَيَقُولُ: نَعَمْ ـــــــــــــــــــــــــــــQالسَّمَاعُ وَجَبَ الْحِفْظُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ تَقْسِيمُ جَانِبِ السَّمَاعِ. وَكَذَا قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْبَابِ يَلِيهِ، وَأَمَّا طَرَفُ التَّبْلِيغِ، فَكَذَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا إذْ لَا يَسْتَقِيمُ إقَامَةُ لَفْظِ السَّامِعِ مَقَامَ التَّبْلِيغِ هُنَاكَ؛ لِأَنَّ نَقْلَ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى مِنْ قِبَلِ التَّبْلِيغِ لَا مِنْ قِبَلِ السَّمَاعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ هَاهُنَا لَفْظُ السَّامِعِ دُونَ التَّبْلِيغِ وَلَيْسَ لِقَوْلِهِ مَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْأَسْمَاعِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا قَالُوا؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْعَزِيمَةُ فِي ذَلِكَ أَيْ فِي السَّمَاعِ مَا يَكُونُ أَيْ يَحْصُلُ أَوْ يَحْدُثُ مِنْ جِنْسِ الْأَسْمَاعِ حَقِيقَةً، يُوَضِّحُهُ مَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلِهَذَا النَّوْعِ أَطْرَافٌ ثَلَاثَةٌ طَرَفُ السَّمَاعِ وَطَرَفُ الْحِفْظِ وَطَرَفُ الْأَدَاءِ فَطَرَفُ السَّمَاعِ نَوْعَانِ عَزِيمَةٌ وَرُخْصَةٌ فَالْعَزِيمَةُ مَا يَكُونُ بِحُسْنِ الِاسْتِمَاعِ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ إلَى آخِرِهِ فَثَبَتَ أَنَّ الصَّحِيحَ مَا ذَكَرْنَا. قَوْلُهُ (أَمَّا الْقِسْمَانِ الْأَوَّلَانِ) إلَى آخِرِهِ إذَا قَالَ الشَّيْخُ حَدَّثَنِي فُلَانٌ بِكَذَا أَوْ أَخْبَرَنِي أَوْ سَمِعْت فُلَانًا يَقُولُ كَذَا يَلْزَمُ السَّامِعَ الْعَمَلُ بِهَذَا الْخَبَرِ وَيَجُوزُ لَهُ الرِّوَايَةُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ حَدَّثَنِي أَوْ أَخْبَرَنِي مُطْلَقًا أَوْ بِقَوْلِهِ قَالَ فُلَانٌ أَوْ سَمِعْته يَقُولُ وَقِيلَ: إنَّ الشَّيْخَ إنْ قَصَدَ إسْمَاعَهُ خَاصَّةً ذَلِكَ الْكَلَامَ أَوْ كَانَ هُوَ فِي جَمْعٍ قَصَدَ الشَّيْخُ إسْمَاعَهُمْ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ هَاهُنَا حَدَّثَنِي وَأَخْبَرَنِي وَسَمِعْته يُحَدِّثُ عَنْ فُلَانٍ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ يَقْصِدُ إسْمَاعَهُ لَا عَلَى التَّفْصِيلِ وَلَا عَلَى الْجُمْلَةِ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ سَمِعْته يُحَدِّثُ عَنْ فُلَانٍ لَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ حَدَّثَنِي وَلَا أَخْبَرَنِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُحَدِّثْهُ وَلَمْ يُخْبِرْهُ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ: هَلْ سَمِعْت هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ فُلَانٍ فَيَقُولُ نَعَمْ أَوْ يَقُولُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِرَاءَةِ الْأَمْرُ كَمَا قُرِئَ عَلَيَّ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْهَامٍ فَهُوَ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ وَجَوَازِ الرِّوَايَةِ بِقَوْلِهِ حَدَّثَنِي أَوْ أَخْبَرَنِي لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَإِنْ قُرِئَ عَلَيْهِ فَسَكَتَ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إقْرَارٌ وَلَا نَكِيرٌ فَهُوَ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَيْضًا فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ السَّامِعِ أَنَّهُ مَا سَكَتَ إلَّا لِأَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قُرِئَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ ظَنٌّ أَنَّهُ قَوْلُ الرَّسُولِ وَالْعَمَلُ بِالظَّنِّ وَاجِبٌ. وَكَذَا يَجُوزُ لَهُ الرِّوَايَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الظَّاهِرِ لَا يَجُوزُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ وَأَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وَأَبُو الْفَتْحِ سُلَيْمٌ الرَّازِيّ وَأَبُو نَصْرٍ الصَّبَّاغُ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا قُرِئَ عَلَيْهِ كِتَابُهُ فِيهِ حِكَايَةُ إقْرَارِهِ بِدَيْنٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ نَحْوِهِمَا فَلَمْ يُقِرَّ بِهِ وَلَمْ يَعْتَرِفْ بِصِحَّتِهِ لَا يَثْبُتُ الْإِقْرَارُ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِهِ، فَكَذَا هَذَا. ، وَتَمَسَّكَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْعُرْفَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ سُكُوتَ الشَّيْخِ فِي هَذَا الْمَقَامِ تَقْرِيرٌ لَهُ عَلَى الرِّوَايَةِ وَإِقْرَارٌ بِصِحَّةِ مَا قُرِئَ عَلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا لِمَا جَازَ تَقْرِيرُهُ عَلَيْهَا وَلَكَانَ سُكُوتُهُ عَلَى الْإِنْكَارِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فِسْقًا لِمَا فِيهِ مِنْ إيهَامِ الصِّحَّةِ فَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَلَمْ يَجُزْ فِيهِ عُرِفَ أَنَّ السُّكُوتَ فِيهِ تَصْدِيقٌ ثُمَّ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْجَوَازِ يَجُوزُ لِلسَّامِعِ فِي هَذَا الْقِسْمِ أَنْ يَقُولَ قَرَأْت عَلَى فُلَانٍ أَوْ قُرِئَ عَلَيْهِ أَوْ حَدَّثَنِي أَوْ أَخْبَرَنِي قِرَاءَةً عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ، فَأَمَّا إذَا قَالَ حَدَّثَنِي أَوْ أَخْبَرَنِي مُطْلَقًا أَوْ سَمِعْت فُلَانًا فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَذَهَبَ الْغَزَالِيُّ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِالنُّطْقِ إذْ الْخَبَرُ وَالْحَدِيثُ وَالْمَسْمُوعُ نُطْقٌ كُلُّهَا وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ نُطْقٌ فَيَكُونُ قَوْلُهُ أَخْبَرَنِي أَوْ حَدَّثَنِي أَوْ سَمِعْت كَذِبًا إلَّا إذَا عَلِمَ تَصْرِيحَ قَوْلِ السَّامِعِ أَوْ بِقَرِينَةٍ خَالِيَةٍ أَنَّهُ يُرِيدُ الْقِرَاءَةَ عَلَى الشَّيْخِ دُونَ سَمَاعِ حَدِيثِهِ وَلَا يُقَالُ إمْسَاكُهُ عَنْ النَّكِيرِ جَارٍ مَجْرَى إبَاحَتِهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ عَنْهُ

قَالَ عَامَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ إنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ عَلَى الْمَنْزِلَتَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا طَرِيقَةُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهُوَ الْمُطْلَقُ، مِنْ الْحَدِيثِ الْمُشَافَهَةُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنَّ ذَلِكَ كَانَ أَحَقَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَأْمُونًا عَنْ السَّهْوِ وَمَا كَانَ يَكْتُبُ وَكَلَامُنَا فِيمَنْ يَجْرِي عَلَيْهِ السَّهْوُ وَيَقْرَأُ مِنْ الْمَكْتُوبِ دُونَ الْمَحْفُوظِ وَهُمَا فِي الْمُشَافَهَةِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ اللُّغَةَ لَا يُفْصَلُ بَيْنَ بَيَانِ الْمُتَكَلِّمِ بِنَفْسِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ فَيَسْتَفْهِمُ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَاتِ، وَهَذَا لِأَنَّ نَعَمْ كَلِمَةٌ وُضِعَتْ لِلْإِعَادَةِ اخْتِصَارًا عَلَى مَا مَرَّ وَالْمُخْتَصَرُ لُغَةً مِثْلُ الْمُشْبَعِ سَوَاءٌ وَمَا قُلْنَاهُ أَحْوَطُ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِإِبَاحَتِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ التَّحَدُّثُ عَنْهُ إذَا لَمْ يُحَدِّثْهُمْ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ لَا يَصِيرُ مُبَاحًا بِإِبَاحَتِهِ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمُحَدِّثِينَ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِإِفَادَةِ الْخَبَرِ وَالْعِلْمِ وَهَذَا السُّكُوتُ قَدْ أَفَادَ الْعِلْمَ بِأَنَّ هَذَا الْمَسْمُوعَ كَلَامُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إخْبَارًا وَأَيْضًا فَلَا نِزَاعَ أَنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ اصْطِلَاحَاتٍ مَخْصُوصَةً يَسْتَعْمِلُونَهَا فِي مَعَانِي مَخْصُوصَةٍ أَمَّا؛ لِأَنَّهُمْ نَقَلُوهَا بِحَسَبِ عُرْفِهِمْ إلَى تِلْكَ الْمَعَانِي أَوْ؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَعْمَلُوهَا فِيهَا عَلَى سَبِيلِ التَّجَوُّزِ ثُمَّ صَارَ الْمَجَازُ شَائِعًا وَالْحَقِيقَةُ مَغْلُوبَةٌ وَلَفْظُ أَخْبَرَنِي وَحَدَّثَنِي هَاهُنَا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا السُّكُوتَ يُشَابِهُ الْإِخْبَارَ فِي إفَادَةِ الظَّنِّ وَالْمُشَابَهَةُ إحْدَى أَسْبَابِ الْمَجَازِ. وَإِذَا جَازَ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ مَجَازًا ثُمَّ اسْتَقَرَّ عُرْفُ الْمُحَدِّثِينَ عَلَيْهِ صَارَ ذَلِكَ كَالِاسْمِ الْمَنْقُولِ بِعُرْفِ الْمُحَدِّثِينَ أَوْ كَالْمَجَازِ الْغَالِبِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ جَوَازُ اسْتِعْمَالِهِ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الِاصْطِلَاحَاتِ فَمَا يَقْرَؤُهُ عَلَيْك أَيْ الْمُحَدِّثُ أَوْ الْمُبَلِّغُ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْله تَعَالَى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] أَعْلَى الْمَنْزِلَتَيْنِ أَيْ أَرْفَعُ وَأَحْوَطُ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا أَيْ الْمَنْزِلَةُ الْأُولَى طَرِيقَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَإِنَّهُ كَانَ يُبَلِّغُ بِنَفْسِهِ وَيَقْرَأُ عَلَى الصَّحَابَةِ لَا أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: أَهَكَذَا الْأَمْرُ فَيَقُولُ نَعَمْ وَلَمَّا كَانَتْ قِرَاءَةُ الْمُحَدِّثِ تُشْبِهُ فِعْلَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ السَّهْوِ وَالْخَطَأِ كَانَ ذَلِكَ أَحْوَطَ وَأَوْلَى، وَهُوَ الْمُطْلَقُ مِنْ الْحَدِيثِ وَالْمُشَافَهَةِ أَيْ مُطْلَقُ قَوْلِك حَدَّثَنِي فُلَانٌ بِكَذَا أَوْ شَافَهَنِي بِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّكَلُّمَ صَدَرَ عَنْهُ وَأَنْتَ تَسْمَعُ لَا عَلَى الْعَكْسِ وَدَلَالَةُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْكَامِلِ عَلَى مَا عُرِفَ فَدَلَّ أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ أَكْمَلُ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّ السَّامِعَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ تَقُولُ حَدَّثَنِي وَفِي الْقِسْمِ الثَّانِي أَخْبَرَنِي؛ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ أَعَمُّ. قَوْلُهُ (كَانَ مَأْمُونًا عَنْ السَّهْوِ) أَيْ عَنْ التَّقْرِيرِ عَلَيْهِ فِي تَبْلِيغِ الْوَحْيِ وَبَيَانِ الْأَحْكَامِ وَغَيْرُهُ لَيْسَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلِذَلِكَ كَانَتْ قِرَاءَتُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْلَى فَأَمَّا غَيْرُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَجَازَ عَلَيْهِ السَّهْوُ وَالْغَلَطُ وَالتَّقْرِيرُ عَلَيْهِ فَكَانَتْ قِرَاءَةُ الْمُحَدِّثِ وَقِرَاءَةُ غَيْرِهِ سَوَاءً. وَمَا كَانَ يَكْتُبُ دَلِيلٌ آخَرُ أَيْ وَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ كَاتِبًا وَلَا قَارِئًا مِنْ الْمَكْتُوبِ شَيْئًا وَإِنَّمَا يَقْرَأُ مَا يَقْرَأُ عَنْ حِفْظٍ فَكَانَتْ قِرَاءَتُهُ أَوْلَى فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ كِتَابٍ وَالسَّمَاعُ فِي كِتَابٍ فَهُمَا سَوَاءٌ أَيْ قِرَاءَةُ الْمُحَدِّثِ وَالْقِرَاءَةُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ فِي مَعْنَى التَّحَدُّثِ بِمَا فِي الْكِتَابِ وَكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشَافَهَةً حَتَّى لَوْ كَانَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ حِفْظٍ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْمُحَدِّثِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَشَدُّ عِنَايَةً فِي الضَّبْطِ وَلِأَنَّهُ يَتَحَدَّثُ بِهِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ اللُّغَةَ لَا يَفْصِلُ أَيْ لَا فَصْلَ فِي اللُّغَةِ بَيْنَ كَذَا. وَكَذَا؛ فَإِنَّ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ لَوْ قَرَأَ ذُكِرَ إقْرَارُهُ عَلَيْك أَوْ تَقْرَأُ عَلَيْهِ ثُمَّ تَسْتَفْهِمُهُ هَلْ تُقِرُّ لِجَمِيعِ مَا قَرَأْته عَلَيْك فَيَقُولُ: نَعَمْ كَأَنَّا سَوَاءٌ. ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا أَيْ الْوَجْهَيْنِ سَوَاءٌ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ حَتَّى لَوْ قَالَ الْقَاضِي لِلشَّاهِدِ أَتَشْهَدُ بِكَذَا فَيَقُولُ نَعَمْ كَانَ مِثْلَ قَوْلِهِ أَشْهَدُ بِكَذَا فِي إثْبَاتِ الْحَقِّ وَإِيجَابِ حُكْمٍ عَلَى الْقَاضِي مَعَ أَنَّ بَابَ الشَّهَادَةِ أَضْيَقُ لِاخْتِصَاصِهَا بِشَرَائِطَ لَمْ تُوجَدْ فِي الرِّوَايَةِ. وَقَوْلُهُ وَمَا قُلْنَاهُ أَحْوَطُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ أَحْوَطُ مِنْ تَرْجِيحِ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ إلَّا ذِكْرُ الْمَعْنَيَيْنِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ ذَلِكَ بَلْ الْغَرَضُ أَنَّ الْوَجْهَ الثَّانِيَ أَحْوَطُ مِنْ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ هَذَا

لِأَنَّ رِعَايَةَ الطَّالِبِ أَشَدُّ عَادَةً وَطَبِيعَةً فَلَا يُؤْمَنُ عَلَى الَّذِي يَقْرَأُ الْغَلَطَ وَيُؤْمَنُ الطَّالِبُ فِي مِثْلِهِ فَأَنْتَ عَلَى قِرَاءَتِك أَشَدُّ اعْتِمَادًا مِنْك عَلَى قِرَاءَتِهِ، وَإِنَّمَا يَبْقَى احْتِمَالُ الْغَفْلَةِ مِنْهُ عَنْ مَا قَرَأْته عَلَيْهِ وَهَذَا أَهْوَنُ مِنْ تَرْكِ شَيْءٍ مِنْ الْمَتْنِ أَوْ السَّنَدِ حَتَّى إنَّ الرِّوَايَةَ إذَا كَانَتْ عَنْ حِفْظٍ كَانَ ذَلِكَ الْوَجْهُ أَحَقَّ كَمَا قُلْتُمْ. وَأَمَّا الْوَجْهَانِ الْآخَرَانِ فَأَحَدُهُمَا الْكِتَابُ وَالثَّانِي الرِّسَالَةُ أَمَّا الْكِتَابُ فَعَلَى رَسْمِ الْكُتُبِ وَيَقُولُ فِيهِ حَدَّثَنَا فُلَانٌ إلَى أَنْ يَذْكُرَ مَتْنَ الْحَدِيثِ ثُمَّ يَقُولُ فَإِذَا بَلَغَك كِتَابِي هَذَا وَفَهِمْته فَحَدِّثْ بِهِ عَنِّي لِهَذَا الْإِسْنَادِ وَهَذَا مِنْ الْغَائِبِ مِثْلُ الْخِطَابِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرَى الْكِتَابَ تَبْلِيغًا يَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ وَكِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى أَصْلُ الدِّينِ وَكَذَلِكَ الرِّسَالَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ تَبْلِيغَ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ الْإِرْسَالَ أَيْضًا وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَثْبُتَنَا بِالْحُجَّةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQاللَّفْظُ لَا يَنْقَادُ لَهُ بِدَلِيلِ مَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَأَظُنُّهُ تَصْنِيفَهُ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْوَجْهَانِ سَوَاءٌ بَلْ الثَّانِي أَحْوَطُ وَيَتَرَجَّحُ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ السَّامِعَ إذَا قَرَأَهُ بِنَفْسِهِ كَانَ هُوَ أَشَدَّ عِنَايَةً فِي ضَبْطِ الْمَتْنِ وَالسَّنَدِ مِنْ الْمُبَلِّغِ لِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَتَرَجَّحْ هَذَا الْجَانِبُ فَلَا أَقَلَّ مِنْ الْمُسَاوَاةِ أَشَدُّ عَادَةً وَطَبِيعَةً؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي أَمْرِ نَفْسِهِ أَحْوَطُ مِنْهُ فِي أَمْرِ غَيْرِهِ ثُمَّ الطَّالِبُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ وَالْمُحَدِّثُ عَامِلٌ لِغَيْرِهِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَسْهُوَ عَنْ الْبَعْضِ وَيَشِذَّ مِنْهُ أَكْثَرَ مَا يَشِذُّ مِنْ الطَّالِبِ فَلَا يُؤْمَنُ عَلَى الَّذِي يَقْرَأُ. وَهُوَ الْمُحَدِّثُ الْغَلَطُ فِي بَعْضِ مَا يَقْرَأُهُ لِقِلَّةِ رِعَايَتِهِ إذْ هُوَ لَا يَحْتَاطُ فِي أَمْرِ غَيْرِهِ كَمَا يَحْتَاطُ الْغَيْرُ فِي أَمْرِ نَفْسِهِ وَقَوْلُهُ وَإِنَّمَا بَقِيَ احْتِمَالُ الْغَفْلَةِ إلَى آخِرِهِ إشَارَةً إلَى الْجَوَابِ عَمَّا يُقَالُ قَدْ يُتَوَهَّمُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الطَّالِبِ أَنْ يَسْهُوَ الْمُحَدِّثُ عَنْ بَعْضِ مَا قُرِئَ عَلَيْهِ وَيَنْتَفِي هَذَا التَّوَهُّمُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْمُحَدِّثِ لِشِدَّةِ رِعَايَةِ الطَّالِبِ فِي ضَبْطِ مَا يَسْمَعُ مِنْهُ فَأَجَابَ أَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مَوْهُومٌ إلَّا أَنَّ سَهْوَ الْمُحَدِّثِ عَنْ سَمَاعِ الْبَعْضِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ عَادَةً أَهْوَنُ مِنْ تَرْكِ شَيْءٍ فِي الْمَتْنِ أَوْ السَّنَدِ وَلَا بُدَّ مِنْ تَحَمُّلِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فَيُحْتَمَلُ أَيْسَرُهُمَا، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ عِلْمِ الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى الشَّيْخِ وَيُسَمَّى عَرْضًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُحَدِّثِينَ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْقَارِئَ يَعْرِضُ عَلَى الشَّيْخِ مَا يَقْرَأُهُ كَمَا يَعْرِضُ الْقُرْآنَ عَلَى الْمُقْرِئِ مِثْلُ السَّمَاعِ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ فِي الْمَرْتَبَةِ أَوْ دُونَهُ أَوْ فَوْقَهُ فَنُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَغَيْرِهِمَا تَرْجِيحُ الْقِرَاءَةِ عَلَى الشَّيْخِ عَلَى السَّمَاعِ مِنْ لَفْظِهِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا مَذْهَبُ مُعْظَمِ عُلَمَاءِ الْحِجَازِ وَالْكُوفَةِ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَأَشْيَاخِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ وَمَذْهَبُ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِمْ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْكِتَابُ فَعَلَى رَسْمِ الْكُتُبِ) وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مَخْتُومًا بِخَتْمٍ مَعْرُوفٍ مُعَنْوَنًا، وَهُوَ أَنْ يَكْتُبَ فِيهِ قَبْلَ التَّسْمِيَةِ مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ إلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ ثُمَّ يَبْدَأُ بِالتَّسْمِيَةِ ثُمَّ بِالثَّنَاءِ ثُمَّ بِالْمَقْصُودِ قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ فَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ عَلَى جِهَةِ الْكُتُبِ مَرْسُومًا بِرَسْمِ الْكُتُبِ مُصَدَّرًا تَصْدِيرَ الْكُتُبِ وَثَبَتَ الْكِتَابُ لِحُجَّةٍ صَحِيحَةٍ وَكَانَ فِيهِ أَخْبَرَنِي فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ حَتَّى اتَّصَلَ بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِذَا جَاءَك هَذَا الْحَدِيثُ فَحَدِّثْهُ عَنِّي بِهَذَا الْإِسْنَادِ حَلَّتْ لَهُ الرِّوَايَةُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ مِنْ الْغَائِبِ بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ مِنْ الْحَاضِرِ إلَى آخِرِهِ، ثُمَّ الْكِتَابُ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ الْإِجَازَةُ كَمَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ مِثْلُ السَّمَاعِ فِي جَوَازِ الرِّوَايَةِ بِالِاتِّفَاقِ. وَالثَّانِي: مَا يَتَجَرَّدُ عَنْ الْإِجَازَةِ وَأَجَازَ الرِّوَايَةَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَمَنْصُورٌ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الشَّافِعِيِّينَ وَأَتَى ذَلِكَ قَوْمٌ آخَرُونَ مِنْهُمْ الْقَاضِي الْمَاوَرْدِيُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْتَمِلْ مِنْهُ شَيْئًا لَا بِالسَّمَاعِ وَلَا بِالْإِجَازَةِ فَكَيْفَ يُسْنِدُ إلَيْهِ وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ فِي الْكِتَابَةِ إشْعَارًا بِمَعْنَى الْإِجَازَةِ فَهِيَ وَإِنْ لَمْ تَقْتَرِنْ بِالْإِجَازَةِ لَفْظًا فَقَدْ تَضَمَّنَتْ الْإِجَازَةَ مَعْنًى كَذَا ذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَكَالْكِتَابِ الرِّسَالَةُ فِي جَوَازِ الرِّوَايَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَيْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْكِتَابِ بِأَنْ يَقُولَ الْمُحَدِّثُ لِلرَّسُولِ بَلِّغْ عَنِّي فُلَانًا أَنَّهُ قَدْ حَدَّثَنِي

وَالْمُخْتَارُ فِي الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ أَنْ يَقُولَ السَّامِعُ حَدَّثَنَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمُشَافَهَةِ قَالَ فِي الزِّيَادَاتِ فِيمَنْ قَالَ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا أَوْ حَدَّثْت بِهِ أَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْمُكَالَمَةِ مُشَافَهَةً وَفِي الْقِسْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ الْمُخْتَارُ أَنْ يَقُولَ أَخْبَرَنَا؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ وَالرِّسَالَةَ لَيْسَا بِمُشَافَهَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّا نَقُولُ: أَخْبَرَنَا اللَّهُ وَأَنْبَأَنَا نَبَّأَنَا بِالْكِتَابِ وَالرِّسَالَةِ وَلَا تَقُولُ: حَدَّثَنَا وَلَا كَلَّمَنَا إنَّمَا ذَلِكَ خَاصٌّ لِمُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] ، وَلِهَذَا قُلْنَا فِيمَنْ حَلَفَ لَا يُحَدِّثُ بِكَذَا وَلَا يُكَلِّمُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِالْكِتَابِ وَالرِّسَالَةِ بِخِلَافِ مَا حَلَفَ لَا يُخْبِرُ بِكَذَا أَنَّهُ يَحْنَثُ بِذَلِكَ، وَأَمَّا الرُّخْصَةُ فَمَا لَا أَسْمَاعَ فِيهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِهَذَا الْحَدِيثِ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، وَيَذْكُرُ إسْنَادَهُ فَإِذَا بَلَّغَك رِسَالَتِي هَذِهِ فَارْوِهِ عَنِّي بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَهَذَا لِأَنَّ الْكِتَابَ وَالرِّسَالَةَ إلَى الْغَائِبِ بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ لِلْحَاضِرِ شَرْعًا وَعُرْفًا أَمَّا شَرْعًا فَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مَأْمُورًا بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ إلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَقَدْ بَلَّغَ الْغُيَّبَ بِالْكِتَابِ وَالرِّسَالَةِ كَمَا بَلَّغَ الْحُضُورَ بِالْخِطَابِ وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَسَائِرُ الْعُقُودِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْكَلَامِ يَثْبُتُ بِهِمَا كَمَا يَثْبُتُ بِالْخِطَابِ، وَأَمَّا عُرْفًا فَلِأَنَّ النَّاسَ يَعُدُّونَهُمَا مِثْلَ الْخِطَابِ حَتَّى قَلَّدَ الْخُلَفَاءُ وَالْمُلُوكُ الْقَضَاءَ وَالْإِمَارَةَ وَالْإِيَالَةَ بِالْكِتَابِ وَالرِّسَالَةِ كَمَا قَلَّدُوهَا بِالْمُشَافَهَةِ وَعَدُّوا مُخَالِفَهُمَا مُخَالِفًا لِلْأَمْرِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُمَا مِثْلُ الْخِطَابِ فَكَانَا مِنْ بَابِ الْعَزِيمَةِ بِخِلَافِ الْمُنَاوَلَةِ وَالْإِجَازَةِ فِي حَقِّ الْحَاضِرِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي حَقِّهِ الْخِطَابُ، وَلِهَذَا لَمْ يُوجَدْ التَّبْلِيغُ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَى الْحُضُورِ بِهَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ فَلَمْ يَكُونَا مِثْلَ الْخِطَابِ إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَاهُمَا ضَرُورَةً فَكَانَا مِنْ بَابِ الرُّخْصَةِ لَا مِنْ بَابِ الْعَزِيمَةِ. وَذَلِكَ أَيْ حِلُّ الرِّوَايَةِ بِالْكِتَابِ وَالرِّسَالَةِ بَعْدَ أَنْ يَثْبُتَا بِالْحُجَّةِ أَيْ بِالْبَيِّنَةِ الَّتِي تَثْبُتُ بِمِثْلِهَا الْكُتُبُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَعِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَا حَاجَةَ إلَى الْبَيِّنَةِ بَلْ يَكْفِي فِي ذَلِكَ أَنْ يَعْرِفَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ خَطُّ الْكَاتِبِ أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُ الرَّسُولِ. قَوْلُهُ (وَالْمُخْتَارُ فِي الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ أَنْ يَقُولَ السَّامِعُ حَدَّثَنَا) ؛ لِأَنَّ الْمُحَدِّثَ حَدَّثَهُ وَشَافَهَهُ بِالْإِسْمَاعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَقِيلَ هَذَا مُعْظَمُ مَذْهَبِ الْحِجَازِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ وَقَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ فِي آخَرِينَ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْبُخَارِيِّ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَعِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَا يَقُولُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي حَدَّثَنَا بَلْ يَقُولُ أَخْبَرَنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ مُسْلِمٍ صَاحِبِ الصَّحِيحِ وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْمَشْرِقِ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا يَجُوزُ فِي هَذَا الْقِسْمِ أَنْ يَقُولَ حَدَّثَنَا وَلَا أَخْبَرَنَا وَإِنَّمَا يَقُولُ قَرَأْت عَلَيْهِ أَوْ قُرِئَ عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ فَأَقَرَّ بِهِ وَقِيلَ: إنَّهُ قَوْلُ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَيَحْيَى بْنِ يَحْيَى التَّمِيمِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ الْمُحَدِّثَ لَمْ يُحَدِّثْهُ وَلَمْ يُخْبِرْهُ بِشَيْءٍ وَلَمْ يَتَلَفَّظْ إلَّا بِقَوْلِهِ نَعَمْ وَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُخْتَصَرَ وَالْمُطَوَّلَ مِنْ الْكَلَامِ سَوَاءٌ وَكَلِمَةُ نَعَمْ يَتَضَمَّنُ إعَادَةَ مَا فِي السُّؤَالِ لُغَةً فَكَانَ هَذَا تَحْدِيثًا وَإِخْبَارًا، وَفِي الْقِسْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ الْمُخْتَارُ أَنْ يَقُولَ أَخْبَرَنَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ فِي هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ أَخْبَرَنَا كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنَا؛ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ وَالتَّحْدِيثَ وَاحِدٌ بَلْ يَقُولُ كَتَبَ إلَيَّ فُلَانٌ أَوْ أَرْسَلَ إلَيَّ بِكَذَا وَذَكَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ فِي الْمُعْتَمَدِ أَيْضًا أَنَّ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ قَوْلِ الْإِنْسَانِ حَدَّثَنِي فُلَانٌ وَأَخْبَرَنِي فُلَانٌ فَيَجْعَلُونَ الْأَوَّلَ دَالًّا عَلَى أَنَّهُ شَافَهَهُ بِالْحَدِيثِ وَيَجْعَلُونَ الثَّانِيَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْإِجَازَةِ وَالْكِتَابَةِ وَالْمُشَافَهَةِ، وَهُوَ اصْطِلَاحٌ، وَإِلَّا فَظَاهِرُ قَوْلِهِ أَخْبَرَنِي تُفِيدُ أَنَّهُ تَوَلَّى إخْبَارَهُ بِالْحَدِيثِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْمُشَافَهَةِ فَاخْتَارَ أَنَّ الْإِخْبَارَ وَالتَّحْدِيثَ وَاحِدٌ فَفَرَّقَ الشَّيْخُ بَيْنَهُمَا بِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَقَالَ أَبُو الْوَفَاءِ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ عَلِيٍّ الْبَلْخِيّ فِي رِسَالَتِهِ الْمُصَنَّفَةِ فِي تَنْوِيعِ السَّمَاعِ وَتَجْنِيسِ الْإِجَازَةِ الْمُوَاضَعَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ أَنْ يَقُولَ

وَهُوَ الْإِجَازَةُ وَالْمُنَاوَلَةُ وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَجَازُ لَهُ عَالِمًا بِمَا فِي الْكِتَابِ أَوْ جَاهِلًا بِهِ فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِهِ قَدْ نَظَرَ فِيهِ وَفَهِمَ مَا فِيهِ فَقَالَ لَهُ الْمُجِيزُ إنَّ فُلَانًا قَدْ حَدَّثَنَا بِمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ عَلَى مَا فَهِمْته بِأَسَانِيدِهِ هَذِهِ فَأَنَا أُحَدِّثُك مِنْهُ وَأَجَزْت لَك الْحَدِيثَ بِهِ فَيَصِحُّ الْإِجَازَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إذَا كَانَ الْمُسْتَجِيزُ مَأْمُونًا بِالضَّبْطِ وَالْفَهْمِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُسْتَفِيدُ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِمَّا ذُكِرَ مَا هُوَ حِكَايَةُ الْحَالِ حَدَّثَنَا حَدَّثَنِي أَخْبَرَنَا أَخْبَرَنِي مَنُوطًا بِبَيَانِ صِفَةِ نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ أَمَّا فِي الْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَحَدَّثَنِي وَأَخْبَرَنِي إذَا كَانَ الضَّبْطُ وَالْإِتْقَانُ وَالِاحْتِيَاطُ عَلَى وَجْهِهِ سَوَاءٌ قَرَأَ الْمُحَدِّثُ بِلَفْظِهِ أَوْ قَرَأْت عَلَيْهِ فَأَقَرَّ بِهِ أَوْ قُرِئَ عَلَيْهِ فَأَقَرَّ بِهِ كُلُّهُ سَمَاعٌ جَيِّدٌ أَوْ قَرَارٌ مِنْهُ بِالْمَسْمُوعِ كَالصَّكِّ وَالْإِشْهَادِ قَالَ: وَجَاءَ فِي الرِّوَايَاتِ أَنْبَأَنَا وَأَنْبَأَنِي وَخَبَّرَنَا وَخَبَّرَنِي وَلَمْ أَسْمَعْ فِيهَا شَيْئًا أَرْتَضِيهِ إلَّا أَنِّي أَحْسِبُ أَنَّ خَبَّرَنَا وَخَبَّرَنِي لِلْكَثْرَةِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْإِخْبَارِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فِي الْوَحْدَةِ خَبَّرَنِي وَفِي الْجَمْعِ خَبَّرَنَا. قَوْلُهُ (وَهُوَ الْإِجَازَةُ وَالْمُنَاوَلَةُ) الضَّمِيرُ عَائِدٌ إلَى مَا وَالْإِجَازَةُ أَنْ يَقُولَ الْمُحَدِّثُ لِغَيْرِهِ أَجَزْت لَك أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي هَذَا الْكِتَابَ الَّذِي حَدَّثَنِي بِهِ فُلَانٌ وَيُبَيِّنُ إسْنَادَهُ أَوْ يَقُولَ أَجَزْت لَك أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي جَمِيعَ مَا صَحَّ عِنْدَك مِنْ مَسْمُوعَاتِي وَحِينَئِذٍ يَجِبُ تَعْيِينُ الْمَسْمُوعِ مِنْ غَيْرِهِ وَسَيَأْتِيك بَيَانُ أَنْوَاعِهَا وَالْمُنَاوَلَةُ أَنْ يُعْطِيَ الشَّيْخُ كِتَابَ سَمَاعِهِ بِيَدِهِ إلَى الْمُسْتَجِيزِ وَيَقُولَ هَذَا كِتَابِي وَسَمَاعِي عَنْ شَيْخِي فُلَانٍ فَقَدْ أَجَزْت لَك أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي هَذَا كَمَا يُوجِبُهُ الِاحْتِيَاطُ وَالْمُنَاوَلَةُ لِتَأْكِيدِ الْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْمُنَاوَلَةِ بِدُونِ الْإِجَازَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَالْإِجَازَةُ بِدُونِ الْمُنَاوَلَةِ فَكَانَ الِاعْتِبَارُ لِلْإِجَازَةِ دُونَ الْمُنَاوَلَةِ غَيْرَ أَنَّهَا زِيَادَةُ تَكَلُّفٍ أَحْدَثَهَا بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ تَأْكِيدًا لِلْإِجَازَةِ فَكَانَتْ الْمُنَاوَلَةُ قِسْمًا مِنْ الْإِجَازَةِ وَاخْتُلِفَ فِي الْإِجَازَةِ فَأَبْطَلَهَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَرْبِيُّ وَأَبُو مُحَمَّدٍ الْأَصْبَهَانِيُّ وَأَبُو نَصْرٍ الْوَايِلِيُّ السِّجْزِيُّ وَالشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَةِ الرَّبِيعِ عَنْهُ وَأَبُو طَاهِرٍ الدَّبَّاسُ مِنْ أَصْحَابِنَا فِيمَا حَكَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ ثَابِتٍ الْخُجَنْدِيُّ عَنْهُ وَغَيْرُهُمْ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهَا إبَاحَةُ التَّحَدُّثِ وَالْإِخْبَارِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَدِّثَهُ أَوْ يُخْبِرَهُ وَهَذَا إبَاحَةُ الْكَذِبِ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَلَا لِغَيْرِهِ أَنْ يَسْتَبِيحَ الْكَذِبَ إذَا أُبِيحَ، وَجَوَّزَهَا الْجُمْهُورُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ دَعَتْ إلَى تَجْوِيزِهَا؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحَدِّثٍ لَا يَجِدُ مَنْ يُبَلِّغُ إلَيْهِ مَا صَحَّ عِنْدَهُ وَلَا يَرْغَبُ كُلُّ طَالِبٍ إلَى سَمَاعِ جَمِيعِ مَا صَحَّ عِنْدَ شَيْخِهِ فَلَوْ لَمْ يُجَوِّزْ الْإِجَازَةَ لَأَدَّى إلَى تَعْطِيلِ السُّنَنِ وَانْدِرَاسِهَا وَانْقِطَاعِ أَسَانِيدِهَا وَلِذَلِكَ كَانَتْ الْإِجَازَةُ مِنْ قَبِيلِ الرُّخْصَةِ لَا مِنْ الْعَزِيمَةِ فَكَانَ قَوْلُهُ أَجَزْت لَك أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي مَا صَحَّ مِنْ مَسْمُوعَاتِي فِي الْعُرْفِ جَارِيًا مَجْرَى قَوْلِهِ مَا صَحَّ عِنْدَك مِنْ أَحَادِيثِي قَدْ سَمِعْته فَارْوِهِ عَنِّي فَلَا يَكُونُ كَذِبًا إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْمَحْصُولِ وَالْمُعْتَمَدِ وَالْإِجَازَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ جَوَازِ الْمَاءِ الَّذِي يَسْقَاهُ الْمَالُ مِنْ الْمَاشِيَةِ وَالْحَرْثِ يُقَالُ: اسْتَجَزْتُ فُلَانًا فَأَجَازَنِي، إذَا أَسْقَاك مَاءً لِأَرْضِك أَوْ مَاشِيَتِك كَذَلِكَ طَالِبُ الْعِلْمِ يَسْأَلُ الْعَالِمَ أَنْ يُجِيزَهُ عِلْمَهُ فَيُجِيزَهُ إيَّاهُ فَعَلَى هَذَا لِلْمُجِيزِ أَنْ يَقُولَ أَجَزْت فُلَانًا مَسْمُوعَاتِي أَوْ مَرْوِيَّاتِي فَيُعَدَّ بِهِ بِغَيْرِ حَرْفِ جَرٍّ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى ذِكْرِ لَفْظِ الرِّوَايَةِ، وَيَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ مَنْ يَجْعَلُ الْإِجَازَةَ بِمَعْنَى التَّسْوِيغِ وَالْإِذْنِ وَالْإِبَاحَةِ وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ فَتَقُولُ أَجَزْت لِفُلَانٍ رِوَايَةَ مَسْمُوعَاتِي مَثَلًا وَمَنْ يَقُولُ مِنْهُمْ أَجَزْت لَهُ مَسْمُوعَاتِي فَعَلَى سَبِيلِ الْحَذْفِ الَّذِي لَا يَخْفَى نَظِيرُهُ. ثُمَّ الْإِجَازَةُ إنْ كَانَتْ لِمَوْجُودٍ مُعَيَّنٍ وَكَانَ الْمُجَازُ لَهُ عَالِمًا بِمَا فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَجَازَهُ بِرِوَايَتِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ صَحَّتْ الْإِجَازَةُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِهَا وَحَلَّتْ لَهُ الرِّوَايَةُ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَصِحُّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ؛ فَإِنَّ الشَّاهِدَ إذَا وَقَفَ عَلَى جَمِيعِ مَا فِي الصَّكِّ وَكَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا لِمَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ فَقَالَ: أَجَزْت لَك أَنْ تَشْهَدَ عَلَيَّ بِجَمِيعِ

ثُمَّ الْمُسْتَحَبُّ فِي ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: أَجَازَ لِي فُلَانٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنِي أَوْ أَخْبَرَنِي وَالْأَوَّلُ أَنْ يَقُولَ: أَجَازَ لِي وَيَجُوزُ أَخْبَرَنِي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دُونَ الْمُشَافَهَةِ، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِمَا فِيهِ بَطَلَتْ الْإِجَازَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَصَحَّ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَصْلُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَالرَّسَائِلِ أَنَّ عِلْمَ مَا فِيهِمَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْإِشْهَادِ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ كَانَ صَحِيحًا، فَكَذَا رِوَايَةُ الْخَبَرِ ثُمَّ الْمُسْتَحَبُّ فِي ذَلِكَ أَيْ فِي هَذَا الْقِسْمِ، وَهُوَ الْإِجَازَةُ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ الرِّوَايَةِ أَجَازَ لِي، وَهُوَ الْعَزِيمَةُ فِي الْبَابِ وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ أَخْبَرَنِي أَوْ حَدَّثَنِي بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ لِوُجُودِ الْخِطَابِ وَالْمُشَافَهَةِ فِيهِمَا، وَهُوَ قَوْلُهُ أَجَزْت لَك بِخِلَافِ الْكِتَابِ وَالرِّسَالَةِ إذْ الْخِطَابُ لَمْ يُوجَدْ فِيهِمَا أَصْلًا إلَّا أَنَّ مَا ذَكَرْنَا دُونَ حَقِيقَةِ الْقِرَاءَةِ فَكَانَتْ الْعَزِيمَةُ فِيهِ مَا قُلْنَا هَذَا هُوَ مُخْتَارُ الشَّيْخِ وَالْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْأَحْوَطَ أَنْ يَقُولَ: أَجَازَ لِي فُلَانٌ وَإِنْ قَالَ: أَخْبَرَنِي فَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنِي؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالْإِسْمَاعِ وَلَمْ يُوجَدْ. وَقَوْلُهُمْ قَدْ وُجِدَ الْخِطَابُ فَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنِي قُلْنَا إنَّمَا وُجِدَ الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ أَجَزْت لَك لَا بِالْحَدِيثِ وَالْكِتَابِ الَّذِي يَرْوِيهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ حَدَّثَنِي بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ الْخِطَابِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ حَدَّثَنِي بِالْكِتَابِ أَوْ الْحَدِيثِ لَا بِالْإِجَازَةِ، وَعَامَّةُ الْأُصُولِيِّينَ وَالْمُحَدِّثِينَ ذَهَبُوا إلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ حَدَّثَنِي وَأَخْبَرَنِي مُطْلَقًا لِإِشْعَارِهِمَا بِصَرِيحِ نُطْقِ الشَّيْخِ وَهُمَا مِنْ غَيْرِ نُطْقٍ مِنْهُ كَذِبٌ بِخِلَافِ الْمُقَيَّدِ نَحْوَ حَدَّثَنِي أَوْ أَخْبَرَنِي إجَازَةٌ وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْإِخْبَارَ كَالتَّحْدِيثِ عِنْدَهُمْ كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ وَذَهَبَ الْبَعْضُ إلَى امْتِنَاعِ الْمُقَيَّدِ أَيْضًا احْتِيَاطًا، وَنُقِلَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ خَصَّصَ الْإِجَازَةَ بِقَوْلِهِ خَبَّرَنَا بِالتَّشْدِيدِ وَالْقِرَاءَةُ عَلَى الشَّيْخِ بِقَوْلِهِ أَخْبَرَنَا وَذَكَرَ الْحَاكِمُ النَّيْسَابُورِيُّ فِي مَعْرِفَةِ عُلُومِ الْحَدِيثِ أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَقُولُ فِيمَا يَأْخُذُ مِنْ الْمُحَدِّثِ لَفْظًا لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ حَدَّثَنِي فُلَانٌ وَفِيمَا يَأْخُذُهُ مِنْهُ لَفْظًا مَعَ غَيْرِهِ حَدَّثَنَا فُلَانٌ وَفِيمَا قَرَأَهُ عَلَى الْمُحَدِّثِ بِنَفْسِهِ أَخْبَرَنِي فُلَانٌ وَفِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ، وَهُوَ حَاضِرٌ أَخْبَرَنَا فُلَانٌ وَفِيمَا عُرِضَ عَلَى الْمُحَدِّثِ وَأَجَازَ لَهُ رِوَايَتَهُ شِفَاهًا أَنْبَأَنِي فُلَانٌ وَفِيمَا كَتَبَ إلَيْهِ وَلَمْ يُشَافِهْهُ بِالْإِجَازَةِ كَتَبَ إلَى فُلَانٍ وَلَا يَجُوزُ فِي الْإِجَازَةِ وَالْمُنَاوَلَةِ أَنْ يَقُولَ حَدَّثَنَا وَلَا أَخْبَرَنَا؛ لِأَنَّهُ إضَافَةُ فِعْلِ التَّحْدِيثِ وَالْإِخْبَارِ إلَى مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَلَكِنْ يَقُولُ أَجَازَ لِي فُلَانٌ أَوْ أَنْبَأَنِي إجَازَةً وَالْأَوْلَى تَحَرِّي الصِّدْقِ وَمُجَانَبَةُ الْكَذِبِ بِمَا يُمْكِنُهُ وَذَكَرَ فِي رِسَالَةِ أَبِي الْوَفَاءِ أَنَّ فِي الرِّوَايَةِ بِالْإِجَازَةِ تَقُولُ أَجَازَ لِي فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ أَخْبَرَهُ أَوْ حَدَّثَهُ أَوْ يَقُولُ أَخْبَرَنِي فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ إجَازَةً أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ أَخْبَرَهُ أَوْ حَدَّثَهُ وَلَا يَتَلَفَّظُ لِشَيْخِهِ بِقَالَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ كَذِبًا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَلَفَّظْ لَهُ بِالْإِخْبَارِ وَالتَّحَدُّثِ. قَوْلُهُ (وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِمَا فِيهِ) أَيْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُجَازُ لَهُ فِي الْكِتَابِ فَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ مُحْتَمِلًا لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَنْ التَّغْيِيرِ لَا يَحِلُّ لَهُ الرِّوَايَةُ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كَانَ مَأْمُونًا عَنْ التَّغْيِيرِ غَيْرَ مُحْتَمِلٍ لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحِلَّ الرِّوَايَةُ وَلَا يَصِحُّ الْإِجَازَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَيَحِلُّ وَيَصِحُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَأَصْلُ ذَلِكَ أَيْ أَصْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ اخْتِلَافُهُمْ فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَكِتَابِ الرِّسَالَةِ؛ فَإِنَّ عِلْمَ الشُّهُودِ بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالرِّسَالَةِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْإِشْهَادِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ، وَقَالَ إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كِتَابُهُ وَخَاتَمُهُ قَبْلُ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا مَا فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى؛ لِأَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي قَدْ يَشْتَمِلُ عَلَى أَشْيَاءَ لَا يُعْجِبُهُمَا أَنْ يَقِفَ عَلَيْهَا غَيْرُهُمَا، وَلِهَذَا يَخْتِمُ الْكِتَابَ وَمَعْنَى الِاحْتِيَاطِ قَدْ يَحْصُلُ إذَا شَهِدَا أَنَّهُ كِتَابُهُ وَخَتَمُهُ فَلَمْ يَشْتَرِطْ عِلْمَهُمَا بِمَا فِيهِ وَهُمَا يَقُولَانِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مَعْلُومًا لِلشَّاهِدِ وَالْمَقْصُودُ مَا فِي الْكِتَابِ لَا عَيْنُ

وَإِنَّمَا جَوَّزَ ذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ فِيمَا كَانَ مِنْ بَابِ الْإِسْرَارِ فِي الْعَادَةِ حَتَّى لَا يَجُوزَ فِي الصُّكُوكِ. وَكَذَلِكَ الْمُنَاوَلَةُ مَعَ الْإِجَازَةِ مِثْلُ الْإِجَازَةِ الْمُفْرَدَةِ سَوَاءٌ فَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَجُوزَ فِي هَذَا الْبَابِ وَيُحْتَمَلُ الْجَوَازُ بِالضَّرُورَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْكِتَابِ وَالْخَتْمِ وَكُتُبُ الْخُصُومَاتِ لَا تَشْتَمِلُ عَلَى شَيْءٍ سِوَى الْخُصُومَةِ فَلِلسِّرِّ كِتَابٌ آخَرُ عَلَى حِدَةٍ فَأَمَّا مَا يُبْعَثُ عَلَى يَدِ الْخَصْمِ فَلَا يَشْتَمِلُ إلَّا عَلَى ذِكْرِ الْخُصُومَةِ وَلَفْظَ الشَّهَادَةِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَكِتَابُ الرِّسَالَةِ أَنْ يَكْتُبَ رِسَالَةً وَيَبْعَثَ إلَى مَنْ يُرِيدُهُ وَيُشْهِدَ شَاهِدَيْنِ بِأَنَّ هَذِهِ رِسَالَتِي إلَى فُلَانٍ فَيُشْتَرَطُ عِلْمُ مَا فِي الْكِتَابِ عِنْدَ هُمَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ. قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا جَوَّزَ ذَلِكَ) أَيْ الْإِشْهَادَ بِدُونِ عِلْمِ مَا فِي الْكِتَابِ فِيمَا كَانَ مِنْ بَابِ الْأَسْرَارِ مِثْلُ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَلَوْ شَرَطَ عِلْمَ الشُّهُودِ بِمَا فِيهِ رُبَّمَا أَفْشَى الشُّهُودُ بِسِرِّهِمْ فَيَتَضَرَّرُونَ بِهِ حَتَّى لَمْ يُجَوَّزْ أَيْ الْإِشْهَادُ بِدُونِ عِلْمِ مَا فِي الصُّكُوكِ؛ لِأَنَّهَا بُنِيَتْ عَلَى الشُّهْرَةِ وَلَمْ تَشْتَمِلْ عَلَى سِرٍّ يُكْتَمْ مِنْ الشُّهُودِ فَشُرِطَ عِلْمُ مَا فِيهَا لِصِحَّةِ الْإِشْهَادِ، وَفِي نِكَاحِ مُخْتَلَفَاتِ الْقَاضِي الْغَنِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَجْمَعُوا فِي الصَّكِّ أَنَّ الْإِشْهَادَ لَا يَصِحُّ مَا لَمْ يَعْلَمْ الشَّاهِدُ مَا فِي الْكِتَابِ فَاحْفَظْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ يَعْمَلُونَ بِخِلَافِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى مَا فِي الصَّكِّ مِنْ غَيْرِ قِرَاءَةِ الْحُدُودِ، وَذَكَرَ فِي التَّقْوِيمِ وَالْغُنْيَةِ الِاخْتِلَافَ فِي الصَّكِّ أَيْضًا. وَقَوْلُهُ فَيُحْتَمَلُ كَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ حَتَّى لَمْ يُجَوِّزْ فِي الصُّكُوكِ وَقَوْلُهُ وَكَذَلِكَ الْمُنَاوَلَةُ إلَى آخِرِهِ مُعْتَرَضٌ أَيْ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ الْإِجَازَةُ بِغَيْرِ عِلْمِ مَا فِي الْكِتَابِ عِنْدَهُ أَيْضًا فِي بَابِ الْحَدِيثِ كَمَا فِي الصُّكُوكِ لِانْتِفَاءِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ اشْتِمَالُ الْكِتَابِ عَلَى الْأَسْرَارِ إذْ كُتُبُ الْأَخْبَارِ لَا تَشْتَمِلُ عَلَى سِرٍّ يَخْفَى مِنْ أَحَدٍ إلَيْهِ أَشَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ. وَيُحْتَمَلُ الْجَوَازُ بِالضَّرُورَةِ أَيْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَجُوزَ الْإِجَازَةُ عِنْدَهُ بِغَيْرِ عِلْمِ مَا فِي الْكِتَابِ كَمَا جَازَ الْإِشْهَادُ فِي كِتَابِ الْقَاضِي بِالضَّرُورَةِ وَهِيَ أَنَّ الْمُحَدِّثَ يَحْتَاجُ إلَى تَبْلِيغِ مَا صَحَّ عِنْدَهُ مِنْ الْأَخْبَارِ إلَى الْغَيْرِ لِيَتَّصِلَ الْإِسْنَادُ وَيَبْقَى الدِّينُ إلَى آخِرِ الدَّهْرِ، وَقَدْ ظَهَرَ التَّكَاسُلُ وَالْتَوَانِي فِي النَّاسِ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَرُبَّمَا لَا يَتَيَسَّرُ لِلطَّالِبِ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْمُحَدِّثِ وَفِي اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ بِمَا فِي الْكِتَابِ نَوْعُ تَنْفِيرٍ فَجُوِّزَتْ الْإِجَازَةُ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ لِلضَّرُورَةِ كَمَا جُوِّزَتْ مَعَ الْعِلْمِ لِلضَّرُورَةِ وَذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الدِّمَشْقِيُّ فِي كِتَابِهِ أَنَّ الْإِجَازَةَ يُسْتَحْسَنُ إذَا كَانَ الْمُجِيزُ عَالِمًا بِمَا يُجِيزُ وَالْمُجَازُ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهَا تَوَسُّعٌ وَتَرْخِيصٌ يَتَأَهَّلُ لَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ لِمَسِيسِ حَاجَتِهِمْ إلَيْهَا وَبَالَغَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ فَجَعَلَهُ شَرْطًا، وَحَكَاهُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْوَلِيدُ بْنُ بَكْرٍ الْمَالِكِيُّ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو عُمَرَ الصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا يَجُوزُ إلَّا لِمَاهِرٍ بِالصِّنَاعَةِ وَفِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ لَا يُشْكِلُ إسْنَادُهُ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ الْمُنَاوَلَةُ مَعَ الْإِجَازَةِ مِثْلُ الْإِجَازَةِ الْمُفْرَدَةِ) أَيْ الْمُنَاوَلَةُ الَّتِي وُجِدَتْ فِيهَا الْإِجَازَةُ مِثْلُ الْإِجَازَةِ الْمُفْرَدَةِ فِي جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَحْكَامِ وَلَا اعْتِبَارَ لَهَا بِدُونِ الْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّهَا لِتَأْكِيدِ الْإِجَازَةِ وَلَا اعْتِبَارَ لِلْمُؤَكَّدِ بِدُونِ الْمُؤَكِّدِ كَذَا فِي عَامَّةِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَذَكَرَ فِي الْمُعْتَمَدِ الْمُنَاوَلَةَ أَنْ يُشِيرَ الْإِنْسَانُ إلَى كِتَابٍ يَعْرِفُ مَا فِيهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ فَيَقُولُ لِغَيْرِهِ قَدْ سَمِعْت مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ فَيَكُونُ بِذَلِكَ مُحَدِّثًا بِأَنَّهُ سَمِعَهُ وَيَجُوزُ لِذَلِكَ الْغَيْرِ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْهُ فَيَقُولُ حَدَّثَنِي فُلَانٌ أَوْ أَخْبَرَنِي فُلَانٌ وَسَوَاءٌ قَالَ ارْوِهِ أَوْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فَأَمَّا إذَا قَالَ لَهُ حَدِّثْ عَنِّي بِمَا فِي هَذَا الْجُزْءِ وَلَمْ يَقُلْ قَدْ سَمِعْته؛ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُحَدِّثًا لَهُ بِهِ وَإِنَّمَا أَجَازَ لَهُ التَّحَدُّثُ بِهِ عَنْهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِالتَّحَدُّثِ كَاذِبًا وَلَا يَصِيرُ ذَلِكَ مُبَاحًا بِإِبَاحَتِهِ وَذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الدِّمَشْقِيُّ أَنَّ الْمُنَاوَلَةَ عَلَى

وَإِنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَهُ إذَا أَمِنَ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ ـــــــــــــــــــــــــــــQنَوْعَيْنِ أَحَدُهُمَا الْمُنَاوَلَةُ الْمَقْرُونَةُ لِإِجَازَةٍ وَهِيَ أَعْلَى أَنْوَاعِ الْإِجَازَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَهَا صُوَرٌ مِنْهَا أَنْ يَدْفَعَ الشَّيْخُ إلَى الطَّالِبِ أَصْلَ سَمَاعِهِ أَوْ فَرْعًا مُقَابِلًا بِهِ وَيَقُولُ هَذَا سَمَاعِي أَوْ رِوَايَتِي عَنْ فُلَانٍ فَارْوِهِ عَنِّي أَوْ أَجَزْت لَك رِوَايَتَهُ عَنِّي ثُمَّ تَمَلَّكَهُ إيَّاهُ أَوْ يَقُولُ خُذْهُ وَانْسَخْهُ وَقَابِلْ بِهِ ثُمَّ رُدَّهُ إلَيَّ أَوْ نَحْوُ هَذَا. وَمِنْهَا أَنْ يَجِيءَ الطَّالِبُ إلَى الشَّيْخِ بِكِتَابٍ أَوْ جُزْءٍ مِنْ حَدِيثِهِ فَيَعْرِضُهُ عَلَيْهِ فَيَتَأَمَّلُهُ الشَّيْخُ، وَهُوَ عَارِفٌ مُتَيَقِّظٌ ثُمَّ يُعِيدُهُ إلَيْهِ وَيَقُولُ لَهُ وَقَفْت عَلَى مَا فِيهِ، وَهُوَ حَدِيثِي عَنْ فُلَانٍ أَوْ رِوَايَتِي عَنْ شُيُوخِي فِيهِ فَارْوِهِ عَنِّي أَوْ أَجَزْت لَك رِوَايَتَهُ عَنِّي، وَقَدْ سَمَّى هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ عَرْضًا، وَقَدْ قُلْنَا إنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى الشَّيْخِ تُسَمَّى عَرْضًا أَيْضًا إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ يُسَمَّى عَرْضُ الْقِرَاءَةِ وَهَذَا عَرْضُ الْمُنَاوَلَةِ، وَهَذِهِ الْمُنَاوَلَةُ الْمُقْتَرِنَةُ بِالْإِجَازَةِ حَالَّةٌ مَحَلَّ السَّمَاعِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ جَمَّةٍ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ مِثْلُ الزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَمُجَاهِدٍ وَأَبِي الزُّبَيْرِ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَعَلْقَمَةَ وَإِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ وَقَتَادَةَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَغَيْرِهِمْ وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ حَالٍّ مَحَلَّ السَّمَاعِ وَأَنَّهُ مُنْحَطٌّ عَنْ دَرَجَةِ التَّحْدِيثِ لَفْظًا وَالْإِخْبَارِ قِرَاءَةً. قَالَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: أَمَّا فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ أَفْتَوْا فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَلَمْ يَرُدَّهُ سَمَاعًا وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْبُوَيْطِيُّ وَالْمُزَنِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ قَالَ: وَعَلَيْهِ عَهِدْنَا أَئِمَّتَنَا وَإِلَيْهِ نَذْهَبُ وَمِنْهَا أَنْ يُنَاوِلَ الشَّيْخُ الطَّالِبَ كِتَابَهُ وَيُجِيزَ لَهُ رِوَايَتَهُ عَنْهُ ثُمَّ تَمَسَّكَهُ الشَّيْخُ عِنْدَهُ وَلَا يُمْكِنُهُ مِنْهُ فَهَذَا يَتَقَاعَدُ عَمَّا سَبَقَ لِعَدَمِ احْتِوَاءِ الطَّالِبِ عَلَى مَا تَحَمَّلَهُ وَغَيْبَتِهِ عَنْهُ وَجَازَ لَهُ رِوَايَةً ذَلِكَ عَنْهُ إذَا ظَفِرَ بِالْكِتَابِ أَوْ بِمَا هُوَ مُقَابِلٌ بِهِ عَلَى وَجْهٍ يَثِقُ مَعَهُ بِمُوَافَقَتِهِ لِمَا تَنَاوَلَتْهُ الْإِجَازَةُ عَلَى مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ فِي الْإِجَازَاتِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ الْمُنَاوَلَةِ، ثُمَّ إنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمُنَاوَلَةِ لَا يَكَادُ يَظْهَرُ لَهَا حُصُولُ مَزِيَّةٍ عَلَى الْإِجَازَةِ مِنْ غَيْرِ مُنَاوَلَةٍ، وَقَدْ صَارَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ إلَى أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهَا وَلَا فَائِدَةَ غَيْرَ أَنَّ شُيُوخَ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ يَرَوْنَ لِذَلِكَ مَزِيَّةً مُعْتَبَرَةً، وَمِنْهَا أَنْ يَأْتِيَ الطَّالِبُ الشَّيْخَ بِكِتَابٍ أَوْ جُزْءٍ فَيَقُولَ هَذَا رِوَايَتُك فَنَاوِلْنِيهِ وَأَجِزْ لِي رِوَايَتَهُ فَيُجِيبُهُ إلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ وَيَتَحَقَّقَ رِوَايَتَهُ لِجَمِيعِهِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلَا يَصِحُّ إلَّا إذَا كَانَ الطَّالِبُ مَوْثُوقًا بِخَبَرِهِ وَمَعْرِفَتِهِ فَحِينَئِذٍ جَازَ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَكَانَ ذَلِكَ إجَازَةً جَائِزَةً؛ فَإِنَّ الْخَطِيبَ أَبَا بَكْرٍ وَلَوْ قَالَ حَدِّثْ بِمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ عَنِّي إنْ كَانَ مِنْ حَدِيثِي مَعَ بَرَاءَتِي مِنْ الْغَلَطِ وَالْوَهْمِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا حَسَنًا وَالثَّانِي الْمُنَاوَلَةُ الْمُجَرَّدَةُ عَنْ الْإِجَازَةِ بِأَنْ يُنَاوِلَهُ الْكِتَابَ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ يَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِهِ هَذَا مِنْ حَدِيثِي أَوْ مِنْ سَمَاعَاتِي وَلَا يَقُولُ ارْوِهِ عَنِّي أَوْ أَجَزْت لَك رِوَايَتَهُ عَنِّي وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذِهِ مُنَاوَلَةٌ مُخْتَلَّةٌ لَا يَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِهَا وَعَلَيْهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ عَلَى الْمُحَدِّثِينَ الَّذِينَ أَجَازُوهَا وَسَوَّغُوا الرِّوَايَةَ بِهَا، وَحُكِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّهُمْ صَحَّحُوهَا مِثْلُ ابْنِ جُرَيْجٍ وَأَبِي نَصْرِ بْنِ الصَّبَّاغِ وَأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيدِ وَالْقَاضِي أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ خَلَّادٍ وَغَيْرِهِمْ. قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَهُ) أَيْ إنَّمَا يَجُوزُ الرِّوَايَةُ مِنْ غَيْرِ عِلْمِ مَا فِي الْكِتَابِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْجَوَازِ إذَا كَانَ الْكِتَابُ مَأْمُونًا عَنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ؛ فَإِنَّ

وَالْأَحْوَطُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مِثْلَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ أَصْلٌ فِي الدِّينِ وَأَمْرُهَا عَظِيمٌ وَخَطْبُهَا جَسِيمٌ وَفِي تَصْحِيحِ الْإِجَازَةِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ رَفْعُ الِابْتِلَاءِ وَحَسْمٌ لِبَابِ الْمُجَاهَدَةِ وَفَتْحٌ لِبَاب التَّقْصِيرِ وَالْبِدْعَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَامَّةَ الْأُصُولِيِّينَ وَجَمِيعَ أَهْلِ الْحَدِيثِ قَالُوا: إنَّ الرَّجُلَ إذَا سَمِعَ عَلَى شَيْخٍ نُسْخَتَهُ فِي كِتَابٍ مَشْهُورٍ مِثْلَ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مَثَلًا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُشِيرَ إلَى غَيْرِ تِلْكَ النُّسْخَةِ مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ فَيَقُولُ: قَدْ سَمِعْته؛ لِأَنَّ النُّسَخَ مِنْ الْكِتَابِ الْوَاحِدِ قَدْ تَخْتَلِفُ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ النُّسْخَتَيْنِ تَتَّفِقَانِ، فَكَذَا هُنَا وَالْأَحْوَطُ كَذَا أَيْ الْأَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ أَنْ يُقَالَ: لَا يَصِحُّ الْإِجَازَةُ بِدُونِ عِلْمِ مَا فِي الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا كَمَا اخْتَارَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ أَصْلُ الدِّينِ لِبِنَاءِ أَكْثَرِ أَحْكَامِهِ عَلَيْهَا وَخَطْبُهَا جَسِيمٌ فَلَا وَجْهَ لِلْحُكْمِ بِصِحَّةٍ تُحْتَمَلُ الْإِمَامَةُ فِيهَا قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ مَفْهُومَةً مَعْلُومَةً، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَرَأَ عَلَيْهِ الْمُحَدِّثُ فَلَمْ يَسْمَعْ وَلَمْ يَفْهَمْ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَرْوِيَ فَفِي الْإِجَازَةِ الَّتِي هِيَ دُونَ الْقِرَاءَةِ أَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ، وَفِي تَصْحِيحِ الْإِجَازَةِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ رَفْعٌ لِلِابْتِلَاءِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ مُبْتَلَوْنَ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ وَتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ فِي ذَلِكَ مِنْ هَجْرِ الْإِخْوَانِ وَالْخِلَافِ وَقَطْعِ الْأَسْفَارِ الْبَعِيدَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى مَكَارِهِ الْغُرْبَةِ كَمَا وَقَعَتْ إلَيْهِ الْإِشَارَةُ النَّبَوِيَّةُ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «اُطْلُبُوا الْعِلْمَ وَلَوْ بِالصِّينِ» فَلَوْ جُوِّزَتْ الْإِجَازَةُ بِدُونِ عِلْمٍ لَرَغِبَ النَّاسُ عَنْ التَّعْلِيمِ اعْتِمَادًا عَلَى صِحَّةِ الرِّوَايَةِ بِدُونِهِ. وَحَسْمٌ لِبَابِ الْمُجَاهَدَةِ أَيْ قَطْعٌ لِلْجِهَادِ؛ فَإِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ جِهَادٌ فَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ بِدُونِ الْعِلْمِ تَكَاسَلَ فِي طَلَبِهِ وَانْقَطَعَ عَنْهُ وَفَتْحٌ لَبَابِ التَّقْصِيرِ وَالْبِدْعَةِ إذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ السَّلَفِ مِثْلُ هَذِهِ الْإِجَازَةِ فَتَكُونُ بِدْعَةً، وَإِنَّمَا ذَلِكَ أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْإِجَازَةِ وَالْمُنَاوَلَةِ بِدُونِ عِلْمٍ نَظِيرُ سَمَاعِ الصَّبِيِّ الَّذِي لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّحَمُّلِ بِأَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ عَالِمًا بِهِ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَهْلًا لِلتَّحَمُّلِ فِي الْحَالِ وَالرِّوَايَةُ بَعْدَ الْبُلُوغِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ وَكَأَنَّهُ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: قَدْ أَقْدَمَ الْمَشَايِخُ عَلَى إجَازَةِ مَنْ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ وَمَعْرِفَةٌ بِالرِّوَايَةِ عِنْدَ حُصُولِ الْعِلْمِ وَشَاعَ ذَلِكَ فِيهِمْ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّتِهَا عَلَى مَا سَيَأْتِيك بَيَانُهُ فَقَالَ ذَلِكَ نَظِيرُ سَمَاعِ الصَّبِيِّ الَّذِي لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلتَّحَمُّلِ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَحْضَرُوا الصِّبْيَانَ مَجَالِسَ أَهْلِ الْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّكِ؛ فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَشْقَى جَلِيسُهُمْ لَا عَلَى أَنَّهُ طَرِيقٌ يَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. وَنُبَيِّنُ الْآنَ أَنْوَاعَ الْإِجَازَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهَا الْحَافِظُ أَبُو عَمْرٍو الدِّمَشْقِيُّ فِي كِتَابِ مَعْرِفَةِ عُلُومِ الْحَدِيثِ فَقَالَ الْإِجَازَةُ أَنْوَاعٌ: أَوَّلُهَا: أَنْ يُجِيزَ لِمُعَيَّنٍ فِي مُعَيَّنٍ مِثْلَ أَنْ أَجَزْت لَك الْكِتَابَ الْفُلَانِيَّ أَوْ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ فَهْرَسَتِي هَذِهِ فَهِيَ أَعْلَى أَنْوَاعِ الْإِجَازَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ الْمُنَاوَلَةِ، حَتَّى زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِهَا إنَّمَا الْخِلَافُ فِي غَيْرِ هَذَا النَّوْعِ. وَالثَّانِي أَنْ يُجِيزَ لِمُعَيِّنٍ فِي غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ أَجَزْت لَك أَوْ لَكُمْ جَمِيعَ مَسْمُوعَاتِي أَوْ جَمِيعُ مَرْوِيَّاتِي وَالْخِلَافُ فِي هَذَا النَّوْعِ أَقْوَى وَأَكْثَرُ وَالْجُمْهُورُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ عَلَى تَجْوِيزِ الرِّوَايَةِ بِهَا أَيْضًا وَإِيجَابُ الْعَمَلِ بِمَا رُوِيَ بِهَا. وَالثَّالِثُ أَنْ يُجِيزَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ بِوَصْفِ الْعُمُومِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَجَزْت لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ لِكُلِّ أَحَدٍ أَوْ لِمَنْ أَدْرَكَ زَمَانِي وَمَا أَشْبَهَهَا، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ مِمَّنْ جَوَّزَ أَصْلَ الْإِجَازَةِ، ثُمَّ إنْ كَانَ ذَلِكَ مُقَيَّدًا بِوَصْفٍ حَاضِرٍ أَوْ نَحْوِهِ فَهُوَ إلَى الْجَوَازِ أَقْرَبُ وَمَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ كُلَّهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ الْحَافِظُ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ الْحَافِظُ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَتَّابٍ وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْدَلُسِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ قَالَ أَبُو عَمْرٍو وَلَمْ نَرَ وَلَمْ نَسْمَعْ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ هَذِهِ الْإِجَازَةَ

وَإِنَّمَا ذَلِكَ نَظِيرُ سَمَاعِ الصَّبِيِّ الَّذِي لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّحَمُّلِ وَذَلِكَ أَمْرٌ يُتَبَرَّكُ بِهِ لَا طَرِيقٌ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا، وَأَمَّا مَنْ جَلَسَ مَجْلِسَ السَّمَاعِ، وَهُوَ يَشْتَغِلُ عَنْهُ بِنَظَرٍ فِي كِتَابٍ غَيْرِ الَّذِي يَقْرَأُ أَوْ يَخُطُّ بِقَلَمٍ أَوْ يَعْرِضُ عَنْهُ بِلَهْوٍ وَلَعِبٍ أَوْ يَغْفُلُ عَنْهُ بِنَوْمٍ وَكَسَلٍ فَلَا ضَبْطَ لَهُ وَلَا أَمَانَةَ وَتُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرَمَ خَطُّهُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَلَا يَقُومُ الْحُجَّةُ بِمِثْلِهِ وَلَا يَتَّصِلُ الْإِسْنَادُ بِخَبَرِهِ إلَّا مَا يَقَعُ مِنْ ضَرُورَةٍ؛ فَإِنَّهُ عَفْوٌ وَصَاحِبُهُ مَعْذُورٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَرُوِيَ بِهَا وَلَا عَنْ الشِّرْزِمَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ الَّذِينَ سَوَّغُوهَا وَالْإِجَازَةُ فِي أَصْلِهَا ضَعْفٌ وَتَزْدَادُ بِهَذَا التَّوَسُّعِ وَالِاسْتِرْسَالِ ضَعْفًا كَثِيرًا لَا يَنْبَغِي احْتِمَالُهُ. وَالرَّابِعُ الْإِجَازَةُ لِلْمَجْهُولِ أَوْ بِالْمَجْهُولِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: أَجَزْت لِمُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الدِّمَشْقِيِّ، وَقَدْ اشْتَرَكَتْ جَمَاعَةٌ فِي هَذَا الِاسْمِ وَالنَّسَبِ أَوْ يَقُولُ أَجَزْت لِفُلَانٍ أَنْ يَرْوِيَ عَنِّي كِتَابَ السُّنَنِ، وَهُوَ يَرْوِي جَمَاعَةٌ مِنْ كُتُبِ السُّنَنِ الْمُعَرَّفَةِ بِذَلِكَ ثُمَّ لَا يُعَيِّنُ فَهَذِهِ إجَازَةٌ فَاسِدَةٌ لَا فَائِدَةَ لَهَا. وَالْخَامِسُ الْإِجَازَةُ لِلْمَعْدُومِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ أَجَزْت لِمَنْ يُولَدُ لِفُلَانٍ وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي جَوَازِهِ؛ فَإِنَّ عَطْفَ الْمَعْدُومِ عَلَى الْمَوْجُودِ بِأَنْ قَالَ أَجَزْت لِفُلَانٍ وَلِمَنْ يُولَدُ لَهُ أَوْ أَجَزْت لَك وَلِوَلَدِك وَلِعَقِبِك مَا تَنَاسَلُوا كَانَ ذَلِكَ أَقْرَبَ إلَى الْجَوَازِ، وَإِنْ أُجِيزَ لِلْمَعْدُومِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ عَطْفٍ عَلَى الْمَوْجُودِ فَقَدْ جَوَّزَهُ قَوْمٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِجَازَةَ إذْنٌ فِي الرِّوَايَةِ لَا مُحَادَ بِهِ، وَالصَّحِيحُ عَدَمُ الْجَوَازِ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي حُكْمِ الْإِخْبَارِ حَمَلَهُ بِالْمَجَازِ فَكَمَا لَا يَصِحُّ الْإِخْبَارُ لِلْمَعْدُومِ لَا يَصِحُّ الْإِجَازَةُ لَهُ وَلَوْ قَدَّرْنَا أَيْضًا أَنَّ الْإِجَازَةَ إذْنٌ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِلْمَعْدُومِ أَيْضًا كَمَا لَا يَصِحُّ الْإِذْنُ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ لِلْمَعْدُومِ لِوُقُوعِهِ فِي حَالَةٍ لَا يَصِحُّ فِيهَا الْمَأْذُونُ فِيهِ مِنْ الْمَأْذُونِ لَهُ وَهَذَا أَيْضًا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْإِجَازَةِ لِلطِّفْلِ الصَّغِيرِ الَّذِي لَا يَصِحُّ سَمَاعُهُ قَالَ الْخَطِيبُ سَأَلْت الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبِ الطَّبَرِيَّ عَنْ الْإِجَازَةِ لِلطِّفْلِ الصَّغِيرِ هَلْ يُعْتَبَرُ فِي صِحَّتِهَا سِنُّهُ أَوْ تَمْيِيزُهُ كَمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ سَمَاعِهِ فَقَالَ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ قَالَ فَقُلْت لَهُ إنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا قَالَ لَا يَصِحُّ الْإِجَازَةُ لِمَنْ لَا يَصِحُّ سَمَاعُهُ فَقَالَ قَدْ يَصِحُّ أَنْ يُجِيزَ لِلْغَائِبِ عَنْهُ وَلَا يَصِحُّ السَّمَاعُ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهَا إنَّ الْإِجَازَةَ إبَاحَةُ الْمُجِيزِ لِلْمُجَازِ لَهُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ وَالْإِبَاحَةُ يَصِحُّ لِلْعَاقِلِ وَغَيْرِ الْعَاقِلِ قَالَ وَعَلَى هَذَا رَأَيْنَا شُيُوخَنَا كَافَّةً يُجِيزُونَ لِلْأَطْفَالِ الْغُيَّبِ عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْأَلُوا عَنْ مَبْلَغِ أَسْنَائِهِمْ وَحَالِ تَمَيُّزِهِمْ وَلَمْ نَرَهُمْ أَجَازُوا لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْلُودًا وَكَأَنَّهُمْ رَأَوْا الطِّفْلَ أَهْلًا لِتَحَمُّلِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ أَنْوَاعِ تَحَمُّلِ الْحَدِيثِ لِيُؤَدِّيَ بِهِ بَعْدَ حُصُولِ أَهْلِيَّتِهِ حِرْصًا عَلَى تَوْسِيعِ السَّبِيلِ إلَى بَقَاءِ الْإِسْنَادِ. وَالسَّادِسُ: إجَازَةُ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ الْمُجِيزُ لِيَرْوِيَهُ الْمُجَازُ لَهُ إذَا تَحَمَّلَهُ الْمُجِيزُ بَعْدَ ذَلِكَ وَالصَّحِيحُ فِيهِ عَدَمُ الْجَوَازِ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ إخْبَارٌ وَلَا يَصِحُّ الْإِخْبَارُ بِمَا لَا خِبْرَةَ عِنْدَهُ مِنْهُ وَعَلَى هَذَا يَجِبُ عَلَى مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَرْوِيَ بِالْإِجَازَةِ عَنْ شَيْخٍ إجَازَةٌ لَهُ جَمِيعُ مَسْمُوعَاتِهِ مَثَلًا أَنْ يَرْوِيَ مَا سَمِعَهُ شَيْخُهُ قَبْلَ الْإِجَازَةِ لَا بَعْدَهَا. وَالسَّابِعُ: إجَازَةُ الْمُجَازِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ أَجَزْت لَك مُجَازَاتِي وَأَجَزْت لَك رِوَايَةَ مَا أُجِيزَ لِي رِوَايَتُهُ وَمَنَعَ ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ لَا يَعْتَدُّ بِهِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ اعْتِبَارٌ بِامْتِنَاعِ تَوْكِيلِ الْوَكِيلِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُوَكِّلِ وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَكَمَا لَا تَحِلُّ الرِّوَايَةُ بِالْإِجَازَةِ لِمَنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِالْمُجَازِ لَا تَحِلُّ الرِّوَايَةُ بِالسَّمَاعِ لِمَنْ جَلَسَ مَجْلِسَ السَّمَاعِ، وَهُوَ يَشْغَلُ أَيْ يَغْفُلُ عَنْهُ بِسَبَبِ نَظَرٍ فِي كِتَابٍ غَيْرَ الَّذِي يَقْرَأُ كَمَا حَكَى شَيْخُنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الشَّيْخَ الْإِمَامَ سَيْفَ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ الْبَاخَرْزِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ يَقْرَأُ صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ عَلَى الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْمُحَقِّقِ جَمَالِ الدِّينِ الْمَحْبُوبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي جَمَاعَةٍ وَكَانَ مَعَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نُسْخَةٌ عَتِيقَةٌ يَنْظُرُ فِيهِ فَاشْتَبَهَ لَفْظٌ يَوْمًا فَقِيلَ اُنْظُرُوا فِي تِلْكَ النُّسْخَةِ الْعَتِيقَةِ فَنَظَرُوا فَإِذَا هِيَ شَرْحُ الطَّحَاوِيِّ يَسْتَمِعُ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ فَلَا ضَبْطَ لَهُ وَلَا أَمَانَةَ إلَى آخِرِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْوَفَاءِ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ عَلِيٍّ

قِفْ. وَإِذَا صَحَّ السَّمَاعُ وَجَبَ الْحِفْظُ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ وَذَلِكَ نَوْعَانِ أَيْضًا ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي رِسَالَتِهِ إنَّ سَمَاعَ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ شَأْنٌ عَظِيمٌ وَلِمُبَاشَرَتِهِ وَاقْتِبَاسِهِ حُرْمَةٌ قَوِيَّةٌ فَلَا يُبَاشِرُ إلَّا بِالتَّوْقِيرِ وَالِاحْتِرَامِ وَلَا يُقَدَّمُ إلَّا عَلَيْهِ بِالتَّعْظِيمِ وَالْإِكْرَامِ قَالَ وَلَقِيت مِنْ مَشَايِخِي مَنْ لَا يَدْخُلُ بَيْتَ كُتُبِهِ وَالْمَوَاضِعَ الْمَعْهُودَةَ لِكُتُبِ الْحَدِيثِ إلَّا بِالطَّهَارَةِ وَلَا يَبِيتُ فِي مَوْضِعٍ فِيهِ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَأَيْت مِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْتَجِيزُ مِنْ نَفْسِهِ وَمِنْ غَيْرِهِ الضَّحِكُ وَالْمِزَاجُ وَالِانْبِسَاطُ وَالْكَلَامُ مَثَلًا بِحَضْرَةِ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَفِي مَجْلِسِ الْحَدِيثِ فَهَذَا هُوَ الطَّرِيقَةُ الْمُرْضِيَةُ فَأَمَّا مَنْ يُجَازِفُ وَيَسْتَخِفُّ بِهَذَا الْأَمْرِ وَيَتَهَاوَنُ بِهِ وَقْتَ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ فَلَا كَرَامَةَ لَهُ وَلَا يُسْمَعُ مِنْهُ حَدِيثُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا مِمَّنْ يَكُونُ مِكْثَارًا مِهْذَارًا صَاحِبَ هَذَيَانٍ وَوُقُوعٍ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ وَغِيبَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَا مِمَّنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ حِفْظِ لِسَانِهِ مِنْ الْفُحْشِ وَإِنَّمَا يَسْمَعُ الْحَدِيثَ وَالْأَثَرَ مِنْ شَيْخٍ صَالِحٍ عَفِيفٍ وَقُورٍ سَكُوتٍ إلَّا عَمَّا يَعْنِيهِ مِنْ الْكَلَامِ وَيَحْتَاجُ إلَيْهِ مُرَاعٍ لِلْجَمَاعَاتِ وَالْجُمَعِ كَافٍّ لِلِّسَانِ عَمَّا ذَكَرْت وَيَعْرِفُ مَا يَخْرُجُ مِنْ حَدِيثِهِ وَكُتُبِهِ إلَى النَّاسِ وَيَعْرِفُ صَوَابَهُ مِنْ خَطَئِهِ وَيَغْلِبُ صَوَابُهُ عَلَى خَطَئِهِ وَيُحْسِنُ مُرَاعَاةَ عَيْنِ سَمَاعِهِ وَالْمُقَابَلَةَ، وَإِذَا خَطَأَ وَنُبِّهَ عَلَيْهِ رَجَعَ إلَى الصَّوَابِ، وَإِذَا كَانَ الْخَطَأُ مِنْ عِنْدِهِ لَا يُلِحُّ وَلَا يَدَّعِي أَنَّهُ كَذَا سَمِعَهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ قَالَ وَهَذَا أَمْرٌ الِاحْتِيَاطُ وَالتَّنَزُّهُ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُوقَفَ عَلَيْهِ بِحَالٍ وَمَنْ كَانَ فِي هَذَا الْأَمْرِ أَيْقَنُ وَأَعْرَفُ فَهُوَ أَجْبَنُ وَأَخْوَفُ وَمَنْ كَانَ فِيهِ أَجْهَلُ وَأَغْمَرُ فَهُوَ فِيهِ أَغْفَلُ وَأَجْسَرُ. وَذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الدِّمَشْقِيُّ أَنَّ اعْتِبَارَ مَجْمُوعِ مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ مِنْ الشُّرُوطِ فِي رُوَاةِ الْحَدِيثِ وَمَشَايِخِهِ قَدْ تَعَذَّرَ الْوَفَاءُ بِهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ فَلْيُعْتَبَرْ مِنْ الشُّرُوطِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْغَرَضُ مِنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَى خِصِّيصَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي الْأَسَانِيدِ وَالْمُجَاوَزَةِ مِنْ انْقِطَاعِ سِلْسِلَتِهَا وَلِيَكْتَفِ فِي أَهْلِيَّةِ الشَّيْخِ بِكَوْنِهِ مُسْلِمًا بَالِغًا عَاقِلًا غَيْرَ مُتَظَاهِرٍ بِالْفِسْقِ وَالسُّخْفِ وَفِي ضَبْطِهِ بِوُجُودِ سَمَاعِهِ مُثْبَتًا بِخَطٍّ غَيْرَ مُتَّهَمٍ وَبِرِوَايَتِهِ مِنْ أَصْلٍ مُوَافِقٍ لِأَصْلِ شَيْخِهِ وَذُكِرَ عَنْ الْحَافِظِ أَبِي بَكْرٍ الْبَيْهَقِيّ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي قَدْ صَحَّتْ أَوْ وَقَعَتْ بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ قَدْ دُوِّنَتْ وَكُتِبَتْ فِي الْجَوَامِعِ الَّتِي جَمَعَهَا أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَذْهَبَ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى جَمِيعِهِمْ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَذْهَبَ عَلَى بَعْضِهِمْ لِضَمَانِ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ حِفْظَهَا فَمَنْ جَاءَ الْيَوْمَ بِحَدِيثٍ لَا يُوجَدُ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَمَنْ جَاءَ بِحَدِيثٍ مَعْرُوفٍ عِنْدَهُمْ فَاَلَّذِي يَرْوِيهِ لَا يَنْفَرِدُ بِرِوَايَتِهِ وَالْحُجَّةُ قَائِمَةٌ بِحَدِيثِهِ بِرِوَايَةِ غَيْرِهِ، وَالْقَصْدُ مِنْ رِوَايَتِهِ وَالسَّمَاعُ مِنْهُ أَنْ يَصِيرَ الْحَدِيثُ مُسَلْسَلًا بِحَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَتَبْقَى هَذِهِ الْكَرَامَةُ الَّتِي خُصَّتْ بِهَا هَذِهِ الْأُمَّةُ شَرَفًا لِنَبِيِّنَا الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَوْلُهُ إلَّا مَا يَقَعُ عَنْ ضَرُورَةِ اسْتِثْنَاءٍ عَنْ قَوْلِهِ يَشْتَغِلُ وَيَعْرِضُ وَيَغْفُلُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَيْ الِاشْتِغَالُ بِالنَّظَرِ وَالْإِعْرَاضُ وَالْغَفْلَةُ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الضَّبْطِ وَالسَّمَاعِ إلَّا مِقْدَارُ مَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَهُوَ الْقَلِيلُ فَإِنَّهُ جُعِلَ عَفْوًا؛ لِأَنَّ مَوَاضِعَ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنَاةٌ عَنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ. قَوْلُهُ (وَإِذَا صَحَّ السَّمَاعُ) ذَكَرَ فِي طَرَفِ السَّمَاعِ قِسْمًا آخَرَ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي التَّقْسِيمِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْحِفْظُ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ قِسْمٌ آخَرُ كَمَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ جَعَلَهُ مِنْ تَوَابِعِ السَّمَاعِ فَقَالَ: وَإِذَا صَحَّ السَّمَاعُ أَيْ حَصَلَ إمَّا بِقِرَاءَةِ الْمُحَدِّثِ أَوْ بِقِرَاءَةِ نَفْسِهِ عَلَيْهِ أَوْ بِالْكِتَابِ إلَيْهِ أَوْ بِالرِّسَالَةِ أَوْ بِالْإِجَازَةِ أَوْ بِالْمُنَاوَلَةِ وَجَبَ حِفْظُ الْمَسْمُوعِ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ السَّمَاعِ الْعَمَلُ وَالتَّبْلِيغُ وَلَا بُدَّ لَهُمَا مِنْ الْحِفْظِ " وَذَلِكَ أَيْ الْحِفْظُ نَوْعَانِ أَيْضًا

[باب الكتابة والخط]

تَامٌّ وَمَا دُونَهُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ فَالْأَوَّلُ عَزِيمَةٌ مُطْلَقَةٌ وَالثَّانِي رُخْصَةٌ انْقَلَبَتْ عَزِيمَةً أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْحِفْظُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ الْخَطِّ وَهَذَا فَضْلٌ خُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِقُوَّةِ نُورِ الْقَلْبِ اسْتَغْنَى عَنْ الْخَطِّ، وَكَانُوا لَا يَكْتُبُونَ مِنْ قَبْلُ ثُمَّ صَارَتْ الْكِتَابَةُ سُنَّةً فِي الْكِتَابِ وَالْحَدِيثِ صِيَانَةً لِلْعِلْمِ لِفَقْدِ الْعِصْمَةِ مِنْ النِّسْيَانِ. (وَهَذَا بَابُ الْكِتَابَةِ وَالْخَطِّ) وَهَذَا يَتَّصِلُ بِمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنْ بَابِ الضَّبْطِ. وَهُوَ نَوْعَانِ مَا يَكُونُ مُذَكَّرًا، وَهُوَ الْأَصْلُ الَّذِي انْقَلَبَ عَزِيمَةً وَمَا يَكُونُ إمَامًا لَا يُفِيدُ تَذَكُّرُهُ، أَمَّا الَّذِي يَكُونُ مُذَكَّرًا فَهُوَ حُجَّةٌ سَوَاءٌ كَانَ خَطُّهُ أَوْ خَطُّ رَجُلٍ مَعْرُوفٍ أَوْ مَجْهُولٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الذِّكْرُ وَالِاحْتِرَازُ عَنْ النِّسْيَانِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQكَالسَّمَاعِ وَالتَّبْلِيغِ؛ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ قِسْمَانِ تَامٌّ أَيْ كَامِلٌ وَمَا دُونَ التَّامِّ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِهِ يَعْنِي قُصُورَهُ إنَّمَا يَظْهَرُ إذَا قُوبِلَ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَالْقِسْمُ الثَّانِي الَّذِي انْقَلَبَ عَزِيمَةً أَقْوَى مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ حَتَّى كَانَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ الْكِتَابِ أَقْوَى مِنْ الرِّوَايَةِ عَنْ الْحِفْظِ لِتَمَكُّنِ الْخَلَلِ فِيهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ الْعَزِيمَةُ الْمُطْلَقَةُ فَالْحِفْظُ مِنْ وَقْتِ السَّمَاعِ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ الْخَطِّ أَيْ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى كِتَابَةِ الْمَسْمُوعِ خَوْفًا مِنْ النِّسْيَانِ وَمِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى الرُّجُوعِ إلَى كِتَابٍ لِلتَّذَكُّرِ بَلْ الْحِفْظُ مُسْتَدَامٌ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ وَالْحِفْظِ بِالْقَلْبِ غَايَةَ الْكَمَالِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْحِفْظِ وَمَعْدِنُهُ، وَكَانُوا لَا يَكْتُبُونَ أَيْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَا يَكْتُبُونَ الْأَخْبَارَ بَلْ يَحْفَظُونَهَا وَيَرْوُونَهَا عَنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ بِبَرَكَةِ صُحْبَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا دَنَا انْقِرَاضُ عَصْرِهِمْ وَبَعُدَ زَمَانُ النُّبُوَّةِ صَارَتْ الْكِتَابَةُ سُنَّةً أَيْ طَرِيقَةً مُرْضِيَةً فِي الْكِتَابِ أَيْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْحَدِيثِ قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: كَانُوا يَأْخُذُونَ الْعِلْمَ حِفْظًا ثُمَّ أُبِيحَ لَهُمْ الْكِتَابُ أَيْ الْكِتَابَةُ لِمَا حَدَثَ بِهِمْ مِنْ الْكَسَلِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ» أَيْ بِالْكِتَابَةِ، وَذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا مُخْتَلِفِينَ فِي جَوَازِ كِتَابَةِ الْحَدِيثِ فَكَرِهَهَا عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو مُوسَى وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي جَمَاعَةٍ آخَرِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَبَاحَهَا عَلِيٌّ وَابْنُهُ الْحَسَنُ وَأَنَسٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَالْحُجَّةُ لِلْفَرِيقِ الْأَوَّلِ مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا إلَّا الْقُرْآنَ وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلِيَمْحُهُ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَالْحُجَّةُ لِلْفَرِيقِ الثَّانِي حَدِيثُ «أَبِي شَاهٍ الْيَمَنِيِّ فِي الْتِمَاسِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَكْتُبَ لَهُ شَيْئًا سَمِعَهُ مِنْ خُطْبَتِهِ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ» . وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اُكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ» وَلَعَلَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَذِنَ فِي الْكِتَابَةِ عَنْهُ لِمَنْ خَشَى عَلَيْهِ النِّسْيَانُ وَنَهَى عَنْ الْكِتَابَةِ عَنْهُ مَنْ وَثِقَ بِحِفْظِهِ مُحَافَظَةَ الِاتِّكَالِ عَلَى الْكِتَابِ أَوْ نَهَى عَنْ كِتَابَةِ ذَلِكَ حِينَ خَافَ عَلَيْهِمْ اخْتِلَاطُ ذَلِكَ بِصُحُفِ الْقُرْآنِ وَأَذِنَ فِي كِتَابَتِهِ حِينَ أَمِنَ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ أَنَّهُ زَالَ ذَلِكَ الْخِلَافُ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَسْوِيغِ ذَلِكَ وَإِبَاحَتِهِ وَلَوْلَا تَدْوِينُهُ لِدَرَسَ فِي الْأَعْصُرِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ صِيَانَةً لِلْعِلْمِ عَنْ الِانْدِرَاسِ، وَهَذَا تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ صَارَتْ الْكِتَابَةُ سُنَّةً. وَقَوْلُهُ لِفَقْدِ الْعِصْمَةِ عَنْ النِّسْيَانِ تَعْلِيلٌ لِلْمَجْمُوعِ أَيْ صَيْرُورَةَ الْكِتَابَةِ سُنَّةً لِأَجْلِ الصِّيَانَةِ بِاعْتِبَارِ فَقْدِ الْعِصْمَةِ عَنْ النِّسْيَانِ بِفَوَاتِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَقَوْلُهُ ثُمَّ صَارَتْ الْكِتَابَةُ بَيَانَ الْقِسْمِ الثَّانِي. [بَابُ الْكِتَابَةِ وَالْخَطِّ] وَهَذَا أَيْ الَّذِي نَشْرَعُ فِيهِ (بَابُ الْكِتَابَةِ وَالْخَطِّ) : وَهُمَا وَاحِدٌ وَهَذَا أَيْ هَذَا الْقِسْمُ أَوْ هَذَا الْبَابُ يَتَّصِلُ بِبَابِ الضَّبْطِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِالْحِفْظِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْكِتَابَةِ، وَهُوَ نَوْعَانِ أَيْ الْحَاصِلُ بِالْكِتَابَةِ وَالْخَطِّ، وَهُوَ الْكِتَابُ نَوْعَانِ مَا يَكُونُ مُذَكَّرًا، وَهُوَ مَا يُتَذَكَّرُ بِالنَّظَرِ فِيهِ مَا كَانَ مَسْمُوعًا لَهُ وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الذِّكْرُ فَلَا يُبَالِي بَعْدَ حُصُولِهِ بِأَنْ حَصَلَ بِالتَّفَكُّرِ أَوْ بِالنَّظَرِ فِي الْكِتَابِ وَالنِّسْيَانُ الْوَاقِعُ قَبْلَ التَّذَكُّرِ مَعْفُوٌّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَ فِي حَقِّ عَدَمِ جَوَازِ الرِّوَايَةِ أَدَّى إلَى تَعْطِيلِ الْأَخْبَارِ وَالْأَحَادِيثِ كَيْفَ وَالنِّسْيَانُ مُرَكَّبٌ فِي الْإِنْسَانِ وَلَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ إلَّا بِحَرَجٍ بَيِّنٍ وَذَلِكَ مَدْفُوعٌ وَبَعْدَ النِّسْيَانِ النَّظَرُ فِي الْكِتَابِ طَرِيقٌ لِلتَّذَكُّرِ وَعَوْدٌ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْحِفْظِ، وَإِذَا عَادَ كَمَا كَانَ فَالرِّوَايَةُ تَكُونُ عَنْ حِفْظٍ تَامٍّ

وَإِنَّمَا كَانَ دَوَامُ الْحِفْظِ لِرَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَعَ قَوْله تَعَالَى {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى: 6] {إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 7] ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْخَطُّ أَمَامًا لَا يَذْكُرُهُ شَيْئًا؛ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ يَقُولُ لَا يَحِلُّ الرِّوَايَةُ بِمِثْلِهِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الْخَطَّ لِلْقَلْبِ بِمَنْزِلَةِ الْمِرْآةِ لِلْعَيْنِ وَالْمِرْآةُ إذَا لَمْ تُفِدْ لِلْعَيْنِ دَرْكًا كَانَ عَدَمًا فَالْخَطُّ إذَا لَمْ يُفِدْ لِلْقَلْبِ ذِكْرًا كَانَ هَدَرًا، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ الْخَطُّ فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ فِيمَا يَجِدُ الْقَاضِي فِي دِيوَانِهِ مِمَّا لَا يَذْكُرُهُ وَمَا يَكُونُ فِي السُّنَنِ وَالْأَحَادِيثِ وَمَا يَكُونُ فِي الصُّكُوكِ وَرَوَى بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِهِ فِي دِيوَانِ الْقَاضِي وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِالْخَطِّ فِي الْكُلِّ وَالْعَزِيمَةُ فِي هَذَا كُلِّهِ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَإِنَّمَا كَانَ دَوَامُ الْحِفْظِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ مَخْصُوصًا بِالْحِفْظِ الدَّائِمِ لِقُوَّةِ نُورِ قَلْبِهِ وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ النِّسْيَانُ مُتَصَوَّرًا فِي حَقِّهِ بِدَلِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى: 6] {إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 7] ، وَقَدْ «وَقَعَ لَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَرَدُّدٌ فِي قِرَاءَةِ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ حَتَّى قَالَ لِأُبَيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَلَّا ذَكَّرْتنِي» ، وَإِذَا تُصُوِّرَ فِي حَقِّهِ فَكَيْفَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ قَوْله تَعَالَى {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى: 6] أَيْ نُعَلِّمُك الْقُرْآنَ وَنَجْعَلُك قَارِئًا لَهُ فَلَا تَنْسَى مِنْهُ شَيْئًا إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَنْسَخَهُ فَيُزِيلَ حِفْظَهُ عَنْ الْقُلُوبِ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ فَلَا تَنْسَى إلَّا أَنْ يُرِيدَ اللَّهُ إنْسَاءَك؛ فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَا شَاءَ ثُمَّ هُوَ لَا يُنْسِيك وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86] ، وَهُوَ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ فَكَانَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ قَوْلِك لَأُعْطِيَنَّكَ كُلَّ مَا سَأَلْت إلَّا أَنْ أَشَاءَ أَنْ أَمْنَعَك وَأَنْتَ لَا تُرِيدُ أَنْ تَمْنَعَهُ كَذَا فِي التَّيْسِيرِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا إذَا كَانَ الْخَطُّ إمَامًا لَا يَذْكُرُهُ شَيْئًا) بِأَنْ وَجَدَ سَمَاعًا مَكْتُوبًا بِخَطِّهِ أَوْ بِخَطِّ أَبِيهِ أَوْ بِخَطِّ رَجُلٍ مَعْرُوفٍ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ السَّمَاعَ؛ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُجَوِّزُ الرِّوَايَةَ بِمِثْلِهِ بِحَالٍ أَيْ بِمِثْلِ هَذَا الْخَطِّ الَّذِي لَا يَذْكُرُ شَيْئًا سَوَاءٌ كَانَ خَطَّهُ أَوْ خَطَّ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكِتَابِ أَنْ يَتَذَكَّرَ إذَا نَظَرَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ لِلْقَلْبِ كَالْمِرْآةِ لِلْعَيْنِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْمِرْآةُ لِيَحْصُلَ الْإِدْرَاكُ بِالْعَيْنِ، وَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ كَانَ وُجُودُهَا كَعَدَمِهَا، فَكَذَا الْخَطُّ لِلتَّذَكُّرِ بِالْقَلْبِ عِنْدَ النَّظَرِ فِيهِ فَإِذَا لَمْ يَتَذَكَّرْ كَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَمَعْنَى كَوْنِ الْخَطِّ إمَامًا أَنَّ الرَّاوِيَ إذَا لَمْ يَسْتَفِدْ التَّذَكُّرَ بِهِ كَانَ اعْتِمَادُهُ عَلَى الْخَطِّ لَا غَيْرُ كَاعْتِمَادِ الْمُقْتَدِي عَلَى الْإِمَامِ فَكَانَ الْخَطُّ إمَامَهُ دُونَ الْحِفْظِ وَذَكَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ إذَا رَوَى الرَّاوِي الْحَدِيثَ مِنْ كِتَابِهِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ قَرَأَهُ عَلَى نَهْجِهِ أَوْ حَدَّثَهُ بِهِ وَتَذَكَّرَ أَلْفَاظَ قِرَاءَتِهِ وَوَقْتَهَا أَوْ لَمْ يَتَذَكَّرْ جَازَتْ الرِّوَايَةُ وَالْأَخْذُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ عَالِمٌ فِي الْحَالِ بِأَنَّهُ قَرَأَ جَمِيعَ مَا فِي الْكِتَابِ أَوْ سَمِعَهُ مِنْهُ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ الْكِتَابَ أَوْ يَظُنَّ ذَلِكَ أَوْ يُجَوِّزْ الْأَمْرَيْنِ تَجْوِيزًا عَلَى السَّوِيَّةِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ رِوَايَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْبِرَ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيهِ أَوْ ظَانٌّ أَوْ شَاكٌّ وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ سَمَاعَهُ لِمَا فِي الْكِتَابِ وَلَا قِرَاءَتَهُ وَلَكِنْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ ذَلِكَ لِمَا يَرَى مِنْ خَطِّهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْخِلَافِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْوِيَ وَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِرِوَايَتِهِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَجُوزُ لَهُ الرِّوَايَةُ وَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا يَعْمَلُونَ عَلَى كُتُبِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَحْوَ كِتَابِهِ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ مِنْ غَيْرِ أَنَّ رَاوِيًا رَوَى ذَلِكَ الْكِتَابَ لَهُمْ بَلْ عَمِلُوا لِأَجْلِ الْخَطِّ وَأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَازَ مِثْلُهُ لِغَيْرِهِمْ. قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا يَدْخُلُ الْخَطُّ فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ) أَيْ يَتَحَقَّقُ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْخَطِّ وَعَدَمِهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ فِيمَا يَجِدُ الْقَاضِي فِي دِيوَانِهِ مِنْ صَحِيفَةٍ فِيهَا شَهَادَةُ شُهُودٍ لَا يَتَذَكَّرُ أَنَّهُمْ شَهِدُوا بِذَلِكَ أَوْ سُجِّلَ بِخَطِّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَذَكَّرَ الْحَادِثَةَ وَمَا يَكُونُ فِي الْأَحَادِيثِ كَمَا بَيَّنَّا وَمَا يَكُونُ فِي الصُّكُوكِ بِأَنْ يَرَى الشَّاهِدُ خَطَّهُ فِي صَكٍّ وَلَا يَتَذَكَّرُ الْحَادِثَةَ. وَالْعَزِيمَةُ أَيْ الْأَصْلُ فِي هَذَا كُلِّهِ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّهُ لَا يَعْتَمِدُ عَلَى الْخَطِّ مِنْ غَيْرِ تَذَكُّرٍ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ وَالشَّهَادَةَ وَتَنْفِيذَ الْقَضَاءِ لَا يَكُونُ

وَلِهَذَا قَلَّتْ رِوَايَاتُهُ وَالرُّخْصَةُ فِيمَا قَالَا فَصَارَتْ الْكِتَابَةُ لِلْحِفْظِ عَزِيمَةً وَبِلَا حِفْظٍ رُخْصَةً وَالْعَزِيمَةُ نَوْعٌ وَاحِدٌ وَالرُّخْصَةُ أَنْوَاعٌ مَا يَكُونُ بِخَطٍّ مُوَثَّقًا بِيَدِهِ لَا يَحْتَمِلُ تَبْدِيلًا وَكَذَلِكَ مَا يُوجَدُ بِخَطٍّ مَعْرُوفٍ لِرَجُلٍ ثِقَةٍ مُوَثَّقٍ بِيَدِهِ وَمَا يَكُونُ بِخَطِّ مَجْهُولٍ وَذَلِكَ كُلُّهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ فِي الْحَدِيثِ وَالصُّكُوكِ وَدِيوَانِ الْقَاضِي، أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَقَدْ عَمِلَ بِهِ فِي دِيوَانِ الْقَاضِي إذَا كَانَ تَحْتَ يَدِهِ لِلْأَمْنِ عَنْ التَّزْوِيرِ وَعَمِلَ بِهِ فِي الْأَحَادِيثِ إنْ كَانَ لِهَذَا الشَّرْطِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ لَمْ يَحِلَّ الْعَمَلُ بِهِ فِي الدِّيوَانِ؛ لِأَنَّ التَّزْوِيرَ فِي بَابِهِ غَالِبٌ لِمَا يَتَّصِلُ بِالْمَظَالِمِ وَحُقُوقِ النَّاسِ، وَأَمَّا فِي بَابِ الْحَدِيثِ؛ فَإِنَّ الْعَمَلَ بِهِ جَائِزٌ إذَا كَانَ خَطًّا مَعْرُوفًا لَا يَخَافُ عَلَيْهِ التَّبْدِيلَ فِي غَالِبِ الْعَادَةِ وَيُؤْمَنُ فِيهِ الْغَلَطُ؛ لِأَنَّ التَّبْدِيلَ فِيهِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ وَالْمَحْفُوظُ بِيَدِ الْأَمِينِ مِثْلُ الْمَحْفُوظِ بِيَدِهِ، وَأَمَّا فِي الصُّكُوكِ فَلَا يَحِلُّ الْعَمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ تَحْتَ يَدِ الْخَصْمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الشَّاهِدِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَّا فِي الصُّكُوكِ؛ فَإِنَّهُ جَوَّزَ الْعَمَلَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ اسْتِحْسَانًا تَوْسِعَةً عَلَى النَّاسِ إذَا أَحَاطَ عِلْمًا بِأَنَّهُ خَطُّهُ وَلَمْ يَلْحَقْهُ شَكٌّ وَشُبْهَةٌ وَالْغَلَطُ فِي الْخَطِّ نَادِرٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَّا بِعِلْمٍ وَالْخَطُّ يُشْبِهُ الْخَطَّ شَبَهًا لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزَ بَيْنَهُمَا فَبِصُورَةِ الْخَطِّ لَا يَسْتَفِيدُ عِلْمًا مِنْ غَيْرِ تَذَكُّرٍ بَلْ يَقَعُ بِالْبِنَاءِ عَلَيْهِ ضَرْبُ شُبْهَةٍ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا بِالْجَدِّ فِي الْحِفْظِ فَلَا يَلْغُو اعْتِبَارُ تِلْكَ الشُّبْهَةِ بِنِسْيَانٍ يَكُونُ بِالتَّقْصِيرِ فِي الْحِفْظِ، وَمَا فَسَدَ دِينٌ مِنْ الْأَدْيَانِ إلَّا بِالْبِنَاءِ عَلَى الصُّوَرِ دُونَ الْمَعَانِي، أَلَا تَرَى أَنَّا لَا نَقْبَلُ رِوَايَةَ الْأَخْرَسِ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ إشَارَةٌ مَعْقُولَةٌ لِضَرْبِ شُبْهَةٍ فِيهَا يَقَعُ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا بِغَيْرِهَا فَاعْتَبَرْنَاهَا وَلَمْ نَعْتَبِرْ فِيمَا يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ وَعَلَيْهَا فَيَثْبُتُ بِهَا النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا فِي حَقِّهِ. وَالرُّخْصَةُ فِيمَا قَالَاهُ يَعْنِي مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنْ كَانَ هُوَ الْعَزِيمَةَ إلَّا أَنَّ مَا قَالَاهُ لَيْسَ بِفَاسِدٍ أَيْضًا بَلْ هُوَ رُخْصَةٌ وَلِلرُّخْصَةِ مَجَالٌ فِي هَذَا الْبَابِ؛ فَإِنَّ اشْتِرَاطَ دَوَامِ الْحِفْظِ مِنْ وَقْتِ السَّمَاعِ إلَى وَقْتِ التَّبْلِيغِ قَدْ سَقَطَ وَذَلِكَ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ. وَكَذَا الرِّوَايَةُ بِنَاءً عَلَى الْكِتَابِ وَالرِّسَالَةِ، وَالْإِجَازَةُ وَالْمُنَاوَلَةُ مِنْ بَابِ الرُّخْصَةِ فَلَمَّا كَانَ لِلرُّخْصَةِ مَدْخَلٌ فِي هَذَا الْبَابِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهَا فَصَارَتْ الْكِتَابَةُ لِلْحِفْظِ أَيْ مَعَ الْحِفْظِ أَوْ لِأَجْلِ الْحِفْظِ عَزِيمَةً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّامُ لِلْعَاقِبَةِ أَيْ صَارَتْ الْكِتَابَةُ الَّتِي عَاقِبَتُهَا الْحِفْظُ وَالتَّذَكُّرُ عَزِيمَةً الضَّمِيرُ فِي بِيَدِهِ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ رَاجِعٌ إلَى مَا يَرْجِعُ إلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي بِخَطِّهِ وَذَلِكَ كُلُّهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ أَيْ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَقْسَامِ يُوجَدُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ، وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَقَدْ عَمِلَ بِهِ أَيْ بِالْخَطِّ الَّذِي لَا يُفِيدُ تَذَكُّرًا فِي دِيوَانِ الْقَاضِي الدِّيوَانُ الْجَرِيدَةُ، مِنْ دَوَّنَ الْكُتُبَ إذَا جَمَعَهَا؛ لِأَنَّهَا قِطَعٌ مِنْ الْقَرَاطِيسِ مَجْمُوعَةٌ وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوَّلُ مَنْ دَوَّنَ الدَّوَاوِينَ أَيْ رَتَّبَ الْجَرَائِدَ لِلْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ إذَا كَانَ تَحْتَ يَدِهِ أَيْ مَحْفُوظًا بِيَدِهِ مَخْتُومًا بِخَاتَمِهِ سَوَاءٌ كَانَ بِخَطِّهِ أَوْ بِخَطٍّ مَعْرُوفٍ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لِكَثْرَةِ اشْتِغَالِهِ يَعْجِزُ عَنْ أَنْ يَحْفَظَ كُلَّ حَادِثَةٍ، وَلِهَذَا يَكْتُبُ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِالْكِتَابِ إذَا جَازَ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَيْهِ عِنْدَ النِّسْيَانِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ التَّحَرُّزُ عَنْ النِّسْيَانِ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ لَهُ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْكِتَابِ عِنْدَ النِّسْيَانِ أَدَّى إلَى الْحَرَجِ وَتَعْطِيلِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ فَإِذَا كَانَ الْكِتَابُ فِي قَمْطَرَةٍ مَخْتُومًا بِخَاتَمِهِ مَحْفُوظًا بِيَدِهِ أَوْ بِيَدٍ أَمِينَةٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ حَقٌّ وَأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ يَدٌ مُغَيِّرَةٌ وَلَا زَائِدَةٌ فِيهِ وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ فَجَازَ لَهُ الْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ التَّذَكُّرُ وَعَمِلَ بِهِ أَيْ بِالْخَطِّ مِنْ غَيْرِ تَذَكُّرٍ فِي الْأَحَادِيثِ أَيْضًا إنْ كَانَ الْخَطُّ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَحْتَ يَدِهِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي التَّذَكُّرِ وَالْحِفْظِ فَلَوْ شَرَطْنَا التَّذَكُّرَ لِصِحَّةِ الرِّوَايَةِ لَا مَحَالَةَ أَدَّى إلَى تَعْطِيلِ الْأَحَادِيثِ؛ لِأَنَّ التَّزْوِيرَ فِي بَابِهِ أَيْ دِيوَانِ الْقَاضِي غَالِبٌ لِمَا يَتَّصِلُ أَيْ لِاتِّصَالِهِ وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ يَعْنِي دِيوَانَ الْقَاضِي يَتَعَلَّقُ بِالْمَظَالِمِ وَهِيَ جَمْعُ مَظْلِمَةٍ بِكَسْرِ اللَّامِ وَهِيَ مَا تَطْلُبُهُ عِنْدَ الظَّالِمِ. وَأَمَّا فِي بَابِ الْحَدِيثِ؛ فَإِنَّ الْعَمَلَ بِهِ أَيْ بِالْخَطِّ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ إذَا كَانَ خَطًّا مَعْرُوفًا مَأْمُونًا عَنْ التَّبْدِيلِ وَالْغَلَطِ فِي غَالِبِ الْعَادَةِ؛ لِأَنَّ التَّبْدِيلَ فِيهِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَلَا يَعُودُ بِتَغْيِيرِهِ نَفْعٌ إلَى مَنْ يُغَيِّرُهُ فَكَانَ الْمَحْفُوظُ مِنْهُ بِيَدِ أَمِينٍ مِثْلَ الْمَحْفُوظِ بِيَدِهِ فَيَجُوزُ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فَأَمَّا فِي الصُّكُوكِ فَلَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِالْخَطِّ مِنْ غَيْرِ تَذَكُّرٍ؛ لِأَنَّ الصَّكَّ تَحْتَ يَدِ الْخَصْمِ فَلَا يَحْصُلُ الْأَمْنُ مِنْ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ فِيهِ فَلَا يَحْصُلُ الشَّهَادَةُ مَا لَمْ يَتَذَكَّرْ الْحَادِثَةَ حَتَّى لَوْ كَانَ الصَّكُّ فِي يَدِ الشَّاهِدِ جَازَ لَهُ الشَّهَادَةُ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ تَذَكُّرٍ لِوُقُوعِ

بَقِيَ فَصْلٌ، وَهُوَ مَا يَحْدُثُ بِخَطِّ أَبِيهِ أَوْ بِخَطِّ رَجُلٍ مَعْرُوفٍ فِي كِتَابٍ مَعْرُوفٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ وَجَدْت بِخَطِّ أَبِي أَوْ بِخَطِّ فُلَانٍ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ فَأَمَّا الْخَطُّ الْمَجْهُولُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُفْرَدًا وَذَلِكَ بَاطِلٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْأَمْنِ حِينَئِذٍ عَنْ التَّبْدِيلِ كَالسِّجِلِّ الَّذِي فِي يَدِ الْقَاضِي، وَكَذَلِكَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَيْ وَمِثْلُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا إلَّا فِي الصُّكُوكِ؛ فَإِنَّهُ جَوَّزَ الْعَمَلَ فِيهَا بِالْخَطِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الصَّكُّ فِي يَدِ الشَّاهِدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجْرِي فِيهِ التَّبْدِيلُ وَالتَّغْيِيرُ؛ فَإِنَّهُ لَوْ ثَبَتَ يَثْبُتُ بِالْخَطِّ وَالْخَطُّ قَلَّمَا يُشْبِهُ الْخَطَّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا خَلَقَ الْأَجْسَامَ مُتَفَاوِتَةً إظْهَارًا لِقُدْرَتِهِ خَلَقَ الْأَفْعَالَ كَذَلِكَ فَالْخَطُّ لَا يُشْبِهُ الْخَطَّ إلَّا نَادِرًا وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ وَلَا اعْتِبَارَ لِتَوَهُّمِ التَّغْيِيرِ؛ فَإِنَّ لَهُ أَثَرًا يُوقَفُ عَلَيْهِ فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ جَازَ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ (بَقِيَ فَصْلٌ) يَعْنِي بَقِيَ فَصْلٌ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا وَجَدَ كِتَابًا بِخَطِّ أَبِيهِ أَوْ بِخَطِّ رَجُلٍ إلَى آخِرِهِ قَالَ أَبُو الْوَفَاءِ وَنَوْعٌ مِنْ الرِّوَايَاتِ الْوِجَادَةُ وَتِلْكَ طَرِيقَةٌ مَسْلُوكَةٌ فِي الرِّوَايَةِ أَيْضًا فَإِذَا احْتَاجَ إلَى رِوَايَةِ شَيْءٍ فِي تَصْنِيفٍ لَهُ وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ سَمَاعٌ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كِتَابٍ صَحِيحٍ أَوْ سَمَاعِ شَيْخٍ ثِقَةٍ مَعْرُوفٍ بِخَطِّهِ أَوْ بِخَطِّ غَيْرِهِ وَلَكِنَّهُ سَمَاعُهُ الثَّابِتُ وَيَجِبُ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْهُ أَوْ يُورِدَهُ فِي كِتَابِهِ وَرِوَايَتِهِ يَقُولُ وَجَدْت فِي كِتَابِ فُلَانٍ بِخَطِّهِ وَسَمَاعِهِ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ أَخْبَرَهُ أَوْ حَدَّثَهُ أَوْ وَجَدْت فِي سَمَاعِ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ أَخْبَرَهُ أَوْ حَدَّثَهُ ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْقِسْمِ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ فِي وِجْدَانِ سَمَاعِ نَفْسِهِ بِخَطِّهِ أَوْ بِخَطِّ غَيْرِهِ وَهَذَا فِي وِجْدَانِ سَمَاعِ الْغَيْرِ وَعِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ حَلَّ لَهُ أَنْ يَقُولَ فِي هَذَا الْقِسْمِ أَخْبَرَنَا فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ إذَا كَانَ بِخَطِّ أَبِيهِ أَوْ بِخَطِّ رَجُلٍ مَعْرُوفٍ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْ الْكِتَابِ الْمَبْعُوثِ إلَيْهِ وَلَوْ بَعَثَ إلَيْهِ كِتَابًا حَلَّ لَهُ أَنْ يَرْوِيَ وَيَقُولَ أَخْبَرَنَا فُلَانٌ فَهُنَا كَذَلِكَ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى قَوْلِهِ وَجَدْت بِخَطِّ أَبِي أَوْ بِخَطِّ فُلَانٍ أَوْ فِي كِتَابِ فُلَانٍ لِيَكُونَ أَبْعَدَ عَنْ التُّهْمَةِ هَكَذَا فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِ الشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْكُتُبَ الْمُصَنَّفَةَ الَّتِي هِيَ مَشْهُورَةٌ فِي أَيْدِي النَّاسِ لَا بَأْسَ لِمَنْ نَظَرَ فِيهَا وَفَهِمَ شَيْئًا مِنْهَا وَكَانَ مُتْقِنًا فِي ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ قَالَ فُلَانٌ كَذَا أَوْ مَذْهَبُ فُلَانٍ كَذَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَ حَدَّثَنِي أَوْ أَخْبَرَنِي؛ لِأَنَّهَا مُسْتَفِيضَةٌ بِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ يُوقَفُ بِهِ عَلَى مَذْهَبِ الْمُصَنِّفِ وَإِنْ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ فَلَا بَأْسَ بِذِكْرِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ أَصْلًا مُعْتَمَدًا يُؤْمَنُ فِيهِ التَّصْحِيفُ وَالزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ، وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُسْتَصْفَى إذَا رَأَى مَكْتُوبًا بِخَطِّ ثِقَةٍ أَنِّي سَمِعْت عَنْ فُلَانٍ كَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ رِوَايَتَهُ شَهَادَةٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قَالَهُ وَالْخَطُّ لَا يَعْرِفُهُ هَذَا نَعَمْ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ رَأَيْت مَكْتُوبًا فِي كِتَابٍ بِخَطٍّ ظَنَنْتُ أَنَّهُ خَطُّ فُلَانٍ؛ فَإِنَّ الْخَطَّ قَدْ يُشْبِهُ الْخَطَّ، أَمَّا إذَا قَالَ هَذَا خَطِّي فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ وَلَكِنْ لَا يُرْوَى عَنْهُ مَا لَمْ يُسَلِّطْهُ عَلَى الرِّوَايَةِ بِصَرِيحِ قَوْلِهِ أَوْ بِقَرِينَةِ حَالِهِ كَالْجُلُوسِ لِرِوَايَةِ الْحَدِيثِ، أَمَّا إذَا قَالَ عَدْلٌ هَذِهِ نُسْخَةٌ صَحِيحَةٌ مِنْ نُسَخِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مَثَلًا فَرَأَى فِيهِ حَدِيثًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ وَلَكِنْ هَلْ يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِهِ إنْ كَانَ مُقَلِّدًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ الْمُجْتَهِدَ وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا فَقَالَ قَوْمٌ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ. وَقَالَ قَوْمٌ إذَا عَلِمَ صِحَّةَ النُّسْخَةِ بِقَوْلِ عَدْلٍ جَازَ لَهُ الْعَمَلُ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُمْ كَانُوا يَحْمِلُونَ صُحُفَ الصَّدَقَاتِ إلَى الْبِلَادِ وَكَانَ الْخَلْقُ يَعْتَمِدُونَ تِلْكَ الصُّحُفَ بِشَهَادَةِ حَامِلِي الصُّحُفِ بِصِحَّتِهَا دُونَ أَنْ يَسْمَعَهَا

[باب شرط نقل المتون]

وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَضْمُومًا إلَى جَمَاعَةٍ لَا يُتَوَهَّمُ التَّزْوِيرُ فِي مِثْلِهِ وَالنِّسْبَةُ تَامَّةٌ يَقَعُ بِهَا التَّعْرِيفُ فَيَكُونُ كَالْمَعْرُوفِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا طَرَفُ التَّبْلِيغِ فَقِسْمَانِ أَيْضًا عَزِيمَةٌ وَرُخْصَةٌ أَمَّا الْعَزِيمَةُ فَالتَّمَسُّكُ بِاللَّفْظِ الْمَسْمُوعِ، وَأَمَّا الرُّخْصَةُ فَالنَّقْلُ إلَى اللَّفْظِ يَخْتَارُهُ النَّاقِلُ. بَابُ شَرْطِ نَقْلِ الْمُتُونِ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَا رُخْصَةَ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَظُنُّهُ اخْتِيَارَ ثَعْلَبٍ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ قَالُوا لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـــــــــــــــــــــــــــــQكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ سُكُونَ النَّفْسِ وَغَلَبَةَ الظَّنِّ وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْوِيَ إلَّا مَا يَعْلَمُ سَمَاعَهُ أَوَّلًا وَحِفْظَهُ وَضَبْطَهُ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ بِحَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّ مَا أَدَّاهُ هُوَ الَّذِي سَمِعَ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْهُ حَرْفٌ فَإِنْ شَكَّ فِي شَيْءٍ فَلْيَتْرُكْ الرِّوَايَةَ فَإِذَا كَانَ فِي مَسْمُوعَاتِهِ مِنْ الزُّهْرِيِّ مَثَلًا حَدِيثٌ وَاحِدٌ شَكَّ فِي أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ الزُّهْرِيِّ أَمْ لَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقُولَ سَمِعْت الزُّهْرِيَّ وَلَا أَنْ يَقُولَ قَالَ الزُّهْرِيُّ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ قَالَ الزُّهْرِيُّ شَهَادَةٌ عَلَيْهِ وَلَا تَجُوزُ إلَّا عَنْ عِلْمٍ فَلَعَلَّهُ سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ كَمَنْ سَمِعَ إقْرَارًا وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْمُقِرَّ زَيْدٌ أَمْ عَمْرٌو لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى زَيْدٍ بَلْ يَقُولُ إنَّهُ لَوْ سَمِعَ مِائَةَ حَدِيثٍ مِنْ شَيْخٍ وَفِيهَا حَدِيثٌ وَاحِدٌ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ وَلَكِنَّهُ الْتَبَسَ عَلَيْهِ عَيْنُهُ فَلَيْسَ لَهُ رِوَايَةُ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ عَنْهُ إذْ مَا مِنْ حَدِيثٍ إلَّا وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي لَمْ يَسْمَعْهُ. وَلَوْ غَلَبَ ظَنُّهُ فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ الزُّهْرِيِّ لَمْ تَجُزْ الرِّوَايَةُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ، وَقَالَ قَوْمٌ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَهُوَ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ يَجُوزُ وَلَكِنْ فِي حَقِّ الْحَاكِمِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ صِدْقَ الشَّاهِدِ أَمَّا الشَّاهِدُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَقَّقَ؛ لِأَنَّ تَكْلِيفَهُ أَنْ لَا يَشْهَدَ إلَّا عَلَى الْمَعْلُومِ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ الْمُشَاهَدَةُ مُمْكِنٌ وَتَكْلِيفُ الْحَاكِمِ أَنْ لَا يَحْكُمَ إلَّا بِالصِّدْقِ مُحَالٌ فَكَذَلِكَ الرَّاوِي لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى مَعْرِفَةِ صِدْقِ الشَّيْخِ وَلَكِنْ لَهُ طَرِيقٌ إلَى مَعْرِفَةِ قَوْلِهِ بِالسَّمَاعِ فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُرْوَى. قَوْلُهُ (وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ مَضْمُومًا إلَى جَمَاعَةٍ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ وَجَدَ سَمَاعَهُ مَكْتُوبًا بِخَطٍّ لَا يَعْرِفُ كَاتِبَهُ فِي طَبَقَةِ سَمَاعٍ؛ فَإِنَّ مِنْ دَأْبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ يَكْتُبُونَ فِي آخِرِ مَا سَمِعُوهُ مِنْ كِتَابٍ عَلَى شَيْخٍ سَمِعَ هَذَا الْكِتَابَ مِنْ الشَّيْخِ فُلَانٍ أَوْ عَلَى الشَّيْخِ فُلَانٍ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ وَفُلَانُ بْنُ فُلَانٍ إلَى أَنْ يَأْتُوا عَلَى أَسْمَاءِ السَّامِعِينَ أَجْمَعَ فَإِذَا وَجَدَ سَمَاعَهُ مَكْتُوبًا بِخَطٍّ مَجْهُولٍ مَضْمُومًا إلَى سَمَاعِ جَمَاعَةٍ حَلَّ لَهُ أَنْ يَرْوِيَ لِانْتِفَاءِ تُهْمَةِ التَّزْوِيرِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْكَاتِبَ يَخَافُ فِي مِثْلِهِ أَنَّ الْمَكْتُوبَ لَوْ عُرِضَ عَلَيْهِمْ لَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ وَلَظَهَرَ كَذِبُهُ إذْ النِّسْيَانُ وَعَدَمُ التَّذَكُّرِ عَلَى الْجَمَاعَةِ نَادِرٌ فَيُحْتَرَزُ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا إذَا وُجِدَ مُفْرَدًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ وَجَدَ سَمَاعَهُ مَكْتُوبًا بِخُطُوطٍ مُخْتَلِفَةٍ مَجْهُولَةٍ بِأَنْ وَجَدَهُ مَكْتُوبًا بِخَطٍّ لَا يَعْرِفُ كَاتِبَهُ، وَقَدْ انْضَمَّ إلَيْهِ خُطُوطٌ أُخَرُ تَشْهَدُ بِصِدْقِ مَا تَضَمَّنَهُ ذَلِكَ الْخَطُّ وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ فِيمَا أَظُنُّ أَنَّ الرَّاوِيَ إذَا وَجَدَ سَمَاعَهُ مَكْتُوبًا مَجْهُولًا مُفْرَدًا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَرْوِيَ إلَّا إذَا كَانَ مَكْتُوبًا بِخُطُوطٍ كَثِيرَةٍ؛ فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَرْوِيَ وَإِنْ كَانَتْ الْخُطُوطُ مَجْهُولَةً؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَجْتَمِعُونَ هَاهُنَا عَلَى الزُّورِ وَالْكَذِبِ فَقُلْنَا بِأَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَرْوِيَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مُنْفَرِدًا فَقَدْ تَمَكَّنَتْ فِيهِ شُبْهَةٌ فَلَا يَحِلُّ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا فِي الْأَخْبَارِ خَاصَّةً فَأَمَّا فِي الشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ فَلَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَظَالِمِ الْعِبَادِ وَيُعْتَبَرُ فِيهِ مِنْ الِاسْتِقْصَاءِ مَا لَا يُعْتَبَرُ فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ وَاشْتِرَاطُ الْعِلْمِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذَا رَأَيْت مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ، وَإِلَّا فَدَعْ» وَالنِّسْبَةُ تَامَّةٌ أَيْ كَتْبُ اسْمِهِ وَاسْمُ أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ شَرْطِ نَقْلِ الْمُتُونِ] الْمُتُونُ جَمْعُ مَتْنٍ وَهُوَ مَا دُونَ الرِّيشِ مِنْ السَّهْمِ إلَى وَسَطِهِ وَاسْتُعِيرَ هَاهُنَا لِنَفْسِ الْحَدِيثِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا سَمِعَ مِنْ أَحَدٍ شِعْرًا مَثَلًا ثُمَّ أَنْشَدَهُ كَمَا سَمِعَهُ يُقَالُ هَذَا شِعْرُ فُلَانٍ وَإِنْ كَانَ

قَالَ «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنِّي مَقَالَةً فَوَعَاهَا وَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا» وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَخْصُوصٌ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ سَابِقٌ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْبَيَانِ فَلَا يُؤْمَنُ فِي النَّقْلِ التَّبْدِيلُ وَالتَّحْرِيفُ، ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا يَقْرَؤُهُ لَفْظُهُ حَقِيقَةً لِكَوْنِهِ مُحَاكِيًا وَمُطَابِقًا لِلَّفْظِ الْمَسْمُوعِ مِنْهُ فَكَذَلِكَ فِي بَابِ الرِّوَايَةِ إذَا كَانَ لَفْظُ الرَّاوِي مُحَاكِيًا لِلَفْظِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُقَالُ هَذَا حَدِيثُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَنَقَلَهُ بِلَفْظِهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَفْظُ الرَّاوِي حَقِيقَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَفْظُهُ مُحَاكِيًا لِلَفْظِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ كَانَ مُطَابِقًا لِمَعْنَاهُ يُقَالُ نَقَلَهُ بِالْمَعْنَى وَعَلَى هَذَا الْحُكْمُ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كُلِّ كَلَامٍ. ثُمَّ لَا خِلَافَ أَنَّ نَقْلَ الْحَدِيثِ بِلَفْظِهِ أَوْلَى فَأَمَّا نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ إلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ النَّاقِلُ عَارِفًا بِدَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ وَاخْتِلَافِ مَوَاقِعِهَا مَعَ شَرَائِطَ أُخَرَ سَنُبَيِّنُهَا، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَا يَجُوزُ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى بِحَالٍ وَهُوَ مَذْهَبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَتَمَسَّكُوا فِي ذَلِكَ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا مَقَالَةً فَوَعَاهَا وَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا» حَثَّ عَلَى الْأَدَاءِ كَمَا سَمِعَ وَذَلِكَ بِمُرَاعَاةِ اللَّفْظِ الْمَسْمُوعِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً» حَسَّنَ وَجْهَهُ مِنْ حَدٍّ دَخَلَ وَزَادَ فِي جَاهِهِ وَقَدَّرَهُ بَيْنَ خَلْقِهِ، وَيُرْوَى نَضَّرَ بِالتَّشْدِيدِ أَيْ نَعَّمَهُ وَبِالْمَعْقُولِ وَهُوَ أَنَّ النَّقْلَ بِالْمَعْنَى رُبَّمَا يُؤَدِّي إلَى اخْتِلَالِ مَعْنَى الْحَدِيثِ فَإِنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي إدْرَاكِ مَعْنَى اللَّفْظِ الْوَاحِدِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ «فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى غَيْرِ فَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» وَلِهَذَا يَحْمِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ عَلَى مَعْنًى لَا يَحْمِلُهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَقَدْ صَادَفْنَا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ يَتَنَبَّهُ فِي آيَةٍ أَوْ خَبَرٍ لِفَوَائِدَ لَمْ يَتَنَبَّهْ لَهَا أَهْلُ الْأَعْصَارِ السَّالِفَةِ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُحَقِّقِينَ فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ يَقِفَ السَّامِعُ عَلَى جَمِيعِ فَوَائِدِ اللَّفْظِ فِي الْحَالِ وَإِنْ كَانَ فَقِيهًا ذَكِيًّا مَعَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَكَانَ أَفْصَحَ الْعَرَبِ لِسَانًا وَأَحْسَنَهَا بَيَانًا فَلَوْ جَوَّزْنَا النَّقْلَ بِالْمَعْنَى رُبَّمَا حَصَلَ التَّفَاوُتُ الْعَظِيمُ مَعَ أَنَّ الرَّاوِيَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا تَفَاوُتَ وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ تَبْدِيلُ لَفْظِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِلَفْظٍ آخَرَ لَجَازَ تَبْدِيلُ لَفْظِ الرَّاوِي أَيْضًا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّغْيِيرَ فِي لَفْظِ غَيْرِ الشَّارِعِ أَيْسَرُ مِنْهُ فِي لَفْظِ الشَّارِعِ وَلَجَازَ ذَلِكَ فِي الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ وَذَلِكَ يُفْضِي إلَى سُقُوطِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنْ اجْتَهَدَ فِي تَطْبِيقِ التَّرْجَمَةِ لَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْ تَفَاوُتٍ وَإِنْ قَلَّ، فَإِذَا تَوَالَتْ هَذِهِ التَّفَاوُتَاتُ كَانَ التَّفَاوُتُ الْآخِرُ تَفَاوُتًا فَاحِشًا بِحَيْثُ لَا يَبْقَى بَيْنَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَبَيْنَ الْآخِرِ مُنَاسَبَةٌ. وَنُقِلَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنَ يَحْيَى ثَعْلَبٍ أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ هَذَا الْمَذْهَبَ وَيَقُولُ إنَّ عَامَّةَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَهَا نَظَائِرُ فِي اللُّغَةِ إذَا تَحَقَّقْتَهَا وَجَدْت كُلَّ لَفْظَةٍ مِنْهَا مُخْتَصَّةً بِشَيْءٍ لَا يُشَارِكُهَا صَاحِبَتُهَا فِيهِ فَمَنْ جَوَّزَ الْعِبَارَةَ بِبَعْضِهَا عَنْ الْبَعْضِ لَمْ يَسْلَمْ عَنْ الزَّيْغِ عَنْ الْمُرَادِ وَالذَّهَابِ عَنْهُ، وَمَعْنَى تَخْصِيصِ الشَّيْخِ إيَّاهُ بِالذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ وَأَظُنُّهُ أَيْ أَظُنُّ هَذَا الْقَوْلَ اخْتِيَارَ ثَعْلَبٍ أَنَّهُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِاسْتِخْرَاجِ هَذَا الدَّلِيلِ، وَالتَّبْدِيلُ وَالتَّحْرِيفُ فِي قَوْلِهِ فَلَا يُؤْمَنُ فِي النَّقْلِ التَّبْدِيلُ وَالتَّحْرِيفُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ التَّغْيِيرُ، وَتَمَسَّكَ الْجُمْهُورُ فِي تَجْوِيزِهِ فِي الْجُمْلَةِ أَيْ فِي تَجْوِيزِهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ عَلَى الْخُصُوصِ لَا فِي تَجْوِيزِهِ عَلَى الْعُمُومِ مِمَّا رَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ اللَّيْثِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ «أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْنَا لَهُ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا لَنَسْمَعُ مِنْك الْحَدِيثَ وَلَا نَقْدِرُ عَلَى تَأْدِيَتِهِ كَمَا سَمِعْنَاهُ مِنْك

وَقَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ رُخْصَةً لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى قَوْلِهِمْ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِكَذَا وَنَهَانَا عَنْ كَذَا، وَمَعْرُوفٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَذَا أَوْ نَحْوًا مِنْهُ قَرِيبًا مِنْهُ، وَفِي تَفْصِيلِ الرُّخْصَةِ جَوَابٌ عَمَّا قَالَ وَهَذَا لِأَنَّ النَّظْمَ مِنْ السُّنَّةِ غَيْرُ مُعْجِزٍ وَإِنَّمَا النَّظْمُ لِمَعْنَاهُ بِخِلَافِ الْقُرْآنِ، ـــــــــــــــــــــــــــــQقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا لَمْ تُحِلُّوا حَرَامًا وَلَا تُحَرِّمُوا حَلَالًا وَأَصَبْتُمْ الْمَعْنَى فَلَا بَأْسَ» كَذَا رَأَيْت بِخَطِّ الْإِمَامِ الْحَافِظِ أَبِي الرَّشِيدِ الْأَصْبَهَانِيِّ وَأَوْرَدَهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِ الْكِفَايَةِ فِي مَعْرِفَةِ أُصُولِ عِلْمِ الرِّوَايَةِ، وَبِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى رِوَايَتِهِمْ بَعْضَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي بِأَلْفَاظِهِمْ مِثْلِ مَا رَوَى صَفْوَانُ بْنُ عَسَّالٍ الْمُرَادِيُّ أَنَّ «النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَأْمُرُنَا إذَا كُنَّا سَفَرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا» الْحَدِيثَ. وَمَا رَوَى «أَبُو مَحْذُورَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَمَرَهُ بِالتَّرْجِيعِ» وَمَا رَوَى عَامِرُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ «أَمَرَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِقَتْلِ الْوَزَغِ وَسَمَّاهُ فُوَيْسِقًا» وَمَا رَوَى جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نَهَى عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَرَخَّصَ فِي الْعَرَايَا» وَمَا رَوَى أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ» وَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ صَفْقَةً وَاحِدَةً» وَمَا رَوَى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ أَوْ غَيْرُهُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ» فِي شَوَاهِدَ لَهَا كَثِيرَةٍ لَا تُحْصَى فَحَكَوْا مَعَانِيَ خِطَابِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَى لَفْظِهِ إذْ لَمْ يَقُولُوا قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - افْعَلُوا كَذَا أَوْ لَا تَفْعَلُوا كَذَا، وَكَانُوا يَنْقُلُونَ أَيْضًا الْحَدِيثَ الْوَاحِدَ الَّذِي جَرَى فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فِي وَاقِعَةٍ مُعَيَّنَةٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، مِثْلَ مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ «الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي بَالَ فِي الْمَسْجِدِ وَدَعَا بَعْدَ الْفَرَاغِ فَقَالَ اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَمْ بَعْدَنَا أَحَدًا أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لَهُ لَقَدْ تَحَجَّرْت وَاسِعًا» وَرُوِيَ لَقَدْ ضَيَّقْت وَاسِعًا لَقَدْ مَنَعْتَ وَاسِعًا وَمِثْلَ مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً، مَكَانَ نَضَّرَ اللَّهُ وَرُوِيَ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَا فِقْهَ لَهُ مَكَانَ غَيْرَ فَقِيهٍ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ فِي جَمِيعِ مَا قُلْنَا فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى الْجَوَازِ. وَبِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَنَسٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ عِنْدَ الرِّوَايَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ نَحْوًا مِنْهُ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ مُنْكِرٌ وَلَا دَفَعَهُمْ دَافِعٌ فَكَانَ إجْمَاعًا عَلَى الْجَوَازِ أَيْضًا، وَبِأَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ رَوَوْا هَذِهِ الْأَخْبَارَ مَا كَانُوا يَكْتُبُونَهَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَمَا كَانُوا يُكَرِّرُونَ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ بَلْ كَمَا سَمِعُوهَا تَرَكُوهَا وَمَا ذَكَرُوهَا إلَّا بَعْدَ الْأَعْصَارِ وَالسِّنِينَ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَطْعَ بِتَعَدُّدِ رِوَايَتِهَا عَلَى تِلْكَ الْأَلْفَاظِ، وَبِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى جَوَازِ شَرْحِ الشَّرْعِ لِلْعَجَمِ بِلِسَانِهِمْ، وَإِذَا جَازَ إبْدَالُ الْعَرَبِيَّةِ بِالْعَجَمِيَّةِ فَلَأَنْ يَجُوزَ إبْدَالُهَا بِعَرَبِيَّةٍ أُخْرَى أَوْلَى إذْ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْعَرَبِيَّةِ وَتَرْجَمَتِهَا بِالْعَرَبِيَّةِ أَقَلُّ مِمَّا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَجَمِيَّةِ، فَإِنْ قِيلَ لَا نِزَاعَ فِي جَوَازِ تَفْسِيرِهِ بِالْعَجَمِيَّةِ أَوْ بِالْعَرَبِيَّةِ إنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُنْقَلْ بِلَفْظِهِ لَا يَكُونُ حُجَّةً وَلَوْ قُلْتُمْ بِأَنَّهُ بَعْدَ التَّعْبِيرِ بِلَفْظٍ آخَرَ عَرَبِيٍّ أَوْ عَجَمِيٍّ يَبْقَى حُجَّةً قُلْنَا لِأَنَّ سُفَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يُبَلِّغُونَ أَوَامِرَهُ وَنَوَاهِيَهُ إلَى الْبِلَادِ بِلُغَتِهِمْ وَيُعَلِّمُونَهُمْ الشَّرْعَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ حُجَّةً بِالِاتِّفَاقِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ جَوَازُ التَّفْسِيرِ بِلُغَةٍ أُخْرَى لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ النَّقْلِ بِالْمَعْنَى؛ لِأَنَّ فِي التَّفْسِيرِ ضَرُورَةً إذْ الْعَجَمِيُّ لَا يَفْهَمُ اللَّفْظَ الْعَرَبِيَّ إلَّا بِالتَّفْسِيرِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي النَّقْلِ بِالْمَعْنَى أَلَا تَرَى أَنَّ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ بِجَمِيعِ اللُّغَاتِ جَائِزٌ وَلَمْ يَجُزْ

وَالسُّنَّةُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْوَاعٌ: مَا يَكُونُ مُحْكَمًا لَا يَشْتَبِهُ مَعْنَاهُ وَلَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَا وُضِعَ لَهُ، وَظَاهِرٌ يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَا ظَهَرَ مِنْ مَعْنَاهُ مِنْ عَامٍّ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ أَوْ حَقِيقَةً يَحْتَمِلُ الْمَجَازَ، وَمُشْكِلٌ أَوْ مُشْتَرَكٌ لَا يُعْمَلُ بِهِ إلَّا بِتَأْوِيلٍ، وَمُجْمَلٌ أَوْ مُتَشَابِهٌ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ الَّتِي اخْتَصَّ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيمَا يَحْكِي مِنْ اخْتِصَاصِهِ «وَأُوتِيت جَوَامِعَ الْكَلِمِ» فَهِيَ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا بَأْسَ لِمَنْ لَهُ بَصَرٌ بِوُجُوهِ اللُّغَةِ أَنْ يَنْقُلَهُ إلَى لَفْظٍ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُحْكَمًا مُفَسَّرًا أُمِنَ فِيهِ الْغَلَطُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِوُجُوهِ اللُّغَةِ فَثَبَتَ النَّقْلُ رُخْصَةً وَتَيْسِيرًا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ضَرْبٌ مِنْ الرُّخْصَةِ مَعَ أَنَّ النَّظْمَ مُعْجِزٌ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» وَإِنَّمَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِبَرَكَةِ دَعْوَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ رُخْصَةُ إسْقَاطٍ وَهَذِهِ رُخْصَةُ تَخْفِيفٍ وَتَيْسِيرٍ مَعَ قِيَامِ الْأَصْلِ عَلَى نَحْوِ مَا مَرَّ تَقْسِيمُهُ فِي بَابِ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَلَا رُخْصَةَ فِيهِ إلَّا لِمَنْ حَوَى إلَى عِلْمِ اللُّغَةِ فِقْهَ الشَّرِيعَةِ (كَشْفٌ) وَالْعِلْمَ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ (ثَالِثٌ) كَذَلِكَ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْقُلَهُ إلَى مَا لَا يَحْتَمِلُ مَا احْتَمَلَهُ اللَّفْظُ الْمَنْقُولُ مِنْ خُصُوصٍ أَوْ مَجَازٍ وَلَعَلَّ الْمُحْتَمَلَ هُوَ الْمُرَادُ وَلَعَلَّهُ يَزِيدُهُ عُمُومًا فَيُخِلُّ بِمَعَانِيهِ فِقْهًا وَشَرِيعَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــQنَقْلُهُ بِالْمَعْنَى بِالِاتِّفَاقِ فَثَبَتَ أَنَّ اعْتِبَارَ النَّقْلِ بِالتَّفْسِيرِ لَا يَصِحُّ، وَبِأَنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ مَقْصُودٍ فِي بَابِ الْحَدِيثِ كَالشَّهَادَةِ. وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَذْكُرُ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ بَلْ الْمَقْصُودُ هُوَ الْمَعْنَى وَهُوَ حَاصِلٌ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى اخْتِلَافِ اللَّفْظِ كَالشَّهَادَةِ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ فِيهَا الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ صَحَّ أَدَاؤُهَا بِالْمَعْنَى وَيُعْتَبَرُ اتِّفَاقُ الشُّهُودِ بِخِلَافِ الْقُرْآنِ وَالْأَذَانِ وَالتَّشَهُّدِ وَسَائِرِ مَا تُعُبِّدَ فِيهِ بِاللَّفْظِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ فِيهَا مَقْصُودٌ كَالْمَعْنَى حَتَّى تَعَلَّقَ جَوَازُ الصَّلَاةِ وَحُرْمَةُ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ بِالْآيَةِ الْمَنْسُوخَةِ فَلَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ بِالْمَعْنَى وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ وَهَذَا لِأَنَّ النَّظْمَ مِنْ السُّنَّةِ غَيْرُ مُعْجِزٍ إلَى آخِرِهِ أَيْ إذَا لَمْ يَكُنْ مُعْجِزًا لَا يَكُونُ مَقْصُودًا. قَوْلُهُ (وَالسُّنَّةُ فِي هَذَا الْبَابِ) أَيْ فِي النَّقْلِ بِالْمَعْنَى. مَا يَكُونُ مُحْكَمًا لَا يَشْتَبِهُ مَعْنَاهُ وَلَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَا وَضَعَ لَهُ إنَّمَا فَسَّرَهُ بِهِ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْمُحْكَمَ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ فِي ذَاتِهِ إنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْمُحْكَمَ عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ» كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّمَا جَازَ النَّقْلُ بِالْمَعْنَى عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ إذَا كَانَ ظَاهِرًا مُفَسَّرًا بِأَنْ قَالَ قَعَدَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ مَكَانَ مَا رُوِيَ عَنْهُ جَلَسَ، أَوْ أَقَامَ لَفْظَ الْعِلْمِ مَقَامَ الْمَعْرِفَةِ أَوْ الِاسْتِطَاعَةَ مَكَانَ الْقُدْرَةِ أَوْ الْحَظْرَ مَقَامَ التَّحْرِيمِ وَنَحْوِهَا. جَوَامِعُ الْكَلِمِ هِيَ الْأَلْفَاظُ الْيَسِيرَةُ الَّتِي تَجْمَعُ الْمَعَانِيَ الْكَثِيرَةَ وَالْأَحْكَامَ الْمُخْتَلِفَةَ وَاخْتَصَّ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ «فُضِّلْت بِسِتٍّ أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَنُصِرْت بِالرُّعْبِ. وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا وَأُرْسِلْت إلَى الْخَلْقِ كَافَّةً وَخُتِمَ بِي النَّبِيُّونَ» وَإِنَّمَا ثَبَتَ ذَلِكَ أَيْ التَّرَخُّصُ بِبَرَكَةِ دَعْوَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَيْ دُعَائِهِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ لِأُبَيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَا أُبَيَّ أُرْسِلَ إلَيَّ أَنْ اقْرَأْ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ فَرَدَدْتُ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي فَرَدَّ إلَيَّ الثَّانِيَةَ اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفٍ فَرَدَدْت أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي فَرَدَّ إلَيَّ الثَّالِثَةَ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» وَتَمَامُ الْحَدِيثِ فِي الْمَصَابِيحِ. غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ أَيْ التَّرَخُّصَ الَّذِي ثَبَتَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى رُخْصَةُ إسْقَاطٍ أَيْ رُخْصَةٌ لَازِمَةٌ وَهِيَ الَّتِي لَمْ تَبْقَ الْعَزِيمَةُ فِيهَا مَشْرُوعَةٌ مِثْلُ رُخْصَةِ الْقَصْرِ لِلْمُسَافِرِ وَرُخْصَةِ الْمَسْحِ لِلَابِسِ الْخُفِّ فَلَمْ يَبْقَ لُزُومُ رِعَايَةِ النَّظْمِ الْمُنَزَّلِ أَوَّلًا مَشْرُوعًا وَلَمْ تَبْقَ لَهُ أَوْلَوِيَّةٌ بَلْ سَاوَى الْأَحْرُفَ الْبَاقِيَةَ فِي الْقُرْآنِيَّةِ وَإِحْرَازِ الثَّوَابِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ لَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْأَحْرُفِ أَصْلًا وَالْبَاقِي رُخْصَةً. وَهَذِهِ أَيْ الرُّخْصَةُ الثَّابِتَةُ فِي نَقْلِ الْحَدِيثِ رُخْصَةُ تَيْسِيرٍ وَتَخْفِيفٍ حَتَّى كَانَ الْعَمَلُ بِالْعَزِيمَةِ وَهُوَ النَّقْلُ بِاللَّفْظِ الْمَسْمُوعِ أَوْلَى مِنْ النَّقْلِ بِالْمَعْنَى بِالِاتِّفَاقِ كَأَوْلَوِيَّةِ الصَّوْمِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ مِنْ الْإِفْطَارِ وَأَوْلَوِيَّةِ الصَّبْرِ عَلَى الْقَتْلِ فِي حَقِّ الْمُكْرَهِ عَلَى الْكُفْرِ مِنْ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ مَا كَانَ ظَاهِرًا يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَا ظَهَرَ مِنْ مَعْنَاهُ فَلَا رُخْصَةَ فِيهِ أَيْ لَا يَجُوزُ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى إلَّا لِمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْعِلْمَيْنِ اللُّغَةِ وَالْفِقْهِ (مِنْ خُصُوصٍ أَوْ مَجَازٍ) بَيَانٌ لِمَا احْتَمَلَهُ اللَّفْظُ يَعْنِي إذَا لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا رُبَّمَا يَنْقُلُهُ إلَى عِبَارَةٍ لَا تَكُونُ فِي احْتِمَالِ الْخُصُوصِ وَالْمَجَازِ مِثْلِ الْعِبَارَةِ الْأُولَى بِأَنْ يَضُمَّ إلَيْهَا مِنْ الْمُؤَكِّدَاتِ مَا يَقْطَعُ احْتِمَالَ

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَلَا يُخِلُّ فِيهِ النَّقْلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ إلَّا بِتَأْوِيلٍ وَتَأْوِيلُهُ عَلَى غَيْرِهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَأَمَّا الرَّابِعُ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ النَّقْلُ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْمُجْمَلَ مَا لَا يُفْهَمُ مُرَادُهُ إلَّا بِالتَّفْسِيرِ وَالْمُتَشَابِهَ مَا انْسَدَّ عَلَيْنَا بَابُ دَرْكِهِ وَابْتُلِينَا بِالْكَفِّ عَنْهُ. وَأَمَّا الْخَامِسُ فَإِنَّهُ لَا يُؤْمَنُ فِيهِ الْغَلَطُ لِإِحَاطَةِ الْجَوَامِعِ بِمَعَانٍ قَدْ يَقْصُرُ عَنْهَا عُقُولُ ذَوِي الْأَلْبَابِ، وَكُلُّ مُكَلَّفٍ بِمَا فِي وُسْعِهِ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وَالْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى وَيُعَدَّ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْجَوَامِعِ وَغَيْرِهَا لَكِنَّ هَذَا أَحْوَطُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْخُصُوصِ إنْ كَانَتْ عَامَّةً وَالْمَجَازِ إنْ كَانَتْ حَقِيقَةً وَلَعَلَّ الْمُحْتَمَلَ هُوَ الْمُرَادُ فَيَفْسُدُ الْمَعْنَى وَيَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ، مِثَالُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» فَمُوجِبُهُ الْعُمُومُ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مَنْ تَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ لَكِنْ الْمُرَادُ مِنْهُ مُحْتَمَلُهُ وَهُوَ الْخُصُوصُ إذْ الْأُنْثَى وَالصَّغِيرُ لَيْسَا بِمُرَادَيْنِ مِنْهُ لِمَا عُرِفَ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلنَّاقِلِ مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ رُبَّمَا يَنْقُلُهُ بِلَفْظٍ لَمْ يَبْقَ فِيهِ احْتِمَالُ الْخُصُوصِ بِأَنْ قَالَ مَثَلًا كُلُّ مَنْ ارْتَدَّ فَاقْتُلُوهُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى وَحِينَئِذٍ يَفْسُدُ الْمَعْنَى. وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يُسَمِّ» فَإِنَّ مُوجِبَهُ وَحَقِيقَتَهُ نَفْيُ الْجَوَازِ وَمُحْتَمَلُهُ نَفْيُ الْفَضِيلَةِ وَالْمُحْتَمَلُ هُوَ الْمُرَادُ لِدَلَائِلَ دَلَّتْ عَلَيْهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ النَّاقِلُ بِالْمَعْنَى فَقِيهًا رُبَّمَا يَنْقُلُهُ بِلَفْظٍ لَا يَبْقَى فِيهِ هَذَا الِاحْتِمَالُ بِأَنْ قَالَ مَثَلًا لَا يَجُوزُ وُضُوءُ مَنْ لَمْ يُسَمِّ فَيَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ وَيَفْسُدُ الْمَعْنَى، وَلَعَلَّهُ أَيْ النَّاقِلُ يُرِيدُهُ عُمُومًا بِأَنْ يَذْكُرَ جَمْعَ الْكَثْرَةِ مَقَامَ جَمْعِ الْقِلَّةِ أَوْ يَذْكُرَ لَفْظَ الْجَمَاعَةِ مَكَانَ الطَّائِفَةِ أَوْ يَذْكُرَ لَفْظَ الْجِنْسِ مَقَامَ الْعَامِّ صِفَةً وَمَعْنًى. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ الْمُشْكِلُ وَالْمُشْتَرَكُ فَلَا يُخِلُّ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ» فَإِنَّ مَعْنَاهُ إيجَادُ الطَّلَاقِ أَوْ إظْهَارُ الطَّلَاقِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرَكِ وَمِثْلُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا» فَإِنَّ التَّفَرُّقَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يَحْتَمِلُ التَّفَرُّقَ فِي الْقَوْلِ وَالْبَدَنِ كَذَا رَأَيْت بِخَطِّ شَيْخِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْقِسْمُ الْخَامِسُ) وَهُوَ جَوَامِعُ الْكَلِمِ فَلَا يُؤْمَنُ فِيهِ أَيْ فِي نَقْلِهِ بِالْمَعْنَى الْغَلَطُ لِإِحَاطَةِ الْجَوَامِعِ بِهِ فَلَا يُخِلُّ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى وَكُلُّ مُكَلَّفٍ بِمَا وَسِعَهُ كَأَنَّهُ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَمَّا كَانَ الْمَعْنَى هُوَ الْمَقْصُودَ مِنْ السُّنَّةِ لِأَلْفَاظِهَا وَلَا يُمْكِنُ دَرْكُ مَعَانِي جَوَامِعِ الْكَلِمِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ نَقْلُهُ بِاللَّفْظِ فَقَالَ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَرْكِ الْمَعَانِي فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى تَبْلِيغِ اللَّفْظِ فَكُلِّفَ بِمَا كَانَ فِي وُسْعِهِ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» أَيْ غَلَّةُ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى الْحَاصِلَةُ قَبْلَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ طَيِّبَةٌ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ لَوْ هَلَكَ قَبْلَ الرَّدِّ هَلَكَ مِنْ مَالِهِ كَذَا فِي لَبَاتَ الْغَرْبِيِّينَ. وَفِي الْفَائِقِ كُلُّ مَا خَرَجَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ خَرَاجُهُ فَخَرَاجُ الشَّجَرِ ثَمَرُهُ، وَخَرَاجُ الْحَيَوَانِ دَرُّهُ وَنَسْلُهُ. قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْغُرْمُ بِإِزَاءِ الْغُنْمِ» «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ» «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» . وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْجَوَامِعِ وَغَيْرِهَا يَعْنِي إنْ كَانَتْ الْكَلِمَةُ الْجَامِعَةُ ظَاهِرَةَ الْمَعْنَى يَجُوزُ نَقْلُهَا بِالْمَعْنَى عِنْدَهُمْ كَمَا يَجُوزُ نَقْلُ سَائِرِ الظَّوَاهِرِ وَلَكِنْ بِالشَّرْطِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ جَامِعًا لِعِلْمِ اللُّغَةِ وَفِقْهِ الشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ يُؤْمَنُ فِي نَقْلِهِ عَنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ يُخِلُّ بِمَعْنَى الْكَلَامِ كَمَا بَيَّنَّا فِي الظَّاهِرِ، لَكِنَّ هَذَا أَيْ عَدَمَ الْجَوَازِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ فَحْوَى الْكَلَامِ أَحْوَطُ الْوَجْهَيْنِ وَهُمَا الْجَوَازُ وَعَدَمُ الْجَوَازِ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ مَخْصُوصًا بِهَذَا النَّظْمِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ «أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ» أَيْ خُصِّصْت بِهَا فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ بَعْدَهُ عَلَى مَا كَانَ هُوَ مَخْصُوصًا بِهِ وَلَكِنْ كُلُّ مُكَلَّفٍ بِمَا فِي وُسْعِهِ وَفِي وُسْعِهِ نَقْلُ ذَلِكَ اللَّفْظِ لِيَكُونَ مُؤَدِّيًا إلَى غَيْرِهِ مَا سَمِعَهُ مِنْهُ بِيَقِينٍ، وَإِذَا نَقَلَهُ إلَى عِبَارَتِهِ لَمْ نَأْمَنْ الْقُصُورَ فِي الْمَعْنَى الْمَطْلُوبِ بِهِ وَنَتَيَقَّنُ بِالْقُصُورِ فِي النَّظْمِ الَّذِي هُوَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ وَكَانَ هَذَا النَّوْعُ هُوَ مُرَادُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ ثُمَّ أَدَّاهَا

[باب تقسيم الخبر من طريق المعنى]

(بَابُ تَقْسِيمِ الْخَبَرِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى) وَهُوَ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ: مَا هُوَ صِدْقٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَهُوَ خَبَرُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَذَلِكَ هُوَ الْمُتَوَاتِرُ مِنْهُ، وَقِسْمٌ فِيهِ شُبْهَةٌ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَقِسْمٌ مُحْتَمَلٌ تَرْجِيحُ جَانِبِ صِدْقِهِ وَهُوَ مَا مَرَّ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَقِسْمٌ مُحْتَمَلٌ عَارَضَ دَلِيلَ رُجْحَانِ الصِّدْقِ مِنْهُ مَا أَوْجَبَ وَقْفَهُ فَلَمْ يَقُمْ بِهِ الْحُجَّةُ وَذَلِكَ مِثْلُ مَا سَبَقَ مِنْ أَنْوَاعِ مَا يَسْقُطُ بِهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ، وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ الْخَبَرُ الْمَطْعُونُ الَّذِي رَدَّهُ السَّلَفُ وَأَنْكَرُوهُ وَهَذَا الْقِسْمُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ لَحِقَهُ الطَّعْنُ وَالنَّكِيرُ مِنْ رَاوِي الْحَدِيثِ وَنَوْعٌ آخَرُ مَا لَحِقَهُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ غَيْرِ الرَّاوِي. وَهَذَا (بَابُ مَا يَلْحَقُهُ النَّكِيرُ مِنْ قِبَلِ الرَّاوِي) وَهَذَا النَّوْعُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: مَا أَنْكَرَهُ صَرِيحًا، وَالثَّانِي أَنْ يَعْمَلَ بِخِلَافِهِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ أَوْ بَعْدَ مَا بَلَغَهُ أَوْ لَا يَعْرِفُ تَارِيخَهُ، ـــــــــــــــــــــــــــــQكَمَا سَمِعَهَا. وَبِمَا ذَكَرْنَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا قَالُوا إنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَخْصُوصٌ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ فَلَا يُؤْمَنُ فِي النَّقْلِ التَّبْدِيلُ وَالتَّحْرِيفُ؛ لِأَنَّا لَمْ نُجَوِّزْ النَّقْلَ فِي الْجَوَامِعِ وَلَا فِيمَا لَا يُؤْمَنُ فِيهِ عَنْ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ إنَّمَا جَوَّزْنَاهُ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ النَّاقِلُ عَالِمًا بِأَوْضَاعِ الْكَلَامِ أَوْ فِيمَا لَهُ مَعْنًى ظَاهِرٌ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ النَّاقِلُ جَامِعًا بَيْنَ الْعَرَبِيَّةِ وَالْفِقْهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يُؤْمَنُ فِيهِ عَنْ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ عَادَةً وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ وَفِي تَفْصِيلِ الرُّخْصَةِ جَوَابٌ عَمَّا قَالَ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا تَمَسُّك لَهُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ كَمَا سَمِعَ لَيْسَ بِمُقْتَصِرٍ عَلَى نَقْلِ الْمَعْنَى أَيْضًا فَإِنَّ الشَّاهِدَ أَوْ الْمُتَرْجِمَ إذَا أَدَّى الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ يُقَالُ إنَّهُ أَدَّى كَمَا سَمِعَ وَإِنْ كَانَ الْأَدَاءُ بِلَفْظٍ آخَرَ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ التَّأْدِيَةَ حَسَبَ مَا سَمِعَ إنَّمَا يَكُونُ بِاللَّفْظِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِرُجُوعِ الضَّمَائِرِ إلَى الْمُقَابَلَةِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ وَالْمَنْعِ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دَعَا لِمَنْ حَفِظَ اللَّفْظَ وَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مَرْغُوبٌ فِيهِ لَا عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ وَنَحْنُ نَقُولُ بِالْأَوْلَوِيَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ تَقْسِيمِ الْخَبَرِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى] (بَابُ تَقْسِيمِ الْخَبَرِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى) قُسِّمَ الْخَبَرُ فِي أَوَّلِ بَابِ بَيَانِ الْقِسْمِ الرَّابِعِ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْخَبَرِ وَقِسْمٌ يَرْجِعُ إلَى مَعْنَاهُ، وَقَدْ فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَشَرَعَ فِي بَيَانِ الْقِسْمِ الثَّانِي وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا التَّقْسِيمُ رَاجِعًا إلَى الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهَا فِي الْقُوَّةِ لَا بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ وَدَلَالَتِهِ عَلَى الْمَعْنَى إذْ الْمُتَوَاتِرُ وَالْمَشْهُورُ وَسَائِرُ الْأَقْسَامِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعْنَى سَوَاءٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقُوَّةَ أَمْرٌ مَعْنَوِيٌّ لَا صُورِيٌّ. قَوْلُهُ (وَقِسْمٌ مُحْتَمَلٌ عَارَضَ دَلِيلَ رُجْحَانِ الصِّدْقِ مِنْهُ مَا أَوْجَبَ وَقْفَهُ) أَيْ عَارَضَ كَوْنَهُ حُجَّةً مُوجِبَةً لِلْعَمَلِ مَا يُوجِبُ كَوْنَهُ غَيْرَ حُجَّةٍ وَيَمْنَعُهُ عَنْ إيجَابِ الْعَمَلِ وَيَجِبُ فِيهِ التَّوَقُّفُ مِثْلُ خَبَرِ الْفَاسِقِ وَنَحْوِهِ [بَابُ مَا يَلْحَقُهُ النَّكِيرُ مِنْ قِبَلِ الرَّاوِي] (بَابُ مَا يَلْحَقُهُ النَّكِيرُ مِنْ قِبَلِ رَاوِيهِ) النَّكِيرُ اسْمٌ لِلْإِنْكَارِ أَيْ يَلْحَقُهُ إنْكَارٌ مِنْ قِبَلِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ وَيُسَمَّى رَاوِيًا بِاعْتِبَارِ نَقْلِهِ الْحَدِيثَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْ عَنْ غَيْرِهِ وَمِنْ قِبَلِ عَيْنِهِ بِاعْتِبَارِ نَقْلِ السَّامِعِ عَنْهُ، وَفِي الصِّحَاحِ النَّكِيرُ وَالْإِنْكَارُ تَغَيُّرُ الْمُنْكَرِ فَكَأَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ بِالطَّعْنِ وَالتَّكْذِيبِ يُغَيِّرُ الْمُنْكَرَ الَّذِي ارْتَكَبَهُ الرَّاوِي عَلَى زَعْمِهِ قَوْلُهُ (أَمَّا إذَا أَنْكَرَهُ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ الرِّوَايَةَ فَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهِ) ذُكِرَ الِاخْتِلَافُ فِي هَذَا الْفَصْلِ مُطْلَقًا وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ، أَمَّا إنْ أَنْكَرَ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ إنْكَارَ جَاحِدٍ مُكَذِّبٍ بِأَنْ قَالَ مَا رَوَيْتُ لَك هَذَا الْحَدِيثَ قَطُّ أَوْ كَذَبْت عَلَيَّ أَوْ أَنْكَرَهُ إنْكَارَ مُتَوَقِّفٍ بِأَنْ قَالَ لَا أَذْكُرُ أَنِّي رَوَيْت لَك هَذَا الْحَدِيثَ أَوْ لَا أَعْرِفُهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَسْقُطُ الْعَمَلُ بِهِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ مُكَذِّبٌ لِلْآخَرِ فَلَا بُدَّ مِنْ كَذِبِ وَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْقَدْحِ فِي الْحَدِيثِ وَلَكِنْ لَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي عَدَالَتِهِمَا لِلتَّيَقُّنِ بِعَدَالَةِ كُلِّ وَاحِدٍ وَوُقُوعِ الشَّكِّ فِي زَوَالِهَا فَلَا يُتْرَكُ الْيَقِينُ بِالشَّكِّ كَبَيِّنَتَيْنِ مُتَكَافِئَتَيْنِ مُتَعَارِضَتَيْنِ لَمْ تُقْبَلَا وَلَمْ تَسْقُطْ عَدَالَتُهُمَا وَفَائِدَتُهُ

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ يُعَيِّنَ بَعْضَ مَا احْتَمَلَهُ الْحَدِيثُ مِنْ تَأْوِيلٍ أَوْ تَخْصِيصٍ، وَالرَّابِعُ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ الْعَمَلِ بِهِ. أَمَّا إذَا أَنْكَرَ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ الرِّوَايَةَ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَسْقُطُ الْعَمَلُ بِهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَسْقُطُ الْعَمَلُ بِهِ وَهَذَا أَشْبَهُ، وَقَدْ قِيلَ إنَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ أَنْ يَسْقُطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَسْقُطُ وَهُوَ فَرْعُ اخْتِلَافِهِمَا فِي شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى الْقَاضِي بِقَضِيَّةٍ وَهُوَ لَا يَذْكُرُهَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تُقْبَلُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ تُقْبَلُ. أَمَّا مَنْ قَبِلَهُ فَقَدْ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَقْبَلْ خَبَرَهُ حَيْثُ قَالَ أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَهَا فَقَالَ كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ ذَلِكَ قَدْ كَانَ، وَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَا نَعَمْ فَقَبِلَ شَهَادَتَهُمَا عَلَى نَفْسِهِ بِمَا لَمْ يَذْكُرْ وَلِأَنَّ النِّسْيَانَ مُحْتَمَلٌ مِنْ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَصِحُّ إلَّا بِتَحْمِيلِ الْأُصُولِ فَلِذَلِكَ بَطَلَتْ بِإِنْكَارِهِمْ، وَالْحُجَّةُ لِلْقَوْلِ الثَّانِي مَا رُوِيَ عَنْ «عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ أَمَا تَذْكُرُ حَيْثُ كُنَّا فِي إبِلٍ فَأَجْنَبْتُ فَتَمَعَّكْت فِي التُّرَابِ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ إنَّمَا كَانَ يَكْفِيك ضَرْبَتَانِ» فَلَمْ يَذْكُرْهُ عُمَرُ فَلَمْ يَقْبَلْ خَبَرَهُ مَعَ عَدَالَتِهِ وَفَضْلِهِ وَلِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُرَدُّ بِتَكْذِيبِ الْعَادَةِ فَتَكْذِيبُ الرَّاوِي - وَعَلَيْهِ مَدَارُهُ - أَوْلَى، وَحَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذَكَرَهُ فَعَمِلَ بِذِكْرِهِ وَعِلْمِهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ فَمَا كَانَ يُقِرُّ عَلَى ـــــــــــــــــــــــــــــQتَظْهَرُ فِي قَبُولِ رِوَايَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْخَبَرِ كَذَا فِي عَامَّةِ نُسَخِ الْأُصُولِ، وَذَكَرَ فِي الْقَوَاطِعِ إذَا جَحَدَ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ وَكَذَّبَ بِالْحَدِيثِ سَقَطَ الْحَدِيثُ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ وَأَقُولُ يَجُوزُ أَنْ لَا يَسْقُطَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ مَا قَالَ بِحَسَبِ ظَنِّهِ. وَإِنْ قَالَ مَا رَوَيْتُهُ أَصْلًا فَيُعَارِضُهُ قَوْلُ الرَّاوِي إنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثِقَةٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ رَوَاهُ ثُمَّ نَسِيَهُ فَلَا يَسْقُطُ رِوَايَةُ الرَّاوِي بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ثِقَةً وَأَمَّا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ إلَى أَنَّ الْعَمَلَ يَسْقُطُ بِهِ كَمَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مُخْتَارُ الْقَاضِي الْإِمَامِ وَالشَّيْخَيْنِ وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ الْعَمَلُ بِهِ كَمَا لَوْ لَمْ يُنْكِرْ، وَمَا قِيلَ إنَّ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ عُلَمَائِنَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَبْطُلَ الْخَبَرُ بِإِنْكَارِ رَاوِي الْأَصْلِ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ يَبْطُلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ زَوْجَ الْمُعْتَدَّةِ لَوْ قَالَ أَخْبَرَتْنِي أَنَّ عِدَّتَهَا قَدْ انْقَضَتْ، وَقَدْ أَنْكَرَتْ الْمَرْأَةُ الْإِخْبَارَ فَعِنْدَنَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ بَعْدَ إنْكَارِهَا حَتَّى يَحِلَّ لَهُ التَّزَوُّجُ بِأُخْتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ إلَّا فِي حَقِّهَا حَتَّى حَلَّ لَهُ نِكَاحُ الْأُخْتِ وَالْأَرْبَعِ وَلَمْ يَحِلَّ لَهَا التَّزَوُّجُ بِزَوْجٍ آخَرَ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ جَوَازَ نِكَاحِ الْأُخْتِ وَالْأَرْبَعِ لَهُ بِاعْتِبَارِ ظُهُورِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي حَقِّهِ بِقَوْلِهِ لِكَوْنِهِ أَمِينًا فِي الْإِخْبَارِ عَنْ أَمْرٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ لَا لِاتِّصَالِ الْخَبَرِ بِهَا وَإِسْنَادِهِ إلَيْهَا، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَلَمْ يُضِفْ الْخَبَرَ إلَيْهَا كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْجَوَابِ كَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَاحْتَجَّ مَنْ قَبْلَهُ بِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِنَا صَلَاةَ الْعَصْرِ فَسَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ فَقَامَ إلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ غَضْبَانُ وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَاهُ أَنْ يُكَلِّمَاهُ وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ فِي يَدَيْهِ طُولٌ يُقَالُ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ فَقَالَ كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فَقَالَ قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ أَحَقٌّ مَا يَقُولُهُ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَا نَعَمْ فَقَامَ وَأَتَمَّ صَلَاتَهُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ» وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَدَّ حَدِيثَ ذِي الْيَدَيْنِ ثُمَّ لَمْ يَرُدَّ حَدِيثَهُ حَتَّى عَمِلَ بِقَوْلِ النَّاسِ أَوْ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِنَاءً عَلَى خَبَرِهِ فَلَوْ لَمْ يَبْقَ حُجَّةٌ بَعْدَ الرَّدِّ لَمَا عَمِلَ بِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هَكَذَا ذَكَرَ فِي نُسْخَةٍ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ وَأَظُنُّهَا لِلشَّيْخِ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ اسْمُ ذِي الْيَدَيْنِ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ وَقِيلَ اسْمُهُ عَبْدُ عَمْرٍو بْنُ نَضْلَةَ وَقِيلَ اسْمُهُ ذُو الشِّمَالَيْنِ اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَالَ الْقُتَبِيُّ ذُو الشِّمَالَيْنِ الَّذِي اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ بَدْرٍ غَيْرُ ذِي الْيَدَيْنِ وَاسْمُ ذُو الْيَدَيْنِ عُمَيْرُ بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو، وَقَالَ الْقُتَبِيُّ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْمَلُ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا، وَقِيلَ لَقَبُهُ الْخِرْبَاقُ، وَبِأَنَّ حَالَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْتَمَلَةٌ فَإِنَّ حَالَ الْمُدَّعِي يَحْتَمِلُ السَّهْوَ وَالْغَلَطَ وَحَالَ الْمُنْكِرِ يَحْتَمِلُ النِّسْيَانَ وَالْغَفْلَةَ إذْ النِّسْيَانُ قَدْ يَرْوِي شَيْئًا لِغَيْرِهِ ثُمَّ يَنْسَى بَعْدَ مُدَّةٍ فَلَا يَتَذَكَّرُهُ أَصْلًا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَدْلٌ ثِقَةٌ فَكَانَ مُصَدَّقًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَا يَبْطُلُ مَا تَرَجَّحَ مِنْ جِهَةِ الصِّدْقِ فِي خَبَرِ الرَّاوِي بِعَدَالَتِهِ بِنِسْيَانِ الْآخَرِ كَمَا لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ وَجُنُونِهِ فَحَلَّ لِلرَّاوِي الرِّوَايَةُ. وَهَذَا بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ فَإِنَّ الْأَصْلَ إذَا أَنْكَرَ لَا يَحِلُّ لِلْفَرْعِ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى التَّحْمِيلِ فَإِذَا أَنْكَرَ الْأَصْلُ سَقَطَ التَّحْمِيلُ وَبَقِيَ الْعِلْمُ فَلَا يَحِلُّ لَهُ الشَّهَادَةُ فَأَمَّا الرِّوَايَةُ فَمَبْنِيَّةٌ عَلَى السَّمَاعِ دُونَ التَّحْمِيلِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَمِعَ الْحَدِيثَ

الْخَطَأِ، وَالْحَاكِي يَحْتَمِلُ النِّسْيَانَ بِأَنْ سَمِعَ غَيْرَهُ فَنَسِيَهُ وَهُمَا فِي الِاحْتِمَالِ عَلَى ـــــــــــــــــــــــــــــQوَلَمْ يَحْمِلْهُ الْمُحَدِّثُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِسَمَاعِهِ حَلَّ لِلسَّامِعِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فَإِذَا أَنْكَرَهَا وَالْمُدَّعِي مُصَدَّقٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ بَقِيَ السَّمَاعُ فَحَلَّ لَهُ الرِّوَايَةُ كَذَا فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ، وَاحْتَجَّ مَنْ رَدَّهُ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَكَانَ لَا يَرَى التَّيَمُّمَ لِلْجُنُبِ - أَمَا تَذْكُرُ إذْ كُنَّا فِي إبِلٍ يَعْنِي إبِلَ الصَّدَقَةِ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي سَرِيَّةٍ فَأَجْنَبْتُ فَتَمَعَّكْت فِي التُّرَابِ أَيْ تَمَرَّغْت فَصَلَّيْت فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ «إنَّمَا يَكْفِيَك أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْكَ الْأَرْضَ ثُمَّ تَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَك وَذِرَاعَيْك» فَلَمْ يَرْفَعْ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأْسَهُ وَلَمْ يَقْبَلْ رِوَايَتَهُ مَعَ أَنَّهُ كَانَ عَدْلًا؛ لِأَنَّهُ رَوَى عَنْهُ شُهُودٌ الْحَادِثَةَ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ هُوَ مَا رَوَاهُ وَكَانَ لَا يَرَى التَّيَمُّمَ لِلْجُنُبِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَبِأَنَّ بِتَكْذِيبِ الْعَادَةِ يُرَدُّ الْحَدِيثُ بِأَنْ كَانَ الْخَبَرُ غَرِيبًا فِي حَادِثَةٍ مَشْهُورَةٍ فَبِتَكْذِيبِ الرَّاوِي أَوْلَى؛ لِأَنَّ تَكْذِيبَهُ أَدَلُّ عَلَى الْوَهْنِ مِنْ تَكْذِيبِ الْعَادَةِ؛ لِأَنَّهُ يَدُورُ عَلَيْهِ وَهُوَ تَكْذِيبٌ صَرِيحًا وَذَلِكَ تَكْذِيبٌ دَلَالَةً وَالصَّرِيحُ رَاجِحٌ عَلَى الدَّلَالَةِ، وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً وَمَعْمُولًا بِهِ بِالِاتِّصَالِ بِالرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِإِنْكَارِ الرَّاوِي يَنْقَطِعُ الِاتِّصَالُ؛ لِأَنَّ إنْكَارَهُ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِوَايَةُ الْحَدِيثِ أَوْ يَصِيرُ هُوَ مُنَاقِضًا بِإِنْكَارِهِ وَمَعَ التَّنَاقُضِ لَا تَثْبُتُ الرِّوَايَةُ وَبِدُونِ الرِّوَايَةِ لَا يَثْبُتُ الِاتِّصَالُ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً كَمَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَبِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَذَكَّرْ بِالتَّذْكِيرِ كَانَ مُغَفَّلًا وَرِوَايَةُ الْمُغَفَّلِ لَا تُقْبَلُ، وَبِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُصَدَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَيَحِلُّ لِلرَّاوِي أَنْ يَعْمَلَ بِهِ وَلَا يَحِلُّ لِغَيْرِهِ لِتَحَقُّقِ الِانْقِطَاعِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ بِتَكْذِيبِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ وَأَمَّا حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ؛ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَذَكَّرَ أَنَّهُ تَرَكَ الشَّفْعَ مِنْ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ عَنْ التَّقْرِيرِ عَلَى الْخَطَأِ يُعْمَلُ بِعِلْمِهِ لَا بِإِخْبَارِ أَحَدٍ. أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَذَكَّرْ وَاحِدٌ بِقَوْلِهِمَا لَكَانَ هَذَا تَقْلِيدًا مِنْهُ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَذَكَّرْ لَا يَحْصُلُ لَهُ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ بِدُونِ الْعِلْمِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ الْغَيْرِ تَقْلِيدًا وَتَقْلِيدُهُ لِلْأَنْبِيَاءِ غَيْرُ جَائِزٍ فَكَيْفَ يَجُوزُ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ تَذَكَّرَ غَفْلَتَهُ عَنْ حَالِهِ لِشَغْلِ. قَلْبٍ اعْتَرَضَ فَيُعْرَفُ عَنْ غَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي الْخَبَرِ إنَّ رَاوِيَ الْأَصْلِ يَنْظُرُ فِي نَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ رَأْيُهُ يَمِيلُ إلَى غَلَبَةِ نِسْيَانٍ أَوْ كَانَتْ عَادَتُهُ ذَلِكَ فِي مَحْفُوظَاتِهِ قَبْلَ رِوَايَةِ غَيْرِهِ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ رَأْيُهُ يَمِيلُ إلَى جَهْلِهِ أَصْلًا بِذَلِكَ الْخَبَرِ رَدَّهُ وَقَلَّمَا يَنْسَى الْإِنْسَانُ شَيْئًا ضَبَطَهُ نِسْيَانًا لَا يَتَذَكَّرُ بِالتَّذْكِيرِ وَالْأُمُورُ تُبْنَى عَلَى الظَّوَاهِرِ لَا عَلَى النَّوَادِرِ كَذَا فِي التَّقْوِيمِ قَوْلُهُ (وَالْحَاكِي يَحْتَمِلُ النِّسْيَانَ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ النِّسْيَانُ مُحْتَمَلٌ مِنْ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ يَعْنِي كَمَا يُتَوَهَّمُ نِسْيَانُ الْأَصْلِ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ يُتَوَهَّمُ نِسْيَانُ الْفَرْعِ وَغَلَطُهُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَسْمَعُ حَدِيثًا فَيَحْفَظُهُ وَلَا يَحْفَظُ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ وَيَظُنُّ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ فُلَانٍ، وَقَدْ سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَثْبُتُ الْمُعَارَضَةُ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الِاحْتِمَالِ فَلَمْ يَثْبُتْ أَحَدُهُمَا، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ كَمَا يَعْلَمُ بِسَمَاعِهِ عَنْ أَمْرِ يَقِينٍ يَعْلَمُ بِتَرْكِهِ الرِّوَايَةَ عَنْ سَبَبِ يَقِينٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ كَذَا فِي التَّقْوِيمِ أَيْضًا، لَكِنَّ هَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ فِيمَا إذَا كَانَ إنْكَارُ الْأَصْلِ إنْكَارَ جُحُودٍ وَالْخُصُومُ قَدْ سَلَّمُوا فِيهِ أَنَّهُ مَرْدُودٌ فَأَمَّا إذَا كَانَ إنْكَارُهُ إنْكَارَ مُتَوَقِّفٍ وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ التَّنَازُعُ فِيهِ فَلَا يَسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّ الْفَرْعَ عَدْلٌ جَازِمٌ بِرِوَايَتِهِ عَنْ الْأَصْلِ وَالْأَصْلُ لَيْسَ بِمُكَذِّبٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ لَا أَدْرِي فَلَا يَكُونُ الِاحْتِمَالُ فِي الْفَرْعِ مِثْلُ الِاحْتِمَالِ

السَّوَاءِ وَمِثَالُ ذَلِكَ حَدِيثُ رَبِيعَةَ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ فِي الشَّاهِدَيْنِ وَالْيَمِينِ أَنَّ سُهَيْلًا سُئِلَ عَنْ رِوَايَةِ رَبِيعَةَ عَنْهُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ وَكَانَ يَقُولُ حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ عَنِّي وَمِثْلُ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا نِكَاحُهَا بَاطِلٌ» رَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى عَنْ الزُّهْرِيِّ وَسَأَلَ ابْنُ جُرَيْجٍ الزُّهْرِيَّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ فَلَمْ تَقُمْ بِهِ الْحُجَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ أَنْكَرَ مَسَائِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ حَكَاهَا عَنْهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَلَمْ يَقْبَلْ شَهَادَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ حِينَ لَمْ يَذْكُرْ وَصَحَّحَ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي الْأَصْلِ بَلْ الِاحْتِمَالُ فِي الْأَصْلِ أَقْوَى فَلَا يَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ فَوَجَبَ قَبُولُ رِوَايَةِ الْفَرْعِ حِينَئِذٍ لِحُصُولِ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِصِدْقِهِ وَسَلَامَتِهِ عَنْ الْمُعَارَضَةِ. وَذَكَرَ فِي الْمَحْصُولِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ رَاوِيَ الْفَرْعِ إمَّا أَنْ يَكُونَ جَازِمًا بِالرِّوَايَةِ أَوْ لَا يَكُونُ، فَإِنْ كَانَ جَازِمًا فَالْأَصْلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ جَازِمًا بِالْإِنْكَارِ أَوْ لَا يَكُونَ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَقَدْ تَعَارَضَا فَلَا يُقْبَلُ الْحَدِيثُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَإِمَّا أَنْ يَقُولَ الْأَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ أَنِّي رَوَيْتُهُ أَوْ الْأَغْلَبُ أَنِّي مَا رَوَيْته أَوْ الْأَمْرَانِ عَلَى السَّوَاءِ أَوْ لَا يَقُولَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مَقْبُولًا فِي كُلِّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ لِكَوْنِ الْفَرْعِ جَازِمًا، وَإِنْ كَانَ الْفَرْعُ غَيْرَ جَازِمٍ بَلْ يَقُولُ أَظُنُّ أَنِّي سَمِعْته مِنْكَ فَإِنْ جَزَمَ الْأَصْلُ أَبَى مَا رَوَيْته لَك تَعَيَّنَ الرَّدُّ، وَإِنْ قَالَ أَظُنُّ أَنِّي مَا رَوَيْته لَك تَعَارَضَا وَالْأَصْلُ الْعَدَمُ، وَإِنْ ذَهَبَ إلَى سَائِرِ الْأَقْسَامِ فَالْأَشْبَهُ قَبُولُهُ، وَالضَّابِطُ أَنَّهُ إذَا كَانَ قَوْلُ الْأَصْلِ مُعَادِلًا لِقَوْلِ الْفَرْعِ تَعَارَضَا، وَإِذَا تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الرَّاجِحُ قَوْلُهُ (وَمِثَالُ ذَلِكَ) أَيْ مِثَالُ الْحَدِيثِ الَّذِي أَنْكَرَهُ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ حَدِيثُ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ» فَإِنَّ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيَّ قَالَ لَقِيت سُهَيْلًا فَسَأَلْته عَنْ رِوَايَةِ رَبِيعَةَ عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ فَلَمْ يَعْرِفْهُ وَكَانَ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ عَنِّي، فَأَصْحَابُنَا لَمْ يَقْبَلُوا هَذَا الْحَدِيثَ لِانْقِطَاعِهِ بِإِنْكَارِ سُهَيْلٍ وَتَمَسَّك بِهِ بَعْضُ مَنْ قَبِلَ هَذَا النَّوْعَ فَقَالَ لَمَّا قَالَ سُهَيْلٌ حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ عَنِّي وَشَاعَ وَذَاعَ ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى قَبُولِهِ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ، غَايَتُهُ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَنْ يَقُولَ الْأَصْلُ بَعْدَ النِّسْيَانِ حَدَّثَنِي الْفَرْعُ عَنِّي وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِهِ وَلَا جَوَازَهُ. 1 - قَوْلُهُ (وَمِثْلُ حَدِيثِ عَائِشَةَ) رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ بِنَذْرِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» الْحَدِيثَ. فَذَكَرَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَنْهُ ابْنَ شِهَابٍ فَلَمْ يَعْرِفْهُ كَذَا ذَكَرَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ عَنْ ابْنِ أَبِي عُلَيَّةَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، فَلَمَّا رَدَّهُ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ وَهُوَ الزُّهْرِيُّ لَمْ يَقُمْ بِهِ الْحُجَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا الْأَصْلِ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِمَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَسْأَلَةُ الشَّاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى الْقَاضِي يَقْضِيه وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى وِفَاقِ قَوْلِهِمَا إلَى أَنَّهُ لَمْ يُجَوِّزْ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ لِأَحَادِيثَ أُخَرَ وَرَدَ فِيهِ مِثْلُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تُنْكِحُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ وَلَا الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فَإِنَّ الزَّانِيَةَ هِيَ الَّتِي تُنْكِحُ نَفْسَهَا» . وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كُلُّ نِكَاحٍ لَمْ يَحْضُرْهُ أَرْبَعٌ فَهُوَ سِفَاحٌ خَاطِبٌ وَوَلِيٌّ وَشَاهِدَا عَدْلٍ» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» ، وَنَحْوُهَا إلَّا أَنَّ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ عِنْدَهُمَا غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهَا لِمُعَارَضَتِهَا بِأَحَادِيثَ أُخَرَ مِثْلِ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا» ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ امْرَأَةً زَوَّجَتْ ابْنَتَهَا بِرِضَاهَا فَجَاءَ أَوْلِيَاؤُهُمَا فَخَاصَمُوهَا إلَى عَلِيٍّ فَأَجَازَ النِّكَاحَ. وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ» وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَحَادِيثِ

وَأَمَّا إذَا عَمِلَ بِخِلَافِهِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ رِوَايَتِهِ وَقَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ لَمْ يَكُنْ جَرْحًا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ تَرَكَهُ بِالْحَدِيثِ إحْسَانًا لِلظَّنِّ بِهِ، وَأَمَّا إذَا عَمِلَ بِخِلَافِهِ بَعْدَهُ مِمَّا هُوَ خِلَافٌ بِيَقِينٍ فَإِنَّ ذَلِكَ جَرْحٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنْ كَانَ حَقًّا فَقَدْ بَطَلَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَإِنْ كَانَ خِلَافُهُ بَاطِلًا فَقَدْ سَقَطَ بِهِ رِوَايَتُهُ إلَّا أَنْ يَعْمَلَ بِبَعْضِ مَا يَحْتَمِلُهُ الْحَدِيثُ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ تَارِيخُهُ لَمْ يَسْقُطْ الِاحْتِجَاجُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ فِي الْأَصْلِ فَلَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ وَذَلِكَ مِثْلُ حَدِيثِ عَائِشَةَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْأَسْرَارِ وَشَرْحِ الْآثَارِ وَالْمَبْسُوطِ، وَرَأَيْت فِي نُسْخَةٍ نَقْلًا عَنْ خَطِّ الشَّيْخِ الْإِمَامِ سَيْفِ الْحَقِّ وَالدِّينِ الْبَاخَرْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مَدَارَ حَدِيثِ «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا» عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى الدِّمَشْقِيِّ صَاحِبِ الْمَنَاكِيرِ ضَعَّفَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، ثُمَّ السُّؤَالُ إذَا كَانَ بِمَعْنَى الِالْتِمَاسِ يَتَعَدَّى إلَى مَفْعُولَيْهِ بِنَفْسِهِ يُقَالُ سَأَلْتُهُ الرَّغِيفَ، وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الِاسْتِفْسَارِ يَتَعَدَّى إلَى الْأَوَّلِ بِنَفْسِهِ وَإِلَى الثَّانِي بِعَنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} [طه: 105] ، {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ} [الأعراف: 163] فَعَرَفْت بِهَذَا أَنَّ كَلِمَةَ عَنْ فِي قَوْلِهِ عَنْ الزُّهْرِيِّ لَمْ يَقَعْ مَوْقِعَهَا وَأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ وَسَأَلَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ كَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ لَا وَجْهَ لَهُ بَلْ الصَّوَابُ وَسَأَلَ ابْنُ جُرَيْجٍ الزُّهْرِيَّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ. قَوْلُهُ (وَمِثَالُ ذَلِكَ) أَيْ مِثَالُ إنْكَارِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ فِي غَيْرِ الْأَحَادِيثِ مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ كَانَ يَتَوَقَّعُ مِنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ كِتَابًا فَصَنَّفَ مُحَمَّدٌ كِتَابَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَأَسْنَدَهُ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ بِوَاسِطَةِ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَلَمَّا عُرِضَ عَلَى أَبِي يُوسُفَ اسْتَحْسَنَهُ. وَقَالَ حَفِظَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إلَّا مَسَائِلَ خَطَّأَهُ فِي رِوَايَتِهَا عَنْهُ فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ مُحَمَّدًا قَالَ بَلْ حَفِظْتُهَا وَنَسِيَ هُوَ فَلَمْ يَقْبَلْ أَبُو يُوسُفَ شَهَادَةَ مُحَمَّدٍ عَلَى نَفْسِهِ لَمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ وَلَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى إخْبَارِهِ عَنْهُ، وَصَحَّحَ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ أَيْ أَصَرَّ عَلَى مَا رُوِيَ وَلَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ بِإِنْكَارِهِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَسْقُطُ الْخَبَرُ بِإِنْكَارِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَاخْتُلِفَ فِي عَدَدِ تِلْكَ الْمَسَائِلِ فَقِيلَ هِيَ ثَلَاثٌ وَقِيلَ هِيَ أَرْبَعٌ وَقِيلَ سِتٌّ وَالِاخْتِلَافُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْعَرَضِ وَجَمِيعُهَا مَذْكُورٌ فِي أَوَّلِ شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قَوْلُهُ (وَأَمَّا إذَا عَمِلَ بِخِلَافِهِ) عَمَلُ الرَّاوِي بِخِلَافِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَوْ فَتْوَاهُ بِخِلَافِهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ رِوَايَتِهِ الْحَدِيثَ وَقَبْلَ بُلُوغِهِ إيَّاهُ، أَوْ بَعْدَ الْبُلُوغِ قَبْلَ الرِّوَايَةِ، أَوْ بَعْدَ الرِّوَايَةِ وَلَا يَخْلُو كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ خِلَافًا بِيَقِينٍ أَيْ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنْ الْخَبَرِ بِوَجْهٍ أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الرِّوَايَةِ وَقَبْلَ بُلُوغِهِ إيَّاهُ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ جَرْحًا فِي الْحَدِيثِ بِوَجْهٍ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَذْهَبُهُ وَأَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ الْخِلَافَ بِالْحَدِيثِ وَرَجَعَ إلَيْهِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ إحْسَانًا لِلظَّنِّ. أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ بَعْدَ تَحْرِيمِهَا قَبْلَ بُلُوغِهِ إيَّاهُمْ مُعْتَقِدِينَ إبَاحَتَهَا فَلَمَّا بَلَغَهُمْ انْتَهَوْا عَنْهُ حَتَّى نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} [المائدة: 93] الْآيَةَ وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ أَوْ الْفَتْوَى مِنْهُ بِخِلَافِ الْحَدِيثِ بَعْدَ الرِّوَايَةِ أَوْ بَعْدَ بُلُوغِهِ إيَّاهُ وَذَلِكَ خِلَافُ يَقِينٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْ الْخِلَافَ جَرْحٌ فِيهِ أَيْ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ خِلَافَهُ إنْ كَانَ حَقًّا بِأَنْ خَالَفَ لِلْوُقُوفِ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ أَوْ لَيْسَ بِثَابِتٍ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ، فَقَدْ بَطَلَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ أَيْ بِالْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْمَنْسُوخَ أَوْ مَا هُوَ لَيْسَ بِثَابِتٍ سَاقِطُ الْعَمَلِ وَالِاعْتِبَارِ. وَإِنْ كَانَ خِلَافُهُ بَاطِلًا بِأَنْ خَالَفَ لِقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ وَالتَّهَاوُنِ بِالْحَدِيثِ أَوْ لِغَفْلَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ فَقَدْ سَقَطَتْ بِهِ رِوَايَتُهُ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا وَكَانَ فَاسِقًا أَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مُغَفَّلًا وَكِلَاهُمَا مَانِعٌ مِنْ قَبُولِ الرِّوَايَةِ، فَإِنْ قِيلَ إنَّهُ إنَّمَا صَارَ فَاسِقًا بِالْخِلَافِ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ فَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي قَبُولِ مَا رُوِيَ قَبْلَهُ كَمَا لَوْ مَاتَ أَوْ جُنَّ بَعْدَ الرِّوَايَةِ، قُلْنَا قَدْ بَلَغَ الْحَدِيثُ إلَيْنَا

- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَهُوَ بَاطِلٌ» ثُمَّ إنَّهَا زَوَّجَتْ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ غَائِبٌ وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الرِّوَايَةِ فَلَمْ يَبْقَ حُجَّةٌ وَمِثْلُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الرُّكُوعِ سَقَطَ بِرِوَايَةِ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ صَحِبْت ابْنَ عُمَرَ سِنِينَ فَلَمْ أَرَهُ يَرْفَعْ يَدَيْهِ إلَّا فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبَعْدَمَا ثَبَتَ فِسْقُهُ وَلَا بُدَّ فِي الرِّوَايَةِ مِنْ الْإِسْنَادِ إلَيْهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا رَوَاهُ فِي الْحِلِّ وَهَذَا لِأَنَّ الْعَدَالَةَ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا بِالِاسْتِدْلَالِ بِالِاحْتِرَازِ عَنْ مَحْظُورِ دِينِهِ فَإِذَا لَمْ يُحْتَرَزْ ظَهَرَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِثْلِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ إنْ كَذَبَ فِي خَبَرٍ وَاحِدٍ وَجَبَ إسْقَاطُ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَوْتِ وَالْجُنُونِ؛ لِأَنَّ الْحَيَاةَ وَالْعَقْلَ كَانَا ثَابِتَيْنِ قَطْعًا فَلَا يُظْهِرُ الْمَوْتُ وَالْجُنُونُ عَدَمَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ تَارِيخُهُ أَيْ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ عَمِلَ بِخِلَافِهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ إلَيْهِ وَالرِّوَايَةِ أَوْ بَعْدَ وَاحِدٍ مِنْهَا لَا يَسْقُطُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ حُجَّةٌ فِي الْأَصْلِ بِيَقِينٍ، وَقَدْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي سُقُوطِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْخِلَافُ قَبْلَ الرِّوَايَةِ وَالْبُلُوغِ إلَيْهِ كَانَ الْحَدِيثُ حُجَّةً وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الرِّوَايَةِ وَالْبُلُوغِ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِالْأَصْلِ، وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى أَحْسَنِ الْوَجْهَيْنِ وَاجِبٌ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ خِلَافُهُ قَوْلُهُ. (وَذَلِكَ مِثْلُ حَدِيثِ عَائِشَةَ) أَيْ الْحَدِيثِ الَّذِي عَمِلَ الرَّاوِي بِخِلَافِهِ بَعْدَ الرِّوَايَةِ مِثْلُ حَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ فَإِنَّهَا زَوَّجَتْ بِنْتَ أَخِيهَا حَفْصَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُنْذِرَ بْنَ زُبَيْرٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ كَانَ غَائِبًا بِالشَّامِ فَلَمَّا قَدِمَ غَضِبَ، وَقَالَ أَمِثْلِي يُصْنَعُ بِهِ هَذَا وَيُفْتَاتُ عَلَيْهِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَوَتَرْغَبُ عَنْ الْمُنْذِرِ ثُمَّ قَالَتْ لِلْمُنْذِرِ لَتُمَلِّكَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَمْرَهَا فَقَالَ الْمُنْذِرُ إنَّ ذَلِكَ بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مَا كُنْت أَرُدُّ أَمْرًا قَضَيْتِيهِ فَقَرَّتْ حَفْصَةُ عِنْدَهُ فَلَمَّا رَأَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ تَزْوِيجَهَا بِنْتَ أَخِيهَا بِغَيْرِ أَمْرِهِ جَائِزٌ وَرَأَتْ ذَلِكَ الْعَقْدَ مُسْتَقِيمًا حَتَّى أَجَازَتْ فِيهِ التَّمْلِيكَ الَّذِي لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ صِحَّةِ النِّكَاحِ وَثُبُوتِهِ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ تَرَى ذَلِكَ مَعَ صِحَّةِ مَا رَوَتْ فَثَبَتَ فَسَادُ مَا رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي ذَلِكَ كَذَا فِي شَرْحِ الْآثَارِ، وَذَكَرَ فِي غَيْرِهِ فَلَمَّا أَنْكَحَتْ فَقَدْ جَوَّزَتْ نِكَاحَ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا دَلَالَةً؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا انْعَقَدَ بِعِبَارَةِ غَيْرِ الْمُتَزَوِّجَةِ مِنْ النِّسَاءِ فَلَأَنْ يَنْعَقِدَ بِعِبَارَتِهَا أَوْلَى فَيَكُونُ فِيهِ عَمَلٌ بِخِلَافِ مَا رَوَتْ، أَوْ يُقَالُ لَمَّا أَنْكَحَتْ فَقَدْ اعْتَقَدَتْ جَوَازَ نِكَاحِهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَمْلِكُ النِّكَاحَ لَا يَمْلِكُ الْإِنْكَاحَ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى وَمَنْ مَلَكَ الْإِنْكَاحَ مَلَكَ النِّكَاحَ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى. قَوْلُهُ (وَمِثْلُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ) رَوَى جَابِرٌ عَنْ «سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ رَفَعَ يَدَيْهِ حِذَاءَ مَنْكِبَيْهِ فِي الصَّلَاةِ حِينَ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ وَحِينَ رَكَعَ وَحِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ فَسَأَلَهُ جَابِرٌ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَفْعَلُ ذَلِكَ. وَقَالَ رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ ذَلِكَ» ثُمَّ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ فِعْلِهِ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِلَافُ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ مُجَاهِدٌ صَلَّيْت خَلْفَ ابْنِ عُمَرَ فَلَمْ يَكُنْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ إلَّا فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى فَعَمَلُهُ بِخِلَافِ مَا رُوِيَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ نَسْخِهِ فَلَا يَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، فَإِنْ قِيلَ مَا ذَكَرَ مُجَاهِدٌ مُعَارَضٌ بِمَا ذَكَرَ طَاوُسٌ أَنَّهُ رَأَى ابْنَ عُمَرَ يَفْعَلُ مَا يُوَافِقُ مَا رُوِيَ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قُلْنَا يَجُوزُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ كَمَا رَوَاهُ طَاوُسٌ قَبْلَ الْعِلْمِ بِنَسْخِهِ ثُمَّ تَرَكَهُ بَعْدَمَا عَلِمَ بِهِ وَفَعَلَ مَا ذَكَرَهُ عَنْهُ مُجَاهِدٌ وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ مَا رُوِيَ عَنْهُمْ وَيُنْفَى عَنْهُمْ الْوَهْمُ حَتَّى يَتَحَقَّقَ ذَلِكَ وَإِلَّا سَقَطَ أَكْبَرُ

وَأَمَّا عَمَلُ الرَّاوِي بِبَعْضِ مُحْتَمَلَاتِهِ فَرُدَّ لِسَائِرِ الْوُجُوهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ الْجَرْحُ بِهَذَا؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْكَلَامِ لُغَةً لَا يَبْطُلُ بِتَأْوِيلِهِ وَذَلِكَ مِثْلُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» وَحَمْلُهُ عَلَى افْتِرَاقِ الْأَبَدَانِ وَالْحَدِيثُ مُحْتَمِلٌ افْتِرَاقَ الْأَقْوَالِ وَهُوَ مَعْنَى الْمُشْتَرَكِ؛ لِأَنَّهُمَا مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ وَالِاشْتِرَاكُ لُغَةً لَا يَسْقُطُ بِتَأْوِيلِهِ وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُتْرَكُ عُمُومُ الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ وَتَخْصِيصِهِ، وَالِامْتِنَاعُ عَنْ الْعَمَلِ بِهِ مِثْلُ الْعَمَلِ بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ حَرَامٌ مِثْلُ الْعَمَلِ بِخِلَافِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالرِّوَايَاتِ، إلَيْهِ أُشِيرَ فِي شَرْحِ الْآثَارِ قَوْلُهُ (وَأَمَّا عَمَلُ الرَّاوِي بِبَعْضِ مُحْتَمَلَاتِهِ) أَيْ مُحْتَمَلَاتِ الْحَدِيثِ بِأَنْ كَانَ اللَّفْظُ عَامًّا فَعَمِلَ بِخُصُوصِهِ دُونَ عُمُومِهِ أَوْ كَانَ مُشْتَرَكًا أَوْ بِمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ فَعَمِلَ بِأَحَدِ وُجُوهِهِ فَذَلِكَ رَدٌّ مِنْهُ لِسَائِرِ الْوُجُوهِ لَكِنْ لَا يَثْبُتُ الْجَرْحُ فِي الْحَدِيثِ بِهَذَا أَيْ بِعَمَلِ الرَّاوِي بِبَعْضِ مُحْتَمَلَاتِهِ وَتَعْيِينِهِ، ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ هِيَ الْحَدِيثُ وَبِتَأْوِيلِهِ لَا يَتَغَيَّرُ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَاحْتِمَالُهُ لِلْمَعَانِي لُغَةً وَتَأْوِيلُهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ كَمَا لَا يَكُونُ اجْتِهَادُهُ حُجَّةً فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ التَّأَمُّلُ وَالنَّظَرُ فِيهِ فَإِنْ اتَّضَحَ لَهُ وَجْهٌ وَجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ، وَذَلِكَ أَيْ الْحَدِيثُ الَّذِي عَمِلَ الرَّاوِي بِبَعْضِ مُحْتَمَلَاتِهِ مِثْلُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ مَا وَقَعَ التَّفَرُّقُ عَنْهُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّفَرُّقُ بِالْأَقْوَالِ فَإِنَّ الْبَائِعَ إذَا قَالَ بِعْتُ وَالْمُشْتَرِي إذَا قَالَ اشْتَرَيْتُ فَقَدْ تَفَرَّقَا بِذَلِكَ الْقَوْلِ وَانْقَطَعَ مَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ خِيَارِ إبْطَالِ كَلَامِهِ بِالرُّجُوعِ وَإِبْطَالِ كَلَامِ صَاحِبِهِ بِالرَّدِّ وَعَدَمِ الْقَبُولِ. وَهَذَا التَّأْوِيلُ مَنْقُولٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَيَحْتَمِلُ التَّفَرُّقَ بِالْأَبْدَانِ وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ بِعْتُ عَبْدِي بِكَذَا فَلِلْمُخَاطَبِ أَنْ يَقْبَلَ مَا لَمْ يُفَارِقْ صَاحِبَهُ فَإِذَا افْتَرَقَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَالثَّانِي ثُبُوتُ الْخِيَارِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ انْعِقَادِ الْبَيْعِ قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا بَدَنًا فَإِذَا تَفَرَّقَا سَقَطَ الْخِيَارُ وَيُسَمَّى ذَلِكَ خِيَارَ الْمَجْلِسِ فَحَمَلَ هَذَا الْحَدِيثَ رَاوِيهِ وَهُوَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَلَى الْوَجْهِ الْأَخِيرِ، وَلِهَذَا كَانَ إذَا بَايَعَ رَجُلًا وَأَرَادَ أَنْ لَا يُقِيلَهُ قَامَ يَمْشِي ثُمَّ يَرْجِعُ وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي احْتِمَالِ هَذِهِ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ الْمَذْكُورَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرَكِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْتَرَكًا لَفْظًا فَلَا يَبْطُلُ هَذَا الِاحْتِمَالُ بِتَأْوِيلِهِ وَكَانَ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ بِمَا اتَّضَحَ لَهُ مِنْ الدَّلِيلِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَيْ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» أَيْ دِينَ الْحَقِّ فَكَلِمَةُ مَنْ عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ، وَقَدْ خَصَّهُ الرَّاوِي بِالرِّجَالِ عَلَى مَا رَوَى أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، لَا تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ، فَلَمْ يَعْمَلْ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِتَخْصِيصِهِ؛ لِأَنَّ تَخْصِيصَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى غَيْرِهِ، وَكَانَ الشَّيْخُ أَرَادَ بِإِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُوَافِقُنَا فِي هَذَا الْأَصْلِ إلَّا أَنَّهُ خَالَفَنَا فِي حَدِيثِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَأَثْبَتَ خِيَارَ الْمَجْلِسِ لِدَلَالَةِ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ لَا لِتَأْوِيلِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا خَصَصْنَا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِالرِّجَالِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمُرْتَدَّةِ وَغَيْرِهَا لَا لِتَخْصِيصِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هَذَا الْحَدِيثَ بِالرِّجَالِ، وَالِامْتِنَاعُ عَنْ الْعَمَلِ بِهِ أَيْ بِالْحَدِيثِ مِثْلُ الْعَمَلِ بِخِلَافِهِ حَتَّى يَخْرُجَ بِهِ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَرَامٌ كَمَا أَنَّ الْعَمَلَ بِخِلَافِهِ حَرَامٌ، وَالْمُرَادُ بِالِامْتِنَاعِ هُوَ أَنْ لَا يَشْتَغِلَ بِالْعَمَلِ بِمَا يُوجِبُهُ الْحَدِيثُ وَلَا بِمَا يُخَالِفُهُ مِنْ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ كَمَا إذَا لَمْ يَشْتَغِلْ بِالصَّلَاةِ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ وَلَا بِشَيْءٍ آخَرَ حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ كَانَ هَذَا امْتِنَاعًا عَنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ لَا عَمَلًا بِخِلَافِهِ وَلَوْ اشْتَغَلَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي وَقْتِ الصَّوْمِ كَانَ هَذَا عَمَلًا بِخِلَافِهِ إلَّا أَنَّ كِلَيْهِمَا فِي التَّحْقِيقِ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ

[باب الطعن يلحق الحديث من قبل غير راويه]

(بَابُ الطَّعْنِ يَلْحَقُ الْحَدِيثَ مِنْ قِبَلِ غَيْرِ رَاوِيهِ) وَهَذَا عَلَى قِسْمَيْنِ قِسْمٌ مِنْ ذَلِكَ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ الطَّعْنِ مِنْ قِبَلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِسْمٌ مِنْهُ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ قِبَلِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَمَا يَلْحَقُهُ مِنْ قِبَلِ الصَّحَابَةِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ مَا يَحْتَمِلُ الْخَفَاءَ عَلَيْهِ أَوْ لَا يَحْتَمِلُهُ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي عَلَى وَجْهَيْنِ أَيْضًا إمَّا أَنْ يَقَعَ الطَّعْنُ مُبْهَمًا بِلَا تَفْسِيرٍ أَوْ يَكُونَ مُفَسَّرًا بِسَبَبِ الْجَرْحِ فَإِنْ كَانَ مُفَسَّرًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ أَيْضًا إمَّا أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ مِمَّا يَصْلُحُ الْجَرْحُ بِهِ أَوْ لَا يَصْلُحُ فَإِنْ صَلَحَ فَعَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُجْتَهَدًا فِي كَوْنِهِ جَرْحًا أَوْ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ أَيْضًا إمَّا أَنْ يَكُونَ الطَّاعِنُ مَوْصُوفًا بِالْإِتْقَانِ وَالنَّصِيحَةِ أَوْ بِالْعَصَبِيَّةِ وَالْعَدَاوَةِ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَمِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» فَقَدْ حَلَفَ عُمَرُ أَنْ لَا يَنْفِي أَحَدًا أَبَدًا، وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَفَى بِالنَّفْيِ فِتْنَةً وَهَذَا مِنْ جِنْسِ مَا لَا يَحْتَمِلُ الْخَفَاءَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الْحُدُودِ مِنْ خَطِّ الْأَئِمَّةِ وَمَبْنَاهُ عَلَى الشُّهْرَةِ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى فَلَوْ صَحَّ لَمَا خَفِيَ وَهَذَا لِأَنَّا تَلَقَّيْنَا الدِّينَ مِنْهُمْ فَيَبْعُدُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ فَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى الِانْتِسَاخِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّرْكَ فِعْلٌ فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِهِ كَالِاشْتِغَالِ بِفِعْلٍ آخَرَ فَيَكُونُ عَمَلًا بِالْخِلَافِ أَيْضًا، وَلِهَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَرْكَ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الْعَمَلَ بِحَدِيثِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الْقَبِيلَيْنِ. وَرَأَيْت فِي الْمُعْتَمَدِ لِأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ حَكَى عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الرَّاوِيَ لِلْحَدِيثِ الْعَامِّ إذَا خَصَّهُ أَوْ تَأَوَّلَهُ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى تَأْوِيلِهِ وَتَخْصِيصِهِ؛ لِأَنَّهُ لِمُشَاهَدَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْرَفُ بِمَقَاصِدِهِ، وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ الْمَصِيرُ إلَى ظَاهِرِ الْخَبَرِ أَوْلَى، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ التَّمَسُّكَ بِظَاهِرِ الْخَبَرِ أَوْلَى مِنْ تَأْوِيلِ الرَّاوِي إذَا كَانَ تَأْوِيلُهُ بِخِلَافِ ظَاهِرِ الْخَبَرِ، وَإِنْ كَانَ تَأْوِيلُهُ أَحَدَ مُحْتَمَلَيْ الظَّاهِرِ حُمِلَتْ الرِّوَايَةُ عَلَيْهِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ حَمَلَ مَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِنْ حَدِيثِ الِافْتِرَاقِ عَلَى افْتِرَاقِ الْأَبْدَانِ؛ لِأَنَّهُ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَقِيلَ إنْ لَمْ يَكُنْ لِمَذْهَبِ الرَّاوِي وَتَأْوِيلِهِ وَجْهٌ إلَّا أَنَّهُ عَلِمَ قَصْدَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَى ذَلِكَ التَّأْوِيلِ ضَرُورَةً وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى تَأْوِيلِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ بَلْ جَوَازُ أَنْ يَكُونَ صَارَ إلَى ذَلِكَ التَّأْوِيلِ لِنَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ وَجَبَ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ فَإِنْ اقْتَضَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الرَّاوِي وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا، وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ صَارَ إلَى ذَلِكَ التَّأْوِيلِ لِنَصٍّ جَلِيٍّ لَا مَسَاغَ لِلِاجْتِهَادِ فِي خِلَافِهِ وَتَأْوِيلِهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ الْمَصِيرُ إلَى تَأْوِيلٍ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِالرِّوَايَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ التَّأْوِيلِ وَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ مُجْمَلًا وَبَيَّنَهُ الرَّاوِي فَإِنَّ بَيَانَهُ أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الطَّعْنِ يَلْحَقُ الْحَدِيثَ مِنْ قِبَلِ غَيْرِ رَاوِيهِ] (بَابُ الطَّعْنِ يَلْحَقُ لِلْحَدِيثِ مِنْ قِبَلِ غَيْرِ رَاوِيهِ) قَوْلُهُ (إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ مَا يَحْتَمِلُ الْخَفَاءَ عَلَيْهِ) أَيْ يَكُونُ الْحَدِيثُ الَّذِي طَعَنَ فِيهِ مِنْ جِنْسِ مَا يَحْتَمِلُ الْخَفَاءَ عَنْ الطَّاعِنِ أَمْ لَا، وَالْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ مَا يَلْحَقُهُ النَّكِيرُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ مَا لَحِقَهُ طَعْنٌ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَمِثْلُ مَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» أَيْ حَدُّ زِنَا غَيْرِ الْمُحْصَنِ بِغَيْرِ الْمُحْصَنِ، وَبِهَذَا الْحَدِيثِ تَمَسَّكَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَجَعَلَ النَّفْيَ إلَى مَوْضِعٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوْضِعِ الزَّانِي مُدَّةُ السَّفَرِ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ وَلَمْ يَعْمَلْ عُلَمَاؤُنَا بِهِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَفَى رَجُلًا فَلَحِقَ بِالرُّومِ مُرْتَدًّا فَحَلَفَ، وَقَالَ وَاَللَّهِ لَا أَنْفِي أَحَدًا أَبَدًا فَلَوْ كَانَ النَّفْيُ حَدًّا لَمَا حَلَفَ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يُتْرَكُ بِالِارْتِدَادِ فَعَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِطَرِيقِ السِّيَاسَةِ وَالْمَصْلَحَةِ كَمَا «نَفَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَبِيتَ الْمُخَنَّثَ مِنْ الْمَدِينَةِ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّخَنُّثَ لَا يُوجِبُ النَّفْيَ حَدًّا بِالْإِجْمَاعِ، وَكَمَا نَفَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَصْرَ بْنَ الْحَجَّاجِ مِنْهَا حِينَ سَمِعَ قَائِلَةً تَقُولُ: هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى خَمْرٍ فَأَشْرَبُهَا ... أَوْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى نَصْرِ بْنِ حَجَّاجِ ، وَالْجَمَالُ لَا يُوجِبُ النَّفْيَ وَلَكِنَّ فِعْلَ ذَلِكَ لِلْمَصْلَحَةِ فَإِنْ قَالَ مَا ذَنْبِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ لَا ذَنْبَ لَك إنَّمَا الذَّنْبُ لِي حَيْثُ لَمْ أُطَهِّرْ دَارَ الْهِجْرَةِ عَنْك، وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَفَى بِالنَّفْيِ فِتْنَةً وَلَوْ كَانَ النَّفْيُ حَدًّا لَمَا سَمَّاهُ فِتْنَةً، وَهَذَا أَيْ خُرُوجُ الْحَدِيثِ مِنْ كَوْنِهِ حُجَّةً بِمُخَالَفَةِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ مِنْ

وَكَذَلِكَ لَمَّا امْتَنَعَ عُمَرُ مِنْ الْقِسْمَةِ فِي سَوَادِ الْعِرَاقِ عُلِمَ أَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ تَكُنْ حَتْمًا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ هُمْ شَهِدُوا بِهَا وَهُمْ نُهُوا عَنْهَا وَمَا عَنْ رَأْيِهِمْ رَغْبَةٌ وَلَا فِي نُصْحِهِمْ تُهْمَةٌ، فَإِنْ قِيلَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَمْ يَعْمَلْ بِأَخْذِ الرَّكْبِ بَلْ عَمِلَ بِالتَّطْبِيقِ وَلَمْ يُوجِبْ جَرْحًا قُلْنَا لِأَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ الْوَضْعَ لَكِنَّهُ رَأَى رُخْصَةً وَرَأَى التَّطْبِيقَ عَزِيمَةً وَالْعَزِيمَةُ أَوْلَى إلَّا أَنَّ ذَلِكَ رُخْصَةُ إسْقَاطٍ عِنْدَنَا، ـــــــــــــــــــــــــــــQالصَّحَابَةِ بِاعْتِبَارِ انْقِطَاعِ تَوَهُّمِ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ؛ لِأَنَّا تَلَقَّيْنَا الدِّينَ مِنْهُمْ فَيَبْعُدُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ مِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ وَلَا يُظَنُّ بِهِمْ مُخَالَفَةُ حَدِيثٍ صَحِيحٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَالٍ فَأَحْسَنُ الْوُجُوهِ فِيهِ أَنَّ مَنْ خَالَفَ عَلِمَ انْتِسَاخَهُ أَوْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ لَمْ يَجِبْ حَتْمًا. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ لَمَّا امْتَنَعَ عُمَرُ) إذَا فَتَحَ الْإِمَامُ بَلْدَةً عَنْوَةً وَقَهْرًا كَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَهُمْ أَرِقَّاءَ وَيُقَسِّمَهُمْ وَأَرَاضِيِهِمْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَلَهُ أَنْ يَدَعَهُمْ أَحْرَارًا يَضْرِبَ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ وَيَتْرُكَ الْأَرَاضِي عَلَيْهِمْ بِالْخَرَاجِ وَلَا يَقْسِمَهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ ذَلِكَ فِي الرِّقَابِ دُونَ الْأَرَاضِي؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَّمَ خَيْبَرَ حِينَ فَتَحَهَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ» وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ فَتَحَهَا، وَلِعُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا فَتَحَ السَّوَادَ قَهْرًا وَعَنْوَةً مَنَّ عَلَيْهِمْ بِرِقَابِهِمْ وَأَرَاضِيِهِمْ وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ فِي رُءُوسِهِمْ وَالْخَرَاجَ فِي أَرَاضِيِهِمْ مَعَ عِلْمِنَا أَنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ قِسْمَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْبَرَ وَغَيْرَهَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ حِينَ افْتَتَحَهَا عَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حُكْمًا حَتْمًا مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ غَيْرُهَا فِي الْغَنَائِمِ إذْ لَوْ كَانَ حَتْمًا لَمَا امْتَنَعَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا شَاوَرَ الصَّحَابَةَ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ اسْتَشَارَهُمْ مِرَارًا ثُمَّ جَمَعَهُمْ فَقَالَ أَمَّا إنِّي لَوْ تَلَوْت مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى اسْتَغْنَيْت بِهَا عَنْكُمْ ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] إلَى قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] ثُمَّ قَالَ أَرَى لِمَنْ بَعْدَكُمْ فِي هَذَا الْفَيْءِ نَصِيبًا وَلَوْ قَسَمْتهَا بَيْنَكُمْ لَمْ يَكُنْ لِمَا بَعْدَكُمْ نَصِيبٌ فَمَنَّ بِهَا عَلَيْهِمْ وَجَعَلَ الْجِزْيَةَ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَالْخَرَاجَ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ لِيَكُونَ ذَلِكَ لَهُمْ وَلِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُخَالِفْهُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِلَالٌ وَأَصْحَابُهُ لِقِلَّةِ بَصَرِهِمْ بِفِقْهِ الْآيَةِ فَقَدْ كَانُوا أَصْحَابَ الظَّوَاهِرِ دُونَ الْمَعْنَى فَلَمْ يُعْتَبَرْ خِلَافُهُمْ مَعَ إجْمَاعِ أَهْلِ الْفِقْهِ مِنْهُمْ وَلَمْ يُحْمَدُوا عَلَى هَذَا الْخِلَافِ حَتَّى دَعَا عَلَيْهِمْ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ اللَّهُمَّ أَكْفِنِي بِلَالًا وَأَصْحَابَهُ فَمَا حَالَ الْحَوْلُ وَمِنْهُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ أَيْ مَاتُوا جَمِيعًا، التَّطْبِيقُ أَنْ يَضُمَّ الْمُصَلِّي إحْدَى الْكَفَّيْنِ إلَى الْأُخْرَى وَيُرْسِلَهُمَا بَيْنَ فَخِذَيْهِ فِي الرُّكُوعِ، ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي السُّؤَالِ لَمْ يُعْمَلْ بِأَخْذِ الرُّكَبَ أَيْ بِحَدِيثِ أَخْذِ الرُّكَبِ وَذَكَرَ فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ الْوَضْعَ وَلَمْ يَقُلْ لَمْ يُنْكِرْ الْأَخْذَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْأَخْذُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «سَنَنْتُ لَكُمْ الرُّكَبُ فَخُذُوا بِالرُّكَبِ» . وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «يَا مَعْشَرَ النَّاسِ أُمِرْنَا بِالرُّكَبِ فَخُذُوا بِالرُّكَبِ» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْوَضْعُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٌ أَنَّهُ قَالَ «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا رَكَعَ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ» . وَكَذَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَذَكَرَ فِي بَعْضِهَا الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا كَمَا رَوَى أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا رَكَعَ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ كَأَنَّهُ قَابِضٌ عَلَيْهِمَا» لَكِنَّهُ رَآهُ أَيْ رَأَى الْوَضْعَ أَوْ الْأَخْذَ رُخْصَةً أَيْ رُخْصَةَ تَرْفِيهٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَلْحَقُهُمْ الْمَشَقَّةُ فِي التَّطْبِيقِ مَعَ طُولِ الرُّكُوعِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَخَافُونَ السُّقُوطَ عَلَى الْأَرْضِ فَأُمِرُوا بِالْأَخْذِ بِالرُّكَبِ تَيْسِيرًا عَلَيْهِمْ كَرُخْصَةِ الْإِفْطَارِ فِي السَّفَرِ لَا تَعْيِينًا عَلَيْهِمْ بِالْأَخْذِ بِالرُّكَبِ، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ أَيْ الْوَضْعَ أَوْ الْأَخْذَ رُخْصَةُ إسْقَاطٍ عِنْدَنَا كَرُخْصَةِ قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ فَلَمْ تَبْقَ الْعَزِيمَةُ وَهُوَ

وَمِثَالُ الْقِسْمِ الْآخَرِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِحَدِيثِ الْوُضُوءِ عَلَى مَنْ قَهْقَهَ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ تَكُنْ جَرْحًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْحَوَادِثِ النَّادِرَةِ فَاحْتَمَلَ الْخَفَاءَ، وَأَمَّا الطَّعْنُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ فَلَا يُقْبَلُ مُجْمَلًا؛ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ فِي الْمُسْلِمِينَ ظَاهِرَةٌ خُصُوصًا فِي الْقُرُونِ الْأُولَى فَلَوْ وَجَبَ الرَّدُّ بِمُطْلَقِ الطَّعْنِ لَبَطَلَتْ السُّنَنُ أَلَا يُرَى أَنَّ شَهَادَةَ الْحُكْمِ أَضْيَقُ مِنْ هَذَا وَلَا يُقْبَلُ فِيهَا مِنْ الْمُزَكِّي الْجَرْحُ الْمُطْلَقُ فَهَذَا أَوْلَى، وَإِذَا فَسَّرَهُ بِمَا لَا يَصْلُحُ جَرْحًا لَمْ يُقْبَلْ ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّطْبِيقُ مَشْرُوعًا أَصْلًا، وَهُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ «سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأَى ابْنًا لَهُ يُطَبِّقُ فَنَهَاهُ فَقَالَ رَأَيْت عَبْدَ اللَّهِ يَفْعَلُهُ فَقَالَ رَحِمَ اللَّهُ ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ كُنَّا أُمِرْنَا بِهَذَا ثُمَّ نُهِينَا عَنْهُ» وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يُخَيَّرُ بَيْنَ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ إذَا كَانَ فِي الْعَزِيمَةِ نَوْعُ تَخْفِيفٍ وَفِي الرُّخْصَةِ كَذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يُفِيدُ التَّخْيِيرَ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْعَزِيمَةِ نَوْعُ تَخْفِيفٍ وَفِي الرُّخْصَةِ تَخْفِيفٌ انْقَلَبَتْ تِلْكَ الرُّخْصَةُ عَزِيمَةً وَهَاهُنَا لَيْسَ فِي الْعَزِيمَةِ تَخْفِيفٌ وَفِي الرُّخْصَةِ نَوْعُ تَخْفِيفٍ فَانْقَلَبَتْ عَزِيمَةً. قَوْلُهُ (وَمِثَالُ الْقِسْمِ الْآخَرِ) أَيْ نَظِيرُ الْقِسْمِ الْآخِرِ وَهُوَ مَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِ مَا يَحْتَمِلُ الْخَفَاءَ عَلَى الرَّاوِي مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِحَدِيثِ الْقَهْقَهَةِ وَهُوَ مَا رَوَى زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ إذْ أَقْبَلَ أَعْمَى فَوَقَعَ فِي بِئْرٍ أَوْ زُبْيَةٍ فَضَحِكَ بَعْضُ الْقَوْمِ فَلَمَّا فَرَغَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ مَنْ ضَحِكَ مِنْكُمْ قَهْقَهَةً فَلْيُعِدْ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ» ثُمَّ لَمْ يُوجِبْ مَا ذُكِرَ عَنْ أَبِي مُوسَى إنْ ثَبَتَ جَرْحًا فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ مَا رَوَاهُ زَيْدٌ مِنْ الْحَوَادِثِ النَّادِرَةِ فَاحْتَمَلَ الْخَفَاءَ عَلَى أَبِي مُوسَى فَلِذَلِكَ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ، عَلَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ فَإِنَّهُ قَدْ اشْتَهَرَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ رِوَايَةُ هَذَا الْحَدِيثِ مُسْنَدًا وَمُرْسَلًا عَنْ أَبِي مُوسَى كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الثِّقَاتِ أَنَّهُ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ غَيْرُ ثَابِتٍ، ثُمَّ فِي هَذَا الْقِسْمِ لَمْ يَخْرُجْ الْحَدِيثُ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ وَاجِبٌ الْعَمَلُ بِهِ فَلَا يُتْرَكُ الْعَمَلُ بِهِ بِمُخَالَفَةِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ إذَا أَمْكَنَ الْحَمْلُ عَلَى وَجْهٍ حَسَنٍ، وَقَدْ أَمْكَنَ هَاهُنَا بِأَنْ يُقَالَ إنَّمَا عَمِلَ أَوْ أَفْتَى بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِ النَّصُّ وَلَوْ بَلَغَهُ لَرَجَعَ إلَيْهِ فَالْوَاجِبُ عَلَى مِنْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ بِطَرِيقٍ صَحِيحٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الطَّعْنُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ فَلَا يُقْبَلُ مُجْمَلًا) أَيْ مُبْهَمًا بِأَنْ يَقُولَ هَذَا الْحَدِيثُ غَيْرُ ثَابِتٍ أَوْ مُنْكَرٌ أَوْ فُلَانٌ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ أَوْ ذَاهِبُ الْحَدِيثِ أَوْ مَجْرُوحٌ أَوْ لَيْسَ بِعَدْلٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ سَبَبَ الطَّعْنِ وَهُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ، وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ وَجَمَاعَةٌ إلَى أَنَّ الْجَرْحَ الْمُطْلَقَ مَقْبُولٌ؛ لِأَنَّ الْجَارِحَ إنْ لَمْ يَكُنْ بَصِيرًا بِأَسْبَابِ الْجَرْحِ فَلَا يَصْلُحُ لِلتَّزْكِيَةِ وَإِنْ كَانَ بَصِيرًا بِهَا فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ بَيَانِ السَّبَبِ إذْ الْغَالِبُ مَعَ عَدَالَتِهِ وَبَصِيرَتِهِ أَنَّهُ مَا أَخْبَرَ إلَّا وَهُوَ صَادِقٌ فِي مَقَالِهِ، وَاخْتِلَافُ النَّاسِ فِي أَسْبَابِ الْجَرْحِ وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْعَدْلِ الْبَصِيرِ بِأَسْبَابِ الْجَرْحِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِمَوَاقِعِ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ فَلَا يُطْلَقُ الْجَرْحُ إلَّا فِي صُورَةٍ عُلِمَ الْوِفَاقُ عَلَيْهَا وَإِلَّا كَانَ مُدَلِّسًا مُلْبِسًا بِمَا يُوهِمُ الْجَرْحَ عَلَى مَنْ لَا يَعْتَقِدُهُ وَهُوَ خِلَافُ مُقْتَضَى الْعَدَالَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّعْدِيلَ الْمُطْلَقَ مَقْبُولٌ بِأَنْ قَالَ الْمُعَدِّلُ هُوَ عَدْلٌ أَوْ ثِقَةٌ أَوْ مَقْبُولُ الْحَدِيثِ أَوْ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ فَكَذَا الْجَرْحُ الْمُطْلَقُ، وَلِعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْعَدَالَةَ ثَابِتَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ بِاعْتِبَارِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ خُصُوصًا فِي الْقُرُونِ الْأُولَى وَهِيَ الْقُرُونُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي شَهِدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَدَالَتِهَا فَلَا يُتْرَكُ هَذَا الظَّاهِرُ بِالْجَرْحِ الْمُبْهَمِ؛ لِأَنَّ الْجَارِحَ رُبَّمَا اعْتَقَدَ مَا لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْجَرْحِ جَارِحًا بِأَنْ ارْتَكَبَ الرَّاوِي صَغِيرَةً مِنْ غَيْرِ إصْرَارٍ أَوْ شَرِبَ النَّبِيذَ مُعْتَقِدًا إبَاحَتَهُ أَوْ لَعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ كَذَلِكَ فَجَرَّحَهُ بِنَاءً عَلَيْهِ. وَكَذَا الْعَادَةُ الظَّاهِرَةُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا لَحِقَهُ مِنْ غَيْرِهِ

وَذَلِكَ مِثْلُ مَنْ طَعَنَ فِي أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ دَسَّ ابْنَهُ لِيَأْخُذَ كُتُبَ أُسْتَاذِهِ حَمَّادٍ وَهَذَا دَلَالَةُ إتْقَانِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَجِيزُ الرِّوَايَةَ إلَّا عَنْ حِفْظٍ وَإِتْقَانٍ وَلَا يَأْمَنُ الْحَافِظُ الزَّلَلَ وَإِنْ جَدَّ حِفْظُهُ وَحَسُنَ ضَبْطُهُ فَالرُّجُوعُ إلَى كُتُبِ الْأُسْتَاذِ آيَةُ إتْقَانِهِ لَا جَرْحَ فِيهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا يَسُوءُهُ فَإِنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ إمْسَاكِ لِسَانِهِ عَنْهُ فَيَطْعَنُ فِيهِ طَعْنًا مُبْهَمًا إلَّا إنْ عَصَمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ إذَا اُسْتُفْسِرَ لَا يَكُونُ لَهُ أَصْلٌ فَثَبَتَ أَنْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ بَيَانِ السَّبَبِ، بِخِلَافِ التَّعْدِيلِ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَهُ لَا تَنْضَبِطُ وَلَا تَنْحَصِرُ فَلَا مَعْنَى لِلتَّكْلِيفِ بِذِكْرِهَا، وَقَوْلُهُمْ الْغَالِبُ أَنَّهُ مَا أَخْبَرَ إلَّا وَهُوَ صَادِقٌ فِي مَقَالِهِ غَيْرَ مُسَلِّمٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ إخْبَارُهُ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِ. وَكَذَا قَوْلُهُمْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَكُونُ عَارِفًا بِمَوَاقِعِ الْخِلَافِ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَعْرِفَ ذَلِكَ، قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّ هَذَا مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُعَدِّلِ فَمَنْ حَصَلَتْ الثِّقَةُ بِبَصِيرَتِهِ وَضَبْطِهِ يُكْتَفَى بِإِطْلَاقِهِ وَمَنْ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُعْرَفْ بَصِيرَتُهُ بِأَسْبَابِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ اسْتَخْبَرْنَاهُ عَنْ السَّبَبِ، وَذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الدِّمَشْقِيُّ فِي كِتَابِ مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ عِلْمِ الْحَدِيثِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَدْ احْتَجَّ بِجَمَاعَةٍ سَبَقَ مِنْ غَيْرِهِ الْجَرْحُ لَهُمْ كَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ وَعَاصِمِ بْنِ عَلِيٍّ وَعَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ وَغَيْرِهِمْ، وَاحْتَجَّ مُسْلِمٌ بِسُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ وَجَمَاعَةٍ اُشْتُهِرَ الطَّعْنُ فِيهِمْ وَهَكَذَا فَعَلَ أَبُو دَاوُد السِّخْتِيَانِيُّ وَذَلِكَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُمْ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الْجَرْحَ لَا يَثْبُتُ إلَّا إذَا فُسِّرَ سَبَبُهُ، فَإِنْ قِيلَ قَدْ اعْتَمَدَ النَّاسُ فِي جَرْحِ الرُّوَاةِ عَلَى الْكُتُبِ الَّتِي صَنَّفَهَا أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ فِيهِ وَقَلَّمَا يَتَعَرَّضُونَ فِيهَا لِبَيَانِ السَّبَبِ بَلْ يَقْتَصِرُونَ عَلَى مُجَرَّدِ قَوْلِهِمْ فُلَانٌ ضَعِيفٌ وَفُلَانٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ أَوْ هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ وَهَذَا حَدِيثٌ غَيْرُ ثَابِتٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَاشْتِرَاطُ بَيَانِ السَّبَبِ يُفْضِي إلَى تَعْطِيلِ ذَلِكَ، فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ نَعْتَمِدْهُ فِي إثْبَاتِ الْجَرْحِ وَالْحُكْمِ بِهِ فَقَدْ اعْتَمَدْنَاهُ فِي أَنْ يُوقِفَنَا عَنْ قَبُولِ حَدِيثِ مَنْ قَالُوا فِيهِ مِثْلَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ أَوْقَعَ عِنْدَنَا فِيهِمْ رِيبَةً قَوِيَّةً يُوجِبُ مِثْلُهَا التَّوَقُّفَ ثُمَّ مَنْ انْزَاحَتْ عَنْهُ الرِّيبَةُ مِنْهُمْ نَبْحَثُ عَنْ حَالِهِ قَبِلْنَا حَدِيثَهُ وَلَمْ نَتَوَقَّفْ كَاَلَّذِينَ احْتَجَّ بِهِمْ صَاحِبَا الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ مِنْهُمْ مِثْلُ هَذَا الْجَرْحِ مِنْ غَيْرِهِمْ. قَوْلُهُ (وَذَلِكَ مِثْلُ مَنْ طَعَنَ) أَيْ الطَّعْنَ الْمُفَسَّرَ بِمَا لَا يَصْلُحُ جَرْحًا مِثْلُ طَعْنِ مَنْ طَعَنَ فِي أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ الْحُسَّادِ الْمُتَعَنِّتِينَ أَنَّهُ دَسَّ ابْنَهُ أَيْ أَخْفَاهُ لِيَأْخُذَ كُتُبَ أُسْتَاذِهِ حَمَّادٍ عِنْدَ وَفَاتِهِ فَكَانَ يَرْوِي مِنْهَا وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ أَعْلَى حَالًا وَأَجَلَّ مَنْصِبًا مِنْ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ ذَلِكَ وَيَأْبَى كُلَّ الْإِبَاءِ دِقَّةُ نَظَرِهِ فِي دَقَائِقِ الْوَرَعِ وَالتَّقْوَى، وَعُلُوُّ دَرَجَتِهِ فِي الْعِلْمِ وَالْفَتْوَى، وَقَدْ طَعَنَ الْحُسَّادُ فِي حَقِّهِ بِهَذَا الْجِنْسِ كَثِيرًا حَتَّى صَنَّفُوا فِي طَعْنِهِ كُتُبًا وَرَسَائِلَ وَلَكِنْ لَمْ يَزِدْهُ طَعْنُهُمْ إلَّا شَرَفًا وَعُلُوًّا، وَرِفْعَةً بَيْنَ الْأَنَامِ وَسُمُوًّا، فَشَاعَ مَذْهَبُهُ فِي الدُّنْيَا وَاشْتَهَرَ، وَبَلَغَ أَقْطَارَ الْأَرْضِ نُورُ عِلْمِهِ وَاشْتَهَرَ، وَقَدْ عَرَفَ مَنْ لَهُ أَدْنَى بَصِيرَةٍ وَإِنْصَافٍ، وَجَانَبَ التَّعَصُّبَ وَالِاعْتِسَافَ أَنَّ كُلَّ مَا قَالُوهُ افْتِرَاءٌ، وَمِثْلُهُ عَنْهُ بَرَاءٌ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ صَحِيحٌ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يُوجِبُ طَعْنًا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ أَخَذَهَا تَمَلُّكًا وَغَصْبًا بِغَيْرِ رِضَاءِ مَالِكِهَا أَوْ أَخَذَهَا بِرِضَاهُ، فَالْأَوَّلُ مُنْتَفٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِحَالِ مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْعِلْمِ وَالتَّقْوَى بَلْ بِحَالِ أَكْثَرِ الْعَوَامّ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِحَالِهِ، وَإِنْ أَخَذَهَا بِإِذْنِ الْمَالِكِ تَمَلُّكًا أَوْ عَارِيَّةً، فَإِمَّا أَنَّهُ رَوَى مِنْهَا شَيْئًا أَوْ لَمْ يَرْوِ فَإِنْ لَمْ يَرْوِ فَلَيْسَ لِلطَّعْنِ فِيهِ مَدْخَلٌ وَإِنْ رَوَى فَإِمَّا إنْ رَوَى مِنْهَا مَا سَمِعَهُ مِنْ أُسْتَاذِهِ أَوْ مَا أَجَازَ لَهُ بِرِوَايَتِهِ أَوْ رَوَى مَا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ وَلَمْ يُجِزْ لَهُ

وَمِنْ ذَلِكَ طَعْنُهُمْ بِالتَّدْلِيسِ وَذَلِكَ أَنْ تَقُولَ حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَّصِلَ الْحَدِيثُ بِقَوْلِهِ حَدَّثَنَا أَوْ أَخْبَرَنَا وَسَمَّوْهُ عَنْعَنَةً؛ لِأَنَّ هَذَا يُوهِمُ شُبْهَةَ الْإِرْسَالِ وَحَقِيقَتُهُ لَيْسَ بِجَرْحٍ عَلَى مَا مَرَّ فَشُبْهَتُهُ أَوْلَى ـــــــــــــــــــــــــــــQبِرِوَايَتِهِ. فَالْأَوَّلُ دَلَالَةُ الْإِتْقَانِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْجَرْحِ، وَالثَّانِي كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رِوَايَةٌ بِطَرِيقِ الْوِجَادَةِ وَهُوَ طَرِيقٌ مَسْلُوكٌ صَحِيحٌ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ. الْإِتْقَانُ الْإِحْكَامُ.، وَإِنْ جَدَّ حِفْظُهُ أَيْ عَظُمَ، أَوْ مَعْنَاهُ جَدَّ فِي حِفْظِهِ أَيْ اجْتَهَدَ فَحَذَفَ حَرْفَ فِي وَأَسْنَدَ الْفِعْلَ إلَى الْحِفْظِ مَجَازًا. قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِنْ الطَّعْنِ الْمُفَسِّرِ الَّذِي لَا يَصْلُحُ جَرْحًا طَعْنُهُمْ بِالتَّدْلِيسِ، التَّدْلِيسُ كِتْمَانُ عَيْبِ السِّلْعَةِ عَنْ الْمُشْتَرِي، وَهُوَ فِي اصْطِلَاحِهِمْ كِتْمَانُ انْقِطَاعٍ أَوْ خَلَلٍ فِي إسْنَادِ الْحَدِيثِ بِإِيرَادِ لَفْظٍ يُوهِمُ الِاتِّصَالَ وَالصِّحَّةَ، وَقِيلَ هُوَ تَرْكُ اسْمِ مَنْ يُرْوَى عَنْهُ وَذِكْرُ اسْمِ مَنْ يَرْوِي عَنْهُ شَيْخُهُ، وَذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الدِّمَشْقِيُّ أَنَّ التَّدْلِيسَ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا تَدْلِيسُ الْإِسْنَادِ وَهُوَ أَنْ يَرْوِيَ عَمَّنْ لَقِيَهُ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ مُوهِمًا أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ أَوْ عَمَّنْ عَاصَرَهُ وَلَمْ يَلْقَهُ مُوهِمًا أَنَّهُ قَدْ لَقِيَهُ وَسَمِعَهُ مِنْهُ، وَقَدْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ وَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ لَا يَقُولَ فِي ذَلِكَ حَدَّثَنَا وَلَا أَخْبَرَنَا وَإِنَّمَا يَقُولُ قَالَ فُلَانٌ أَوْ عَنْ فُلَانٍ، وَالثَّانِي تَدْلِيسُ الشُّيُوخِ وَهُوَ أَنْ يَرْوِيَ عَنْ شَيْخٍ حَدِيثًا سَمِعَهُ مِنْهُ فَيُسَمِّيَهُ أَوْ يَكْتُبَهُ أَوْ يَنْسُبَهُ أَوْ يَصِفَهُ بِمَا لَا يَعْرِفُ بِهِ كَيْ لَا يُعْرَفَ، ثُمَّ قَالَ فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ مَكْرُوهٌ جِدًّا ذَمَّهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ التَّدْلِيسُ أَخُو الْكَذِبِ، وَعَنْ شُعْبَةَ أَنَّهُ قَالَ لَأَنْ أَزْنِيَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُدَلِّسَ وَهَذَا مِنْ شُعْبَةَ إفْرَاطٌ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الزَّجْرِ عَنْهُ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي أَمْرُهُ أَخَفُّ وَفِيهِ تَضْيِيعٌ لِلْمَرْوِيِّ عَنْهُ وَتَوْعِيرٌ لِطَرِيقِ مَعْرِفَتِهِ عَلَى مَنْ يَطْلُبُ الْوُقُوفَ عَلَى حَالِهِ وَيَخْتَلِفُ الْحَالُ فِي كَرَاهَةِ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْغَرَضِ الْحَامِلِ عَلَيْهِ فَقَدْ يَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ كَوْنُ شَيْخِهِ الَّذِي غَيَّرَ سَمْتَهُ غَيْرَ ثِقَةٍ أَوْ كَوْنُهُ مُتَأَخِّرَ الْوَفَاةِ قَدْ شَارَكَهُ فِي السَّمَاعِ مِنْهُ جَمَاعَةٌ دُونَهُ أَوْ كَوْنُهُ أَصْغَرَ سِنًّا مِنْهُ أَوْ كَوْنُ الرَّاوِي كَثِيرَ الرِّوَايَةِ عَنْهُ فَلَا يَجِبُ الْإِكْثَارُ مِنْ ذِكْرِ شَخْصٍ وَاحِدٍ عَلَى صُورَةٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ وَاخْتُلِفَ فِي قَبُولِ رِوَايَةِ مَنْ عُرِفَ بِالنَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنْ التَّدْلِيسِ فَجَعَلَهُ فَرِيقٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ مَجْرُوحًا بِذَلِكَ وَقَالُوا لَا يُقْبَلُ رِوَايَتُهُ بَيَّنَ السَّمَاعَ أَوْ لَمْ يُبَيِّنْ، وَالصَّحِيحُ التَّفْصِيلُ وَأَنَّ مَا رَوَاهُ الْمُدَلِّسُ بِلَفْظٍ مُحْتَمَلٍ لَمْ يُبَيِّنْ فِيهِ السَّمَاعَ وَالِاتِّصَالَ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُرْسَلِ وَأَنْوَاعِهِ وَمَا رَوَاهُ بِلَفْظٍ مُبَيِّنٍ لِلِاتِّصَالِ نَحْوُ سَمِعْتُ وَحَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَأَشْبَاهِهَا فَهُوَ صَحِيحٌ قَالَ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْكُتُبِ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ كَثِيرٌ جِدًّا كَقَتَادَةَ وَالْأَعْمَشِ وَسُفْيَانَ وَغَيْرِهِمْ وَهَذَا لِأَنَّ التَّدْلِيسَ لَيْسَ كَذِبًا وَإِنَّمَا هُوَ ضَرْبٌ مِنْ الْإِبْهَامِ بِلَفْظٍ مُحْتَمِلٍ فَلَا يُنْسَبُ الْفِسْقُ بِهِ فَيُقْبَلُ مَا بَيَّنَ فِيهِ الِاتِّصَالَ وَرَفَعَ عَنْهُ الْإِبْهَامَ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ مَنْ عُرِفَ بِالتَّدْلِيسِ وَغَلَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ إنْ لَمْ يُخْبِرْ بِاسْمِ مَنْ يَرْوِي عَنْهُ إذَا اُسْتُكْشِفَ يَسْقُطُ الِاحْتِجَاجُ بِحَدِيثِهِ؛ لِأَنَّ التَّدْلِيسَ مِنْهُ تَزْوِيرٌ وَإِيهَامٌ لِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَذَلِكَ يُؤَثِّرُ فِي صِدْقِهِ وَإِنْ أَخْبَرَ بِاسْمِهِ إذَا اُسْتُكْشِفَ وَأَضَافَ الْحَدِيثَ إلَى نَاقِلِهِ لَا يَسْقُطُ الِاحْتِجَاجُ بِحَدِيثِهِ وَلَا يُوجِبُ قَدْحًا فِيهِ، وَقَدْ كَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يُدَلِّسُ فَإِذَا سُئِلَ عَمَّنْ حَدَّثَهُ بِالْخَبَرِ نَصَّ عَلَى اسْمِهِ وَلَمْ يَكْتُمْهُ وَهَذَا شَيْءٌ مَشْهُورٌ عَنْهُ وَهُوَ غَيْرُ قَادِحٍ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمَ كُنَّا فِي مَجْلِسِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فَقَالَ. قَالَ الزُّهْرِيُّ فَقِيلَ لَهُ حَدَّثَكُمْ الزُّهْرِيُّ فَقَالَ لَا لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ

وَمِنْ ذَلِكَ طَعْنُهُمْ بِالتَّلْبِيسِ عَلَى مَنْ كَنَّى عَنْ الرَّاوِي وَلَوْ يُسَمِّهِ وَلَمْ يَنْسُبْهُ مِثْلُ قَوْلِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ وَهُوَ يَحْتَمِلُ الثِّقَةَ وَغَيْرَ الثِّقَةِ وَمِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَدَّثَنِي الثِّقَةُ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ غَيْرِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالزُّهْرِيُّ وَلَا مِمَّنْ سَمِعَهُ مِنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ، هَذَا بَيَانُ التَّدْلِيسِ وَمَذْهَبُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ فِيهِ وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ التَّدْلِيسَ بِتَرْكِ اسْمِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ لَا يَصْلُحُ لِلْجَرْحِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ عَدَالَةَ الرَّاوِي تَقْتَضِي أَنَّهُ مَا تَرَكَ ذِكْرَهُ إلَّا لِأَنَّهُ عَدْلٌ ثِقَةٌ عِنْدَهُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُرْسَلِ وَيَجْرِي ذَلِكَ مَجْرَى تَعْدِيلِهِ صَرِيحًا وَالصَّحَابَةُ كَانُوا يَرْوُونَ أَحَادِيثَ وَيَتْرُكُونَ أَسَامِي رُوَاتِهَا كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُرْسَلِ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يُوجِبُ سُقُوطَ الْخَبَرِ لَمَا اسْتَجَازُوا ذَلِكَ. وَكَذَا التَّدْلِيسُ بِالْكِنَايَةِ عَنْ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ الَّذِي سَمَّاهُ الشَّيْخُ تَلْبِيسًا؛ لِأَنَّهُ أَدْنَى مِنْ التَّرْكِ إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ غَيْرُ مَقْبُولِ الْحَدِيثِ فَحِينَئِذٍ لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ خِيَانَةٌ وَغِشٌّ فَيُقْدَحُ فِي الظَّنِّ، هَكَذَا قَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ هَذَا جَرْحًا إذَا اُسْتُفْسِرَ فَلَمْ يُفَسِّرْ، فَأَمَّا الْعَنْعَنَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّيْخُ مِنْ التَّدْلِيسِ فَهِيَ كَذَلِكَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَلَكِنْ عِنْدَ عَامَّتِهِمْ هِيَ لَيْسَتْ بِتَدْلِيسٍ فَإِنَّ أَبَا عَمْرٍو قَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّ الْإِسْنَادَ الْمُعَنْعَنَ وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ فِيهِ فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ عُدَّ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ مِنْ قَبِيلِ الْمُرْسَلِ وَالْمُنْقَطِعِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ اتِّصَالُهُ بِغَيْرِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْإِسْنَادِ الْمُتَّصِلِ. قَالَ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجَمَاهِيرُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَغَيْرُهُمْ وَأَوْدَعَهُ الْمُشْتَرِطُونَ لِلصَّحِيحِ فِي تَصَانِيفِهِمْ فِيهَا وَقَبِلُوهُ وَادَّعَى أَبُو عَمْرٍو الدَّانِي الْمُقْرِئُ الْحَافِظُ إجْمَاعَ أَهْلِ النَّقْلِ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ وَهَذَا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ أُضِيفَتْ الْعَنْعَنَةُ إلَيْهِمْ قَدْ ثَبَتَتْ مُلَاقَاةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا مَعَ بَرَاءَتِهِمْ عَنْ وَصْمَةِ التَّدْلِيسِ فَحِينَئِذٍ يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِ الِاتِّصَالِ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ فِيهِ خِلَافُ ذَلِكَ، وَذَكَرَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظِ فِي كِتَابِ مَعْرِفَةِ عُلُومِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمُعَنْعَنَةَ مُتَّصِلَةٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ النَّقْلِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَدْلِيسٌ قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِمَّا لَا يَصْلُحُ جَرْحًا طَعْنُهُمْ بِالتَّدْلِيسِ عَلَى مَنْ كَنَّى عَنْ الرَّاوِي أَيْ أَبْهَمَ رَاوِيَ الْأَصْلِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ، وَلَمْ يُسَمِّهِ أَيْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَهُ الَّذِي عُرِفَ بِهِ، وَلَمْ يَنْسُبْهُ أَيْ إلَى أَبِيهِ وَقَبِيلَتِهِ فَلَمْ يَقُلْ أَخْبَرَنِي فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ، وَهُوَ أَيْ قَوْلُهُ أَبُو سَعِيدٍ يَحْتَمِلُ الثِّقَةَ وَهُوَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ الزَّاهِدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَغَيْرَ الثِّقَةِ مِثْلَ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيِّ فِيمَا أَظُنُّهُ وَمِثْلَ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ يَرْوِي التَّفْسِيرَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَهُوَ الْكَلْبِيُّ يُدَلِّسُ بِهِ مُوهِمًا أَنَّهُ سَعِيدٌ الْخُدْرِيِّ، وَمِنْ نَظَائِرِهِ رَجُلَانِ بَصْرِيَّانِ اسْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَا عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَحَدُهُمَا يُكَنَّى أَبَا رَبِيعَةَ وَكَانَ مَتْرُوكَ الْحَدِيثِ يَرْوِي عَنْهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَأَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ وَالْآخَرُ يُكَنَّى أَبَا مُحَمَّدٍ كَانَ ثِقَةً يَرْوِي عَنْهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَوَكِيعٌ وَأَبُو نُعَيْمٍ فَيُمَيَّزُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الرِّوَايَةِ بِالْكُنْيَةِ، وَرَجُلَانِ بِالْكُوفَةِ اسْمُ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ أَحَدُهُمَا غَنَوِيٌّ وَهُوَ غَيْرُ ثِقَةٍ وَالْآخَرُ ثِقَةٌ وَهُوَ إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ الْوَرَّاقُ. 1 - قَوْلُهُ (حَدَّثَنِي الثِّقَةُ مِنْ أَصْحَابِنَا) أَرَادَ بِهِ مُحَمَّدًا وَأَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَإِنَّمَا أَبْهَمَ لِخُشُونَةٍ وَقَعَتْ بَيْنَهُمَا، وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّ التَّعْدِيلَ عَلَى الْإِبْهَامِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الْمُعَدَّلِ بِأَنْ قَالَ الرَّاوِي حَدَّثَنَا الثِّقَةُ أَوْ مَنْ لَا أَتَّهِمُهُ أَوْ مَنْ لَا أَثِقُ بِهِ هَلْ يُكْتَفَى بِهِ أَمْ لَا؟ فَعِنْدَ أَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ وَبَعْضِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ لَا يُكْتَفَى بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ ثِقَةً عِنْدَهُ، وَقَدْ اطَّلَعَ

تَفْسِيرٍ؛ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ عَنْ الرَّاوِي لَا بَأْسَ بِهِ صِيَانَةً عَنْ الطَّعْنِ فِيهِ وَصِيَانَةً لِلطَّاعِنِ وَاخْتِصَارًا وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ اُتُّهِمَ مِنْ وَجْهٍ مَا يَسْقُطُ بِهِ كُلُّ حَدِيثِهِ وَمِثْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ مَعَ جَلَالِ قَدْرِهِ وَتَقَدُّمِهِ فِي الْعِلْمِ وَالْوَرَعِ وَتَسْمِيَتِهِ ثِقَةً شَهَادَةً بِعَدَالَتِهِ فَأَنَّى يَصِيرُ جَرْحًا، وَوَجْهُ الْكِنَايَةِ أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يُطْعَنُ فِيهِ بِبَاطِلٍ فَيَحِقُّ صِيَانَتُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQغَيْرُهُ عَلَى جَرْحِهِ بِمَا هُوَ جَارِحٌ عِنْدَهُ أَوْ بِالْإِجْمَاعِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُسَمِّيَهُ حَتَّى يُعْرَفَ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ إنْ كَانَ الْقَائِلُ لِذَلِكَ عَالِمًا أَجْزَأَ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ يُوَافِقُهُ فِي مَذْهَبِهِ وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْهُ لَا يَكْفِي، وَعِنْدَنَا يَكْفِي ذَلِكَ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ لَا يَحْكُمُ عَلَى أَحَدٍ بِكَوْنِهِ ثِقَةً إلَّا بَعْدَ تَحَقُّقِ عَدَالَتِهِ وَالتَّفَحُّصِ عَنْ أَسْبَابِهَا فَيُقْبَلُ هَذَا مِنْهُ كَمَا لَوْ سَمَّاهُ. وَقَالَ هُوَ ثِقَةٌ أَوْ عَدْلٌ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ سَبَبٍ؛ (لِأَنَّ الْكِنَايَةَ عَنْ الرَّاوِي) يَعْنِي طَعْنَهُمْ بِكَذَا لَا يَصْلُحُ لِلْجَرْحِ؛ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ عَنْ الرَّاوِي أَيْ عَنْ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ كَمَا تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِكَوْنِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ مُتَّهَمًا تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِأَجْلِ صِيَانَتِهِ عَنْ الطَّعْنِ الْبَاطِلِ فِيهِ وَلِأَجْلِ صِيَانَةِ الطَّاعِنِ وَهُوَ السَّامِعُ عَنْ الْوُقُوعِ فِي الْغِيبَةِ وَالْمَذَمَّةِ لِمُسْلِمٍ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ ثُمَّ هَذِهِ الْكِنَايَةُ وَإِنْ كَانَتْ مَذْمُومَةً لِلْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَهِيَ لِلْمَعْنَى الثَّانِي أَمْرٌ لَا بَأْسَ بِهِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ بِدَلَالَةِ عَدَالَةِ الرَّاوِي، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ كَنَّى لِلْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَهُوَ كَوْنُ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ مُتَّهَمًا، فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ اُتُّهِمَ مِنْ وَجْهٍ مَا يَسْقُطُ بِهِ كُلُّ حَدِيثِهِ أَيْ لَيْسَ كُلُّ اتِّهَامٍ مَا يَسْقُطُ بِهِ جَمِيعُ رِوَايَةِ الرَّاوِي إذْ الْأَسْبَابُ الْمُوجِبَةُ لِلطَّعْنِ عَلَى نَوْعَيْنِ: مَا يُوجِبُ عُمُومَ الطَّعْنِ وَمَا لَا يُوجِبُهُ، فَالْأَوَّلُ مِثْلُ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْكَذِبِ وَسَائِرِ الْكَبَائِرِ فَإِنَّ مَنْ ارْتَكَبَ وَاحِدًا مِنْهَا وَجَبَ رَدُّ جَمِيعِ رِوَايَاتِهِ؛ لِأَنَّ عَقْلَهُ وَدِينَهُ لَمَّا لَمْ يَمْنَعَاهُ عَنْ ارْتِكَابِهِ لَا يَمْنَعَاهُ عَنْ الْكَذِبِ فِي الرِّوَايَةِ أَيْضًا، وَالثَّانِي مِثْلُ اخْتِلَاطِ الْعَقْلِ وَالسَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ فَإِنَّهَا تُوجِبُ رَدَّ مَا رَوَاهُ فِي حَالَةِ الِاخْتِلَاطِ وَالسَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ وَلَا تُوجِبُ رَدَّ جَمِيعِ رِوَايَاتِهِ إذَا لَمْ يَغْلِبْ السَّهْوُ وَالْغَفْلَةُ عَلَيْهِ لِزَوَالِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلرَّدِّ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَنَظِيرُهُ الشَّاهِدُ يُرَدُّ جَمِيعُ شَهَادَاتِهِ بِالْفِسْقِ لِعُمُومِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلرَّدِّ وَلَا تُرَدُّ بِتُهْمَةِ الْأُبُوَّةِ إلَّا مَا اخْتَصَّ بِهَا وَهُوَ مَا شَهِدَ بِهِ لِابْنِهِ لِزَوَالِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلرَّدِّ فِي غَيْرِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ فِي كِتَابَتِهِ لِأَجْلِ الِاتِّهَامِ رَدُّ مَا رَوَاهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلطَّعْنِ غَيْرَ شَامِلٍ لِلْجَمِيعِ مِثْلُ الْكَلْبِيِّ هُوَ أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ صَاحِبُ التَّفْسِيرِ وَيُقَالُ لَهُ أَبُو النَّضْرِ أَيْضًا طَعَنُوا فِيهِ بِأَنَّهُ يَرْوِي تَفْسِيرَ كُلِّ آيَةٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُسَمَّى زَوَائِدَ الْكَلْبِيِّ، وَبِأَنَّهُ رَوَى حَدِيثًا عَنْ الْحَجَّاجِ فَسَأَلَهُ عَمَّنْ يَرْوِيه فَقَالَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَلَمَّا جُرِّحَ قِيلَ لَهُ هَلْ سَمِعْت ذَلِكَ مِنْ الْحَسَنِ فَقَالَ لَا وَلَكِنِّي رَوَيْت عَنْ الْحَسَنِ غَيْظًا لَهُ، وَذَكَرَ فِي الْأَنْسَابِ أَنَّ الثَّوْرِيَّ وَمُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ يَرْوِيَانِ عَنْهُ وَيَقُولَانِ حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ حَتَّى لَا يُعْرَفَ، قَالَ وَكَانَ الْكَلْبِيُّ سَبَئِيًّا مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبَإٍ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ عَلِيًّا لَمْ يَمُتْ وَإِنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الدُّنْيَا قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ فَيَمْلَؤُهَا عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَإِذَا رَأَوْا سَحَابَةً قَالُوا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا وَالرَّعْدُ صَوْتُهُ وَالْبَرْقُ صَوْتُهُ حَتَّى تَبَرَّأَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَقَالَ: وَمِنْ قَوْمٍ إذَا ذَكَرُوا عَلِيًّا ... يُصَلُّونَ الصَّلَاةَ عَلَى السَّحَابِ ، مَاتَ الْكَلْبِيُّ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ وَأَمْثَالُهُ مِثْلُ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ وَرَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ وَغَيْرِهِمْ اخْتَلَطَتْ عُقُولُهُمْ فَلَمْ يُقْبَلْ رِوَايَاتُهُمْ الَّتِي بَعْدَ الِاخْتِلَاطِ وَقُبِلَتْ الرِّوَايَاتُ الَّتِي قَبْلَهُ فَإِنْ قِيلَ مَا نُقِلَ عَنْ الْكَلْبِيِّ يُوجِبُ الطَّعْنَ عَامًّا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْبَلَ رِوَايَاتُهُ جَمِيعًا قُلْنَا إنَّمَا يُوجِبُ ذَلِكَ إذَا ثَبَتَ مَا نَقَلُوهُ عَنْهُ بِطَرِيقِ الْقَطْعِ فَأَمَّا إذَا اُتُّهِمَ بِهِ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي غَيْرِ

وَقَدْ يَرْوِي عَمَّنْ هُوَ دُونَهُ فِي السِّنِّ أَوْ قَرِينِهِ أَوْ هُوَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ عِنْدَ أَهْلِ الْفِقْهِ وَعُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ وَإِنْ طَالَ سَنَدُهُ فَيُكَنِّي عَنْهُ صِيَانَةً عَنْ الطَّعْنِ بِالْبَاطِلِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ هَذَا جَرْحًا إذَا اُسْتُفْسِرَ فَلَمْ يُفَسِّرْ وَمِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُعَدُّ ذَنْبًا فِي الشَّرِيعَةِ مِثْلُ مَا طَعَنَ الْجَاهِلُ فِي مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ أَحَادِيثَ سَمِعَهَا فَأَبَى فَقِيلَ لَهُ فِيهِ فَقَالَ لَا تُعْجِبُنِي أَخْلَاقُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا إنْ صَحَّ فَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ؛ لِأَنَّ أَخْلَاقَ الْفُقَهَاءِ تُخَالِفُ أَخْلَاقَ الزُّهَّادِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ عُزْلَةٍ وَأُولَئِكَ أَهْلُ قُدْوَةٍ، وَقَدْ يَحْسُنُ فِي مَنْزِلِ الْقُدْوَةِ مَا يَقْبُحُ فِي مَنْزِلِ الْعُزْلَةِ وَيَنْعَكِسُ ذَلِكَ مَرَّةً ـــــــــــــــــــــــــــــQمَوْضِعِ التُّهْمَةِ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتَ فِي مَوْضِعِ التُّهْمَةِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ ذَلِكَ يُورِثُ شُبْهَةً فِي الثُّبُوتِ وَبِالشُّبْهَةِ تُرَدُّ الْحُجَّةُ وَيَنْتَفِي تَرْجِيحُ الصِّدْقِ فِي الْخَبَرِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ. أَوْ مَعْنَاهُ لَيْسَ كُلُّ مِنْ اُتُّهِمَ بِوَجْهٍ سَاقِطَ الْحَدِيثِ مِثْلَ الْكَلْبِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ وَالْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُ قَدْ طُعِنَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِوَجْهٍ وَلَكِنَّ عُلُوَّ دَرَجَتِهِمْ فِي الدِّينِ وَتَقَدُّمَ رُتْبَتِهِمْ فِي الْعِلْمِ وَالْوَرَعِ مَنَعَ مِنْ قَبُولِ ذَلِكَ الطَّعْنِ فِي حَقِّهِمْ وَمِنْ رَدِّ حَدِيثِهِمْ بِهِ إذْ لَوْ رُدَّ حَدِيثُ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ بِطَعْنِ كُلِّ وَاحِدٍ انْقَطَعَ طَرِيقُ الرِّوَايَةِ وَانْدَرَسَتْ الْأَخْبَارُ إذْ لَمْ يُوجَدْ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - مَنْ لَا يُوجَدُ فِيهِ أَدْنَى شَيْءٍ مِمَّا يُجْرَحُ بِهِ إلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَلِذَلِكَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى مِثْلِ هَذَا الطَّعْنِ وَيُحْمَلُ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَهُوَ قَصْدُ الصِّيَانَةِ كَمَا ذُكِرَ. قَوْلُهُ (وَقَدْ يَرْوِي عَمَّنْ هُوَ دُونَهُ فِي السِّنِّ) كَرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ مَالِكٍ، أَوْ قَرِينِهِ أَيْ مِثْلِهِ يُقَالُ قَرَنَهُ فِي السِّنِّ وَقَرِينُهُ إذَا كَانَ مِثْلُهُ فِيهِ، وَذَلِكَ عَلَى قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَرْوِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ الْآخَرِ كَرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَرِوَايَةِ عُمَرَ عَنْهُ وَيُسَمَّى هَذَا مُدَبَّجًا، وَالثَّانِي أَنْ يَرْوِيَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ وَلَا يَرْوِيَ الْآخَرُ عَنْهُ مِثْلُ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ مِسْعَرٍ وَهُمَا قَرِينَانِ. أَوْ هُوَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَيْ تَلَامِذَتِهِ كَرِوَايَةِ عَبْدِ الْغَنِيِّ الْحَافِظِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الصُّورِيِّ وَكَرِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ الْبَرْقَانِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلُوَّ فِي الْإِسْنَادِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ سُنَّةٌ مَرْغُوبٌ فِيهَا وَالنُّزُولُ فِيهِ مَفْضُولٌ مَرْغُوبٌ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْعُلُوَّ فِي الْإِسْنَادِ يُبْعِدُ الْإِسْنَادَ مِنْ الْخَلَلِ إذْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْ رِجَالِ السَّنَدِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَقَعَ الْخَلَلُ مِنْ جِهَتِهِ سَهْوًا أَوْ عَمْدًا فَفِي قِلَّتِهِمْ قِلَّةُ جِهَاتِ الْخَلَلِ وَفِي كَثْرَتِهِمْ كَثْرَةُ جِهَاتِهِ لَكِنَّ النَّقْلَ بِالطَّرِيقَيْنِ صَحِيحٌ بِالِاتِّفَاقِ إذَا وُجِدْت الشَّرَائِطُ الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا فَالشَّيْخُ نَظَرَ إلَى الصِّحَّةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِحُصُولِ غَرَضِهِ بِهَا وَهُوَ دَفْعُ الطَّعْنِ، فَقَالَ وَذَلِكَ أَيْ مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ الرِّوَايَةُ عَنْ هَؤُلَاءِ صَحِيحٌ عِنْدَ أَهْلِ الْفِقْهِ وَعُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ أَيْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَإِنْ طَالَ سَنَدُ الْحَدِيثِ بِهَا لِكَثْرَةِ الْوَسَائِطِ فِيهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الرِّوَايَةِ عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ الْكِنَايَةُ عَنْ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ صِيَانَةً لِنَفْسِهِ عَنْ الطَّعْنِ الْبَاطِلِ بِأَنَّهُ رُوِيَ بِإِسْنَادٍ نَازِلٍ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ هَذَا أَيْ الْمَذْكُورُ وَهُوَ الْكِنَايَةُ عَنْ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ جَرْحًا فِي الرَّاوِي إذَا اُسْتُفْسِرَ الرَّاوِي عَنْ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ فَلَمْ يُفَسِّرْ كَمَا بَيَّنَّاهُ. قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِنْ الطَّعْنِ بِمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ الطَّعْنُ بِمَا لَا يُعَدُّ ذَنْبًا عَلَى الشَّرِيعَةِ وَلَا يُوجِبُ قَدْحًا فِي الْمُرُوءَةِ. (لِأَنَّهُ) : أَيْ مُحَمَّدًا. (فَقِيلَ لَهُ) : أَيْ لِعَبْدِ اللَّهِ. (فِيهِ) : أَيْ فِي إبَائِهِ عَنْ الِاسْتِمَاعِ يَعْنِي قِيلَ لَهُ لِمَ لَا تُجِيبُهُ إلَى اسْتِمَاعِ الْأَحَادِيثِ. (لِأَنَّ أَخْلَاقَ الْفُقَهَاءِ تُخَالِفُ أَخْلَاقَ الزُّهَّادِ) وَاعْتُبِرَ هَذَا بِمُوسَى وَالْعَبْدِ الصَّالِحِ فَإِنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقُدْوَةِ لَمْ يَسْتَطِعْ صَبْرًا عَلَى مَا رَأَى مِنْ الْعَبْدِ الصَّالِحِ مِنْ خَرْقِ السَّفِينَةِ وَقَتْلِ النَّفْسِ وَإِقَامَةِ الْجِدَارِ حَتَّى أَنْكَرَهَا عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَاعَدَ لَهُ الصَّبْرَ، وَقَدْ يَحْسُنُ فِي مَنْزِلِ الْقُدْوَةِ مَا يَقْبُحُ فِي مَنْزِلِ الْعُزْلَةِ حَتَّى اُسْتُحِبَّ لِلْمُفْتِي الْأَخْذُ بِالرُّخَصِ تَيْسِيرًا عَلَى الْعَوَامّ مِثْلُ التَّوَضُّؤِ بِمَاءِ الْحَمَّامِ وَالصَّلَاةِ فِي الْأَمَاكِنِ الطَّاهِرَةِ ظَاهِرًا بِدُونِ الْمُصَلَّى وَعَدَمِ الِاحْتِرَازِ عَلَى طِينِ الشَّوَارِعِ فِي مَوْضِعٍ حَكَمُوا بِطَهَارَتِهِ فِيهَا وَلَا يَلِيقُ ذَلِكَ بِأَهْلِ الْعُزْلَةِ بَلْ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْعَمَلِ بِالْعَزِيمَةِ أَوْلَى بِهِمْ. (وَيَنْعَكِسُ ذَلِكَ مَرَّةً) أَيْ يَحْسُنُ فِي مَنْزِلَةِ الْعُزْلَةِ

وَقَدْ قَالَ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ لَا يَزَالُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ يَحْمِي اللَّهُ بِهِ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ فَقِيلَ لَهُ وَمَنْ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْكُوفِيُّ وَمِثَالُ ذَلِكَ مَنْ طَعَنَ بِرَكْضِ الدَّابَّةِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْجِهَادِ كَالسِّبَاقِ بِالْخَيْلِ وَالْأَقْدَامِ وَمِثْلُ طَعْنِ بَعْضِهِمْ بِالْمِزَاحِ وَهُوَ أَمْرٌ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ حَقًّا لَا بَاطِلًا إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرًا يَسْتَفِزُّهُ الْخِفَّةُ فَيَتَخَبَّطُ وَلَا يُبَالِي، وَمِنْ ذَلِكَ الطَّعْنُ بِالصِّغَرِ وَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ الْإِتْقَانُ عِنْدَ التَّحَمُّلِ وَالْبُلُوغِ وَالْعَدَالَةُ عِنْدَ الرِّوَايَةِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَذَلِكَ مِثْلُ حَدِيثِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صعير الْعُذْرِيِّ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ أَنَّهَا نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ لِصِغَرِهِ لَمْ تَسْقُطْ وَلِذَلِكَ قَدَّمْنَاهُ عَلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ أَنَّهَا صَاعٌ مِنْ حِنْطَةٍ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الِاتِّصَالِ وَهَذَا أَثْبَتُ مَتْنًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا يَقْبُحُ فِي مَنْزِلِ الْقُدْوَةِ مِثْلُ مَا يُحْكَى عَنْ مَشَايِخِ الْعُزْلَةِ مِنْ أُمُورٍ ظَاهِرُهَا مُخَالِفٌ لِلشَّرِيعَةِ صَدَرَتْ عَنْهُمْ بِنَاءً عَلَى تَأْوِيلٍ وَأَعْذَارٍ ظَهَرَ لَهُمْ، مِثْلُ مَا حُكِيَ عَنْ الْمَنْصُورِ الْحَلَّاجِ مِنْ قَوْلِهِ أَنَا الْحَقُّ وَمَا حُكِيَ عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْبِسْطَامِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ سِوَى اللَّهِ وَقَوْلِهِ سُبْحَانِي مَا أَعْظَمَ شَأْنِي وَمَا حُكِيَ عَنْ الشِّبْلِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ إتْلَافِ الْمَالِ وَإِلْقَائِهِ فِي الْبَحْرِ. وَقَوْلُهُ (وَقَدْ قَالَ فِيهِ) كَذَا دَلِيلُ عَدَمِ صِحَّةِ هَذَا الطَّعْنِ. قَوْلُهُ (وَمِثَالُ ذَلِكَ) أَيْ مِثَالُ الطَّعْنِ بِمَا لَيْسَ بِذَنْبٍ الطَّعْنُ بِرَكْضِ الدَّابَّةِ وَهُوَ حَثُّهَا عَلَى الْعَدْوِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ شُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ لِمَ تَرَكْت حَدِيثَ فُلَانٍ قَالَ رَأَيْته يَرْكُضُ عَلَى بِرْذَوْنٍ فَتَرَكْتُ حَدِيثَهُ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ أَيْ الرَّكْضَ مِنْ أَسْبَابِ الْجِهَادِ إذْ هُوَ مِنْ جِنْسِ السِّبَاقِ بِالْخَيْلِ الَّذِي هُوَ مَنْدُوبٌ فِي الشَّرْعِ عَلَى مَا قَالَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا سَبَقَ إلَّا فِي نَصْلٍ أَوْ خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ» فَأَنَّى يُجْعَلُ ذَلِكَ طَعْنًا، وَمِنْ ذَلِكَ طَعْنُهُمْ بِالصِّغَرِ، شَرَطَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ الْبُلُوغَ عِنْدَ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ جَمِيعًا فَلَمْ يَعْتَبِرُوا سَمَاعَ الصَّبِيّ أَصْلًا، وَقَالَ قَوْمٌ الْحَدُّ فِي السَّمَاعِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَقِيلَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَقَالَ الشَّيْخُ لَا يَقْدَحُ الصِّغَرُ عِنْدَ التَّحَمُّلِ فِي الرِّوَايَةِ إذَا ثَبَتَ الْإِتْقَانُ عِنْدَ التَّحَمُّلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ قَبْلُ، وَذَلِكَ أَيْ الْحَدِيثُ الَّذِي طُعِنَ فِيهِ بِصِغَرِ رِوَايَةٍ عِنْدَ التَّحَمُّلِ مِثْلُ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صعير الْعُذْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» فَقَالُوا هَذَا الْحَدِيثُ لَا يُعَادِلُ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ» ؛ لِأَنَّ أَبَا سَعِيدٍ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ مِنْ أَصَاغِرِهِمْ فَإِنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْفَتْحِ وَهُوَ صَغِيرٌ وَهَذَا الطَّعْنُ بَاطِلٌ لِمَا مَرَّ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الصَّحَابَةِ تَحَمَّلُوا فِي صِغَرِهِمْ وَقُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ بَعْدَ الْكِبْرِ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَخَذَ بِحَدِيثِ نُعْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ فِي إثْبَاتِ حَقِّ الرُّجُوعِ لِلْوَالِدِ فِيمَا يَهَبُ لِوَلَدِهِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ نَحَلَهُ أَبُوهُ غُلَامًا وَهُوَ ابْنُ سَبْعُ سِنِينَ فَعَرَفْنَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَكُونُ طَعْنًا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَالصَّحِيحُ فِي نِسْبَةِ عَبْدِ اللَّهِ الْعُذْرِيُّ دُونَ الْعَدَوِيِّ فَإِنَّ أَبَا عَلِيٍّ الْغَسَّانِيَّ قَالَ الْعَدَوِيُّ فِي نِسْبَتِهِ كَمَا قَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ الْمِصْرِيُّ تَصْحِيفٌ إنَّمَا هُوَ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ، وَذَكَرَ فِي الْمُغْرِبِ الْعُذْرَةُ وَجَعٌ فِي الْحَلْقِ مِنْ الدَّمِ وَبِهَا سُمِّيَتْ الْقَبِيلَةُ الْمَنْسُوبُ إلَيْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ صَغِيرٍ الْعُذْرِيُّ وَمَنْ رَوَى الْعَدَوِيَّ فَكَأَنَّهُ نَسَبَهُ إلَى جَدِّهِ الْأَكْبَرِ وَهُوَ عَدِيُّ بْنُ صَغِيرٍ الْعَبْدِيُّ كَذَا فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَلِذَلِكَ قَدَّمْنَاهُ أَيْ وَلِأَنَّ الصِّغَرَ لَا يَقْدَحُ فِي الرِّوَايَةِ قَدَّمْنَا حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ ثَعْلَبَةَ عَلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّهُمَا أَيْ الْحَدِيثَيْنِ اسْتَوَيَا فِي الِاتِّصَالِ بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ مَعَ صِغَرِهِ مِثْلُ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي صِحَّةِ السَّنَدِ عَلَى أَنَّ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ مِنْ قَبِيلِ الْمَوْقُوفِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا قَوْلُ الصَّحَابِيِّ كُنَّا نَفْعَلُ كَذَا وَكُنَّا نَقُولُ كَذَا إنْ لَمْ يُضَفْ إلَى زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمَوْقُوفِ. وَإِنْ

وَقَدْ انْضَافَ إلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَمِنْ ذَلِكَ الطَّعْنُ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يَحْتَرِفْ رِوَايَةَ الْحَدِيثِ لَمْ يَصِحَّ حَدِيثُهُ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِصِحَّةِ الْإِتْقَانِ وَهَذَا مِثْلُ طَعْنِ مَنْ طَعَنَ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمْ يَحْتَرِفْ رِوَايَةَ الْحَدِيثِ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَهُ مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْمَنْزِلَةِ فَكَذَلِكَ فِي كُلِّ عَصْرٍ إذَا صَحَّ الْإِتْقَانُ سَقَطَتْ الْعَادَةُ، وَقَدْ قَبِلَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَبَرَ الْأَعْرَابِيِّ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَلَمْ يَكُنْ اعْتَادَ الرِّوَايَةَ، وَقَدْ يَقَعُ الطَّعْنُ بِسَبَبٍ هُوَ مُجْتَهِدٌ فِيهِ مِثْلُ الطَّعْنِ بِالْإِرْسَالِ وَمِثْلُ الطَّعْنِ بِالِاسْتِكْثَارِ مِنْ فُرُوعِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ فَلَا يُقْبَلُ، فَإِنْ وَقَعَ الطَّعْنُ مُفَسَّرًا بِمَا هُوَ فِسْقٌ وَجَرْحٌ لَكِنَّ الطَّاعِنَ مُتَّهَمٌ بِالْعَصَبِيَّةِ وَالْعَدَاوَةِ لَمْ يُسْمَعْ مِثْلُ طَعْنِ الْمُلْحِدِينَ فِي أَهْلِ السُّنَّةِ وَمِثْلُ طَعْنِ مَنْ يَنْتَحِلُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا وُجُوهُ الطَّعْنِ عَلَى الصِّحَّةِ فَكَثِيرَةٌ قَدْ تَبْلُغُ ثَلَاثِينَ فَصَاعِدًا أَوْ أَرْبَعِينَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَهَذَا الْكِتَابُ لَا يَسَعُهَا ـــــــــــــــــــــــــــــQأَضَافَهُ إلَى زَمَانِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَجَمَاعَةٍ وَعِنْدَ الْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرِهِ مِنْ قَبِيلِ الْمَرْفُوعِ، وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا أَيْ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ أَثْبَتُ مَتْنًا أَيْ أَدَلُّ عَلَى الْمَعْنَى وَأَبْعَدُ مِنْ الِاحْتِمَالِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْحَدِيثَ مَعَ الْقِصَّةِ فَقَالَ «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ» الْحَدِيثَ وَذَلِكَ دَلِيلُ الْإِتْقَانِ وَفِيهِ ذِكْرُ الْأَمْرِ مِمَّنْ هُوَ مُفْتَرَضُ الطَّاعَةِ وَهُوَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَيْسَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِصَّةَ لَمْ تُذْكَرْ فِيهِ وَهُوَ أَيْضًا حِكَايَةُ فِعْلِهِمْ؛ لِأَنَّهُ قَالَ كُنَّا نَخْرُجُ وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُوجِبٍ وَلَيْسَ فِيهِ أَيْضًا بَيَانُ أَنَّ أَدَاءَ كُلِّ الصَّاعِ كَانَ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَدَاءً بِصِفَةٍ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ وَأَدَاءُ الْبَاقِي بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ، وَانْضَافَ إلَى ذَلِكَ أَيْ إلَى حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ «أَخْرِجُوا صَدَقَةَ صَوْمِكُمْ فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هَذِهِ الصَّدَقَةَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ نِصْفَ صَاعِ قَمْحٍ عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ» قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِنْ الطَّعْنِ الَّذِي لَا يُقْبَلُ الطَّعْنُ بِعَدَمِ احْتِرَافِ الرِّوَايَةِ وَاعْتِيَادِهَا مِثْلُ طَعْنِ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَتَقْسِيمِهِ الْأَخْبَارَ بِالْمُتَوَاتِرِ وَالْمَشْهُورِ وَالْغَرِيبِ وَالْمُسْتَنْكَرِ فِي التَّقْوِيمِ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْفَنِّ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ بِصَحِيحِ الْأَخْبَارِ وَسَقِيمِهَا فَكَانَ الْأَوْلَى بِهِ أَنْ يَتْرُكَ الْخَوْضَ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَيُحِيلَهُ عَلَى أَهْلِهِ فَإِنَّ مَنْ خَاضَ فِيمَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ افْتُضِحَ عِنْدَ أَهْلِهِ. وَهَذَا طَعْنٌ بَاطِلٌ أَعْنِي بِعَدَمِ الِاعْتِيَادِ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْإِتْقَانِ لَا لِلِاحْتِرَافِ وَرُبَّمَا يَكُونُ إتْقَانُ مَنْ لَمْ يَحْتَرِفْ الرِّوَايَةَ أَكْثَرَ مِنْ إتْقَانِ مَنْ اعْتَادَهَا، وَأَمَّا طَعْنُهُمْ عَلَى الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ فَغَيْرُ مُتَوَجِّهٍ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ أَمْرٌ كُلِّيٌّ وَبَيَانُ اصْطِلَاحٍ لَا حَاجَةَ فِيهِ إلَى مَعْرِفَةِ أَفْرَادِ الْأَحَادِيثِ وَأَسَانِيدِهَا وَصِحَّتِهَا وَسَقَمِهَا وَإِلَى مَعْرِفَةِ الرِّجَالِ وَأَحْوَالِهِمْ مِنْ الْعَدَالَةِ وَالْفِسْقِ بَلْ يَعْرِفُهُ مَنْ لَهُ أَدْنَى بَصِيرَةٍ مِنْ الْمُخْلِصِينَ فَكَيْفَ يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ مَعَ غَزَارَةِ عِلْمِهِ وَمَهَارَتِهِ فِي كُلِّ فَنٍّ بَلْ الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ التَّعَصُّبُ وَالْحَسَدُ وَإِلَّا كَيْفَ لَمْ يَطْعَنُوا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ الَّذِينَ لَا مُمَارَسَةَ لَهُمْ بِعِلْمِ الْحَدِيثِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ حَيْثُ ذَكَرُوا فِي كُتُبِهِمْ مَبَاحِثَ تَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ الْحَدِيثِ أَكْثَرَ مِمَّا ذَكَرَهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، إذَا صَحَّ الْإِتْقَانُ سَقَطَتْ الْعَادَةُ أَيْ إذَا تَحَقَّقَ الْإِتْقَانُ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْعَادَةِ وَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهَا بَعْدُ، قَوْلُهُ (وَقَدْ يَقَعُ الطَّعْنُ بِسَبَبٍ هُوَ مُجْتَهِدٌ فِيهِ مِثْلُ الطَّعْنِ بِالِاسْتِكْثَارِ) مِنْ فُرُوعِ الْفِقْهِ كَمَا ذَكَرَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ فِي حَقِّ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَانَ إمَامًا حَافِظًا مُتْقِنًا إلَّا أَنَّهُ اشْتَغَلَ بِالْفِقْهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا اشْتَغَلَ بِالْفِقْهِ وَصَرَفَ هِمَّتَهُ إلَيْهِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَقَعَ خَلَلٌ فِي حِفْظِ الْحَدِيثِ وَضَبْطِهِ وَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ الِاجْتِهَادِ وَقُوَّةِ الذِّهْن فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى حُسْنِ الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ فَكَيْفَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ طَعْنًا؟ وَجَعَلَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ قَبِيلِ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالطَّعْنِ بِعَدَمِ الِاحْتِرَافِ وَالطَّعْنِ بِالْإِرْسَالِ وَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ دَلِيلُ تَأْكِيدِ الْخَبَرِ وَاتَّقَانِ الرَّاوِي فِي السَّمَاعِ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَهُ أَيْ بَعْضَ مَا يَصِحُّ بِهِ الْجَرْحُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَبْوَابِ مِثْلِ ارْتِكَابِ بَعْضِ الْكَبَائِرِ

[باب المعارضة]

وَمَنْ طَلَبَهَا فِي مَظَانِّهَا وَقَفَ عَلَيْهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَهَذِهِ الْحِجَجُ الَّتِي ذَكَرْنَا وُجُوهَهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا تَتَعَارَضُ فِي أَنْفُسِهَا وَضْعًا وَلَا تَتَنَاقَضُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَمَارَاتِ الْفُجَّرِ الْحُدَّثِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا لِجَهْلِنَا بِالنَّاسِخِ مِنْ الْمَنْسُوخِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. . وَهَذَا (بَابُ الْمُعَارَضَةِ) وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّعَارُضَ لَيْسَ بِأَصْلٍ كَانَ الْأَصْلُ فِي الْبَابِ طَلَبُ مَا يَدْفَعُ التَّعَارُضَ، وَإِذَا جَاءَ الْعَجْزُ وَجَبَ إثْبَاتُ حُكْمِ التَّعَارُضِ وَهَذَا الْفَصْلُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ مَعْرِفَةُ التَّعَارُضِ لُغَةً وَشَرْطِهِ وَرُكْنِهِ وَحُكْمِهِ شَرِيعَةً أَمَّا مَعْنَى الْمُعَارَضَةِ لُغَةً فَالْمُمَانَعَةُ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ يُقَالُ عَرَضَ إِلَيَّ بِكَذَا أَيْ اسْتَقْبَلَنِي بِصَدٍّ وَمَنْعٍ سُمِّيَتْ الْمَوَانِعُ عَوَارِضُ، ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ وَمُخَالَفَةِ الْحَدِيثِ الْغَرِيبِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ وَعَمَلَ الرَّاوِي بِخِلَافِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ إيَّاهُ وَنَحْوِهَا. وَمَنْ طَلَبَهَا أَيْ وُجُوهَ الطَّعْنِ عَلَى الصِّحَّةِ فِي مَظَانِّهَا أَيْ مَوَاضِعِهَا وَهِيَ كُتُبُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ الَّتِي صَنَّفَهَا أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ، وَمَظِنَّةُ الشَّيْءِ مَوْضِعُهُ وَمَأْلَفُهُ الَّذِي يُظَنُّ كَوْنُهُ فِيهِ. قَوْلُهُ (لَا تَتَعَارَضُ فِي أَنْفُسِهَا وَضْعًا وَلَا تَتَنَاقَضُ) فَالتَّنَاقُضُ عِنْدَ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ وُجُودُ الدَّلِيلِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ مَعَ تَخَلُّفِ الْمَدْلُولِ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ لِمَانِعٍ أَوْ لَا لِمَانِعٍ، وَعِنْدَ مَنْ جَوَّزَهُ هُوَ وُجُودُ الدَّلِيلِ مَعَ تَخَلُّفِ الْمَدْلُولِ بِلَا مَانِعٍ، وَالتَّعَارُضُ تَقَابُلُ الْحُجَّتَيْنِ الْمُتَسَاوِيَتَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ فَالتَّنَاقُضُ يُوجِبُ بُطْلَانَ الدَّلِيلِ وَالتَّعَارُضُ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَرَّضَ الدَّلِيلُ، هَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النُّصُوصِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْآخَرِ فَإِنَّ تَخَلُّفَ الْمَدْلُولِ عَنْ الدَّلِيلِ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَانِعٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْمَانِعُ مُعَارِضًا لِلدَّلِيلِ فِيمَا تَخَلَّفَ عَنْهُ. وَكَذَا إذَا تَعَارَضَ النَّصَّانِ يَكُونُ الْحُكْمُ مُتَخَلِّفًا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ لَا مَحَالَةَ فَيَتَحَقَّقُ التَّنَاقُضُ فَلِذَلِكَ جَمَعَ الشَّيْخُ بَيْنَهُمَا كَذَا قِيلَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا بِمَعْنَى الْمُتَرَادِفَيْنِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ التَّنَاقُضَ فِي الْكَلَامِ فِي عَامَّةِ الِاصْطِلَاحَاتِ هُوَ اخْتِلَافُ كَلَامَيْنِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ بِحَيْثُ يَقْتَضِي لِذَاتِهِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا صِدْقًا وَالْآخَرُ كَذِبًا وَهَذَا هُوَ عَيْنُ التَّعَارُضِ فَيَكُونُ كِلَاهُمَا بِمَعْنًى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْ التَّعَارُضَ وَالتَّنَاقُضَ مِنْ عَلَامَاتِ الْعَجْزِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَقَامَ حُجَّةً مُتَنَاقِضَةً عَلَى شَيْءٍ كَانَ ذَلِكَ لِعَجْزِهِ عَنْ إقَامَةِ حُجَّةٍ غَيْرِ مُتَنَاقِضَةٍ وَكَذَا إذَا أَثْبَتَ حُكْمًا بِدَلِيلٍ عَارَضَهُ دَلِيلٌ آخَرُ يُوجِبُ خِلَافَهُ كَانَ ذَلِكَ لِعَجْزِهِ عَنْ إقَامَةِ دَلِيلٍ سَالِمٍ عَنْ الْمُعَارَضَةِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى يَتَعَالَى عَنْ أَنْ يُوصَفَ بِهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّعَارُضُ بَيْنَ هَذِهِ الْحُجَجِ وَالتَّنَاقُضُ أَيْ التَّنَاقُضُ الَّذِي اسْتَلْزَمَهُ التَّعَارُضُ لِجَهْلِنَا بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا فَيَكُونَ مَنْسُوخًا بِالْمُتَأَخِّرِ فَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ التَّارِيخُ لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ فَيَقَعُ التَّعَارُضُ ظَاهِرًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَمَكَّنَ التَّعَارُضُ فِي الْحُكْمِ حَقِيقَةً. فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: أَيْ التَّعَارُضِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ بَيَانِ شَرْطِهِ وَحُكْمِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا: أَيْ الَّذِي نَشْرَعُ فِيهِ. [بَابُ الْمُعَارَضَةِ] [بَاب الْمُعَارَضَة] أَيْ بَابُ بَيَانِهَا قَوْلُهُ (وَهَذَا الْفَصْلُ) أَيْ فَصْلُ بَيَانِ الْمُعَارَضَةِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ فِي الْأَصْلِ أَيْ بِاعْتِبَارِ نَفْسِ الْمُعَارَضَةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى أَنَّهَا وَقَعَتْ فِي الْحُجَجِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ تَقْسِيمِ الْجِنْسِ إلَى أَنْوَاعِهِ كَتَقْسِيمِ الْحَيَوَانِ إلَى إنْسَانٍ وَفَرَسٍ وَحِمَارٍ وَغَيْرِهَا لِيُشْتَرَطَ فِيهِ اشْتِرَاطُ مَوْرِدِ التَّقْسِيمِ بَيْنَ الْأَقْسَامِ بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ تَقْسِيمِ الْكُلِّ إلَى أَجْزَائِهِ كَتَقْسِيمِ الْإِنْسَانِ إلَى حَيَوَانٍ وَنَاطِقٍ فَإِنَّ مَوْرِدَ التَّقْسِيمِ بَيَانُ الْمُعَارَضَةِ، وَالْبَيَانُ بِصِفَةِ الْكَمَالِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِبَيَانِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ فَكَانَ بَيَانُ كُلِّ قِسْمٍ بِمَنْزِلَةِ جُزْءٍ مِنْ الْبَيَانِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ اشْتِرَاطُ مَوْرِدِ التَّقْسِيمِ. قَوْلُهُ (وَرُكْنُ الْمُعَارَضَةِ كَذَا) رُكْنُ الشَّيْءِ مَا لَا وُجُودَ لِذَلِكَ الشَّيْءِ إلَّا بِهِ وَأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى جُزْءٍ مِنْ الْمَاهِيَّةِ كَقَوْلِنَا الْقِيَامُ رُكْنُ الصَّلَاةِ وَيُطْلَقُ عَلَى جَمِيعِهَا كَمَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَإِنَّ

وَرُكْنُ الْمُعَارَضَةِ تَقَابُلُ الْحُجَّتَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا فِي حُكْمَيْنِ كَتَضَادَّيْنِ فَرُكْنُ كُلِّ شَيْءٍ مَا يَقُومُ بِهِ. وَأَمَّا الشَّرْطُ فَاتِّحَادُ الْمَحَلِّ وَالْوَقْتِ مَعَ تَضَادِّ الْحُكْمِ مِثْلُ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَذَلِكَ أَنَّ التَّضَادَّ لَا يَقَعُ فِي مَحَلَّيْنِ لِجَوَازِ اجْتِمَاعِهِمَا، مِثْلُ النِّكَاحِ يُوجِبُ الْحِلَّ فِي مَحَلٍّ وَالْحُرْمَةَ فِي غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ فِي وَقْتَيْنِ لِجَوَازِ اجْتِمَاعِهِمَا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي وَقْتَيْنِ مِثْلُ حُرْمَةِ الْخَمْرِ بَعْدَ حِلِّهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا فُسِّرَ الرُّكْنُ بِهِ هُوَ تَفْسِيرُ نَفْسِ التَّعَارُضِ أَيْضًا كَذَا قِيلَ. وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِتَسَاوِي الْحُجَّتَيْنِ لِيَتَحَقَّقَ التَّقَابُلُ وَالتَّدَافُعُ إذْ لَا مُقَابَلَةَ بَيْنَ الضَّعِيفِ وَالْقَوِيِّ بَلْ يَتَرَجَّحُ الْقَوِيُّ فَالْمَشْهُورُ لَا يُقَابِلُ الْمُتَوَاتِرَ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُعَارِضُ الْمَشْهُورَ، وَقَيَّدَ بِتَضَادِّ الْحُكْمَيْنِ أَيْ بِمُخَالَفَتِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا إذَا كَانَا مُتَّفِقَيْنِ يَتَأَيَّدُ كُلُّ دَلِيلٍ بِالْآخَرِ وَلَا يَقَعُ التَّعَارُضُ، وَذَلِكَ أَيْ اشْتِرَاطُ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ وَالْوَقْتِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُضَادَّةَ وَالتَّنَافِيَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ لَا تَتَحَقَّقُ فِي مَحَلَّيْنِ وَكَاجْتِمَاعِ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ فِي الْمَنْكُوحَةِ وَأُمِّهَا مِنْ أَنَّ الْمُوجِبَ وَاحِدٌ وَهُوَ النِّكَاحُ فَكَيْفَ إذَا كَانَ اثْنَيْنِ، وَلَا فِي وَقْتَيْنِ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَيَنْدَرِجُ فِيمَا ذُكِرَ اتِّحَادُ الْحَالِ أَيْضًا فَإِنَّ اخْتِلَافَهَا مِنْ قَبِيلِ اخْتِلَافِ الْمَحَلِّ أَوْ اخْتِلَافِ الْوَقْتِ، وَاتِّحَادُ النِّسْبَةِ شَرْطٌ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ الشَّيْخُ لِجَوَازِ اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى شَخْصَيْنِ كَاجْتِمَاعِ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ فِي الْمَنْكُوحَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزَّوْجِ وَغَيْرِهِ وَكَاجْتِمَاعِ الْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ فِي وَاحِدٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمِنْ الشَّرْطِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوجِبًا عَلَى وَجْهٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِلْآخَرِ إذَا عُرِفَ التَّارِيخُ بَيْنَهُمَا فَيَجْرِي التَّعَارُضُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ وَالسُّنَّتَيْنِ وَلَا يَجْرِي بَيْنَ الْقِيَاسَيْنِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِلْآخَرِ فَإِنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ تَارِيخٍ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْقِيَاسَيْنِ وَلَا بَيْنَ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عَنْ رَأْيِهِ فَالرِّوَايَةُ لَا تَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ وَكَمَا أَنَّ الرَّأْيَيْنِ مِنْ وَاحِدٍ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا لِلْآخَرِ فَكَذَا مِنْ اثْنَيْنِ. وَقَدْ سَمَّى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ التَّعَارُضَ الَّذِي بَيَّنَّا تَنَاقُضًا فَقَالَ إذَا اخْتَلَفَ الْكَلَامَانِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ سُمِّيَا مُتَنَاقِضَيْنِ وَيَعْنِي بِهِ أَنْ يَكْذِبَ أَحَدُهُمَا إذَا صَدَقَ الْآخَرُ، ثُمَّ قَالَ وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا التَّنَاقُضُ إلَّا بِوَحْدَةِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ فَإِنَّكَ إذَا قُلْتَ الْحَمَلُ يُذْبَحُ وَيُشْوَى لَا يُنَاقِضُهُ قَوْلُك الْحَمَلُ لَا يُذْبَحُ وَلَا يُشْوَى إذَا أَرَدْت بِهِ بُرْجَ الْحَمَلِ، وَبِوَحْدَةِ الْمَحْكُومِ فَإِنَّك إذَا قُلْت الْمُكْرَهُ مُخْتَارٌ أَيْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الِامْتِنَاعِ لَا يُنَاقِضُهُ قَوْلُك الْمُكْرَهُ لَيْسَ بِمُخْتَارٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مَا خُلِّيَ وَرَأْيَهُ وَشَهْوَتَهُ، وَيَنْدَرِجُ فِيمَا ذَكَرْنَا مَا ذَكَرُوا مِنْ اشْتِرَاطِ وَحْدَةِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْإِضَافَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْفِعْلِ وَالْكُلِّ وَالْجُزْءِ وَالشَّرْطِ؛ لِأَنَّك إذَا قُلْت زَيْدٌ جَالِسٌ أَيْ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَوْ الْمَكَانِ زَيْدٌ لَيْسَ بِجَالِسٍ أَيْ فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَان آخَرَ كَانَ الْمَحْكُومُ فِي الْأَوَّلِ غَيْرَهُ فِي الثَّانِي. وَكَذَا إذَا قُلْتَ زَيْدٌ أَبٌ أَيْ لِعُمَرَ زَيْدٌ لَيْسَ بِأَبٍ أَيْ لِخَالِدٍ إذْ الْمَحْكُومُ فِي الْأَوَّلِ أُبُوَّةُ عَمْرٍو وَفِي الثَّانِي أُبُوَّةُ خَالِدٍ، أَوْ قُلْت الْخَمْرُ فِي الدَّنِّ مُسْكِرٌ أَيْ بِالْقُوَّةِ الْخَمْرُ فِي الدَّنِّ لَيْسَ بِمُسْكِرٍ أَيْ بِالْفِعْلِ إذْ الْمَحْكُومُ فِيهِمَا أَمْرَانِ مُتَغَايِرَانِ، وَلَوْ قُلْت الزِّنْجِيُّ أَسْوَدُ أَيْ جِلْدُهُ الزِّنْجِيُّ لَيْسَ بِأَسْوَدَ أَيْ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ كَانَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ فِي الْأَوَّلِ بَعْضَ الْأَجْزَاءِ وَفِي الثَّانِي كُلَّهَا فَيَتَغَايَرَانِ. وَكَذَا إذَا قُلْتَ الْجِسْمُ مُفَرِّقٌ لِلْبَصَرِ أَيْ بِشَرْطِ كَوْنِهِ أَبْيَضَ، الْجِسْمُ لَيْسَ بِمُفَرِّقٍ لِلْبَصَرِ أَيْ بِشَرْطِ كَوْنِهِ أَسْوَدَ فَإِنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ فِي الْأَوَّلِ الْجِسْمُ الْمَوْصُوفُ بِالْبَيَاضِ وَفِي الثَّانِي الْجِسْمُ الْمَوْصُوفُ بِالسَّوَادِ وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ، وَبِالْجُمْلَةِ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يُغَايِرَ أَحَدُ الْكَلَامَيْنِ لِلْآخَرِ فِي شَيْءٍ أَلْبَتَّةَ إلَّا فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ

[حكم المعارضة بين آيتين]

وَحُكْمُ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ آيَتَيْنِ الْمَصِيرُ إلَى السُّنَّةِ وَبَيْنَ سُنَّتَيْنِ نَوْعَانِ: الْمَصِيرُ إلَى الْقِيَاسِ، وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الْحُجَجِ إنْ أَمْكَنَ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالنَّاسِخِ يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِهِمَا وَعِنْدَ الْعَجْزِ يَجِبُ تَقْرِيرُ الْأُصُولِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي وُقُوعِ الْمُعَارَضَةِ الْجَهْلُ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ اخْتَصَّ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَكَانَ بَيْنَ آيَتَيْنِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَيَنْفِي أَحَدُهُمَا مَا يُثْبِتُهُ الْآخَرُ بِعَيْنِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ [حُكْمُ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ آيَتَيْنِ] قَوْله (وَحُكْمُ الْمُعَارَضَةِ) كَذَا إذَا تَحَقَّقَ التَّعَارُضُ بَيْنَ النَّصَّيْنِ وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَالسَّبِيلُ فِيهِ الرُّجُوعُ إلَى طَلَبِ التَّارِيخِ فَإِنْ عُلِمَ التَّارِيخُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْمُتَأَخِّرِ لِكَوْنِهِ نَاسِخًا لِلْمُتَقَدِّمِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ سَقَطَ حُكْمُ الدَّلِيلَيْنِ لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِهِمَا وَبِأَحَدِهِمَا عَيْنًا؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِأَحَدِهِمَا لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِالْآخَرِ وَالتَّرْجِيحُ لَا يُمْكِنُ بِلَا مُرَجِّحٍ وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْعَمَلِ أَيْضًا لِوُجُودِ الدَّلِيلِ الَّذِي يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ بَعْدَهُمَا فَلَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِمَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَإِذَا تَسَاقَطَا وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ يُمْكِنُ بِهِ إثْبَاتُ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْحَادِثَةَ الْتَحَقَتْ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ذَلِكَ النَّصَّانِ بِتَسَاقُطِهِمَا فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ دَلِيلٍ آخَرَ يُتَعَرَّفُ بِهِ حُكْمُ الْحَادِثَةِ. ثُمَّ إنْ كَانَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى السُّنَّةِ إنْ وُجِدَتْ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ إنْ أَمْكَنَ أَوْ إلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسِ إنْ لَمْ تُوجَدْ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ السُّنَّتَيْنِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى مَا بَعْدَ السُّنَّةِ مِمَّا يُمْكِنُ بِهِ إثْبَاتُ حُكْمِ الْحَادِثَةِ، وَذَلِكَ نَوْعَانِ أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسُ، ثُمَّ عِنْدَ مَنْ أَوْجَدَ تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ مُطْلَقًا فِيمَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ وَفِيمَا لَا يُدْرَكُ بِهِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى أَقْوَالِهِمْ أَوَّلًا فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَإِلَى الْقِيَاسِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ حُكْمُ الْمُعَارَضَةِ هُوَ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ آيَتَيْنِ فَالْمَيْلُ إلَى السُّنَّةِ وَاجِبٌ وَإِنْ وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ سُنَّتَيْنِ فَالْمَيْلُ إلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَإِنْ وَقَعَ بَيْنَ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَالْمَيْلُ إلَى الْقِيَاسِ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْقِيَاسِ وَبَيْنَ أَقْوَالِ الصَّحَابَة، وَعِنْدَ مَنْ لَا يُوجِبُ تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ فِيمَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى مَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ مِنْ الْقِيَاسِ وَقَوْلِ الصَّحَابِيِّ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَمَّا كَانَ بِنَاءً عَلَى الرَّأْيِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ قِيَاسٍ آخَرَ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ تَعَارُضِ قِيَاسَيْنِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا بِشَرْطِ التَّحَرِّي. ثُمَّ مُخْتَارُ الشَّيْخِ إنْ كَانَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ يَكُونُ قَوْلُهُ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الْحُجَجِ مُتَعَلِّقًا بِالْمَجْمُوعِ أَيْ حُكْمُ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ الْمَصِيرُ إلَى السُّنَّةِ وَبَيْنَ السُّنَّتَيْنِ نَوْعَانِ الْمَصِيرُ إلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسِ لَكِنْ عَلَى التَّرْتِيبِ لَا عَلَى التَّسَاوِي، وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ الثَّانِي يَكُونُ قَوْلُهُ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الْحُجَجِ مُتَعَلِّقًا بِمَا تَقَدَّمَ لَا بِقَوْلِهِ إلَى الْقِيَاسِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ أَيْ الْكِتَابُ مُقَدَّمٌ عَلَى السُّنَّةِ فَعِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْعَمَلِ بِهِ يُصَارُ إلَى السُّنَّةِ وَالسُّنَّةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْقِيَاسِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَعِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْعَمَلِ بِهَا يُصَارُ إلَى أَحَدِهِمَا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الْحُجَجِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ وَاتِّفَاقِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ وَإِنَّمَا قَالَ وَبَيْنَ سُنَّتَيْنِ نَوْعَانِ وَإِنْ كَانَ يُصَارُ إلَى قَوْلِ الصَّحَابِيِّ أَوَّلًا ثُمَّ إلَى الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَيْهِمَا مِنْ حُكْمِ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ السُّنَّتَيْنِ إلَّا أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ شُبْهَةُ السَّمَاعِ فَيُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ. قَوْلُهُ (وَعِنْدَ الْعَجْزِ) يَعْنِي عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْمَصِيرِ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ بَعْدَ النَّصَّيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ دَلِيلٌ آخَرُ يُعْمَلُ بِهِ، أَوْ يُوجَدُ التَّعَارُضُ فِي الْجَمِيعِ يَجِبُ تَقْرِيرُ الْأُصُولِ أَيْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالْأَصْلِ فِي جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّصَّيْنِ كَمَا سَيَجِيءُ بَيَانُهُ، فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ حُكْمَ الْمُعَارَضَةِ نَوْعَانِ الْمَصِيرُ إلَى مَا بَعْدَ الْمُتَعَارِضَيْنِ مِنْ الدَّلِيلِ إنْ أَمْكَنَ وَتَقْرِيرُ الْأُصُولِ إنْ لَمْ يُمْكِنْ ثُمَّ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ إنْ كَانَ التَّعَارُضُ بَيْنَ آيَتَيْنِ فَالْمَصِيرُ

أَوْ قِرَاءَتَيْنِ فِي آيَةٍ أَوْ بَيْنَ سُنَّتَيْنِ أَوْ سُنَّةٍ وَآيَةٍ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ سَائِغٌ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِمَّا بَيْنَ قِيَاسَيْنِ أَوْ قَوْلَيْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَلَا لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَصْلُحُ نَاسِخًا، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ بِنَاءً عَلَى رَأْيِهِ فَحَلَّ مَحَلَّ الْقِيَاسِ أَيْضًا، بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَيْنِ إذَا تَعَارَضَا لَمْ يَسْقُطَا بِالتَّعَارُضِ لِيَجِبَ الْعَمَلُ بِهِ فِي الْحَالِ بَلْ يَعْمَلُ الْمُجْتَهِدُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ بِشَهَادَةِ قَلْبِهِ؛ لِأَنَّ تَعَارُضَ النَّصَّيْنِ كَانَ لِجَهْلِنَا بِالنَّاسِخِ وَالْجَهْلُ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ الِاخْتِيَارُ ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَى السُّنَّةِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ سُنَّتَيْنِ فَنَوْعَانِ الْمَصِيرُ إلَى الْقِيَاسِ وَإِلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ، وَإِنْ جَعَلْتَ الْمَصِيرَ إلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسِ نَوْعًا وَاحِدًا وَتَقْرِيرَ الْأُصُولِ عِنْدَ الْعَجْزِ نَوْعًا آخَرَ فَلَهُ وَجْهٌ، وَبِالْجُمْلَةِ فِي هَذَا الْكَلَامِ نَوْعُ اشْتِبَاهٍ وَلَمْ يَتَّضِحْ لِي سِرُّهُ. ثُمَّ الْمَصِيرُ إلَى السُّنَّةِ فِي تَعَارُضِ الْآيَتَيْنِ وَالْمَصِيرُ إلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسِ فِي تَعَارُضِ السُّنَّتَيْنِ إنَّمَا يَجِبُ إذَا كَانَ التَّسَاوِي ثَابِتًا فِي عَدَدِ الْحُجَجِ بِأَنْ كَانَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنْ كَانَ مِنْ جَانِبٍ دَلِيلٌ وَاحِدٌ وَمِنْ جَانِبٍ دَلِيلَانِ فَاخْتُلِفَ فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّ أَحَدَ الدَّلِيلَيْنِ يَسْقُطُ بِالتَّعَارُضِ وَالدَّلِيلُ الْآخَرُ الَّذِي سَلِمَ عَنْ الْمُعَارَضَةِ يُتَمَسَّكُ بِهِ وَلَا يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَى مَا بَعْدَهُ مِنْ الدَّلَائِلِ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا عِبْرَةَ لِكَثْرَةِ الْعَدَدِ وَقِلَّتِهِ فِي التَّعَارُضِ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ قِيلَ نَظِيرُ التَّعَارُضِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ وَالْمَصِيرِ إلَى السُّنَّةِ قَوْله تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] فَإِنَّ الْأَوَّلَ بِعُمُومِهِ يُوجِبُ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْمُقْتَدِي لِوُرُودِهِ فِي الصَّلَاةِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَبِدَلَالَةِ السِّيَاقِ، وَالسِّيَاقُ الثَّانِي يَنْفِي وُجُوبَهَا عَنْهُ إذْ الْإِنْصَاتُ لَا يُمْكِنُ مَعَ الْقِرَاءَةِ وَأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ أَيْضًا عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فَيَتَعَارَضَانِ فَيُصَارُ إلَى الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ «وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا» وَلَا يُعَارِضُهُمَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ فِي نَفْسِهِ قَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْفَضِيلَةِ عَلَى مَا عُرِفَ. وَنَظِيرُ التَّعَارُضِ بَيْنَ السُّنَّتَيْنِ وَالْمَصِيرِ إلَى الْقِيَاسِ مَا رَوَى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صَلَاةَ الْكُسُوفِ كَمَا تُصَلُّونَ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ» وَمَا رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّهُ صَلَّاهَا رَكْعَتَيْنِ بِأَرْبَعِ رُكُوعَاتٍ وَأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ» فَإِنَّهُمَا لَمَّا تَعَارَضَا صِرْنَا إلَى الْقِيَاسِ وَهُوَ الِاعْتِبَارُ بِسَائِرِ الصَّلَوَاتِ. قَوْلُهُ (أَوْ قِرَاءَتَيْنِ) مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] بِالنَّصْبِ وَالْجَرِّ وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ يَطْهُرْنَ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ، وَلَا يُقَالُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَقَعُ لِلْجَهْلِ بِالنَّاسِخِ وَلَا يُتَصَوَّرُ نَسْخُ إحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالْأُخْرَى لِنُزُولِهِمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَلَا يَتَحَقَّقُ شَرْطُ النَّسْخِ وَهُوَ زَمَانٌ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ الْعَمَلِ أَوْ الِاعْتِقَادِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَا نُسَلِّمُ نُزُولَهُمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بَلْ الْإِذْنُ بِالْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ ثَبَتَ بِسُؤَالِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ مَا نَزَلَتْ الْقِرَاءَةُ الْأُولَى بِزَمَانٍ طَوِيلٍ فَيَتَحَقَّقُ شَرْطُ النَّسْخِ وَتَكُونُ الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ نَاسِخَةً لِحُكْمِ الْأُولَى فِيمَا لَمْ يُمْكِنْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، إلَّا أَنَّا لَمَّا لَمْ نَعْرِفْ الْأُولَى مِنْ الثَّانِيَةِ وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا كَمَا يَقَعُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ. (قَوْلُهُ) ؛ (لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَصْلُحُ نَاسِخًا) أَيْ لَا يُصْلَحُ نَاسِخًا لِشَيْءٍ أَصْلًا أَمَّا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ فَلِأَنَّ النَّاسِخَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ الْمَنْسُوخِ أَوْ مِثْلَهُ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَبَيْنَ الْقِيَاسِ وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَلِأَنَّ النَّسْخَ لِبَيَانِ انْتِهَاءِ مُدَّةِ حُسْنِ الْمَشْرُوعِ، وَلِهَذَا لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مُدَّةٌ وَلَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي مَعْرِفَةِ انْتِهَاءِ حُسْنِ الْمَشْرُوعِ وَلَا يَتَحَقَّقُ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ فِي الْمَعَانِي الْمُودَعَةِ فِي النَّصِّ أَيْضًا. وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَيْ بَيَانُ عَدَمِ التَّعَارُضِ بَيْنَ الْقِيَاسَيْنِ كَذَا يَعْنِي. الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِنَا لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْقِيَاسَيْنِ أَنَّهُمَا لَا يَسْقُطَانِ بِهِ بَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا لِشَرْطِ التَّحَرِّي

وَأَمَّا تَعَارُضُ الْقِيَاسَيْنِ فَلَمْ يَقَعْ مِنْ قِبَلِ الْجَهْلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَضْعُ الشَّرْعِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ فَأَمَّا فِي الْحَقِيقَةِ فَلَا مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْحَقَّ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ وَاحِدٌ يُصِيبُهُ الْمُجْتَهِدُ مَرَّةً وَيُخْطِئُ أُخْرَى إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَأْجُورًا عَلَى عَمَلِهِ وَجَبَ التَّخْيِيرُ لِاعْتِبَارِ شُبْهَةِ الْحَقِيقَةِ فِي حَقِّ نَفْسِ الْعَمَلِ بِشَهَادَةِ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِاخْتِصَاصِ الْقَلْبِ بِنُورِ الْفِرَاسَةِ. وَأَمَّا فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ فَجَهْلٌ مَحْضٌ بِلَا شُبْهَةٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQإذَا احْتَاجَ إلَى الْعَمَلِ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ لَهُ حَاجَةٌ إلَى الْعَمَلِ يَتَوَقَّفُ فِيهِ، وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَعْمَلُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ، وَلِهَذَا صَارَ لَهُ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ قَوْلَانِ وَأَقْوَالٌ وَأَمَّا الرِّوَايَتَانِ اللَّتَانِ رُوِيَتَا عَنْ أَصْحَابِنَا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّمَا كَانَتَا فِي وَقْتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَإِحْدَاهُمَا صَحِيحَةٌ وَالْأُخْرَى فَاسِدَةٌ وَلَكِنْ لَمْ تُعْرَفْ الْأَخِيرَةُ مِنْهُمَا كَالْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرِوَايَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَدْ قَالَهُمَا فِي زَمَانَيْنِ وَلَكِنْ لَمْ يُعْرَفْ السَّابِقُ مِنْ اللَّاحِقِ كَذَا ذَكَرَ أَبُو الْيُسْرِ، فَصَارَ حَاصِلُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّعَارُضَ يَجْرِي بَيْنَ النَّصَّيْنِ اللَّذَيْنِ يَتَحَقَّقُ النَّسْخُ فِيهِمَا وَلَا يَجْرِي بَيْنَ الْقِيَاسَيْنِ بَلْ يَعْمَلُ الْمُجْتَهِدُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ بِشَهَادَةِ قَلْبِهِ فَأَقَامَ الشَّيْخُ دَلِيلًا عَلَى الْحَاصِلِ فَقَالَ لِأَنَّ تَعَارُضَ النَّصَّيْنِ كَذَا. وَتَقْرِيرُهُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ أَنَّ النَّصَّيْنِ لَا يَتَعَارَضَانِ إلَّا وَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا مَنْسُوخٌ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ لَكِنَّا جَهِلْنَاهُ وَالْجَهْلُ لَا يَصِيرُ عَمَلًا شَرْعِيًّا وَالِاخْتِيَارُ عَمَلٌ شَرْعِيٌّ وَأَمَّا الْقِيَاسَانِ فَيَتَعَارَضَانِ عَلَى طَرِيقِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحِيحٌ الْعَمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ جُعِلَ حُجَّةً يُعْمَلُ بِهِ أَصَابَ الْمُجْتَهِدُ بِهِ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ أَخْطَأَهُ، وَلَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُجَّةً لَمْ يَسْقُطْ وُجُوبُ الْعَمَلِ فَإِنْ قِيلَ لَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْقِيَاسَيْنِ حُجَّةً يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَجَبَ أَنْ يَخْتَارَ أَيَّهمَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ كَمَا فِي أَجْنَاسِ مَا يَقَعُ بِهِ التَّكْفِيرُ. قُلْنَا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ صَحِيحَةٌ فِي حَقِّ الْعَمَلِ فَإِذَا تَعَارَضَ الْقِيَاسَانِ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُجَّةً فِي حَقِّ الْعَمَلِ بِهِ لَكِنْ كِلَاهُمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ إصَابَةِ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدٌ وَالْقِيَاسُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلِقَلْبِ الْمُؤْمِنِ نُورٌ يُدْرِكُ بِهِ مَا هُوَ بَاطِنٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» وَإِصَابَةُ الْحَقِّ غَيْبٌ فَتَصْلُحُ شَهَادَةُ الْقَلْبِ حُجَّةً فِي ذَلِكَ فَيَعْمَلُ بِمَا شَهِدَ بِهِ قَلْبُهُ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْعَمَلِ دُونَ الْإِصَابَةِ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُمَا حُجَّتَانِ فِي الْعَمَلِ بِهِمَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ كَمَا فِي الْكَفَّارَاتِ وَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدٌ صَارَا مُتَعَارِضَيْنِ فَيَجِبُ أَنْ يَسْقُطَا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا خَطَأٌ وَالْآخَرَ صَوَابٌ وَلَا يُدْرَى أَيُّهُمَا الصَّوَابُ كَمَا فِي النَّصَّيْنِ فَمِنْ وَجْهٍ يَسْقُطُ وَمِنْ وَجْهٍ لَا يَسْقُطُ فَقُلْنَا يَحْكُمُ فِيهِ بِرَأْيِهِ وَيَعْمَلُ بِشَهَادَةِ قَلْبِهِ بِخِلَافِ الْكَفَّارَاتِ كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ. قَوْلُهُ (فَأَمَّا تَعَارُضُ الْقِيَاسَيْنِ فَلَمْ يَقَعْ مِنْ قِبَلِ الْجَهْلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ) أَيْ مِنْ قِبَلِ الْجَهْلِ بِالدَّلِيلِ الَّذِي يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ. (لِأَنَّ ذَلِكَ) : أَيْ الْقِيَاسَ. (وَضْعُ الشَّرْعِ) : أَيْ دَلِيلٌ وَضَعَهُ الشَّرْعُ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ وَإِنْ وَقَعَ خَطَأً فَإِنَّ الشَّرْعَ وَضَعَ الْقِيَاسَ بِطَرِيقِهِ وَهُوَ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْمَنْصُوصِ وَيُبَيِّنَ الْوَصْفَ الْمُؤَثِّرَ وَيُحَافَظَ شَرَائِطَهُ فَيَكُونَ كُلُّ قِيَاسٍ صَحِيحًا بِوَضْعِ الشَّرْعِ فَلَا يَكُونُ التَّعَارُضُ بِنَاءً عَلَى الْجَهْلِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَأَمَّا فِي الْحَقِيقَةِ أَيْ فِي إصَابَةِ الْحَقِّ حَقِيقَةً وَوُقُوعِ الْعِلْمِ فَلَا أَيْ لَمْ يَضَعْهُ الشَّرْعُ طَرِيقًا إلَيْهِ فَيَكُونُ سَبَبَ التَّعَارُضِ الْجَهْلُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. إلَّا أَنَّهُ: أَيْ لَكِنَّ الْقَايِسَ لَمَّا كَانَ مَأْجُورًا عَلَى عَمَلِهِ أَيْ اجْتِهَادِهِ أَخْطَأَ الْحَقَّ أَوْ أَصَابَ وَجَبَ التَّخْيِيرُ أَيْ الْحُكْمُ بِالتَّخْيِيرِ لِاعْتِبَارِ شُبْهَةِ الْحَقِيقَةِ: أَيْ بِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقًّا فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ، وَوَجَبَ الْعَمَلُ بِشَهَادَةِ الْقَلْبِ طَلَبًا لِلْحَقِّ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِأَحَدِهِمَا بِشَهَادَةِ قَلْبِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ

وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِتَعَارُضِ الْقِيَاسَيْنِ يُوجِبُ الْعَمَلَ بِلَا دَلِيلٍ هُوَ الْحَالُ، وَتَعَارُضُ الْحُجَّتَيْنِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُوجِبُ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا كَانَ مَعَهُ إنَاءَانِ فِي أَحَدِهِمَا مَاءٌ نَجِسٌ وَفِي الْآخَرِ طَاهِرٌ وَهُوَ لَا يَدْرِي عَمِلَ بِالتَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّهُ طَهُورٌ مُطْلَقٌ عِنْدَ الْعَجْزِ، وَقَدْ وَقَعَ الْعَجْزُ بِالتَّعَارُضِ فَلَمْ يَقَعْ بِالضَّرُورَةِ فَلَمْ يَجُزْ الْعَمَلُ بِشَهَادَةِ الْقَلْبِ وَلَوْ كَانَ مَعَهُ ثَوْبَانِ نَجِسٌ وَطَاهِرٌ لَا ثَوْبَ مَعَهُ غَيْرُهُمَا عَمِلَ بِالتَّحَرِّي ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالْقِيَاسَيْنِ جَمِيعًا كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَمَّا كَانَ وَاحِدًا كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْعَمَلِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ كَذَا قَالَ أَبُو الْيُسْرِ؛ لِأَنَّهُ أَيْ الْمَذْكُورَ وَهُوَ شَهَادَةُ الْقَلْبِ دَلِيلٌ لِطَلَبِ الْحَقِّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَهِيَ انْقِطَاعُ الْأَدِلَّةِ كَمَا فِي اشْتِبَاهِ الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهِ، وَالْفِرَاسَةُ نَظَرُ الْقَلْبِ بِنُورٍ يَقَعُ فِيهِ. وَفِي الصِّحَاحِ الْفِرَاسَةُ بِالْكَسْرِ اسْمٌ مِنْ قَوْلِك تَفَرَّسْت فِيهِ خَيْرًا أَيْ أَبْصَرْت وَفَهِمْت وَهُوَ يَتَفَرَّسُ أَيْ يَتَثَبَّتُ وَيَنْظُرُ وَتَقُولُ مِنْهُ رَجُلٌ فَارِسُ النَّظَرِ وَأَنَا أَفَرَسُ مِنْهُ أَيْ أَعْلَمُ وَأَبْصَرُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ» . وَأَمَّا فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ: أَيْ التَّعَارُضُ فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. فَجَهْلٌ مَحْضٌ: أَيْ بِنَاءً عَلَى جَهْلٍ مَحْضٍ بِالنَّاسِخِ. بِلَا شُبْهَةٍ: أَيْ بِلَا شُبْهَةِ حَقِّيَّةَ فِي كِلَيْهِمَا فِي حَقِّ الْعَمَلِ بَلْ الْحَقُّ لَيْسَ إلَّا وَاحِدًا مِنْهُمَا فِي حَقِّ الْعِلْمِ أَوْ الْعَمَلِ جَمِيعًا. قَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِتَعَارُضِ الْقِيَاسَيْنِ) يَعْنِي إذَا قُلْنَا بِتَحَقُّقِ التَّعَارُضِ فِي الْقِيَاسَيْنِ فَلَا نَجِدُ بُدًّا مِنْ تَرْتِيبِ حُكْمِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ التَّسَاقُطُ وَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى الْعَمَلِ بِلَا دَلِيلٍ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَضْطَرُّ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ الْوَاقِعَةِ وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ إلَّا بِدَلِيلٍ وَأَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ حَقٌّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لَا مَحَالَةَ وَحُجَّةٌ يَقِينًا فَكَانَ الْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا عَلَى احْتِمَالِ أَنَّهُ الْحُجَّةُ حَقِيقَةً أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِلَا دَلِيلٍ فَحَلَّ لَهُ الْعَمَلُ بِالْمُحْتَمَلِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ، فَأَمَّا فِي تَعَارُضِ الْحُجَّتَيْنِ مِنْ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ فَلَا ضَرُورَةَ؛ لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ وَهُوَ الْقِيَاسُ فَلَا ضَرُورَةَ فِي الْعَمَلِ بِمَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ أَصْلًا وَهُوَ الْمَنْسُوخُ. قَوْلُهُ (وَمِثَالُ ذَلِكَ) أَيْ نَظِيرُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّسَاقُطِ وَعَدَمِ التَّخْيِيرِ فِي تَعَارُضِ النَّصَّيْنِ وَعَدَمِ التَّسَاقُطِ وَثُبُوتِ التَّخْيِيرِ بِشَرْطِ التَّحَرِّي فِي تَعَارُضِ الْقِيَاسَيْنِ مَسْأَلَتَا الْإِنَاءَيْنِ وَالثَّوْبَيْنِ فَإِنَّ الْمُسَافِرَ إذَا كَانَ مَعَهُ إنَاءَانِ مِنْ الْمَاءِ أَحَدُهُمَا نَجِسٌ وَالْآخَرُ طَاهِرٌ وَلَيْسَ لَهُ مَاءٌ طَاهِرٌ سِوَاهُمَا وَأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الطَّاهِرَ مِنْ النَّجَسِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَرَّى لِلْوُضُوءِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَلْ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّهُ أَيْ التَّيَمُّمَ أَوْ التُّرَابَ طَهُورٌ مُطْلَقٌ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْمَاءِ الطَّاهِرِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ الْعَجْزُ هَاهُنَا بِالتَّعَارُضِ فَلَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا إلَى اسْتِعْمَالِ التَّحَرِّي لِلْوُضُوءِ لَمَّا أَمْكَنَهُ إقَامَةُ الْفَرْضِ بِالْبَدَلِ فَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّوَضُّؤُ بِأَحَدِهِمَا بِالتَّحَرِّي وَبِدُونِهِ فَهَذَا نَظِيرُ تَعَارُضِ النَّصَّيْنِ، وَنَظِيرُ تَعَارُضِ الْقِيَاسَيْنِ مَسْأَلَةُ الثَّوْبَيْنِ وَهِيَ مَا لَوْ كَانَ مَعَهُ ثَوْبَانِ نَجِسٌ وَطَاهِرٌ وَلَا يَعْرِفُ الطَّاهِرَ مِنْ النَّجِسِ وَلَيْسَ لَهُ ثَوْبٌ آخَرُ طَاهِرٌ وَلَا مَاءٌ يَغْسِلُهُمَا بِهِ فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى وَيُصَلِّي فِي الَّذِي يَقَعُ تَحَرِّيهِ عَلَى أَنَّهُ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ تَحَقَّقَتْ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ وَلَيْسَ لِلسَّتْرِ بُدٌّ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إقَامَةِ الْفَرْضِ فَجَازَ لَهُ التَّحَرِّي لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ حَتَّى أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْإِنَاءَيْنِ لَوْ احْتَاجَ إلَى الْمَاءِ لِلشُّرْبِ عِنْدَ اسْتِيلَاءِ الْعَطَشِ وَعَدَمِ الْمَاءِ الطَّاهِرِ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَحَرَّى أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا خَلَفَ لَهُ فِي حَقِّ الشُّرْبِ فَكَانَ مُضْطَرًّا فِي إقَامَةِ الشُّرْبِ بِهِ فَيَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي لِلشُّرْبِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَازَ لَهُ شُرْبُ الْمَاءِ النَّجِسِ حَقِيقَةً عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَالتَّحَرِّي الَّذِي فِيهِ إصَابَةُ الطَّاهِرِ مَأْمُولٌ فِيهِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْإِنَاءَيْنِ لَوْ كَانَا نَجِسَيْنِ لَا يُؤْمَرُ بِالتَّوَضُّؤِ بِهِمَا وَلَوْ فَعَلَ لَا يَجُوزُ لِوُجُودِ الْخَلَفِ وَهُوَ التُّرَابُ وَفِي مَسْأَلَةِ الثَّوْبَيْنِ لَوْ كَانَ كِلَاهُمَا نَجِسَيْنِ يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ فِي أَحَدِهِمَا وَيُجْزِيه وَذَلِكَ لِأَنَّ لَيْسَ لِلسَّتْرِ أَوْ لِلثَّوْبِ خَلَفٌ يَنْتَقِلُ الْحُكْمُ إلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ فَيَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي الَّذِي فِيهِ

لِضَرُورَةِ الْوُقُوعِ فِي الْعَمَلِ بِلَا دَلِيلٍ وَهُوَ الْحَالُ ـــــــــــــــــــــــــــــQإصَابَةُ الطَّاهِرِ مَأْمُولٌ أَيْضًا. وَقَوْلُهُ لِضَرُورَةٍ فِي الْعَمَلِ بِلَا دَلِيلٍ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْمَلْ بِالتَّحَرِّي الَّذِي هُوَ دَلِيلٌ جَائِزٌ الْعَمَلُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لَاحْتَاجَ إلَى الْعَمَلِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ الَّذِي هُوَ لَيْسَ بِدَلِيلٍ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُصَلِّيَ فِي أَيِّهِمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الطَّهَارَةُ إذْ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عُرْيَانًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِالِاتِّفَاقِ لِوُجُودِ الثَّوْبِ الطَّاهِرِ مِنْ وَجْهٍ كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ الصَّلَاةُ عُرْيَانًا إذَا وَجَدَ ثَوْبًا رُبْعُهُ طَاهِرٌ لَا غَيْرُ لِوُجُودِ الثَّوْبِ الطَّاهِرِ مِنْ وَجْهٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ لِلرُّبْعِ حُكْمَ الْكُلِّ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَالْعُدُولُ عَنْ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ إلَى مَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ فَاسِدٌ. ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ عَدَمِ جَوَازِ التَّحَرِّي وَوُجُوبِ التَّيَمُّمِ فِي مَسْأَلَةِ الْإِنَاءَيْنِ مَذْهَبُنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَتَحَرَّى وَيَتَوَضَّأُ بِمَا يَقَعُ تَحَرِّيه عَلَيْهِ أَنَّهُ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ التُّرَابَ إنَّمَا جُعِلَ طَهُورًا فِي حَالَةِ الْعَجْزِ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ الطَّاهِرِ قَطْعًا وَلَمْ يُوجَدْ الْعَجْزُ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْوُصُولِ إلَى الطَّاهِرِ قَائِمٌ وَهُوَ التَّحَرِّي فَقِيَامُ الدَّلِيلِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ صِفَةِ الطَّهُورِيَّةِ وَلِأَنَّهُ مَتَى صَلَّى بِتَوَضُّؤٍ بِالْمَاءِ الَّذِي تَحَرَّاهُ كَانَتْ صَلَاةً بِطَهَارَةٍ حَقِيقِيَّةٍ مِنْ وَجْهٍ وَمَتَى صَلَّى بِتَيَمُّمٍ كَانَتْ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهَارَةٍ حَقِيقِيَّةٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَيْسَ بِطَهَارَةٍ حَقِيقِيَّةٍ عَلَى أَصْلِهِ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى، وَإِنَّا نَقُولُ إنَّ التَّحَرِّيَ حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ فَلَا يَظْهَرُ إلَّا عِنْدَ فَقْدِ التَّحْصِيلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقَدْ أَمْكَنَهُ التَّحْصِيلُ بِالْخَلَفِ فَلَا يَكُونُ التَّحَرِّي مُعْتَبَرًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَقَوْلُهُ إنَّهُ جُعِلَ خَلَفًا حَالَةَ الْعَجْزِ عَنْ اسْتِعْمَالِ الطَّاهِرِ كَذَلِكَ وَلَكِنَّ الْعَجْزَ عَنْهُ ثَابِتٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِعْمَالُ إلَّا بِالتَّحَرِّي وَشَرْعُ الْخَلَفِ يَمْنَعُ عَنْهُ وَلِأَنَّ حِلَّ الصَّلَاةِ بِتَيَمُّمٍ عُلِّقَ بِعَدَمِ ظُهُورٍ مُطْلَقٍ لَا بِعَدَمِ ظُهُورٍ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَصَارَ الْفَرْضُ أَنَّ الْخَصْمَ جَعْلُ الشَّرْعِ التَّحَرِّيَ مَانِعًا مِنْ ثُبُوتِ الْخَلَفِيَّةِ لِلتُّرَابِ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ لَا يَثْبُتُ مَعَ التَّحَرِّي وَقُلْنَا التَّحَرِّي لَيْسَ بِدَلِيلٍ مُوَصِّلٍ إلَيْهِ وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ حُجَّةً لِبِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ عِنْدَ ضَرُورَةِ فَقْدِ سَائِرِ الْأَدِلَّةِ فَإِذَا كَانَ ثَمَّةَ خَلَفٌ مَشْرُوعٌ يَمْنَعُ ظُهُورَ حُجِّيَّةِ التَّحَرِّي فَيَثْبُتُ الْعَجْزُ فَإِذًا لَا يُمْكِنُهُ اعْتِبَارُ التَّحَرِّي حُجَّةً إلَّا عِنْدَ فَقْدِ الْخَلَفِ؛ لِأَنَّ الْخَلَفَ أَقْوَى مِنْ التَّحَرِّي كَذَا فِي إشَارَاتِ الْأَسْرَارِ لِأَبِي الْفَضْلِ. وَهَذَا الْخِلَافُ إذَا كَانَ الطَّاهِرُ وَالنَّجِسُ سَوَاءً أَوْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلنَّجِسِ فَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلطَّاهِرِ بِأَنْ كَانَ أَحَدُ الْأَوَانِي الثَّلَاثَةِ نَجِسًا وَاثْنَانِ طَاهِرَانِ يَجِبُ التَّحَرِّي بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْغَالِبِ وَبِاعْتِبَارِ الْغَالِبِ لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الطَّاهِرِ وَإِصَابَتُهُ بِتَحَرِّيهِ مَأْمُولَةٌ، ثُمَّ فِيمَا إذَا كَانَا سَوَاءً أَوْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلنَّجِسِ حَتَّى لَزِمَهُ التَّيَمُّمُ فَالْأَحْوَطُ أَنْ يُرِيقَ الْكُلَّ ثُمَّ يَتَيَمَّمَ إلَيْهِ أَشَارَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِيَكُونَ تَيَمُّمُهُ فِي حَالِ عَدَمِ الْمَاءِ بِيَقِينٍ، وَإِنْ لَمْ يُرِقْ أَجْزَأَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ عَدِمَ آلَةَ الْوُصُولِ إلَى الْمَاءِ الطَّاهِرِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَخْلِطُ الْمَائِينَ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ وَهَذَا أَحْسَنُ؛ لِأَنَّ بِالْإِرَاقَةِ يَنْقَطِعُ عَنْهُ مَنْفَعَةُ الْمَاءِ وَبِالْخَلْطِ لَا يَنْقَطِعُ فَإِنَّهُ يَسْقِيه دَوَابَّهُ وَيَشْرَبُهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِ بَلْخٍ كَانَ يَقُولُ يَتَوَضَّأُ بِالْإِنَاءَيْنِ جَمِيعًا احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّهُ يَتَيَقَّنُ بِزَوَالِ الْحَدَثِ عِنْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَوَضَّأَ مَرَّةً بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ وَحُكْمُ نَجَاسَةِ الْأَعْضَاءِ أَخَفُّ مِنْ حُكْمِ الْحَدَثِ فَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى إزَالَةِ أَغْلَظِ الْحَدَثِ لَزِمَهُ ذَلِكَ وَقَاسَ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ يُؤْمَرُ بِالتَّوَضُّؤِ بِهِ مَعَ التَّيَمُّمِ احْتِيَاطًا، وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مُتَوَضِّئًا بِمَا يَتَيَقَّنُ بِنَجَاسَتِهِ وَمُنَجِّسًا أَعْضَاءَهُ أَيْضًا خُصُوصًا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ بَعْدَ الْمَسْحِ بِالْمَاءِ النَّجِسِ لَا يَطْهُرُ

وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ وَلَا دَلِيلَ مَعَهُ أَصْلًا عَمِلَ بِشَهَادَةِ قَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ مُجَرَّدِ الِاخْتِيَارِ لِمَا قُلْنَا إنَّ الصَّوَابَ وَاحِدٌ مِنْهَا فَلَمْ يَسْقُطْ الِابْتِلَاءُ بَلْ وَجَبَ الْعَمَلُ بِشَهَادَةِ قَلْبِهِ. ، وَإِذَا عَمِلَ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ نَقْضُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ فَوْقَهُ يُوجِبُ نَقْضَ الْأَوَّلِ حَتَّى لَمْ يَجُزْ نَقْضُ حُكْمٍ أُمْضِيَ بِالِاجْتِهَادِ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ تَرَجَّحَ بِالْعَمَلِ بِهِ وَلَمْ يَنْقُضْ التَّحَرِّي بِالْيَقِينِ فِي الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ الْيَقِينَ حَادِثٌ لَيْسَ بِمُنَاقِضٍ بِمَنْزِلَةِ نَصٍّ نَزَلَ بِخِلَافِ الِاجْتِهَادِ أَوْ إجْمَاعٍ انْعَقَدَ بَعْدَ إمْضَاءِ حُكْمِ الِاجْتِهَادِ عَلَى خِلَافِهِ. وَأَمَّا الْعَمَلُ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى خِلَافِ الْأَوَّلِ فَنَوْعَانِ إنْ كَانَ الْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ بِهِ يَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ مِنْ جِهَةٍ إلَى جِهَةٍ حَتَّى انْتَقَلَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَى الْكَعْبَةِ وَانْتَقَلَ مِنْ عَيْنِ الْكَعْبَةِ إلَى جِهَتِهَا فَصَلُحَ التَّحَرِّي دَلِيلًا عَلَى خِلَافِ الْأَوَّلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالْمَسْحِ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ فَلَا مَعْنَى لِلْأَمْرِ بِهِ بِخِلَافِ سُؤْرِ الْحِمَارِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُنَجِّسٍ، وَلِهَذَا لَوْ غُمِسَ الثَّوْبُ فِيهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ فِيهِ فَيَسْتَقِيمُ الْأَمْرُ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّيَمُّمِ احْتِيَاطًا كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ) عَطْفٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الثَّوْبَيْنِ أَيْ وَكَمَا أَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبَيْنِ يَعْمَلُ بِالتَّحَرِّي عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ مَنْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ بِانْقِطَاعِ الْأَدِلَّةِ يَعْمَلُ بِهِ أَيْضًا وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَيْ جِهَةٍ شَاءَ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ، لِمَا قُلْنَا يَعْنِي فِي تَعَارُضِ الْقِيَاسَيْنِ إنَّ الصَّوَابَ فِي الْحَقِيقَةِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَيْ مِنْ الِاجْتِهَادَيْنِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ صَوَابًا فِي حَقِّ الْعَمَلِ بِهِ فَكَذَا الصَّوَابُ فِي جِهَاتِ الْكَعْبَةِ وَاحِدٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ كَانَتْ كُلُّ جِهَةٍ صَوَابًا فِي انْتِقَالِ الْحُكْمِ إلَيْهِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ، أَوْ لِمَا قُلْنَا فِي مَوْضِعِهِ فِي شَرْحِ الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ إنَّ الصَّوَابَ فِي مَسْأَلَةِ الْقِبْلَةِ فِي الْحَقِيقَةِ وَاحِدٌ مِنْ الظَّنَّيْنِ أَوْ مِنْ الْجِهَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْكَعْبَةَ لَيْسَتْ إلَّا وَاحِدَةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَسْقُطْ الِابْتِلَاءُ بِإِيجَابِ التَّحَرِّي لِمَا مَرَّ فِي مَسْأَلَةِ الْقِيَاسَيْنِ حَتَّى لَوْ تَوَجَّهَ إلَى جِهَةٍ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ وَجَبَتْ عَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ صَارَ فَرْضًا مِنْ فُرُوضِ صَلَاتِهِ فَإِذَا تَرَكَهُ لَا يُجْزِيه صَلَاتُهُ كَمَا لَوْ تَرَكَ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْعُذْرِ إلَّا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ الْقِبْلَةَ فَحِينَئِذٍ تَجُوزُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ فَرْضِيَّةَ التَّحَرِّي لِمَقْصُودٍ، وَقَدْ تَوَصَّلَ إلَى ذَلِكَ الْمَقْصُودِ بِدُونِهِ فَسَقَطَتْ فَرْضِيَّتُهُ عَنْهُ قَوْلُهُ (وَإِذَا عَمِلَ بِذَلِكَ) يَعْنِي إذَا ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ فِي تَعَارُضِ الْقِيَاسَيْنِ وَعَمِلَ بِأَحَدِهِمَا بِالتَّحَرِّي، لَمْ يَجُزْ نَقْضُهُ أَيْ نَقْضُ ذَلِكَ الْعَمَلِ إلَّا بِدَلِيلٍ فَوْقَهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَنْ ظَهَرَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الْعَمَلَ كَانَ بَاطِلًا، حَتَّى لَمْ يَجُزْ نَقْضُ حُكْمٍ أُمْضِي أَيْ أُتِمَّ بِالِاجْتِهَادِ بِمِثْلِهِ أَيْ بِاجْتِهَادٍ مِثْلِهِ، وَقَوْلُهُ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ لَمْ يَجُزْ نَقْضُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ فَوْقَهُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَيْ الْقِيَاسَ الْأَوَّلَ تَرَجَّحَ بِالْعَمَلِ بِهِ أَيْ يُقَوَّى بِاتِّصَالِ الْعَمَلِ بِهِ وَتَرَجَّحَتْ جِهَةُ الصَّوَابِ فِيهِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِصِحَّةِ الْعَمَلِ يَتَضَمَّنُ الْحُكْمَ بِكَوْنِهِ حُجَّةً وَصَوَابًا ظَاهِرًا وَمِنْ ضَرُورَتِهِ تَرَجُّحُ جَانِبِ الْخَطَأِ فِي الْآخَرِ فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ مَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْأَقْوَى بِمَا هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ لَمْ يُنْقَضْ التَّحَرِّي بِالْيَقِينِ فِي الْقِبْلَةِ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّك قَدْ قُلْت إنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُنْقَضُ بِمِثْلِهِ وَلَكِنَّهُ يُنْقَضُ بِدَلِيلٍ فَوْقَهُ فِي مَسْأَلَةِ اشْتِبَاهِ الْقِبْلَةِ لَمْ يُنْقَضْ مَا أَدَّى بِالتَّحَرِّي بِدَلِيلٍ فَوْقَهُ بِأَنْ تَيَقَّنَ بِأَنَّهُ كَانَ مُخْطِئًا لِلْقِبْلَةِ فِي تَحَرِّيهِ، كَمَا يُنْقَضُ حُكْمٌ أُمْضِيَ بِالِاجْتِهَادِ إذَا ظَهَرَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ، فَأَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ الْيَقِينَ حَادِثٌ لَيْسَ بِمُنَاقِضٍ يَعْنِي هَذَا الْيَقِينُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ الِاجْتِهَادِ حَقِيقَةً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ إلَى التَّوَصُّلِ إلَيْهِ لِانْقِطَاعِ الْأَدِلَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنَّمَا حَدَثَ بَعْدَ الْعَمَلِ بِذَلِكَ الِاجْتِهَادِ فَلَا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي إبْطَالِ مَا مَضَى بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا عَمِلَ بِالِاجْتِهَادِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ نَزَلَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي انْتِقَاضِ ذَلِكَ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا قَبْلَ الِاجْتِهَادِ وَالْعَمَلِ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افْتَدَى عَنْ أُسَارَى بَدْرٍ بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ نَزَلَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] وَلَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي إبْطَالِ مَا مَضَى لِمَا ذَكَرْنَا فَكَذَا هَذَا بِخِلَافِ الْعَمَلِ بِالِاجْتِهَادِ فِي زَمَانِنَا فَإِنَّهُ إذَا ظَهَرَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ يُنْتَقَضُ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْبُطْلَانِ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الِاجْتِهَادِ وَكَانَ طَرِيقُ الْوُصُولِ إلَيْهِ وَهُوَ الطَّلَبُ قَائِمًا إلَّا أَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِ لِتَقْصِيرِهِ

وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ فِي الْمَشْرُوعَاتِ الْقَابِلَةِ لِلِانْتِقَالِ وَالتَّعَاقُبِ. وَأَمَّا الَّذِي لَا يَحْتَمِلُهُ فَرَجُلٌ صَلَّى فِي ثَوْبٍ عَلَى تَحَرِّي طَهَارَتِهِ حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا ثُمَّ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ فَصَلَّى فِي ثَوْبٍ آخَرَ عَلَى تَحَرِّي أَنَّ هَذَا طَاهِرٌ وَأَنَّ الْأَوَّلَ نَجِسٌ لَمْ يَجُزْ مَا صَلَّى فِي الثَّانِي إلَّا أَنْ يَتَيَقَّنَ بِطَهَارَتِهِ؛ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ الْأَوَّلَ أَوْجَبَ الْحُكْمَ بِطَهَارَةِ الْأَوَّلِ وَنَجَاسَةِ الثَّانِي وَهَذَا وَصْفٌ لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ مِنْ عَيْنٍ إلَى عَيْنٍ فَبَطَلَ الْعَمَلُ بِهِ، ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي الطَّلَبِ فَيَنْقَضِي لِفَوَاتِ شَرْطِ صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ وَهُوَ عَدَمُ النَّصِّ، هَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي الْعَمَلِ بِأَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ فِيمَا مَضَى فَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ الْآخَرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَعَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْحُكْمَ الْمَطْلُوبَ بِالِاجْتِهَادِ إنْ احْتَمَلَ الِانْتِقَالَ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ أَوْ الِانْتِسَاخَ وَالتَّعَاقُبَ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالِاجْتِهَادِ الْآخَرِ إذَا تَبَدَّلَ رَأْيُهُ إلَيْهِ. وَإِلَّا فَلَا أَيْ إنْ لَمْ يَحْتَمِلْ الِانْتِقَالَ وَالتَّعَاقُبَ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالِاجْتِهَادِ عَلَى خِلَافِ الْأَوَّلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّا لَوْ قُلْنَا بِالْجَوَازِ أَدَّى إلَى تَصْوِيبِ كُلِّ قِيَاسٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ إذَا تَحَرَّى وَعَمِلَ وَجَعَلَ التَّحَرِّيَ حُجَّةً لَهُ ضَرُورَةً صَارَ الَّذِي عَمِلَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِدَلِيلِ التَّحَرِّي، وَالْآخَرُ خَطَأً، فَإِذَا جَوَّزْنَا لَهُ الْعَمَلَ بِالْآخَرِ صَارَ هَذَا هُوَ الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَيْضًا فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ التَّعَاقُبَ وَالِانْتِقَالَ لَزِمَ الْقَوْلُ بِتَعَدُّدِ الْحُقُوقِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لَا مَحَالَةَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مِمَّا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ وَالتَّعَاقُبَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْقَوْلُ بِالتَّعَدُّدِ، وَقَدْ اُبْتُلِينَا بِالْقِيَاسِ فِي الْحَوَادِثِ، وَقَدْ اسْتَقَرَّ رَأْيُهُ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ هُوَ الْآخَرُ فَيَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِهِ كَمَا إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ الْقِيَاسُ الْأَوَّلُ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ) أَيْ كَمَا يُعْمَلُ بِتَبْدِيلِ التَّحَرِّي فِي الْمُسْتَقْبَلِ فِي مَسْأَلَةِ الْقِبْلَةِ يُعْمَلُ بِتَبْدِيلِ الرَّأْيِ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ الْقَابِلَةِ لِلِانْتِقَالِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَيْضًا إذَا اسْتَقَرَّ رَأْيُهُ عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ هُوَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ تَبَدُّلَ الرَّأْيِ يُشْبِهُ النَّسْخَ فَيُعْمَلُ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلَا يَظْهَرُ بِهِ بُطْلَانُ الْمَاضِي كَمَا فِي النَّسْخِ الْحَقِيقِيِّ، وَهَذَا إذَا لَمْ يُلْحَقْ بِهِ حُكْمُ حَاكِمٍ فَإِنْ لَحِقَ بِهِ حُكْمٌ فَلَا يُعْمَلُ بِتَبَدُّلِ الرَّأْيِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَيْضًا كَمَا لَا يُعْمَلُ بِهِ فِي الْمَاضِي؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ الَّذِي نَفَذَ فِي مَحَلٍّ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ فَيَلْزَمُ ذَلِكَ الْمَحَلُّ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ مِنْ الْمَشْرُوعَاتِ الْقَابِلَةِ لِلِانْتِقَالِ. بَيَانُهُ إذَا أَدَّى اجْتِهَادُ مُجْتَهِدٍ إلَى الْخُلْعِ الْفَسْخِ مَثَلًا فَنَكَحَ امْرَأَةً خَالَعَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ لَزِمَهُ تَسْرِيحُهَا وَلَمْ يَجُزْ لَهُ إمْسَاكُهَا عَلَى خِلَافِ اجْتِهَادِهِ الْحَادِثِ وَلَكِنْ لَا يُحَرِّمُ الْوَطَآتِ السَّابِقَةِ. وَلَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ بَعْدَ أَنْ خَالَعَ الزَّوْجُ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يُنْقَضْ الِاجْتِهَادُ السَّابِقُ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّهُ لَوْ نُقِضَ الِاجْتِهَادُ بِالِاجْتِهَادِ لَنُقِضَ النَّقْضُ أَيْضًا، وَلَتَسَلْسَلَ وَاضْطَرَبَتْ الْأَحْكَامُ وَلَمْ يُوثَقْ بِهَا كَذَا ذَكَرَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ قَوْلُهُ (وَأَمَّا الَّذِي لَا يَحْتَمِلُهُ) أَيْ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ فَرَجُلٌ صَلَّى فِي ثَوْبٍ عَلَى تَحَرِّي طَهَارَتِهِ حَقِيقَةً أَيْ وَقَعَ تَحَرِّيهِ عَلَى ثَوْبٍ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ طَاهِرٌ أَوْ تَقْدِيرًا أَيْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ بِالتَّحَرِّي وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَجِسٌ لَكِنْ الشَّرْعُ لَمَّا حَكَمَ بِجَوَازِ الصَّلَاةِ فِيهِ ثَبَتَ طَهَارَتُهُ تَقْدِيرًا، أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّكَّ وَقَعَ فِي الثَّوْبَيْنِ اللَّذَيْنِ أَحَدُهُمَا نَجِسٌ وَالْآخَرُ طَاهِرٌ كُلُّهُ حَقِيقَةً أَوْ الْآخَرُ رُبْعُهُ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ طَاهِرٌ فَصَلَّى فِي أَحَدِهِمَا عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ هُوَ الطَّاهِرُ حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا ثُمَّ وَقَعَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ عَلَى الْآخَرِ أَنَّهُ هُوَ الطَّاهِرُ حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا لَمْ يَجُزْ مَا صَلَّى فِي الثَّانِي مَا لَمْ يَثْبُتْ طَهَارَتُهُ حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلْعِلْمِ لِأَنَّا لَمَّا حَكَمْنَا بِجَوَازِ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْأَوَّلِ فَقَدْ حَكَمْنَا بِأَنَّهُ هُوَ الطَّاهِرُ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ الْحُكْمُ بِنَجَاسَةِ الثَّوْبِ الثَّانِي، وَهَذَا وَصْفٌ أَيْ تَنَجُّسُ الثَّوْبِ وَصْفٌ لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ مَتَى يَثْبُتْ فِي مَحَلٍّ لَا يُتَحَوَّلُ عَنْهُ إلَى مَكَان آخَرَ وَلَا يَرِدْ الشَّرْعُ بِتَحَوُّلِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَا يَرِدُ بِتَغَيُّرِ الْحَقَائِقِ فَلَوْ قُلْنَا بِصِحَّةِ التَّحَرِّي ثَانِيًا كَانَ تَحْوِيلًا، فَبَطَلَ الْعَمَلُ بِهِ أَيْ بِهَذَا التَّحَرِّي الثَّانِي

وَمِثَالُ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ الْقِسْمِ الرَّابِعِ سُؤْرُ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ؛ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ لَمَّا تَعَارَضَتْ وَلَمْ يَصْلُحْ الْقِيَاسُ شَاهِدًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً وَجَبَ تَقْرِيرُ الْأُصُولِ فَقِيلَ إنَّ الْمَاءَ عُرِفَ طَاهِرًا فَلَا يَصِيرُ نَجِسًا بِالتَّعَارُضِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِخِلَافِ أَمْرِ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ الْحُكْمُ بِجَوَازِ الصَّلَاةِ إلَى جِهَةِ الْحُكْمِ بِأَنَّ تِلْكَ الْجِهَةَ هِيَ الْكَعْبَةُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ وَإِنْ تَبَيَّنَ الْخَطَأَ جَازَتْ صَلَاتُهُ فَكَانَ تَحَرِّيه إلَى جِهَةٍ أُخْرَى مُصَادِفًا مَحَلَّهُ وَهَاهُنَا مِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِجَوَازِ الصَّلَاةِ الْأَوْلَى الْحُكْمُ بِأَنَّ الطَّاهِرَ ذَلِكَ الثَّوْبُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَبَيَّنَ فِيهِ النَّجَاسَةَ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، بَيَّنَهُ أَنَّ الصَّلَاةَ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ تَجُوزُ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ وَمَعَ الْعِلْمِ وَهُوَ التَّطَوُّعُ عَلَى الدَّابَّةِ، وَالصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ الَّذِي فِيهِ نَجَاسَةٌ كَثِيرَةٌ لَا تَجُوزُ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ فَمِنْ ضَرُورَةِ جَوَازِ الْأُولَى تَعْيِينُ صِفَةِ الطَّهَارَةِ فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ وَالنَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ الْآخَرِ، وَالْأَخْذُ بِالدَّلِيلِ الْحُكْمِيِّ وَاجِبٌ مَا لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ. وَعَلَى هَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمَبْسُوطِ لَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ فِي أَحَدِهِمَا نَجَاسَةً حَتَّى صَلَّى وَهُوَ سَاهٍ فِي أَحَدِهِمَا الظُّهْرَ وَفِي الْآخَرِ الْعَصْرَ وَفِي الْأَوَّلِ الْمَغْرِبَ وَفِي الْآخَرِ الْعِشَاءَ ثُمَّ نَظَرَ فَإِذَا فِي أَحَدِهِمَا قَذَرٌ وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ الْأَوَّلُ أَوْ الْآخَرُ فَصَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ جَائِزَةٌ وَصَلَاةُ الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَلَّى الظُّهْرَ فِي أَحَدِهِمَا جَازَتْ صَلَاتُهُ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحُكْمِ بِطَهَارَةِ ذَلِكَ الثَّوْبِ وَبِنَجَاسَةِ الثَّوْبِ الْآخَرِ فَكُلُّ صَلَاةٍ أَدَّاهَا فِي الثَّوْبِ الْأَوَّلِ فَهِيَ جَائِزَةٌ وَمَا أَدَّاهَا فِي الثَّوْبِ الْآخَرِ وَجَبَتْ إعَادَتُهَا وَلَا يَلْزَمُهُ إعَادَةُ الْمَغْرِبِ لِمَكَانِ التَّرْتِيبِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ صَلَّى الْمَغْرِبَ مَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ عَلَيْهِ إعَادَةَ الْعَصْرِ وَالتَّرْتِيبُ بِمِثْلِ هَذَا الْعُذْرِ يَسْقُطُ. قَوْلُهُ (وَمِثَالُ الْقِسْمِ الثَّانِي) وَهُوَ تَقْرِيرُ الْأُصُولِ عِنْدَ الْعَجْزِ مِنْ الْقِسْمِ الرَّابِعِ وَهُوَ حُكْمُ الْمُعَارَضَةِ إذْ هُوَ رَابِعُ الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَّلِ بَابِ سُؤْرِ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ فَإِنَّ الدَّلَائِلَ لَمَّا تَعَارَضَتْ فِي سُؤْرِ الْحِمَارِ وَلَمْ يُمْكِنْ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ بَقِيَ مُشْتَبَهًا فَوَجَبَ تَقْرِيرُ الْأُصُولِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ. ثُمَّ قِيلَ فِي بَيَانِ التَّعَارُضِ إنَّ الْأَخْبَارَ تَعَارَضَتْ فِي إبَاحَةِ لَحْمِ الْحِمَارِ وَحُرْمَتِهِ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَوَى أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ» وَرَوَى غَالِبُ بْنُ أَبْجَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَاحَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ» فَأَوْجَبَ ذَلِكَ اشْتِبَاهًا فِي لَحْمِهِ وَيَلْزَمُ مِنْهُ الِاشْتِبَاهُ فِي سُؤْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ اللَّحْمِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ حُكْمُهُ مِنْهُ وَكَذَا اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِيهِ ظَاهِرٌ أَيْضًا فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَ يَكْرَهُ التَّوَضُّؤَ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ وَيَقُولُ إنَّهُ رِجْسٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَ يَقُولُ إنَّ الْحِمَارَ يَعْتَلِفُ الْقَتَّ وَالتِّبْنَ فَسُؤْرُهُ طَاهِرٌ لَا بَأْسَ بِالتَّوَضُّؤِ بِهِ، وَالْقِيَاسُ لَا يَصْلُحُ شَاهِدًا أَيْ لِأَحَدِ الْجَانِبَيْنِ أَوْ مُثْبِتًا لِلْحُكْمِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِنَصْبِ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً إذْ الْقِيَاسُ لِتَعَدِّيهِ الْحُكْمَ لَا لِلْإِثْبَاتِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ نَصْبَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ بِالرَّأْيِ بَاطِلٌ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ حَرَمِ الْمَدِينَةِ وَكَوْنِ الْوِتْرِ رَكْعَةً بِالْقِيَاسِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَإِذَا لَمْ يَصْلُحْ الْقِيَاسُ شَاهِدًا وَجَبَ تَقْرِيرُ الْأُصُولِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ هَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَفِي الْأَسْرَارِ فِي مَسْأَلَةِ سُؤْرِ السِّبَاعِ وَأَمَّا سُؤْرُ الْحِمَارِ فَهُوَ عِنْدَنَا فِي حُكْمِ لَحْمِهِ وَلَحْمُهُ مُشْكِلٌ وَلَيْسَ بِحَرَامٍ بَاتٍّ، وَكَذَلِكَ السُّؤْرُ عِنْدَنَا لَا يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِ التَّحْرِيمِ وَالنَّجَاسَةِ بِوَجْهٍ، إلَّا أَنَّ تَحَقُّقَ الِاشْتِبَاهِ وَالْإِشْكَالُ بِهَذَا الطَّرِيقِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عِنْدَ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ رُجْحَانُ أَحَدِهِمَا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى الْآخَرِ. وَقَدْ ثَبَتَ رُجْحَانُ الْخَبَرِ الْمُوجِبِ لِلْحُرْمَةِ عَلَى الْمُوجِبِ لِلْحِلِّ هَاهُنَا حَتَّى حَكَمَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ بِحُرْمَةِ لَحْمِهِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّيْخُ بَعْدَ هَذَا بِوَرَقَةٍ أَيْضًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْكَمَ بِنَجَاسَةِ سُؤْرِهِ أَيْضًا، أَلَا تَرَى أَنَّ أَصْحَابَنَا حَكَمُوا بِنَجَاسَةِ سُؤْرِ الضَّبُعِ مَعَ تَعَارُضِ أَخْبَارِ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ فِي لَحْمِهَا بِاعْتِبَارِ تَرْجِيحِ الْحُرْمَةِ، كَيْفَ وَالدَّلِيلُ الْمُوجِبُ لِلْحِلِّ وَهُوَ حَدِيثُ غَالِبٍ مُؤَوَّلٌ فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لَهُ «كُلْ مِنْ سَمِينِ مَالِكَ» وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَكْلِ الثَّمَنِ عَلَى مَا عُرِفَ، أَوْ عَلَى حَالِ الضَّرُورَةِ عَلَى مَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ قِيلَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّهُ قَدْ «أَصَابَتْنَا سَنَةٌ وَإِنَّ سَمِينَ مَالِنَا فِي الْحَمِيرِ فَقَالَ كُلُوا مِنْ سَمِينِ مَالِكُمْ» ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَتَحَقَّقْ شَرْطُ التَّعَارُضِ وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ فِي الْحُجَّتَيْنِ أَوْ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ، وَكَذَلِكَ ادِّعَاؤُهُمْ أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَصْلُحُ شَاهِدًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّهُ لِنَصْبِ الْحُكْمِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ غَيْرُ فَرْعٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إذَا لَمْ يُوجَدْ لَهُ أَصْلٌ يُلْحَقُ بِهِ فَأَمَّا إذَا وُجِدَ فَلَا وَهَاهُنَا أَمْكَنَ إلْحَاقُ سُؤْرِ الْحِمَارِ بِسُؤْرِ الْكَلْبِ فِي النَّجَاسَةِ بِعِلَّةِ حُرْمَةِ الْأَكْلِ أَوْ بِسُؤْرِ الْهِرَّةِ فِي الطَّهَارَةِ بِعِلَّةِ الطَّوْفِ فَأَنَّى يَكُونُ هَذَا نَصْبُ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً أَلَا تَرَى أَنَّ سُؤْرَ سَوَاكِنِ الْبُيُوتِ أُلْحِقَ بِسُؤْرِ الْهِرَّةِ فِي الطَّهَارَةِ وَسُؤْرَ السِّبَاعِ أُلْحِقَ بِسُؤْرِ الْكَلْبِ فِي النَّجَاسَةِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَصْبُ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً فَكَذَا هَذَا، فَالْأَحْسَنُ فِي بَيَانِ التَّعَارُضِ مَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْكِفَايَةِ أَنَّ الْأَخْبَارَ تَعَارَضَتْ فِي طَهَارَةِ سُؤْرِهِ وَنَجَاسَتِهِ فَإِنَّ جَابِرًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَوَى أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ أَنَتَوَضَّأُ بِمَا أَفْضَلَتْ الْحُمُرُ قَالَ نَعَمْ وَبِمَا أَفْضَلَتْ السِّبَاعُ» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُؤْرَهُ طَاهِرٌ وَرَوَى أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ» فَإِنَّهَا رِجْسٌ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُؤْرَهُ نَجِسٌ. وَقَدْ تَعَارَضَتْ الْآثَارُ عَنْ الصَّحَابَةِ أَيْضًا كَمَا ذَكَرْنَا وَلَمْ يَصْلُحْ الْقِيَاسُ شَاهِدًا؛ لِأَنَّ السُّؤْرَ إنْ اُعْتُبِرَ بِالْعَرَقِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا إذْ الْعَرَقُ طَاهِرٌ فِي الرِّوَايَاتِ الظَّاهِرَةِ وَإِنْ اُعْتُبِرَ بِاللَّبَنِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ نَجِسًا إذْ اللَّبَنُ نَجِسٌ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَإِذَا ثَبَتَ التَّعَارُضُ فِي الدَّلَائِلِ وَتَحَقَّقَ الْعَجْزُ عَنْ الْعَمَلِ بِهَا بَقِيَ الِاشْتِبَاهُ وَصَارَ الْحُكْمُ مُشْكِلًا فَوَجَبَ تَقْرِيرُ الْأُصُولِ وَهُوَ إثْبَاتُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ فَلَا يَتَنَجَّسُ بِهِ مَا كَانَ طَاهِرًا وَلَا يَطْهُرُ بِهِ مَا كَانَ نَجِسًا؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ أَوْ النَّجَاسَةَ عُرِفَتْ ثَابِتَةً بِيَقِينٍ فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ، وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ لَحْمَهُ حَرَامٌ بِلَا إشْكَالٍ وَحُرْمَةُ لَحْمِهِ تَدُلُّ عَلَى نَجَاسَةِ سُؤْرِهِ مِنْ غَيْرِ إشْكَالٍ لَكِنَّ الضَّرُورَةَ أَوْجَبَتْ سُقُوطَ النَّجَاسَةِ فَإِنَّ الْحِمَارَ يُرْبَطُ فِي الدُّورِ وَالْأَفْنِيَةِ وَيَشْرَبُ مِنْ الْأَوَانِي كَالْهِرَّةِ إلَّا أَنَّ الضَّرُورَةَ فِيهِ دُونَهَا فِي الْهِرَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْمَضَايِقَ الَّتِي تَدْخُلُهَا الْهِرَّةُ فَلَوْ انْتَفَتْ الضَّرُورَةُ أَصْلًا لَكَانَ سُؤْرُهُ نَجِسًا لِحُرْمَةِ لَحْمِهِ كَسُؤْرِ الْكَلْبِ؛ لِأَنَّ طَوْفَ الْكَلْبِ حَوْلَ الْأَبْوَابِ لَا فِي دَاخِلِ الدَّارِ وَالْبُيُوتِ وَلَوْ تَحَقَّقَتْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَكَانَ الْمَاءُ طَاهِرًا وَطَهُورًا كَسُؤْرِ الْهِرَّةِ فَلَمَّا اسْتَوَى الْوَجْهَانِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ تَسَاقَطَا وَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى مَا كَانَ ثَابِتًا وَالثَّابِتُ قَبْلَ التَّعَارُضِ شَيْئَانِ الطَّهَارَةُ فِي جَانِبِ الْمَاءِ وَالنَّجَاسَةُ فِي جَانِبِ اللُّعَابِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَبَقِيَ مُشْكِلًا فَلَا يَطْهُرُ مَا كَانَ نَجِسًا وَلَا يَنْجُسُ مَا كَانَ طَاهِرًا. بِخِلَافِ الْمَاءِ إذَا أَخْبَرَ عَدْلٌ بِنَجَاسَتِهِ

فَقُلْنَا إنَّ سُؤْرَ الْحِمَارِ طَاهِرٌ وَهُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَكَذَلِكَ عَرَقُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَآخَرُ بِطَهَارَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ مُشْكِلًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُنَاكَ بَعْدَ سُقُوطِ الْخَبَرَيْنِ بِالتَّعَارُضِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الطَّهَارَةُ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ فَبَقِيَ الْمَاءُ طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ إشْكَالٍ وَهَاهُنَا الْأَصْلُ بَعْدَ التَّسَاقُطِ شَيْئَانِ الطَّهَارَةُ فِي الْمَاءِ وَالنَّجَاسَةِ فِي اللُّعَابِ فَبَقِيَ مُشْكِلًا، فَإِنْ قِيلَ لَمَّا وَجَبَ تَقْرِيرُ الْأُصُولِ، وَقَدْ عُرِفَ الْمَاءُ طَاهِرًا وَطَهُورًا بِيَقِينٍ لَزِمَ أَنْ يَبْقَى كَذَلِكَ وَلَا يَزُولُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِالشَّكِّ، قُلْنَا مِنْ ضَرُورَةِ تَقْرِيرِ الْأُصُولِ زَوَالُ صِفَةِ الطَّهُورِيَّةِ عَنْ الْمَاءِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ بَقِيَتْ لَزَالَ الْحَدَثُ وَالنَّجَاسَةُ بِهِ إذْ لَا مَعْنَى لِلطَّهُورِيَّةِ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ إلَّا إزَالَةُ الْحَدَثِ وَالنَّجَاسَةِ وَلَوْ قُلْنَا بِزَوَالِهِمَا بِهِ لَا يَكُونُ هَذَا تَقْرِيرًا لِلْأُصُولِ بَلْ يَكُونُ عَمَلًا بِأَحَدِ الْأَصْلَيْنِ وَإِهْدَارًا لِلْآخَرِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِزَوَالِ الطَّهُورِيَّةِ، وَأَعْنِي بِهِ وُقُوعَ الشَّكِّ وَالِاشْتِبَاهَ فِيهَا إلَّا أَنَّهَا زَالَتْ بِالْكُلِّيَّةِ بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّيَمُّمِ، فَإِنْ قِيلَ هَلَّا سَقَطَ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ عِنْدَ التَّعَارُضِ وَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الْخَلَفِ لَا غَيْرُ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْإِنَاءَيْنِ الَّتِي مَرَّ تَقْرِيرُهَا قُلْنَا لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمُطَهِّرِ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ وَهَذَا الْمَاءُ كَانَ مُطَهِّرًا بِيَقِينٍ وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي زَوَالِ هَذَا الْوَصْفِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ اسْتِعْمَالُهُ بِالشَّكِّ وَوَجَبَ ضَمُّ التَّيَمُّمِ إلَيْهِ احْتِيَاطًا، فَأَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الْإِنَاءَيْنِ فَأَحَدُهُمَا نَجِسٌ بِيَقِينٍ كَمَا أَنَّ الْآخَرَ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ، وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاحْتِرَازُ عَنْ النَّصَّيْنِ كَمَا وَجَبَ اسْتِعْمَالُ الْمُطَهِّرِ، وَقَدْ عَجَزَ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ الْعِلْمِ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمُطَهِّرِ مِنْهُمَا وَلَمْ يَعْجِزْ عَنْ الِاحْتِرَازِ عَنْ النَّجِسِ فَلِذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ اسْتِعْمَالُهُمَا وَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الْخَلَفِ. وَلَا يُقَالُ وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ اسْتِعْمَالُهُ أَيْضًا احْتِرَازًا عَنْ النَّجَاسَةِ كَمَا فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا كَمَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الطَّاهِرَ لَا يَتَنَجَّسُ بِهِ فَلَا يَكُونُ فِي تَرْكِ اسْتِعْمَالِهِ احْتِرَازٌ عَنْ النَّجَاسَةِ، وَلِهَذَا لَوْ وَجَدَ مَاءً مُطْلَقًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ الرَّأْسِ بَعْدَمَا تَوَضَّأَ بِهِ، وَقَوْلُهُ (فَقُلْنَا إنَّ سُؤْرَ الْحِمَارِ طَاهِرٌ) يُشِيرُ إلَى أَنَّ الشَّكَّ فِي طَهُورِيَّتِهِ لَا فِي طَهَارَتِهِ عِنْدَهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَاءَ عُرِفَ طَاهِرًا بِيَقِينٍ فَلَا يَزُولُ هَذَا الْوَصْفُ بِالشَّكِّ فَكَانَ السُّؤْرُ طَاهِرًا غَيْرَ طَهُورٍ، وَهُوَ مَنْصُوصٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَيْ كَوْنُهُ طَاهِرًا مَنْصُوصٌ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ فَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ إنْ أَصَابَ لُعَابُ دَابَّةٍ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا أَوْ عَرَقُهَا ثَوْبًا فَصَلَّى فِيهِ أَجْزَتْهُ الصَّلَاةُ وَإِنْ فَحُشَ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لُعَابُ الْحِمَارِ إذَا أَصَابَ الثَّوْبَ فَصَلَّى فِيهِ أَجْزَتْهُ وَإِنْ فَحُشَ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثَلَاثُ مِيَاهٍ لَوْ غُمِسَ فِيهِ الثَّوْبُ تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ وَسُؤْرُ الْحِمَارِ وَبَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ الشَّكُّ فِي طَهَارَتِهِ؛ لِأَنَّ اللُّعَابَ إنْ كَانَ طَاهِرًا كَانَ الْمَاءُ طَاهِرًا أَوْ طَهُورًا مَا لَمْ يَغْلِبْ اللُّعَابُ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ نَجِسًا كَانَ الْمَاءُ نَجِسًا كَسُؤْرِ الْكَلْبِ فَكَانَ الشَّكُّ فِيهِمَا جَمِيعًا وَإِنَّمَا لَا يَتَنَجَّسُ الثَّوْبُ وَالْعُضْوُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ لَا؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ حَقِيقَةً. وَكَأَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ لَفْظِيٌّ؛ لِأَنَّ مَنْ قَالَ الشَّكُّ فِي طَهُورِيَّتِهِ لَا فِي طَهَارَتِهِ أَرَادَ أَنَّ الطَّاهِرَ لَا يَتَنَجَّسُ بِهِ وَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التُّرَابِ لَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي طَهَارَتِهِ شَكٌّ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الشَّكَّ فِي طَهُورِيَّتِهِ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ الشَّكِّ فِي طَهَارَتِهِ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ عَرَقُهُ) أَيْ كَسُؤْرِ الْحِمَارِ عَرَقُهُ فِي كَوْنِهِ طَاهِرًا أَوْ هَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ

وَلَبَنُ الْأَتَانِ وَلَمْ يَزُلْ الْحَدَثُ بِهِ عِنْدَ التَّعَارُضِ وَوَجَبَ ضَمُّ التَّيَمُّمِ إلَيْهِ فَسُمِّيَ مُشْكِلًا لَا أَنَّهُ يَعْنِي بِهِ الْجَهْلَ وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ وَكَذَلِكَ جَوَابُهُمْ فِي الْمَفْقُودِ، وَمِثَالُ مَا قُلْنَا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يَحْتَمِلُ الْمُعَارَضَةَ وَبَيْنَ مَا لَا يَحْتَمِلُهَا أَيْضًا الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ فِي مَحَلٍّ مِنْهُمْ يُوجِبُ الِاخْتِيَارَ؛ لِأَنَّ وَرَاءَ الْإِبْهَامِ مَحَلًّا يَحْتَمِلُ التَّصَرُّفَ فَصَلُحَ الْمِلْكُ فِيهِ دَلِيلًا لِوِلَايَةِ الِاخْتِيَارِ فَإِذَا طَلَّقَ عَيْنًا ثُمَّ نَسِيَ لَمْ يَجُزْ الْخِيَارُ بِالْجَهْلِ. وَإِذَا عَرَفْت رُكْنَ الْمُعَارَضَةِ وَشَرْطَهَا وَجَبَ أَنْ تَبْنِيَ عَلَيْهِ كَيْفِيَّةَ الْمَخْلَصِ عَنْ الْمُعَارَضَةِ عَلَى سَبِيلِ الْعَدَمِ مِنْ الْأَصْلِ وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ: مِنْ قِبَلِ الْحُجَّةِ، وَمِنْ قِبَلِ الْحُكْمِ، وَمِنْ قِبَلِ الْحَالِ، وَمِنْ قِبَلِ الزَّمَانِ صَرِيحًا، وَمِنْ قِبَلِ الزَّمَانِ دَلَالَةً. أَمَّا مِنْ قِبَلِ نَفْسِ الْحُجَّةِ فَأَنْ لَا يَعْتَدِلَ الدَّلِيلَانِ فَلَا يَقُومُ الْمُعَارَضَةُ مِثْلُ الْمُحْكَمِ يُعَارِضُهُ الْمُجْمَلُ وَالْمُتَشَابِهُ مِنْ الْكِتَابِ أَوْ الْمَشْهُورُ مِنْ السُّنَّةِ يُعَارِضُهُ خَبَرُ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ رُكْنَهَا اعْتِدَالُ الدَّلِيلَيْنِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ مُعْرَوْرِيًا وَالْحَرُّ حَرُّ الْحِجَازِ» فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْرَقَ الْحِمَارُ وَلِأَنَّ مَعْنَى الضَّرُورَةِ فِي عَرَقِهِ ظَاهِرٌ لِمَنْ يَرْكَبُهُ، وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْقَاضِي الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي لُعَابِ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ وَعَرَقِهِمَا إذَا أَصَابَ الثَّوْبَ أَوْ الْبَدَنَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: فِي رِوَايَةٍ قَدَّرَهُ بِالدِّرْهَمِ وَفِي رِوَايَةٍ قَدَّرَهُ بِالْكَثِيرِ الْفَاحِشِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْأَمَالِي وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَمْنَعُ وَإِنْ فَحُشَ وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ، وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ عَرَقَ الْحِمَارِ نَجِسٌ إلَّا أَنَّهُ عُفِيَ عَنْهُ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ فَعَلَى هَذَا لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ يَفْسُدُ وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ عَرَقَ الْحِمَارِ طَاهِرٌ فِي الرِّوَايَاتِ الْمَشْهُورَةِ كَذَا فِي الْمُحِيطِ. قَوْلُهُ (وَلَبَنُ الْأَتَانِ) أَيْ هُوَ طَاهِرٌ كَسُؤْرِهَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّ لَبَنَ الْأَتَانِ طَاهِرٌ وَلَا يُؤْكَلُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ وَصَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هُوَ نَجِسٌ كَذَا فِي الْمُحِيطِ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَعَنْ الْبَزْدَوِيِّ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْكَثِيرُ الْفَاحِشُ، وَعَنْ عَيْنِ الْأَئِمَّةِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً؛ لِأَنَّهُ حَرَامٌ، وَلَيْسَ فِيهِ ضَرُورَةٌ فَسُمِّيَ مُشْكِلًا لِمَا قُلْنَا. ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ سُؤْرَ الْحِمَارِ مَشْكُوكٌ فِيهِ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ بِطَهَارَتِهِ وَلَا بِنَجَاسَتِهِ وَكَانَ أَبُو طَاهِرٍ الدَّبَّاسُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُنْكِرُ هَذِهِ الْعِبَارَةَ وَيَقُولُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ فَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِي الْحَقِيقَةِ أَوْ أَنَّهُ شُرِعَ مُشْكِلًا حَقِيقَةً بَلْ سُمِّيَ مُشْكِلًا لِمَا قُلْنَا مِنْ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَوُجُوبِ ضَمِّ التَّيَمُّمِ إلَيْهِ لِلِاحْتِيَاطِ. لَا أَنَّهُ يَعْنِي بِهِ الْجَهْلَ: أَيْ لَا أَنْ يَعْنِيَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنَّ حُكْمَهُ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ مَعْلُومٌ وَهُوَ وُجُوبُ الِاسْتِعْمَالِ وَانْتِفَاءُ النَّجَاسَةِ وَضَمُّ التَّيَمُّمِ إلَيْهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الْخُنْثَى) أَيْ وَمِثْلُ الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي سُؤْرِ الْحِمَارِ مِنْ تَقْرِيرِ الْأُصُولِ وَالْعَمَلِ بِالِاحْتِيَاطِ عِنْدَ وُقُوعِ الْإِشْكَالِ الْجَوَابُ فِي الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ أَيْضًا وَهُوَ الشَّخْصُ الَّذِي لَهُ مَا لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ مَا يَتَرَجَّحُ بِهِ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ أَعْنِي الذُّكُورَةَ وَالْأُنُوثَةَ فَإِنَّهُ لَمَّا أُشْكِلَ حَالُهُ بِتَعَارُضِ الْجِهَتَيْنِ وَجَبَ تَقْرِيرُ الْأُصُولِ وَالْعَمَلُ بِالِاحْتِيَاطِ فِي مَوْضِعِهِ فَيُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ الذُّكُورِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَبِمَنْزِلَةِ الْإِنَاثِ فِي الْبَعْضِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَالُ فِي كُلِّ حُكْمٍ فَيُقَالُ أَكْبَرُ النَّصِيبَيْنِ فِي الْمِيرَاثِ أَعْنِي نَصِيبَيْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا لَهُ فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ وَيَتَأَخَّرُ عَنْ الرِّجَالِ وَيَتَقَدَّمُ عَلَى النِّسَاءِ فِي الصَّلَاةِ احْتِيَاطًا وَلَا يَخْتِنْهُ الرَّجُلُ وَلَا الْمَرْأَةُ لِاشْتِبَاهِ حَالِهِ بَلْ تُشْتَرَى أَمَةٌ تَخْتِنْهُ مِنْ مَالِهِ أَوْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي كِتَابِ الْخُنْثَى، وَالْأَلِفُ فِيهِ لِلتَّأْنِيثِ كَمَا فِي حُبْلَى وَالْبُشْرَى وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ الْخُنْثَى الْمُشْكِلَةُ وَيُؤَنَّثَ الضَّمِيرُ الرَّاجِعُ إلَيْهِ كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي كَلَامِ الْفُصَحَاءِ إلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ نَظَرُوا إلَى عَدَمِ تَحَقُّقِ التَّأْنِيثِ فِي ذَاتِهِ فَلَمْ يُلْحِقُوا عَلَامَةَ التَّأْنِيثِ فِي وَصْفِهِ وَضَمِيرِهِ تَغْلِيبًا لِلذُّكُورَةِ. وَقَدْ يُوصَفُ الرَّجُلُ بِهِ أَيْضًا فَيُقَالُ رَجُلٌ خُنْثَى وَرِجَالٌ خَنَاثَى وَخِنَاثٌ قَالَ الشَّاعِرُ: لَعَمْرُك مَا الْخِنَاثُ بَنُو قُشَيْرٍ ... بِنِسْوَانٍ يَلِدْنَ وَلَا رِجَالِ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ جَوَابُهُمْ) أَيْ جَوَابُ عُلَمَائِنَا فِي الْمَفْقُودِ فَإِنَّهُ لَمَّا تَعَارَضَ حَيَاتُهُ وَمَمَاتُهُ وَجَبَ تَقْرِيرُ الْأُصُولِ فَجُعِلَ حَيًّا فِي مَالِهِ حَتَّى لَا يُورَثَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ حَيَاتَهُ كَانَتْ ثَابِتَةً فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ وَمَيِّتًا فِي مَالِ غَيْرِهِ حَتَّى لَا يَرِثَ

[كيفية المخلص عن المعارضة]

وَأَمْثِلَةُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ لَا تُحْصَى، وَأَمَّا الْحُكْمُ فَإِنَّ الثَّابِتَ بِهِمَا إذَا اخْتَلَفَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ سَقَطَ التَّعَارُضُ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] وَالْمُرَادُ بِهِ الْغَمُوسُ، وَقَالَ {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] وَالْغَمُوسُ دَاخِلٌ فِي هَذَا اللَّغْوِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ الْمُثْبِتَةَ مُطْلَقَةٌ وَهِيَ فِي دَارِ الْجَزَاءِ وَالْمُؤَاخَذَةَ الْمَنْفِيَّةَ مُقَيَّدَةٌ بِدَارِ الِابْتِلَاءِ فَصَحَّ الْجَمْعُ وَبَطَلَ التَّدَافُعُ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ وَمِثَالُهُ كَثِيرٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَنْ أَحَدٍ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ أَيْضًا، قَوْلُهُ (وَمِثَالُ مَا قُلْنَا) مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يَحْتَمِلُ الْمُعَارَضَةَ مِنْ النُّصُوصِ وَبَيْنَ مَا لَا يَحْتَمِلُهَا مِنْ الْقِيَاسِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ مَا إذَا أَوْقَعَ الطَّلَاقَ أَوْ الْعَتَاقَ فِي مَحَلٍّ مُبْهَمٍ بِأَنْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ إحْدَيْكُمَا طَالِقٌ أَوْ قَالَ لِأَمَتَيْهِ أَحَدَيْكُمَا حُرَّةٌ وَمَا إذَا أَوْقَعَ الطَّلَاقَ أَوْ الْعَتَاقَ فِي مَحَلٍّ عُيِّنَ ثُمَّ نَسِيَهُ بِأَنْ قَالَ لِإِحْدَى امْرَأَتَيْهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ لِإِحْدَى أَمَتَيْهِ أَنْتِ حُرَّةٌ ثُمَّ نَسِيَ الْمُطَلَّقَةَ وَالْمُعْتَقَةَ فَإِنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى يَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ التَّعْيِينِ؛ لِأَنَّ الْإِبْهَامَ لَمْ يَنْشَأْ عَنْ الْجَهْلِ الْمَحْضِ كَمَا فِي الْقِيَاسَيْنِ، وَقَدْ كَانَ تَعْيِينُ الْمَحَلِّ مَمْلُوكًا لَهُ شَرْعًا كَابْتِدَاءِ الْإِيقَاعِ فَبِمُبَاشَرَةِ الْإِيقَاعِ أَسْقَطَ مَا كَانَ لَهُ مِنْ الْخِيَارِ فِي أَصْلِ الْإِيقَاعِ وَلَمْ يُسْقِطْ مَا كَانَ لَهُ مِنْ الْخِيَارِ فِي التَّعْيِينِ فَيَبْقَى ذَلِكَ الْخِيَارُ ثَابِتًا لَهُ شَرْعًا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ وَرَاءَ الْإِبْهَامِ مَحَلٌّ يَحْتَمِلُ التَّصَرُّفَ أَيْ بَعْدَمَا أَوْقَعَ أَصْلَ الطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ مُبْهَمًا بَقِيَ شَيْءٌ آخَرُ يَحْتَمِلُ التَّصَرُّفَ أَيْ الْإِيجَادَ مِنْ قِبَلِ الْمَالِكِ وَهُوَ تَعْيِينُ الْمَحَلِّ. أَوْ مَعْنَاهُ بَعْدَمَا أَوْقَعَ أَصْلَ الطَّلَاقِ مُبْهَمًا بَقِيَ مَحَلٌّ يَحْتَمِلُ التَّصَرُّفَ وَهُوَ ذَاتُ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الْمُبْهَمَ لَمْ يَنْزِلْ فِي الْمَحَلِّ عَلَى مَا عُرِفَ فَتَبْقَى كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَحَلًّا لِتَصَرُّفِهِ، فَصَلُحَ الْمِلْكُ أَيْ بَقَاءُ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ دَلِيلًا لِوِلَايَةِ الِاخْتِيَارِ، وَهُوَ كَالْقِيَاسَيْنِ لَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ حُجَّةً فِي حَقِّ الْعَمَلِ ثَبَتَ فِيهِمَا التَّخْيِيرُ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ لَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ أَوْ الْعَتَاقَ قَدْ نَزَلَ فِي أَحَدَيْهِمَا وَخَرَجَ الْمَحَلُّ عَنْ مِلْكِهِ وَالتَّعَارُضُ ثَبَتَ فِي حَقِّهِ بَيْنَ الْمَحَلَّيْنِ لِجَهْلِهِ بِالْمَحِلِّ الَّذِي عَيَّنَهُ عِنْدَ الْإِيقَاعِ وَجَهْلُهُ لَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ لَهُ شَرْعًا، وَلَوْ جُعِلَ إلَيْهِ ذَلِكَ كَانَ فِيهِ إثْبَاتُ صَرْفِ الْحُرْمَةِ عَنْ مَحَلِّهَا إلَى غَيْرِ مَحَلِّهَا كَمَا فِي تَعَارُضِ النَّصَّيْنِ لَمَّا ثَبَتَ بِنَاءً عَلَى الْجَهْلِ بِالنَّاسِخِ لَمْ يَثْبُتْ الْخِيَارُ إذْ لَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ لَكَانَ فِيهِ صَرْفُ الْحَقِيقَةِ عَنْ حُجَّةٍ إلَى مَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ [كَيْفِيَّةَ الْمَخْلَصِ عَنْ الْمُعَارَضَةِ] قَوْلُهُ (وَإِذَا عَرَفْتَ رُكْنَ الْمُعَارَضَةِ) يَعْنِي لَمَّا عَلِمْت أَنَّ رُكْنَ الْمُعَارَضَةِ تَقَابُلُ الْحُجَّتَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ وَإِنَّ شَرْطَهَا اتِّحَادُ الْمَحَلِّ وَالْوَقْتِ كَمَا بَيَّنَّا، وَجَبَ أَنْ تَبْنِيَ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى مَا عَرَفْت كَيْفِيَّةَ الْمَخْلَصِ عَنْ التَّعَارُضِ عَلَى سَبِيلِ الْعَدَمِ أَيْ عَلَى وَجْهٍ يَعْدَمُهُ مِنْ الْأَصْلِ بِأَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُعَارَضَةَ ثَابِتَةٌ لِعَدَمِ رُكْنِهَا وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ فِي الْحُجَّتَيْنِ أَوْ عَدَمِ شَرْطِهَا وَهُوَ عَدَمُ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ أَوْ الْوَقْتِ إلَى آخِرِ مَا بَيَّنَّا فَمَا ذُكِرَ مِنْ بَيَانِ حُكْمِ الْمُعَارَضَةِ هُوَ الْمَخْلَصُ مِنْهَا عَلَى تَقْدِيرِ تَحَقُّقِهَا وَتَسْلِيمِهَا وَهَذَا هُوَ الْمَخْلَصُ مِنْهَا عَلَى سَبِيلِ الْمَنْعِ مِثْلُ الْمُحْكَمِ يُعَارِضُهُ الْمُجْمَلُ أَوْ الْمُتَشَابِهُ فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] مُحْكَمٌ فِي نَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ فَلَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] لِأَنَّهُ مُتَشَابِهٌ لِانْتِفَاءِ رُكْنِ الْمُعَارَضَةِ وَهُوَ التَّسَاوِي فِي الْحُجَّتَيْنِ، وَلَوْ اسْتَدَلَّ مُسْتَدِلٌّ فِي حِلِّ الْبَيْعِ فِي صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] لَا يَكُونُ لِخَصْمِهِ أَنْ يُعَارِضَهُ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] لِأَنَّهُ مُجْمَلٌ فَلَا يُعَارِضُ الظَّاهِرَ كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ، وَمِثْلُ الْكِتَابِ الْمَشْهُورُ مِنْ السُّنَّةِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] لَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» وَمِثْلُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» لَا يُعَارِضُهُ خَبَرُ الْقَضَاءُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ لِانْتِفَاءِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْحُجَّتَيْنِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْحُكْمُ) فَكَذَا إنَّمَا يُطْلَبُ الْمَخْلَصُ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْمُعَارَضَةِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الَّذِي يُثْبِتُهُ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ عَيْنَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا يَنْفِيهِ الْآخَرُ بِالتَّحْقِيقِ التَّدَافُعِ وَالتَّمَانُعِ فَإِذَا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ بِأَنْ يَنْفِيَ أَحَدُهُمَا غَيْرَ مَا يُثْبِتُهُ الْآخَرُ لَا يَثْبُتُ التَّدَافُعُ لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّعَارُضُ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْمُؤَاخَذَةَ فِي كُلِّ يَمِينٍ مَكْسُوبَةٍ بِالْقَلْبِ أَيْ مَقْصُودَةٍ سَوَاءٌ كَانَتْ مَعْقُودَةً أَوْ غَيْرَ مَعْقُودَةٍ فَيَتَحَقَّقُ الْمُؤَاخَذَةُ فِي الْغَمُوسِ، وَقَوْلِهِ جَلَّ جَلَالُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] يَقْتَضِي أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ الْمُؤَاخَذَةُ فِي الْغَمُوسِ؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ عَلَى نَوْعَيْنِ مَعْقُودَةٌ فِيهَا مُؤَاخَذَةٌ، وَلَغْوٌ لَا مُؤَاخَذَةَ فِيهِ، وَالْآيَةُ سِيقَتْ لِبَيَانِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْمَعْقُودَةِ وَنَفْيِهَا عَنْ اللَّغْوِ، وَالْغَمُوسُ لَيْسَتْ بِمَعْقُودَةٍ فَكَانَتْ لَغْوًا فِي حَقِّ الْمُؤَاخَذَةِ إذْ اللَّغْوُ اسْمٌ لِكَلَامٍ لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَلَيْسَتْ فِي الْغَمُوسِ فَائِدَةُ الْيَمِينِ الْمَشْرُوعَةِ لِأَنَّهَا ثُلُثٌ خَلَتْ عَنْهَا؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِتَحْقِيقِ الْبِرِّ أَوْ الصِّدْقِ، وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ فِي الْغَمُوسِ أَصْلًا فَكَانَتْ لَغْوًا أَيْ كَلَامًا لَا عِبْرَةَ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ لِحُكْمِهِ كَبَيْعِ الْحُرِّ فَكَانَتْ الْغَمُوسُ دَاخِلَةً فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ وَالْغَمُوسُ دَاخِلٌ فِي هَذَا اللَّغْوِ أَيْ اللَّغْوِ الْمَذْكُورِ فِي الْمَائِدَةِ. وَلَمْ يَقُلْ دَاخِلَةً لِتَأْوِيلِ الْغَمُوسِ بِالْحَلِفِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَحَقَّقَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فِي حَقِّ الْغَمُوسِ إذْ الْأُولَى تُوجِبُ الْمُؤَاخَذَةَ فِيهَا وَالثَّانِيَةُ تَنْفِيهَا عَنْهَا، فَيَتَخَلَّصُ عَنْهُ بَيَانُ اخْتِلَافِ الْحُكْمِ بِأَنْ يُقَالَ الْمُؤَاخَذَةُ الْمُثْبَتَةُ وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] ، مُطْلَقَةٌ وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهَا الْمُؤَاخَذَةُ بِالْعُقُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّهَا الْمُؤَاخَذَةُ الْكَامِلَةُ فَإِنَّ الْآخِرَةَ خُلِقَتْ لِلْجَزَاءِ وَلِلْمُؤَاخَذَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى بِالْعَدْلِ فَأَمَّا الدُّنْيَا فَدَارُ ابْتِلَاءٍ يُؤَاخِذُ الْمُطِيعَ فِيهَا بِمِحْنَةٍ تَطْهِيرًا وَيُنْعِمُ عَلَى الْعَاصِي اسْتِدْرَاجًا وَالْمُؤَاخَذَاتُ الْمُعَجَّلَةُ فِي الدُّنْيَا لَمْ تُشْرَعْ إلَّا بِأَسْبَابٍ لَنَا فِيهَا ضَرْبُ ضَرَرٍ لِتَكُونَ زَوَاجِرَ عَنْهَا كُلِّهَا لِصَلَاحِنَا فَلَا تَتَمَحَّضُ مُؤَاخَذَةٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا تَتَمَحَّضُ فِي الْآخِرَةِ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُطْلَقَ مِنْ الْمُؤَاخَذَةِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَالْمُؤَاخَذَةُ الْمَنْفِيَّةُ وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] مُقَيَّدَةٌ بِدَارِ الِابْتِلَاءِ أَيْ الْمُرَادُ مِنْهَا نَفْيُ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْكَفَّارَةِ فِي الدُّنْيَا بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ الَّذِي أَثْبَتَهُ أَحَدُ النَّصَّيْنِ غَيْرُ الْحُكْمِ الَّذِي يَنْفِيه الْآخَرُ فَلَمْ يَتَّحِدْ مَحَلُّ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَبَطَلَ التَّدَافُعُ. ثُمَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَفَى التَّعَارُضَ بِطَرِيقٍ آخَرَ فَحَمَلَ الْمُؤَاخَذَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِالْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مُفَسَّرَةٌ بِالْكَفَّارَةِ فَيَكُونُ تَفْسِيرًا لِلْأُولَى، وَحَمَلَ الْعَقْدَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى كَسْبِ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ الْقَصْدُ لَا الْعَقْدُ الَّذِي ضِدُّهُ الْحَلُّ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يُطْلَقُ عَلَى قَصْدِ الْقَلْبِ وَعَزْمِهِ عَلَى الشَّيْءِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى رَبْطِ أَحَدِ الْكَلَامَيْنِ بِالْآخَرِ يُقَالُ عَقَدْتُ عَلَى كَذَا أَيْ عَزَمْت وَاعْتَقَدْتُ كَذَا أَيْ قَصَدْت وَمِنْهُ الْعَقِيدَةُ لِلْعَزِيمَةِ قَالَ الشَّاعِرُ: عَقَدْت عَلَى قَلْبِي بِأَنْ نَكْتُمَ الْهَوَى ... فَصَاحَ وَنَادَى إنَّنِي غَيْرُ فَاعِلٍ وقَوْله تَعَالَى {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] مُفَسَّرٌ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا الْقَصْدَ فَيُحْمَلُ الْمُحْتَمِلُ عَلَى الْمُفَسَّرِ فَيَكُونُ الْغَمُوسُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ دَاخِلَةٌ فِي الْعَقْدِ لَا فِي اللَّغْوِ

وَأَمَّا الْحَالُ فَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] بِالتَّخْفِيفِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَيَجِبُ فِيهَا الْكَفَّارَةُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى شَرَعَ الْكَفَّارَةَ بِنَفْسِ الْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ حِنْثٍ فَقَالَ {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] ، وَقَالَ تَعَالَى {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] وَلَمْ يَقُلْ إذَا حَنِثْتُمْ وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِنَفْسِ الْيَمِينِ إلَّا فِي الْغَمُوسِ، فَصَارَ حَاصِلُ كَلَامِهِ أَنَّ مَعْنَى الْآيَتَيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ نَفْيُ الْكَفَّارَةِ عَنْ اللَّغْوِ وَإِثْبَاتُهَا فِي الْغَمُوسِ وَالْمَعْقُودَةِ فَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا بَطَلَ التَّدَافُعُ وَالتَّعَارُضُ بِالطَّرِيقِ الَّذِي بَيَّنَّا لَا يَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ أَيْ يُحْمَلَ الْعَقْدُ عَلَى كَسْبِ الْقَلْبِ وَالْمُؤَاخَذَةُ الْمُطْلَقَةُ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ الْمُقَيَّدَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَقْلِيلَ فَائِدَةِ النَّصِّ فَإِنَّا مَتَى حَمَلْنَا أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ كَانَ تَكْرَارًا وَحَمْلُ كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ عَلَى الْإِفَادَةِ مَا أَمْكَنَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْإِعَادَةِ مَعَ أَنَّ فِيهِ عُدُولًا عَنْ الْحَقِيقَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْعَقْدِ رَبْطُ أَحَدِ طَرَفَيْ الْحَبْلِ بِالْآخَرِ وَالْعَقْدُ الشَّرْعِيُّ يُسَمَّى عَقْدًا لِمَا فِيهِ مِنْ ارْتِبَاطِ أَحَدِ الْكَلَامَيْنِ بِالْآخَرِ أَوْ ارْتِبَاطِ الْكَلَامِ بِمَحَلِّ الْحُكْمِ إنْ كَانَ الْكَلَامُ وَاحِدًا وَعَزِيمَةُ الْقَلْبِ لَا تَرْتَبِطُ بِشَيْءٍ لِأَنَّهَا لَا تُوجِبُ حُكْمًا إلَّا أَنَّهَا سَبَبُ الْعَقْدِ فَإِنَّهُ يَقْصِدُ بِقَلْبِهِ ثُمَّ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِهِ فَانْطَلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْعَقْدِ فَكَانَ مَجَازًا، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْآيَةَ قُرِئَتْ بِالتَّشْدِيدِ كَمَا قُرِئَتْ بِالتَّخْفِيفِ، وَبِالتَّشْدِيدِ لَا يُحْتَمَلُ عَقْدُ الْقَلْبِ أَصْلًا فَكَانَ حَمْلُ الْقِرَاءَةِ بِالتَّخْفِيفِ عَلَى مَا يُوَافِقُ الْقِرَاءَةَ الْأُخْرَى وَفِيهِ رِعَايَةُ الْحَقِيقَةِ، وَتَكْثِيرُ الْفَائِدَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْقَصْدِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ تَعَالَى نَفَى الْمُؤَاخَذَةَ عَنْ اللَّغْوِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَأَثْبَتَهَا فِي الْغَمُوسِ وَالْمُرَادُ مِنْهَا الْمُؤَاخَذَةُ بِالْإِثْمِ وَنَفَاهَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى عَنْ اللَّغْوِ وَأَثْبَتَهَا فِي الْمَعْقُودَةِ وَفَسَّرَهَا هَاهُنَا بِالْكَفَّارَةِ فَكَانَ بَيَانًا أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ فِي الْمَعْقُودَةِ بِالْكَفَّارَةِ وَفِي الْغَمُوسِ بِالْإِثْمِ وَفِي اللَّغْوِ لَا مُؤَاخَذَةَ أَصْلًا فَلَزِمَ تَسْلِيمُ الْبَيَانِ وَالْعَمَلُ بِكُلِّ نَصٍّ عَلَى حِدَةٍ دُونَ صَرْفِ النُّصُوصِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ وَتَقْيِيدِ الْبَعْضِ بِالْبَعْضِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ الْغَمُوسُ دَاخِلَةً فِي اللَّغْوِ وَلَا فِي الْعُقْدَةِ فَلَا تَجِبُ فِيهَا الْكَفَّارَةُ وَلَا يَثْبُتُ التَّعَارُضُ أَيْضًا، إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ أَثْبَتَ التَّعَارُضَ بِأَنْ جَعَلَهَا دَاخِلَةً فِي اللَّغْوِ لِيُمْكِنَهُ إيرَادُهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ، وَقَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ يَتَّصِلُ بِقَوْلِهِ سَقَطَ التَّعَارُضُ، أَوْ يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ وَهُوَ وَلَمَّا كَانَتْ الْغَمُوسُ دَاخِلَةً فِي اللَّغْوِ كَانَ التَّعَارُضُ بَيْنَ النَّصَّيْنِ ثَابِتًا فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ إلَّا أَنَّهُ يَنْدَفِعُ بِاخْتِلَافِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ إلَى آخِرِهِ 1 - قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْحَالُ) أَيْ دَفْعُ التَّعَارُضِ بِاخْتِلَافِ الْحَالِ فَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ بِالتَّخْفِيفِ تَقْتَضِي أَنْ يَحِلَّ الْقُرْبَانُ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ سَوَاءٌ انْقَطَعَ عَلَى أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَيْضِ أَوْ عَلَى مَا دُونَهُ؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ عِبَارَةٌ عَنْ انْقِطَاعِ دَمِ الْحَيْضِ يُقَالُ طَهُرَتْ الْمَرْأَةُ إذَا خَرَجَتْ مِنْ حَيْضِهَا وَالْقِرَاءَةُ بِالتَّشْدِيدِ تَقْتَضِي أَنْ لَا يَحِلَّ الْقُرْبَانُ قَبْلَ الِاغْتِسَالِ سَوَاءٌ كَانَ الِانْقِطَاعُ عَلَى أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَيْضِ أَوْ عَلَى مَا دُونَهُ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ التَّطَهُّرَ هُوَ الِاغْتِسَالُ. وَالْقَوْلُ بِهِمَا غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ لِأَنَّ حَتَّى لِلْغَايَةِ وَبَيْنَ امْتِدَادِ الشَّيْءِ إلَى غَايَةٍ وَبَيْنَ اقْتِصَارِهِ دُونَهَا تَنَافٍ فَيَقَعُ التَّعَارُضُ ظَاهِرًا لَكِنَّهُ يَرْتَفِعُ بِاخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ أَيْ بِأَنْ تُحْمَلَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى حَالٍ فَتُحْمَلُ الْقِرَاءَةُ بِالتَّخْفِيفِ عَلَى الِانْقِطَاعِ عَلَى أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَيْضِ

وَمَعْنَاهُ انْقِطَاعُ الدَّمِ وَبِالتَّشْدِيدِ قُرِئَ، وَمَعْنَاهُ الِاغْتِسَالُ وَهُمَا مَعْنَيَانِ مُتَضَادَّانِ ظَاهِرًا أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَيْضَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَمْتَدَّ إلَى الِاغْتِسَالِ مَعَ امْتِدَادِهِ إلَى انْقِطَاعِ الدَّمِ؛ لِأَنَّ امْتِدَادَ الشَّيْءِ إلَى غَايَةٍ وَاقْتِصَارَهُ دُونَهَا مَعًا ضِدَّانِ لَكِنَّ التَّعَارُضَ يَرْتَفِعُ بِاخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ بِأَنْ يُحْمَلَ الِانْقِطَاعُ عَلَى الْعِشْرَةِ فَهُوَ الِانْقِطَاعُ التَّامُّ الَّذِي لَا تَرَدُّدَ فِيهِ وَلَا يَسْتَقِيمُ التَّرَاخِي إلَى الِاغْتِسَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ بُطْلَانِ التَّقْدِيرِ وَيُحْمَلُ الِاغْتِسَالُ عَلَى مَا دُونَ مُدَّةِ الِانْقِطَاعِ وَالتَّنَاهِي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُفْتَقِرُ إلَى الِاغْتِسَالِ فَيَنْعَدِمُ بِهِ التَّعَارُضُ، ـــــــــــــــــــــــــــــQلِأَنَّهُ انْقِطَاعٌ بِيَقِينٍ وَحُرْمَةُ الْقُرْبَانِ تَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ الْحَيْضِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِاعْتِزَالِهِنَّ لِمَعْنَى الْأَذَى بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] فَبَعْدَ الِانْقِطَاعِ عَلَى أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَيْضِ لَا يَجُوزُ تَرَاخِي الْحُرْمَةِ إلَى الِاغْتِسَالِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى جَعْلِ الطُّهْرِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْحَيْضِ حَيْضًا وَهُوَ تَنَاقُضٌ وَإِبْطَالٌ لِلتَّقْدِيرِ الْوَارِدِ فِي الْحَيْضِ، أَوْ يُؤَدِّي إلَى مَنْعِ الزَّوْجِ عَنْ حَقِّهِ وَهُوَ الْقُرْبَانُ بِدُونِ الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا وَهِيَ الْأَذَى وَكِلَاهُمَا فَاسِدٌ، وَتُحْمَلُ الْقِرَاءَةُ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى الِانْقِطَاعِ عَلَى مَا دُونَ أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَيْضِ؛ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَثْبُتُ الِانْقِطَاعُ بِيَقِينٍ لِتَوَهُّمِ أَنْ يُعَاوِدَهَا الدَّمُ وَيَكُونَ ذَلِكَ حَيْضًا فَإِنَّ الدَّمَ يَنْقَطِعُ مَرَّةً وَيَدِرُّ أُخْرَى فَلَا بُدَّ مِنْ مُؤَكِّدٍ لِجَانِبِ الِانْقِطَاعِ وَهُوَ الِاغْتِسَالُ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ. وَقَدْ أَقَامَتْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الِاغْتِسَالَ مَقَامَ الِانْقِطَاعِ فَإِنَّ الشَّعْبِيَّ ذَكَرَ أَنَّ ثَلَاثَةَ عَشَرَ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا إنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ لَا يَحِلُّ لِزَوْجِهَا أَنْ يَقْرَبَهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ، وَإِذَا حَمَلْنَاهُمَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَالَيْنِ انْقَطَعَ التَّعَارُضُ، فَإِنْ قِيلَ قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] فِي الْقِرَاءَةِ يَأْبَى هَذَا التَّوْفِيقَ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الِاغْتِسَالَ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمْتُمْ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ فِي قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ فَإِذَا طَهُرْنَ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الطُّهْرِ وَالِاغْتِسَالِ بِالْقِرَاءَتَيْنِ أَيْ حَتَّى يَطْهُرْنَ بِانْقِطَاعِ حَيْضِهِنَّ وَحَتَّى يَتَطَهَّرْنَ بِالِاغْتِسَالِ، قُلْنَا لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ تَأْخِيرَ حَقِّ الزَّوْجِ إلَى الِاغْتِسَالِ فِي الِانْقِطَاعِ عَلَى الْعَشَرَةِ لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَسَادِ يُحْمَلُ قَوْله تَعَالَى تَطْهُرْنَ فِي قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ عَلَى طَهُرْنَ فَإِنَّ تَفَعَّلَ قَدْ يَجِيءُ بِمَعْنَى فَعَلَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى صُنْعٍ كَتَبَيَّنَ بِمَعْنَى بَانَ أَيْ ظَهَرَ وَكَمَا يُقَالُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ: عَزَّ وَجَلَّ تَكَبَّرَ وَتَعَظَّمَ وَلَا يُرَادُ بِهِ صِفَةٌ تَكُونُ بِإِحْدَاثِ الْفِعْلِ، إلَيْهِ أَشَارَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ طَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ مَعْنَاهُ تَوَضَّأْنَ أَيْ صِرْنَ أَهْلًا لِلصَّلَاةِ كَذَا فِي عَيْنِ الْمَعَانِي يَلْزَمُ مِمَّا ذَكَرْتُمْ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ، فَإِنْ قِيلَ التَّطَهُّرُ حَقِيقَةٌ فِي الِاغْتِسَالِ وَحَمْلُهُ عَلَى انْقِطَاعِ الدَّمِ إنْ كَانَ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ فَهُوَ إثْبَاتُ الْعُمُومِ الْمُشْتَرَكِ وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ فَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَيَيْنِ أُرِيدَا مِنْ قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] إذْ هُوَ ثَابِتٌ فِي كُلِّ قِرَاءَةٍ وَإِرَادَةُ الْمَعْنَيَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ مِنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ غَيْرُ جَائِزَةٍ. وَلَا يُقَالُ مَعْنَى التَّطَهُّرِ الِاغْتِسَالُ لَا غَيْرُ عِنْدَ مَنْ اخْتَارَ التَّشْدِيدَ وَانْقِطَاعُ الدَّمِ لَا غَيْرُ عِنْدَ مَنْ اخْتَارَ التَّخْفِيفَ فَلَا يَكُونُ فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ جَمِيعُ الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ حَقٌّ عِنْدَ جَمِيعِ الْقُرَّاءِ وَجَمِيعِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَمَنْ اخْتَارَ التَّشْدِيدَ فَالتَّخْفِيفُ عِنْدَهُ حَقٌّ وَمَنْ اخْتَارَ التَّخْفِيفَ فَالتَّشْدِيدُ عِنْدَهُ كَذَلِكَ فَيَلْزَمُ الْجَمْعُ عِنْدَ الْجَمِيعِ فِي كُلِّ قِرَاءَةٍ، قُلْنَا لَا يَلْزَمُ الْجَمْعُ؛ لِأَنَّ إرَادَةَ الِانْقِطَاعِ فِي حَالِ اخْتِيَارِ التَّخْفِيفِ وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَيْسَ لَهُ مَعْنًى غَيْرُهُ وَإِرَادَةُ الِاغْتِسَالِ فِي حَالِ اخْتِيَارِ التَّشْدِيدِ وَلَيْسَ لَهُ مَعْنًى آخَرُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَالْحَالَتَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ إذْ لَا يُقْرَأُ بِهِمَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يَلْزَمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ إذْ مِنْ شَرْطِهِ اتِّحَادُ الْحَالِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى {مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ} [الروم: 3] فَإِنَّ الْغَلَبَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى اللَّازِمِ عَلَى قِرَاءَةِ غُلِبَتْ عَلَى الْمَجْهُولِ أَيْ غُلِبُوا وَهُمْ مِنْ بَعْدِ أَنْ صَارُوا مَغْلُوبِينَ سَيَغْلِبُونَ عَلَى عَدُوِّهِمْ وَبِمَعْنَى الْمُتَعَدِّي عَلَى قِرَاءَةِ غُلِبَتْ

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] بِالْخَفْضِ وَالنَّصْبِ مُتَعَارِضَانِ ظَاهِرًا فَإِذَا حَمَلْنَا النَّصْبَ عَلَى ظُهُورِ الْقَدَمَيْنِ وَالْخَفْضَ عَلَى حَالِ الِاسْتِتَارِ بِالْخُفَّيْنِ لَمْ يَثْبُتْ التَّعَارُضُ فَصَحَّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ أُقِيمَ مُقَامَ بَشَرَةِ الْقَدَمِ فَصَارَ مَسْحُهُ بِمَنْزِلَةِ غَسْلِ الْقَدَمِ. وَأَمَّا صَرِيحُ اخْتِلَافِ الزَّمَانِ فَبِأَنْ يُعْرَفَ التَّارِيخُ فَيَسْقُطَ التَّعَارُضُ وَيَكُونَ آخِرُهُمَا نَاسِخًا ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى الْمَعْرُوفِ أَيْ غُلِبُوا وَهُمْ مِنْ بَعْدِ أَنْ كَانُوا غَالِبِينَ عَلَى خَصْمِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فَالْمَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ وَلَكِنَّهُ جَازَ إرَادَتُهُمَا لِاخْتِلَافِ الْحَالَتَيْنِ كَذَلِكَ هُنَا، وَذَكَرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّ الْآيَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا دُونَ الْعَشَرَةِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي النِّسَاءِ أَنْ لَا يَمْتَدَّ حَيْضُهُنَّ إلَى أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَيْضِ وَلَا يَقْتَصِرَ عَلَى الْأَقَلِّ بَلْ يَكُونُ فِيمَا بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ أَلَا تَرَى «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي صِفَةِ النِّسَاءِ هُنَّ نَاقِصَاتُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ» ثُمَّ وَصَفَ نُقْصَانَ دِينِهِنَّ بِأَنْ تَتَحَيَّضَ إحْدَاهُنَّ فِي الشَّهْرِ سِتًّا أَوْ سَبْعًا وَصَفَهُنَّ جُمْلَةً بِنُقْصَانِ الدِّينِ ثُمَّ فَسَّرَ النُّقْصَانَ فِي جُمْلَتِهِنَّ بِمَا ذَكَرَ فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْغَالِبُ فِي جُمْلَتَيْنِ وَالْخِطَابُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا هُوَ الْغَالِبُ فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْآيَةِ هُوَ النَّهْيُ عَنْ قُرْبَانِهِنَّ إذَا كَانَتْ أَيَّامُهُنَّ دُونَ الْعَشَرَةِ وَبِهِ نَقُولُ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ جَمِيعًا أَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالتَّشْدِيدِ فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا بِالتَّخْفِيفِ فَلِأَنَّ الِانْقِطَاعَ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالِاغْتِسَالِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ لِمَا ذَكَرْنَا فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ الطُّهْرِ الِاغْتِسَالُ أَيْضًا فَلِذَلِكَ قُرِئَ فِي الْقِرَاءَةِ بِالتَّخْفِيفِ فَإِذًا تَطَهَّرْنَ دُونَ طَهُرْنَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الِانْقِطَاعَ بِالِاغْتِسَالِ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى) أَيْ وَكَمَا أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مُتَعَارِضَتَانِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ وَيَنْدَفِعُ ذَلِكَ التَّعَارُضُ بِاخْتِلَافِ الْحَالِ فَكَذَا الْقِرَاءَتَانِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] بِخَفْضِ اللَّامِ وَنَصْبِهَا مُتَعَارِضَتَانِ إذْ الْخَفْضُ مَعْطُوفٌ عَلَى الرَّأْسِ فَيَقْتَضِي وُجُوبَ مَسْحِ الرِّجْلِ لَا غَيْرُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الرَّوَافِضِ وَالنَّصْبُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْوَجْهِ فَيُوجِبُ وُجُوبَ الْغَسْلِ وَعَدَمَ جَوَازِ الِاكْتِفَاءِ بِالْمَسْحِ فَيَتَعَارَضَانِ ظَاهِرًا فَيُتَخَلَّصُ عَنْهُ بِاخْتِلَافِ الْحَالِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَقَوْلُهُ (وَصَحَّ ذَلِكَ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَا يَسْتَقِيمُ الْحَمْلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْمَسْحِ عَلَى الرِّجْلِ عَلَى قِرَاءَةِ الْخَفْضِ لَا عَلَى الْخُفِّ إذْ لَمْ يَقُلْ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَخِفَافِكُمْ، فَقَالَ قَدْ صَحَّ ذَلِكَ أَيْ حَمْلُ قِرَاءَةِ الْخَفْضِ عَلَى الْمَسْحِ بِالْخُفِّ وَإِنْ أُضِيفَ الْمَسْحُ إلَى الرِّجْلِ؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ لَمَّا أُقِيمَ مُقَامَ بَشَرَةِ الْقَدَمِ لِاتِّصَالِهِ بِهَا صَارَ مَسْحُهُ بِمَنْزِلَةِ مَسْحِ الْقَدَمِ فَصَارَ إضَافَةُ الْمَسْحِ إلَى الرِّجْلِ وَإِرَادَةُ الْخُفِّ مِنْهَا وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَصَارَ مَسْحُهُ بِمَنْزِلَةِ غَسْلِ الْقَدَمِ أَيْ الْجِلْدُ لَمَّا قَامَ مَقَامَ بَشَرَةِ الْقَدَمِ كَانَ الْمَسْحُ مُصَادِفًا بَشَرَةَ الْقَدَمِ تَقْدِيرًا كَمَا أَنَّ الْغَسْلَ يُصَادِفُ بَشَرَةَ الْقَدَمِ تَحْقِيقًا فَيَصِحُّ إضَافَةُ الْمَسْحِ إلَى الرِّجْلِ، وَفِي ذِكْرِ الرِّجْلِ دُونَ الْخُفِّ فَائِدَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْمَسْحَ لَوْ أُضِيفَ إلَى الْخُفِّ بِأَنْ قِيلَ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَخِفَافِكُمْ لَأَوْهَمَ جَوَازَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَلْبُوسٍ فَفِي إضَافَتِهِ إلَى الرِّجْلِ وَإِرَادَةِ الْخُفِّ إزَالَةُ ذَلِكَ الْوَهْمِ، وَمَا ذَكَرَ الشَّيْخُ هُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ أَثْبَتُوا شَرْعِيَّةَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ بِالْكِتَابِ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَأَمَّا عِنْدَ عَامَّةِ الْمُحَقِّقِينَ فَالْمَسْحُ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ دُونَ الْكِتَابِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْهِدَايَةِ وَعَامَّةِ الْكُتُبِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ ثَابِتًا بِهِ لَكَانَ مُغَيًّا إلَى الْكَعْبَيْنِ كَالْغَسْلِ. وَمَا قِيلَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ مُغَيًّا إلَى الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ نُسِخَتْ الْغَايَةُ بِالسُّنَّةِ وَبَقِيَ أَصْلُ الْمَسْحِ لَا يَخْلُو عَنْ ضَعْفٍ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالنَّقْلِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ كَانَ مُغَيًّا ثُمَّ نُسِخَ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا قُلْت بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ حَتَّى جَاءَنِي فِيهِ مِثْلُ ضَوْءِ النَّهَارِ أَوْ قَالَ مِثْلُ فَلَقِ الصُّبْحِ، وَلَوْ كَانَ ثَابِتًا

وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَقَالَ مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ إنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ الصُّغْرَى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} [الطلاق: 4] نَزَلَتْ بَعْدَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَأَرَادَ بِهِ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 234] الْآيَةَ وَكَانَ ذَلِكَ رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ. وَأَمَّا الَّذِي يَثْبُتُ دَلَالَةً فَمِثْلُ النَّصَّيْنِ تَعَارَضَا فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ أَنَّ الْحَاظِرَ يُجْعَلُ آخِرًا نَاسِخًا دَلَالَةً؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُمَا وُجِدَا فِي زَمَانَيْنِ وَلَوْ كَانَ الْحَاظِرُ أَوَّلًا كَانَ نَاسِخًا لِلْمُبِيحِ ثُمَّ كَانَ الْمُبِيحُ نَاسِخًا فَتَكَرَّرَ النَّسْخُ، وَإِذَا تَقَدَّمَ الْمُبِيحُ ثُمَّ الْحَاظِرُ لَمْ يَتَكَرَّرْ فَكَانَ الْمُتَيَقَّنُ أَوْلَى ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالْكِتَابِ لَمَا اسْتَقَامَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْهُ. ثُمَّ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْقِرَاءَةُ بِالْخَفْضِ وَإِنْ كَانَ مَعْطُوفَةً عَلَى الرَّأْسِ فَهِيَ مُوجِبَةٌ لِلْغَسْلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِالْمَسْحِ الْغَسْلُ فِي حَقِّ الرِّجْلِ لِلْمُشَاكَلَةِ وَهِيَ أَنْ يَذْكُرَ الشَّيْءَ بِلَفْظِ غَيْرِهِ لِوُقُوعِهِ فِي صُحْبَتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: قَالُوا اقْتَرِحْ شَيْئًا نُجِدْ لَك طَبْخَهُ ... . قُلْت اُطْبُخُوا لِي جُبَّةً وَقَمِيصَا وَلِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إمْسَاسُ الْعُضْوِ بِالْمَاءِ وَالْمُتَوَضِّئُ لَا يَقْنَعُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَى الْأَعْضَاءِ حَتَّى يَمْسَحَهَا فِي الْغَسْلِ وَيُقَالُ تَمَسَّحْت لِلصَّلَاةِ أَيْ تَوَضَّأْت، وَقَالَ تَعَالَى {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص: 33] أَيْ غَسَلَ أَعْنَاقَهَا وَأَرْجُلَهَا غَسْلًا خَفِيفًا فِي قَوْلٍ إزَالَةً لِلْغُبَارِ عَنْهَا لِكَرَامَتِهَا عَلَيْهِ، وَلَا يُقَالُ فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَسْحِ قَدْ أُرِيدَتْ بِقَوْلِهِ {وَامْسَحُوا} [المائدة: 6] فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْغَسْلُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّمَا أُرِيدَ الْغَسْلُ بِالْمَسْحِ الْمُقَدَّرِ الدَّالِّ عَلَيْهِ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] إذْ التَّقْدِيرُ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَامْسَحُوا بِأَرْجُلِكُمْ دُونَ الْمَذْكُورِ صَرِيحًا فَلَا يَكُونُ فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَهُمَا فَإِنْ قِيلَ أَيُّ فَائِدَةٍ فِي عَطْفِ الْمَغْسُولِ عَلَى الْمَمْسُوحِ؟ قُلْنَا هِيَ التَّحْذِيرُ عَنْ الْإِسْرَافِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَعُطِفَ عَلَى الْمَمْسُوحِ لَا لِتُمْسَحَ وَلَكِنْ لِيُنَبِّهَ عَلَى وُجُوبِ الِاقْتِصَادِ فِي صَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا كَذَا فِي الْكَشَّافِ قَوْلُهُ (وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا تَعْتَدُّ بِوَضْعِ الْحَمْلِ عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَعْتَدُّ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ أَيْ بِأَطْوَلِ الْعِدَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ آيَةٍ تُوجِبُ عِدَّةً عَلَى وَجْهٍ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا احْتِيَاطًا، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَذَا إذَا لَمْ يُعْرَفْ التَّارِيخُ فَإِذَا عُرِفَ تَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْعَمَلِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ نَاسِخٌ، وَقَدْ ثَبَتَ تَأَخُّرُ قَوْله تَعَالَى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} [الطلاق: 4] عِنْدَهُ حَتَّى دَعَا إلَى الْمُبَاهَلَةِ فَلَا مَعْنَى لِلْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَالْمُبَاهَلَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْبُهْلَةِ بِضَمِّ الْبَاءِ وَفَتْحِهَا وَهِيَ اللَّعْنَةُ وَيُرْوَى لَاعَنْته. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ اجْتَمَعُوا وَقَالُوا بُهْلَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ فَجَعَلَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - التَّأَخُّرَ دَلِيلَ النَّسْخِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَنَّ الْمُتَأَخِّرَ مِنْ النَّصَّيْنِ نَاسِخٌ لِلْمُتَقَدِّمِ، قَوْلُهُ (وَأَمَّا الَّذِي ثَبَتَ دَلَالَةً) إلَى آخِرِهِ إذَا اجْتَمَعَ الْمُبِيحُ وَالْمُحَرِّمُ نُقِلَ عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ وَأَبِي هَاشِمٍ أَنَّهُمَا يُطْرَحَانِ وَيَرْجِعُ الْمُجْتَهِدُ إلَى غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَدِلَّةِ كَالْوَلِيَّيْنِ عَقَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْمُوَلِّيَةِ وَلَا يُعْلَمُ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا أَنَّهُمَا يَبْطُلَانِ وَكَالْغَرْقَى بَعْضُهُمْ عَلَى الْبَعْضِ، وَفِي الْقَوَاطِعِ لِأَبِي مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيِّ إذَا اقْتَضَى أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ الْحَظْرَ وَالْآخَرُ الْإِبَاحَةَ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُمَا حُكْمَانِ شَرْعِيَّانِ وَصَدَقَ الرَّاوِي فِيهِمَا عَلَى وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ الْحَاظِرَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ، وَعِنْدَنَا يُرَجَّحُ الْمُحَرِّمُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ إلَّا وَغَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك» وَلَا يَرِيبُهُ جَوَازُ تَرْكِ هَذَا الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ بَيْنَ كَوْنِهِ حَرَامًا أَوْ مُبَاحًا وَإِنَّمَا يَرِيبُهُ جَوَازُ فِعْلِهِ فَيَجِبُ تَرْكُهُ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ فِي الْأُخْتَيْنِ الْمَمْلُوكَتَيْنِ أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ وَالتَّحْرِيمُ أَوْلَى وَلِأَنَّ مَنْ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ أَوْ أَعْتَقَ إحْدَى إمَائِهِ وَنَسِيَهَا

وَهَذَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْإِبَاحَةَ أَصْلًا وَلَسْنَا نَقُولُ لِهَذَا فِي أَصْلِ الْوَضْعِ؛ لِأَنَّ الْبَشَرَ لَمْ يُتْرَكُوا سُدًى فِي شَيْءٍ مِنْ الزَّمَانِ وَإِنَّمَا هَذَا بِنَاءٌ عَلَى زَمَانِ الْفَتْرَةِ قَبْلَ شَرِيعَتِنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQيَحْرُمُ عَلَيْهِ وَطْءُ جَمِيعِهِنَّ بِالِاتِّفَاقِ تَرْجِيحًا لِلْحُرْمَةِ. وَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ كَوْنِ الْمُحَرِّمِ نَاسِخًا؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُمَا وُجِدَا فِي زَمَانَيْنِ إذْ لَوْ كَانَا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ لَكَانَا مُتَنَاقِضَيْنِ وَنِسْبَةُ التَّنَاقُضِ إلَى الشَّارِعِ مُحَالٌ ثُمَّ لَوْ كَانَ الْحَاظِرُ مُتَقَدِّمًا يَتَكَرَّرُ النَّسْخُ وَلَوْ كَانَ الْمُبِيحُ مُتَقَدِّمًا لَا يَتَكَرَّرُ فَكَانَ الْمُتَيَقَّنُ وَهُوَ النَّسْخُ مَرَّةً أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِالتَّكْرَارِ الَّذِي فِيهِ احْتِمَالٌ، أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَاظِرَ نَاسِخٌ بِيَقِينٍ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ؛ لِأَنَّهُ إمَّا نَاسِخٌ لِلْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ أَوْ لِلْإِبَاحَةِ الْعَارِضَةِ وَالْمُبِيحُ مُحْتَمِلٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ تَقَدَّمَ كَانَ مُقَرِّرًا لِلْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ لَا نَاسِخًا لَهَا فَكَانَ الْعَمَلُ بِمَا هُوَ نَاسِخٌ بِيَقِينٍ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِالْمُحْتَمَلِ قَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ جَعْلُ الْحَاظِرِ نَاسِخًا لِلْمُبِيحِ. بِنَاءً عَلَى كَذَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَحْتَمِلُ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِإِبَاحَتِهَا وَحَظْرِهَا أَنَّهَا قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ عَلَى الْإِبَاحَةِ أَمْ عَلَى الْحَظْرِ فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا خُصُوصًا الْعِرَاقِيُّونَ مِنْهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ وَأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ فِيهَا حَتَّى أَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الشَّرْعُ أُبِيحَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مَا شَاءَ مِنْ الْمَطْعُومَاتِ إلَيْهِ أَشَارَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْإِكْرَاهِ حَيْثُ قَالَ وَلَوْ تَهَدَّدَ بِقَتْلٍ حَتَّى يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ أَوْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قُتِلَ خِفْتُ أَنْ يَكُونَ آثِمًا؛ لِأَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ وَشُرْبَ الْخَمْرِ لَمْ يُحَرَّمَا إلَّا بِالنَّهْيِ عَنْهُمَا فَجَعَلَ الْإِبَاحَةَ أَصْلًا وَالْحُرْمَةَ بِعَارِضِ النَّهْيِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَابْنِهِ أَبِي هَاشِمٍ وَأَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمُعْتَزِلَةُ بَغْدَادَ إنَّهُمَا عَلَى الْحَظْرِ حَتَّى أَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الشَّرْعُ لَا يُبَاحُ لَهُ شَيْءٌ إلَّا مَا يَدْفَعُ بِهِ الْهَلَاكَ عَنْ نَفْسِهِ مِثْلَ التَّنَفُّسِ وَالِانْتِقَالِ عَنْ مَكَان إلَى مَكَان. وَقَالَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ وَعَامَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ إنَّهَا عَلَى الْوَقْفِ لَا تُوصَفُ بِحَظْرٍ وَلَا إبَاحَةٍ حَتَّى أَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الشَّرْعُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّفَ وَلَا يَتَنَاوَلَ شَيْئًا فَإِنْ تَنَاوَلَ شَيْئًا لَا يُوصَفُ فِعْلُهُ بِالْحَظْرِ وَلَا بِالْإِبَاحَةِ. قَالَ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ وَتَفْسِيرُ الْوَقْفِ عِنْدَهُمْ أَنَّ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِفِعْلِهِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ثَوَابًا وَلَا عِقَابًا، وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ مَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ، وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ إنَّ الْعَقْلَ لَا حَظَّ لَهُ فِي مَعْرِفَةِ هَذَا الْقِسْمِ يَعْنِي فِيمَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِإِبَاحَتِهِ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ إلَى أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ إلَّا بِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِلْبَقَاءِ. وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَلَى الْحَقِيقَةِ جَوَادٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْغَنِيُّ الْجَوَادُ لَا يَمْنَعُ مَالَهُ عَنْ عِبَادِهِ إلَّا مَا كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ فَتَكُونُ الْإِبَاحَةُ هِيَ الْأَصْلُ بِاعْتِبَارِ غِنَاهُ وُجُودِهِ وَالْحُرْمَةُ لِعَوَارِضَ وَلَمْ يَثْبُتْ فَيَبْقَى عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالتَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِإِبَاحَةِ الْمَالِكِ فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ الْإِبَاحَةُ بَقِيَتْ عَلَى الْحَظْرِ لِقِيَامِ سَبَبِهِ وَهُوَ مِلْكُ الْغَيْرِ، وَوَجْهُ قَوْلِ الْوَاقِفِيَّةِ أَنَّ الْحُرْمَةَ أَوْ الْإِبَاحَةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالشَّرْعِ فَقَبْلَ وُرُودِهِ لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يُحْكَمُ فِيهَا بِحَظْرٍ وَلَا إبَاحَةٍ. ثُمَّ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اخْتَارَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِكَوْنِ الْإِبَاحَةِ أَصْلًا عَلَى الْإِطْلَاقِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْأَشْيَاءَ فِي أَصْلِ وَضْعِهَا مُبَاحَةً مِنْ غَيْرِ تَكْلِيفٍ بِحَظْرٍ وَتَحْرِيمٍ ثُمَّ بَعَثَ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وَأَوْحَى إلَيْهِمْ بِحَظْرِ بَعْضِهَا وَإِبْقَاءِ بَعْضِهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ

وَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ حَرَّمَ الضَّبَّ وَرُوِيَ أَنَّهُ أَبَاحَهُ وَحَرَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَرُوِيَ أَنَّهُ أَبَاحَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ أَنْ لَوْ خُلِقَ الْخَلَائِقُ وَلَمْ يُكَلَّفُوا بِشَيْءٍ مُدَّةً ثُمَّ بُعِثَ فِيهِمْ الْأَنْبِيَاءُ بِالتَّكْلِيفِ فَكُلِّفُوا بِتَحْرِيمِ الْبَعْضِ وَإِبْقَاءِ الْبَاقِي عَلَى مَا كَانَ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ إذْ النَّاسُ لَمْ يُتْرَكُوا سُدًى أَيْ مُهْمَلًا فِي زَمَانٍ فَإِنَّ أَوَّلَ الْبَشَرِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ كَانَ صَاحِبَ شَرْعٍ قَدْ أَتَى بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَلَمْ يَخْلُ قَرْنٌ بَعْدَهُ عَنْ دَلِيلٍ سَمْعِيٍّ وَإِنْ فَتَرَ بِحَيْثُ يَحْتَاجُ إلَى تَحْدِيدِ النَّظَرِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] أَيْ وَمَا مِنْ أُمَّةٍ فِيمَا مَضَى إلَّا جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَعَذَّرَ الْقَوْلُ بِكَوْنِ الْإِبَاحَةِ أَصْلًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ الشَّيْخُ بِهِ وَإِنَّمَا قَالَ بِكَوْنِهَا أَصْلًا فِي زَمَانِ الْفَتْرَةِ وَهُوَ الزَّمَانُ الَّذِي بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -؛ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ وَالْحُرْمَةَ قَدْ ثَبَتَتَا فِي الْأَشْيَاءِ بِالشَّرَائِعِ الْمَاضِيَةِ وَبَقِيَتَا إلَى زَمَانِ الْفَتْرَةِ ثُمَّ كَانَتْ الْإِبَاحَةُ ظَاهِرَةً فِي زَمَانِ الْفَتْرَةِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ فَيَبْقَى إلَى أَنْ يَثْبُتَ الدَّلِيلُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ فِي شَرِيعَتِنَا فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِكَوْنِ الْإِبَاحَةِ أَصْلًا لَا أَنَّهَا أَصْلٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ بَيَانُ مَحَلِّ الْخِلَافِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الْقَوْلُ بِالْإِبَاحَةِ أَوْ الْحَظْرِ أَوْ التَّوَقُّفِ قَبْلَ وُجُودِ الْخَلَائِقِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ وَبَعْدَمَا وُجِدُوا لَمْ يُتْرَكُوا سُدًى فِي زَمَانٍ فَلَمْ يَكُنْ مَحَلُّ الْخِلَافِ إلَّا زَمَانَ الْفَتْرَةِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذُكِرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهَذَا الْخِلَافُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَنْ بَلَغَ فِي شَاهِقِ جَبَلٍ وَلَمْ يَبْلُغْهُ دَلِيلُ السَّمْعِ أَوْ فِي زَمَانِ الْفَتْرَةِ، وَذَكَرَ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ وَهَذَا أَيْ الْوَقْفُ مَذْهَبُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَضِرَارٍ وَبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَعَ قَوْلِهِمْ بِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُ زَمَانُ الْعُقَلَاءِ عَنْ شَرِيعَةٍ وَإِنَّمَا تَكَلَّمُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا لَا عَلَى تَقْدِيرِ حُصُولِهَا، وَذَكَرَ أَبُو الْيُسْرِ فِي آخِرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالصَّحِيحُ مِنْ الْأَقْوَالِ أَنَّ مَا يَجُوزُ أَنْ يُحَرَّمَ تَارَةً وَيُبَاحَ أُخْرَى فَقَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ أَوْ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ إلَيْهِ الشَّرْعُ لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ وَلَا بِالْإِبَاحَةِ وَفِعْلُ الْإِنْسَانِ فِيهِ أَيْضًا لَا يُوصَفُ بِالْحِلِّ وَلَا بِالْحُرْمَةِ كَفِعْلِ مَنْ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْخِطَابِ أَمَّا بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ فَالْأَمْوَالُ عَلَى الْإِبَاحَةِ بِالْإِجْمَاعِ مَا لَمْ يَظْهَرْ دَلِيلُ الْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْزَمَهُمْ الْعِبَادَاتِ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى تَحْصِيلِهَا إلَّا بِالْعِصْمَةِ عَنْ الْإِتْلَافِ وَالْعِصْمَةُ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِتَحْرِيمِ إتْلَافِ الْأَنْفُسِ وَالْأَطْرَافِ جَمِيعًا، قَوْلُهُ (وَذَلِكَ) أَيْ تَرْجِيحُ الْمُحَرَّمِ وَجَعْلُهُ نَاسِخًا لِلْمُبِيحِ مِثْلَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ حَرَّمَ الضَّبَّ وَهُوَ مَا رُوِيَ «عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهُ أُهْدِي لَهَا ضَبٌّ فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِهِ فَكَرِهَهُ فَجَاءَ سَائِلٌ فَأَرَادَتْ أَنْ تُطْعِمَهُ إيَّاهُ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أَتُطْعِمِينَ مَا لَا تَأْكُلِينَ» فَدَلَّ أَنَّهُ كَرِهَهُ لِحُرْمَتِهِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَرَاهِيَةُ الْأَكْلِ لِلْحُرْمَةِ لَأَمَرَهَا بِالتَّصَدُّقِ كَمَا أَمَرَ بِهِ فِي شَاةِ الْأَنْصَارِيِّ بِقَوْلِهِ أَطْعِمُوهَا الْأُسَارَى وَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَنَةَ أَنَّهُ. قَالَ «نَزَلْنَا أَرْضًا كَثِيرَةَ الضِّبَابِ فَأَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ وَطَبَخْنَا مِنْهَا وَإِنَّ الْقُدُورَ لَتَغْلِي بِهَا إذْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ مَا هَذَا، فَقُلْنَا ضِبَابٌ أَصَبْنَاهَا فَقَالَ إنَّ أُمَّةً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ مُسِخَتْ دَوَابَّ فِي الْأَرْضِ وَأَنَا أَخْشَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ فَاكْفِنُوهَا» وَرُوِيَ أَنَّهُ أَبَاحَهُ وَهُوَ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

[تعارض الجرح والتعديل]

وَكَذَلِكَ الضَّبُعُ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ أَنَّا نَجْعَلُ الْحَاظِرَ نَاسِخًا. وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِيمَا إذَا تَعَارَضَ نَصَّانِ أَحَدُهُمَا مُثْبِتٌ وَالْآخَرُ نَافٍ مُبْقٍ عَلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ فَقَالَ الْكَرْخِيُّ الْمُثْبِتُ أَوْلَى، وَقَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ يَتَعَارَضَانِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ عَمَلُ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ فِي هَذَا الْبَابِ فَقَدْ رُوِيَ أَنْ بَرِيرَةَ أُعْتِقَتْ وَزَوْجُهَا حُرٌّ وَهَذَا مُثْبِتٌ، وَرُوِيَ أَنَّهَا أُعْتِقَتْ وَزَوْجُهَا عَبْدٌ وَهَذَا مُبْقٍ عَلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ وَأَصْحَابُنَا أَخَذُوا بِالْمُثْبِتِ وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ بِسَرِفٍ» وَرُوِيَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQسُئِلَ عَنْ الضَّبِّ قَالَ لَمْ يَكُنْ مِنْ طَعَامِ قَوْمِي فَأَجِدُ نَفْسِي تَعَافُهُ فَلَا أُحِلُّهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ» وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «أُكِلَ الضَّبُّ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي الْآكِلِينَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَنْظُرُ إلَيْهِ وَيَضْحَكُ» فَنَحْنُ رَجَّحْنَا الْمُحَرَّمَ عَلَى الْمُبِيحِ وَحَمَلْنَا دَلِيلَ الْإِبَاحَةِ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَحَرَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَرُوِيَ أَنَّهُ أَبَاحَهَا كَمَا بَيَّنَّا فِي مَسْأَلَةِ السُّؤْرِ فَعَلِمْنَا بِالْمُحَرِّمِ وَجَعَلْنَاهُ نَاسِخًا لِلْمُبِيحِ، وَكَذَلِكَ الضَّبُعُ أَيْ وَكَالضَّبِّ أَوْ الْحِمَارِ، الضَّبُعُ فِي أَنَّ الْمُحَرِّمَ وَالْمُبِيحَ فِيهِ تَعَارَضَا، فَالْمُبِيحُ حَدِيثُ «جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الضَّبُعِ أَصَيْدٌ هُوَ قَالَ نَعَمْ فَقِيلَ أَيُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَقَالَ نَعَمْ فَقِيلَ أَشَيْءٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ نَعَمْ» وَالْمُحَرِّمُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ» فَرَجَّحْنَا الْمُحَرِّمَ لِمَا ذَكَرْنَا، وَحَدِيثُ جَابِرٍ إنْ صَحَّ فَمَحْمُولٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ أَيْ مَجْرَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ النَّظَائِرِ مِثْلُ الثَّعْلَبِ وَالْقُنْفُذِ وَالسُّلَحْفَاةِ [تعارض الْجُرْح وَالتَّعْدِيل] قَوْلُهُ (وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا) إلَى آخِرِهِ الدَّلِيلُ الْمُثْبِتُ هُوَ الَّذِي يُثْبِتُ أَمْرًا عَارِضًا وَالنَّافِي هُوَ الَّذِي يَنْفِي الْعَارِضَ وَيُبْقِي الْأَمْرَ الْأَوَّلَ كَمَا أُشِيرَ إلَيْهِ فِي الْكِتَابِ. فَإِذَا تَعَارَضَ نَصَّانِ أَحَدُهُمَا مُثْبِتٌ وَالْآخَرُ نَافٍ يَتَرَجَّحُ الْمُثْبِتُ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ وَهُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمُثْبِتَ يُخْبِرُ عَنْ حَقِيقَةٍ وَالنَّافِي اعْتَمَدَ الظَّاهِرَ فَيَكُونُ قَوْلُ الْمُثْبِتِ رَاجِحًا عَلَى قَوْلِ النَّافِي لِاشْتِمَالِهِ عَلَى زِيَادَةِ عِلْمٍ كَمَا فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ إذَا تَعَارَضَا يُقَدَّمُ قَوْلُ الْجَارِحِ عَلَى قَوْلِ الْمُعَدِّلِ؛ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ حَقِيقَةٍ وَالْمُعَدِّلُ يُخْبِرُ مُعْتَمَدًا عَلَى الظَّاهِرِ، وَكَمَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ عَلَيْهِ كَذَا وَشَهِدَ آخَرَانِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ يَتَرَجَّحُ الْمُثْبِتُ، وَلِأَنَّ الْمُثْبِتَ يُفِيدُ التَّأْسِيسَ وَالنَّافِيَ يُفِيدُ التَّأْكِيدَ وَالتَّأْسِيسُ أَوْلَى مِنْ التَّأْكِيدِ، وَقَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ؛ لِأَنَّ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى صِدْقِ الرَّاوِي فِي الْمُثْبِتِ مِنْ الْعَقْلِ وَالضَّبْطِ وَالْإِسْلَامِ وَالْعَدَالَةِ مَوْجُودٌ فِي النَّافِي فَيَتَعَارَضَانِ وَيَطْلُبُ التَّرْجِيحُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَقَدْ اخْتَلَفَ عَمَلُ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ يَعْنِي أَبَا حَنِيفَةَ وَأَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي هَذَا الْبَابِ أَيْ فِي تَعَارُضِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَفِي بَعْضِ الصُّوَرِ عَمِلُوا بِالْمُثْبِتِ وَفِي بَعْضِهَا عَمِلُوا بِالنَّافِي. وَحَاصِلُ مَا ذُكِرَ هَاهُنَا مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي اخْتَلَفَ عَمَلُهُمْ فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ إحْدَاهَا مَسْأَلَةُ خِيَارِ الْعَتَاقَةِ وَهِيَ مَا إذَا أُعْتِقَتْ الْأَمَةُ الْمَنْكُوحَةُ يَثْبُتُ خِيَارُ فَسْخِ النِّكَاحِ إذَا كَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا بِالِاتِّفَاقِ وَكَذَا إذَا كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ إذَا كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ حَصَلَتْ بِالْحُرِّيَّةِ فَلَا يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ كَمَا لَوْ أَيْسَرَتْ وَالزَّوْجُ مُوسِرٌ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ عَبْدًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكُفُوٍ لَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ، وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّ الْمِلْكَ يَزْدَادُ عَلَيْهَا بِالْحُرِّيَّةِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَسْأَلَةِ اعْتِبَارِ الطَّلَاقِ فَلَهَا أَنْ تَدْفَعَ الزِّيَادَةَ عَنْ نَفْسِهَا، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ بَرِيرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَقَدْ رَوَى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَنَّ بَرِيرَةَ أُعْتِقَتْ وَزَوْجُهَا عَبْدٌ فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَلَوْ كَانَ حُرًّا لَمَا خَيَّرَهَا وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ

وَاتَّفَقَتْ الرِّوَايَاتُ أَنَّ النِّكَاحَ لَمْ يَكُنْ فِي الْحِلِّ الْأَصْلِيِّ إنَّمَا اخْتَلَفَتْ فِي الْحِلِّ الْمُعْتَرِضِ عَلَى الْإِحْرَامِ فَجَعَلَ أَصْحَابُنَا الْعَمَلَ بِالنَّافِي أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِالْمُثْبِتِ وَرُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَدَّ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَلَى زَوْجِهَا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ» وَرُوِيَ أَنَّهُ رَدَّهَا بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ وَأَصْحَابُنَا عَمِلُوا فِيهِ بِالْمُثْبِتِ، وَقَالُوا فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ فِي طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ أَخْبَرَ رَجُلٌ بِحُرْمَتِهِ وَالْآخَرُ بِحِلِّهِ أَوْ طَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ وَاسْتَوَى الْمُخْبِرُ أَنَّ عِنْدَ السَّامِعِ أَنَّ الطَّهَارَةَ أَوْلَى وَلَمْ يَعْمَلُوا بِالْمُثْبِتِ وَقَالُوا فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ إذَا تَعَارَضَا إنَّ الْجَرْحَ أَوْلَى وَهُوَ الْمُثْبِتُ، فَلَمَّا اخْتَلَفَ عَمَلُهُمْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَصْلٍ جَامِعٍ وَذَلِكَ أَنْ نَقُولَ إنَّ النَّفْيَ لَا يَخْلُو مِنْ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُعْرَفُ بِدَلِيلِهِ أَوْ لَا يُعْرَفُ بِدَلِيلِهِ أَوْ يَشْتَبِهُ حَالُهُ، فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا يُعْرَفُ بِدَلِيلِهِ كَانَ مِثْلَ الْإِثْبَاتِ ـــــــــــــــــــــــــــــQزَوْجَهَا كَانَ حُرًّا حِينَ عَتَقَتْ فَالنَّصُّ الْأَوَّلُ نَافٍ؛ لِأَنَّهُ مُبْقٍ عَلَى الْأَمْرِ الْأَصْلِيِّ إذْ لَا خِلَافَ أَنَّ الْعُبُودِيَّةَ كَانَتْ ثَابِتَةً قَبْلَ الْعِتْقِ وَالثَّانِي مُثْبِتٌ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ أَمْرًا عَارِضًا وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ فَأَصْحَابُنَا أَخَذُوا بِالْمُثْبِتِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَالثَّانِيَةُ مَسْأَلَةُ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ حَرَامٌ بِدَوَاعِيهِ وَالْعَقْدُ دَاعٍ إلَيْهِ وَضْعًا وَشَرْعًا؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ مَوْضُوعٌ فَتَعَدَّتْ الْحُرْمَةُ إلَيْهِ كَمَا فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ وَكَمَا فِي شِرَاءِ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ. وَعِنْدَنَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَرْأَةِ عَلَى الْمُحْرِمِ بِاعْتِبَارِ الِارْتِفَاقِ إمَّا كَامِلًا كَالْوَطْءِ أَوْ قَاصِرًا كَالْمَسِّ وَالْقُبْلَةِ وَلَيْسَ فِي الْعَقْدِ فَلَا يَحْرُمُ كَشِرَاءِ الْجَارِيَةِ وَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ «أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ بِسَرِفٍ» أَيْ خَارِجٌ عَنْ الْإِحْرَامِ فَالْأَوَّلُ نَافٍ؛ لِأَنَّهُ مُبْقٍ عَلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْإِحْرَامَ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ التَّزَوُّجِ وَالثَّانِي مُثْبِتٌ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَمْرٍ عَارِضٍ عَلَى الْإِحْرَامِ وَعُلَمَاؤُنَا أَخَذُوا فِيهَا بِالنَّافِي، وَسَرِفٌ بِوَزْنِ كَتِفٍ جَبَلٌ بِطَرِيقِ الْمَدِينَةِ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ، وَفِي الصِّحَاحِ وَسَرِفٌ اسْمُ مَوْضِعٍ، وَعَنْ الْمُسْتَغْفِرِيِّ سَرِفٌ عَلَى رَأْسِ مِيلٍ مِنْ مَكَّةَ بِهَا قَبْرُ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَّ عَنْهَا وَكَانَتْ مَاتَتْ بِمَكَّةَ فَحَمَلَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ إلَى سَرِفٍ، وَيَجُوزُ تَرْكُ صَرْفِهِ بِتَقْدِيرِ التَّأْنِيثِ وَصَرْفُهُ بِتَقْدِيرِ عَدَمِهِ، وَقَوْلُهُ وَاتَّفَقَتْ الرِّوَايَاتُ جَوَابٌ عَمَّا قَالَ أَبُو الْحَسَنِ إنَّ عُلَمَاءَنَا إنَّمَا أَخَذُوا بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ عَارِضٌ وَالْحِلُّ أَصْلٌ فَكَانَ هَذَا مِنْهُمْ عَمَلًا بِالْمُثْبِتِ لَا بِالنَّافِي فَقَالَ اتَّفَقَتْ الرِّوَايَاتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْحِلِّ الْأَصْلِيِّ وَإِنَّمَا اُخْتُلِفَ فِي الْحِلِّ الْمُعْتَرِضِ عَلَى الْإِحْرَامِ فَكَانَ الْحِلُّ عَارِضًا وَالْإِحْرَامُ أَصْلًا،. وَالْمُرَادُ مِنْ اتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ اتِّفَاقُ عَامَّتِهَا فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ تَزَوَّجَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ كَذَا فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ لِلْمُسْتَغْفِرَيَّ، وَالثَّالِثَةُ مَسْأَلَةُ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ وَهِيَ مَا إذَا خَرَجَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ تَقَعُ الْفُرْقَةُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تَقَعُ. وَقَدْ رَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَاجَرَتْ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ وَزَوْجُهَا أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ كَافِرٌ بِمَكَّةَ ثُمَّ إنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَنَتَيْنِ وَهَاجَرَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَدَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ» وَهُوَ نَافٍ؛ لِأَنَّهُ مُبْقٍ عَلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّهَا عَلَيْهِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ» وَهُوَ مُثْبِتٌ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَمْرٍ عَارِضٍ فَأَخَذَ عُلَمَاؤُنَا بِالْمُثْبِتِ دُونَ النَّافِي، وَالرَّابِعَةُ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ فَالْمُخْبِرُ بِالطَّهَارَةِ نَافٍ؛ لِأَنَّهُ مُبْقٍ عَلَى الْأَمْرِ الْأَصْلِيِّ وَالْمُخْبِرُ بِالنَّجَاسَةِ مُثْبِتٌ؛ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ عَنْ أَمْرٍ عَارِضٍ وَأَخَذُوا فِيهَا بِالنَّافِي دُونَ الْمُثْبِتِ، وَالْخَامِسَةُ مَسْأَلَةُ تَعَارُضِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ بِأَنْ أَخْبَرَ مُزَكٍّ أَنَّهُ عَدْلٌ وَأَخْبَرَ آخَرُ أَنَّهُ مَجْرُوحٌ يُرَجَّحُ خَبَرُ الْجَارِحِ وَهُوَ مُثْبِتٌ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ أَمْرًا عَارِضًا عَلَى خَبَرِ الْمُعَدِّلِ وَهُوَ نَافٍ؛ لِأَنَّهُ مُبْقٍ عَلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ إذْ الْعَدَالَةُ هِيَ الْأَصْلُ فَهَذَا بَيَانُ اخْتِلَافِ عَمَلِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ وَالْأَصْلُ الْجَامِعُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِمَّا يُعْرَفُ

وَذَلِكَ مِثْلُ مَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ فِي رَجُلٍ ادَّعَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ أَنَّهَا سَمِعَتْهُ مِنْهُ يَقُولُ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ فَقَالَ الزَّوْجُ إنَّمَا قُلْت الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ قَوْلُ النَّصَارَى أَوْ قَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ لَكِنَّهَا لَمْ تَسْمَعْ الزِّيَادَةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ إنَّا سَمِعْنَاهُ يَقُولُ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَلَمْ نَسْمَعْ مِنْهُ غَيْرَ ذَلِكَ وَلَا نَدْرِي أَنَّهُ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ أَمْ لَا لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ وَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ أَيْضًا. وَإِنْ قَالَ الشَّاهِدَانِ نَشْهَدُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ وَلَمْ يَقُلْ غَيْرَ ذَلِكَ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ وَوَقَعَتْ الْحُرْمَةُ، وَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ إذَا ادَّعَى الزَّوْجُ الِاسْتِثْنَاءَ فَقَدْ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى مَحْضِ النَّفْيِ؛ لِأَنَّ هَذَا نَفْيُ طَرِيقِ الْعِلْمِ بِهِ ظَاهِرٌ وَذَلِكَ أَنَّ كَلَامَ الْمُتَكَلِّمِ إنَّمَا يُسْمَعُ عِيَانًا فَيُحِيطُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ زَادَ عَلَيْهِ شَيْئًا أَوْ لَمْ يَزِدْ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُسْمَعُ فَلَيْسَ بِكَلَامٍ لَكِنَّهُ دَنْدَنَةٌ، وَإِذَا وَضَحَ طَرِيقُ الْعِلْمِ وَظَهَرَ صَارَ مِثْلَ الْإِثْبَاتِ. وَأَمَّا مَا لَا طَرِيقَ لِإِحَاطَةِ الْعِلْمِ بِهِ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِيهِ خَبَرُ الْمُخْبِرِ فِي مُقَابَلَةِ الْإِثْبَاتِ مِثْلُ التَّزْكِيَةِ؛ لِأَنَّ الدَّاعِيَ إلَى التَّزْكِيَةِ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ إنْ لَمْ يَقِفْ الْمُزَكَّى مِنْهُ عَلَى مَا يُخْرِجُ عَدَالَتَهُ وَقَلَّ مَا يُوقَفُ مِنْ حَالِ الْبَشَرِ عَلَى أَمْرٍ فَوْقَهُ فِي التَّزْكِيَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِدَلِيلِهِ أَيْ يَكُونُ بِنَاءً عَلَى دَلِيلٍ كَالْإِثْبَاتِ أَوْ لَا يُعْرَفُ بِدَلِيلِهِ أَيْ لَا يَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى دَلِيلٍ بَلْ يَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى الِاسْتِصْحَابِ الَّذِي هُوَ لَيْسَ بِدَلِيلٍ أَوْ يَشْتَبِهُ حَالُهُ أَيْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى دَلِيلٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى الِاسْتِصْحَابِ. قَوْلُهُ (وَذَلِكَ) أَيْ النَّفْيُ الَّذِي هُوَ مِثْلُ الْإِثْبَاتِ مِثْلُ مَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِلْقَاضِي إنِّي سَمِعْت زَوْجِي يَقُولُ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَقَالَ الزَّوْجُ قَدْ وَصَلْتُ بِكَلَامِي شَيْئًا آخَرَ فَقُلْت النَّصَارَى يَقُولُونَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ أَوْ قُلْت الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ قَوْلُ النَّصَارَى فَلَمْ تَسْمَعْ الْمَرْأَةُ بَعْضَ كَلَامِي، وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ كَذَبَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْفُرْقَةِ فَإِنَّ عَيْنَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ لَا تَكُونُ مُوجِبَةً لِلْفُرْقَةِ فَيَكُونُ مُنْكِرًا لِمَا تَدَّعِيهِ مِنْ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْفُرْقَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَتْ إنِّي سَمِعْته يَقُولُ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ فَقَالَ الزَّوْجُ إنَّمَا أَرَدْت بِذَلِكَ حِكَايَةً عَمَّنْ يَقُولُ هَذَا حَيْثُ بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّ مَا فِي ضَمِيرِهِ لَا يَصْلُحُ نَاسِخًا لِحُكْمِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ فَإِنَّ مَا فِي الضَّمِيرِ دُونَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ وَالشَّيْءُ لَا يَنْسَخُهُ إلَّا مَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ فَوْقَهُ، فَإِنْ شَهِدَ الشُّهُودُ لِلْمَرْأَةِ أَنَّا سَمِعْنَاهُ يَقُولُ كَذَا وَلَمْ نَسْمَعْ مِنْهُ غَيْرَ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ أَقْوَالِهِمْ لَمْ نَسْمَعْ وَبَيْنَ قَوْلِ الزَّوْجِ قُلْتُ: قَالَتْ النَّصَارَى كَذَا؛ لِأَنَّهُ صَحَّ أَنْ يُقَالَ قَالَ فُلَانٌ قَوْلًا وَلَكِنِّي لَمْ أَسْمَعْ فَلَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلْإِلْزَامِ. وَإِنْ قَالُوا نَشْهَدُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ وَلَمْ يَقُلْ غَيْرَ ذَلِكَ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ أَثْبَتُوا السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْفُرْقَةِ وَقَوْلُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِيمَا يُبْطِلُ شَهَادَةَ الشُّهُودِ، وَإِنَّمَا قُبِلَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ وَإِنْ قَامَتْ عَلَى النَّفْيِ؛ لِأَنَّهَا صَدَرَتْ عَنْ دَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلْعِلْمِ؛ لِأَنَّ مَا يَكُونُ مِنْ بَابِ الْكَلَامِ يَكُونُ مَسْمُوعًا لِمَنْ كَانَ بِالْقُرْبِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ وَمَا لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ يَكُونُ دَنْدَنَةً لَا كَلَامًا، وَذَكَرَ فِي شَرْحِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهَا إنَّمَا قُبِلَتْ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ لَيْسَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ بَلْ بِمَا سَبَقَ مِمَّا هُوَ إثْبَاتٌ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَى أَنَّ هَذَا أَخُو الْمَيِّتِ وَوَارِثُهُ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ قَوْلَهُمْ لَمْ يَقُلْ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ فِيهِ إثْبَاتُ أَنَّ مَا يَدَّعِي مِنْ الزِّيَادَةِ فِي ضَمِيرِهِ لَا فِي كَلَامِهِ وَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ نَاسِخًا لِمُوجَبِ كَلَامِهِ حَتَّى لَوْ قَالَ الشُّهُودُ لَا نَدْرِي قَالَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَقُلْ إلَّا أَنَّا لَمْ نَسْمَعْ مِنْهُ غَيْرَ قَوْلِهِ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ مَا أَثْبَتُوا أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي ضَمِيرِهِ لَا فِي كَلَامِهِ وَإِنَّمَا قَالُوا لَمْ نَسْمَعْ مِنْهُ وَكَمَا لَمْ تَسْمَعُوا ذَلِكَ مِنْهُ فَالْقَاضِي لَمْ يَسْمَعْ أَيْضًا. 1 - وَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ: أَيْ وَمِثْلُ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حُكْمُ ادِّعَاءِ الزَّوْجِ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الطَّلَاقِ أَوْ فِي الْخُلْعِ بِأَنْ قَالَ قَدْ قُلْتُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ خَالَعْتُكِ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَأَنْكَرَتْ الْمَرْأَةُ الِاسْتِثْنَاءَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، فَإِنَّ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِطَلَاقٍ أَوْ خُلْعٍ بِغَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ بِأَنْ قَالُوا قَدْ تَكَلَّمَ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْخُلْعِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِالِاسْتِثْنَاءِ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَإِنْ قَالُوا لَمْ نَسْمَعْ مِنْهُ غَيْرَ كَلِمَةِ الطَّلَاقِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ وَلَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ لِمَا ذَكَرْنَا إلَّا أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ مَا يَكُونُ دَلِيلَ صِحَّةِ الْخُلْعِ مِنْ قَبْضِ الْبَدَلِ أَوْ سَبَبٍ آخَرَ فَحِينَئِذٍ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ كَذَا فِي شَرْحِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ لِشَمْسِ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. الدَّنْدَنَةُ أَنْ تَسْمَعَ مِنْ الرَّجُلِ نَغْمَةً وَلَا تَفْهَمَ مَا يَقُولُ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا مَا لَا طَرِيقَ لِإِحَاطَةِ الْعِلْمِ بِهِ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ عَلَيْهِ) أَيْ فِيهِ خَبَرُ الْمُخْبِرِ فِي مُقَابَلَةِ الْإِثْبَاتِ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ لَا عَنْ دَلِيلٍ

وَالْجَرْحُ يَعْتَمِدُ الْحَقِيقَةَ فَصَارَ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ أَمْرًا تَشْتَبِهُ فَيَجُوزُ أَنْ يُعْرَفَ الْمُخْبِرُ بِدَلِيلٍ وَيَجُوزُ أَنْ يُعْتَمَدَ فِيهِ ظَاهِرُ الْحَالِ وَجَبَ السُّؤَالُ وَالتَّأَمُّلُ فِي الْمُخْبِرِ، فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ بَنَى عَلَى الْحَالِ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُ؛ لِأَنَّهُ اعْتَمَدَ مَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَمَا يُشَارِكُهُ فِيهِ السَّامِعُ، وَإِذَا أَخْبَرَ عَنْ دَلِيلِ الْمَعْرِفَةِ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ كَانَ مِثْلَ الْمُثْبِتِ فِي التَّعَارُضِ فَحَدِيثُ نِكَاحِ مَيْمُونَةَ مِنْ الْقِسْمِ الَّذِي يُعْرَفُ بِدَلِيلِهِ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الِاحْتِرَامِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَحْوَالٌ ظَاهِرَةٌ مِنْ الْمُحْرِمِ فَصَارَ مِثْلَ الْإِثْبَاتِ فِي الْمَعْرِفَةِ فَوَقَعَتْ الْمُعَارَضَةُ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى مَا هُوَ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ فِي الرُّوَاةِ دُونَ مَا يَسْقُطُ بِهِ التَّعَارُضُ فِي نَفْسِ الْحُجَّةِ وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ رِوَايَةَ مَنْ اخْتَصَّ بِالضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ أَوْلَى وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ» ؛ لِأَنَّهُ فَسَّرَ الْقِصَّةَ فَصَارَ أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ؛ لِأَنَّهُ لَا بُعْدَ لَهُ فِي الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمُوجِبٍ بَلْ عَنْ اسْتِصْحَابِ حَالٍ وَخَبَرُ الْمُخْبِرِ صَادِرٌ عَنْ دَلِيلٍ مُوجِبٍ لَهُ، وَلِأَنَّ السَّامِعَ وَالْمُخْبِرَ فِي هَذَا النَّوْعِ سَوَاءٌ فَإِنَّ السَّامِعَ غَيْرُ عَالِمٍ بِالدَّلِيلِ الْمُثْبِتِ كَالْمُخْبِرِ بِالنَّفْيِ فَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخَبَرُ مُعَارِضًا لِخَبَرِ الْمُثْبِتِ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ عِلْمُ السَّامِعِ مُعَارِضًا لِخَبَرِ الْمُثْبِتِ الدَّاعِي إلَى التَّزْكِيَةِ فِي الْحَقِيقَةِ، هُوَ إنْ لَمْ يَقِفْ الْمُزَكَّى مِنْهُ أَيْ مِنْ الشَّاهِدِ عَلَى مَا تُجْرَحُ عَدَالَتُهُ فَكَانَ مَآلُ تَزْكِيَتِهِ الْجَهْلُ بِسَبَبِ الْجَرْحِ إذْ لَا طَرِيقَ لِلْمُزَكِّي إلَى الْوُقُوفِ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِ الشَّاهِدِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ حَتَّى يَكُونَ إخْبَارُهُ بِعَدَالَتِهِ عَنْ دَلِيلٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِهَا، وَالْجَرْحُ يَعْتَمِدُ الْحَقِيقَةَ أَيْ الْجَارِحُ يُخْبِرُ عَنْ دَلِيلٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ وَهُوَ الْمُعَايَنَةُ فَصَارَ أَوْلَى وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَقَلَّمَا تُوقَفُ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَدَمِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ أَيْ لَا تُوقَفُ. وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَرْجِيحِ الْجَرْحِ عَلَى التَّزْكِيَةِ مَذْهَبُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ إلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ فَصَّلُوا وَقَالُوا الْجَارِحُ إمَّا أَنْ يُعَيِّنَ السَّبَبَ أَوْ لَا فَإِنْ عَيَّنَ فَإِمَّا أَنْ يَنْفِيَهُ الْمُعَدِّلُ أَمْ لَا فَإِنْ نَفَاهُ فَإِمَّا أَنْ يَنْفِيَهُ بِطَرِيقٍ يَقِينِيٍّ أَمْ لَا، فَإِنْ عَيَّنَ السَّبَبَ وَنَفَاهُ الْمُعَدِّلُ بِطَرِيقٍ يَقِينِيٍّ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الْجَارِحُ رَأَيْتُهُ قَدْ قَتَلَ فُلَانًا الْمُسْلِمَ بِغَيْرِ حَقٍّ فِي وَقْتِ كَذَا وَيَقُولَ الْمُعَدِّلُ قَدْ رَأَيْتُهُ حَيًّا بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ يَقُولَ الْجَارِحُ رَأَيْتُهُ شَرِبَ الْخَمْرَ طَوْعًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَقُولَ الْمُعَدِّلُ كُنْت مُصَاحِبًا لَهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَلَمْ يُشْرِبْهَا أَصْلًا فَهَهُنَا يَتَعَارَضَانِ وَيُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِبَعْضِ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ يُقَدَّمُ الْجَرْحُ؛ لِأَنَّهُ اطِّلَاعٌ عَلَى زِيَادَةٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا الْمُعَدِّلُ وَمَا نَفَاهَا يَقِينًا فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُنَا هَكَذَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذَا التَّعْدِيلَ نَفْيٌ عَنْ دَلِيلٍ فَيَجُوزُ أَنْ يُعَارِضَ الْإِثْبَاتَ وَهُوَ الْجَرْحُ، قَوْلُهُ (دُونَ مَا يَسْقُطُ بِهِ التَّعَارُضُ فِي نَفْسِ الْحُجَّةِ) وَهُوَ كَوْنُ أَحَدِهِمَا نَفْيًا وَالْآخَرُ إثْبَاتًا يَعْنِي لَا يُقَالُ أَحَدُهُمَا نَفْيٌ وَالْآخَرُ إثْبَاتٌ وَالنَّفْيُ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ الدَّلِيلِ فَلَا يُعَارِضُ لِلْإِثْبَاتِ؛ لِأَنَّ هَذَا النَّفْيَ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ فَصَارَ مِثْلَ الْإِثْبَاتِ. وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ أَيْ الرُّجُوعُ إلَى أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ أَيْ يُجْعَلَ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لِفَقَاهَتِهِ وَضَبْطِهِ وَإِتْقَانِهِ أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ الَّذِي لَا يُعَادِلُهُ فِي شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا فَإِنَّ قُوَّةَ الضَّبْطِ تَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ الْوَهْمِ وَالْغَلَطِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى زِيَادَةِ ضَبْطِهِ وَإِتْقَانِهِ أَنَّهُ فَسَّرَ الْقِصَّةَ عَلَى مَا رَوَى عَنْهُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَمُجَاهِدٌ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ يَعْنِي فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَهُوَ حَرَامٌ. وَكَانَ زَوَّجَهُ أَيَّاهَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ ثَلَاثًا فَأَتَاهُ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ وَكَّلَتْهُ بِإِخْرَاجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَكَّةَ فَقَالُوا قَدْ انْقَضَى أَجَلُك فَاخْرُجْ عَنَّا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا عَلَيْكُمْ لَوْ تَرَكْتُمُونِي فَأَعْرَسْتُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ فَصَنَعْنَا لَكُمْ طَعَامًا فَحَضَرْتُمُوهُ قَالُوا لَا حَاجَةَ لَنَا فِي طَعَامِك فَاخْرُجْ عَنَّا فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَلَفَ أَبَا رَافِعٍ مَوْلَاهُ عَلَى مَيْمُونَةَ حَتَّى أَتَاهُ بِهَا بِسَرِفٍ فَبَنَى عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْلَمَ هُنَالِكَ» هَكَذَا فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ لِلْمُسْتَغْفِرَيَّ وَشَرْحِ الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ، وَحَدِيثُ يَزِيدَ قَدْ ضَعَّفَهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ حَيْثُ قَالَ لِلزُّهْرِيِّ وَمَا يَدْرِي يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ أَعْرَابِيٌّ بَوَّالٌ عَلَى عَقِبِهِ أَتَجْعَلُهُ

وَحَدِيثُ بَرِيرَةَ وَزَيْنَبَ مِنْ الْقِسْمِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ إلَّا بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ الْحَالِ فَصَارَ الْإِثْبَاتُ أَوْلَى وَمَسْأَلَةُ الْمَاءِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مِنْ جِنْسِ مَا يُعْرَفُ بِدَلِيلِهِ؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَاءِ لِمَنْ اسْتَقْصَى الْمَعْرِفَةَ فِي الْعِلْمِ بِهِ مِثْلُ النَّجَاسَةِ وَكَذَلِكَ الطَّعَامُ وَاللَّحْمُ وَالشَّرَابُ، وَلَمَّا اسْتَوَيَا وَجَبَ التَّرْجِيحُ بِالْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً فَيَصْلُحُ مُرَجِّحًا ـــــــــــــــــــــــــــــQمِثْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ الزُّهْرِيُّ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ الْآثَارِ وَاَلَّذِينَ رَوَوْا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ أَهْلُ عِلْمٍ وَثَبْتٍ أَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ أَئِمَّةٌ وَفُقَهَاءُ يُحْتَجُّ بِرِوَايَاتِهِمْ وَآرَائِهِمْ وَاَلَّذِينَ نَقَلُوا عَنْهُمْ كَذَلِكَ أَيْضًا مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ فَهَؤُلَاءِ أَيْضًا أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِرِوَايَاتِهِمْ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَا يُوَافِقُ رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرَوَى ذَلِكَ عَنْهَا مَنْ لَا يَطْعَنُ أَحَدٌ فِيهِ أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَكُلُّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةٌ يُحْتَجُّ بِرِوَايَاتِهِمْ فَمَا رَوَوْا مِنْ ذَلِكَ أَوْلَى مِمَّا رَوَى مَنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِمْ فِي الضَّبْطِ وَالثَّبْتِ وَالْفِقْهِ وَالْأَمَانَةِ، وَمَا قَالُوا أَنَّ أَبَا رَافِعٍ كَانَ رَسُولًا بَيْنَهُمَا فَكَانَ هُوَ أَعْرَفَ بِالْبَيَانِ وَهُوَ يَرْوِي أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ قُلْنَا الرَّسُولُ قَدْ يَغِيبُ عِنْدَ الْعَقْدِ أَمَّا الْوَلِيُّ فَلَا وَالْعَبَّاسُ وَلِيٌّ مِنْ جَانِبِهَا فَكَانَ ابْنُهُ أَعْرَفَ بِحَالِ أَبِيهِ، وَمَا رُوِيَ «عَنْ مَيْمُونَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ» مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ بَلَغَهَا بَعْدَ الْحِلِّ؛ لِأَنَّ الْعَبَّاسَ كَانَ يُنْكِحُهَا. قَوْلُهُ (وَحَدِيثُ بَرِيرَةَ وَزَيْنَبَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ الْحَالِ) أَيْ خَبَرُ النَّافِي فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ وَهُوَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَيَّرَهَا وَزَوْجُهَا عَبْدٌ «وَأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَدَّ زَيْنَبَ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ» بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ الْحَالِ أَيْ عَلَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ لَا عَلَى دَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلْعِلْمِ فَإِنَّ مَنْ رَوَى أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا بَنَى خَبَرَهُ عَلَى أَنَّهُ عَرَفَ الْعُبُودِيَّةَ ثَابِتَةً فِيهِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالدَّلِيلِ الْمُثْبِتِ لِلْحُرِّيَّةِ، وَمَنْ رَوَى الرَّدَّ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ بَنَى خَبَرَهُ عَلَى عَدَمِ الْعِلْمِ بِالدَّلِيلِ الْمُوجِبِ أَيْضًا وَهُوَ مُشَاهَدَةُ النِّكَاحِ الْجَدِيدِ وَأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا قَائِمًا فِيمَا مَضَى وَشَاهَدَ رَدَّهَا فَرَوَى أَنَّهُ رَدَّهَا بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْإِثْبَاتُ أَوْلَى لِابْتِنَائِهِ عَلَى دَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلْعِلْمِ، مَعَ أَنَّ رِوَايَةَ الرَّدِّ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهُ رَدَّهَا عَلَيْهِ بِحُرْمَةِ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ أَيْ أَنَّهَا كَانَتْ مَنْكُوحَةً قَبْلَ ذَلِكَ فَرَدَّهَا عَلَيْهِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ وَلَمْ يُزَوِّجْهَا غَيْرَهُ. ثُمَّ إنَّهُمْ قَالُوا خَبَرُ الْعُبُودِيَّةِ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ رَاجِحٌ عَلَى خَبَرِ الْحُرِّيَّةِ؛ لِأَنَّ رِوَايَةَ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَهِيَ كَانَتْ خَالَةُ عُرْوَةَ وَعَمَّةُ قَاسِمٍ فَكَانَ سَمَاعُهُمَا مُشَافَهَةً وَرَاوِي خَبَرِ الْحُرِّيَّةِ لِلْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ وَسَمَاعُهُ عَنْهَا مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ فَكَانَتْ الرِّوَايَةُ الْأُولَى أَوْلَى لِزِيَادَةِ تَيَقُّنٍ فِي الْمَسْمُوعِ عِنْدَ عَدَمِ الْحِجَابِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ التَّيَقُّنَ فِيمَا قُلْنَا أَكْثَرُ لِابْتِنَائِهِ عَلَى الدَّلِيلِ كَمَا ذَكَرْنَا وَلِأَنَّ فِيمَا قُلْنَا عَمَلًا بِالرِّوَايَتَيْنِ فَإِنَّهُ لَمَّا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا وَأَنَّهُ كَانَ حُرًّا جَعَلْنَاهُ حُرًّا فِي حَالٍ وَعَبْدًا فِي حَالٍ وَالْحُرِّيَّةُ تَكُونُ بَعْدَ الرِّقِّ وَلَا يَكُونُ الرِّقُّ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ الْعَارِضَةِ فَجَعَلْنَا الرِّقَّ سَابِقًا وَالْحُرِّيَّةَ لَاحِقَةً جَمْعًا بَيْنَهُمَا مَعَ أَنَّ الرِّوَايَاتِ لَوْ اتَّفَقَتْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا لَمْ تَنْفِ ثُبُوتَ التَّخْيِيرِ إذَا كَانَ زَوْجُ الْمُعْتَقَةِ حُرًّا؛ لِأَنَّهُ مَا قَالَ: إنِّي خَيَّرْتهَا لِأَنَّ زَوْجَهَا كَانَ عَبْدًا، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَا يَنْفِي التَّخْيِيرَ أَيْضًا عِنْدَ الْحُرِّيَّةِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْعِلَّةِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ، وَقَوْلُهُ: لَوْ كَانَ حُرًّا لَمْ يُخَيِّرْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كَلَامِ عَائِشَةَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ عُرْوَةَ فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى انْتِفَاءِ الْخِيَارِ عِنْدَ الْحُرِّيَّةِ، وَمَسْأَلَةُ الْمَاءِ أَيْ النَّفْيِ فِي مَسْأَلَةِ

وَمِنْ النَّاسِ مَنْ رَجَّحَ بِفَضْلِ عَدَدِ الرُّوَاةِ وَاسْتَدَلَّ بِمَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَسَائِلِ الْمَاءِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إنَّ قَوْلَ الِاثْنَيْنِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ يَشْهَدُ بِذَلِكَ لِمَزِيَّةٍ فِي الصِّدْقِ إلَّا أَنَّ هَذَا خِلَافُ السَّلَفِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُرَجِّحُوا بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَاءِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مِنْ جِنْسِ مَا يُعْرَفُ بِدَلِيلِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَخَذَ الْمَاءَ مِنْ وَادٍ جَارٍ فِي إنَاءٍ طَاهِرٍ وَلَمْ يَغِبْ ذَلِكَ الْإِنَاءُ عَنْهُ كَانَ فِي الْإِخْبَارِ بِطَهَارَتِهِ مُعْتَمِدًا عَلَى دَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلْعِلْمِ كَالْمُخْبِرِ بِنَجَاسَتِهِ فَيَتَحَقَّقُ التَّعَارُضُ وَيَجِبُ التَّرْجِيحُ بِالْأَصْلِ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ. قَوْلُهُ (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ رَجَّحَ بِفَضْلِ عَدَدٍ فِي الرُّوَاةِ) وَلَا يُرَجَّحُ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِأَنْ يَكُونَ رُوَاتُهُ أَكْثَرَ مِنْ رُوَاةِ الْآخَرِ عِنْدَ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إلَى صِحَّةِ التَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ وَبِهِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ فِي رِوَايَةٍ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِقُوَّةٍ لِأَحَدِ الْخَبَرَيْنِ لَا تُوجَدُ فِي الْآخَرِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَثْرَةَ الرُّوَاةِ نَوْعُ قُوَّةٍ فِي أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْجَمَاعَةِ أَقْوَى فِي الظَّنِّ وَأَبْعَدُ مِنْ السَّهْوِ وَأَقْرَبُ إلَى إفَادَةِ الْعِلْمِ مِنْ قَوْلِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ خَبَرَ كُلِّ وَاحِدٍ يُفِيدُ ظَنًّا وَلَا يَخْفَى أَنَّ الظُّنُونَ الْمُجْتَمِعَةَ كُلَّمَا كَانَتْ أَكْثَرَ كَانَتْ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ حَتَّى يَنْتَهِي إلَى الْقَطْعِ، وَلِهَذَا رَجَّحَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ قَوْلَ الِاثْنَيْنِ عَلَى قَوْلِ الْوَاحِدِ فِيمَا إذَا أَخْبَرَ وَاحِدٌ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ أَوْ بِحِلِّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاثْنَانِ بِالنَّجَاسَةِ أَوْ بِالْحُرْمَةِ أَوْ عَلَى الْقَلْبِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الِاثْنَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا، يُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ يُرَجَّحُ خَبَرُ الِاثْنَيْنِ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ حَتَّى كَانَ خَبَرُ الْمَثْنَى حُجَّةً لِطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ إلَيْهِ دُونَ خَبَرِ الْوَاحِدِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَخْبَارِ، وَقَدْ اشْتَهَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الِاعْتِمَادُ عَلَى خَبَرِ الْمَثْنَى دُونَ الْوَاحِدِ، وَلَنَا أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ وَخَبَرَ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فِي إيقَاعِ الْعِلْمِ سَوَاءٌ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُوجِبُ عِلْمَ غَالِبِ الرَّأْيِ فَلَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ بِكَثْرَةِ الْمُخْبِرِينَ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ فَإِنَّهَا لَا تَتَرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ لِاسْتِوَاءِ الِاثْنَيْنِ وَمَا فَوْقَهُمَا فِي إيقَاعِ الْعِلْمِ وَكَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ حُجَّةً وَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ الْإِخْبَارِ عَنْ نَجَاسَةِ الْمَاءِ وَطَهَارَتِهِ فَإِنَّ الْمُخْبِرَ هُنَاكَ يُخْبِرُ عَنْ مُعَايَنَةٍ وَحَقِيقَةٍ فَكَانَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ وَقَوْلُ الْوَاحِدِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مِنْ حَيْثُ الشَّهَادَةُ وَقَوْلُ الِاثْنَيْنِ حُجَّةٌ فَكَانَ الْعَمَلُ بِهِ أَوْجَبَ. أَمَّا هَاهُنَا فَالْخَبَرُ لَا يُخْبِرُ عَنْ مُعَايَنَةٍ فَكَانَ خَبَرًا مَحْضًا وَخَبَرُ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ فِيهِ سَوَاءٌ هَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ، كَذَا ذَكَرَهُ أَبُو الْيُسْرِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الْمُخْبِرُ هَاهُنَا يُخْبِرُ عَنْ مُعَايَنَةٍ أَيْضًا فَإِنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ سَمَاعِهِ مِنْ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الرُّوَاةِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَرَجَّحَ خَبَرُ الِاثْنَيْنِ عَلَى الْوَاحِدِ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ التَّرْجِيحِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً فَقَدْ ذَكَرَ نَظِيرَهُ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالسِّيَرِ ثَلَاثُ فِرَقٍ: أَهْلُ الشَّامِ وَأَهْلُ الْحِجَازِ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ فَكُلُّ مَا اتَّفَقَ فِيهِ الْفَرِيقَانِ مِنْهُمْ عَلَى قَوْلٍ أَخَذْتُ بِذَلِكَ وَتَرَكْتُ مَا انْفَرَدَ بِهِ فَرِيقٌ وَاحِدٌ وَهَذَا تَرْجِيحٌ بِكَثْرَةِ الْقَائِلِينَ صَارَ إلَيْهِ مُحَمَّدٌ، وَأَبَى ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. قَالَ وَالصَّحِيحُ مَا قَالَا فَإِنَّ كَثْرَةَ الْعَدَدِ لَا تَكُونُ دَلِيلَ قُوَّةِ الْحُجَّةِ قَالَ تَعَالَى، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 37] {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] . وَقَالَ {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ} [الكهف: 22] {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24] ثُمَّ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ لَمْ يُرَجِّحُوا بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ فِي بَابِ الْعَمَلِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ فَالْقَوْلُ بِهِ يَكُونُ قَوْلًا بِخِلَافِ إجْمَاعِهِمْ أَرَأَيْتَ لَوْ وَصَلَ إلَى السَّامِعِ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ

وَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ التَّرْجِيحُ بِالذُّكُورَةِ وَالْحُرِّيَّةِ فِي بَابِ رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ وَلَكِنَّهُمْ لَا يُسَلِّمُونَ هَذَا إلَّا فِي الْأَفْرَادِ فَأَمَّا فِي الْعَدَدِ فَإِنَّ خَبَرَ الْحُرَّيْنِ أَوْلَى وَكَذَلِكَ رِوَايَةُ الرَّجُلَيْنِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْمَاءِ إلَّا أَنَّ هَذَا مَتْرُوكٌ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِطَرِيقٍ وَاحِدٍ وَالْآخَرُ بِطُرُقٍ أَكَانَ يُرَجَّحُ مَا وَصَلَ إلَيْهِ بِطَرِيقٍ إذَا كَانَ رَاوِي الْأَصْلِ وَاحِدًا فَهَذَا لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ، وَذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ لَا يَتَرَجَّحُ الْخَبَرُ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ الَّذِي رُوَاتُهُ أَقَلُّ مُتَأَخِّرًا فَيَكُونُ نَاسِخًا لِذَلِكَ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَرْفَعُ الرُّوَاةُ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ التَّرْجِيحُ بِالذُّكُورَةِ وَالْحُرِّيَّةِ) إنَّمَا ذَكَرَ هَذَا جَوَابًا عَنْ اعْتِبَارِهِمْ الْخَبَرَ بِالشَّهَادَةِ فِي خَبَرِ الِاثْنَيْنِ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ رَاجِحٌ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فَكَذَلِكَ فِي بَابِ الْأَخْبَارِ، فَقَالَ وَكَمَا لَا يَصِحُّ مَا ذَكَرْتُمْ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ السَّلَفِ لَا يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ بِالشَّهَادَةِ أَيْضًا فَإِنَّ التَّرْجِيحَ بِالذُّكُورَةِ وَالْحُرِّيَّةِ ثَابِتٌ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ حَتَّى كَانَتْ شَهَادَةُ الرَّجُلَيْنِ رَاجِحَةً عَلَى شَهَادَةِ الْمَرْأَتَيْنِ وَشَهَادَةُ الْحُرَّيْنِ رَاجِحَةً عَلَى شَهَادَةِ الْعَبْدَيْنِ وَلَمْ يَجِبْ التَّرْجِيحُ لَهُمَا فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ حَتَّى كَانَ خَبَرُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ خَبَرِ الرَّجُلِ وَخَبَرُ الْعَبْدِ مِثْلَ خَبَرِ الْحُرِّ فَعَرَفْنَا أَنَّ اعْتِبَارَ الْأَخْبَارِ بِالشَّهَادَةِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا يُؤْخَذُ حُكْمُ رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ مِنْ حُكْمِ الشَّهَادَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّ التَّعَارُضَ فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ تَقَعُ بَيْنَ خَبَرِ الْمَرْأَةِ وَخَبَرِ الرَّجُلِ وَبَيْنَ خَبَرِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَخَبَرِ غَيْرِ الْمَحْدُودِ وَبَيْنَ خَبَرِ الْمُثَنَّى وَخَبَرِ الْأَرْبَعَةِ وَإِنْ كَانَ يَظْهَرُ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي الشَّهَادَاتِ حَتَّى يَثْبُتَ بِشَهَادَةِ الْأَرْبَعَةِ مَا لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الِاثْنَيْنِ وَهُوَ الزِّنَا. وَكَذَلِكَ طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ إلَى قَوْلِ الْأَرْبَعَةِ أَكْثَرُ وَمَعَ ذَلِكَ يَتَحَقَّقُ التَّعَارُضُ بَيْنَ شَهَادَةِ الِاثْنَيْنِ وَبَيْنَ شَهَادَةِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْأَمْوَالِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ حُكْمُ الْحَادِثَةِ مِنْ حَادِثَةٍ أُخْرَى مَا لَمْ يُعْلَمْ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. قَوْلُهُ (وَلَكِنَّهُمْ لَا يُسَلِّمُونَ هَذَا إلَّا فِي الْأَفْرَادِ) يَعْنِي أَنَّهُمْ يُسَلِّمُونَ أَنَّ التَّرْجِيحَ بِالذُّكُورَةِ وَالْحُرِّيَّةِ لَا يَجِبُ فِي الْأَفْرَادِ حَتَّى لَا يَتَرَجَّحَ خَبَرُ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى خَبَرِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَخَبَرُ حُرٍّ عَلَى خَبَرِ عَبْدٍ لَكِنَّهُمْ لَا يُسَلِّمُونَ عَدَمَ التَّرْجِيحِ بَيْنَهُمَا فِي الْعَدَدِ بَلْ يَقُولُونَ خَبَرُ الْحُرَّيْنِ أَوْلَى مِنْ خَبَرِ الْعَبْدَيْنِ وَخَبَرُ الرَّجُلَيْنِ أَوْلَى مِنْ خَبَرِ الْمَرْأَتَيْنِ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْحُرَّيْنِ وَالرَّجُلَيْنِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ دُونَ خَبَرِ الْعَبْدَيْنِ وَالْمَرْأَتَيْنِ فَيَتَرَجَّحُ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ بِخِلَافِ الْأَفْرَادِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَكَانَ خَبَرُ الْحُرِّ كَخَبَرِ الْعَبْدِ وَخَبَرُ الرَّجُلِ كَخَبَرِ الْمَرْأَةِ، كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْمَاءِ يَعْنِي إذَا أَخْبَرَهُ عَبْدٌ ثِقَةٌ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ وَحُرٌّ ثِقَةٌ بِنَجَاسَتِهِ أَوْ عَلَى الْقَلْبِ فَيَتَحَقَّقُ التَّعَارُضُ وَيَعْمَلُ بِأَكْبَرِ رَأْيِهِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ لَا تَتِمُّ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ بِخَبَرِ حُرٍّ وَاحِدٍ وَمِنْ حَيْثُ الدِّينُ الْحُرُّ وَالْمَمْلُوكُ سَوَاءٌ فَلِتَحَقُّقِ الْمُعَارَضَةِ يَصِيرُ إلَى التَّرْجِيحِ بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ، وَإِنْ أَخْبَرَهُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مَمْلُوكَانِ ثِقَتَانِ وَبِالْأَمْرِ الْآخَرِ حُرَّانِ ثِقَتَانِ أَخَذَ بِقَوْلِ الْحُرَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ تَتِمُّ بِقَوْلِ الْحُرَّيْنِ فِي الْحُكْمِ وَلَا تَتِمُّ بِقَوْلِ الْمَمْلُوكَيْنِ فَعِنْدَ التَّعَارُضِ يَتَرَجَّحُ قَوْلُ الْحُرَّيْنِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمَبْسُوطِ. وَإِذَا ثَبَتَ تَرْجِيحُ خَبَرِ الْحُرَّيْنِ فِي مَسْأَلَةِ الْمَاءِ يَثْبُتُ فِي الْأَخْبَارِ أَيْضًا، ثُمَّ إنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يُسَلِّمُوا ذَلِكَ فِي الْعَدَدِ لَا يَتِمُّ الْإِلْزَامُ عَلَيْهِمْ بِمَا ذُكِرَ فَأَبْطَلَ عَلَيْهِمْ كَلَامَهُمْ لِيَتِمَّ الْإِلْزَامُ، فَقَالَ إلَّا أَنَّ هَذَا أَيْ مَا ذَكَرُوا مِنْ تَرْجِيحِ خَبَرِ الْحُرَّيْنِ وَالرَّجُلَيْنِ مَتْرُوكٌ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ فَإِنَّ الْمُنَاظَرَاتِ جَرَتْ مِنْ وَقْتِ الصَّحَابَةِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَلَمْ يُرْوَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا اشْتِغَالُهُمْ بِالتَّرْجِيحِ بِالذُّكُورَةِ وَالْحُرِّيَّةِ فِي الْأَفْرَادِ وَالْعَدَدِ وَلَا بِالتَّرْجِيحِ بِزِيَادَةِ عَدَدِ الرُّوَاةِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا لَاشْتَغَلُوا بِهِ كَمَا اشْتَغَلُوا بِالتَّرْجِيحِ بِزِيَادَةِ الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ وَبِزِيَادَةِ

[باب البيان]

وَهَذِهِ الْحُجَجُ بِجُمْلَتِهَا تَحْتَمِلُ الْبَيَانَ فَوَجَبَ إلْحَاقُهُ بِهَا هَذَا. (بَابُ الْبَيَانِ) الْبَيَانُ فِي كَلَامِ الْعُرْفِ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِظْهَارِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الظُّهُورِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 4] وَ {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 138] وَقَالَ {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] وَالْمُرَادُ بِهَذَا كُلِّهِ الْإِظْهَارُ وَالْفَصْلُ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ هَذَا مُجَاوِزًا وَغَيْرَ مُجَاوِزٍ وَالْمُرَادُ بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ عِنْدَنَا الْإِظْهَارُ دُونَ الظُّهُورِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالثِّقَةِ، فَأَمَّا تَرْجِيحُ خَبَرِ الْمُثَنَّى عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ وَخَبَرِ الْحُرَّيْنِ عَلَى خَبَرِ الْعَبْدَيْنِ فِي مَسْأَلَةِ الْمَاءِ فَلِظُهُورِ التَّرْجِيحِ فِي الْعَمَلِ بِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ فَأَمَّا فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ فَخَبَرُ الْوَاحِدِ وَخَبَرُ الْمَثْنَى فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِمَا سَوَاءٌ كَذَا أَجَابَ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قَوْلُهُ (وَهَذِهِ الْحُجَجُ بِجُمْلَتِهَا) أَيْ الْحُجَجُ الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا مِنْ الْكِتَابِ بِجَمِيعِ أَقْسَامِهِ مِنْ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَغَيْرِهِمَا سِوَى الْمُحْكَمِ مِنْهَا، وَالسُّنَّةِ بِجُمْلَةِ أَنْوَاعِهَا مِنْ الْمُتَوَاتِرِ وَالْمَشْهُورِ وَالْآحَادِ تَحْتَمِلُ الْبَيَانَ أَيْ تَحْتَمِلُ أَنْ يَلْحَقَهَا بَيَانٌ إمَّا عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيرِ أَوْ التَّفْسِيرِ أَوْ التَّغْيِيرِ فَوَجَبَ إلْحَاقُ بَابِ الْبَيَانِ بِذِكْرِ هَذِهِ الْحُجَجِ رِعَايَةً لِلْمُنَاسَبَةِ، وَهَذَا الَّذِي نَشْرَعُ فِيهِ. [بَابُ الْبَيَانِ] (بَابُ الْبَيَانِ) الْبَيَانُ لُغَةً الْإِظْهَارُ وَالتَّوْضِيحُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 4] أَيْ الْكَلَامَ الَّذِي يُبَيِّنُ بِهِ مَا فِي قَلْبِهِ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ أُمُورِ دُنْيَاهُ وَمُنْفَصِلٌ بِهِ عَنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ. قَالَ الْإِمَامُ نَجْمُ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي التَّيْسِيرِ وَيَدْخُلُ فِي الْبَيَانِ الْكِتَابَةُ وَالْإِشَارَةُ وَمَا يَقَعُ بِهِ الدَّلَالَةُ وَهُوَ امْتِنَانٌ مِنْهُ عَلَى الْعِبَادِ بِتَعْلِيمِ اللُّغَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ وَوُجُوهِ الْكَلَامِ الْمُتَفَرِّقَةِ. هَذَا بَيَانٌ أَيْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُ مِنْ سُنَّتِي فِي الْمَاضِينَ إيضَاحٌ لِسُوءِ عَاقِبَةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ التَّكْذِيبِ أَوْ الْقُرْآنُ فَصَّلَ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ وَقَالَ تَعَالَى {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] أَيْ إذَا قَرَأَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْك بِأَمْرِنَا فَاتَّبِعْ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ مَقْرُوءًا عَلَيْك فَاقْرَأْهُ حِينَئِذٍ، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] أَيْ إظْهَارَ مَعَانِيهِ وَأَحْكَامِهِ وَشَرَائِعِهِ وَقِيلَ إذَا أَنْزَلْنَاهُ فَاسْتَمِعْ قِرَاءَتَهُ، ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا إظْهَارَهُ عَلَى لِسَانِك بِالْوَحْيِ حَتَّى تَقْرَأَهُ. وَالْمُرَادُ بِهَذَا أَيْ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْآيَاتِ الْإِظْهَارُ وَالْفَصْلُ فَإِنَّ الْمُظْهِرَ لِلشَّيْءِ وَالْمُبَيَّنَ لَهُ فَاصِلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ هَذَا أَيْ لَفْظُ الْبَيَانِ مُجَاوِزًا وَغَيْرَ مُجَاوِزٍ أَيْ مُتَعَدِّيًا كَمَا بَيَّنَّا وَغَيْرَ مُتَعَدٍّ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. وَكَمَا أَنَّ الْبَيَانَ مَصْدَرُ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ فَهُوَ مَصْدَرُ الْمُنْشَعِبَةِ أَيْضًا كَالسَّلَامِ وَالْكَلَامِ فَالْبَيَانُ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ الثُّلَاثِيِّ لَازِمٌ وَاَلَّذِي هُوَ مَصْدَرُ الْمُنْشَعِبَةِ قَدْ يَكُونُ مُتَعَدِّيًا وَهُوَ الْأَكْثَرُ. وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُتَعَدٍّ كَقَوْلِهِمْ فِي الْمَثَلِ قَدْ بُيِّنَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ أَيْ بَانَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا اللَّفْظَ بَعْدَ قَوْلِهِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِظْهَارِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الظُّهُورِ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ. وَالْمُرَادُ بِهِ أَيْ بِالْبَيَانِ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْ فِيمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ مِنْ تَقْسِيمِ الْبَيَانِ أَوْ فِي هَذَا النَّوْعِ الْمُسَمَّى بِأُصُولِ الْفِقْهِ الْإِظْهَارُ دُونَ الظُّهُورِ، وَعِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَعْنَاهُ ظُهُورُ الْمُرَادِ لِلْمُخَاطَبِ وَالْعِلْمُ بِالْأَمْرِ الَّذِي حَصَلَ لَهُ عِنْدَ الْخِطَابِ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ لِلظُّهُورِ يُقَالُ بَانَ هَذَا الْمَعْنَى لِي بَيَانًا أَيْ ظَهَرَ وَاتَّضَحَ وَبَانَ الْهِلَالُ أَيْ ظَهَرَ وَانْكَشَفَ وَلَكِنَّا نَقُولُ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ بِمَعْنَى الْإِظْهَارِ فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ بَيَّنَ فُلَانٌ كَذَا بَيَانًا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ أَظْهَرَ إظْهَارًا لَمْ يَبْقَ مَعَهُ شَكٌّ، وَإِذَا قِيلَ فُلَانٌ ذُو بَيَانٍ يُرَادُ مِنْهُ الْإِظْهَارُ وَكَذَا فِي التَّنْزِيلِ الَّذِي هُوَ أَفْصَحُ اللُّغَاتِ وَرَدَ بِمَعْنَى الْإِظْهَارِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِظْهَارِ أَيْضًا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَالْبَيَانُ الْفَصَاحَةُ وَاللَّسَنُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ جَعْلُهُ بِمَعْنَى الْإِظْهَارِ أَوْلَى. وَمَنْ جَعَلَهُ بِمَعْنَى الظُّهُورِ دُونَ الْإِظْهَارِ يَلْزَمُهُ الْقَوْلُ

وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» أَيْ الْإِظْهَارِ. . وَالْبَيَانُ عَلَى أَوْجُهٍ: بَيَانُ تَقْرِيرٍ وَبَيَانُ تَفْسِيرٍ وَبَيَانُ تَغْيِيرٍ وَبَيَانُ تَبْدِيلٍ وَبَيَانُ ضَرُورَةٍ فَهِيَ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ. أَمَّا بَيَانُ التَّقْرِيرِ فَتَفْسِيرُهُ أَنَّ كُلَّ حَقِيقَةٍ يَحْتَمِلُ الْمَجَازَ أَوْ عَامٍّ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ إذَا لَحِقَ بِهِ مَا يَقْطَعُ الِاحْتِمَالَ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَحْكَامِ لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ لَا يَتَأَمَّلُ فِي النُّصُوصِ، وَلَا يَجِبُ الْإِيمَانُ عَلَى مَنْ لَا يَتَأَمَّلُ فِي الْآيَاتِ الدَّالَّةِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الظُّهُورَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعِلْمِ لِلْمُكَلَّفِ بِمَا أُرِيدَ مِنْهُ وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ فَاسِدٌ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَدْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَأْمُورًا بِالْبَيَانِ لِلنَّاسِ» قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ بَيَّنَ لِلْكُلِّ مَنْ وَقَعَ لَهُ الْعِلْمُ بِبَيَانِهِ فَأَقَرَّ وَمَنْ لَمْ يَقَعْ لَهُ الْعِلْمُ فَأَصَرَّ، وَلَوْ كَانَ الْبَيَانُ عِبَارَةً عَنْ الْعِلْمِ الْوَاقِعِ لِلْمُبَيَّنِ لَهُ لَمَا كَانَ هُوَ مُتَمِّمًا لِلْبَيَانِ فِي حَقِّ النَّاسِ كُلِّهِمْ. قَوْلُهُ (- عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا» ) عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «قَدِمَ رَجُلَانِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَخَطَبَا فَتَعَجَّبَ النَّاسُ لِبَيَانِهِمَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا، وَإِنَّ مِنْ الشَّعْرِ لَحِكْمَةً» قِيلَ مَعْنَى تَسْمِيَتِهِ بِالسِّحْرِ أَنَّ بِالسِّحْرِ يُسْتَمَالُ الْقُلُوبُ فَكَذَا بِالْبَيَانِ الْفَصِيحِ يُسْتَمَالُ الْقُلُوبُ وَكَمَا أَنَّ فِي السِّحْرِ إرَاءَةُ مَا لَيْسَ بِحَقٍّ فِي لِبَاسِ الْحَقِّ فَكَذَا فِي الْفَصَاحَةِ وَالْبَيَانُ إرَاءَةُ الْمَعْنَى الَّذِي لَيْسَ بِمَتِينٍ فِي لِبَاسِ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ مَتِينٌ وَالْأَوْجَهُ أَنْ يُقَالَ السِّحْرُ فِي زَعْمِهِمْ هُوَ الْإِتْيَانُ بِشَيْءٍ يَتَعَجَّبُ النَّاسُ عَنْهُ وَيَعْجِزُونَ عَنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ مَعَ مُسَاوَاتِهِمْ مَنْ أَتَى بِهِ فِي أَسْبَابِ الْقُدْرَةِ وَالْآلَاتِ، وَالْبَيَانُ الْفَصِيحُ قَدْ يَبْلُغُ فِي الْحُسْنِ وَالْمَلَاحَةِ غَايَةً يَتَعَجَّبُ النَّاسُ عَنْهُ وَيَعْجِزُونَ عَنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ مَعَ تَسَاوِي الْكُلِّ فِي أَسْبَابِ التَّكَلُّمِ وَآلَاتِ النُّطْقِ فَيُسَمَّى سِحْرًا. ، ثُمَّ قِيلَ مَعْنَى الْحَدِيثِ ذَمُّ التَّصَنُّعِ فِي الْكَلَامِ وَالتَّكْلِيفِ لِتَحْسِينِهِ لِيَرُوقَ قَوْلُهُ وَيَسْتَمِيلَ بِهِ قُلُوبَهُمْ فَإِنَّ أَصْلَ السِّحْرِ فِي كَلَامِهِمْ الصَّرْفُ وَسُمِّيَ السِّحْرُ سِحْرًا لِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ عَنْ جِهَتِهِ فَهَذَا الْمُتَكَلِّمُ بِبَيَانِهِ يَصْرِفُ قُلُوبَ السَّامِعِينَ إلَى قَبُولِ قَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ حَقٍّ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: إنَّ مِنْ الْبَيَانِ مَا يَكْتَسِبُ بِهِ صَاحِبُهُ مِنْ الْإِثْمِ مَا يَكْتَسِبُ السَّاحِرُ بِسِحْرِهِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ مَدْحُ الْبَيَانِ وَالْحَثُّ عَلَى تَحْسِينِ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْقَرِينَيْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ «وَإِنَّ مِنْ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً» عَلَى طَرِيقِ الْمَدْحِ فَكَذَا الْقَرِينُ الْآخَرُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْبَيَانَ عِبَارَةٌ عَنْ أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِالتَّعْرِيفِ وَالْإِعْلَامِ فَإِنَّهُ مَصْدَرُ بَيَّنَ يُقَالُ بَيَّنَ تَبْيِينًا وَبَيَانًا وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْإِعْلَامُ بِدَلِيلٍ وَالدَّلِيلُ مُحَصِّلٌ لِلْعِلْمِ فَهُنَا أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ إعْلَامٌ أَيْ تَبْيِينٌ وَدَلِيلٌ يَحْصُلُ بِهِ الْإِعْلَامُ وَعِلْمٌ يَحْصُلُ مِنْ الدَّلِيلِ وَالْبَيَانُ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ، فَمَنْ نَظَرَ إلَى إطْلَاقِهِ عَلَى الْإِعْلَامِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْمُبَيِّنِ كَأَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ قَالَ هُوَ إخْرَاجُ الشَّيْءِ مِنْ الْإِشْكَالِ إلَى التَّجَلِّي. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ جَامِعٍ؛ لِأَنَّ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ إجْمَالٍ إشْكَالُ بَيَانٍ بِالِاتِّفَاقِ وَلَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي التَّعْرِيفِ وَكَذَا بَيَانُ التَّقْرِيرِ وَالتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ أَيْضًا، وَبِأَنَّ لَفْظَ الْبَيَانِ أَظْهَرُ مِنْ هَذَا التَّعْرِيفِ وَمِنْ حَقِّ التَّعْرِيفِ أَنْ يَكُونَ أَظْهَرَ مِمَّا عُرِّفَ بِهِ وَمَنْ نَظَرَ إلَى إطْلَاقِهِ عَلَى الْعِلْمِ الْحَاصِلِ بِالدَّلِيلِ أَيْ يَجْعَلُهُ بِمَعْنَى الظُّهُورِ كَأَبِي بَكْرٍ الدَّقَّاقِ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ قَالَ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي تَبَيَّنَ بِهِ الْمَعْلُومُ فَكَانَ الْبَيَانُ وَالتَّبَيُّنُ عِنْدَهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَمَنْ نَظَرَ إلَى إطْلَاقِهِ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ الْبَيَانُ كَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ قَالَ هُوَ الدَّلِيلُ الْمُوَصِّلُ بِصَحِيحِ النَّظَرِ فِيهِ إلَى اكْتِسَابِ الْعِلْمِ بِمَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَعِبَارَةُ بَعْضِهِمْ هُوَ الْأَدِلَّةُ الَّتِي تَتَبَيَّنُ بِهِ

[أوجه البيان]

كَانَ بَيَانَ تَقْرِيرٍ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجَمْعِ كَانَ عَامًّا يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ فَقَرَّرَهُ بِذِكْرِ الْكُلِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْأَحْكَامُ قَالُوا وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ دَلِيلًا لِغَيْرِهِ وَأَوْضَحَهُ غَايَةَ الْإِيضَاحِ يَصِحُّ لُغَةً وَعُرْفًا أَنْ يُقَالَ تَمَّ بَيَانُهُ وَهَذَا بَيَانٌ حَسَنٌ إشَارَةً إلَى الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ الْمَعْرِفَةُ بِالْمَطْلُوبِ لِلسَّامِعِ وَلَا إخْرَاجُ الْمَطْلُوبِ مِنْ الْإِشْكَالِ إلَى التَّجَلِّي وَيُقَالُ بَيَّنَهُ لَهُ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ وَعَلَى هَذَا بَيَانُ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ بِالْكَلَامِ وَالْفِعْلِ وَالْإِشَارَةِ وَالرَّمْزِ إذًا لِكُلٍّ دَلِيلٌ وَمُبَيِّنٌ وَلَكِنْ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الدَّلَالَةِ بِالْقَوْلِ فَيُقَالُ لَهُ بَيَانٌ حَسَنٌ أَيْ كَلَامٌ رَشِيقٌ حَسَنُ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَقَاصِدِ. قَالَ وَكُلُّ مُفِيدٍ مِنْ كَلَامِ الشَّارِعِ وَفِعْلِهِ وَسُكُوتِهِ وَاسْتِبْشَارِهِ حَيْثُ يَكُونُ دَلِيلًا وَتَنْبِيهًا لِفَحْوَى الْكَلَامِ كُلُّ ذَلِكَ بَيَانٌ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ دَلِيلٌ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ فَهُوَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ دَلِيلٌ وَبَيَانٌ. وَذَكَرَ السَّيِّدُ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ السَّمَرْقَنْدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْبَيَانَ هُوَ الْإِيضَاحُ وَالْكَشْفُ عَنْ الْمَقْصُودِ وَلِهَذَا سُمِّيَ الْقُرْآنُ بَيَانًا؛ لِأَنَّهُ إيضَاحٌ وَكَشْفٌ عَنْ الْمَقْصُودِ وَمِنْهُ بَيَانُ الْمُجْمَلِ، وَأَشَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي فَضْلِ بَيَانِ التَّعْبِيرِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ فِي حَدِّهِ فَقَالَ حَدُّ الْبَيَانِ غَيْرُ حَدِّ النَّسْخِ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ إظْهَارُ حُكْمِ الْحَادِثَةِ عِنْدَ وُجُودِهِ ابْتِدَاءً وَالنَّسْخُ رَفْعُ الْحُكْمِ بَعْدَ الثُّبُوتِ فَلَمْ يَكُنْ بَيَانًا وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ أَيْضًا فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِي هَذَا الْبَابَ فَهَذَا حَاصِلُ مَا قِيلَ فِي تَعْرِيفِ الْبَيَانِ فَعَلَيْك بِاعْتِبَارِ مَا صَحَّ عِنْدَك مِنْ هَذِهِ التَّعْرِيفَاتِ [أَوْجُه الْبَيَانُ] [بَيَانُ التَّقْرِير] قَوْلُهُ (بَيَانُ تَقْرِيرٍ) إضَافَةُ الْبَيَانِ إلَى التَّقْرِيرِ وَالتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ مِنْ قَبِيلِ إضَافَةِ الْجِنْسِ إلَى نَوْعِهِ كَعِلْمِ الطِّبِّ أَيْ بَيَانٌ هُوَ تَقْرِيرٌ وَكَذَا الْبَاقِي. ، وَإِضَافَتُهُ إلَى الضَّرُورَةِ مِنْ قَبِيلِ إضَافَةِ الشَّيْءِ إلَى سَبَبِهِ أَيْ بَيَانٌ يَحْصُلُ بِالضَّرُورَةِ، فَهِيَ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى تَقْسِيمِ الْبَيَانِ عَلَى الْأَوْجُهِ الْخَمْسَةِ الْمُسَمَّاةِ بِالْأَسَامِي الْمَذْكُورَةِ إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَعَلَ التَّعْلِيقَ وَالِاسْتِثْنَاءَ بَيَانَ تَغْيِيرٍ، وَالنَّسْخَ بَيَانَ تَبْدِيلٍ نَظَرًا إلَى أَنَّ النَّسْخَ بَيَانُ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ فَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ أَقْسَامِ الْبَيَانِ وَالْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانَ تَغْيِيرٍ وَالتَّعْلِيقَ بَيَانَ تَبْدِيلٍ مُتَابِعًا لِلْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَمْ يَجْعَلْ النَّسْخَ مِنْ أَقْسَامِ الْبَيَانِ فَقَالَ حَدُّ النَّسْخِ غَيْرُ حَدِّ الْبَيَانِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا نَظَرًا إلَى أَنَّ النَّسْخَ وَإِنْ كَانَ بَيَانَ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ لَكِنَّهُ فِي حَقِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ، فَأَمَّا فِي حَقِّ الْعِبَادِ فَهُوَ رَفْعُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ كَالْقَتْلِ لِانْتِهَاءِ الْأَجَلِ فِي حَقِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَقَطْعُ الْحَيَاةِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ حَتَّى أَوْجَبَ الْقِصَاصَ وَالدِّيَةَ، وَالْبَيَانُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعِبَادِ فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ لِصَاحِبِ الشَّرْعِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ النَّسْخُ مِنْ أَقْسَامِهِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ بَيَانَ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ كَذَا قِيلَ، وَقَوْلُهُ كُلُّ حَقِيقَةٍ تَحْتَمِلُ الْمَجَازَ أَوْ عَامٍّ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ احْتِرَازٌ عَنْ مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ - إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 28 - 75] فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْمَجَازَ وَالْخُصُوصَ. " كَانَ بَيَانَ تَقْرِيرٍ " أَيْ يَكُونُ مُقَرِّرًا لِمَا اقْتَضَاهُ الظَّاهِرُ قَاطِعًا لِاحْتِمَالِ غَيْرِهِ. وَذَلِكَ أَيْ بَيَانُ التَّقْرِيرِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] وَهُوَ نَظِيرُ الْعَامِّ الَّذِي يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ

[بيان التفسير]

وَمِثْلُهُ {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ، وَقَالَ عَنَيْت بِهِ الطَّلَاقَ مِنْ النِّكَاحِ وَإِذَا قَالَ لِعَبْدٍ أَنْتَ حُرٌّ، وَقَالَ عَنَيْت بِهِ الْعِتْقَ عَنْ الرِّقِّ وَالْمِلْكِ. وَهَذَا الْبَيَانُ يَصِحُّ مَوْصُولًا وَمَفْصُولًا لَا لِمَا قُلْنَا إنَّهُ مُقَرَّرٌ. وَأَمَّا بَيَانُ التَّفْسِيرِ فَبَيَانُ الْمُجْمَلِ وَالْمُشْتَرَكِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] وَنَحْوُ ذَلِكَ. ثُمَّ يَلْحَقُهُ الْبَيَانُ بِالسُّنَّةِ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ بَائِنٌ إذَا قَالَ عَنَيْتُ بِهِ الطَّلَاقَ صَحَّ وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْكِنَايَاتِ وَلِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَفِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ فَإِنَّ بَيَانَهُ بَيَانُ تَفْسِيرٍ، ـــــــــــــــــــــــــــــQفَإِنَّ اسْمَ الْجَمْعِ وَهُوَ الْمَلَائِكَةُ كَانَ عَامًّا أَيْ شَامِلًا لِجَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَعْضَهُمْ فَبِقَوْلِهِ كُلُّهُمْ قَرَّرَ مَعْنَى الْعُمُومِ فِيهِ حَتَّى صَارَ لَا يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ. وَمِثْلُهُ أَيْ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا فِي كَوْنِهِ بَيَانَ تَقْرِيرٍ قَوْله تَعَالَى {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] وَهُوَ نَظِيرُ الْحَقِيقَةِ الَّتِي تَحْتَمِلُ الْمَجَازَ فَإِنَّ الطَّائِرَ يَحْتَمِلُ الِاسْتِعْمَالَ فِي غَيْرِ حَقِيقَتِهِ يُقَالُ لِلْبَرِيدِ طَائِرٌ لِإِسْرَاعِهِ فِي مَشْيِهِ وَيُقَالُ أَيْضًا فُلَانٌ يَطِيرُ بِهِمَّتِهِ فَكَانَ قَوْلُهُ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ تَقْرِيرًا لِمُوجَبِ الْحَقِيقَةِ وَقَطْعًا لِاحْتِمَالِ الْمَجَازِ. وَذَكَرَ فِي الْكَشَّافِ أَنَّ مَعْنَى زِيَادَةِ قَوْلِهِ فِي الْأَرْضِ وَ {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] زِيَادَةُ التَّعْمِيمِ وَالْإِحَاطَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ قَطُّ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِينَ السَّبْعِ وَمَا مِنْ طَائِرٍ قَطُّ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مِنْ جَمِيعِ مَا يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَحْفُوظَةٌ أَحْوَالُهَا غَيْرُ مُهْمَلٍ أَمْرُهَا وَالْغَرَضُ فِي ذِكْرِ ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى عِظَمِ قُدْرَتِهِ وَلُطْفِ عِلْمِهِ وَسَعَةِ سُلْطَانِهِ وَتَدْبِيرِهِ تِلْكَ الْخَلَائِقَ الْمُتَفَاوِتَةَ الْأَجْنَاسِ الْمُتَكَاثِرَةَ الْأَصْنَافِ وَهُوَ حَافِظٌ لِمَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا مُهَيْمِنٌ عَلَى أَحْوَالِهَا لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ وَأَنَّ الْمُكَلَّفِينَ لَيْسُوا مَخْصُوصِينَ بِذَلِكَ دُونَ مَنْ عَدَاهُمْ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ، وَذَلِكَ أَيْ نَظِيرُ الْبَيَانِ الْمُقَرَّرِ مِنْ الْمَسَائِلِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ يَقُولَ عَنَيْتُ بِهِ الطَّلَاقَ مِنْ النِّكَاحِ أَيْ رَفْعَ قَيْدِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَإِنْ كَانَ فِي الْأَصْلِ رَفْعُ الْقَيْدِ غَيْرَ مُخْتَصٍّ بِالنِّكَاحِ صَارَ مُخْتَصًّا بِهِ فِي الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ فَصَارَ الطَّلَاقُ لِرَفْعِ النِّكَاحِ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً وَعُرْفِيَّةً وَاحْتَمَلَ رَفْعَ كُلِّ قَيْدٍ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْوَضْعِ وَلِهَذَا لَوْ نَوَى صُدِّقَ دِيَانَةً لَا قَضَاءً فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَجَازِ لِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ فَبِقَوْلِهِ عَنَيْت بِهِ الطَّلَاقَ مِنْ النِّكَاحِ قَرَّرَ مُقْتَضَى الْكَلَامِ وَقَطَعَ احْتِمَالَ الْمَجَازِ، وَكَذَا قَوْلُهُ أَنْتَ حُرٌّ مُوجِبُهُ الْعِتْقُ عَنْ الرِّقِّ فِي الشَّرْعِ وَيَحْتَمِلُ التَّخْلِيَةَ عَنْ الْقَيْدِ الْحِسِّيِّ وَالْحَبْسِ وَالْعَمَلِ. وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْخُلُوصِ يُقَالُ رَجُلٌ حُرٌّ أَيْ خَالِصٌ عَنْ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ وَمِنْهُ طِينٌ حُرٌّ أَيْ خَالِصٌ لَا رَمْلَ فِيهِ وَيُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْكَرِيمِ يُقَالُ رَجُلٌ حُرٌّ أَيْ كَرِيمٌ وَالْحُرَّةُ الْكَرِيمَةُ وَنَاقَةٌ حُرَّةٌ أَيْ كَرِيمَةٌ وَسَحَابَةٌ حُرَّةٌ أَيْ كَثِيرَةُ الْمَطَرِ فَبِقَوْلِهِ عَنَيْت بِهِ الْعِتْقَ عَنْ الرِّقِّ قَرَّرَ مُوجَبَ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَقَطَعَ احْتِمَالَ غَيْرِهَا [بَيَانُ التَّفْسِيرِ] . قَوْلُهُ (وَأَمَّا بَيَانُ التَّفْسِيرِ) بَيَانُ التَّفْسِيرِ هُوَ بَيَانُ مَا فِيهِ خَفَاءٌ مِنْ الْمُشْتَرَكِ وَالْمُجْمَلِ وَنَحْوِهِمَا مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] فَإِنَّهُ مُجْمَلٌ إذْ الْعَمَلُ بِظَاهِرِهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَإِنَّمَا يُوقَفُ عَلَى الْمُرَادِ لِلْعَمَلِ بِهِ بِالْبَيَانِ. وقَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فَإِنَّهُ مُجْمَلٌ فِي حَقِّ مِقْدَارِ مَا يَجِبُ بِهِ الْقَطْعُ وَفِي حَقِّ الْمُجْمَلِ فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَجِبُ مِنْ الْإِبْطِ أَوْ مِنْ الْمِرْفَقِ أَوْ مِنْ الزَّنْدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِثْلُ آيَةِ الرِّبَا، ثُمَّ لَحِقَهُ أَيْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الْبَيَانُ بِالسُّنَّةِ فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَيَّنَ الصَّلَاةَ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالزَّكَاةَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «هَاتُوا رُبُعَ عُشْرِ أَمْوَالِكُمْ» وَبِالْكِتَابِ أَمَرَ بِكِتَابَتِهِ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالنِّصَابَ فِي السَّرِقَةِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا قَطْعَ فِيمَا دُونَ ثَمَنِ الْمِجَنِّ أَوْ لَا قَطْعَ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» . وَمَحَلُّ الْقَطْعِ «بِقَطْعِهِ يَدَ سَارِقِ رِدَاءِ صَفْوَانُ مِنْ الزَّنْدِ» وَالرِّبَا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ» الْحَدِيثَ، وَذَلِكَ أَيْ مِثَالُهُ مِنْ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ قَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ بَائِنٍ أَوْ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْكِنَايَاتِ، ثُمَّ قَالَ عَنَيْت بِهِ الطَّلَاقَ فَإِنَّهُ يَكُونُ بَيَانَ تَفْسِيرٍ

وَيَصِحُّ هَذَا مَوْصُولًا وَمَفْصُولًا هَذَا مَذْهَبٌ وَاضِحٌ لِأَصْحَابِنَا حَتَّى جَعَلُوا الْبَيَانَ فِي الْكِنَايَاتِ كُلِّهَا مَقْبُولًا وَإِنْ فُصِلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] وَثُمَّ لِلتَّرَاخِي وَهَذَا لِأَنَّ الْخِطَابَ بِالْمُجْمَلِ صَحِيحٌ لِعَقْدِ الْقَلْبِ عَلَى حَقِيقَةِ الْمُرَادِ بِهِ عَلَى انْتِظَارِ الْبَيَانِ أَلَا تَرَى أَنَّ ابْتِلَاءَ الْقَلْبِ بِالْمُتَشَابِهِ لِلْعَزْمِ عَلَى حَقِيقَةِ الْمُرَادِ بِهِ صَحِيحٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ انْتِظَارِ الْبَيَانِ فَهَذَا أَوْلَى وَإِذَا صَحَّ الِابْتِلَاءُ حَسُنَ الْقَوْلُ بِالتَّرَاخِي. ـــــــــــــــــــــــــــــQفَإِنَّ الْبَيْنُونَةَ أَوْ الْحُرْمَةَ مُشْتَرَكَةٌ مُحْتَمِلَةٌ لِلْمَعَانِي فَإِذَا قَالَ عَنَيْتُ بِهَذَا الْكَلَامِ الطَّلَاقَ فَقَدْ رَفَعَ الْإِبْهَامَ فَكَانَ بَيَانَ تَفْسِيرٍ، ثُمَّ بَعْدَ التَّفْسِيرِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِأَصْلِ الْكَلَامِ فَتَقَعُ الْبَيْنُونَةُ وَالْحُرْمَةُ، وَكَذَا إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دِرْهَمٌ وَفِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ كَانَ مُشْكِلًا لِدُخُولِ الْأَلِفِ الْمُقَرِّ بِهِ فِي إشْكَالِهِ فَإِذَا قَالَ عَنَيْتُ بِهِ نَقْدَ كَذَا زَالَ الْإِشْكَالُ وَصَارَ هَذَا الْكَلَامُ تَفْسِيرًا لَهُ. قَوْلُهُ (وَيَصِحُّ هَذَا) أَيْ بَيَانُ التَّفْسِيرِ مَوْصُولًا وَمَفْصُولًا لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانُ التَّفْسِيرِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إلَى الْفِعْلِ إلَّا عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ تَكْلِيفَ الْمُحَالِ. وَأَمَّا تَأْخِيرُهُ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ إلَى الْفِعْلِ فَجَائِزٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ خِلَافًا لِلْجُبَّائِيِّ وَابْنِهِ أَبِي هَاشِمٍ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ وَمُتَابَعِيهِمْ وَالظَّاهِرِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ ذَكَرَ السَّمْعَانِيُّ وَالْغَزَالِيُّ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - ذَهَبُوا إلَيْهِ فَكَانَ الشَّيْخُ يَرُدُّ هَذَا الْقَوْلَ بِقَوْلِهِ هَذَا مَذْهَبٌ وَاضِحٌ لِأَصْحَابِنَا أَيْ صِحَّةُ بَيَانِ مَا فِيهِ خَفَاءٌ مُتَّصِلًا وَمُنْفَصِلًا مَذْهَبٌ ظَاهِرٌ لِأَصْحَابِنَا بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ إنْكَارُهُ فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا أَقَرَّ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ شَيْئًا، ثُمَّ بَيَّنَهُ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْفَصِلًا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. وَكَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ بَائِنٌ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُبَيِّنَ مُتَّصِلًا وَمُنْفَصِلًا مَعَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ مُجْمَلٍ فَثَبَتَ أَنَّهُ هُوَ الْمَذْهَبُ وَأَنَّ قَوْلَ أُولَئِكَ الطَّائِفَةِ مِنْ أَصْحَابِنَا إنْ ثَبَتَ عَنْهُمْ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ عَلَى الْمَذْهَبِ وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَى جَوَازَ تَأْخِيرِهِ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْخِطَابِ هُوَ إيجَابُ الْعَمَلِ وَالتَّكْلِيفُ بِهِ، وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْفَهْمِ وَالْفَهْمُ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ الْبَيَانِ فَلَوْ جُوِّزَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ أَدَّى إلَى تَكْلِيفِ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ وَلَا يُقَالُ كَمَا أَنَّ الْعَمَلَ مَقْصُودٌ فَالْعِلْمُ وَالِاعْتِقَادُ مَقْصُودَانِ أَيْضًا وَالْإِجْمَالُ وَالِاشْتِرَاكُ لَا يَمْنَعَانِ مِنْ وُجُوبِ الِاعْتِقَادِ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا الْعَمَلُ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ وَالِاعْتِقَادُ تَابِعٌ وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ الْأَصْلِيِّ فَلَا يَجُوزُ. وَبِأَنَّهُ لَوْ حَسُنَ الْخِطَابُ بِالْمُجْمَلِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ فِي الْحَالِ لَحَسُنَ خِطَابُ الْعَرَبِيِّ بِالزِّنْجِيَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى مُخَاطَبَتِهِ بِالْعَرَبِيَّةِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ فِي الْحَالِ، وَكَذَا عَكْسُهُ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَرَفْنَا أَنَّهُ يَقْبُحُ هَاهُنَا أَيْضًا بِجَامِعِ أَنَّ السَّامِعَ لَا يَعْرِفُ مُرَادَ الْمُخَاطِبِ، وَلَا يُقَالُ إنَّمَا لَمْ يَحْسُنْ مُخَاطَبَةُ الْعَرَبِيِّ بِالزِّنْجِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْهَمُ بِهَذَا الْخِطَابِ شَيْئًا، فَأَمَّا فِي الْخِطَابِ بِالْمُجْمَلِ فَقَدْ يَفْهَمُ السَّامِعُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ أَرَادَ إيجَابَ شَيْءٍ عَلَيْهِ أَوْ نَهْيَهُ عَنْ شَيْءٍ وَفِي الْخِطَابِ بِالْمُشْتَرَكِ يُعْلَمُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ أَرَادَ أَحَدَ الْمَعْنَيَيْنِ أَوْ الْمَعَانِي؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا الْمُعْتَبَرُ فِي حُسْنِ الْخِطَابِ إنْ كَانَ الْمَعْرِفَةُ بِكُلِّ الْمُرَادِ فَلَا تُفِيدُ هَذَا الْفَرْقَ وَإِنْ كَانَ الْمَعْرِفَةُ بِبَعْضِ الْمُرَادِ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ خِطَابُ الْعَرَبِيِّ بِالزِّنْجِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبِيَّ إذَا عَرَفَ حِكْمَةَ الزِّنْجِيِّ الْمُخَاطِبِ عَلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِخِطَابِهِ لَهُ شَيْئًا مَا، إمَّا الْأَمْرَ أَوْ النَّهْيَ أَوْ غَيْرَهُمَا، وَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى فَسَادِهِ وَقُبْحِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْفَرْقَ بَاطِلٌ وَهَذَا بِخِلَافِ بَيَانِ النَّسْخِ حَيْثُ جَازَ تَأْخِيرُهُ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَهُ لَا يَحِلُّ بِالْمَعْرِفَةِ بِصِفَةِ الْعِبَادَةِ فِي الْحَالِ فَأَمْكَنَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْأَدَاءِ. وَأَمَّا تَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُجْمَلِ فَمُخِلٌّ بِمَعْرِفَةِ صِفَةِ الْعِبَادَةِ فَلَمْ يُمْكِنْ أَدَاؤُهَا فِي الْحَالِ وَتَمَسَّكَ مَنْ جَوَّزَ تَأْخِيرَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] وَعَدَهُ الْبَيَانَ بِكَلِمَةِ " ثُمَّ " فِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعَانِي وَالْأَحْكَامِ وَهِيَ لِلتَّرَاخِي بِإِجْمَاعِ أَهْلِ

[تخصيص العام]

وَاخْتَلَفُوا فِي خُصُوصِ الْعُمُومِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا لَا يَقَعُ الْخُصُوصُ مُتَرَاخِيًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ مُتَّصِلًا وَمُتَرَاخِيًا، وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَنْ أَوْصَى بِهَذَا الْخَاتَمِ لِفُلَانٍ وَبِفَصِّهِ لِفُلَانٍ غَيْرِهِ مَوْصُولًا إنَّ الثَّانِيَ يَكُونُ خُصُوصًا لِلْأَوَّلِ فَيَكُونُ الْفَصُّ لِلثَّانِي وَإِذَا فَصَلَ لَمْ يَكُنْ خُصُوصًا بَلْ صَارَ مُعَارِضًا فَيَكُونُ الْفَصُّ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا فَرْعٌ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْعُمُومَ عِنْدَنَا مِثْلُ الْخُصُوصِ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ قَطْعًا وَلَوْ اُحْتُمِلَ الْخُصُوصُ مُتَرَاخِيًا لَمَا أَوْجَبَ الْحُكْمُ قَطْعًا مِثْلَ الْعَامِّ الَّذِي لَحِقَهُ الْخُصُوصُ وَعِنْدَهُ هُمَا سَوَاءٌ وَلَا يُوجِبُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْحُكْمَ قَطْعًا بِخِلَافِ الْخُصُوصِ الَّذِي مَرَّ وَلَيْسَ هَذَا بِاخْتِلَافٍ فِي حُكْمِ الْبَيَانِ بَلْ مَا كَانَ بَيَانًا مَحْضًا صَحَّ الْقَوْلُ فِيهِ بِالتَّرَاخِي ـــــــــــــــــــــــــــــQاللُّغَةِ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ بَيَانِ مَا يَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ وُرُودِهِ. ، فَإِنْ قِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الْبَيَانِ إظْهَارَهُ بِالتَّنْزِيلِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ بِدَلِيلِ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ بَيَانَهُ رَاجِعٌ إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَمِيعَ الْقُرْآنِ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ فَإِنَّ فِيهِ الْمُحْكَمَ وَالْمُفَسَّرَ وَالنَّصَّ فَيَكُونُ الْبَيَانُ الْمُضَافُ إلَى جَمِيعِهِ إظْهَارُهُ بِالتَّنْزِيلِ قُلْنَا قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] أَمْرٌ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِاتِّبَاعِ قُرْآنَهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِهِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ عَالِمًا بِهِ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى فَإِذَا قَرَأْنَاهُ هُوَ الْإِنْزَالُ. ثُمَّ إنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِتَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الْبَيَانِ الْإِنْزَالَ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الشَّيْءِ سَابِقًا عَلَى نَفْسِهِ وَبِأَنَّ الْخِطَابَ بِالْمُجْمَلِ قَبْلَ الْبَيَانِ صَحِيحٌ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الِابْتِلَاءَ بِاعْتِقَادِ الْحَقِّيَّةِ فِيمَا هُوَ الْمُرَادُ فِي الْحَالِ مَعَ انْتِظَارِ الْبَيَانِ لِلْعَمَلِ بِهِ وَالِابْتِلَاءُ بِاعْتِقَادِ الْحَقِّيَّةِ فِيهِ أَهَمُّ مِنْ الِابْتِلَاءِ بِالْعَمَلِ بِهِ فَكَانَ حَسَنًا صَحِيحًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الِابْتِلَاءَ بِالتَّشَابُهِ الَّذِي آيَسَنَا عَنْ بَيَانِهِ صَحَّ بِاعْتِبَارِ اعْتِقَادِ الْحَقِّيَّةِ فَالِابْتِلَاءُ بِالْمُجْمَلِ الَّذِي يُنْتَظَرُ بَيَانُهُ كَانَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ وَلَيْسَ فِيهِ تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ كَمَا زَعَمُوا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعَمَلِ قَبْلَ الْبَيَانِ لَيْسَ بِثَابِتٍ بَلْ هُوَ مُتَأَخِّرٌ إلَى الْبَيَانِ، وَلَيْسَ هُوَ كَخِطَابِ الْعَرَبِيِّ بِالزِّنْجِيَّةِ أَيْضًا لَا يُفِيدُ أَصْلًا فَإِنَّهُ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ أَوْ خَبَرٌ فَأَمَّا الْعَرَبِيُّ الْمُخَاطَبُ بِالْمُجْمَلِ أَوْ الْمُشْتَرَكِ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ مَعْرِفَةِ مَا يُفِيدُهُ الْخِطَابُ فِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ أَوْ خَبَرٌ وَيَعْرِفُ مَجْمُوعَ مَا وُضِعَ لَهُ اسْمُ الْمُشْتَرَكِ وَأَنَّهُ أُرِيدَ وَاحِدٌ مِنْ مَفْهُومَاتِهِ فَيَفْتَرِقَانِ. ، وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ التَّعْرِيفِ يَصْلُحُ مَقْصُودًا فِي كَلَامِ النَّاسِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَقُولُ لِغَيْرِهِ لِي إلَيْك حَاجَةٌ مُهِمَّةٌ وَلَا يَكُونُ غَرَضُهُ فِي الْحَالِ إلَّا إعْلَامَ هَذَا الْقَدْرِ وَلِهَذَا وُضِعَتْ فِي اللُّغَةِ أَفْهَامٌ مُبْهَمَةٌ كَمَا وُضِعَتْ أَلْفَاظٌ لَمَعَانٍ مُعَيَّنَةٍ، وَأَيْضًا قَدْ يَحْسُنُ مِنْ الْمَلِكِ أَنْ يَقُولَ لِبَعْضِ عُمَّالِهِ قَدْ وَلَّيْتُكَ مَوْضِعَ كَذَا فَاخْرُجْ إلَيْهِ وَإِمَّا أَكْتُبُ إلَيْك تَذْكِرَةً بِتَفْصِيلِ مَا تَعْمَلُهُ وَيَحْسُنُ مِنْ الْمَوْلَى أَنْ يَقُولَ لِغُلَامِهِ أَنَا آمُرُك أَنْ تَخْرُجَ إلَى السُّوقِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَتَبْتَاعَ مَا أُبَيِّنُهُ لَك غَدَاةَ الْجُمُعَةِ وَيَكُونُ الْقَصْدُ بِذَلِكَ إلَى التَّأَهُّبِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالْعَزْمِ عَلَيْهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ فِي الشَّرْعِ إطْلَاقُ اللَّفْظِ الْمُجْمَلِ أَوْ الْمُشْتَرَكِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ فِي الْحَالِ لِيُفِيدَ وُجُوبَ اعْتِقَادِ الْحَقِّيَّةِ وَصَيْرُورَةَ الْمُخَاطَبِ بِهِ مُطِيعًا بِالْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ عَلَى تَقْدِيرِ الْبَيَانِ وَعَاصِيًا بِالْعَزْمِ عَلَى التَّرْكِ. [تَخْصِيصِ الْعَامِّ] قَوْلُهُ (وَاخْتَلَفُوا فِي تَخْصِيصِ الْعَامِّ) لَا خِلَافَ أَنَّ الْعَامَّ إذَا خُصَّ مِنْهُ شَيْءٌ بِدَلِيلٍ مُقَارِنٍ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ مُتَرَاخٍ فَأَمَّا الْعَامُّ الَّذِي لَمْ يُخَصَّ مِنْهُ شَيْءٌ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِدَلِيلٍ مُتَأَخِّرٍ عَنْهُ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ وَعَامَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَعِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَعَامَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ مُتَرَاخِيًا كَمَا يَجُوزُ مُتَّصِلًا. وَذَكَرَ فِي الْمَحْصُولِ وَالْمُعْتَمَدِ وَالْقَوَاطِعِ وَغَيْرِهَا الْخِلَافَ فِي كُلِّ ظَاهِرٍ اُسْتُعْمِلَ فِي خِلَافِهِ كَالْمُطْلَقِ إذَا أُرِيدَ بِهِ الْمُقَيَّدُ وَالنَّكِرَةِ إذَا أُرِيدَ بِهَا الْمُعَيَّنُ. وَالْمُرَادُ بِعَدَمِ جَوَازِ التَّخْصِيصِ أَنَّهُ إذَا وَرَدَ مُتَرَاخِيًا لَا يَكُونُ بَيَانًا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْعَامِّ بَعْضُهُ مِنْ الِابْتِدَاءِ بَلْ يَكُونُ نَسْخًا لِلْحُكْمِ فِي الْبَعْضِ مُقْتَصِرًا عَلَى الْحَالِ وَفَائِدَتُهُ أَنَّ الْعَامَّ لَا يَصِيرُ بِهِ ظَنِّيًّا؛ لِأَنَّ صَيْرُورَتَهُ ظَنِّيًّا بِاعْتِبَارِ خُرُوجِ أَفْرَادٍ أُخَرَ عَنْهُ بِالتَّعْلِيلِ وَدَلِيلُ النَّسْخِ

لِأَنَّ الْبَيَانَ الْمَحْضَ مِنْ شَرْطِهِ مَحَلٌّ مَوْصُوفٌ بِالْإِجْمَالِ وَالِاشْتِرَاكِ وَلَا يَجِبُ الْعَمَلُ مَعَ الْإِجْمَالِ وَالِاشْتِرَاكِ فَيَحْسُنُ الْقَوْلُ بِتَرَاخِي الْبَيَانِ لِيَكُونَ الِابْتِلَاءُ بِالْعَقْدِ مَرَّةً بِالْفِعْلِ مَعَ ذَلِكَ أُخْرَى وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَمَا لَيْسَ بِبَيَانٍ خَالِصٍ مَحْضٍ لَكِنَّهُ تَغْيِيرٌ أَوْ تَبْدِيلٌ وَيَحْتَمِلُ الْقَوْلَ بِالتَّرَاخِي بِالْإِجْمَاعِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ أَنَّ خُصُوصَ دَلِيلِ الْعُمُومِ بَيَانٌ أَوْ تَغْيِيرٌ، فَعِنْدَنَا هُوَ تَغْيِيرٌ مِنْ الْقَطْعِ إلَى الِاحْتِمَالِ فَيُفِيدُ بِالْوَصْلِ مِثْلَ الشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَعِنْدَهُ لَيْسَ بِتَغْيِيرٍ لِمَا قُلْنَا بَلْ هُوَ تَقْرِيرٌ فَصَحَّ مَوْصُولًا وَمَفْصُولًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَبْقَى عَلَى أَصْلِهِ فِي الْإِيجَابِ، وَقَدْ اُسْتُدِلَّ فِي هَذَا الْبَابِ بِنُصُوصٍ احْتَجْنَا إلَى بَيَانِ تَأْوِيلِهَا مِنْهَا أَنَّ بَيَانَ بَقَرَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ وَقَعَ مُتَرَاخِيًا ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا يَقْبَلُ التَّعْلِيلَ فَلَا يَتَطَرَّقُ بِهِ احْتِمَالٌ إلَى الْبَاقِي، وَهَذَا أَيْ الِاخْتِلَافُ الْمَذْكُورُ. وَلَوْ احْتَمَلَ الْخُصُوصَ أَيْ احْتَمَلَ الْعَامُّ الَّذِي لَمْ يُخَصَّ مِنْهُ شَيْءٌ التَّخْصِيصَ مُتَرَاخِيًا لَمَا أَوْجَبَ الْحُكْمَ قَطْعًا لِاحْتِمَالِ ظُهُورِ كَوْنِ الْبَعْضِ مُرَادًا مِنْهُ دُونَ الْكُلِّ وَمَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِتَنَاوُلِهِ لِلْكُلِّ بِطَرِيقِ الْقَطْعِ كَالْعَامِّ الَّذِي لَحِقَهُ الْخُصُوصُ لَا يُمْكِنُهُ الْقَوْلُ بِكَوْنِهِ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ فِي الْبَاقِي قَطْعًا لِاحْتِمَالِ خُرُوجِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ الْبَاقِيَةِ بِالتَّعْلِيلِ. وَهُمَا سَوَاءٌ أَيْ الْعَامُّ الَّذِي لَمْ يَلْحَقْهُ الْخُصُوصُ وَاَلَّذِي لَحِقَهُ الْخُصُوصُ. قَوْلُهُ (لِأَنَّ الْبَيَانَ الْمَحْضَ) كَذَا ذَكَرَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْإِشْكَالَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْبَيَانِ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ الْمَعْرِيَّةَ عَنْ الْأُمُورِ ابْتِدَاءُ بَيَانٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَقَدَّمَهَا إشْكَالٌ فَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْبَيَانِ الْمَحْضِ وَهُوَ الْبَيَانُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي هُوَ بَيَانٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمَحَلِّ مَوْصُوفًا بِالْإِجْمَالِ أَوْ الِاشْتِرَاكِ وَالْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ هُوَ الْإِظْهَارُ وَلَا بُدَّ لِحَقِيقَةِ الْإِظْهَارِ مِنْ سَبْقِ خَفَاءٍ لِاسْتِحَالَةِ إظْهَارِ الظَّاهِرِ. وَالنُّصُوصُ الْمَعْرِيَّةُ عَنْ الْأُمُورِ ابْتِدَاءً إنَّمَا سُمِّيَتْ بَيَانًا؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْأُمُورَ كَانَتْ مَجْهُولَةً قَبْلَ وُرُودِ النُّصُوصِ فَكَانَ مَعْنَى الْإِجْمَالِ مَوْجُودًا فِيهَا وَزِيَادَةٌ إذْ مَعْنَى الْإِجْمَالِ وَالْإِشْكَالِ فِي التَّحْقِيقِ هُوَ الْجَهْلُ بِمَعْنَى الْكَلَامِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيَانُ الْمُجْمَلِ بَيَانٌ مَحْضٌ لِوُجُودِ شَرْطِهِ وَهُوَ كَوْنُ اللَّفْظِ مُحْتَمِلًا غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْعَمَلِ بِنَفْسِهِ وَاحْتِمَالُ كَوْنِ الْبَيَانِ الْمُلْتَحَقِ بِهِ تَفْسِيرًا وَإِعْلَامًا لِمَا هُوَ الْمُرَادُ بِهِ فَيَكُونُ بَيَانًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَا يَكُونُ مُعَارِضًا فَيَصِحُّ مَفْصُولًا وَمَوْصُولًا فَأَمَّا دَلِيلُ الْخُصُوصِ فَلَيْسَ بِبَيَانٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ هُوَ بَيَانٌ مِنْ حَيْثُ احْتِمَالُ الصِّيغَةِ لِلْخُصُوصِ وَهُوَ ابْتِدَاءُ دَلِيلٍ مُعَارِضٍ مِنْ حَيْثُ كَوْنُ الْعَامِّ مُوجِبًا لِلْعَمَلِ بِنَفْسِهِ فِيمَا تَنَاوَلَهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا عَلَى أَنَّهُ بَيَانٌ وَيَكُونُ مُعَارِضًا نَاسِخًا لِلْحُكْمِ الْأَوَّلِ إذَا كَانَ مَفْصُولًا. وَمَا لَيْسَ بِبَيَانٍ خَالِصٍ بَلْ هُوَ بَيَانٌ مِنْ وَجْهٍ لَكِنَّهُ تَغْيِيرٌ أَوْ تَبْدِيلٌ مِنْ وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّرَاخِيَ جَعَلَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانَ التَّغْيِيرِ وَالتَّعْلِيقَ بَيَانَ التَّبْدِيلِ وَالْمُصَنِّفُ جَعَلَهُمَا نَوْعَيْ بَيَانِ التَّغْيِيرِ وَجَعَلَ النَّسْخَ بَيَانَ التَّبْدِيلِ كَمَا بَيَّنَّا لَكِنَّهُ أَرَادَ بِالتَّبْدِيلِ هَاهُنَا أَحَدَ نَوْعَيْ بَيَانِ التَّغْيِيرِ وَهُوَ التَّعْلِيقُ مُوَافِقًا لِشَمْسِ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا النَّسْخَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا مُتَرَاخِيًا بِالِاتِّفَاقِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ هَاهُنَا أَنَّ الْكَلَامَ فِي التَّبْدِيلِ بَعْدَمَا تَغَيَّرَ عَنْ أَصْلِهِ يَنْقَلِبُ تَصَرُّفًا آخَرَ وَفِي التَّغْيِيرِ لَا يَنْقَلِبُ كَذَلِكَ فَفِي الِاسْتِثْنَاءِ يَصِيرُ الْكَلَامُ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي لَا غَيْرُ وَفِي التَّعْلِيقِ يَتَغَيَّرُ الْكَلَامُ عَنْ كَوْنِهِ إيجَابًا وَيَنْقَلِبُ تَصَرُّفَ يَمِينٍ عَلَى مَا عُرِفَ وَقَوْلُهُ أَلَا تَرَى تَوْضِيحٌ لِقَوْلِهِ بَلْ هُوَ تَقْدِيرٌ وَمَعْنَاهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ يَبْقَى مُوجِبًا لِلْحُكْمِ فِي الْبَاقِي كَمَا كَانَ قَبْلَ التَّخْصِيصِ فَيَكُونُ التَّخْصِيصُ مُقَرِّرًا لِمَا كَانَ مُوجِبًا فِي الْأَصْلِ لَا مُغَيِّرًا إذْ لَوْ كَانَ مُغَيِّرًا لَمْ يَبْقَ مُوجِبًا كَالتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ يَبْقَى عَلَى الْعُمُومِ الَّذِي هُوَ أَصْلُهُ حَتَّى أُوجِبَ الْحُكْمُ فِي الْأَفْرَادِ الْبَاقِيَةِ بِعُمُومِهِ فَيَكُونُ مُقَرِّرًا وَلَوْ كَانَ مُغَيِّرًا لَمْ يَبْقَ كَذَلِكَ أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ يُوجِبُ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ بِطَرِيقِ الظَّنِّ وَبَعْدَ التَّخْصِيصِ يَبْقَى عَلَى مَا كَانَ فَيَكُونُ مُقَرِّرًا لَا مُغَيِّرًا فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ بِنَاءٌ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي مُوجَبِ الْعَامِّ وَالْحُجَّةُ بِطَرِيقِ

هَذَا عِنْدَنَا يُقَيِّدُ الْمُطْلَقَ وَزِيَادَةً عَلَى النَّصِّ فَكَانَ نَسْخًا فَصَحَّ مُتَرَاخِيًا لِمَا نُبَيِّنُ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ـــــــــــــــــــــــــــــQالِابْتِدَاءِ لِمَنْ أَبَى جَوَازَ تَأْخِيرِ التَّخْصِيصِ أَنَّ الْعُمُومَ خِطَابٌ لَنَا فِي الْحَالِ بِالْإِجْمَاعِ وَالْمُخَاطِبُ بِهِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَقْصِدَ إفْهَامَنَا فِي الْحَالِ أَوْ لَا يَقْصِدَ ذَلِكَ وَالثَّانِي فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْصِدْ انْتَقَضَ كَوْنُهُ مُخَاطِبًا إذْ الْمَعْقُولُ مِنْ قَوْلِنَا إنَّهُ مُخَاطِبٌ لَنَا أَنَّهُ قَدْ وَجَّهَ الْخِطَابَ نَحْوَنَا وَلَا مَعْنَى لِذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ قَصَدَ إفْهَامَنَا وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْصِدْ الْإِفْهَامَ فِي الْحَالِ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي كَوْنَهُ خِطَابًا لَنَا فِي الْحَالِ لَكَانَ إغْرَاءً بِأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ قَصَدَ إفْهَامَنَا فِي الْحَالِ فَيَكُونُ قَدْ قَصَدَ أَنْ نَجْهَلَ؛ لِأَنَّ مَنْ خَاطَبَ قَوْمًا بِلُغَتِهِمْ فَقَدْ أَغْرَاهُمْ بِأَنْ يَعْتَقِدُوا فِيهِ أَنَّهُ قَدْ عَنَى بِهِ مَا عَنَوْا بِهِ وَلِأَنَّهُ يَكُونُ عَبَثًا إذْ الْفَائِدَةُ فِي الْخِطَابِ لَيْسَتْ إلَّا إفْهَامَ الْمُخَاطَبِ فَثَبَتَ أَنَّهُ أَرَادَ إفْهَامَنَا فِي الْحَالِ. ، وَإِذَا أَرَادَ إفْهَامَنَا فِي الْحَالِ فَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنْ نَفْهَمَ أَنَّ مُرَادَهُ ظَاهِرُهُ أَوْ غَيْرُ ظَاهِرِهِ، فَإِنْ أَرَادَ الْأَوَّلَ وَظَاهِرُهُ لِلْعُمُومِ وَهُوَ مَخْصُوصٌ عِنْدَهُ فَقَدْ أَرَادَ مِنَّا اعْتِقَادَ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادَ مِنَّا أَنْ نَفْهَمَ غَيْرَ ظَاهِرِهِ وَهُوَ لَمْ يَنْصِبْ دَلِيلًا عَلَى تَخْصِيصِهِ فَقَدْ أَرَادَ مِنَّا مَا لَا سَبِيلَ لَنَا إلَيْهِ فَيَكُونُ تَكْلِيفًا بِمَا لَيْسَ فِي وُسْعِنَا وَهُوَ بَاطِلٌ فَإِذًا لَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ التَّخْصِيصَ مُتَّصِلًا بِالْعُمُومِ أَوْ يُشْعِرَنَا بِالْخُصُوصِ بِأَنْ يَقُولَ هَذَا الْعَامُّ مَخْصُوصٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبَيِّنَ الْخَارِجَ عَنْ الْعُمُومِ لِئَلَّا يَكُونَ إغْرَاءً بِاعْتِقَادِ غَيْرِ الْحَقِّ، وَهَذَا بِخِلَافِ تَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمُجْمَلَ لَا ظَاهِرَ لَهُ لِيُؤَدِّيَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ فِيهِ إلَى اعْتِقَادِ مَا لَيْسَ بِحَقٍّ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْبَيَانَ إنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] اقْتَضَى بِعُمُومِهِ وُجُوبَ قَتْلِ غَيْرِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَاعْتِقَادِ ذَلِكَ، كَمَا اقْتَضَى وُجُوبَ قَتْلِ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْحَقِّ وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ الْبَيَانُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] اقْتَضَى وُجُوبَ فِعْلٍ عَلَى نَفْسِهِ وَوُجُوبَ شَيْءٍ فِي مَالِهِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِخِلَافِ الْحَقِّ فَافْتَرَقَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا وَافَقَنَا الْخَصْمُ فِي الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ كَانَ مِنْ ضَرُورَتِهِ لُزُومُ اعْتِقَادِ الْعُمُومِ فِيهِ وَجَوَازُ الْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ عَامٌّ، وَتَجْوِيزُ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ بِدَلِيلِ الْخُصُوصِ يُؤَدِّي إلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ الْكَذِبِ فِي الْحِجَجِ الشَّرْعِيَّةِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ. 1 - ، وَهَذَا بِخِلَافِ النَّسْخِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ اعْتِقَادُ الْحَقِّيَّةِ فِي الْحُكْمِ النَّازِلِ فَأَمَّا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَمَا كَانَ يَجِبُ اعْتِقَادُ التَّأْبِيدِ فِي الْحُكْمِ وَلَا إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مُؤَبَّدٌ؛ لِأَنَّ الْوَحْيَ كَانَ يَنْزِلُ سَاعَةً فَسَاعَةً وَيَتَبَدَّلُ الْحُكْمُ كَالصَّلَاةِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَإِنَّمَا وَجَبَ اعْتِقَادُ التَّأْبِيدِ فِيهِ وَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِهِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنَّ شَرِيعَتَهُ لَا تُنْسَخُ بَعْدَهُ بِشَرِيعَةٍ أُخْرَى وَتَمَسَّكَ مَنْ جَوَّزَ تَأْخِيرَهُ بِنُصُوصٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَجَابَ الشَّيْخُ عَنْ بَعْضِهَا فَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] تَمَسَّكُوا بِهِ بِطَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بَنِي إسْرَائِيلَ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ مُطْلَقَةٍ لِيُظْهِرَ أَمْرَ الْقَتِيلِ بَيْنَهُمْ وَالْمُطْلَقُ عَامٌّ عِنْدَهُمْ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ بَيَانِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ. ثُمَّ بَيَّنَهَا لَهُمْ بَعْدَ سُؤَالِهِمْ مُقَيَّدَةً بِأَوْصَافٍ كَمَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ وَالتَّقْيِيدُ تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ الْمُطْلَقِ؛ لِأَنَّ بِالتَّقْيِيدِ يَخْرُجُ غَيْرُ الْمُقَيَّدِ عَنْ عُمُومِهِ فَدَلَّ أَنَّ تَأْخِيرَ التَّخْصِيصِ جَائِزٌ فَأَجَابَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَنَّ تَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ لَيْسَ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ إذْ الْمُطْلَقُ فِي ذَاتِهِ لَيْسَ بِعَامٍّ لِمَا مَرَّ بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ

{فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [المؤمنون: 27] أَنَّ الْأَهْلَ عَامٌّ لَحِقَهُ خُصُوصٌ مُتَرَاخٍ بِقَوْلِهِ {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] . وَالْجَوَابُ أَنَّ الْبَيَانَ كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ بِقَوْلِهِ {إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [هود: 40] وَذَلِكَ هُوَ مَا سَبَقَ مِنْ وَعْدِ إهْلَاكِ الْكُفَّارِ وَكَانَ ابْنُهُ مِنْهُمْ وَلِأَنَّ الْأَهْلَ لَمْ يَكُنْ مُتَنَاوِلًا لِلِابْنِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الرُّسُلِ مَنْ اتَّبَعَهُمْ وَآمَنَ بِهِمْ فَيَكُونُ أَهْلَ دِيَانَةٍ لَا أَهْلَ نِسْبَةٍ إلَّا أَنَّ نُوحًا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ فِيمَا حُكِيَ عَنْهُ {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] لِأَنَّهُ كَانَ دَعَاهُ إلَى الْإِيمَانِ فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ الْكُبْرَى حَسُنَ ظَنُّهُ بِهِ وَامْتَدَّ نَحْوَهُ رَجَاؤُهُ فَبَنَى عَلَيْهِ سُؤَالَهُ فَلَمَّا وَضَحَ لَهُ أَمْرُهُ أَعْرَضَ عَنْهُ وَسَلَّمَهُ لِلْعَذَابِ وَهَذَا سَائِغٌ فِي مُعَامَلَاتِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - بِنَاءً عَلَى الْعِلْمِ الْبَشَرِيِّ إلَى أَنْ يَنْزِلَ الْوَحْيُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114] ـــــــــــــــــــــــــــــQمَعْنًى فَلِذَلِكَ صَحَّ مُتَرَاخِيًا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ كَانَ مُتَنَاوِلًا لِبَقَرَةٍ مُطْلَقَةٍ. ثُمَّ نُسِخَ الْإِطْلَاقُ بِالتَّقْيِيدِ مَا رُوِيَ «عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمْ لَوْ عَمَدُوا إلَى أَدْنَى أَيِّ بَقَرَةٍ كَانَتْ فَذَبَحُوهَا لَأَجْزَأَتْ عَنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» فَدَلَّ أَنَّ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ الَّذِي فِيهِ تَخْفِيفٌ صَارَ مَنْسُوخًا بِانْتِقَالِ الْحُكْمِ إلَى الْمُقَيَّدَةِ وَأَنَّ اسْتِقْصَاءَهُمْ فِي السُّؤَالِ صَارَ سَبَبًا لِتَغْلِيظِ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ وَإِلَيْهِ مَالَ عَامَّةُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ. وَالثَّانِي وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي عَامَّةِ كُتُبِهِمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ غَيْرِ نَكِرَةٍ، ثُمَّ أَخَّرَ بَيَانَهَا إلَى حِينِ السُّؤَالِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ بَيَانِ مَا لَهُ ظَاهِرٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بَقَرَةٌ مُعَيَّنَةٌ أَنَّ الشَّارِعَ عَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} [البقرة: 68] {إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة: 69] {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ} [البقرة: 71] وَلَوْ كَانَتْ نَكِرَةً لَمَا سَأَلُوا عَنْ تَعْيِينِهَا لِلْخُرُوجِ عَنْ الْعُهْدَةِ بِأَيَّةِ بَقَرَةٍ كَانَتْ. وَأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِأُمُورٍ مُتَجَدِّدَةٍ وَلَوْ كَانَ تَكْلِيفُهُمْ بِأُمُورٍ مُتَجَدِّدَةٍ غَيْرِ مَا أُمِرُوا بِهِ أَوَّلًا لَكَانَ الْوَاجِبُ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ هِيَ الْمَذْكُورَةُ آخِرًا دُونَ مَا ذُكِرَتْ أَوَّلًا، وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ تَحْصِيلُ تِلْكَ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ أَوَّلًا بِإِجْمَاعٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ بَيَانُ ذَلِكَ الْوَاجِبِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ بَقَرَةٌ وَأَنَّ الْمَذْبُوحَ الْمُتَّصِفَ بِجَمِيعِ الصِّفَاتِ كَانَ مُطَابِقًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ أَوَّلًا الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ فَذَبَحُوهَا أَيْ الْبَقَرَةَ الْمَأْمُورُ ذَبْحُهَا الْمَذْكُورُ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ ذَبَحُوا هَذِهِ الْبَقَرَةَ الْمَوْصُوفَةَ عَنْ الْوَاجِبِ قَبْلَ سُؤَالِهِمْ لَخَرَجُوا عَنْ الْعُهْدَةِ فَثَبَتَ أَنَّهُ بَيَانُ ذَلِكَ الْوَاجِبِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَنَّ الْمُطْلَقَ لَوْ كَانَ مُرَادًا، ثُمَّ صَارَ الْمُقَيَّدُ مُرَادًا يُؤَدِّي إلَى الْقَوْلِ بِالنَّسْخِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ وَالِاعْتِقَادِ جَمِيعًا لِضِيقِ الزَّمَانِ عَنْ الِاعْتِقَادِ إذْ لَا بُدَّ لِلِاعْتِقَادِ مِنْ الْعِلْمِ وَلَمْ يَكُنْ حَصَلَ لَهُمْ الْعِلْمُ بِالْوَاجِبِ قَبْلَ السُّؤَالِ وَالْبَيَانِ وَلِهَذَا قَالُوا {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة: 70] أَيْ إلَى الْبَقَرَةِ الْمُرَادِ ذَبْحُهَا وَالنَّسْخُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الِاعْتِقَادِ بَدَاءٌ وَجَهْلٌ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ، بَلْ الْأَمْرُ فِي الِابْتِدَاءِ لَا فِي بَقَرَةٍ مُقَيَّدَةٍ وَإِنْ أُضِيفَ إلَى الْمُطْلَقَةِ لَكِنْ ظَهَرَ ذَلِكَ عِنْدَ سُؤَالِهِمْ لَا أَنَّهُ تَعَالَى أَحْدَثَ حُكْمًا آخَرَ عِنْدَ السُّؤَالِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ سَأَلُوا بَيَانَ تِلْكَ الْبَقَرَةِ بِقَوْلِهِمْ {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة: 68] {يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} [البقرة: 69] وَتَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى بَيَانَهَا لَهُمْ فَلَوْ حُمِلَ عَلَى النَّسْخِ لَا يَكُونُ بَيَانًا لَهَا بَلْ يَكُونُ رَفْعًا لِذَلِكَ الْحُكْمِ وَهُوَ خِلَافُ النَّصِّ. ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ الْخَبَرِ فَمِنْ الْأَخْبَارِ الْآحَادِ وَهُوَ بِظَاهِرِهِ إثْبَاتُ الْبَدَاءِ فِي حُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَغْيِيرُ إرَادَتِهِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ لَوْ عَمَدُوا إلَى أَدْنَى أَيِّ بَقَرَةٍ لَأَجْزَأَتْهُمْ يَقْتَضِي أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى الْمُطْلَقُ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ لَكِنْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يَقْتَضِي إثْبَاتَ الْحُكْمِ فِي الْمُقَيَّدِ فَيَكُونُ مَرْدُودًا. ثُمَّ نَحْنُ إنْ سَلَّمْنَا جَوَازَ تَأْخِيرِ تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ التَّقْيِيدَ نَسْخٌ لِلْإِطْلَاقِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ كَلَامُ الشَّيْخِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْجَوَابِ؛ لِأَنَّهُ بِمَعْزِلٍ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَإِنْ لَمْ يُجَوَّزْ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْبَيَانِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى التَّجْهِيلِ وَاعْتِقَادِ غَيْرِ الْحَقِّ أَوْ اعْتِقَادِ مَا لَا سَبِيلَ لَنَا إلَى مَعْرِفَتِهِ كَمَا بَيَّنَّا فِي تَخْصِيصِ الْعَامِّ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ عَدَمَ اقْتِرَانِ بَيَانٍ بِهِ لِجَوَازِ إعْلَامِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إيَّاهُمْ عِنْدَ نُزُولِ الْأَمْرِ أَنَّ الْمُرَادَ ذَبْحُ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَا مُطْلَقَةٍ فَكَانَ هَذَا بَيَانًا إجْمَالِيًّا مُقَارِنًا. ثُمَّ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ التَّفْصِيلِيِّ إلَى حِينِ سُؤَالِهِمْ وَتَأْخِيرُ مِثْلِ هَذَا الْبَيَانِ عِنْدَنَا جَائِزٌ أَيْضًا وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {فَاسْلُكْ فِيهَا} [المؤمنون: 27] أَيْ أَدْخِلْ فِي السَّفِينَةِ يُقَالُ سَلَكَهُ فِيهِ

وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] ثُمَّ لَحِقَهُ الْخُصُوصُ بِقَوْلِهِ {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] مُتَرَاخِيًا عَنْ الْأَوَّلِ وَهَذَا الِاسْتِدْلَال بَاطِلٌ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ صَدْرَ الْآيَةِ لَمْ يَكُنْ مُتَنَاوِلًا لِعِيسَى وَالْمَلَائِكَةِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مَا لِذَوَاتِ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ لَكِنَّهُمْ كَانُوا مُتَعَنِّتِينَ فَزَادَ فِي الْبَيَانِ إعْرَاضًا عَنْ تَعَنُّتِهِمْ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} [العنكبوت: 31] وَهَذَا عَامٌّ خَصَّ مِنْهُ آلَ لُوطٍ مُتَرَاخِيًا ـــــــــــــــــــــــــــــQسَلْكًا فَسَلَكَ سُلُوكًا {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود: 40] أَيْ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ الْحَيَوَانِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى وَاثْنَيْنِ تَأْكِيدٌ لِزَوْجَيْنِ وَقُرِئَ بِالْإِضَافَةِ أَيْ مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ مِنْ أَجْنَاسِ الْحَيَوَانِ اثْنَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى لِئَلَّا يَنْقَطِعَ تَنَاسُلُهَا بِالْغَرَقِ وَاسْلُكْ عُطِفَ عَلَى زَوْجَيْنِ أَوْ عَلَى اثْنَيْنِ يَعْنِي أَدْخِلْ فِيهَا نِسَاءَك وَأَوْلَادَك. وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ أَنَّ الْأَصْلَ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ بَنِيهِ وَلِذَلِكَ قَالَ نُوحٌ {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود: 45] أَرَادَ بِهِ كَنْعَانَ، وَقَدْ لَحِقَهُ خُصُوصٌ مُتَرَاخٍ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] فَدَلَّ أَنَّ تَأْخِيرَ التَّخْصِيصِ جَائِزٌ فَأَجَابَ الشَّيْخُ عَنْهُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّا لَا نُسَلِّمُ لُحُوقَ التَّخْصِيصِ الْمُتَرَاخِي بِهِ بَلْ الْبَيَانُ كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ فَإِنَّهُ تَعَالَى اسْتَثْنَى مِنْ الْأَهْلِ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ أَيْ سَبَقَ وَعْدُ إهْلَاكِهِ فَإِنَّهُ وَعَدَهُ بِإِهْلَاكِ الْكُفَّارِ جَمِيعًا وَأَرَادَ بِهِ امْرَأَتَهُ وَاغِلَةَ وَابْنَهُ كَنْعَانُ وَكَانَا كَافِرَيْنِ. وَالثَّانِي أَنَّ الْأَهْلَ مُشْتَرَكٌ يَحْتَمِلُ أَهْلَ النِّسْبَةِ وَأَهْلَ الْمُتَابَعَةِ فِي الدِّينِ فَتَوَهَّمَ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّ الْمُرَادَ أَهْلُ النِّسْبَةِ فَسَأَلَ خَلَاصَ ابْنِهِ بِنَاءً عَلَيْهِ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْأَهْلُ مِنْ حَيْثُ الْمُتَابَعَةُ فِي الدِّينِ لَا أَهْلُ النِّسْبَةِ وَأَنَّ ابْنَهُ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ لِكُفْرِهِ فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي وَعْدِ النَّجَاةِ وَتَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُشْتَرَكِ جَائِزٌ وَقَوْلُهُ إلَّا أَنَّ نُوحًا جَوَابُ سُؤَالٍ يَرِدُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّ نُوحًا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعْدَ الْوَعْدِ بِإِهْلَاكِ الْكُفَّارِ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ الْكَلَامِ فِيهِمْ قَالَ تَعَالَى {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود: 37] فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ {إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [هود: 40] مُنْصَرِفًا إلَى مَا ذَكَرْتُمْ لَمَا اسْتَجَازَ نُوحٌ سُؤَالَ خَلَاصِ ابْنِهِ بِقَوْلِهِ {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] فَأَجَابَ بِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] أَيْ حَطَبُهَا وَالْحَصَبُ مَا يُحْصَبُ بِهِ أَيْ يُرْمَى يُقَالُ حَصَبَتْهُمْ السَّمَاءُ إذَا رَمَتْهُمْ بِالْحَصْبَاءِ فَعَلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. وَهَذَا عَامٌّ لَحِقَهُ خُصُوصٌ مُتَرَاخٍ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ «جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَلَيْسَ عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ قَدْ عُبِدُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَتَرَاهُمْ يُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] » أَيْ السَّعَادَةُ أَوْ الْبُشْرَى أَوْ التَّوْفِيقُ لِلطَّاعَةِ أُولَئِكَ عَنْهَا أَيْ عَنْ النَّارِ مُبْعَدُونَ فَأَجَابَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ تَخْصِيصٌ إذْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دُخُولِ الْمَخْصُوصِ تَحْتَ الْعُمُومِ لَوْلَا الْمُخَصِّصُ وَأُولَئِكَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي هَذَا الْعَامِّ لِاخْتِصَاصِ مَا بِمَا لَا يَعْقِلُ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ كَانَ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَأَنَّهُمْ كَانُوا عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ وَمَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَعْبُدُ عِيسَى وَالْمَلَائِكَةَ فَلَمْ يَكُنْ الْكَلَامُ مُتَنَاوِلًا لَهُمْ وَلَا يُقَالُ لَوْ لَمْ يَدْخُلُوا لَمَا أَوْرَدَهُمْ ابْنُ الزِّبَعْرَى نَقْضًا عَلَى الْآيَةِ وَهُوَ مِنْ الْفُصَحَاءِ وَلَرَدَّ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَسْكُتْ عَنْ تَخْطِئَتِهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَعَلَّ سُؤَالَ ابْنِ الزِّبَعْرَى كَانَ بِنَاءً عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ مَا ظَاهِرَةٌ فِيمَنْ يَعْقِلُ أَوْ مُسْتَعْمَلَةٌ فِيهِ مَجَازًا كَمَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [الليل: 3] {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 3] ، وَقَدْ اُتُّفِقَ عَلَى وُرُودِهِ بِمَعْنَى الَّذِي الْمُتَنَاوِلِ لِلْعُقَلَاءِ إلَّا أَنَّهُ أَخْطَأَ؛ لِأَنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِيمَا لَا يَعْقِلُ دُونَ مَنْ يَعْقِلُ وَالْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ هُوَ الْحَقِيقَةُ. وَأَمَّا عَدَمُ رَدِّ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَيْهِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لِابْنِ الزِّبَعْرَى لَمَّا ذَكَرَ مَا ذَكَرَ رَادًّا عَلَيْهِ مَا أَجْهَلَك بِلُغَةِ قَوْمِك أَمَا عَلِمْت أَنَّ مَا لِمَا لَا يَعْقِلُ وَمَنْ لِمَنْ يَعْقِلُ» هَكَذَا ذُكِرَ فِي شَرْحِ أُصُولِ الْفِقْهِ لِابْنِ الْحَاجِبِ. وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ سَكَتَ إلَى حِينِ نُزُولِ الْوَحْيِ فَذَلِكَ لِمَا عُرِفَ مِنْ تَعَنُّتِ الْقَوْمِ

وَهَذَا أَيْضًا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ أَمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَلِأَنَّهُ قَالَ {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} [العنكبوت: 31] وَذَلِكَ اسْتِثْنَاءٌ وَاضِحٌ، وَقَالَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ {إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 59] {إِلا امْرَأَتَهُ} [الحجر: 60] ـــــــــــــــــــــــــــــQوَمُجَادَلَتِهِمْ بِالْبَاطِلِ بَعْدَ تَبَيُّنِ الْحَقِّ لَهُمْ وَعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يَتَنَاوَلُ الْمَلَائِكَةَ وَالْمَسِيحَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ اللِّسَانِ فَأَعْرَضَ عَنْ جَوَابِهِمْ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: 55] ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى تَعَنُّتَهُمْ فِي مُعَارَضَتِهِمْ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] الْآيَةَ وَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ يَكُونُ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ حَسُنَ مَوْقِعُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَتَعَنَّتُ وَهُوَ نَظِيرُ انْتِقَالِ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه فِي مُحَاجَّةِ اللَّعِينِ عَنْ التَّمَسُّكِ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ إلَى قَوْلِهِ {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258] لِتَعَنُّتِ الْقَوْمِ وَمُكَابَرَتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا لِلْحُجَّةِ الْأُولَى وَدَفْعًا لِتَلْبِيسِ اللَّعِينِ لَا أَنَّهُ انْتِقَالٌ حَقِيقَةً فَكَذَلِكَ هَذَا ابْتِدَاءُ بَيَانٍ وَدَفْعٌ لِمُعَانَدَةِ الْخَصْمِ لَا أَنَّهُ تَخْصِيصٌ حَقِيقَةً وَمِنْهَا إخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ قِصَّةِ ضَيْفِ الْخَلِيلِ وَإِخْبَارِهِمْ إيَّاهُ بِإِهْلَاكِ قَرْيَةِ لُوطٍ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} [العنكبوت: 31] وَهِيَ سَدُومُ وَالْأَهْلُ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ لُوطًا وَأَهْلَهُ كَمَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُمْ مِنْ سُكَّانِ الْقَرْيَةِ وَلِهَذَا قَالَ الْخَلِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {إِنَّ فِيهَا لُوطًا} [العنكبوت: 32] ثُمَّ خُصَّ مِنْهُ لُوطٌ وَأَهْلُهُ بَعْدَ مَا قَالَ إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {إِنَّ فِيهَا لُوطًا} [العنكبوت: 32] بِقَوْلِهِمْ {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [العنكبوت: 32] فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ انْفِصَالِ الْمُخَصِّصِ عَنْ الْعَامِّ قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا أَيْ احْتِجَاجُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ أَيْضًا كَاحْتِجَاجِهِمْ بِالْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ. لِاتِّصَالِ الْبَيَانِ أَيْ الدَّلِيلِ الْمُخَصِّصِ بِهِ أَيْ بِهَذَا الْعَامِّ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} [العنكبوت: 31] أَيْ كَافِرِينَ، وَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ يُذْكَرُ لِلتَّعْلِيلِ كَمَا يُقَالُ اُقْتُلْهُ إنَّهُ مُحَارِبٌ وَارْجُمْهُ إنَّهُ زَانٍ وَلَمَّا عَلَّلَ إهْلَاكَهُمْ بِكَوْنِهِمْ ظَالِمِينَ يَكُونُ هَذَا اسْتِثْنَاءً مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِلُوطٍ وَأَهْلُهُ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا ظَالِمِينَ إلَّا امْرَأَتَهُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ، وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ وَاضِحٌ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي عَيْنِ هَذِهِ الْقِصَّةِ بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} [الحجر: 58] {إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 59] {إِلا امْرَأَتَهُ} [الحجر: 60] فَثَبَتَ أَنَّ التَّخْصِيصَ قَدْ كَانَ مُتَّصِلًا لَكِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْهُ صَرِيحًا هَاهُنَا اكْتِفَاءً بِالْإِشَارَةِ الْمُدْرَجَةِ فِي التَّعْلِيلِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ الْأَوَّلُ مُنْقَطِعٌ إنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ مَوْصُوفُونَ بِالْإِجْرَامِ فَاخْتَلَفَ لِذَلِكَ الْجِنْسَانِ، وَمُتَّصِلٌ إنْ كَانَ مِنْ الضَّمِيرِ فِي مُجْرِمِينَ كَأَنَّهُ قِيلَ إلَى قَوْمٍ قَدْ أَجْرَمُوا كُلُّهُمْ إلَّا آلَ لُوطٍ وَحْدَهُمْ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُجْرِمُوا وَآلُ لُوطٍ عَلَى تَقْدِيرِ الِانْقِطَاعِ مُخْرَجُونَ مِنْ حُكْمِ الْإِرْسَالِ إلَيْهِمْ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أُرْسِلُوا إلَى الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ خَاصَّةً وَلَمْ يُرْسَلُوا إلَى آلِ لُوطٍ أَصْلًا وَمَعْنَى إرْسَالِهِمْ إلَيْهِمْ كَإِرْسَالِ الْحَجَرِ وَالسَّهْمِ إلَى الْمَرْمَى فِي أَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّعْذِيبِ وَالْإِهْلَاكِ كَأَنَّهُ قِيلَ إنَّا أَهْلَكْنَا قَوْمًا مُجْرِمِينَ وَلَكِنَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ وَعَلَى تَقْدِيرِ الِاتِّصَالِ هُمْ دَاخِلُونَ فِي حُكْمِ الْإِرْسَالِ عَلَى مَعْنَى الْمَلَائِكَةِ أُرْسِلُوا إلَيْهِمْ جَمِيعًا لِيُهْلِكُوا هَؤُلَاءِ وَيُنَجُّوا هَؤُلَاءِ فَلَا يَكُونُ الْإِرْسَالُ مُخْلَصًا لِمَعْنَى الْإِهْلَاكِ وَالتَّعْذِيبِ كَمَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَقَوْلُهُ إنَّا لَمُنَجُّوهُمْ فِي الْمُنْقَطِعِ جَارٍ مَجْرَى خَبَرِ لَكِنَّ فِي الِاتِّصَالِ بِآلِ لُوطٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَكِنَّ آلَ لُوطٍ مُنَجَّوْنَ وَفِي الْمُتَّصِلِ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ كَأَنَّ إبْرَاهِيمُ قَالَ لَهُمْ فَمَا حَالُ آلِ لُوطٍ فَقَالُوا إنَّا لَمُنَجُّوهُمْ وَالِاسْتِثْنَاءُ الثَّانِي مِنْ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي لَمُنَجُّوهُمْ لَا مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا اتَّحَدَ الْحُكْمُ فِيهِ وَأَنْ يُقَالَ أَهْلَكْنَاهُمْ إلَّا آلَ لُوطٍ

غَيْرَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَرَادَ الْإِكْرَامَ لِلُوطٍ بِخُصُوصِ وَعْدِ النَّجَاةِ أَوْ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ الْعَذَابُ عَامًّا وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة: 260] وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] أَنَّهُ خُصَّ مِنْهُ بَعْضُ قَرَابَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ عُثْمَانَ وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَّا امْرَأَتَهُ كَمَا اتَّحَدَ الْحُكْمُ فِي قَوْلِ الْمُقِرِّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا ثَلَاثَةً إلَّا دِرْهَمًا فَأَمَّا فِي الْآيَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْحُكْمَانِ؛ لِأَنَّ إلَّا آلَ لُوطٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَرْسَلْنَا أَوْ بِمُجْرِمِينَ وَإِلَّا امْرَأَتَهُ قَدْ تَعَلَّقَ بِمُنَجُّوهُمْ فَكَيْفَ يَكُونُ اسْتِثْنَاءً مِنْ الْأَوَّلِ. قَوْلُهُ (غَيْرَ أَنَّ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} [العنكبوت: 31] اسْتِثْنَاءٌ لِلُوطٍ لَمَا كَانَ لِقَوْلِ إبْرَاهِيمَ إنَّ فِيهَا لُوطًا مَعْنًى حِينَئِذٍ فَقَالَ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّ لُوطًا لَيْسَ مِنْ الْمُهْلَكِينَ مَعَهُمْ طَلَبًا لِزِيَادَةِ الْإِكْرَامِ لَهُ بِتَخْصِيصِهِ بِوَعْدِ النَّجَاةِ قَصْدًا إذْ فِي التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ زِيَادَةُ إكْرَامٍ كَمَا فِي تَخْصِيصِ جَبْرَائِيلُ وَمِيكَائِيلَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - بِالذِّكْرِ فِي قَوْله تَعَالَى {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ} [البقرة: 98] الْآيَةَ، وَكَمَا فِي تَخْصِيصِ أُولِي الْعِلْمِ بِالذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] أَوْ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ الْعَذَابُ عَامًّا وَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ الظُّلْمَ وَالْمَعْصِيَةَ فَإِنَّ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا قَدْ يَخْتَصُّ بِالظَّالِمِينَ كَمَا فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ السَّبْتِ، وَقَدْ يَعُمُّ الْكُلَّ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] فَيَكُونُ خِزْيًا وَعَذَابًا فِي حَقِّ الظَّالِمِينَ وَابْتِلَاءً وَامْتِحَانًا فِي حَقِّ الْمُطِيعِينَ كَالْأَمْرَاضِ وَالْأَوْجَاعِ وَكَمَنْ زَنَى وَلَمْ يَتُبْ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ خِزْيًا وَعُقُوبَةً وَإِنْ تَابَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ابْتِلَاءً وَامْتِحَانًا فَأَرَادَ الْخَلِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يُبَيِّنُوا لَهُ أَنَّ عَذَابَ أَهْلِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ مِنْ أَيِّ الطَّرِيقَيْنِ فَلَا يَعْلَمُ أَنَّ لُوطًا هَلْ يَنْجُو مِنْهُ أَمْ يُبْتَلَى بِهِ. ، وَذَكَرَ أَبُو الْيُسْرِ فِي أُصُولِهِ أَنَّ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {إِنَّ فِيهَا لُوطًا} [العنكبوت: 32] طَلَبُ الرَّحْمَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ لِبَرَكَةِ مُجَاوَرَةِ لُوطٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَذَكَرَ فِي الْمَطْلَعِ أَنَّ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلرُّسُلِ {إِنَّ فِيهَا لُوطًا} [العنكبوت: 32] لَيْسَ إخْبَارًا عَنْ الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا هُوَ جِدَالٌ فِي شَأْنِهِ كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74] ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَلَّلُوا إهْلَاكَ أَهْلِهَا بِظُلْمِهِمْ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِبَرَاءَةِ لُوطٍ مِنْ ظُلْمِهِمْ شَفَقَةً عَلَيْهِمْ وَتَحَزُّنًا لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَتَشَمُّرًا إلَى نُصْرَتِهِ وَحِيَاطَتِهِ كَمَا هُوَ مُوجَبُ الدِّينِ فَأَجَابَهُ الرُّسُلُ بِقَوْلِهِمْ {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا} [العنكبوت: 32] يَعْنُونَ بِالْبَرِيءِ وَالظَّالِمِ مِنْهُمْ {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [العنكبوت: 32] ، وَقَوْلُهُ أَوْ خَوْفًا عُطِفَ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَالتَّقْدِيرُ غَيْرَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ قَالَ إنَّ فِيهَا لُوطًا إرَادَةً لِإِكْرَامِ لُوطٍ أَوْ خَوْفًا، وَذَلِكَ أَيْ سُؤَالُ إبْرَاهِيمَ عَنْ لُوطٍ وَجِدَالُهُ فِيهِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْمُهْلَكِينَ طَلَبًا لِزِيَادَةِ الْإِكْرَامِ مِثْلُ سُؤَالِهِ رَبَّهُ عَنْ إحْيَاءِ الْمَوْتَى مَعَ عِلْمِهِ بِقُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ طَلَبًا لِزِيَادَةِ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالْمُعَايَنَةِ وَمِنْهَا قَوْلُهُ {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] إلَى قَوْلِهِ وَلِذِي الْقُرْبَى أَوْجَبَ نَصِيبًا مِنْ الْخُمُسِ لِذَوِي الْقُرْبَى عَامٌّ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَقْرِبَاءِ الرَّسُولِ. ثُمَّ تَأَخَّرَ خُصُوصُهُ إلَى أَنْ كَلَّمَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ التَّخْصِيصِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ لِعَبْدِ مَنَافٍ خَمْسَةُ بَنِينَ هَاشِمٌ أَبُو جَدِّ النَّبِيِّ وَالْمُطَّلِبُ. وَنَوْفَلٌ وَعَبْدُ شَمْسٍ وَعَمْرٌو وَلِكُلٍّ عَقِبٌ وَنَسْلٌ إلَّا لِعَمْرٍو وَلَمَّا «قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى يَوْمَ خَيْبَرَ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَلَمْ يُعْطِ غَيْرَهُمْ جَاءَهُ عُثْمَانُ وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ فَإِنَّهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ مَنَافٍ وَجُبَيْرُ بْنِ مُطْعِمٍ وَهُوَ مِنْ بَنِي نَوْفَلٍ فَإِنَّهُ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ فَقَالَا إنَّا لَا نُنْكِرُ فَضْلَ بَنِي هَاشِمٍ لِمَكَانِك الَّذِي وَضَعَك

وَهَذَا عِنْدَنَا مِنْ قَبِيلِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَى مُجْمَلٌ وَكَانَ الْحَدِيثُ بَيَانًا لَهُ وَأَنَّ الْمُرَادَ قُرْبَى النُّصْرَةِ لَا قُرْبَى الْقَرَابَةِ وَإِجْمَالُهُ أَنَّ الْقُرْبَى يَتَنَاوَلُ غَيْرَ النَّسَبِ وَيَتَنَاوَلُ وُجُوهًا مِنْ النَّسَبِ مُخْتَلِفَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQاللَّهُ فِيهِمْ وَلَكِنْ نَحْنُ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ إلَيْك سَوَاءٌ فِي النَّسَبِ فَمَا بَالُك أَعْطَيْتَهُمْ وَحَرَمْتَنَا؟ فَقَالَ إنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مَعِي هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» وَفِي رِوَايَةٍ «إنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونِي فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ» فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ بِبَيَانٍ مُتَأَخِّرٍ فَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا عِنْدَنَا مِنْ قَبِيلِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ لَا مِنْ قَبِيلِ تَخْصِيصِ الْعَامِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرْبَى لَا يَحْتَمِلُ قُرْبَى الْقَرَابَةِ وَقُرْبَى النُّصْرَةِ أَيْ نُصْرَةِ الشِّعْبِ وَالْوَادِي عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ السُّؤَالِ أَنَّ الْمُرَادَ قُرْبَى النُّصْرَةِ لَا قُرْبَى الْقَرَابَةِ وَتَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُجْمَلِ جَائِزٌ. وَقَوْلُهُ عِنْدَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْإِجْمَالَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عَلَى مَذْهَبِنَا لَمَّا حَمَلْنَا لَفْظَ الْقُرْبَى عَلَى قُرْبَى النُّصْرَةِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ قُرْبَى النَّسَبِ أَيْضًا كَانَ مُحْتَمَلًا لِلْمَعْنَيَيْنِ فَأَمَّا عِنْدَهُمْ فَلَا إجْمَالَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ عِنْدَهُمْ قُرْبَى النَّسَبِ الَّذِي هِيَ مَوْضُوعَةٌ لَا غَيْرُ. ثُمَّ أَشَارَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ إلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْإِجْمَالِ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ بِقَوْلِهِ وَيَتَنَاوَلُ وُجُوهًا مِنْ النَّسَبِ مُخْتَلِفَةً يَعْنِي وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ قُرْبَى النَّسَبِ كَانَ مُجْمَلًا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْقُرْبَى يَتَنَاوَلُ وُجُوهًا مُخْتَلِفَةً مِنْ النَّسَبِ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِجَمِيعِهَا فَإِنَّا عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ مَنْ يُنَاسِبُهُ إلَى أَقْصَى أَبٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ دُخُولَ جَمِيعِ بَنِي آدَمَ فَيَكُونُ الْبَعْضُ مُرَادًا وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ إذْ لَا يُعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ يُنَاسِبُهُ بِأَبِيهِ خَاصَّةً أَوْ بِجَدِّهِ أَوْ بِأَعْلَى مِنْهُمَا فَكَانَ مُجْمَلًا فَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ يُنَاسِبُهُ إلَى هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْبَيَانُ مِنْ تَخْصِيصِ الْعَامِّ فِي شَيْءٍ بَلْ هُوَ بَيَانُ الْمُرَادِ بِالْعَامِّ الَّذِي تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِعُمُومِهِ وَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُجْمَلِ فَيَجُوزُ تَأْخِيرُهُ فَهَذَا بَيَانُ النُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ وَتَمَسَّكُوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] . أَمَرَ بِالِاتِّبَاعِ وَضَمِنَ الْبَيَانَ مُتَرَاخِيًا وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ؛ لِأَنَّهُ تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ فَيُحْمَلُ عَلَى مَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِهِ وَهُوَ الْعَامُّ فَثَبَتَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيَانُهُ مُتَرَاخِيًا وَكَذَلِكَ نَصُّ الْمَوَارِيثِ عَامٌّ فِي إيجَابِ الْإِرْثِ لِلْأَقَارِبِ كُفَّارًا كَانُوا أَوْ مُسْلِمِينَ. ثُمَّ جَاءَ التَّخْصِيصُ مُتَرَاخِيًا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى» وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ شُرِعَتْ عَامَّةً مُقَدَّمَةً عَلَى الْمِيرَاثِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] ثُمَّ خَصَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ بِبَيَانِ الرَّسُولِ مُتَرَاخِيًا وَكَذَلِكَ «النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ» عَلَى الْعُمُومِ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَفِي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ خَصَّ مَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ بِبَيَانٍ مُتَأَخِّرٍ وَهُوَ خَبَرُ الْعَرَايَا. وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الْقُرْآنِ الْقِرَاءَةُ عَلَى مَا قِيلَ أَيْ إذَا قَرَأَهُ جَبْرَائِيلُ عَلَيْك بِأَمْرِنَا فَاقْرَأْهُ عَلَى قَوْمِك، ثُمَّ إنْ أَشْكَلَ عَلَيْك شَيْءٌ مِنْ مَعَانِيهِ فَعَلَيْنَا بَيَانُهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُجْمَلِ وَنَحْوِهِ فَحَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ وَتَأْخِيرُ بَيَانِهِ جَائِزٌ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] لَيْسَ جَمِيعَ مَا فِي الْقُرْآنِ بِالِاتِّفَاقِ فَإِنَّ الْبَيَانَ مِنْ الْقُرْآنِ أَيْضًا فَيُؤَدِّي هَذَا إلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ لِذَلِكَ الْبَيَانَ بَيَانًا إلَى

[باب بيان التغيير]

(بَابُ بَيَانِ التَّغْيِيرِ) بَيَانُ التَّغْيِيرِ نَوْعَانِ التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءُ وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ مَوْصُولًا وَلَا يَصِحُّ مَفْصُولًا. عَلَى هَذَا أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا لَا يَتَنَاهَى وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بَعْضُ مَا فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ الْمُجْمَلُ الَّذِي يَكُونُ بَيَانُهُ تَفْسِيرًا لَهُ وَنَحْنُ نُجَوِّزُ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ فِي مِثْلِهِ فَأَمَّا فِيمَا يَكُونُ مُغَيِّرًا أَوْ مُبَدِّلًا لِلْحُكْمِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ فَإِذَا تَأَخَّرَ عَنْهُ يَكُونُ نَسْخًا وَلَا يَكُونُ بَيَانًا مَحْضًا وَدَلِيلُ الْخُصُوصِ فِي الْعَامِّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وَعَنْ الثَّانِي وَالثَّالِثِ أَنَّ تَقْيِيدَ حُكْمِ الْمِيرَاثِ بِالْمُوَافَقَةِ فِي الدِّينِ وَتَقْيِيدَ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ مِنْ قَبِيلِ الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ وَهِيَ تَعْدِلُ النَّسْخَ فَيَجُوزُ مُتَرَاخِيًا، وَقَدْ ثَبَتَ بِخَبَرٍ اقْتَرَنَ بِهِ الْإِجْمَاعُ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْمُتَوَاتِرِ أَوْ الْمَشْهُورِ فَيَجُوزُ النَّسْخُ الْمَعْنَوِيُّ بِهِ وَخَبَرُ الْمُزَابَنَةِ لَمْ يُخَصَّ بِخَبَرِ الْعَرَايَا عِنْدَنَا بَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْعَطِيَّةِ لَا عَلَى الْبَيْعِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي بَابِ أَحْكَامِ الْعُمُومِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ بَيَانِ التَّغْيِيرِ] [أَنْوَاع بَيَانِ التَّغْيِيرِ] (بَابُ بَيَانِ التَّغْيِيرِ) أَيْ الْبَيَانُ الَّذِي فِيهِ تَغْيِيرٌ لِمُوجَبِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ. قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ) أَيْ بَيَانُ التَّغْيِيرِ مَوْصُولًا أَيْ يَنْحَصِرُ الْجَوَازُ فِي الْمَوْصُولِ، ثُمَّ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ وَلَا يَصِحُّ مَفْصُولًا، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ عَلَى هَذَا أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ إلَى الدَّلِيلِ وَإِلَى خِلَافِ غَيْرِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُ أَرَادَ بِالْفُقَهَاءِ مِثْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ اتِّصَالَ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَفْظًا أَوْ مَا هُوَ فِي حُكْمِ الِاتِّصَالِ لَفْظًا وَهُوَ أَنْ لَا يُعَدَّ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ آتِيًا بِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ عُرْفًا بَلْ يُعَدُّ الْكَلَامُ وَاحِدًا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ وَإِنْ تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا فَاصِلٌ بِانْقِطَاعِ نَفَسٍ أَوْ سُعَالٍ أَوْ عُطَاسٍ أَوْ نَحْوِهَا شَرْطٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَقُولُ بِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ مُنْفَصِلًا عَنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ سَوَاءً تَرَكَ الِاسْتِثْنَاءَ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ قَدَّرَ زَمَانَ الْجَوَازِ بِسَنَةٍ، فَإِنْ اسْتَثْنَى بَعْدَهَا بَطَلَ وَعَنْ الْحَسَنِ وَطَاوُسٍ وَعَطَاءٍ أَنَّهُمْ جَوَّزُوا مَا لَمْ يَقُمْ عَنْ مَجْلِسِهِ اعْتِبَارًا بِالْعُقُودِ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ إلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ اعْتِبَارًا بِمُدَّةِ الْإِيلَاءِ وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ جَوَازُهُ فِي الْقُرْآنِ خَاصَّةً. تَمَسَّكَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِأَنَّ «الْيَهُودَ سَأَلَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مُدَّةِ لُبْثِ أَهْلِ الْكَهْفِ وَغَيْرِهَا فَقَالَ غَدًا أُجِيبُكُمْ وَلَمْ يَسْتَثْنِ فَتَأَخَّرَ الْوَحْيُ عَنْهُ مُدَّةَ بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا - إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 23 - 24] » أَيْ اسْتَثْنِ إذَا تَرَكْت الِاسْتِثْنَاءَ، ثُمَّ ذَكَرْتَ، فَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ بِطَرِيقِ إلْحَاقِهِ إلَى خَبَرِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُهُ غَدًا أُجِيبُكُمْ وَبِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَن قُرَيْشًا ثُمَّ قَالَ بَعْدَ سَنَةٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ» وَلَا يُقَالُ هَذَا شَرْطٌ، وَكَلَامُنَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّ مِنْ جَوَازِ أَحَدِهِمَا يَلْزَمُ جَوَازُ الْآخَرِ إذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ وَمَنْ خَصَّ الْجَوَازَ بِالْقُرْآنِ قَالَ الْكَلَامُ الْأَزَلِيُّ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا التَّرْتِيبُ فِي جِهَاتِ الْوُصُولِ إلَى الْمُخَاطَبِينَ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَأَخَّرَ الِاسْتِثْنَاءُ بِهِ فَذَاكَ فِي سَمَاعِ السَّامِعِينَ وَفَهْمِ الْفَاهِمِينَ لَا فِي كَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَاحْتَجَّ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلِيَأْتِ بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ، ثُمَّ لْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» عَيَّنَ التَّكْفِيرَ لِتَخْلِيصِ الْحَالِفِ وَلَوْ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْفَصِلًا لَقَالَ فَلِيَسْتَثْنِ وَلِيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ الِاسْتِثْنَاءِ لِلتَّخْلِيصِ أَوْلَى لِكَوْنِهِ أَسْهَلَ وَبِمِثْلِهِ

وَإِنَّمَا سَمَّيْنَاهُ بِهَذَا الِاسْمِ إشَارَةً إلَى أَثَرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ أَنْتَ حُرٌّ لِعَبْدِهِ عِلَّةُ الْعِتْقِ نُزِّلَ بِهِ مَنْزِلَةَ وَضْعِ الشَّيْءِ فِي مَحَلٍّ يَقِرُّ فِيهِ فَإِذَا حَالَ الشَّرْطُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَحَلِّهِ فَتَعَلَّقَ بِهِ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ إيقَاعَانِ لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ يَكُونُ مُسْتَقِرًّا فِي مَحَلِّهِ وَمُعَلَّقًا مَعَ ذَلِكَ فَصَارَ الشَّرْطُ مُغَيِّرًا لَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَكِنَّهُ بَيَانٌ مَعَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْبَيَانِ مَا يَظْهَرُ بِهِ ابْتِدَاءُ وُجُودِهِ فَأَمَّا التَّغْيِيرُ بَعْدَ الْوُجُودِ فَنَسْخٌ وَلَيْسَ بِبَيَانٍ وَلَمَّا كَانَ التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ لِابْتِدَاءِ وُقُوعِهِ غَيْرَ مُوجِبٍ وَالْكَلَامُ كَانَ يَحْتَمِلُهُ شَرْعًا؛ لِأَنَّ التَّكَلُّمَ بِالْعِلَّةِ وَلَا حُكْمَ لَهَا جَائِزٌ شَرْعًا مِثْلُ الْبَيْعِ بِالْخِيَارِ وَغَيْرِهِ سُمِّيَ هَذَا بَيَانًا فَاشْتَمَلَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ فَسُمِّيَ بَيَانَ تَغْيِيرٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQاسْتَدَلَّ عَلِيٌّ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَقَالَ لَمَّا حَلَفَ أَيُّوبُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِضَرْبِ امْرَأَتِهِ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِضَرْبِ ضِغْثٍ عَلَيْهَا تَحِلَّةً لِيَمِينِهِ وَتَخْفِيفًا عَلَيْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44] وَلَوْ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا لَأَمَرَهُ بِهِ لَا بِالضَّرْبِ بِالضِّغْثِ؛ لِأَنَّهُ أَيْسَرُ وَأَخَفُّ وَبِأَنَّ الشَّرْعَ حَكَمَ بِثُبُوتِ الْإِقْرَارَاتِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْعُقُودِ وَلَوْ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْفَصِلًا لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ وَلَمْ يَسْتَقِرَّ وَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ لِتَأْدِيَتِهِ إلَى التَّلَاعُبِ وَإِبْطَالِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَبِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ مُنْفَصِلًا لَمَا عُلِمَ صِدْقُ صَادِقٍ وَلَا كَذِبُ كَاذِبٍ وَلَمْ يَحْصُلْ وُثُوقٌ بِيَمِينٍ وَلَا وَعْدٍ وَلَا وَعِيدٍ وَبُطْلَانُهُ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ وَبِمَسْأَلَةٍ أَفْحَمَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَبَا جَعْفَرٍ الدَّوَانِقِيَّ حِينَ عَاتَبَهُ عَلَى مُخَالَفَةِ جَدِّهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ لَوْ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْفَصِلًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ جَدِّك لَقَدْ بَارَكَ اللَّهُ فِي بَيْعَتِك فَإِنَّ الَّذِينَ بَايَعُوك عَلَى الْخِلَافَةِ لَوْ اسْتَثْنَوْا بَعْدَمَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِك أَوْ حِينَ مَا بَدَا لَهُمْ ذَلِكَ لَمْ تَبْقَ خِلَافَتُك وَوَسِعَهُمْ خِلَافُك فَسَكَتَ وَرَدَّهُ بِجَمِيلٍ. قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - جَوَازُ تَأْخِيرِ الِاسْتِثْنَاءِ وَلَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ فِيهِ النَّقْلُ إذْ لَا يَلِيقُ ذَلِكَ بِمَنْصِبِهِ وَإِنْ صَحَّ فَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ إذَا نَوَى الِاسْتِثْنَاءَ أَوْ لَا، ثُمَّ أَظْهَرَ نِيَّتَهُ بَعْدَهُ فَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا نَوَاهُ وَمَذْهَبُهُ أَنَّ مَا يَدِينُ فِيهِ الْعَبْدُ يُقْبَلُ ظَاهِرًا فَهَذَا لَهُ وَجْهٌ. وَأَمَّا تَجْوِيزُ التَّأْخِيرِ لَوْ أَصَرَّ عَلَيْهِ دُونَ هَذَا التَّأْوِيلِ فَيَرُدُّهُ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى خِلَافِهِ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْكَلَامِ يَحْصُلُ بِهِ الْإِتْمَامُ فَإِذَا انْفَصَلَ لَمْ يَكُنْ إتْمَامًا كَالشَّرْطِ وَخَبَرِ الْمُبْتَدَأِ فَإِنَّهُ إذَا أُخِّرَ الشَّرْطُ أَوْ الْخَبَرُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ فَلَا يَصِيرُ كَلَامًا فَضْلًا مِنْ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا أَوْ خَبَرًا فَكَذَا قَوْلُهُ إلَّا زَيْدًا بَعْدَ شَهْرٍ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَفْهُومًا فَضْلًا مِنْ أَنْ يَكُونَ إتْمَامًا لِلْكَلَامِ. وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ النِّسْيَانِ فَقَدْ كَانَ عَلَى وَجْهِ تَدَارُكِ التَّبَرُّكِ بِالِاسْتِثْنَاءِ لِلتَّخَلُّصِ عَنْ الْإِثْمِ وَالِامْتِثَالِ لِمَا أُمِرَ بِهِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] لَا أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً حَقِيقَةً عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مُغَيِّرًا لِلْحُكْمِ. وَأَمَّا تَخْصِيصُ الْجَوَازِ بِالْقُرْآنِ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَوَهْمٌ؛ لِأَنَّ النِّزَاعَ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ الْأَزَلِيِّ بَلْ فِي الْعِبَارَاتِ الَّتِي بَلَغَتْنَا وَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَعْنَى كَلَامِ الْعَرَبِ نَظْمًا وَفَصْلًا وَوَصْلًا وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَنْتَظِمُ فِي وَضْعِ اللُّغَةِ فَصْلُ صِيغَةِ الِاسْتِثْنَاءِ عَنْ الْعِبَارَةِ الَّتِي تُشْعِرُ بِمُسْتَثْنًى مِنْهُ. قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا سَمَّيْنَاهُ) أَيْ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْبَيَانِ بِبَيَانِ التَّغْيِيرِ وَلَمْ نَقْتَصِرْ عَلَى تَسْمِيَتِهِ بِالتَّغْيِيرِ وَلَا بِالْبَيَانِ لِلْإِشَارَةِ إلَى وُجُودِ أَثَرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيَانِ وَالتَّغْيِيرِ فِيهِ، وَذَلِكَ أَيْ وُجُودُ أَثَرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ نُزِّلَ بِهِ أَيْ نُزِّلَ أَنْتَ حُرٌّ بِالْعَبْدِ شَرْعًا مَنْزِلَةَ وَضْعِ شَيْءٍ مَحْسُوسٍ فِي مَحَلٍّ تَقَرُّ فِيهِ فَإِذَا حَالَ الشَّرْطُ بَيْنَهُ أَيْ بَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ وَبَيْنَ مَحَلِّهِ وَهُوَ الْعَبْدُ فَتَعَلَّقَ أَنْتَ حُرٌّ بِالشَّرْطِ بَطَلَ كَوْنُهُ إيقَاعًا - جَوَابُ إذَا - وَلَكِنَّهُ أَيْ الْمُتَعَلِّقَ بَيَانٌ مَعَ ذَلِكَ أَيْ مَعَ كَوْنِهِ تَغْيِيرًا؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ مَا يَظْهَرُ بِهِ ابْتِدَاءً وُجُودُهُ أَيْ وُجُودُ الشَّيْءِ وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى مَدْلُولِ الْبَيَانِ وَهُوَ الْمُبَيَّنُ فَأَمَّا التَّغْيِيرُ بَعْدَ الْوُجُودِ فَنَسْخٌ وَلَيْسَ بِبَيَانٍ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ رَفْعُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ وَالتَّغْيِيرُ بَعْدَ الْوُجُودِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَلَا يَكُونُ بَيَانًا. وَهَذَا الْكَلَامُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى اخْتِيَارِ الْقَاضِي الْإِمَامِ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَإِنَّهُمَا لَمْ يَجْعَلَا النَّسْخَ مِنْ أَقْسَامِ الْبَيَانِ فَأَمَّا عَلَى اخْتِيَارِ الشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -

وَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ مُغَيِّرٌ لِلْكَلَامِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَالْأَلْفُ اسْمٌ عَلَمٌ لِذَلِكَ الْعَدَدِ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ وَإِذَا قَالَ إلَّا خَمْسَمِائَةٍ كَانَ تَغْيِيرًا لِبَعْضِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ لَوْ صَحَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَرَاخِيًا كَانَ نَاسِخًا وَلَكِنَّهُ إذَا اتَّصَلَ مَنَعَ بَعْضَ التَّكَلُّمِ لَا إنْ وَقَعَ بَعْدَ الْوُجُودِ فَكَانَ بَيَانًا فَسُمِّيَ بَيَانَ تَغْيِيرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــQفَلَا يَسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ النَّسْخَ أَحَدَ أَقْسَامِ الْبَيَانِ وَسَمَّاهُ بَيَانَ التَّبْدِيلِ، ثُمَّ قَالَ هَاهُنَا إنَّهُ لَيْسَ بِبَيَانٍ وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ إنَّمَا جَعَلَ النَّسْخَ مِنْ أَقْسَامِ الْبَيَانِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بَيَانُ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ بَيَانًا هَاهُنَا بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ فَإِنَّهُ فِي الظَّاهِرِ رَفْعُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ وَإِبْطَالُهُ فَلَا يَكُونُ بَيَانًا لَهُ. ، وَلَمَّا كَانَ التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ لِابْتِدَاءِ وُقُوعِهِ غَيْرَ مُوجِبٍ يَعْنِي، وَلَمَّا كَانَ التَّعْلِيقُ لِهَذَا الْغَرَضِ وَهُوَ بَيَانُ ابْتِدَاءِ وُقُوعِ الْكَلَامِ غَيْرَ مُوجِبٍ وَالْكَلَامُ كَانَ يَحْتَمِلُهُ أَيْ يَحْتَمِلُ كَوْنَهُ غَيْرَ مُوجِبٍ حُكْمَهُ فِي الْحَالِ شَرْعًا مِثْلَ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ وَتَصَرُّفَاتِ الصَّبِيِّ سُمِّيَ أَيْ التَّعْلِيقُ بَيَانًا وَهُوَ جَوَابٌ لَمَّا، وَإِنَّمَا قَالَ وَالْكَلَامُ كَانَ يَحْتَمِلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِصِحَّةِ الْبَيَانِ مِنْ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْمُبَيِّنُ مُحْتَمِلًا لَهُ بِوَجْهٍ لِيَكُونَ الْبَيَانُ إظْهَارًا لِذَلِكَ الْمُحْتَمَلِ، فَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْ لَا يَكُونُ بَيَانًا لَهُ بَلْ يَكُونُ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ) أَيْ وَكَالتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ الِاسْتِثْنَاءُ فِي اشْتِمَالِهِ عَلَى وَصْفَيْ الْبَيَانِ وَالتَّغْيِيرِ. أَلْفُ دِرْهَمٍ اسْمٌ عِلْمٌ لِذَلِكَ الْعَدَدِ أَيْ الْعَدَدِ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ الْأَلْفِ وَهُوَ عَشْرُ مِئِينَ فَإِنَّ اسْمَ الْعَدَدِ كَثَلَاثَةٍ وَعَشَرَةٍ وَمِائَةٍ وَنَحْوِهَا عَلَمُ جِنْسٍ كَأُسَامَةَ لِلْأَسَدِ وَالِاسْمُ الْعَلَمُ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ. أَوْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَلَمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَجُوزُ إطْلَاقُهُ عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْعَدَدِ عَلَى غَيْرِهِ لَا يَجُوزُ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَلَا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ لِانْسِدَادِ بَابِهِ إذْ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْدَادِ مَعْنًى إلَّا نِسْبَةً عَامَّةً وَهِيَ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ عَدَدًا وَالنِّسْبَةُ الْعَامَّةُ لَا تَصْلُحُ طَرِيقًا لِلْمَجَازِ وَلَا صُورَةً إلَّا مِنْ حَيْثُ الْجُزْءُ وَالْكُلُّ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ طَرِيقًا لَهُ أَيْضًا هَاهُنَا؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ الْجُزْءُ مُخْتَصًّا بِالْكُلِّ لِيَصِحَّ إطْلَاقُ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى لَازِمِهِ وَهُوَ الْجُزْءُ الْمُخْتَصُّ بِهِ وَهَاهُنَا مَا دُونَ الْأَلْفِ مَثَلًا كَمَا يَصْلُحُ جُزْءُ الْأَلْفِ يَصْلُحُ جُزْءُ الْأَلْفَيْنِ وَلِثَلَاثَةِ آلَافٍ وَغَيْرِهِمَا وَهَذِهِ الْجُزْئِيَّةُ لَا تَصْلُحُ طَرِيقًا لِلْمَجَازِ أَيْضًا فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ. أَلَا تَرَى: تَوْضِيحٌ لِكَوْنِ الِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّعْلِيقِ تَغْبِيرًا فَإِنَّهُ لَوْ صَحَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ التَّعْلِيقِ وَالِاسْتِثْنَاءِ مُتَرَاخِيًا كَانَ نَاسِخًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتَ حُرٌّ إذَا صَدَرَ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ غَيْرَ مُعَلَّقٍ بِالشَّرْطِ ثَبَتَ مُوجَبُهُ وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ فَلَوْ صَحَّ إلْحَاقُ الشَّرْطِ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ يَرْتَفِعُ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالتَّعْلِيقِ فَكَانَ نَسْخًا. وَكَذَا قَوْلُهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لِفُلَانٍ إذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ الِاسْتِثْنَاءُ ثَبَتَ مُوجِبُهُ وَهُوَ وُجُوبُ تَمَامِ الْأَلْفِ فَلَوْ صَحَّ إلْحَاقُ الِاسْتِثْنَاءِ بِهِ بَعْدَ تَقَرُّرِهِ كَانَ نَسْخًا لِلْحُكْمِ فِي بَعْضِ الْأَلْفِ كَمَا فِي التَّعْلِيقِ فَثَبَتَ أَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْنَى التَّغْيِيرِ، لَكِنَّهُ أَيْ الِاسْتِثْنَاءُ إذَا اتَّصَلَ بِالْكَلَامِ - وَهُوَ اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ كَانَ تَغْيِيرًا لِبَعْضِهِ - مَنَعَ بَعْضَ التَّكَلُّمِ أَيْ مَنَعَ التَّكَلُّمُ أَنْ يَكُونَ إيجَابًا فِي الْبَعْضِ لَا إنَّ رَفْعَهُ بَعْدَ الْوُجُودِ فَإِنَّهُ لَوْ رُفِعَ لَكَانَ نَسْخًا. فَكَانَ: أَيْ الِاسْتِثْنَاءُ بَيَانًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الْبَعْضَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ الْكَلَامِ ابْتِدَاءً فَلِذَلِكَ سُمِّيَ بَيَانَ تَغْيِيرٍ كَالتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ، وَذَكَرَ فِي التَّقْوِيمِ أَنَّ قَوْلَهُ إلَّا مِائَةً لَيْسَ بِتَغْيِيرٍ لِلْأَلْفِ بَلْ رَدٌّ لِبَعْضِهِ فَمِنْ حَيْثُ قَرَّرَ الْبَقِيَّةَ كَانَ بَيَانًا وَمِنْ حَيْثُ رَفَعَ بَعْضَهُ كَانَ تَغْيِيرًا، وَمَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّهُ سُمِّيَ بَيَانًا؛ لِأَنَّهُ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ ابْتِدَاءً وَالْكَلَامُ يَحْتَمِلُهُ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ جَائِزٌ، لَا يُوَافِقُ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَنَّ الْأَلْفَ اسْمٌ عَلَمٌ لِذَلِكَ الْعَدَدِ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرُهُ إلَّا بِتَأْوِيلٍ مُتَكَلَّفٍ وَهُوَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْبَعْضَ

وَمَنْزِلَةُ الِاسْتِثْنَاءِ مِثْلُ مَنْزِلَةِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ إلَّا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَمْنَعُ انْعِقَادَ التَّكَلُّمِ إيجَابًا فِي بَعْضِ الْجُمْلَةِ أَصْلًا وَالتَّعْلِيقُ يَمْنَعُ الِانْعِقَادَ لِأَحَدِ الْحُكْمَيْنِ أَصْلًا وَهُوَ الْإِيجَابُ وَيَبْقَى الثَّانِي وَهُوَ الِاحْتِمَالُ فَلِذَلِكَ كَانَا مِنْ قِسْمٍ وَاحِدٍ فَكَانَا مِنْ بَابِ التَّغْيِيرِ دُونَ التَّبْدِيلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQوَلَكِنْ بِشَرْطِ لُحُوقِ الِاسْتِثْنَاءِ بِهِ فَكَانَ الْتِحَاقُهُ بِهِ بَيَانَ أَنَّ الْمُرَادَ مُحْتَمَلُهُ وَالصَّحِيحُ فِي بَيَانِ الِاحْتِمَالِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانٌ؛ لِأَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الْإِيجَابَ السَّابِقَ غَيْرُ مُوجِبٍ كُلَّ الْأَلْفِ كَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ مُوجِبًا فِي الْجُمْلَةِ بِأَنْ وُجِدَ مِنْ الصَّبِيِّ أَوْ الْمَجْنُونِ فَلَمَّا احْتَمَلَ صَدْرُ الْكَلَامِ هَذَا وَبِالِاسْتِثْنَاءِ تَبَيَّنَ ذَلِكَ سَمَّيْنَاهُ بَيَانَ التَّغْيِيرِ لَا تَغْيِيرًا مَحْضًا. وَذَكَرَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيُسْرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ تَسْمِيَةَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّعْلِيقِ بَيَانًا مَجَازٌ فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي قَوْلِهِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا مِائَةً يُبْطِلُ الْكَلَامَ فِي حَقِّ الْمِائَةِ فَإِنَّ الْأَلْفَ اسْمٌ لِعَشْرِ مِئِينَ حَقِيقَةً وَكَذَلِكَ الشَّرْطُ فِي قَوْلِهِ إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ يُبْطِلُ كَوْنَهُ إيقَاعًا وَيُصَيِّرُهُ يَمِينًا. إلَّا أَنَّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ يَبْطُلُ بَعْضُ الْكَلَامِ وَفِي التَّعْلِيقِ يَبْطُلُ أَصْلُهُ بِانْقِلَابِهِ يَمِينًا وَالْإِبْطَالُ لَا يَكُونُ بَيَانًا حَقِيقَةً أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيَانَ هُوَ الْإِظْهَارُ وَالْأَلْفُ ظَاهِرٌ فِي عَشْرِ مِئِينَ وَأَنْتِ طَالِقٌ ظَاهِرٌ فِي كَوْنِهِ إيقَاعًا فَلَا يُتَصَوَّرُ إظْهَارُهُمَا حَقِيقَةً فَلَمْ يَكُنْ الِاسْتِثْنَاءُ وَلَا التَّعْلِيقُ إظْهَارًا حَقِيقَةً بَلْ كَانَ إبْطَالًا وَلَكِنَّهُ بَيَانٌ مَجَازًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ عَلَيْهِ تِسْعَمِائَةِ دِرْهَمٍ لَا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَنَّهُ يَحْلِفُ وَلَا يُطْلِقُ . قَوْلُهُ (وَمَنْزِلَةُ الِاسْتِثْنَاءِ مِثْلُ مَنْزِلَةِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ) فَرَّقَ الْقَاضِي الْإِمَامُ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّعْلِيقِ فَجَعَلَا الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانَ تَغْيِيرٍ وَالتَّعْلِيقَ بَيَانَ تَبْدِيلٍ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ التَّعْلِيقُ تَبْدِيلٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ مُقْتَضَى قَوْلِهِ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ نُزُولُ الْعِتْقِ فِي الْمَحَلِّ وَاسْتِقْرَارُهُ فِيهِ وَأَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِلْحُكْمِ بِنَفْسِهِ فَبِذِكْرِ الشَّرْطِ يَتَبَدَّلُ ذَلِكَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ تَامَّةٍ لِلْحُكْمِ قَبْلَ الشَّرْطِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِإِيجَابٍ لِلْعِتْقِ بَلْ هُوَ يَمِينٌ وَأَنَّ مَحَلَّهُ الذِّمَّةُ حَتَّى لَا يَصِلَ إلَى الْعَبْدِ إلَّا بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا بِوُجُودِ الشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءُ تَغْيِيرٌ لِمُقْتَضَى صِيغَةِ الْكَلَامِ وَلَيْسَ بِتَبْدِيلٍ إنَّمَا التَّبْدِيلُ أَنْ يَخْرُجَ كَلَامُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إخْبَارًا بِالْوَاجِبِ أَصْلًا فَجَمَعَ الشَّيْخُ بَيْنَهُمَا وَقَالَ مَنْزِلَةُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي التَّغْيِيرِ مِثْلُ مَنْزِلَةِ التَّعْلِيقِ فِيهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْكَلَامِ عَنْ الْإِيجَابِ إلَّا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَمْنَعُ انْعِقَادَهُ فِي بَعْضِ الْجُمْلَةِ أَصْلًا حَتَّى لَا يَبْقَى مُوجِبًا لِذَلِكَ الْبَعْضِ فِي الْحَالِ وَلَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَصِيرَ مُوجِبًا لَهُ فِي ثَانِي الْحَالِ وَالتَّعْلِيقُ يَمْنَعُ انْعِقَادَهُ لِأَحَدِ الْحُكْمَيْنِ وَهُوَ الْإِيجَابُ فِي الْحَالِ وَلَا يَمْنَعُ عَنْ صَلَاحِيَّتِهِ لِانْعِقَادِهِ عِلَّةً فِي ثَانِي الْحَالِ وَهُوَ حَالُ وُجُودِ الشَّرْطِ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَيَبْقَى الثَّانِي وَهُوَ الِاحْتِمَالُ أَيْ احْتِمَالُ صَيْرُورَتِهِ عِلَّةً مُوجِبَةً لِلْحُكْمِ فَلِذَلِكَ أَيْ لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَانِعًا مِنْ الِانْعِقَادِ كَانَا مِنْ قِسْمٍ وَاحِدٍ فَكَانَا مِنْ بَابِ التَّغْيِيرِ دُونَ التَّبْدِيلِ فَإِنَّ التَّبْدِيلَ هُوَ النَّسْخُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] وَأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ النَّسْخِ فِي شَيْءٍ إذْ النَّسْخُ رَفْعٌ بَعْدَ الْوُجُودِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِيهِمَا وَفِي التَّحْقِيقِ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الْعِبَارَةِ دُونَ الْمَعْنَى. ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ أَنَّ تَقْدِيمَ الشَّرْطِ عَلَى الْجَزَاءِ وَتَأْخِيرَهُ عَنْهُ جَائِزَانِ وَتَقْدِيمَ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي الْإِثْبَاتِ لَا يَجُوزُ حَتَّى لَوْ قَالَ طَلَّقْتُ إلَّا زَيْنَبَ جَمِيعَ نِسَائِي أَوْ أَعْتَقْتُ إلَّا سَالِمًا جَمِيعَ عَبْدِي أَوْ قَالَ إلَّا زَيْنَبَ جَمِيعَ نِسَائِي طَوَالِقُ أَوْ إلَّا سَالِمًا جَمِيعُ عَبِيدِي أَحْرَارٌ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ وَيَطْلُقُ جَمِيعُ النِّسَاءِ وَيَعْتِقُ جَمِيعُ الْعَبِيدِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ جَعْلُ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ مَصْرُوفًا عَنْ الْمَعْنَى الَّذِي دَخَلَ فِيهِ سَائِرُهُ فَلَوْ جَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَبَطَلَ هَذَا الْمَعْنَى بِخِلَافِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ وَهُوَ تَعْلِيقُ الْجَزَاءِ بِهِ لَا يَبْطُلُ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ،

وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ عَمَلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَقَالَ أَصْحَابُنَا الِاسْتِثْنَاءُ يَمْنَعُ التَّكَلُّمَ بِحُكْمِهِ بِقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى فَيُجْعَلُ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي بَعْدَهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَمْنَعُ الْحُكْمَ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ بِمَنْزِلَةِ دَلِيلِ الْخُصُوصِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQوَبِخِلَافِ التَّقْدِيمِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ عَنْ النَّفْيِ حَيْثُ يَجُوزُ حَتَّى لَوْ قَالَ مَا أَعْتَقْتُ إلَّا سَالِمًا أَحَدًا مِنْ عَبِيدِي أَوْ مَا طَلَّقْت إلَّا عَائِشَةَ أَحَدًا مِنْ نِسَائِي يَعْتِقُ سَالِمٌ وَتَطْلُقُ عَائِشَةُ دُونَ غَيْرِهِمَا لِعَدَمِ الْإِخْلَالِ بِالْمَعْنَى فَإِنَّ حَذْفَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي النَّفْيِ جَائِزٌ وَكَانَ الْمُسْتَثْنَى فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَنْصُوبًا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ لَا عَلَى الْبَدَلِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ لَا يَكُونُ قَبْلَ الْمُبْدَلِ . قَوْلُهُ (وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ عَمَلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) أَيْ مِنْ التَّعْلِيقِ وَالِاسْتِثْنَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي التَّعْلِيقِ، وَهَذَا بَيَانُ الِاسْتِثْنَاءِ فَيَتَكَلَّمُ أَوَّلًا فِي تَعْرِيفِهِ وَشُرُوطِهِ. ثُمَّ فِي تَقْدِيرِهِ وَتَحَقُّقِ مَعْنَاهُ وَالْكَلَامُ فِي تَعْرِيفِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَهِيَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْمُنْقَطِعِ حَقِيقَةٌ أَمْ مَجَازٌ فَذَهَبَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ كَمَا فِي الْمُتَّصِلِ فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا إمَّا بِالِاشْتِرَاكِ الْمَعْنَوِيِّ كَاشْتِرَاكِ الْحَيَوَانِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ أَوْ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ كَاشْتِرَاكِ الْعَيْنِ بَيْنَ مَفْهُومَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُتَّصِلَ إخْرَاجٌ، وَخَاصَّةُ الْمُنْقَطِعِ مُخَالَفَةٌ مِنْ غَيْرِ إخْرَاجٍ فَلَا يَشْتَرِكَانِ فِيمَا يَصْلُحُ جَعْلُ اللَّفْظِ لَهُ، وَقَدْ أُطْلِقَ اللَّفْظُ عَلَيْهِمَا فَكَانَ مُشْتَرَكًا إذْ الْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ وَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إلَى أَنَّهُ مَجَازٌ فِيهِ وَلَيْسَ بِحَقِيقَةٍ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى الشَّيْءِ لَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ جِنْسِ مُسَمَّاهُ وَاللَّفْظُ إذَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى شَيْءٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى صَارِفٍ يَصْرِفُهُ عَنْهُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا صَحَّ بِإِضْمَارٍ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] {إِلا إِبْلِيسَ} [الحجر: 31] فَإِنَّ مَعْنَاهُ عِنْدَ مَنْ قَالَ لَمْ يَكُنْ إبْلِيسُ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ وَمَنْ أُمِرَ بِالسُّجُودِ إلَّا إبْلِيسَ أَوْ فِي الْمُسْتَثْنَى كَمَا فِي قَوْلِك لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ إلَّا دِينَارًا أَيْ إلَّا مِقْدَارَ مِائَةِ دِينَارٍ أَوْ بِتَأْوِيلِ إلَّا بِجَعْلِهِ بِمَعْنَى لَكِنْ فَكَانَ مَجَازًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ سَبْقُ الْفَهْمِ إلَى الْمُتَّصِلِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ وَتَوَقُّفُهُ فِي الْمُنْقَطِعِ عَلَى قَرِينَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ ثَنَّيْتُ عَنَانَ الْفَرَسِ إذَا عَطَفْتُهُ وَصَرَفْتُهُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَا عَطْفَ وَلَا صَرْفَ إلَّا فِي الْمُتَّصِلِ إذْ الْجُمْلَةُ الْأُولَى فِي الْمُنْقَطِعِ بَاقِيَةٌ عَلَى حَالِهَا لَمْ تَتَغَيَّرْ. ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ الْمَعْنَوِيِّ كَمَا قَالُوا؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى جَوَازِ اسْتِثْنَاءِ كُلِّ شَيْءٍ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ لِوُجُودِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْأَشْيَاءِ مَعْنًى بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَذَلِكَ خِلَافُ كَلَامِ الْعَرَبِ وَلَا عَلَى الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ مَعَ إمْكَانِ حَمْلِهِ عَلَى الْمَجَازِ فِي الْمُنْقَطِعِ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْأَغْلَبِ وَهُوَ الْمَجَازُ خُصُوصًا عِنْدَ قِيَامِ الدَّلَالَةِ أَوْلَى وَلِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى إبْهَامِ الْمُرَادِ؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ لَا يَخْلُو عَنْ قَرِينَةٍ دَالَّةٍ عَلَى الْمُرَادِ بِخِلَافِ الِاشْتِرَاكِ، ثُمَّ حَدُّهُ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِالِاشْتِرَاكِ الْمَعْنَوِيِّ هُوَ مَا دَلَّ عَلَى مُخَالَفَةٍ بِإِلَّا غَيْرِ الصِّفَةِ أَوْ إحْدَى أَخَوَاتِهَا وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ غَيْرِ الصِّفَةِ عَنْ إلَّا الَّتِي هِيَ صِفَةٌ وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تَابِعَةً لِجَمْعٍ مُنَكَّرٍ غَيْرِ مَحْصُورٍ أَيْ لِجَمْعٍ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُسْتَثْنَى لَوْ سَكَتَ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وَبِقَوْلِهِ بِإِلَّا أَوْ إحْدَى أَخَوَاتِهَا، عَنْ الْمُخَالَفَةِ بِغَيْرِهَا مِثْلِ قَوْلِهِ جَاءَنِي الْقَوْمُ وَلَمْ يَجِئْ زَيْدٌ لَا عَمْرٌو وَأَمْثَالِهِمَا فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِاسْتِثْنَاءٍ وَعِنْدَ مَنْ قَالَ بِالِاشْتِرَاكِ أَوْ بِالْمَجَازِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَا فِي حَدٍّ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مُخْرِجٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَالْآخَرُ لَيْسَ بِمُخْرِجٍ فَتَعَذَّرَ جَمْعُهُمَا بِحَدٍّ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَمْرَيْنِ فَصْلُ أَحَدِهِمَا مَفْقُودٌ فِي الْآخَرِ يَسْتَحِيلُ جَمْعُهُمَا فِي حَدٍّ وَاحِدٍ وَتَمَحَّلَ بَعْضُهُمْ لِلْجَمْعِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَالَ هُوَ الْمَذْكُورُ بِإِلَّا أَوْ إحْدَى أَخَوَاتِهَا مُخْرِجًا أَوْ غَيْرَ مُخْرِجٍ وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّعَذُّرِ قِيلَ فِي الْمُنْقَطِعِ هُوَ مَا دَلَّ عَلَى مُخَالَفَةٍ بِإِلَّا غَيْرِ الصِّفَةِ أَوْ إحْدَى أَخَوَاتِهَا مِنْ غَيْرِ إخْرَاجٍ، وَفِي الْمُتَّصِلِ هُوَ إخْرَاجٌ بِإِلَّا أَوْ إحْدَى أَخَوَاتِهَا وَيَقْرُبُ مِنْهُ عِبَارَةُ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي الْمُتَّصِلِ هُوَ لَفْظُ أُخْرِجَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ شَيْءٍ بِإِلَّا وَأَخَوَاتِهَا

كَمَا اخْتَلَفُوا فِي التَّعْلِيقِ عَلَى مَا سَبَقَ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَفِي الْمُنْقَطِعِ هُوَ لَفْظٌ مِنْ أَلْفَاظِ الِاسْتِثْنَاءِ لَمْ يُرَدْ بِهِ إخْرَاجٌ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ فَلَوْ قُلْتَ جَاءَ الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا وَزَيْدٌ لَيْسَ مِنْ الْقَوْمِ كَانَ مُنْقَطِعًا. وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ قَوْلٌ ذُو صِيَغٍ مَخْصُوصَةٍ مَحْصُورَةٍ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَذْكُورَ بِهِ لَمْ يُرَدْ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالَ وَاحْتَرَزْنَا بِقَوْلِنَا ذُو صِيَغٍ مَحْصُورَةٍ عَنْ قَوْلِهِ رَأَيْت الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ أَرَ زَيْدًا فَإِنَّ الْعَرَبَ لَا تُسَمِّيهِ اسْتِثْنَاءً وَإِنْ أَفَادَ مَا يُفِيدُ قَوْلَنَا إلَّا زَيْدًا، وَقِيلَ هُوَ لَفْظٌ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ مُتَّصِلٌ بِجُمْلَةٍ بِإِلَّا أَوْ إحْدَى أَخَوَاتِهَا دَالٌّ عَلَى أَنَّ مَدْلُولَهُ غَيْرُ مُرَادٍ مِمَّا اتَّصَلَ بِهِ أَمَّا شُرُوطُهُ فَثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا الِاتِّصَالُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ، وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى دَاخِلًا فِي الْكَلَامِ لَوْلَا الِاسْتِثْنَاءُ كَقَوْلِك رَأَيْتُ الْقَوْمَ إلَّا زَيْدًا وَزَيْدٌ مِنْهُمْ وَرَأَيْت عُمَرًا إلَّا وَجْهَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا وَلَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءً حَقِيقَةً فَكَانَ هَذَا الشَّرْطُ لِكَوْنِهِ حَقِيقَةً لَا لِصِحَّتِهِ. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ أَنْ لَا يَكُونَ مُسْتَغْرِقًا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُسْتَغْرِقًا كَانَ رُجُوعًا لَا اسْتِثْنَاءً كَذَا قِيلَ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْكُلِّ فِيمَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ بَاطِلٌ أَيْضًا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ أَوْصَيْتُ لِفُلَانٍ بِثُلُثِ مَالِي إلَّا ثُلُثَ مَالِي كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلًا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنَّمَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا وَفِي اسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ لَا يُتَوَهَّمُ بَقَاءُ شَيْءٍ بِجَعَلِ الْكَلَامِ عِبَارَةً عَنْهُ، وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُسَاوِي وَالْأَكْثَرِ نَحْوِ قَوْلِهِ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا خَمْسَةً أَوْ إلَّا سِتَّةً إلَى تِسْعَةٍ فَذَهَبَتْ الْعَامَّةُ إلَى جَوَازِهِمَا وَذَهَبَتْ الْحَنَابِلَةُ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ إلَى مَنْعِهِمَا وَذَهَبَ الْفَرَّاءُ وَابْنُ دُرُسْتَوَيْهِ إلَى الْمَنْعِ فِي الْأَكْثَرِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَسْتَقْبِحُ اسْتِثْنَاءَ الْأَكْثَرِ وَتَسْتَهْجِنُ قَوْلَ الْقَائِلِ رَأَيْت أَلْفًا إلَّا تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، وَإِذَا ثَبَتَ كَرَاهَتُهُمْ وَاسْتِثْقَالُهُمْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَاحْتَجَّتْ الْعَامَّةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] وَهُوَ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17] {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [الرعد: 1] فَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2] {نِصْفَهُ} [المزمل: 3] ، وَلَمَّا جَازَ اسْتِثْنَاءُ النِّصْفِ جَازَ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ بِأَقَلَّ وَقَوْلُهُمْ هُوَ مُسْتَقْبَحٌ مَمْنُوعٌ بَلْ اسْتِثْقَالٌ وَلَيْسَ بِاسْتِقْبَاحٍ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا فَالِاسْتِقْبَاحُ لَا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ كَقَوْلِهِ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا تُسْعَ سُدُسِ رُبُعِ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ فِي غَايَةِ الِاسْتِقْبَاحِ يَصِحُّ. ، وَأَمَّا بَيَانُ مُوجِبِهِ فَهُوَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَمْنَعُ التَّكَلُّمَ بِحُكْمِهِ أَيْ مَعَ حُكْمِهِ بِقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى فَيُجْعَلُ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ وَيَنْعَدِمُ الْحُكْمُ فِي الْمُسْتَثْنَى لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لَهُ مَعَ صُورَةِ التَّكَلُّمِ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْغَايَةِ فِيمَا يَقْبَلُ التَّوْقِيتَ فَإِنَّ الْحُكْمَ يَنْعَدِمُ فِيمَا وَرَاءَ الْغَايَةِ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لَهُ لَا لِأَنَّ الْغَايَةَ تُوجِبُ نَفْيَ الْحُكْمِ فِيمَا وَرَاءَهَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُوجِبُهُ امْتِنَاعُ الْحُكْمِ فِي الْمُسْتَثْنَى لِوُجُودِ الْمُعَارِضِ كَامْتِنَاعِ ثُبُوتِ حُكْمِ الْعَامِّ فِيمَا خُصَّ مِنْهُ لِوُجُودِ الْمُعَارِضِ صُورَةً وَهُوَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ كَمَا اخْتَلَفُوا فِي التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ فَإِنَّ التَّعْلِيقَ عِنْدَهُ لَا يُخْرِجُ الْكَلَامَ مِنْ أَنْ يَكُونَ إيقَاعًا بَلْ يَمْتَنِعُ وُقُوعُهُ لِمَانِعٍ وَهُوَ التَّعْلِيقُ أَوْ عَدَمُ الشَّرْطِ فَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ وَعِنْدَنَا التَّعْلِيقُ يُخْرِجُ الْكَلَامَ مِنْ أَنْ يَكُونَ إيقَاعًا وَيَمْتَنِعُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ

وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُهُمْ فَصَارَ عِنْدَنَا تَقْدِيرُ قَوْلِ الرَّجُلِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا مِائَةً لِفُلَانٍ عَلَيَّ تِسْعُمِائَةٍ وَعِنْدَهُ إلَّا مِائَةً فَإِنَّهَا لَيْسَتْ عَلَيَّ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَ قَوْله تَعَالَى {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] فَلَا تَجْلِدُوهُمْ وَاقْبَلُوا شَهَادَتَهُمْ وَأُولَئِكَ هُمْ الصَّالِحُونَ غَيْرُ فَاسْقِينَ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي الْمَحَلِّ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ مَعَ صُورَةِ التَّكَلُّمِ بِهَا فَكَذَا الِاسْتِثْنَاءُ فَإِذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا مِائَةً صَارَ عِنْدَهُ كَأَنَّهُ قَالَ إلَّا مِائَةً فَإِنَّهَا لَيْسَتْ عَلَيَّ فَلَا تَلْزَمُهُ الْمِائَةُ لِلدَّلِيلِ الْمُعَارِضِ لِأَوَّلِ كَلَامِهِ لَا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالِاسْتِثْنَاءِ كَأَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ، وَصَارَ عِنْدَنَا كَأَنَّهُ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ تِسْعُمِائَةٍ وَأَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْأَلْفِ فِي حَقِّ لُزُومِ الْمِائَةِ وَكَأَنَّ الْغَزَالِيَّ مَالَ إلَى هَذَا الْقَوْلِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمُسْتَصْفَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ يَدْخُلُ عَلَى الْكَلَامِ فَيُغَيِّرُهُ عَمَّا كَانَ يَقْتَضِيهِ لَوْلَا الشَّرْطُ وَالِاسْتِثْنَاءُ فَيَجْعَلُهُ مُتَكَلِّمًا بِالْبَاقِي لَا أَنَّهُ يُخْرِجُ مِنْ كَلَامِهِ مَا دَخَلَ فِيهِ فَإِنَّهُ لَوْ دَخَلَ فِيهِ لَمَا خَرَجَ نَعَمْ كَانَ يَقْبَلُ الْقَطْعَ فِي الدَّوَامِ بِطَرِيقِ النَّسْخِ فَأَمَّا رَفْعُ مَا سَبَقَ دُخُولُهُ فِي الْكَلَامِ فَمُحَالٌ. قَالَ فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ إلَّا أَهْلَ الذِّمَّةِ أَوْ إنْ لَمْ يَكُونُوا ذِمِّيِّينَ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ لَكِنْ خَرَجَ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِإِخْرَاجِهِ بِالشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ قُلْنَا هُوَ كَذَلِكَ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ وَلِذَلِكَ يَمْتَنِعُ الْإِخْرَاجُ بِالشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ مُنْفَصِلًا وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الْإِخْرَاجِ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْفَصِلِ وَلَكِنْ إذَا لَمْ يَقْتَصِرْ وَأَلْحَقَ بِهِ مَا هُوَ جُزْءٌ مِنْهُ وَإِتْمَامٌ لَهُ غَيَّرَ مَوْضُوعَ الْكَلَامِ وَجَعَلَهُ كَالنَّاطِقِ بِالْبَاقِي وَدَفَعَ دُخُولَ الْبَعْضِ، وَمَعْنَى الدَّفْعِ أَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ لَوْلَا الشَّرْطُ وَالِاسْتِثْنَاءُ فَإِذَا أُلْحِقَا قَبْلَ الْوُقُوفِ دُفِعَا. وَذَكَرَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي شَرْحِ الْمُفَصَّلِ أَنَّ عَقْلِيَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ يَعْنِي مَعْقُولِيَّتَهُ مُشْكِلَةٌ؛ لِأَنَّ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ جَاءَنِي الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا إنْ قُلْنَا زَيْدٌ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْقَوْمِ لَمْ يَسْتَقِمْ لِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ أَنَّهُ إخْرَاجُ مَا بَعْدَ إلَّا مِمَّا قَبْلَهَا وَإِجْمَاعُهُمْ مَقْطُوعٌ بِهِ فِي تَفَاصِيلِ الْعَرَبِيَّةِ. وَلِأَنَّا قَاطِعُونَ إذَا قَالَ الْعَرَبِيُّ لَهُ عِنْدِي دِينَارٌ إلَّا ثُمُنًا وَنِصْفَ ثُمُنٍ بِأَنْ يَحْسِبَ الْمَذْكُورَ بَعْدَ إلَّا، ثُمَّ يُخْرِجَهُ مِنْ الدِّينَارِ، ثُمَّ يَقْطَعَ بِأَنَّ الْقَدْرَ بَعْدَهُ هُوَ الْبَاقِي وَإِنْ قُلْنَا هُوَ دَاخِلٌ فِيهِمْ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ إذَا قَالَ جَاءَ الْقَوْمُ وَزَيْدٌ مِنْهُمْ فَقَدْ وَجَبَ نِسْبَةُ الْمَجِيءِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْهُمْ فَإِذَا أُخْرِجَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ نُفِيَ عَنْهُ الْمَجِيءُ فَيَصِيرُ مُثْبَتًا مَنْفِيًّا بِاعْتِبَارٍ وَاحِدٍ فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي كَلَامٍ إلَّا وَهُوَ كَذِبٌ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَهُوَ بَاطِلٌ فَإِنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِ. قَالَ وَالصَّوَابُ الَّذِي يَجْمَعُ رَفْعَ الْإِشْكَالَيْنِ أَنْ يَقُولَ لَا يُحْكَمُ بِالنِّسْبَةِ إلَّا بَعْدَ كَمَالِ ذِكْرِ الْمُفْرَدَاتِ فِي كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ فَإِذَا قَالَ الْمُتَكَلِّمُ قَامَ الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا فُهِمَ الْقِيَامُ أَوَّلًا بِمُفْرَدِهِ وَفُهِمَ الْقَوْمُ بِمُفْرَدِهِ وَأَنَّ مِنْهُمْ زَيْدًا وَفُهِمَ إخْرَاجُ زَيْدٍ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ إلَّا زَيْدًا، ثُمَّ حُكِمَ بِنِسْبَةِ الْقِيَامِ إلَى هَذَا الْمُفْرَدِ الَّذِي أُخْرِجَ مِنْهُ زَيْدٌ فَحَصَلَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَسَالِكِ الْمَقْطُوعِ بِهَا عَلَى وَجْهٍ يَسْتَقِيمُ وَهُوَ أَنَّ الْإِخْرَاجَ حَاصِلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُفْرَدَاتِ وَفِيهِ تَوْقِيَةٌ بِإِجْمَاعِ النَّحْوِيِّينَ وَتَوْقِيَةٌ بِأَنَّك مَا نَسَبْت إلَّا بَعْدَ أَنْ أَخْرَجْت زَيْدًا فَلَا يُؤَدِّي إلَى الْمُنَاقَضَةِ الْمَذْكُورَةِ فَاسْتَقَامَ الْأَمْرُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا. قَوْلُهُ (وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُهُمْ) يَعْنِي دَلَّ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ أَجْوِبَةُ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالِاسْتِثْنَاءِ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ وَلَنَا وَلَهُمْ مَسَائِلُ تَدُلُّ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ أَوْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَعْمَلُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ جَوَابُهُمْ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالِاسْتِثْنَاءِ يَعْنِي مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَصْلِ لَيْسَ بِمَنْقُولٍ عَنْ السَّلَفِ أَوْ عَنْ الشَّافِعِيِّ نَصًّا وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِالْمَسَائِلِ. ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَيْ بَيَانُ أَنَّ الْمَسَائِلَ تَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَعَلَ قَوْله تَعَالَى {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [المائدة: 34] مُعَارِضًا لِصَدْرِ الْكَلَامِ فَقَالَ إنَّهُ تَعَالَى اسْتَثْنَى

وَكَذَلِكَ قَالَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ» إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ إنَّ مَعْنَاهُ بِيعُوا سَوَاءً بِسَوَاءٍ فَبَقِيَ صَدْرُ الْكَلَامِ عَامًّا فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عَارَضَهُ فِي الْمَكِيلِ خَاصَّةً وَخُصُوصُ دَلِيلِ الْمُعَارَضَةِ لَا يَتَعَدَّى مِثْلَ دَلِيلِ الْخُصُوصِ فِي الْعَامِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّائِبِينَ مِنْ جُمْلَةِ الْقَاذِفِينَ فَيَكُونُ هَذَا إثْبَاتَ حُكْمٍ عَلَى خِلَافِ مَا أَثْبَتَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ وَصَدْرُ الْكَلَامِ أَمْرٌ بِالْجَلْدِ وَنَهْيٌ عَنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَتَسْمِيَةٌ بِالْفِسْقِ فَيَصِيرُ الِاسْتِثْنَاءُ نَفْيًا عَلَى خِلَافِهِ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ إلَّا التَّائِبِينَ فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا بِفَاسِقِينَ وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَلَا يُجْلَدُونَ فَيَبْقَى صِفَةُ الْفِسْقِ وَرَدُّ الشَّهَادَةِ بِهِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ الْجَلْدُ بِالتَّوْبَةِ أَيْضًا كَرَدِّ الشَّهَادَةِ إلَّا أَنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَيُشْتَرَطُ لِلسُّقُوطِ التَّوْبَةُ إلَيْهِ لَا غَيْرُ، فَإِذَا تَابَ سَقَطَ كَمَا إذَا تَابَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ وَحَدُّ الْقَذْفِ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ أَوْ حَقُّ الْعَبْدِ فِيهِ غَالِبٌ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ التَّوَارُثُ وَالْعَفْوُ عِنْدَهُ فَيُشْتَرَطُ فِي سُقُوطِهِ التَّوْبَةُ إلَى الْعَبْدِ بَعْدَ التَّوْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَالْمَظَالِمِ لَا تَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِدُونِ إرْضَاءِ أَرْبَابِهَا حَتَّى إذَا تَابَ إلَى الْمَقْذُوفِ وَاعْتَذَرَ فَعَفَا عَنْهُ الْمَقْذُوفُ سَقَطَ أَيْضًا كَالْقِصَاصِ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ كَمَا جُعِلَ الِاسْتِثْنَاءُ مُعَارِضًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَعَلَهُ مُعَارِضًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ» فَإِنَّ مَعْنَاهُ عِنْدَهُ لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إلَّا طَعَامًا مُسَاوِيًا بِطَعَامٍ مُسَاوٍ فَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَبِيعُوهُمَا. أَوْ مَعْنَاهُ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ فَإِنَّهُمَا إذَا صَارَا مُتَسَاوِيَيْنِ جَازَ لَكُمْ أَنْ تَبِيعُوهُمَا أُثْبِتَتْ حُرْمَةُ الْبَيْعِ بِصَدْرِ الْكَلَامِ عَامَّةً فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ أَعْنِي مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ وَمَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ مِثْلُ الْحَفْنَةِ وَالْحَفْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ اسْمُ جِنْسٍ، وَقَدْ دَخَلَهُ لَامُ التَّعْرِيفِ فَاسْتَغْرَقَ الْجَمِيعَ فَلَمَّا اسْتَثْنَى الْمُسَاوِيَ امْتَنَعَ الْحُكْمُ فِيهِ بِالْمُعَارَضَةِ فَيَبْقَى مَا وَرَاءَهُ دَاخِلًا تَحْتَ الصَّدْرِ، ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ التَّسَاوِي الْمُسَاوَاةُ فِي الْكَيْلِ بِالِاتِّفَاقِ فَيَثْبُتُ الْمُعَارَضَةُ فِي الْمَكِيلِ خَاصَّةً فَبَقِيَ بَيْعُ الْحَفْنَةِ بِالْحَفْنَةِ وَبِالْحَفْنَتَيْنِ دَاخِلًا فِي صَدْرِ الْكَلَامِ فَيَحْرُمُ، وَقَوْلُهُ وَخُصُوصُ دَلِيلِ الْمُعَارَضَةِ لَا يَتَعَدَّى جَوَابُ سُؤَالٍ وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَإِنْ عَارَضَ الصَّدْرَ فِي الْمَكِيلِ عَلَى الْخُصُوصِ بِصِيغَتِهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَتَعَدَّى الْحُكْمُ عَنْهُ بِالتَّعْلِيلِ فَيُثْبِتُ الْمُعَارَضَةَ حِينَئِذٍ فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ فَيَثْبُتُ الْجَوَازُ فِي بَيْعِ الْحَفْنَةِ عِنْدَ التَّسَاوِي كَمَا يَتَعَدَّى الْحُكْمُ عَنْ الْمَخْصُوصِ إلَى غَيْرِهِ بِتَعْلِيلِ دَلِيلِ الْخُصُوصِ فَقَالَ خُصُوصُ دَلِيلِ الْمُعَارَضَةِ يَعْنِي الدَّلِيلَ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ الْمُعَارَضَةُ وَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ إذَا كَانَ خَاصًّا لَا يَزُولُ خُصُوصُهُ بِتَعَدِّي حُكْمِهِ إلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيلَ كَمَا يَقْبَلُهُ دَلِيلُ الْخُصُوصِ فِي الْعَامِّ لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ بِنَفْسِهِ فِي إفَادَةِ الْمَعْنَى بِخِلَافِ دَلِيلِ الْخُصُوصِ فِي الْعَامَّةِ فَإِنَّهُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ فَيَقْبَلُ التَّعْلِيلَ وَمِثْلُ يَقْرَأَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ لَا بِالرَّفْعِ. وَبَعْضُهُمْ قَرَأَهُ بِالرَّفْعِ وَزَعَمَ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ دَلِيلَ الْمُعَارَضَةِ خَاصٌّ بِصِيغَتِهِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِ مَا تَنَاوَلَهُ إذْ لَوْ تَعَدَّى لَصَارَ عَامًّا كَمَا أَنَّ دَلِيلَ الْخُصُوصِ لَا يَتَعَدَّى عَنْ الْمَخْصُوصِ نَصًّا إلَّا بِطَرِيقِ التَّعْلِيلِ لَكِنَّ الْفَرْقَ أَنَّ دَلِيلَ الْمُعَارَضَةِ لَا يَتَعَدَّى مَا تَنَاوَلَهُ بِنَفْسِهِ وَلَا بِالتَّعْلِيلِ إذْ يَلْزَمُ مِنْهُ مُعَارَضَةُ التَّعْلِيلِ النَّصَّ وَهِيَ بَاطِلَةٌ، فَأَمَّا دَلِيلُ الْخُصُوصِ فَمُبَيِّنٌ لِوُجُودِ حَدِّ الْبَيَانِ فِيهِ وَهُوَ أَنْ يَظْهَرَ بِهِ ابْتِدَاءً وُجُودُ الشَّيْءِ فَكَانَ قَابِلًا لِلتَّعْلِيلِ، وَهَذَا كُلُّهُ وَهْمٌ وَالْمَعْنَى هُوَ الْأَوَّلُ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] أَيْ خُصُوصُ الِاسْتِثْنَاءِ وَعُمُومُ الصَّدْرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِثْلُ خُصُوصِ الِاسْتِثْنَاءِ وَعُمُومِ الصَّدْرِ فِي قَوْله تَعَالَى

وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ} [البقرة: 237] هَذَا دَلِيلٌ مُعَارِضٌ لِبَعْضِ الصَّدْرِ هُوَ فِي حَقِّ مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ الْعَفْوُ فَبَقِيَ فِيمَا لَا مُعَارَضَةَ فِيهِ، وَقَالَ فِي رَجُلٍ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا ثَوْبًا إنَّهُ يَسْقُطُ مِنْ الْأَلْفِ قَدْرُ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْمُعَارَضَةِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى قَدْرِ الْإِمْكَانِ وَذَلِكَ مُمْكِنٌ فِي الْقِيمَةِ وَاحْتَجَّ فِي الْمَسْأَلَةِ بِالْإِجْمَاعِ وَدَلَالَتِهِ وَبِالدَّلِيلِ الْمَعْقُولِ ـــــــــــــــــــــــــــــQ {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] فَإِنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْأَزْوَاجِ نِصْفَ الْمَفْرُوضِ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي جَمِيعِ الْمُطَلَّقَاتِ بِقَوْلِهِ {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ الْعَاقِلَةُ وَالْمَجْنُونَةُ وَالصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ، ثُمَّ اسْتَثْنَى حَالَةَ الْعَفْوِ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] أَيْ إلَّا أَنْ يَعْفُونَ فَيَسْقُطَ الْكُلُّ فَيَثْبُتَ الْمُعَارَضَةُ بِهِ فِي حَقِّ الْكَبِيرَةِ الْعَاقِلَةِ الَّتِي يَصِحُّ مِنْهَا الْعَفْوُ دُونَ الْمَجْنُونَةِ أَوْ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا يَصِحُّ الْعَفْوُ مِنْهُمَا فَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُعَارِضًا لِبَعْضِ صَدْرِ الْكَلَامِ لَا لِجَمِيعِهِ فَبَقِيَ الصَّدْرُ فِيمَا لَا يُعَارِضُهُ فِيهِ عَلَى مَا كَانَ وَيَخْتَصُّ السُّقُوطُ بِالْعَفْوِ بِالْعَاقِلَةِ الْكَبِيرَةِ الَّتِي يَصِحُّ الْعَفْوُ مِنْهَا إلَّا أَنْ تَعْفُوَ الْمُطَلَّقَاتُ عَنْ أَزْوَاجِهِنَّ فَلَا يُطَالِبْنَهُمْ بِنِصْفِ الْمَهْرِ وَتَقُولَ الْمَرْأَةُ مَا رَآنِي وَمَا اسْتَمْتَعَ بِي فَكَيْفَ آخُذُ مِنْهُ شَيْئًا. {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] أَيْ الْوَلِيُّ الَّذِي يَلِي عَقْدَ نِكَاحِهِنَّ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَوْ الزَّوْجُ فَإِنَّ إمْسَاكَ الْعُقْدَةِ وَحَلُّهَا بِالطَّلَاقِ بِيَدِهِ وَاللَّامُ فِي النِّكَاحِ بَدَلُ الْإِضَافَةِ أَيْ نِكَاحُهُ أَيْ أَوْ أَنْ يَتَفَضَّلَ الزَّوْجُ بِإِعْطَاءِ الْكُلِّ صِلَةً لَهَا وَإِحْسَانًا فَيَقُولُ قَدْ نُسِبَتْ إلَيَّ بِالزَّوْجِيَّةِ فَلَا يَلِيقُ بِالْمُرُوءَةِ اسْتِرْدَادُ شَيْءٍ مِنْ مَهْرِهَا يَعْنِي الْوَاجِبَ شَرْعًا هُوَ النِّصْفُ إلَّا أَنْ تُسْقِطَ هِيَ الْكُلَّ أَوْ يُعْطِيَ هُوَ الْكُلَّ فَإِيجَابُ النِّصْفِ إنْصَافُ الشَّرِيعَةِ وَتَرْكُهَا وَبَذْلُهُ مِنْ أَخْلَاقِ الطَّرِيقَةِ. قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَتَسْمِيَةُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْحَقِّ عَفْوٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْغَالِبَ كَانَ فِيهِمْ سَوْقُ الْمَهْرِ إلَيْهَا عِنْدَ التَّزَوُّجِ فَإِذَا كَانَ طَلَّقَهَا اسْتَحَقَّ أَنْ يُطَالِبَهَا بِنِصْفِ مَا سَاقَ إلَيْهَا فَإِذَا تَرَكَ الْمُطَالَبَةَ فَقَدْ عَفَا عَنْهَا وَقَالَ فِي رَجُلٍ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفِ دِرْهَمٍ إلَّا ثَوْبًا إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ صَحِيحٌ وَيَسْقُطُ مِنْ الْأَلْفِ قَدْرُ قِيمَةِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ إلَّا ثَوْبًا فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيَّ مِنْ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيَانًا إلَّا هَكَذَا، ثُمَّ الدَّلِيلُ الْمُعَارِضُ وَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ وَاجِبُ الْعَمَلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ إذْ لَوْ لَمْ يُعْمَلْ بِهِ صَارَ لَغْوًا وَالْأَصْلُ فِي كَلَامِ الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْمُعَارَضَةِ فِي عَيْنِ الْمُسْتَثْنَى وَالْإِمْكَانُ هَاهُنَا فِي أَنْ يُجْعَلَ نَفْيًا لِقَدْرِ قِيمَةِ الثَّوْبِ لَا لِعَيْنِهِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا كُرَّ حِنْطَةٍ أَنَّهُ يُصْرَفُ إلَى قِيمَةِ الْكُرِّ تَصْحِيحًا لِلِاسْتِثْنَاءِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. قَالَ وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى كَمَا قُلْتُمْ يَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَهُ الْأَلْفُ كَامِلًا؛ لِأَنَّ مَعَ وُجُوبِ الْأَلْفِ عَلَيْهِ نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا كُرَّ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ هَذَا عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى وَالْكَلَامُ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْمُسْتَثْنَى أَصْلًا فَظَهَرَ أَنَّ الطَّرِيقَ فِيهِ مَا قُلْنَا هَذَا بَيَانُ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَظْهَرُ أَثَرُ الْخِلَافِ فِيهَا عَلَى مَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا وَلَكِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ هَذَا الْأَصْلَ وَيُخَرِّجُونَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ عَلَى أُصُولٍ أُخَرَ فَيَقُولُونَ رَدُّ الشَّهَادَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا مَعْطُوفَةً بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ يَرْجِعُ إلَى الْجَمِيعِ عِنْدَنَا إذَا لَمْ يَمْنَعْ عَنْهُ مَانِعٌ كَمَا إذَا تَعَقَّبَهَا أَوْ تَقَدَّمَهَا شَرْطٌ. أَوْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِعَدَمِ الْقَبُولِ أَيْ وَلَا تَقْبَلُوا شَهَادَتَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ فَاسِقُونَ وَبِالتَّوْبَةِ يَنْتَفِي الْفِسْقُ فَيَثْبُتُ الْقَبُولُ لِزَوَالِ الْمَانِعِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُعَارَضَةٌ. وَكَذَا بَقَاءُ صَدْرِ الْكَلَامِ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْحَدِيثِ مُتَنَاوِلًا لِحُرْمَةِ بَيْعِ الْحَفْنَةِ بِالْحَفْنَةِ لَيْسَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِيهِ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ مُعَارِضًا لَا يُثْبِتُ هَذِهِ الْحُرْمَةَ بَلْ لَوْ جُعِلَ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي يُثْبِتُ هَذِهِ الْحُرْمَةَ

أَمَّا الْإِجْمَاعُ فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ أَجْمَعُوا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ وَمِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَهَذَا إجْمَاعٌ عَلَى أَنَّ لِلِاسْتِثْنَاءِ حُكْمًا وُضِعَ لَهُ يُعَارَضُ بِهِ حُكْمُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَهِيَ كَلِمَةٌ وُضِعَتْ لِلتَّوْحِيدِ وَمَعْنَاهُ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ فَلَوْ كَانَ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي لَكَانَ نَفْيًا لِغَيْرِهِ لَا إثْبَاتًا لَهُ فَصَحَّ لَمَّا كَانَتْ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ أَنَّ مَعْنَاهَا إلَّا اللَّهُ فَإِنَّهُ إلَهٌ وَكَذَلِكَ لَا عَالِمَ إلَّا زَيْدٌ فَإِنَّهُ عَالِمٌ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَإِنَّا نَجِدُ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَرْفَعُ التَّكَلُّمَ بِقَدْرِهِ مِنْ صَدْرِ الْكَلَامِ وَإِذَا بَقِيَ التَّكَلُّمُ صِيغَةً بَقِيَ بِحُكْمِهِ فَلَا سَبِيلَ إلَى رَفْعِ التَّكَلُّمِ بَلْ يَجِبُ الْمُعَارَضَةُ بِحُكْمِهِ فَامْتِنَاعُ الْحُكْمِ مَعَ قِيَامِ التَّكَلُّمِ سَائِغٌ، فَأَمَّا انْعِدَامُ التَّكَلُّمِ مَعَ وُجُودِهِ مِمَّا لَا يُعْقَلُ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَيْضًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ» لَمَّا تَنَاوَلَ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، ثُمَّ اسْتَثْنَى الْمُسَاوِيَ مِنْ الْجَمِيعِ بَقِيَ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي وَهُوَ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ الَّذِي لَيْسَ بِمُسَاوٍ لِبَدَلِهِ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ الْقَلِيلَ بِالطَّعَامِ وَلَا الْكَثِيرَ بِمَا لَيْسَ بِمُسَاوٍ لَهُ، وَكَذَا صِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا ثَوْبًا لَيْسَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مُعَارَضَةً أَيْضًا بَلْ هِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُتَّصِلَ حَقِيقَةٌ وَالِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ مَجَازٌ فَمَهْمَا أَمْكَنَ حَمْلُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهَا إذْ الْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ هُوَ الْحَقِيقَةُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ مِنْ الْمُجَانَسَةِ فَوَجَبَ صَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْقِيمَةِ لِيَثْبُتَ الْمُجَانَسَةُ وَيَتَحَقَّقَ الِاسْتِخْرَاجُ كَمَا هُوَ حَقِيقَتُهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلهُ مُعَارَضَةً إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ إذْ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ أَيْضًا، وَإِذَا وَجَبَ رَدُّ الثَّوْبِ إلَى الْقِيمَةِ تَصْحِيحًا لِلِاسْتِثْنَاءِ لَا ضَرُورَةَ إلَى جَعْلِهِ مُعَارَضَةً بَلْ يُجْعَلُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى فَيَثْبُتُ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ لَا تَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الِاسْتِثْنَاءِ مُعَارَضَةً. وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ أَنَّ بَعْضَ مَشَايِخِنَا قَالُوا الِاسْتِثْنَاءُ يَعْمَلُ بِطَرِيقِ الْبَيَانِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ وَلَا نَصَّ فِيهِ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَلَكِنَّهُمْ اسْتَدَلُّوا عَلَى الْخِلَافِ بِمَسَائِلَ وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الدِّيَانَةِ أَنَّهُ بِطَرِيقِ الْبَيَانِ لَا بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ إجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا الِاسْتِثْنَاءُ اسْتِخْرَاجُ بَعْضِ مَا تُكُلِّمَ بِهِ وَقَالُوا أَيْضًا الِاسْتِثْنَاءُ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا وَالْمُعَارَضَةُ قَدْ تَكُونُ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ مَعَ بَقَاءِ الْكَلَامِ وَهُوَ غَيْرُ اسْتِخْرَاجِ بَعْضِ الْكَلَامِ وَالتَّكَلُّمِ. وَقَالَ وَإِنَّمَا حَمَلَ هَؤُلَاءِ عَلَى جَعْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُخْتَلِفَةً إشْكَالَاتٌ يَتَرَاءَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُعَارَضَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. 1 - قَوْلُهُ (إنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ وَمِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ) فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُوجِبٌ عَلَى خِلَافِ الْأَوَّلِ لَمَا جَعَلُوهُ كَذَلِكَ فَثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ حُكْمًا عَلَى ضِدِّ مُوجِبِ أَصْلِ الْكَلَامِ يُعَارِضُ الِاسْتِثْنَاءُ بِذَلِكَ الْحُكْمِ حُكْمَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، أَوْ الرَّاءُ بِالْفَتْحِ أَيْ يُعَارَضُ بِذَلِكَ الْحُكْمِ حُكْمُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ اخْتِصَارًا لِدَلَالَةِ الصَّدْرِ عَلَيْهِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الأعراف: 11] وَفِي مَوْضِعٍ: {إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 31] {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت: 32] وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنْ لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا ثَلَاثَةً إلَّا دِرْهَمَيْنِ يَلْزَمُهُ تِسْعَةٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْأَوَّلَ مِنْ الْإِثْبَاتِ فَكَانَ نَفْيًا وَالِاسْتِثْنَاءَ الثَّانِيَ مِنْ النَّفْيِ فَكَانَ إثْبَاتًا. وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ فَهُوَ أَنَّ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ وَهِيَ كَلِمَةُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ كَلِمَةُ تَوْحِيدٍ بِالْإِجْمَاعِ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَقَوْلُهُ لَا إلَهَ نَفْيٌ لِلْأُلُوهِيَّةِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ وَقَوْلُهُ إلَّا اللَّهُ إثْبَاتُ الْأُلُوهِيَّةِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ صَارَتْ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ وَالتَّوْحِيدِ، وَعَلَى مَا ذَكَرْتُمْ لَا تَبْقَى كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا جُعِلَ دَاخِلًا عَلَى التَّكَلُّمِ لِيَمْنَعَ الْبَعْضَ صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْإِثْبَاتِ وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِالنَّفْيِ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَيْ بِنَفْيِ الْأُلُوهِيَّةِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ لَا بِإِثْبَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ لَهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ تَوْحِيدًا. وَلَا يَعْنِي بِهِ نَفْيَ مَا هُوَ ثَابِتٌ أَوْ إثْبَاتَ مَا لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ غَيْرَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ إلَهًا وَلَا يَكُونُ وَاَللَّهُ تَعَالَى إلَهٌ أَزَلًا وَأَبَدًا وَإِنَّمَا يَعْنِي بِالنَّفْيِ التَّبَرُّؤَ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ وَبِالْإِثْبَاتِ الْإِقْرَارَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ لَهُ تَعَالَى فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى التَّوْحِيدِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ إذَا جُعِلَ

وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالدَّلِيلِ الْمَعْقُولِ أَيْضًا أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] وَسُقُوطُ الْحُكْمِ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ فِي الْإِيجَابِ يَكُونُ لَا فِي الْإِخْبَارِ فَبَقَاءُ التَّكَلُّمِ بِحُكْمِهِ فِي الْخَبَرِ لَا يَقْبَلُ الِامْتِنَاعَ بِمَانِعٍ. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ قَاطِبَةً إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ اسْتِخْرَاجٌ وَتَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا وَإِذَا ثَبَتَ الْوَجْهَانِ وَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَقُلْنَا إنَّهُ اسْتِخْرَاجٌ وَتَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بِوَضْعِهِ وَإِثْبَاتٌ وَنَفْيٌ بِإِشَارَتِهِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَّا الدَّلِيلُ الْمَعْقُولُ فَوُجُوهٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَعْنَاهُ إلَّا اللَّهُ فَإِنَّهُ إلَهٌ وَكَذَلِكَ لَا عَالِمَ إلَّا زَيْدٌ أَيْ وَمِثْلُ التَّقْدِيرِ الْمَذْكُورِ فِي كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ التَّقْدِيرُ فِي قَوْلِهِ لَا عَالِمَ إلَّا زَيْدٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ فَإِنَّهُ عَالِمٌ إذْ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ مَدْحُ زَيْدٍ بِأَنَّهُ عَدِيمُ النَّظِيرِ فِي الْعِلْمِ وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْمَقْصُودُ إلَّا بِهَذَا التَّقْدِيرِ وَلَوْ جُعِلَ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي لَا يَحْصُلُ هَذَا الْغَرَضُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ نَفْيَ الْعِلْمِ عَنْ غَيْرِهِ يَصِيرُ مَقْصُودًا حِينَئِذٍ لَا إثْبَاتَ الْعِلْمِ لَهُ. وَأَمَّا الثَّالِثُ وَهُوَ الدَّلِيلُ فَهُوَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَرْفَعُ التَّكَلُّمَ بِقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ بَعْدَمَا وُجِدَ حَقِيقَةً يَسْتَحِيلُ الْقَوْلُ بِكَوْنِهِ غَيْرَ مَوْجُودٍ حَقِيقَةً، وَإِذَا نُفِيَ التَّكَلُّمُ صِيغَةً نُفِيَ بِحُكْمِهِ إذَا لَمْ يَمْنَعْ عَنْهُ مَانِعٌ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الدَّلِيلِ يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الْمَدْلُولِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْقَوْلِ بِارْتِفَاعِ التَّكَلُّمِ بِالِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى إنْكَارِ الْحَقَائِقِ فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِامْتِنَاعِ الْحُكْمِ بِالْعَارِضَةِ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَصَدْرِ الْكَلَامِ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى مَعَ قِيَامِ التَّكَلُّمِ حَقِيقَةً. وَامْتِنَاعُ الْحُكْمِ لِمَانِعٍ مَعَ بَقَاءِ التَّكَلُّمِ سَائِغٌ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَالطَّلَاقِ الْمُضَافِ وَكَالْعَامِّ الْمَخْصُوصِ مِنْهُ يَمْتَنِعُ حُكْمُهُ فِي الْقَدْرِ الْمَخْصُوصِ لِوُجُودِ الْمُعَارِضِ صُورَةً وَهُوَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ لَا لِعَدَمِ التَّكَلُّمِ بِالدَّلِيلِ الْمُوجِبِ فَأَمَّا الْقَوْلُ بِعَدَمِ التَّكَلُّمِ مَعَ وُجُودِهِ حَقِيقَةً فَغَيْرُ مَعْقُولٍ وَلَا نَظِيرَ لَهُ، ثُمَّ الْمُعَارَضَةُ قَدْ تَقَعُ بِجِنْسِ الْأَوَّلِ وَبِخِلَافِ جِنْسِهِ كَمَا فِي الْمُعَارَضَاتِ بَيْنَ الْحِجَجِ كُلِّهَا وَإِنَّمَا الشَّرْطُ لِصِحَّةِ الْمُعَارَضَةِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَيْنِ تَدَافُعٌ، وَقَدْ وُجِدَ فَإِنَّ صَدْرَ الْكَلَامِ لِلْإِيجَابِ وَالِاسْتِثْنَاءَ لِلنَّفْيِ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ فَيَتَدَافَعُ الْحُكْمُ فِي قَدْرِ الْمُعَارَضَةِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ بَطَلَ بِقَدْرِ الْمُعَارَضَةِ بِلَا اعْتِبَارِ مَعْنَى وَإِنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ اُحْتِيجَ إلَى اعْتِبَارِ الْمَعْنَى كَمَا يَقُولُونَ إنَّ عَقْدَ الِارْتِهَانِ عَقْدُ اسْتِيفَاءٍ لِلدَّيْنِ، فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ يَصِيرُ عَيْنُ الرَّهْنِ مُسْتَوْفًى بِالدَّيْنِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَإِنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ يَصِيرُ الْمَعْنَى مِنْهُ مُسْتَوْفًى إذَا هَلَكَ أَوْ بِيعَ بِالدَّيْنِ عَلَى أَصْلِيٍّ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ. قَوْلُهُ (وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالدَّلِيلِ الْمَعْقُولِ أَيْضًا) فَقَوْلُهُ أَيْضًا رَاجِعٌ إلَى الْإِجْمَاعِ وَالدَّلِيلِ الْمَعْقُولِ لَا إلَى النَّصِّ فَإِنَّ الْخَصْمَ لَمْ يُمْسِكْ بِهِ أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّ أَصْحَابَنَا احْتَجُّوا بِحِجَجٍ ثَلَاثٍ كَمَا أَنَّهُ تَمَسَّكَ بِشُبَهٍ ثَلَاثٍ. أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَثْنَى الْخَمْسِينَ عَنْ الْأَلْفِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ لُبْثِ نُوحٍ فِي قَوْمِهِ قَبْلَ الطُّوفَانِ فَلَوْ كَانَ عَمَلُ الِاسْتِثْنَاءِ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ لَمَا اسْتَقَامَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْأَخْبَارِ وَلَاخْتَصَّ بِالْإِيجَابِ كَدَلِيلِ الْخُصُوصِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ صِحَّةَ الْخَبَرِ بِنَاءٌ عَلَى وُجُودِ الْمُخْبَرِ بِهِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي وَالْمَنْعُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْحَالِ لَا فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي. وَكَذَا فِي الْإِخْبَارِ عَنْ أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا يُتَصَوَّرُ الْمَنْعُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فَثَبَتَ أَنَّ جَعْلَهُ مُعَارِضًا لَا يَسْتَقِيمُ فِي الْأَخْبَارِ؛ لِأَنَّ التَّكَلُّمَ لَمَّا بَقِيَ بِحُكْمِهِ لَا يَقْبَلُ الِامْتِنَاعَ بِمَانِعٍ بِخِلَافِ الْإِيجَابِ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتٌ فِي الْحَالِ فَإِذَا عَارَضَهُ مَانِعٌ يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَثْبُتَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ حُكْمُ الْأَلْفِ بِجُمْلَتِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ} [العنكبوت: 14] ثُمَّ عَارَضَهُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْخَمْسِينَ لَزِمَ كَوْنُهُ نَافِيًا لِمَا أَثْبَتَهُ أَوْ لَا فَلَزِمَ الْكَذِبُ فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ إمَّا الْأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَزِمَ أَيْضًا إطْلَاقُ اسْمِ الْأَلْفِ عَلَى مَا دُونَهُ وَاسْمُ الْأَلْفِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى مَا دُونَهُ بِوَجْهٍ، وَقَوْلُهُ فَبَقَاءُ التَّكَلُّمِ بِحُكْمِهِ فِي الْخَبَرِ لَا يَقْبَلُ الِامْتِنَاعَ

أَحَدُهَا أَنَّ مَا يَمْنَعُ الْحُكْمَ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ اسْتَوَى فِيهِ الْبَعْضُ وَالْكُلُّ كَالنَّسْخِ. وَالثَّانِي أَنَّ دَلِيلَ الْمُعَارَضَةِ مَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ مِثْلُ الْخُصُوصِ وَالِاسْتِثْنَاءُ قَطُّ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَتِمُّ بِمَا قَبْلَهُ فَلَمْ يَصْلُحْ مُعَارِضًا لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِبَعْضِ الْجُمْلَةِ حَتَّى يَتِمَّ كَمَا لَا يَجُوزُ بِبَعْضِ الْكَلِمَةِ حَتَّى يَنْتَهِيَ احْتَمَلَ وَقْفَ أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَى آخِرِهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ بِآخِرِهِ الْمُرَادُ بِأَوَّلِهِ وَهَذَا الْإِبْطَالُ مَذْهَبُ الْخَصْمِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِمَانِعٍ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ فَامْتِنَاعُ الْحُكْمِ مَعَ قِيَامِ التَّكَلُّمِ سَائِغٌ. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَهُوَ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَاطِبَةً أَيْ جَمِيعًا قَالُوا إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ اسْتِخْرَاجٌ وَتَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا كَمَا قَالُوا الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَمِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ، وَإِذَا ثَبَتَ الْوَجْهَانِ أَيْ مَا قَالُوا إنَّهُ اسْتِخْرَاجٌ وَتَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي وَإِنَّهُ إثْبَاتٌ وَنَفْيٌ وَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فَقُلْنَا إنَّهُ اسْتِخْرَاجٌ وَتَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بِوَضْعِهِ أَيْ بِحَقِيقَتِهِ وَإِثْبَاتٌ وَنَفْيٌ بِإِشَارَةٍ؛ لِأَنَّ الْإِثْبَاتَ وَالنَّفْيَ غَيْرُ مَذْكُورَيْنِ فِي الْمُسْتَثْنَى قَصْدًا لَكِنْ لَمَّا كَانَ حُكْمُهُ عَلَى خِلَافِ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ثَبَتَ ذَلِكَ ضَرُورَةَ الِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِثْبَاتِ يَتَوَقَّفُ بِالِاسْتِثْنَاءِ كَمَا يَتَوَقَّفُ بِالْغَايَةِ فَإِذَا لَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ ظَهَرَ النَّفْيُ لِعَدَمِ عِلَّةِ الْإِثْبَاتِ فَسُمِّيَ نَفْيًا مَجَازًا وَمَعْنَى الِاسْتِخْرَاجِ أَنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِهِ بَعْضُ نَصِّ الْكَلَامِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا وَيُجْعَلُ الْكَلَامُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى لَا أَنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِهِ بَعْضُ حُكْمِ الْجُمْلَةِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْكَلَامِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانٌ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنَّمَا يَكُونُ بَيَانًا إذَا جُعِلَ الْمُسْتَثْنَى غَيْرَ ثَابِتٍ مِنْ الْأَصْلِ كَالتَّخْصِيصِ لَمَّا كَانَ بَيَانًا لَمْ يَكُنْ الْمَخْصُوصُ ثَابِتًا مِنْ الْأَصْلِ إلَّا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَعَرُّضٌ لِلْكَلَامِ فَيَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّ بَعْضَهُ غَيْرُ ثَابِتٍ وَالتَّخْصِيصُ تَعَرُّضٌ لِلْحُكْمِ بِنَصٍّ آخَرَ بِخِلَافِهِ. قَوْلُهُ (أَحَدُهَا) أَيْ أَحَدُ وُجُوهِ الْمَعْقُولِ أَنَّ مَا يَمْنَعُ الْحُكْمَ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ يَسْتَوِي فِيهِ الْبَعْضُ وَالْكُلُّ كَالنَّسْخِ فَإِنَّ نَسْخَ الْكُلِّ جَائِزٌ كَنَسْخِ الْبَعْضِ وَلَمْ يَسْتَوِ الْبَعْضُ وَالْكُلُّ هَاهُنَا فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُسْتَغْرِقَ بَاطِلٌ كَمَا ذَكَرْنَا فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمُعَارَضَةٍ وَتَصَرُّفٍ فِي الْحُكْمِ بَلْ هُوَ تَصَرُّفٌ فِي الْكَلَامِ بِجَعْلِهِ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تُصُوِّرَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ بَقَاءُ شَيْءٍ يُجْعَلُ الْكَلَامُ عِبَارَةً عَنْهُ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْ الْحُكْمِ شَيْءٌ بِأَنْ قَالَ عَبِيدِي أَحْرَارٌ إلَّا سَالِمًا وَبَزِيعًا وَفَرْقَدًا وَلَيْسَ لَهُ عَبْدٌ سِوَاهُمْ أَوْ قَالَ نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا زَيْنَبَ وَعَمْرَةَ وَفَاطِمَةَ وَلَيْسَ لَهُ امْرَأَةٌ غَيْرُهُنَّ فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَصِحُّ وَلَوْ كَانَ تَصَرُّفًا فِي الْحُكْمِ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ اسْتِثْنَاءَ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ. ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى ذِكْرِنَا دَلِيلُ الْخُصُوصِ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ، ثُمَّ لَمْ يَسْتَوِ الْبَعْضُ وَالْكُلُّ فِيهِ حَتَّى جَازَ تَخْصِيصُ الْبَعْضِ وَلَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُ الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَعْمَلُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ بِاعْتِبَارِ سُنَّةِ النَّسْخِ وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ اسْتَوَى فِيهِ الْكُلُّ وَالْبَعْضُ حَتَّى جَازَ نَسْخُ الْكُلِّ كَنَسْخِ الْبَعْضِ وَلَكِنَّهُ بَيَانٌ بِاعْتِبَارِ شَبَهِ الِاسْتِثْنَاءِ وَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا بَعْدَ تَخْصِيصِ الْكُلِّ فَلِذَلِكَ امْتَنَعَ تَخْصِيصُهُ. وَالثَّانِي أَيْ مِنْ وُجُوهِ الْمَعْقُولِ أَنَّ دَلِيلَ الْمُعَارَضَةِ مَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ أَيْ يَسْتَبِدُّ فِي إفَادَةِ الْمَعْنَى وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى شَيْءٍ آخَرَ مِثْلِ دَلِيلِ الْخُصُوصِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَسْتَقِلَّ لَا يَصْلُحُ دَافِعًا لِلْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْكَلَامِ الْمُسْتَقِلِّ وَالِاسْتِثْنَاءُ قَطُّ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ يَعْنِي عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْغَايَةِ لِافْتِقَارِهِ فِي إفَادَةِ الْمَعْنَى بِأَوَّلِ الْكَلَامِ أَمَّا عِنْدَنَا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ إلَّا مِائَةً لَا تُفِيدُ شَيْئًا بِدُونِهِ. وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ ابْتِدَاءً إلَّا مِائَةً فَإِنَّهَا لَيْسَتْ عَلَيَّ لَا يَكُونُ مُفِيدًا أَيْضًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا لِفَوَاتِ شَرْطِ الْمُعَارَضَةِ وَهُوَ تَسَاوِي الْمُتَعَارِضَيْنِ فِي ذَاتَيْهِمَا فِي الْقُوَّةِ بِخِلَافِ دَلِيلِ الْخُصُوصِ فَإِنَّهُ لِاسْتِقْلَالِهِ بِنَفْسِهِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا وَعِبَارَةُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَقُومُ بِصَدْرِ الْكَلَامِ فَكَانَ تَبَعًا لِغَيْرِهِ وَالتَّبَعُ لَا يُعَارِضُ الْأَصْلَ بِالْإِجْمَاعِ وَقَوْلُهُ وَلَكِنَّهُ أَيْ الِاسْتِثْنَاءُ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَمَّا كَانَ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَصْلُحْ

وَالثَّالِثُ لِتَصْحِيحِ مَا قُلْنَا وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ وُجُودَ التَّكَلُّمِ وَلَا حُكْمَ لَهُ أَصْلًا وَلَا انْعِقَادَ لَهُ بِحُكْمِهِ أَصْلًا سَائِغٌ مِثْلَ الِامْتِنَاعِ بِالْمُعَارِضِ بِالْإِجْمَاعِ مِثْلَ طَلَاقِ الصَّبِيِّ وَإِعْتَاقِهِ وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي التَّرْجِيحِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَتَى جُعِلَ مُعَارِضًا فِي الْحُكْمِ بَقِيَ التَّكَلُّمُ بِحُكْمِهِ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ ثُمَّ لَا يَبْقَى مِنْ الْحُكْمِ إلَّا بَعْضُهُ وَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ حُكْمًا لِكُلِّ التَّكَلُّمِ بِصَدْرِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَلْفَ اسْمُ عَلَمٍ لَهُ لَا يَقَعُ عَلَى غَيْرِهِ وَلَا يَحْتَمِلُهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى التُّسْعُمِائَةُ أَلْفًا بِخِلَافِ دَلِيلِ الْخُصُوصِ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَارَضَ الْعُمُومَ فِي بَعْضٍ بَقِيَ الْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ وَرَاءَ دَلِيلِ الْخُصُوصِ ثَابِتًا بِذَلِكَ الِاسْمِ بِعَيْنِهِ صَالِحًا لَأَنْ يَثْبُتَ بِهِ كَاسْمِ الْمُشْرِكِينَ إذَا خُصَّ مِنْهُ نَوْعٌ كَانَ الِاسْمُ وَاقِعًا عَلَى الْبَاقِي بِلَا خَلَلٍ وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ الْعَامَّ إذَا كَانَ كَلِمَةَ فَرْدٍ أَوْ اسْمَ جِنْسٍ صَحَّ الْخُصُوصُ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ بِالْفَرْدِ وَإِذَا كَانَتْ صِيغَةَ جَمْعٍ انْتَهَى الْخُصُوصُ إلَى الثَّلَاثَةِ لَا غَيْرُ فَلِذَلِكَ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا ـــــــــــــــــــــــــــــQمُعَارِضًا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْكَلَامِ بَلْ يَثْبُتُ مُوجِبُ أَوَّلِ الْكَلَامِ قَبْلَ التَّكَلُّمِ بِهِ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ. فَقَالَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ وَكَانَ قَائِمًا بِالْأَوَّلِ بِمَنْزِلَةِ جُزْءٍ مِنْهُ وَالْحُكْمُ بِبَعْضِ الْجُمْلَةِ قَبْلَ تَمَامِهَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ يَتِمُّ بِآخِرِهِ وَبِهِ يَتَبَيَّنُ مَقْصُودُ الْمُتَكَلِّمِ كَمَا لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِبَعْضِ الْكَلِمَةِ قَبْلَ تَمَامِهَا، احْتَمَلَ الْكَلَامُ التَّوَقُّفَ عَلَى آخِرِهِ لِيَتَبَيَّنَ الْمُرَادُ بِأَوَّلِهِ خُصُوصًا إذَا احْتَمَلَ التَّغَيُّرَ بِآخِرِهِ كَالتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ وَقَوْلُهُ احْتَمَلَ مُسْنَدٌ إلَى الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إلَى الْكَلَامِ مَعْنًى فَإِنَّ الْجُمْلَةَ فِي قَوْلِهِ بِبَعْضِ الْجُمْلَةِ فِي تَأْوِيلِ الْكَلَامِ وَالْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ وُقِفَ أَوَّلُ الْكَلَامِ مِنْ قَبِيلِ إقَامَةِ الْمُظْهَرِ مَقَامَ الْمُضْمَرِ أَيْ لَمَّا لَمْ يَجُزْ الْحُكْمُ بِبَعْضِ الْكَلَامِ حَتَّى يَتِمَّ احْتَمَلَ الْكَلَامُ وَقْفَ أَوَّلِهِ عَلَى آخِرِهِ، وَهَذَا أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ لِإِبْطَالِ طَرِيقَةِ الْخَصْمِ وَهِيَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَعْمَلُ بِالْمُعَارَضَةِ لَا لِإِثْبَاتِ الْمُدَّعَى. قَوْلُهُ (وَالثَّالِثُ) : أَيْ الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنْ الْمَعْقُولِ لِتَصْحِيحِ مَا قُلْنَا أَيْ لِإِثْبَاتِ الْمُدَّعَى وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا وَبَيَانُ ذَلِكَ أَيْ هَذَا الْوَجْهِ هُوَ أَنَّ التَّكَلُّمَ بِدُونِ أَنْ يَكُونَ لَهُ حُكْمٌ أَصْلًا أَوْ يَكُونَ مُنْعَقِدَ الْحُكْمِ سَائِغٌ أَيْ جَائِزٌ كَمَا جَازَ امْتِنَاعُ الْحُكْمِ بَعْدَ الِانْعِقَادِ لِمُعَارِضٍ وَقَوْلُهُ وَلَا انْعِقَادَ لَهُ بِحُكْمِهِ أَصْلًا تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ وَلَا حُكْمَ لَهُ أَصْلًا وَقَوْلُهُ (مِثْلُ طَلَاقِ الصَّبِيِّ وَإِعْتَاقِهِ) يَتَّصِلُ بِقَوْلِهِ سَائِغٌ يَعْنِي قَدْ يَسْقُطُ حُكْمُ الْكَلَامِ بَعْدَ الِانْعِقَادِ بِالْمُعَارَضَةِ، وَقَدْ يَنْعَقِدُ لِلْحُكْمِ أَصْلًا مِثْلَ طَلَاقِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَإِعْتَاقِهِمَا فَإِنَّهُمَا لَمْ يَنْعَقِدَا لِلْحُكْمِ أَصْلًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ قَبِيلِ الْمُمْتَنِعِ لِمُعَارِضٍ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَمِنْ قَبِيلِ مَا لَا انْعِقَادَ لَهُ لِلْحُكْمِ أَصْلًا كَمَا قُلْنَا فَوَجَبَ التَّرْجِيحُ، وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا. بَيَانُهُ أَيْ بَيَانُ التَّرْجِيحِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَتَى جُعِلَ مُعَارِضًا فِي الْحُكْمِ كَمَا قَالَهُ الْخَصْمُ لَزِمَ إثْبَاتُ مَا لَيْسَ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ اللَّفْظِيَّةِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَإِنَّهُ إذَا جُعِلَ مُعَارِضًا بَقِيَ التَّكَلُّمُ بِحُكْمِهِ أَيْ مَعَ حُكْمِهِ أَوْ مُنْعَقِدًا لِحُكْمِهِ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ، ثُمَّ لَا يَبْقَى مِنْ الْحُكْمِ إلَّا بَعْضُهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَذَلِكَ الْبَعْضُ الْبَاقِي لَا يَصْلُحُ حُكْمًا لِكُلِّ التَّكَلُّمِ بِصَدْرِ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى تَمَامِ مُسَمَّاهُ بِالْوَضْعِ لَا عَلَى بَعْضِهِ بَلْ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ مُسَمَّاهُ أَصْلًا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ كَأَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ فَإِنَّ اسْمَ الْأَلْفِ مَثَلًا لَا يَقَعُ عَلَى غَيْرِهِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَلَا يَحْتَمِلُهُ أَيْضًا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ فَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُهُ عَلَى تِسْعِمِائَةٍ أَصْلًا وَمَتَى جُعِلَ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي بَقِيَتْ صُورَةُ التَّكَلُّمِ فِي الْمُسْتَثْنَى غَيْرَ مُوجِبٍ لِحُكْمِهِ وَهُوَ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ لُزُومِ فَسَادٍ فَكَانَ الْقَوْلُ بِهِ أَوْلَى وَذُكِرَ فِي كُتُبِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَأَظُنُّهُ مُصَنَّفَ الشَّيْخِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ وَهِيَ أَنَّ الْكَلَامَ قَدْ يَسْقُطُ حُكْمُهُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ، وَقَدْ لَا يَنْعَقِدُ بِحُكْمِهِ فَيُتَأَمَّلُ أَنَّ إلْحَاقَ الِاسْتِثْنَاءِ بِأَيِّهِمَا أَوْلَى فَنَقُولُ مَا قُلْنَاهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِالْحَقِيقَةِ وَمَا قَالَهُ الْخَصْمُ عَمَلٌ بِالْمَجَازِ. وَبَيَانُهُ أَنَّ الْأَلْفَ اسْمٌ لِعَدَدٍ مَعْلُومٍ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّ الْحُكْمَ بِقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى يَسْقُطُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ مَعَ أَنَّ الْكَلَامَ مُنْعَقِدٌ فِي نَفْسِهِ وَلَا يُوجِبُ الْأَلْفَ بَلْ يُوجِبُ تِسْعَمِائَةٍ يُؤَدِّي إلَى الْعَمَلِ بِالْمَجَازِ فَإِنَّ تِسْعَمِائَةٍ غَيْرُ الْأَلْفِ حَقِيقَةً فَكَانَ إطْلَاقُ اسْمِ الْأَلْفِ عَلَيْهِ إطْلَاقًا لِاسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ وَلَوْ جَعَلْنَا الِاسْتِثْنَاءَ مَانِعًا عَنْ التَّكَلُّمِ بِقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى بِحُكْمِهِ كَانَ هَذَا عَمَلًا بِالْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْأَلْفِ وَأَنَّهُ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ تِسْعُمِائَةٍ إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ تِسْعُمِائَةٍ مُخْتَصَرٌ مِنْ الْكَلَامِ وَالْأَلْفُ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ مُطَوَّلٌ. ، وَهَذَا التَّقْرِيرُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْأَلْفَ لَا يَحْتَمِلُ

فَجُعِلَ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي بِحَقِيقَتِهِ وَصِيغَتِهِ وَكَانَ طَرِيقًا فِي اللُّغَةِ يَطُولُ مَرَّةً وَيَقْصُرُ أُخْرَى وَجُعِلَ الْإِيجَابُ وَالنَّفْيُ بِإِشَارَتِهِ، بَيَانُهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِمَنْزِلَةِ الْغَايَةِ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَوَّلَ يَنْتَهِي بِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَدْخُلُ عَلَى نَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ، وَالْإِثْبَاتُ بِالْعَدَمِ يَنْتَهِي، وَالْعَدَمُ بِالْوُجُودِ يَنْتَهِي وَإِذَا كَانَ الْوُجُودُ غَايَةً لِلْأَوَّلِ أَوْ الْعَدَمُ غَايَةً لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إثْبَاتِ الْغَايَةِ لِتَنَاهِي الْأَوَّلِ وَهَذَا ثَابِتٌ لُغَةً فَكَانَ مِثْلَ صَدْرِ الْكَلَامِ إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ ثَابِتٌ قَصْدًا وَهَذَا لَا فَكَانَ إشَارَةً وَلِذَلِكَ اُخْتِيرَ فِي التَّوْحِيدِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لِيَكُونَ الْإِثْبَاتُ إشَارَةً وَالنَّفْيُ قَصْدًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي التَّوْحِيدِ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ فَاخْتِيرَ فِي الْبَيَانِ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQغَيْرَهُ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَلَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَإِلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْمِفْتَاحِ أَيْضًا فَقَدْ ذَكَرَ فِيهِ فِي فَصْلِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمُتَكَلِّمِ لِلْعَشَرَةِ فِي التِّسْعَةِ مَجَازٌ إلَّا وَاحِدًا قَرِينَةُ الْمَجَازِ لَكِنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا أَوْلَى؛ لِأَنَّ أَسْمَاءَ الْأَعْدَادِ نُصُوصٌ فِي مَدْلُولَاتِهَا غَيْرُ مُحْتَمِلَةٍ لِغَيْرِ مُسَمَّيَاتِهَا كَالْأَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ عَلَى مَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ إذَا كَانَ كَلِمَةَ فَرْدٍ كَمَنْ وَمَا وَنَحْوِهِمَا أَوْ اسْمَ جِنْسٍ كَالرَّجُلِ وَنَحْوِهِ فَلِذَلِكَ أَيْ لِفَسَادِ كَوْنِ الْبَعْضِ حُكْمًا لِكُلِّ الْكَلَامِ بَطَلَ كَوْنُ الِاسْتِثْنَاءِ مُعَارِضًا وَقَوْلُهُ فَجُعِلَ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي تَقْرِيبٌ يَعْنِي وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُجْعَلَ مُعَارِضًا جُعِلَ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي، فَكَانَ أَيْ التَّكَلُّمُ بِمَا يَدُلُّ الْمَطْلُوبُ طَرِيقًا فِي اللَّغْوِ يَطُولُ مَرَّةً وَهِيَ مَا إذَا قُرِنَ بِالْكَلَامِ الِاسْتِثْنَاءُ وَيَقْصُرُ أُخْرَى يَعْنِي صَارَ لِلْعَدَدِ الَّذِي هُوَ تِسْعُ مِئِينَ مَثَلًا عِبَارَتَانِ طَوِيلَةٌ وَهِيَ أَلْفٌ إلَّا مِائَةً وَقَصِيرَةٌ وَهِيَ تِسْعُمِائَةٍ وَجُعِلَ الْإِيجَابُ وَالنَّفْيُ بِإِشَارَتِهِ أَيْ ثَابِتًا بِإِشَارَتِهِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَجُعِلَ لِلْإِيجَابِ وَالنَّفْيِ أَيْ جُعِلَ الِاسْتِثْنَاءُ لِلْإِيجَابِ وَالنَّفْيِ بِإِشَارَتِهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الثَّابِتَ بِالْإِشَارَةِ وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا بِنَظْمِ الْكَلَامِ لَكِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الثَّابِتِ بِدَلَالَةِ الْتِزَامٍ لَا بِطَرِيقِ الْقَصْدِ فَكَانَ مَجَازًا وَالْأَوَّلُ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ بِطَرِيقِ الْوَضْعِ بَيَانُهُ أَيْ بَيَانُ أَنَّ الْإِيجَابَ وَالنَّفْيَ ثَبَتَا بِإِشَارَتِهِ أَنَّ الْأَوَّلَ مُوجَبُ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ يَنْتَهِي بِالْمُسْتَثْنَى، وَالْإِثْبَاتُ بِالْعَدَمِ يَنْتَهِي وَالْعَدَمُ بِالْوُجُودِ يَنْتَهِي؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنَافٍ لِلْآخَرِ فَيَلْزَمُ مِنْ تَحَقُّقِ أَحَدِهِمَا انْتِفَاءُ الْآخَرِ ضَرُورَةً فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ جَاءَنِي الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا كَانَ الصَّدْرُ إثْبَاتًا لِلْمَجِيءِ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ. قَوْلُهُ إلَّا زَيْدًا انْتَهَى ذَلِكَ الْإِثْبَاتُ إذْ لَوْلَاهُ لَكَانَ مُجَاوِزًا إلَى زَيْدٍ كَمَا أَنَّ بِالْغَايَةِ يَنْتَهِي أَصْلُ الْكَلَامِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ مَا جَاءَنِي إلَّا زَيْدٌ كَانَ الصَّدْرُ نَفْيًا لِلْمَجِيءِ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ فَبِقَوْلِهِ إلَّا زَيْدٌ يَنْتَهِي ذَلِكَ النَّفْيُ إذْ لَوْلَاهُ لَكَانَ مُتَعَدِّيًا إلَى زَيْدٍ فَإِذَا انْتَهَى مُوجَبُ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ بِالِاسْتِثْنَاءِ كَاللَّيْلِ يَنْتَهِي بِوُجُودِ النَّهَارِ وَعَكْسِهِ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بِمَعْنَى الْغَايَةِ فَإِذَا كَانَ الْوُجُودُ غَايَةً لِلْأَوَّلِ أَيْ لِمُوجِبِ أَوَّلِ الْكَلَامِ إذَا كَانَ نَفْيًا أَوْ الْعَدَمُ غَايَةً إذَا كَانَ الصَّدْرُ إثْبَاتًا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إثْبَاتِ الْغَايَةِ لِيَتَنَاهَى الْأَوَّلُ فَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتًا وَمِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيًا لَا مَحَالَةَ لَكِنْ بِحُكْمِ أَنَّهُ غَايَةٌ لَا لِأَنَّهُ مُوجِبٌ لِلنَّفْيِ أَوْ لِلْإِثْبَاتِ قَصْدًا، وَهَذَا أَيْ كَوْنُهُ نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا ثَابِتٌ لُغَةً أَيْ ثَابِتٌ بِدَلَالَةِ اللُّغَةِ فَكَانَ مِثْلَ صَدْرِ الْكَلَامِ أَيْ فَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مِثْلَ صَدْرِ الْكَلَامِ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى مُوجِبِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتٌ لُغَةً فَلِذَلِكَ صَحَّ إجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّهُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَمِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَيْ مُوجِبُ صَدْرِ الْكَلَامِ ثَابِتٌ قَصْدًا. ، وَهَذَا أَيْ كَوْنُ الِاسْتِثْنَاءِ نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا لَيْسَ بِثَابِتٍ قَصْدًا فَكَانَ إشَارَةً أَيْ ثَابِتًا بِإِشَارَةِ الْكَلَامِ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَأَمَّا قَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَمِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ فَإِطْلَاقٌ عَلَى ظَاهِرِ الْحَالِ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً؛ لِأَنَّك إذَا قُلْت لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا عَشَرَةً لَمْ تَجِبْ الْعَشَرَةُ كَمَا لَوْ بَقَّيْتهَا وَلَكِنَّ عَدَمَ الْوُجُوبِ عَلَى الْمُقِرِّ لَيْسَ بِنَصٍّ نَافٍ لِلْوُجُوبِ عَلَيْهِ بَلْ لِعَدَمِ دَلِيلِ الْوُجُوبِ وَكَمَا قَالُوا ذَلِكَ فَقَدْ قَالُوا إنَّهُ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا فَلَا بُدَّ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَيُجْعَلُ الْأَوَّلُ مَجَازًا، وَهَذَا حَقِيقَةً، قَوْلُهُ (وَلِذَلِكَ اُخْتِيرَ فِي التَّوْحِيدِ) كَذَا أَيْ وَلِكَوْنِ مُوجَبِ

وَالِاسْتِثْنَاءُ نَوْعَانِ مُتَّصِلٌ وَمُنْقَطِعٌ أَمَّا الْمُتَّصِلُ فَهُوَ الْأَصْلُ وَتَفْسِيرُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَأَمَّا الْمُنْفَصِلُ فَمَا لَا يَصِحُّ اسْتِخْرَاجُهُ مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الصَّدْرَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ فَجُعِلَ مُبْتَدَأً مَجَازًا ـــــــــــــــــــــــــــــQصَدْرِ الْكَلَامِ ثَابِتًا قَصْدًا وَكَوْنِ الِاسْتِثْنَاءِ نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا إشَارَةً اُخْتِيرَ فِي التَّوْحِيدِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لِيَكُونَ الْإِثْبَاتُ أَيْ الْإِقْرَارُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ وَنَفْيُ الْأُلُوهِيَّةِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ بِطَرِيقِ الْقَصْدِ بِأَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ غَايَةً لِلنَّفْيِ فَيَنْتَهِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِوُجُودِ تِلْكَ الْغَايَةِ فَيَتَحَقَّقُ الْإِثْبَاتُ إشَارَةً وَالنَّفْيُ قَصْدًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي التَّصْدِيقِ الْقَلْبُ يَعْنِي التَّصْدِيقَ بِالْقَلْبِ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ شَرْطٌ لِإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ أَوْ رُكْنٌ زَائِدٌ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ بَيَانِ حُسْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَاخْتِيرَ فِي الْبَيَانِ أَيْ فِي الْإِقْرَارِ الَّذِي لَيْسَ بِمَقْصُودٍ أَصْلِيٍّ الْإِشَارَةُ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ، فَإِنْ قِيلَ إنَّ النَّفْيَ بِاللِّسَانِ غَيْرُ مَقْصُودٍ أَيْضًا بَلْ الْأَصْلُ فِيهِ الْقَلْبُ كَالْإِثْبَاتِ، وَقَدْ اُخْتِيرَ فِيهِ النَّفْيُ قَصْدًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْإِثْبَاتِ كَذَلِكَ أَيْضًا قُلْنَا إنَّمَا اُخْتِيرَ النَّفْيُ قَصْدًا إنْكَارًا لِدَعْوَى الْخُصُومِ فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ ادَّعَوْا الْأُلُوهِيَّةَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَاشْرَكُوا بِهِ غَيْرَهُ فَاخْتِيرَ النَّفْيُ بِاللِّسَانِ قَصْدًا رَدًّا لِدَعْوَاهُمْ وَلِهَذَا اُبْتُدِئَ بِالنَّفْيِ؛ لِأَنَّهُ أَهَمُّ فَأَمَّا الْكُلُّ فَقَدْ أَقَرُّوا بِأُلُوهِيَّةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ بِقَوْلِهِ {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] فَيُكْتَفَى بِالْإِثْبَاتِ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ لِعَدَمِ النِّزَاعِ فِيهِ. ، ثُمَّ جَعْلُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ غَايَةً لِلنَّفْيِ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا جُعِلَ صَدْرُ الْكَلَامِ نَفْيًا لِمُطْلَقِ الْأُلُوهِيَّةِ لَكِنْ لَوْ جُعِلَ نَفْيًا لِلْأُلُوهِيَّةِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ لَا يَصِحُّ جَعْلُهُ غَايَةً؛ لِأَنَّ النَّفْيَ لَا يَنْتَهِي بِالِاسْتِثْنَاءِ حِينَئِذٍ بَلْ يَبْقَى عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ وَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى إخْبَارًا {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 77] فَيَكُونُ الْإِثْبَاتُ قَصْدًا أَيْضًا فَأَمَّا قَوْلُهُ لَا عَالِمَ إلَّا زَيْدٌ فَنَفْيٌ لِوَصْفِ الْعِلْمِ عَامًّا وَقَوْلُهُ إلَّا زَيْدٌ تَوْقِيتٌ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَايَةِ وَمُقْتَضَى التَّوْقِيتِ عَدَمُ الْمُوَقِّتِ بَعْدَ الْوَقْتِ وَعَدَمُهُ يَثْبُتُ بِضِدِّهِ فَلَمَّا كَانَ نَفْيُ الْعِلْمِ مُوَقَّتًا إلَى زَيْدٍ يَنْتَهِي بِوُجُودِ الْعِلْمِ فِي زَيْدٍ فَكَانَ النَّفْيُ عَنْ غَيْرِهِ مَقْصُودًا وَإِثْبَاتُ الْعِلْمِ لَهُ إشَارَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ رَدٌّ لِزَعْمِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ غَيْرَ زَيْدٍ مَوْصُوفٌ بِالْعِلْمِ وَلَا يُنْكِرُ عِلْمَ زَيْدٍ بَلْ يُقِرُّ بِكَوْنِهِ عَالِمًا فَكَانَ نَفْيُ الْعِلْمِ هُوَ الْمَقْصُودَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ فَالْمُتَكَلِّمُ بِقَوْلِهِ لَا عَالِمَ إلَّا زَيْدٌ نَفَى الْعِلْمَ عَنْ غَيْرِهِ قَصْدًا وَأَثْبَتَ الْعِلْمَ لَهُ إشَارَةً، فَإِنْ قِيلَ لَمَّا جُعِلَ الِاسْتِثْنَاءُ بِمَنْزِلَةِ الْغَايَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَنْتَهِيَ الْحَظْرُ فِي قَوْلِهِ إنْ خَرَجْتِ إلَّا بِإِذْنِي بِالْإِذْنِ مَرَّةً كَمَا فِي قَوْلِهِ إلَّا أَنْ آذَنَ لَكِ أَوْ حَتَّى آذَنَ لَكِ قُلْنَا الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ إلَّا بِإِذْنِي مِنْ الْخُرُوجِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ كَلَامِهِ بِدَلَالَةِ حَرْفِ الْإِلْصَاقِ أَيْ لَا تَخْرُجِي خُرُوجًا إلَّا خُرُوجًا مُلْصَقًا بِإِذْنِي فَيَكُونُ جَمِيعُ الْخَرُوجَاتِ الْمَوْصُوفَةِ غَايَةً لَا خُرْجَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْهَا فَلَا يَنْتَهِي الْحَظْرُ بِالْإِذْنِ مَرَّةً فَأَمَّا فِي قَوْلِهِ إلَّا أَنْ آذَنَ لَكِ أَوْ حَتَّى آذَنَ لَكِ فَالْغَايَةُ مُطْلَقُ الْإِذْنِ إذَا وُجِدَ انْتَهَى الْحَظْرُ لَا مَحَالَةَ. وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي قَوْلِهِ إلَّا بِإِذْنِي دَاخِلٌ عَلَى الْخُرُوجِ لَا عَلَى الْحَظْرِ وَالْخُرُوجُ فِعْلٌ غَيْرُ مُمْتَدٍّ فَلَا يَصْلُحُ الِاسْتِثْنَاءُ غَايَةً لَهُ؛ لِأَنَّ الْغَايَةَ إنَّمَا تَدْخُلُ فِيمَا يَمْتَدُّ فَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ إلَّا أَنْ آذَنَ لَكِ فَدَاخِلٌ عَلَى الْحَظْرِ وَالْحَظْرُ مِمَّا يَمْتَدُّ فَيَصْلُحُ غَايَةً لَهُ فَلِذَلِكَ يَنْتَهِي بِالْإِذْنِ مَرَّةً . قَوْلُهُ (وَالِاسْتِثْنَاءُ نَوْعَانِ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى مُدَّعَاهُ شَرَعَ فِي بَيَانِ تَخْرِيجِ الْفُرُوعِ، وَذَكَرَ لَهُ مُقَدِّمَةً فَقَالَ الِاسْتِثْنَاءُ نَوْعَانِ أَيْ مَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ الِاسْتِثْنَاءِ نَوْعَانِ: حَقِيقَةٌ وَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُتَّصِلُ وَتَفْسِيرُهُ مَا ذَكَرْنَا يَعْنِي قَوْلَهُ الِاسْتِثْنَاءُ اسْتِخْرَاجٌ وَتَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْد الثُّنْيَا وَمَجَازٌ وَهُوَ

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 77] أَيْ لَكِنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَكَذَلِكَ {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} [الواقعة: 25] {إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة: 26] ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُنْفَصِلُ وَيُسَمَّى مُنْقَطِعًا فَجُعِلَ مُبْتَدَأً أَيْ بِمَنْزِلَةِ نَصٍّ مُبْتَدَأٍ حُكْمُهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ يَعْمَلُ بِهِ بِنَفْسِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِأَوَّلِ الْكَلَامِ إلَّا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ وَقَوْلُهُ مَجَازًا نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ. وَالْمُرَادُ أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى هَذَا النَّوْعِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ لَا يَنْقَادُ لَهُ؛ لِأَنَّ " جُعِلَ " مُسْنَدٌ إلَى الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إلَى الْمُنْفَصِلِ أَيْ جُعِلَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْفَصِلُ مُبْتَدَأً فَكَانَ قَوْلُهُ مَجَازًا تَمَيُّزًا عَنْ الْجُمْلَةِ أَيْ جُعِلَ الْمُنْفَصِلُ مُبْتَدَأً مِنْ الْكَلَامِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ لَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ فَيَنْصَرِفُ الْمَجَازِيَّةُ إلَى كَوْنِهِ مُبْتَدَأً مِنْ الْكَلَامِ لَا إلَى كَوْنِهِ اسْتِثْنَاءً وَالْمُرَادُ هُوَ الْبَاقِي دُونَ الْأَوَّلِ. وَكَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ فَجُعِلَ مُبْتَدَأً وَجُعِلَ اسْتِثْنَاءً مَجَازًا وَعِبَارَةُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاسْتِثْنَاءُ حَقِيقَةً مَا بَيَّنَّا وَمَا هُوَ مَجَازٌ مِنْهُ فَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ بِمَعْنَى لَكِنْ أَوْ بِمَعْنَى الْعَطْفِ قَوْله تَعَالَى {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} [الشعراء: 75] {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ} [الشعراء: 76] {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 77] أَيْ كُلُّ مَا عَبَدْتُمُوهُ أَنْتُمْ وَعَبَدَهُ آبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ وَهُمْ الَّذِينَ مَاتُوا فِي سَالِفِ الدَّهْرِ فَإِنِّي أُعَادِيهِمْ وَأَجْتَنِبُ عِبَادَتَهُمْ وَتَعْظِيمَهُمْ. إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ فَإِنِّي أَعْبُدُهُ وَأُعَظِّمُهُ كَذَا فِي التَّيْسِيرِ. وَذَكَرَ فِي الْمَطْلَعِ أَيْ مَا عِبَادَةُ مَنْ عَبَدَ هَذِهِ الْأَصْنَامَ إلَّا عِبَادَةُ أَعْدَاءٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُمْ يَعُودُونَ عَلَى عَابِدِيهِمْ ضِدًّا فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 82] وَلِأَنَّ الْمُغْرِيَ عَلَى عِبَادَتِهَا الشَّيْطَانُ الَّذِي هُوَ أَعْدَى أَعْدَاءِ الْإِنْسَانِ وَإِنَّمَا قَالَ عَدُوٌّ لِي وَلَمْ يَقُلْ لَكُمْ فَرْضًا لِلْمَسْأَلَةِ فِي نَفْسِهِ عَلَى مَعْنَى أَنِّي فَكَّرْت فِي هَذَا الْأَمْرِ فَرَأَيْتُ عِبَادَتِي لَهَا عِبَادَةً لِلْعَدُوِّ فَاجْتَنَبْتُهَا وَآثَرْتُ عِبَادَةَ مَنْ الْخَيْرُ كُلُّهُ مِنْهُ وَأَرَاهُمْ بِذَلِكَ أَنَّهَا نَصِيحَةٌ نَصَحَ بِهَا نَفْسَهُ أَوَّلًا وَبَنَى عَلَيْهَا تَدْبِيرَ أَمْرِهِ لِيَنْظُرُوا فَيَقُولُوا مَا نَصَحَنَا إبْرَاهِيمُ إلَّا بِمَا نَصَحَ بِهِ نَفْسَهُ فَيَكُونَ أَدْعَى إلَى الْقَبُولِ وَأَبْعَثَ عَلَى الِاسْتِمَاعِ وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمَثَابَةُ لَوْ قَالَ عَدُوٌّ لَكُمْ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيضَ يَبْلُغُ فِي التَّأْثِيرِ فِي الْمَنْصُوحِ لَهُ مَا لَا يَبْلُغُ التَّصْرِيحُ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَمَّلُ فِيهِ فَرُبَّمَا قَادَهُ التَّأَمُّلُ إلَى التَّقَبُّلِ. وَالْعَدُوُّ يَقَعُ عَلَى الْجَمْعِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ الْعَدُوِّ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا لَكَثِيرٌ. إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ كَأَنَّهُ قَالَ لَكِنْ رَبُّ الْعَالَمِينَ الَّذِي مِنْ صِفَتِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ مِنْهُمْ قَالَ الزَّجَّاجُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْمُ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ إنَّ جَمِيعَ مَنْ عَبَدْتُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ سَوَّوْا آلِهَتَهُمْ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ قَدْ تَبَرَّأَ مِمَّا يَعْبُدُونَ إلَّا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَبَرَّأْ مِنْ عِبَادَتِهِ، وَهَذَا قَوْلُ مُقَاتِلٍ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا. قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} [الواقعة: 25] أَيْ وَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 77] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} [الواقعة: 25] {إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة: 26] فِي أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِيهِ مُنْقَطِعٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ السَّلَامَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ اللَّغْوِ وَاللَّغْوُ مَا يَلْغَى مِنْ الْكَلَامِ أَيْ يَسْقُطُ وَالتَّأْثِيمُ مَا يُؤَثِّمُ فِيهِ أَيْ لَا يَسْمَعُونَ فِي الْجَنَّةِ مَا يَلْغَى مِنْ الْكَلَامِ وَلَا مَا يُؤَثِّمُ فِيهِ مِنْ الْهَذَيَانِ وَالتَّفْسِيقِ إلَّا قِيلًا أَيْ لَكِنْ يَسْمَعُونَ فِيهَا قَوْلًا سَلَامًا سَلَامًا هُمَا بَدَلَانِ مِنْ قِيلًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلامًا} [مريم: 62] أَوْ مَفْعُولٌ بِهِمَا لِقِيلًا بِمَعْنَى إلَّا أَنْ يَقُولُوا سَلَامًا سَلَامًا وَمَعْنَى التَّكْرِيرِ أَنَّهُمْ يُفْشُونَ السَّلَامَ بَيْنَهُمْ فَيُسَلِّمُونَ سَلَامًا بَعْدَ سَلَامٍ أَوْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةُ سَلَامًا بَعْدَ سَلَامٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْآيَةِ إنْ كَانَ تَسْلِيمُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ أَوْ تَسْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ لَغْوًا فَلَا يَسْمَعُونَ لَغْوًا إلَّا ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ. قَوْلِهِ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ

وَقَوْلُهُ {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّ التَّائِبِينَ غَيْرُ دَاخِلِينَ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ فَكَانَ مَعْنَاهُ إلَّا أَنْ يَتُوبُوا أَوْ يُحْمَلُ الصَّدْرُ عَلَى عُمُومِ الْأَحْوَالِ بِدَلَالَةِ الثُّنْيَا فَكَأَنَّهُ قَالَ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] بِكُلِّ حَالٍ إلَّا حَالَ التَّوْبَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ أَوْ لِأَنَّ مَعْنَى السَّلَامِ هُوَ الدُّعَاءُ بِالسَّلَامَةِ وَدَارُ السَّلَامِ هِيَ دَارُ السَّلَامَةِ مِنْ الْآفَاتِ، وَأَهْلُهَا عَنْ الدُّعَاءِ بِالسَّلَامَةِ أَغْنِيَاءٌ فَكَانَ ظَاهِرُهُ مِنْ بَابِ اللَّغْوِ وَفُضُولِ الْحَدِيثِ لَوْلَا مَا فِيهِ مِنْ فَائِدَةِ الْإِكْرَامِ وَالتَّبْجِيلِ لِأَهْلِهَا كَذَا فِي الْكَشَّافِ وَالْمَطْلَعِ. قَوْلُهُ (وَقَوْلُهُ تَعَالَى {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ) ذَهَبَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا مِنْهُمْ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إلَى أَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ التَّائِبِينَ غَيْرُ دَاخِلِينَ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] ؛ لِأَنَّ التَّائِبَ مَنْ قَامَ بِهِ التَّوْبَةُ وَلَيْسَ فِيهِ صِفَةُ الْفِسْقِ، وَالْفَاسِقُ مَنْ قَامَ بِهِ وَصْفُ الْفِسْقِ وَلَيْسَ فِيهِ وَصْفُ التَّوْبَةِ فَلَا يَكُونُ التَّائِبُ فَاسِقًا فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ الصَّدْرِ لَوْلَا الِاسْتِثْنَاءُ فَلَمْ يَكُنْ الِاسْتِثْنَاءُ حَقِيقَةً فَكَانَ مُنْقَطِعًا. وَالثَّانِي أَنَّ حَقِيقَةَ الِاسْتِثْنَاءِ لِبَيَانِ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْجُمْلَةِ أَصْلًا وَلَوْلَا الِاسْتِثْنَاءُ لَكَانَ دَاخِلًا كَقَوْلِك جَاءَنِي الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا لَمْ يَدْخُلْ زَيْدٌ فِي حُكْمِ الْمَجِيءِ أَصْلًا وَلَوْلَا الِاسْتِثْنَاءِ لَكَانَ دَاخِلًا وَالتَّائِبُونَ هُمْ الْقَاذِفُونَ فَهُمْ الَّذِينَ كَانُوا فَسَقَةً فَكَانُوا دَاخِلِينَ فِي الْفَاسِقِينَ أَلْبَتَّةَ وَبِالتَّوْبَةِ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا قَاذِفِينَ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَيُجْعَلُ مُنْقَطِعًا بِمَعْنَى لَكِنْ أَيْ لَكِنْ إنْ تَابُوا فَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَهُمْ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتَغَيَّرُ شَيْءٌ مِمَّا ثَبَتَ بِصَدْرِ الْكَلَامِ مِنْ وُجُوبِ الْحُدُودِ وَالشَّهَادَةِ وَوَصْفِ الْفِسْقِ بِالِاسْتِثْنَاءِ إلَّا أَنَّ التَّوْبَةَ وَالْفِسْقَ مُتَنَافِيَانِ فَيَتَغَيَّرُ بِهَا وَصْفُ الْفِسْقِ لِاسْتِحَالَةِ بَقَاءِ الشَّيْءِ مَعَ مَا يُنَافِيهِ لَا لِلِاسْتِثْنَاءِ، فَأَمَّا التَّوْبَةُ فَلَيْسَتْ بِمُنَافِيَةٍ لِرَدِّ الشَّهَادَةِ كَالْعَبْدِ الْعَدْلِ الثَّابِتِ لَا يُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَكَالنِّسَاءِ الْمُنْفَرِدَاتِ الْعَادِلَاتِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ فَلِذَلِكَ بَقِيَ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ كَمَا كَانَ وَقَوْلُهُ فَكَانَ مَعْنَاهُ إلَّا أَنْ يَتُوبُوا يَعْنِي لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ اسْتِخْرَاجُ التَّائِبِينَ عَنْ صَدْرِ الْكَلَامِ لِكَوْنِهِمْ دَاخِلِينَ فِيهِ يُحْمَلُ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى التَّوْقِيتِ فَكَانَ مَعْنَاهُ إلَّا أَنْ يَتُوبُوا أَيْ حِينَ يَتُوبُوا، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى التَّوْقِيتِ لَمْ يَكُنْ اسْتِثْنَاءً حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ بِالتَّوْقِيتِ يَتَقَرَّرُ مُوجَبُ صَدْرِ الْكَلَامِ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ وَفِي الِاسْتِثْنَاءِ الْحَقِيقِيِّ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى خَارِجًا مِنْ الصَّدْرِ أَيْ غَيْرَ دَاخِلٍ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ دَاخِلًا وَذُكِرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ لِلشَّيْخِ أَنَّ مَعْنَاهُ وَلَكِنْ الَّذِينَ تَابُوا، وَهَكَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ وَالْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ وَهُوَ الْأَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ وَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَاجِبٌ مَهْمَا أَمْكَنَ فَجَعَلُوهُ اسْتِثْنَاءَ حَالٍ بِدَلَالَةِ الثُّنْيَا فَإِنَّهَا تَقْتَضِي الْمُجَانَسَةَ وَحَمَلُوا الصَّدْرَ عَلَى عُمُومِ الْأَحْوَالِ أَيْ أَضْمَرُوا فِيهِ الْأَحْوَالَ فَقَالُوا التَّقْدِيرُ وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ أَيْ حَالَ الْمُشَافَهَةِ وَالْغَيْبَةِ وَحُضُورِ الْقَاضِي وَحُضُورِ النَّاسِ وَغَيْبَتِهِمْ وَحَالَ الثَّبَاتِ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الْقَذْفِ وَحَالَ الرُّجُوعِ وَالتَّوْبَةِ إلَّا فِي حَالِ التَّوْبَةِ. ، ثُمَّ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِرَدِّ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ جُعِلَ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا يَكُونُ اسْتِثْنَاءً عَنْ الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ وَلَا يَنْصَرِفُ إلَى مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا يُصْرَفُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْجَمِيعِ عِنْدَنَا بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى الْأَخِيرَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا وَجَبَ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى مَا قَبْلَهُ لِيَصِحَّ ضَرُورَةَ عَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ انْدَفَعَتْ بِالرُّجُوعِ إلَى الْأَخِيرَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى صَرْفِهِ إلَى غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ

وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] اسْتِثْنَاءُ حَالٍ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ «إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ» اسْتِثْنَاءُ حَالٍ فَيَكُونُ الصَّدْرُ عَامًّا فِي الْأَحْوَالِ وَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ إلَّا فِي الْمُقَدَّرِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدَرِهَا وَإِنْ جُعِلَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ كَلَامًا مُبْتَدَأً فَيُعْمَلُ بِالْمُعَارَضَةِ إنْ أَمْكَنَ وَلَا مُعَارَضَةَ لَهُ إلَّا فِي وَصْفِ الْفِسْقِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِرَدِّ الشَّهَادَةِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَئِنْ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْحَقِيقَةِ فَهُوَ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الْأَحْوَالِ أَيْ وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إلَّا أَنْ يَتُوبُوا فَيَكُونَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ تَوْقِيتًا بِحَالِ مَا قَبْلَ التَّوْبَةِ فَلَا تَبْقَى صِفَةُ الْفِسْقِ بَعْدَ التَّوْبَةِ لِانْعِدَامِ الدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لَا لِمُعَارِضٍ مَانِعٍ كَمَا تَوَهَّمَهُ الْخَصْمُ. قَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] أَيْ وَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] قَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] فَإِنَّهُ اسْتِثْنَاءُ حَالٍ أَيْضًا إذْ لَا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُ الْعَفْوِ الَّذِي هُوَ حَالُهُنَّ عَنْ نِصْفِ الْمَفْرُوضِ حَقِيقَةً لِعَدَمِ الْمُجَانَسَةِ فَيُحْمَلُ الصَّدْرُ عَلَى عُمُومِ الْأَحْوَالِ أَيْ لَهُنَّ نِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ أَوْ عَلَيْكُمْ نِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ أَيْ فِي حَالِ الطَّلَبِ وَالسُّكُوتِ وَحَالِ الْكِبَرِ وَالصِّغَرِ وَالْجُنُونِ وَالْإِفَاقَةِ إلَّا فِي حَالَةِ الْعَفْوِ إذَا كَانَتْ الْعَافِيَةُ مِنْ أَهْلِهِ بِأَنْ كَانَتْ عَاقِلَةً بَالِغَةً فَكَانَ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي نَظَرًا إلَى عُمُومِ الْأَحْوَالِ، وَقَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ النِّصْفَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا إذَا جَاءَ الْعَفْوُ بَلْ سُقُوطُهُ بِالْعَفْوِ بِتَصَرُّفٍ طَارِئٍ فَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا لَا أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الصَّدْرِ بِالِاسْتِثْنَاءِ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ» فِي أَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ حَالٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ حَمْلَ الْكَلَامِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ وَلَا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُ الْمُسَاوَاةِ مِنْ الطَّعَامِ فَيُحْمَلُ صَدْرُ الْكَلَامِ عَلَى مَا يُجَانِسُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لِيَتَحَقَّقَ الِاسْتِثْنَاءُ حَقِيقَةً وَالْمُسْتَثْنَى حَالٌ وَهِيَ الْمُسَاوَاةُ فَيُحْمَلُ الصَّدْرُ عَلَى عُمُومِ الْأَحْوَالِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قِيلَ لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ مِنْ الْمُفَاضَلَةِ وَالْمُجَازَفَةِ وَالْمُسَاوَاةِ إلَّا فِي حَالَةِ الْمُسَاوَاةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذِهِ الْأَحْوَالُ إلَّا فِي الْكَثِيرِ وَهُوَ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمُسَاوَاةِ هُوَ الْمُسَاوَاةُ فِي الْكَيْلِ إذْ الْمُشْتَرَى فِي الطَّعَامِ لَيْسَ إلَّا الْكَيْلَ بِالْإِجْمَاعِ وَبِدَلِيلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كَيْلًا بِكَيْلٍ» وَبِدَلِيلِ الْعُرْفِ فَإِنَّ الطَّعَامَ لَا يُبَاعُ إلَّا كَيْلًا وَبِدَلِيلِ الْحُكْمِ فَإِنَّ إتْلَافَ مَا دُونَ الْكَيْلِ فِي الطَّعَامِ لَا يُوجِبُ الْمِثْلَ بَلْ يُوجِبُ الْقِيمَةَ لِفَوَاتِ الْمُسَمَّى، وَالْمُفَاضَلَةُ وَالْمُجَازَفَةُ مَبْنِيَّتَانِ عَلَى الْكَيْلِ أَيْضًا إذْ الْمُرَادُ مِنْ الْمُفَاضَلَةِ رُجْحَانُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ كَيْلًا. وَالْمُرَادُ مِنْ الْمُجَازَفَةِ عَدَمُ الْعِلْمِ بِتَسَاوِيهِمَا أَوْ بِتَفَاضُلِهِمَا مَعَ احْتِمَالِ الْمُسَاوَاةِ وَالْمُفَاضَلَةِ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ صَدْرَ الْكَلَامِ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْقَلِيلَ الَّذِي لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ لِعَدَمِ جَرَيَانِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فِيهِ فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى حُرْمَةِ بَيْعِ الْحَفْنَةِ بِالْحَفْنَةِ أَوْ الْحَفْنَتَيْنِ، فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ بَلْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِاسْتِحَالَةِ اسْتِخْرَاجِ الْمُسَاوَاةِ الَّتِي هِيَ مَعْنًى مِنْ الْعَيْنِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ لَكِنْ إنْ جَعَلْتُمُوهُمَا سَوَاءً بِسَوَاءٍ فَبِيعُوا أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ فَيَبْقَى الصَّدْرُ مُتَنَاوِلًا لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَقَوْلُكُمْ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ أَوْلَى مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ الْعَمَلُ بِهَا مَجَازًا آخَرَ، وَقَدْ تَضَمَّنَ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ إلَّا بِإِضْمَارِ الْأَحْوَالِ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ وَالْإِضْمَارُ مِنْ أَبْوَابِ الْمَجَازِ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى إضْمَارِ الْأَحْوَالِ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْمُسْتَثْنَى الطَّعَامَ الْمَوْصُوفَ بِالْمُسَاوَاةِ أَيْ لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ مُتَسَاوِيَيْنِ كَانَا أَوْ غَيْرَ مُتَسَاوِيَيْنِ إلَّا الطَّعَامَ الْمُتَسَاوِيَ بِالطَّعَامِ الْمُتَسَاوِي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQفَبَقِيَ الْقَلِيلُ دَاخِلًا فِي عُمُومِ صَدْرِ الْكَلَامِ وَهُوَ بَيْعُ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ غَيْرَ مُتَسَاوِيَيْنِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ حَالٍ وَأَنَّهُ يَجِبُ إدْرَاجُ الْأَحْوَالِ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَحْوَالَ مُنْحَصِرَةٌ عَلَى الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ بَلْ الْعِلَّةُ مِنْ أَحْوَالِهِ كَالْمُفَاضَلَةِ وَالْمُجَازَفَةِ أَيْ لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ مِنْ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَالْمُفَاضَلَةِ وَالْمُجَازَفَةِ وَالْمُسَاوَاةِ إلَّا فِي حَالَةِ الْمُسَاوَاةِ فَيَبْقَى الْقَلِيلُ دَاخِلًا فِي الصَّدْرِ. قُلْنَا حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَاجِبٌ فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُنْقَطِعِ الَّذِي هُوَ مَجَازٌ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. قَوْلُهُمْ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ يَتَضَمَّنُ مَجَازًا آخَرَ قُلْنَا قَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الْمَجَازِ وَهُوَ الْإِضْمَارُ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ فَأَمَّا الْمَجَازُ الَّذِي ذَكَرْتُمْ فَلَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ فَتَرَجَّحَتْ الْحَقِيقَةُ عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ اسْتِثْنَاءَ الدِّينَارِ وَالْكُرِّ مِنْ الدَّرَاهِمِ جَازَ بِالِاتِّفَاقِ وَأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الثَّوْبِ وَالْعَبْدِ جَائِزٌ مِنْهَا عِنْدَ الْخَصْمِ وَلَا وَجْهَ لِصِحَّتِهِ إلَّا الْإِضْمَارَ أَيْ إلَّا مِقْدَارَ مَالِيَّةِ كَذَا فَثَبَتَ أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْمُتَّصِلِ مَعَ الْإِضْمَارِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمُنْقَطِعِ وَقَوْلُهُمْ هُوَ اسْتِثْنَاءُ عَيْنٍ لَا اسْتِثْنَاءُ حَالٍ قُلْنَا هُوَ اسْتِثْنَاءُ بَيْعِ الطَّعَامِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا اسْتِثْنَاءُ عَيْنٍ وَقَوْلُهُمْ لَا نُسَلِّمُ انْحِصَارَ الْأَحْوَالِ فِي الثَّلَاثِ قُلْنَا إنَّمَا حَكَمْنَا بِانْحِصَارِهَا فِي الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ» وَالطَّعَامُ إذَا ذُكِرَ مَقْرُونًا بِالْبَيْعِ أَوْ الشِّرَاءِ يُرَادُ بِهِ الْحِنْطَةُ وَدَقِيقُهَا. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ» وَلِهَذَا قَالُوا إذَا حَلَفَ لَا يَشْتَرِي طَعَامًا أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِشِرَاءِ الشَّعِيرِ وَالْفَاكِهَةِ وَإِنَّمَا يَحْنَثُ بِشِرَاءِ الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا، وَكَذَا لَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ طَعَامٍ فَاشْتَرَى فَاكِهَةً يَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ. وَسُوقُ الطَّعَامِ عِنْدَهُمْ اسْمٌ لِسُوقِ الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا وَيُسَمَّى مَا يُبَاعُ فِيهِ غَيْرُ الْحِنْطَةِ سُوقَ الشَّعِيرِ وَسُوقَ الْفَوَاكِهِ وَأَنَّهُ مِنْ أَبْوَابِ اللِّسَانِ لَا مِنْ فِقْهِ الشَّرِيعَةِ، ثُمَّ الْبَيْعُ لَا يُجْزِئُ بِاسْمِ الطَّعَامِ أَوْ الْحِنْطَةِ فَإِنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُ الْحَبَّةَ الْوَاحِدَةَ وَلَا يَبِيعُهَا أَحَدٌ وَلَوْ بَاعَهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَا صَارَ مُتَقَوِّمًا، وَلَا يُعْرَفُ مَالِيَّةُ الطَّعَامِ إلَّا بِالْكَيْلِ فَيَثْبُتُ وَصْفُ الْكَيْلِ بِمُقْتَضَى النَّصِّ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قِيلَ لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ الْمَكِيلَ بِالطَّعَامِ الْمَكِيلِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ انْحَصَرَ الْأَحْوَالُ فِيمَا ذَكَرْنَا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ، وَذَلِكَ أَيْ عُمُومُ الْأَحْوَالِ لَا يَسْتَقِيمُ إلَّا فِي الْمُقَدَّرِ وَهُوَ الَّذِي يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ إنَّمَا يُدْرَجُ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَا يُنَاسِبُ الْمُسْتَثْنَى بِوَصْفٍ خَاصٍّ لَا بِوَصْفٍ عَامٍّ فَإِنَّك إذَا قُلْت لَيْسَ فِي الدَّارِ إلَّا زَيْدٌ يُدْرَجُ فِي الْكَلَامِ إنْسَانٌ لَا حَيَوَانٌ وَلَا شَيْءٌ، فَهُنَا إنَّمَا يُدْرَجُ مَا يُنَاسِبُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْكَيْلِ وَهُوَ الْمُفَاضَلَةُ وَالْمُجَازَفَةُ لَا الْقِلَّةُ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْحَيَوَانِ وَالشَّيْءِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ. وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ» اسْتِثْنَاءٌ لِبَعْضِ الْأَحْوَالِ أَيْ لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إلَّا حَالَةَ التَّسَاوِي فِي الْكَيْلِ فَيَكُونُ تَوْقِيتًا لِلنَّهْيِ بِمَنْزِلَةِ الْغَايَةِ وَثَبَتَ بِهَذَا النَّصِّ أَنَّ حُكْمَ الرِّبَا الْحُرْمَةُ الْمُوَقَّتَةُ فِي الْمَحَلِّ دُونَ الْمُطْلَقَةِ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْحُرْمَةُ الْمُوَقَّتَةُ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يَقْبَلُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْكَيْلِ، فَأَمَّا فِي الْمَحَلِّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْمُسَاوَاةَ لَوْ ثَبَتَ إنَّمَا ثَبَتَ حُرْمَةً مُطْلَقَةً، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ حُكْمِ هَذَا النَّصِّ فَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الرِّبَا

وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ قَوْلَ الرَّجُلِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا ثَوْبًا أَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّ اسْتِخْرَاجَهُ لَا يَصِحُّ فَجُعِلَ نَفْيًا مُبْتَدَأً وَنَفْيُهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْأَلْفِ. وَأَمَّا إذَا اسْتَثْنَى الْمُقَدَّرَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هُوَ صَحِيحٌ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمَا قُلْنَا مِنْ الْأَصْلِ وَجُعِلَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا فَلَمْ يُنْقِصْ مِنْ الْأَلْفِ شَيْئًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْمُقَدَّرَاتِ جِنْسٌ وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهَا تَصْلُحُ ثَمَنًا وَلَكِنَّ الصُّوَرَ مُخْتَلِفَةٌ فَصَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْمَعْنَى، وَقَدْ قُلْنَا إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا مَعْنًى لَا صُورَةً فَإِذَا صَحَّ الِاسْتِخْرَاجُ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى بَقِيَ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى تَسْمِيَةُ الدَّرَاهِمِ بِلَا مَعْنًى وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى حَقِيقَةِ الِاسْتِثْنَاءِ فَلِذَلِكَ بَطَلَ قَدْرُهُ مِنْ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ مَا لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ مِنْ الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى مُخْتَلِفٌ فَلَمْ يَصِحَّ اسْتِخْرَاجُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي الْقَلِيلِ وَفِي الْمَطْعُومِ الَّذِي لَا يَكُونُ مَكِيلًا أَصْلًا. قَوْلُهُ (وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا) إلَى آخِرِهِ اسْتِثْنَاءُ الثَّوْبِ وَالْغَنَمِ مِنْ الدَّرَاهِمِ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ بِاتِّفَاقٍ مِنْ أَصْحَابِنَا وَيُجْعَلُ إلَّا فِيهِ بِمَعْنَى لَكِنْ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الِاسْتِدْرَاكُ؛ لِأَنَّ اسْتِخْرَاجَ الثَّوْبِ مِنْ الدَّرَاهِمِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ لَا يَتَنَاوَلُ الثَّوْبَ صُورَةً وَهُوَ ظَاهِرٌ وَلَا مَعْنَى؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ لَا يُنَاسِبُ الدَّرَاهِمَ فِي وَصْفٍ خَاصٍّ فَجُعِلَ نَفْيًا مُبْتَدَأً لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالدَّرَاهِمِ كَأَنَّهُ قَالَ إلَّا ثَوْبًا فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيَّ أَوْ لَكِنَّ الثَّوْبَ لَيْسَ عَلَيَّ وَنَفْيُهُ أَيْ نَفْيُ الثَّوْبِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْأَلْفِ أَيْ فِي وُجُوبِهِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِهِ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِك جَاءَنِي الْقَوْمُ إلَّا حِمَارًا لَا يُؤَثِّرُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْقَوْمِ بِوَجْهٍ لِعَدَمِ التَّعَلُّقِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِالنَّفْيِ بِأَنْ قَالَ لَكِنْ لَيْسَ لَهُ عَلَيَّ ثَوْبٌ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ عَنْ وُجُوبِ جَمِيعِ الْأَلْفِ عَلَيْهِ فَاللَّفْظُ الَّذِي لَا يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ دُونَ الصَّرِيحِ. وَأَمَّا إذَا اسْتَثْنَى الْمُقَدَّرَ وَهُوَ الَّذِي لَهُ مُقَدَّرٌ فِي الْعُرْفِ أَوْ الشَّرْعِ مِثْلُ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِ الْمُتَقَارِبِ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ أَيْ مِنْ مُقَدَّرٍ آخَرَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِأَنْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا دِينَارًا أَوْ فَلْسًا أَوْ إلَّا كُرَّ حِنْطَةٍ فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هُوَ صَحِيحٌ أَيْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ صَحِيحٌ وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَصِحُّ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَالْمُرَادُ بِالصِّحَّةِ وَعَدَمِهَا كَوْنُ الِاسْتِثْنَاءِ مُؤَثِّرًا فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِالْمَنْعِ وَعَدَمُ تَأْثِيرِهِ فِيهِ لَا عَدَمُ صِحَّةِ التَّلَفُّظِ بِهِ لُغَةً كَاسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ فَإِنَّ التَّلَفُّظَ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ صَحِيحٌ لُغَةً بِلَا خِلَافٍ. لِمَا قُلْنَا مِنْ الْأَصْلِ وَهُوَ أَنَّ اسْتِخْرَاجَهُ لَا يَصِحُّ فَجُعِلَ نَفْيًا مُبْتَدَأً، وَبَيَانُهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ اسْتِخْرَاجٌ وَتَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْجُمْلَةِ وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ إلَّا فِيمَا يَكُونُ الْمُسْتَثْنَى دَاخِلًا تَحْتَ الْجُمْلَةِ لَوْلَا الِاسْتِثْنَاءُ، وَخِلَافُ الْجِنْسِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الصَّدْرِ فَلَا يُتَصَوَّرُ اسْتِخْرَاجُهُ وَبَيَانُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فَيُجْعَلُ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا بِمَعْنَى لَكِنْ أَيْ لَكِنْ الدِّينَارُ أَوْ كُرُّ الْحِنْطَةِ لَيْسَ عَلَيَّ فَلَا يُؤَثِّرُ نَفْيُهُ فِي الْأَلْفِ كَمَا فِي اسْتِثْنَاءِ الثَّوْبِ وَالشَّاةِ فَهَذَا بَيَانُ وَجْهِ الْقِيَاسِ، وَقَوْلُهُ فَلَمْ يُنْقِصْ مِنْ النَّقْصِ الَّذِي هُوَ مُعْتَدِلًا مِنْ النُّقْصَانِ أَيْ لَمْ يُنْقِصْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْأَلْفِ شَيْئًا. وَأَمَّا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ فَهُوَ أَنَّ الْمُقَدَّرَاتِ جِنْسٌ وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا تَصْلُحُ ثَمَنًا حَتَّى لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِكُرٍّ مَوْصُوفٍ مِنْ الْحِنْطَةِ أَوْ بِكَذَا مَنًّا مِنْ الدُّهْنِ أَوْ بِكَذَا مِنْ الْجَوْزِ جَازَ الْبَيْعُ وَيَتَعَيَّنُ الْكُرُّ أَوْ الدُّهْنُ أَوْ الْجَوْزُ ثَمَنًا وَتَجِبُ أَيْضًا فِي الذِّمَّةِ مَا هُوَ مَالٌ وَمَا لَيْسَ بِمَالٍ حَالَّةً وَمُؤَجَّلَةً وَيَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهَا فَصَارَ الْجِنْسُ وَاحِدًا مِنْ حَيْثُ الثُّبُوتُ فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا صَحِيحًا وَلَكِنَّ الصُّوَرَ مُخْتَلِفَةٌ فَإِنَّ الدِّينَارَ غَيْرُ الدَّرَاهِمِ وَالْكُرُّ غَيْرُهُمَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ اسْتِخْرَاجًا بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ وَتَكَلُّمًا بِالْبَاقِي بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى فَيَمْتَنِعُ الْوُجُوبُ بِقَدْرِ الدِّينَارِ أَوْ الْكُرِّ مِنْ الْأَلْفِ، وَقَدْ قُلْنَا إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي مَعْنًى لَا صُورَةً فَإِنَّ صُورَةَ التَّكَلُّمِ بِالْأَلْفِ قَدْ وُجِدَتْ بِلَا شُبْهَةٍ وَلَكِنْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ عَلَيَّ تِسْعُمِائَةٍ فِي قَوْلِهِ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا مِائَةً. وَإِذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ اسْتِخْرَاجًا وَتَكَلُّمًا بِالْبَاقِي مَعْنًى لَا صُورَةً صَحَّ اسْتِثْنَاءُ الْكُرِّ مِنْ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِخْرَاجٌ مَعْنَوِيٌّ أَيْضًا، وَإِذَا صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ بَقِيَ الْمَعْنَى أَيْ مَعْنَى صَدْرِ الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيَّ أَلْفٌ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى

وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قُلْنَا فِيمَنْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً أَنَّهُ يَصِحُّ مَوْصُولًا؛ لِأَنَّهُ بَيَانٌ مُغَيِّرٌ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ حِفْظًا إلَّا أَنَّهُ تَغْيِيرٌ لِلْحَقِيقَةِ فَصَحَّ مَوْصُولًا وَكَذَلِكَ رَجُلٌ قَالَ أَسْلَمْتَ إلَيَّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كَذَا لَكِنِّي لَمْ أَقْبِضْهَا أَوْ أَسْلَفْتنِي أَوْ أَقْرَضْتنِي أَوْ أَعْطَيْتنِي فَفِي هَذَا كُلِّهِ يُصَدَّقُ بِشَرْطِ الْوَصْلِ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ لِلتَّسْلِيمِ، وَقَدْ تَحْتَمِلُ الْعَقْدَ فَصَارَ النَّقْلُ إلَى الْعَقْدِ بَيَانًا مُغَيِّرًا ـــــــــــــــــــــــــــــQوَهُوَ الْكُرُّ تَسْمِيَةَ الدَّرَاهِمِ بِلَا مَعْنَى يَعْنِي صَارَ كَأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِالدَّرَاهِمِ مِنْ الْأَلْفِ بِقَدْرِ مَالِيَّةِ الْكُرِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ الْمِقْدَارِ مِنْ الدَّرَاهِمِ مَعْنًى كَمَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الْجِنْسِ، وَذَلِكَ أَيْ بَقَاءُ صَدْرِ الْكَلَامِ تَسْمِيَةً بِلَا مَعْنًى فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى هُوَ مَعْنَى حَقِيقَةِ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا مِائَةً بَقِيَ التَّكَلُّمُ بِالْأَلْفِ فِي حَقِّ الْمِائَةِ الْمُسْتَثْنَاةِ تَسْمِيَةً مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ لَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَلِذَلِكَ أَيْ فَلِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْكُرِّ مِنْ الدَّرَاهِمِ مِثْلُ اسْتِثْنَاءِ بَعْضِهَا مِنْهَا مَعْنًى بَطَلَ قَدْرُهُ أَيْ قَدْرُ الْمُسْتَثْنَى مِنْ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِخِلَافِ مَا لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ مِنْ الْأَمْوَالِ مِثْلِ الثَّوْبِ وَالشَّاةِ وَنَحْوِهِمَا. ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَيْ مَعْنَى الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مُخْتَلِفٌ كَاخْتِلَافِ صُورَتِهِمَا فَإِنَّ الثَّوْبَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ وُجُوبًا فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ إلَّا بِطَرِيقٍ خَاصٍّ وَهُوَ السَّلَمُ فَلَا يَصِحُّ اسْتِخْرَاجُهُ أَيْ اسْتِخْرَاجُ مَا لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ لِانْتِفَاءِ الْمُجَانَسَةِ صُورَةً وَمَعْنًى. وَأَمَّا مَا اعْتَبَرَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ لِإِثْبَاتِ الْمُجَانَسَةِ فَذَلِكَ مَعْنًى عَامٌّ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُهُ إذْ لَوْ اُعْتُبِرَ مِثْلُهُ أَدَّى إلَى جَوَازِ اسْتِثْنَاءِ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْوُجُودِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَكَذَا هَذَا وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْفَرْقَ فِي الْأَسْرَارِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ وَهِيَ أَنَّهُ إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا دِرْهَمًا فَعَيَّنَ الدِّرْهَمَ بِمَعْنَاهَا مُسْتَخْرَجَةً عَنْ الْأَلْفِ فَصَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ حَقِيقَةً، وَإِذَا قَالَ إلَّا دِينَارًا أَوْ قَفِيزَ حِنْطَةٍ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ عَنْ صِفَةِ الْوُجُوبِ لِلدَّرَاهِمِ فَإِنَّ الْجُمْلَةَ قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ دَرَاهِمُ وَاجِبَةٌ وَالْمَكِيلَاتُ وَالْمَوْزُونَاتُ فِي حَقِّ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ جِنْسٌ وَاحِدٌ يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِسَبَبٍ خَاصٍّ بِالْإِتْلَافِ وَالِالْتِزَامِ وَالْمُدَايِنَاتِ جَمِيعًا فَسَقَطَ الْوُجُوبُ مِنْ الدَّرَاهِمِ بِقَدْرِ مَا اسْتَثْنَى مِنْهَا مِنْ الْحِنْطَةِ فَلَا يُمْكِنُ بَيَانُ الْقَدْرِ إلَّا بِالْمَعْنَى فَاعْتُبِرَ بِهِ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فَأَمَّا إذَا قَالَ إلَّا ثَوْبًا فَالثِّيَابُ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ عَيْنًا وَلَا وُجُوبًا؛ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ إلَّا سَلَمًا فَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُجْعَلَ اسْتِخْرَاجًا لَا فِي حَقِّ عَيْنِ الدَّرَاهِمِ وَلَا وُجُوبِهَا فَبَقِيَ مَا مَضَى عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ وَصَارَ مَجَازًا بِمَعْنَى وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ ثَوْبٌ عَلَيَّ. قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ) وَهُوَ أَنَّ الْبَيَانَ الْمُغَيِّرَ لَا يَصِحُّ إلَّا مَوْصُولًا قُلْنَا إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَوْ قِبَلِي أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ إنْ وَصَلَ وَلَا يُصَدَّقُ إنْ فَصَلَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُصَدَّقُ وَإِنْ فَصَلَ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ يَحْتَمِلُ الْغَصْبَ وَالْوَدِيعَةَ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرَكِ أَوْ الْمُجْمَلِ فَكَانَ قَوْلُهُ وَدِيعَةً بَيَانَ تَفْسِيرٍ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا وَمَفْصُولًا كَمَا إذَا قَالَ هِيَ زُيُوفٌ وَقُلْنَا قَوْلُهُ وَدِيعَةً بَيَانٌ مُغَيِّرٌ لَا مُفَسِّرٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ حَقِيقَةُ الْإِقْرَارِ بِوُجُوبِ نَفْسِ الْأَلْفِ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ بِوُجُوبِ الْحِفْظِ عَلَيْهِ مَجَازًا بِطَرِيقِ حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ عَلَى حِفْظِ أَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ بِطَرِيقِ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ كَقَوْلِك جَرَى النَّهْرُ وَسَالَ الْمِيزَابُ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ مَحَلُّ الْحِفْظِ الْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ فَكَانَ قَوْلُهُ وَدِيعَةً لِبَيَانِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّتِهِ حِفْظُهَا وَإِمْسَاكُهَا إلَى أَنْ يُؤَدِّيَهَا إلَى صَاحِبِهَا لَا أَصْلُ الْمَالِ، وَتَغْيِيرًا لِمَا اقْتَضَاهُ حَقِيقَةُ الْكَلَامِ مِنْ وُجُوبِ أَصْلِ الْمَالِ وَرُجُوعِهِ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَمِثْلُ قَوْلِهِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً فِي كَوْنِهِ مَبْنِيًّا عَلَى الْبَيَانِ الْمُغَيِّرِ قَوْلُهُ أَسْلَمْتَ إلَيَّ إلَى آخِرِهِ وَقَوْلُهُ يُصَدَّقُ بِشَرْطِ الْوَصْلِ اسْتِحْسَانًا يُوهِمُ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقِيَاسِ وَإِنْ وَصَلَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَلَكِنِّي أَوْ إلَّا أَنِّي لَمْ

وَإِذَا قَالَ دَفَعْتَ إلَيَّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ نَقَدْتَنِي لَكِنِّي لَمْ أَقْبِضْ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ النَّقْدَ وَالدَّفْعَ بِمَعْنَى الْإِعْطَاءِ لُغَةً فَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَعَارَ لِلْعَقْدِ أَيْضًا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُصَدَّقُ؛ لِأَنَّهُمَا اسْمَانِ مُخْتَصَّانِ لِلتَّسْلِيمِ وَالْفِعْلِ. وَأَمَّا الْإِعْطَاءُ فَهِبَةٌ فَيَصْلُحُ أَنْ يُسْتَعَارَ لِلْعَقْدِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَقْبِضْهَا رُجُوعٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ دَفَعْتَ إلَيَّ إلَّا أَنِّي لَمْ أَقْبِضْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالرُّجُوعُ لَا يَصِحُّ مَوْصُولًا وَمَفْصُولًا فَيَكُونُ قَوْلُهُ اسْتِحْسَانًا مُتَعَلِّقًا بِيُصَدَّقُ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَلِّقٍ بِهِ بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ بِشَرْطِ الْوَصْلِ يَعْنِي: اشْتِرَاطُ الْوَصْلِ لِلتَّصْدِيقِ اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُشْتَرَطَ الْوَصْلُ بَلْ يُصَدَّقُ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ إذَا وَصَلَ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ كَلَامِهِ إقْرَارٌ بِالْعَقْدِ وَهُوَ الْقَرْضُ وَالسَّلَمُ الْوَدِيعَةُ وَالْعَطِيَّةُ فَكَانَ قَوْلُهُ لَمْ أَقْبِضْهَا بَيَانًا لَا رُجُوعًا وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ مَفْصُولًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَيْضًا فِي الْقِيَاسِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ إقْرَارٌ بِالْعَقْدِ فَكَانَ هَذَا وَقَوْلُهُ ابْتَعْتُ مِنْ فُلَانٍ بَيْعًا سَوَاءً يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِفِعْلِ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ أَضَافَ الْفِعْلَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي إنْكَارِ الْقَبْضِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ تَقْتَضِي تَسْلِيمَ الْمَالِ إلَيْهِ فَإِنَّ الْقَرْضَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْقَبْضِ، وَكَذَا السَّلَفُ وَالسَّلَفُ أَخْذُ عَاجِلٍ بِآجِلٍ، وَكَذَا الْإِعْطَاءُ فِعْلٌ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ فَكَانَ كَلَامُهُ إقْرَارًا بِالْقَبْضِ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ عِبَارَاتٍ عَنْ الْعَقْدِ مَجَازًا فَإِنَّ الْإِسْلَامَ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَالِ يُطْلَقُ عَلَى عَقْدِ السَّلَمِ يُقَالُ أَسْلَمَ فُلَانٌ إلَى فُلَانٍ عَشَرَةً فِي كَذَا وَلَمْ يُسْلِمْ إلَيْهِ رَأْسَ الْمَالِ، وَيُقَالُ فُلَانٌ أَقْرَضَ فُلَانًا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَلَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ يُرِيدُونَ بِهِ الْعَقْدَ. وَكَذَا الْإِيدَاعُ وَالْإِعْطَاءُ فَكَانَ قَوْلُهُ لَمْ أَقْبِضْ بَيَانَ تَغْيِيرٍ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا، وَإِذَا قَالَ دَفَعْتَ إلَيَّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ نَقَدْتَنِي لَكِنِّي أَوْ إلَّا أَنِّي لَمْ أَقْبِضْ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَعْنِي يُصَدَّقُ فِيهِ وَاصِلًا لَا فَاصِلًا؛ لِأَنَّ النَّقْدَ وَالدَّفْعَ وَالْإِعْطَاءَ سَوَاءٌ فَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَعَارَ النَّقْدُ وَالدَّفْعُ لِلْعَقْدِ كَالْإِعْطَاءِ إطْلَاقًا لِاسْمِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ وَلِأَنَّ الدَّفْعَ إلَيْهِ عِبَارَةٌ عَنْ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ، وَالْقَبْضُ شَرْطٌ لِنَفَاذِ حُكْمِ التَّسْلِيمِ وَتَمَامِهِ فَصَارَ قَوْلُهُ إلَّا أَنِّي لَمْ أَقْبِضْ اسْتِثْنَاءً لِبَعْضِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُصَدَّقُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُمَا أَيْ النَّقْدُ وَالدَّفْعُ اسْمَانِ مُخْتَصَّانِ بِالتَّسْلِيمِ وَالْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُطْلَقَا عَلَى غَيْرِ الْفِعْلِ أَصْلًا وَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ عَقْدٌ يُسَمَّى دَفْعًا أَوْ نَقْدًا فَلَا يَتَنَاوَلَانِ الْعَقْدَ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا فَكَانَ قَوْلُهُ إلَّا أَنِّي لَمْ أَقْبِضْ أَوْ لَكِنِّي لَمْ أَقْبِضْ رُجُوعًا لَا بَيَانًا فَلَا يُقْبَلُ مَوْصُولًا وَلَا مَفْصُولًا، فَأَمَّا الْإِعْطَاءُ فَهِبَةٌ أَيْ اُسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى الْهِبَةِ يُقَالُ عَقْدُ الْهِبَةِ وَعَقْدُ الْعَطِيَّةِ وَلَوْ قَالَ أَعْطَيْتُك هَذَا يَصِيرُ هِبَةً فَيَصْلُحُ أَنْ يُسْتَعَارَ لِلْعَقْدِ فَكَانَ قَوْلُهُ إلَّا أَنِّي لَمْ أَقْبِضْ فِيهِ بَيَانًا لَا رُجُوعًا. وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَسْرَارِ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الدَّفْعَ عِبَارَةٌ عَنْ التَّسْلِيمِ وَقَوْلُهُ إلَيَّ عِبَارَةٌ عَنْ الْوُصُولِ فَهُمَا كَلِمَتَانِ تَحْتَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ضَرْبُ إقْرَارٍ فَإِذَا اُسْتُثْنِيَ أَحَدُهُمَا بِعَيْنِهِ لَمْ يَصِحَّ كَمَا إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ إلَّا دِرْهَمًا وَكَذَلِكَ نَقَدْتَنِي عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلِ نَقَدَ يَتَعَدَّى إلَيْهِ كَقَوْلِك ضَرَبْتنِي، وَلَوْ قَالَ ضَرَبْتُك إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْكَ أَوْ قَذَفْتُكَ إلَّا إنِّي لَمْ أَضِفْ إلَيْك لَمْ يَكُنْ اسْتِثْنَاءً بَلْ إبْطَالًا لِأَصْلِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ لَا يَبْقَى قَذْفًا إيَّاهُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُتَعَدِّيَ لَا يَبْقَى بِدُونِ الْمُتَعَدَّى إلَيْهِ بِخِلَافِ الْإِعْطَاءِ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ عَقْدِ الْهِبَةِ وَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ عِبَارَةٌ عَنْ عَقْدِ السَّلَمِ وَالْعَقْدُ يَتَعَدَّى إلَى الْآخَرِ قَبْلَ الْقَبْضِ حَتَّى إذَا حَلَفَ لَا يَهَبُ لَهُ فَوَهَبَ وَلِمَ يُسْلِمْ حَنِثَ، وَكَذَلِكَ السَّلَمُ، وَكَذَلِكَ

وَإِذَا أَقَرَّ بِالدِّرْهَمِ قَرْضًا أَوْ ثَمَنَ بَيْعٍ، وَقَالَ هِيَ زُيُوفٌ صَحَّ عِنْدَهُمَا مَوْصُولًا؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ نَوْعَانِ جِيَادٌ وَزُيُوفٌ إلَّا أَنَّ الْجِيَادَ غَالِبَةٌ فَصَارَ الْآخَرُ كَالْمَجَازِ فَصَحَّ التَّغْيِيرُ إلَيْهِ مَوْصُولًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُقْبَلُ وَإِنْ وَصَلَ؛ لِأَنَّ الزِّيَافَةَ عَارِضَةٌ وَعَيْبٌ فَلَا يَحْتَمِلُهُ مُطْلَقُ الِاسْمِ بَلْ يَكُونُ رُجُوعًا كَدَعْوَى الْأَجَلِ فِي الدَّيْنِ وَدَعْوَى الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْإِيدَاعُ عَقْدُ اسْتِحْفَاظٍ وَأَنَّهُ عُقِدَ مَعَهُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ وَنَظِيرُهُ مَا إذَا قَالَ بِعْتُك عَبْدِي بِأَلْفٍ إلَّا أَنَّك لَمْ تَقْبَلْهُ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَكُونُ بَيْعًا إلَّا بِقَبُولٍ وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ طَلَّقْتُك أَمْسِ عَلَى أَلْفٍ فَلَمْ تَقْبَلِي كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ يَتِمُّ بِغَيْرِ قَبُولٍ إنَّمَا الْقَبُولُ شَرْطُ النَّفَاذِ. قَوْلُهُ (وَإِذَا أَقَرَّ بِالدَّرَاهِمِ قَرْضًا أَوْ ثَمَنَ بَيْعٍ) احْتَرَزَ بِهِ عَمَّا إذَا أَقَرَّ بِالدَّرَاهِمِ غَصْبًا أَوْ وَدِيعَةً وَقَالَ هِيَ زُيُوفٌ فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ، مُوجِبٌ فِي الْجِيَادِ دُونَ الزُّيُوفِ وَلَكِنَّ الْغَاصِبَ يَغْصِبُ مَا يَجِدُ وَالْمُودِعُ يُودِعُ غَيْرَهُ مَا يَحْتَاجُ إلَى الْحِفْظِ فَلَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ هِيَ زُيُوفٌ تَغْيِيرُ أَوَّلِ كَلَامٍ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا وَمَفْصُولًا وَعَمَّا إذَا أَطْلَقَ وَلَمْ يُبَيِّنْ السَّبَبَ فَقَالَ عَلَيَّ دِرْهَمٌ زَيْفٌ فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ إذَا وَصَلَ بِالِاتِّفَاقِ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْجُودَةِ إنَّمَا تَصِيرُ مُسْتَحَقَّةً بِمُقْتَضَى عَقْدِ التِّجَارَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى مَا تَبَيَّنَ فَإِذَا لَمْ يُصَرِّحْ فِي كَلَامِهِ بِجِهَةِ التِّجَارَةِ لَا تَصِيرُ صِفَةُ الْجُودَةِ مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهِ فَيُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَى جِهَةٍ يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ فَأَمَّا إذَا بَيَّنَ جِهَةَ الْقَرْضِ أَوْ الْبَيْعِ وَقَالَ هِيَ زُيُوفٌ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ فَنُبَيِّنُ كُلَّ فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ، فَنَقُولُ إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثَمَنَ بَيْعٍ إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ يُصَدَّقُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إنْ وَصَلَ وَلَا يُصَدَّقُ إنْ فَصَلَ؛ لِأَنَّ الزُّيُوفَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ حَتَّى حَصَلَ بِهَا الِاسْتِيفَاءُ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ. وَكَذَا نَقْدُ بَلْدَةٍ أُخْرَى سِوَى بَلْدَتِهِمَا يَكُونُ زَيْفَ بَلَدِهِمَا فَكَانَ قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ وَقَوْلُهُ إلَّا أَنَّهَا نَقْدُ بَلَدِ كَذَا سَوَاءً فَيَكُونُ بَيَانًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ مَوْصُولًا وَمَفْصُولًا؛ لِأَنَّهُ يُشَابِهُ بَيَانَ الْمُشْتَرَكِ وَيَصِيرُ كَقَوْلِهِ لَهُ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ، ثُمَّ قَالَ هُوَ رَدِيٌّ يُصَدَّقُ وَإِنْ فَصَلَ إلَّا أَنَّ فِيهِ تَغْيِيرًا لِمَا اقْتَضَاهُ أَوَّلُ الْكَلَامِ مِنْ حَيْثُ الْعَادَةُ؛ لِأَنَّ بِيَاعَاتِ النَّاسِ تَكُونُ بِالْجِيَادِ دُونَ الزُّيُوفِ فَكَانَتْ الدَّرَاهِمُ لِلْجِيَادِ بِمَنْزِلَةِ الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ وَلِلزُّيُوفِ بِمَنْزِلَةِ الْمَجَازِ فَيَصِحُّ التَّغْيِيرُ إلَيْهَا مَوْصُولًا كَقَوْلِهِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا أَنَّهَا وَزْنُ خَمْسَةٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يُصَدَّقْ فِي دَعْوَى الزِّيَافَةِ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ وَيَلْزَمُهُ الْجِيَادُ؛ لِأَنَّ الزِّيَافَةَ اسْمٌ لِعَيْبٍ وَغِشٍّ فِيهَا ثَبَتَ بِعَارِضِ صَنْعَةٍ وَالْبَيْعُ مُوجَبُهُ سَلَامَةُ الْبَدَلِ الْمُسْتَحَقِّ بِهِ عَنْ الْعَيْبِ فَيَصِيرُ دَعْوَى الزِّيَافَةِ مِنْ الْمُشْتَرِي دَعْوَى أَمْرٍ عَارِضٍ يُخَالِفُ مُوجَبَ الْعَقْدِ فَلَا تَصِحُّ كَمَا لَوْ ادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّ الْمَبِيعَ مَعِيبٌ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ إذَا أَنْكَرَهُ الْمُشْتَرِي، وَهَذَا؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ الْعَيْبَ رُجُوعٌ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْعَقْدِ مُطْلَقًا الْتِزَامُ مَا هُوَ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ وَهُوَ السَّلَامَةُ عَنْ الْعَيْبِ فَبِقَوْلِهِ كَانَ مَعِيبًا يَصِيرُ رَاجِعًا عَنْ الْإِقْرَارِ لَا يَصِحُّ مَوْصُولًا كَانَ أَمْ مَفْصُولًا، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ إلَّا أَنَّهُ نَقْدُ بَلَدِ كَذَا؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ النَّقْدِ لَا تَكُونُ دَعْوَى عَيْبٍ؛ لِأَنَّ النَّقْدَ اسْمٌ لِلرَّايِجِ بَلْ يَكُونُ ذِكْرَ تَنْوِيعٍ وَمَا لِلْبَيْعِ مُوجِبٌ فِي نَوْعٍ بِعَيْنِهِ مِنْ النُّقُودِ بَلْ يَتَعَيَّنُ نَقْدُ بَلَدِهِمَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ بِحُكْمِ الْعُرْفِ لَا بِمُوجَبِ الْعَقْدِ فَإِذَا عَيَّنَ نَقْدًا آخَرَ لَمْ يُعْتَبَرْ الْعُرْفُ كَمَا فِي ابْتِدَاءِ الشِّرَاءِ إذَا أَطْلَقَ يَلْزَمُهُ نَقْدُ الْبَلَدِ، وَإِذَا سَمَّى نَقْدًا آخَرَ لَزِمَهُ مَا سَمَّى فَأَمَّا الزِّيَافَةُ فَاسْمٌ لِخَلَلٍ فِي النَّقْدِ أَيْنَمَا كَانَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ إلَّا أَنَّهُ رَدِيءٌ؛ لِأَنَّ الرَّدَاءَةَ فِي الْحِنْطَةِ ذِكْرُ نَوْعٍ لَا ذِكْرُ عَيْبٍ كَالْهِنْدِيِّ وَالْحَبَشِيِّ وَالتُّرْكِيِّ فِي الْعَبِيدِ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ تُخْلَقُ جَيِّدَةً وَرْدِيَّةً وَوَسَطًا كَمَا يُخْلَقُ الْعَبْدُ ذَمِيمًا وَحَسَنًا وَوَسَطًا، وَالْعَيْبُ

وَإِذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ جَارِيَةٍ بَاعَنِيهَا لَكِنِّي لَمْ أَقْبِضْهَا لَمْ يُصَدَّقْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي قَوْلِهِ لَمْ أَقْبِضْهَا وَصَدَّقَهُ فِي الْجِهَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا يَخْلُو عَنْهُ أَصْلُ الْفِطْرَةِ الَّتِي هِيَ أَسَاسٌ فِي الْأَصْلِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ بِعْتُك هَذِهِ الْحِنْطَةَ وَأَشَارَ إلَيْهَا وَالْمُشْتَرِي كَانَ رَآهَا فَوَجَدَ رَدِيَّةً وَلَمْ يَكُنْ عَلِمَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَلَوْ قَالَ بِعْتُك بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ وَأَشَارَ إلَيْهَا وَهِيَ زُيُوفٌ اسْتَحَقَّ مِثْلَهَا جِيَادًا لَا زِيَافَةَ فِيهَا وَلَوْ كَانَتْ النُّقُودُ مُخْتَلِفَةً. وَمَا أَشَارَ إلَيْهَا نَقْدٌ فَوْقَهُ نَقْدٌ آخَرُ اسْتَحَقَّ مِثْلَهَا مِنْ ذَلِكَ لَا مِمَّا هُوَ فَوْقَهُ فَعُلِمَ أَنَّ الزِّيَافَةَ عَيْبٌ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ بِعْتُك هَذِهِ الْجَارِيَةَ وَهِيَ مَعِيبَةٌ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَسْتَحِقُّهَا غَيْرَ مَعِيبَةٍ وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ إلَّا أَنَّهَا وَزْنُ خَمْسَةٍ؛ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ لِبَعْضِ الْقَدْرِ وَمَا لِلْبَيْعِ مُوجِبٌ فِي قَدْرٍ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إلَّا مِائَةً كَذَا فِي الْأَسْرَارِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَضْلِ الْكَرْمَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَهُمَا نَظَرَا إلَى الْعُرْفِ فَوَجَدَا الزِّيَافَةَ كَثِيرَةَ الْوُجُودِ عُرْفًا وَاسْتِعْمَالًا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَظَرَ إلَى الْأَصْلِ فَقَالَ الْأَصْلُ هُوَ السَّلَامَةُ فَلَا يُعْرَضُ عَنْهُ إلَّا إذَا صَارَ مَهْجُورًا مِنْ كُلّ وَجْهٍ فَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الْحَقِيقَةِ وَمَا قَالَاهُ أَقْرَبُ إلَى الْفِقْهِ بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ. وَأَمَّا إذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ قَرْضٍ إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَقْرَضَ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ فَكَانَ هُوَ وَثَمَنُ الْبَيْعِ سَوَاءً وَالِاسْتِقْرَاضُ مُتَعَامَلٌ بَيْنَ النَّاسِ كَالْبَيْعِ، وَذَلِكَ فِي الْجِيَادِ عَادَةً. وَذَكَرَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هَاهُنَا يُصَدَّقُ إذَا وَصَلَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَقْرَضَ إنَّمَا يَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ بِالْقَبْضِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ وَلَوْ أَقَرَّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ غَصْبٍ وَقَالَ هِيَ زُيُوفٌ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا إلَّا أَنَّ هَاهُنَا لَا يُصَدَّقُ إذَا فَصَلَ مَا فِيهِ مِنْ شَبَهِ الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ الْمُعَامَلَةُ بَيْنَ النَّاسِ بِخِلَافِ الْغَصْبِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ كَدَعْوَى الْأَجَلِ فِي الدَّيْنِ بِأَنْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مُؤَجَّلٌ أَوْ عَلَيَّ دِرْهَمٌ مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ بَاعَنِيهِ وَأَجَّلَنِي إلَى كَذَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْآجِلِ إذَا أَنْكَرَهُ الطَّالِبُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الدَّيْنِ الْحُلُولُ وَالْأَجَلُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِعَارِضِ الشَّرْطِ فَكَانَ ادِّعَاءُ الْأَجَلِ رُجُوعًا لَا بَيَانًا وَدَعْوَى الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ بِأَنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ عَلَى أَنَّهُ فِيهِ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَكَذَّبَهُ صَاحِبُهُ أَوْ أَقَرَّ الْبَائِعُ بِبَيْعِ شَيْءٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَكَذَّبَهُ الْمُشْتَرِي لَمْ يَثْبُتْ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْبَيْعِ اللُّزُومُ وَالْخِيَارُ يَثْبُتُ بِعَارِضٍ فَمَنْ ادَّعَى تَغْيِيرَهُ بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ وَكَانَ رَاجِعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ لَا مُبَيِّنًا . قَوْلُهُ (وَإِذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى بَيَانِ التَّغْيِيرِ عِنْدَهُمَا وَبَيَانُهَا أَنَّهُ إذَا قَالَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ جَارِيَةِ بَاعَنِيهَا إلَّا أَنِّي لَمْ أَقْبِضْهَا لَمْ يُصَدَّقْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي قَوْلِهِ لَمْ أَقْبِضْهَا سَوَاءٌ صَدَّقَهُ فِي الْجِهَةِ بِأَنْ يَقُولَ نَعَمْ كَانَ الْأَلْفُ عَلَيْهِ ثَمَنَ جَارِيَةٍ وَلَكِنَّهُ قَدْ قَبَضَهَا أَوْ كَذَّبَهُ فِي الْجِهَةِ بِأَنْ يَقُولَ مَا بِعْتُك جَارِيَةً وَلَكِنَّ الْأَلْفَ الَّذِي عَلَيْك مِنْ قَرْضٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ ادَّعَى الْأَلْفَ مُطْلَقًا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إنْ صَدَّقَ الْمُقَرُّ لَهُ الْمُقِرَّ فِي الْجِهَةِ بِأَنْ قَالَ الْأَلْفُ مِنْ ثَمَنِ الْبَيْعِ صُدِّقَ الْمُقِرُّ فِي قَوْلِهِ لَمْ أَقْبِضْهَا وَصَلَ أَمْ فَصَلَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إقْرَارٌ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ وَقَوْلَهُ لَهُ مِنْ ثَمَنِ كَذَا بَيَانٌ لِسَبَبِ الْوُجُوبِ فَإِذَا صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي هَذَا السَّبَبِ يَثْبُتُ بِتَصَادُقِهِمَا، ثُمَّ الْمَالُ بِهَذَا السَّبَبِ يَكُونُ وَاجِبًا قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ يَجِبُ بِنَفْسِ الْبَيْعِ وَلَا يَسْقُطُ بِغَيْبَةِ الْجَارِيَةِ بِإِبَاقٍ وَلَا غَيْرِهِ وَإِنَّمَا يَتَأَكَّدُ بِالْقَبْضِ فَصَارَ الْبَائِعُ مُدَّعِيًا عَلَيْهِ تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ

أَوْ كَذَّبَهُ فِي الْجِهَةِ وَادَّعَى الْمَالَ، وَقَالَا إنْ صَدَّقَهُ فِي الْجِهَةِ صُدِّقَ وَإِنْ فَصَلَ؛ لِأَنَّهُ إذَا صَدَّقَهُ فِيهَا ثَبَتَ الْبَيْعُ فَيُقْبَلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي إنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ وَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ وَإِنْ كَذَّبَهُ فِيهَا صُدِّقَ إذَا وَصَلَ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيَانٌ مُغَيِّرٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَيْعِ وُجُوبُ الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ، وَقَدْ يَجِبُ الثَّمَنُ غَيْرَ مُطَالَبٍ بِهِ بِأَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ غَيْرَ مَقْبُوضٍ فَصَارَ قَوْلُهُ غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَقْبِضْهَا مُغَيِّرًا لِلْأَصْلِ، وَلَمَّا كَانَ كَوْنُ الْمَبِيعِ غَيْرَ مَقْبُوضِ أَحَدِ مُحْتَمَلَيْهِ لَا مِنْ الْعَوَارِضِ كَانَ بَيَانًا مُغَيِّرًا فَصَحَّ مَوْصُولًا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ هَذَا رُجُوعٌ وَلَيْسَ بِبَيَانٍ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الثَّمَنِ مُقَابَلًا بِمَبِيعٍ لَا يُعْرَفُ أَثَرُهُ دَلَالَةَ قَبْضِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَجَعَلْنَا قَوْلَ الْمُنْكِرِ فِي إنْكَارِ الْقَبْضِ. وَإِنْ كَذَّبَ الْمُقَرُّ لَهُ الْمُقِرَّ فِي الْجِهَةِ بِأَنْ قَالَ الْأَلْفُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى سِوَى الْبَيْعِ صُدِّقَ الْمُقِرُّ فِي قَوْلِهِ لَمْ أَقْبِضْهَا إذَا وَصَلَ وَلَمْ يُصَدَّقْ إذَا فَصَلَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَمْ أَقْبِضْ تَغْيِيرٌ لِمُقْتَضَى مُطْلَقِ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْكَلَامِ الْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ مُطَالَبًا بِالْمَالِ فِي الْحَالِ وَلَكِنْ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ مُطَالَبًا بِهِ حَتَّى تَحْضُرَ الْجَارِيَةُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَشْتَرِي جَارِيَةً بِأَلْفٍ فَتَأْبَقُ فَيَبْقَى الثَّمَنُ عَلَيْهِ وَلَا يُطَالَبُ بِهِ وَقَدْ يَشْتَرِي جَارِيَةً غَائِبَةً بِبَلْدَةٍ أُخْرَى فَيَصِحُّ وَلَا يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ حَتَّى تَحْضُرَ الْجَارِيَةُ، وَقَدْ يَكُونُ الْأَلْفُ ثَمَنًا وَغَيْرَ ثَمَنٍ فَكَانَ قَوْلُهُ غَيْرَ أَنَّى لَمْ أَقْبِضْهَا مُغَيِّرًا لِلْأَصْلِ فَإِنَّهُ يُبْطِلُ الْمُطَالَبَةَ الْوَاجِبَةَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ إلَى أَنْ تَحْضُرَ الْجَارِيَةُ، وَبَيَانًا لِمُحْتَمِلِ الْكَلَامِ فَإِنَّ كَوْنَ الْمَبِيعِ غَيْرَ مَقْبُوضٍ أَحَدُ مُحْتَمَلَيْ الْبَيْعِ لَا مِنْ الْعَوَارِضِ كَشَرْطِ الْخِيَارِ وَالْأَجَلِ فَكَانَ قَوْلُهُ لَمْ أَقْبِضْ بَيَانًا مُغَيِّرًا إلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الِاحْتِمَالِ فَيُصَحَّحُ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا وَلَا يُقَالُ إنَّ جَارِيَةً لَا يُشَارُ إلَيْهَا هَالِكَةٌ وَثَمَنُ الْهَالِكَةِ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَيَصِيرُ إقْرَارًا بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّ جَارِيَةً لَا يُشَارُ إلَيْهَا آبِقَةٌ فَزِيَادَةُ صِفَةِ الْهَلَاكِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِدَلَالَةٍ أُخْرَى وَلَا دَلَالَةَ هَاهُنَا سِوَى أَنَّهَا غَيْرُ مُشَارٍ إلَيْهَا كَذَا فِي الْأَسْرَارِ فَالْحَاصِلُ أَنَّهُمَا جَعَلَاهُ بَيَانًا مَحْضًا إذَا صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الْجِهَةِ؛ لِأَنَّ الِاتِّفَاقَ وَقَعَ عَلَى وُجُوبِهِ بِجِهَةٍ وَلَا يَجِبُ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ إلَّا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ مَقْبُوضًا وَلَمْ يُوجَدْ الْإِقْرَارُ بِالْقَبْضِ وَإِنْ كَذَّبَهُ فِي الْجِهَةِ كَانَ بَيَانًا مُغَيِّرًا عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْحُكْمَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ، وَقَضِيَّةُ مُطْلَقِ الْإِقْرَارِ تَسْتَدْعِي أَنْ يَكُونَ مُطَالَبًا بِهِ وَبِاعْتِبَارِ بَيَانِ السَّبَبِ هُوَ غَيْرُ مُطَالَبٍ فَكَانَ بَيَانًا بِمَعْنَى التَّغْيِيرِ كَذَا فِي إشَارَاتِ الْأَسْرَارِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هَذَا أَيْ قَوْلُهُ لَمْ أَقْبِضْهَا رُجُوعٌ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ وَلَيْسَ بِبَيَانٍ فَلَا يَصِحُّ مَوْصُولًا وَلَا مَفْصُولًا. وَبَيَانُهُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِوُجُوبِ ثَمَنِ جَارِيَةٍ بِغَيْرِ عَيْنِهَا عَلَيْهِ وَثَمَنِ الْمَبِيعِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ أَثَرُهُ أَيْ لَا يَكُونُ مُعَيَّنًا لَا يَكُونُ وَاجِبًا إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ مُعَيَّنًا فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكِ إذْ لَا طَرِيقَ إلَى التَّوَصُّلِ إلَيْهِ فَإِنَّهُ مَا مِنْ مَبِيعٍ يَحْضُرُهُ إلَّا وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَقُولَ الْمَبِيعُ غَيْرُ هَذَا وَتَسْلِيمُ الثَّمَنِ لَا يَجِبُ إلَّا بِإِحْضَارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكِ وَثَمَنُ الْمَبِيعِ الْمُسْتَهْلَكِ لَا يَكُونُ وَاجِبًا إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَكَأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْقَبْضِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْمَالِ وَادَّعَى لِنَفْسِهِ أَجَلًا لَا إلَى غَايَةٍ مَعْلُومَةٍ وَهُوَ إحْضَارُ الْمَبِيعِ وَلَا طَرِيقَ لِلْبَائِعِ إلَى ذَلِكَ وَلَوْ ادَّعَى أَجَلَ شَهْرٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقْ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ، وَإِذَا ادَّعَى أَجَلًا مُؤَبَّدًا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُصَدَّقًا فِي ذَلِكَ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَسْرَارِ أَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالثَّمَنِ مُوجَبُ الْعَقْدِ كَنَفْسِ الْوُجُوبِ وَلَا تَتَأَخَّرُ إلَّا بِعَارِضٍ يَعْتَرِضُ عَلَى الْبَيْعِ أَوْ يُقَارِنُهُ مِنْ تَأْجِيلٍ أَوْ غَيْبَةٍ لِلْمَبِيعِ كَنَفْسِ الْمِلْكِ لَا يَتَأَخَّرُ إلَّا بِعَارِضٍ نَحْوِ شَرْطِ الْخِيَارِ فَيَصِيرُ الْمُقِرُّ بِبَيَانِ مَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ الْمُطَالَبَةُ وَهُوَ قَوْلُهُ لَمْ أَقْبِضْهَا مُدَّعِيًا أَمْرًا عَارِضًا يَرْفَعُ مُوجَبَ الْعَقْدِ بَعْدَ مَا لَزِمَهُ مُوجَبُهُ بِالْإِقْرَارِ بِالْبَيْعِ فَلَا يُصَدَّقُ كَمَا لَوْ ادَّعَى الْأَجَلَ فِي الثَّمَنِ، وَإِذَا لَمْ يُصَدَّقْ بَقِيَ مُطَالَبًا بِالثَّمَنِ وَلَا يَجِبُ الْمُطَالَبَةُ وَالْجَارِيَةُ غَائِبَةٌ إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ صَارَ مُقِرًّا بِالْقَبْضِ. بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ إلَّا أَنِّي لَمْ أَقْبِضْهَا فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْبَيَانَ لَا يُغَيِّرُ مُوجَبَ الْعَقْدِ وَلَا يَتَأَخَّرُ بِهِ عَنْ الْمُطَالَبَةِ وَإِنَّمَا يَتَأَخَّرُ بِإِنْكَارِ الْآخَرِ

وَالثَّابِتُ بِالدَّلَالَةِ مِثْلُهُ إذَا ثَبَتَ بِالصَّرِيحِ فَإِذَا رَجَعَ لَمْ يَصِحَّ وَهَذَا فَصْلٌ يَطُولُ شَرْحُهُ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ إيدَاعُ الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ قَالَ أَبُو يُوسُفَ هُوَ مِنْ بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ الْيَدِ وَالتَّسْلِيطِ نَوْعَانِ: الِاسْتِحْفَاظُ وَغَيْرُهُ فَإِذَا نَصَّ عَلَى الْإِيدَاعِ كَانَ مُسْتَثْنًى ـــــــــــــــــــــــــــــQالْبَيْعَ وَامْتِنَاعِهِ عَنْ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ، فَأَمَّا لَوْ صَدَّقَهُ عَلَى الْبَيَانِ فَيُطَالِبُ الْمُشْتَرِيَ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ أَوَّلًا، ثُمَّ قَبْضَ الْجَارِيَةِ وَهَاهُنَا لَوْ صَدَّقَهُ مَا بَقِيَتْ مُطَالَبَةٌ عَلَى الْمُشْتَرِي مَا لَمْ تَحْضُرْ الْجَارِيَةُ وَلَا يَلْزَمُ مَا إذَا قَالَ غَصَبْتُ مِنْ فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ إلَّا أَنَّهَا سَتُّوقَةٌ فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ إذَا وَصَلَ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ كَمَا يَرِدْ عَلَى الدَّرَاهِمِ الْجَيِّدَةِ يَرِدْ عَلَى الدَّرَاهِمِ السَّتُّوقَةِ مُوجِبَةً ضَمَانَ الْمَغْصُوبِ فَكَانَ قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهَا سَتُّوقَةٌ اسْتِثْنَاءً لِبَعْضِ مَا كَانَ يَلْزَمُهُ بِالْإِطْلَاقِ وَهُوَ الْحَقِيقَةُ فَخَرَجَتْ وَبَقِيَ الْمَجَازُ لَا رُجُوعًا عَمَّا أَقَرَّ وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إلَّا مِائَةً وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً مُصَدَّقٌ إذَا وَصَلَ؛ لِأَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ عَلَيَّ الْتِزَامُ الْحِفْظِ لَا الْعَيْنُ وَكَلِمَةُ عَلَيَّ كَلِمَةٌ تَتَنَاوَلُهُمَا جَمِيعًا بِحُكْمِ شُمُولِ الْكَلِمَةِ لَا بِحُكْمِ الشَّرْعِ فَمَا لِلشَّرْعِ حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِكَلِمَةِ عَلَيَّ فِي لُزُومِ قَدْرٍ بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا اللُّزُومُ بِحُكْمِ اللُّغَةِ وَمِنْ حُكْمِ اللُّغَةِ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْجُمْلَةِ إنْكَارًا عَلَى مَا عَلَيْهِ اللُّغَةُ، فَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَالسَّلَامَةُ عَنْ الْعَيْبِ وَوُجُوبُ الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ثَبَتَ لِلْبَيْعِ لَا يَتَغَيَّرُ شَرْعًا إلَّا بِمَعْنًى عَارِضٍ وَبِدُونِ الْعَارِضِ لَا يُتَصَوَّرُ تَغَيُّرُهُ فَلَا يَكُونُ التَّغَيُّرُ بِدَعْوَى الْعَارِضِ إنْكَارًا مِنْ الْأَصْلِ بَلْ يَكُونُ دَعْوَى. قَوْلُهُ (وَالثَّابِتُ بِالدَّلَالَةِ مِثْلُ الثَّابِتِ بِالصَّرِيحِ) يَعْنِي لَمَّا دَلَّ إقْرَارُهُ بِوُجُوبِ الثَّمَنِ بِمُقَابَلَةِ جَارِيَةٍ بِكُرَّةٍ عَلَى الْقَبْضِ صَارَ كَأَنَّهُ صَرَّحَ بِالْإِقْرَارِ بِالْقَبْضِ بِأَنْ قَالَ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ جَارِيَةٍ قَبَضْتهَا فَكَانَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ أَقْبِضْهَا رُجُوعًا لَا بَيَانًا فَيَبْطُلُ، فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ الدَّلَالَةُ إذَا لَمْ يُعَارِضْهَا صَرِيحٌ بِخِلَافِهَا وَهَاهُنَا قَدْ صَرَّحَ بِآخِرِ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ فَلَا يَثْبُتُ بِالدَّلَالَةِ شَيْءٌ فِي مُقَابَلَتِهِ كَالضَّرُورَةِ إذَا حَجَّ بِنِيَّةِ النَّفْلِ يَكُونُ مُتَنَفِّلًا لَا مُفْتَرِضًا لِسُقُوطِ الدَّلَالَةِ بِمُقَابَلَةِ الصَّرِيحِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ قُلْنَا إنَّمَا يَبْطُلُ الدَّلَالَةُ بِالصَّرِيحِ إذَا كَانَا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ لِيَتَحَقَّقَ التَّدَافُعُ فَيَتَرَجَّحَ الصَّرِيحُ عَلَى الدَّلَالَةِ فَأَمَّا إذَا كَانَا فِي زَمَانَيْنِ فَلَا تَدَافُعَ فَيَثْبُتُ مُوجِبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا إذَا حَجَّ ضَرُورَةً بِنِيَّةِ النَّفْلِ، ثُمَّ حَجَّ فِي سَنَةٍ أُخْرَى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ يَكُونُ مُفْتَرِضًا فِي الثَّانِيَةِ دَلَالَةً وَهَاهُنَا ثَبَتَ الْقَبْضُ بِأَوَّلِ كَلَامِهِ دَلَالَةً وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الصَّرِيحِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ إبْطَالُ مَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِالْقَبْضِ، ثُمَّ قَالَ لَمْ أَقْبِضْ فَيَبْطُلُ الثَّانِي ضَرُورَةً حَتَّى لَوْ كَانَ فِي وُسْعِهِ إبْطَالُ الْأَوَّلِ ثَبَتَ مُوجَبُ الصَّرِيحِ بِأَنْ مَنَعَ مِنْ الْتِقَاطِ الثِّمَارِ السَّاقِطَةِ تَحْتَ الْأَشْجَارِ تَرْتَفِعُ الْإِبَاحَةُ الثَّابِتَةُ دَلَالَةً إذْ فِي وُسْعِهِ رَفْعُهَا وَإِبْطَالُهَا قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ) أَيْ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ بُنِيَتْ مَسْأَلَةُ إيدَاعِ الصَّبِيِّ وَهُوَ إضَافَةُ الْمَصْدَرِ إلَى أَحَدِ الْمَفْعُولَيْنِ وَحَذْفُ الْآخَرِ أَيْ إيدَاعُ الصَّبِيِّ شَيْئًا وَالْخِلَافُ فِيمَا إذَا أَوْدَعَ مَالًا سِوَى الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ صَبِيًّا عَاقِلًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَاسْتَهْلَكَهُ لَا يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَيَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، فَإِنْ هَلَكَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ قَصَّرَ فِي الْحِفْظِ وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَوْ قَبِلَ الْوَدِيعَةَ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ فَاسْتَهْلَكَهَا فَهُوَ ضَامِنٌ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ الْوَدِيعَةُ عَبْدًا أَوْ أَمَةً فَقَتَلَهُ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ غَيْرَ عَاقِلٍ فَقَدْ ذُكِرَ فِي بَعْضِ شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْعَاقِلِ وَغَيْرِ الْعَاقِلِ سَوَاءٌ فَإِنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْوَدِيعَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ، وَقَدْ عَقَلَ. وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَصَدْرُ الْإِسْلَامِ وَالْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالْإِمَامِ الْإِسْبِيجَابِيِّ

وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ تَصَرُّفٌ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَبْطُلُ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ بَلْ لَا يَثْبُتُ إلَّا الِاسْتِحْفَاظُ ثُمَّ لَا يَنْفُذُ الِاسْتِحْفَاظُ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ فَيَصِيرُ كَالْمَعْدُومِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيطَ فِعْلٌ يُوجَدُ مِنْ الْمُسَلِّطِ فَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ مَا وَرَاءَ الِاسْتِحْفَاظِ مِنْهُ وَالْفِعْلُ مُطْلَقٌ لَا عَامٌّ وَالْمُسْتَثْنَى مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْمُعَارَضَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْحِيحِهِ شَرْعًا لِيُعَارِضَهُ وَلَمْ يُوجَدْ ـــــــــــــــــــــــــــــQ- رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا كَانَ عَاقِلًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَاقِلًا فَلَا يَضْمَنُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ فَأَمَّا الَّذِي لَا يَعْقِلُ فَيَجِبُ أَنْ يَضْمَنَ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ تَسْلِيطَهُ هَدَرٌ وَفِعْلَهُ مُعْتَبَرٌ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ إيدَاعَهُ مِنْ بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ يَدِ الْغَيْرِ عَلَى الْمَالِ وَتَسْلِيطَهُ عَلَيْهِ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ قَدْ يَكُونُ لِلِاسْتِحْفَاظِ، وَقَدْ يَكُونُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْإِبَاحَةِ وَالتَّمْلِيكِ وَالتَّوْكِيلِ وَنَحْوِهَا فَإِذَا نَصَّ عَلَى الْإِيدَاعِ بِقَوْلِهِ احْفَظْهُ كَانَ بَيَانًا أَنَّهُ أَرَادَ بِالتَّسْلِيطِ التَّمْكِينَ لِلْحِفْظِ لَا غَيْرُ وَإِنَّ غَيْرَ الِاسْتِحْفَاظِ مُسْتَثْنًى مِمَّا تَنَاوَلَهُ مُطْلَقُ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُبَيِّنُ أَنَّ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ مَا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى وَهَاهُنَا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَكَانَ اسْتِثْنَاءً مَعْنًى وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ كَانَ مُسْتَثْنِيًا أَيْ كَانَ الْمُودِعُ بِقَوْلِهِ احْفَظْ مُسْتَثْنِيًا لِغَيْرِ الِاسْتِحْفَاظِ مِمَّا تَنَاوَلَهُ مُطْلَقُ التَّسْلِيطِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ تَصَرُّفٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ غَيْرُ مُتَنَاوِلٍ لِحَقِّ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّهُ بَيَانُ الْمُرَادِ مِمَّا تَكَلَّمَ بِهِ وَفِي وِلَايَتِهِ ذَلِكَ فَلَا يُعْتَبَرُ لِصِحَّتِهِ حَالُ الْمُخَاطَبِ أَوْ ثُبُوتُ وِلَايَةٍ لَهُ عَلَيْهِ بَلْ بِاسْتِثْنَائِهِ يَخْرُجُ مَا وَرَاءَ الِاسْتِحْفَاظِ مِنْ هَذَا التَّسْلِيطِ وَلَا يَثْبُتُ بِهِ إلَّا الِاسْتِحْفَاظُ، ثُمَّ لَمْ يَتَعَدَّ إلَى الصَّبِيِّ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ فَيَسْقُطُ وَيَصِيرُ كَالْمَعْدُومِ أَيْضًا وَبَعْدَ مَا عُدِمَ كِلَا النَّوْعَيْنِ الِاسْتِحْفَاظُ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ وَغَيْرُ الِاسْتِحْفَاظِ لِلِاسْتِثْنَاءِ مَعْنًى صَارَ كَأَنَّ التَّسْلِيطَ عَلَى الْمَالِ لَمْ يُوجَدْ أَصْلًا وَكَأَنَّهُ أَلْقَاهُ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ بِالِاسْتِحْفَاظِ مِنْ الصَّبِيِّ فَإِذَا اسْتَهْلَكَهُ كَانَ بَعْدُ ضَامِنًا؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ فِعْلٍ لَا ضَمَانُ عَقْدٍ فَيَسْتَوِي فِيهِ الصَّبِيُّ وَالْبَالِغُ كَمَا لَوْ اسْتَهْلَكَهُ قَبْلَ الْإِيدَاعِ وَكَمَا لَوْ كَانَتْ الْوَدِيعَةُ عَبْدًا فَقَتَلَهُ الصَّبِيُّ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ، وَلَا يُقَالُ لَمَّا مَكَّنَ الصَّبِيَّ مِنْ الْمَالِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَحْفَظُهُ وَيُتْلِفُهُ كَانَ تَسْلِيطًا كَمَا لَوْ قَرَّبَ الشَّحْمَ إلَى الْهِرَّةِ وَقَالَ لَهَا لَا تَأْكُلِي فَإِنَّهُ يَكُونُ تَسْلِيطًا عَلَى الِاسْتِهْلَاكِ وَيَلْغُو نَهْيُهُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الِاخْتِلَافُ فِي صَبِيٍّ يَعْقِلُ الْحِفْظَ لَا فِي صَبِيٍّ لَا يَعْقِلُهُ أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا الصَّبِيَّ لَوْ بَلَغَ أَوْ أَجَازَهُ الْوَلِيُّ صَارَ مُودَعًا وَلَوْ كَانَ الْخِطَابُ مَعَ مَنْ لَا يَعْقِلُ لَكَانَ يَلْغُو وَلَا يَصِحُّ بِالْبُلُوغِ وَالْإِجَازَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَيْسَ هَذَا أَيْ لَيْسَ هَذَا الْإِيدَاعُ مِنْ بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ يَعْنِي قَوْلَهُ احْفَظْ لَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ لِغَيْرِ الِاسْتِحْفَاظِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيطَ فِعْلٌ يُوجَدُ مِنْ الْمُسَلِّطِ بِنَقْلِ الْيَدِ إلَى الْغَيْرِ لَا قَوْلٌ فَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ مَا وَرَاءَ الِاسْتِحْفَاظِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَجْرِي فِي الْأَلْفَاظِ لَا فِي الْأَفْعَالِ وَلَا لَفْظَ هَاهُنَا يُسْتَثْنَى مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ وَهُوَ التَّسْلِيطُ وَالدَّفْعُ مُطْلَقٌ لَا عَامٌّ؛ لِأَنَّ الْعُمُومَ لَا يَجْرِي فِي الْأَفْعَالِ فَلَا يَصِحُّ تَنْوِيعُهُ إلَى نَوْعَيْنِ وَبِنَاءُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ عَامٌّ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ كَلَامِهِ اسْتِثْنَاءً مِنْهُ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ احْفَظْ كَلَامٌ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْفِعْلِ وَلَا بُدَّ لِحَقِيقَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الْمُجَانَسَةِ كَذَا قِيلَ وَلِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ عَلَى هَذَا الْحَرْفِ أَنَا لَا أَجْعَلُ قَوْلَهُ احْفَظْ مُسْتَثْنًى مِنْ الْفِعْلِ بَلْ أَجْعَلُ قَوْلَهُ احْفَظْ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ غَيْرِ الِاسْتِحْفَاظِ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ مَعْنًى وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ عَدَمُ مُجَانَسَةٍ كَمَا تَرَى فَيَصِيرُ ذَلِكَ فِي بَابِ الْمُعَارَضَةِ أَيْ يَصِيرُ قَوْلُهُ احْفَظْ مُعَارِضًا لِفِعْلِ التَّسْلِيطِ يَعْنِي لَوْ جُعِلَ احْفَظْ اسْتِثْنَاءً لَجُعِلَ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا يَعْمَلُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ. فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْحِيحِهِ شَرْعًا لِتَعَارُضِهِ أَيْ مِنْ تَصْحِيحِ قَوْلِهِ أَوْدَعْتُك هَذَا الشَّيْءَ فَاحْفَظْهُ لَتَعَارَضَ ذَلِكَ

وَصَارَ هَذَا مِثْلَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الِاسْتِثْنَاءِ، ـــــــــــــــــــــــــــــQالْفِعْلِ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ يَعْتَمِدُ الصِّحَّةَ شَرْعًا كَدَلِيلِ الْخُصُوصِ إنَّمَا يَكُونُ مُعَارِضًا إذَا صَحَّ فِي نَفْسِهِ شَرْعًا وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّ صِحَّتَهُ بِكَوْنِ الْمُخَاطَبِ مِنْ أَهْلِ الِالْتِزَامِ بِالْعَقْدِ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ الْبَالِغِ دُونَ الصَّبِيِّ فَيَبْقَى التَّسْلِيطُ مُطْلَقًا فِي حَقِّ الصَّبِيِّ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّبِيَّ لَوْ ضَيَّعَ الْوَدِيعَةَ لَا يَضْمَنُ بِأَنْ رَأَى إنْسَانًا يَأْخُذُهَا أَوْ دَلَّهُ عَلَى أَخْذِهَا وَالْبَالِغُ يَضْمَنُ بِمِثْلِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُعَارِضَ صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْبَالِغِ دُونَ الصَّبِيِّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَالْفِعْلُ وَقَوْلِهِ وَالْمُسْتَثْنَى لِلْحَالِ أَيْ التَّسْلِيطُ فِعْلٌ فَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ مَا وَرَاءَ الِاسْتِحْفَاظِ مِنْهُ حَقِيقَةً وَالْحَالُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مُطْلَقٌ لَا عَامٌّ وَأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْ خِلَافِ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْ جَعْلُهُ اسْتِثْنَاءً حَقِيقِيًّا لِهَذِهِ الْمَوَانِعِ يُجْعَلُ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا مُعَارِضًا لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ إنْ أَمْكَنَ وَلَا يَصِحُّ جَعْلُهُ مُعَارِضًا أَيْضًا لِمَا ذُكِرَ فَيَبْقَى الْفِعْلُ تَسْلِيطًا مُطْلَقًا فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ وَصَارَ هَذَا أَيْ كَوْنُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ مُعَارِضًا مِثْلَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْحَقِيقِيِّ فَإِنَّهُ يَجْعَلُهُ مُعَارِضًا كَمَا جَعَلْنَا الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ مُعَارِضًا وَاحْتَجَّ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَصْلِ بِأَنَّهُ صَبِيٌّ، وَقَدْ سَلَّطَهُ عَلَى الِاسْتِهْلَاكِ حِينَ دَفَعَهُ إلَيْهِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي تَفْسِيرِ التَّسْلِيطِ نَوْعَانِ مِنْ الْكَلَامِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تَسْلِيطٌ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ فَإِنَّ عَادَةَ الصِّبْيَانِ إتْلَافُ الْمَالِ لِقِلَّةِ نَظَرِهِمْ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ فَهُوَ لَمَّا مَكَّنَهُ مِنْ ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِهِ يَصِيرُ كَالْآذِنِ لَهُ بِالْإِتْلَافِ وَبِقَوْلِهِ احْفَظْ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ آذِنًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُخَاطِبُ بِهَذَا مَنْ لَا يَحْفَظُ فَهُوَ كَمُقَدِّمِ الشَّعِيرِ بَيْنَ يَدَيْ الْحِمَارِ وَقَوْلُهُ لَهُ لَا تَأْكُلْ. بِخِلَافِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَادَةِ الصِّبْيَانِ الْقَتْلُ؛ لِأَنَّهُمْ يَهَابُونَ الْقَتْلَ وَيَفِرُّونَ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ إيدَاعُهُ تَسْلِيطًا عَلَى الْقَتْلِ بِاعْتِبَارِ عَادَتِهِمْ، وَهَذَا بِخِلَافِ الدَّوَابِّ فَإِنَّ مِنْ عَادَتِهِمْ إتْلَافُ الدَّوَابِّ رُكُوبًا فَيَثْبُتُ التَّسْلِيطُ فِي الدَّابَّةِ بِطَرِيقِ الْعَادَةِ وَالْأَصَحُّ أَنْ يَقُولَ مَعْنَى التَّسْلِيطِ تَحْوِيلُ يَدِهِ فِي الْمَالِ إلَيْهِ فَإِنَّ الْمَالِكَ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِهْلَاكِهِ فَإِذَا حَوَّلَ يَدَهُ إلَيْهِ كَانَ مُمَكِّنًا لَهُ مِنْ اسْتِهْلَاكِهِ بَالِغًا كَانَ الْمُودَعُ أَوْ صَبِيًّا إلَّا أَنَّهُ بِقَوْلِهِ احْفَظْ قَصَدَ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّحْوِيلُ مَقْصُورًا عَلَى الْحِفْظِ، وَهَذَا صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْبَالِغِ بَاطِلٌ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ الْتِزَامٌ بِالْعَقْدِ وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ فَيَبْقَى التَّسْلِيطُ عَلَى الِاسْتِهْلَاكِ بِتَحْوِيلِ الْيَدِ إلَيْهِ مُطْلَقًا، فَإِنْ قِيلَ هَذَا تَسْلِيطٌ وَتَمْكِينٌ حِسِّيٌّ وَالْمُعْتَبَرُ هُوَ التَّمْكِينُ شَرْعًا، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْمِلْكِ وَلَمْ يُوجَدْ قُلْنَا بِالتَّمْكِينِ وَالتَّسْلِيطِ حِسًّا يَحْصُلُ الرِّضَاءُ بِالْإِتْلَافِ، وَذَلِكَ كَافٍ، ثُمَّ نَقُولُ الْمَالِكُ تَمَكَّنَ بِيَدٍ حَقِيقَةً تَفَرَّعَتْ عَلَى الْمِلْكِ وَعَيْنُ مَا كَانَ يَتَمَكَّنُ بِهِ شَرْعًا نُقِلَتْ إلَى الْمُودَعِ وَالنَّقْلُ فِي الْمِلْكِ إنْ لَمْ يُوجَدْ فَفِي الْيَدِ الْمُتَفَرِّعَةِ عَنْ الْمِلْكِ قَدْ وُجِدَ وَالْيَدُ تَقْبَلُ الْفَصْلَ عَنْ الْمِلْكِ كَمِلْكِ الثَّمَرَةِ تَقْبَلُ الْفَصْلَ عَنْ مِلْكِ الشَّجَرَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْيَدَ الَّتِي كَانَتْ لِلْمَالِكِ انْتَقَلَتْ إلَيْهِ يَتَمَكَّنُ مِنْهُ شَرْعًا بِخِلَافِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ فَإِنَّ الْمَالِكَ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ مَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ قِبَلِ الْآدَمِيِّ فَتَحْوِيلُ الْيَدِ إلَيْهِ لَا يَكُونُ تَسْلِيطًا عَلَى قَتْلِهِ. وَلِأَنَّ الْإِيدَاعَ مِنْ الْمَالِكِ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِهِ وَالْمَمْلُوكُ فِي حُكْمِ الدَّمِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْإِيدَاعُ وَالتَّسْلِيطُ ثَبَتَ بِاعْتِبَارِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ اُقْتُلْ عَبْدِي فَقَتَلَهُ

وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ فِي رَجُلٍ قَالَ لِآخَرَ بِعْت مِنْك بِأَلْفٍ هَذَا الْعَبْدَ إلَّا نِصْفَهُ أَنَّ الْبَيْعَ يَقَعُ عَلَى النِّصْفِ بِأَلْفٍ، وَلَوْ قَالَ عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَهُ يَقَعُ عَلَى النِّصْفِ بِخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي وَإِنَّمَا دَخَلَ فِي الْمَبِيعِ لَا فِي الثَّمَنِ فَيَصِيرُ الْمَبِيعُ نِصْفًا فَيَبْقَى كُلُّ الثَّمَنِ وَقَوْلُهُ عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَهُ شَرْطٌ مُعَارِضٌ لِصَدْرِ الْكَلَامِ فَيَكُونُ مُوجِبُهُ أَنْ يُعَارِضَ هَذَا الْإِيجَابَ الْأَوَّلَ فَيَصِيرَ الْعَقْدُ وَاقِعًا لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فَيَصِيرَ بَايِعًا مِنْ نَفْسِهِ وَمِنْ الْمُشْتَرِي، وَالْبَيْعُ مِنْ نَفْسِهِ صَحِيحٌ بِحُكْمِهِ إذَا أَفَادَ وَفِي الدُّخُولِ فَائِدَةُ حُكْمِ التَّقْسِيمِ فَيَصِيرُ دَاخِلًا ثُمَّ خَارِجًا لِيَخْرُجَ بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ مِثْلَ مَنْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَحَدُهُمَا مِلْكُ الْمُشْتَرِي أَنَّ الثَّمَنَ يَنْقَسِمُ عَلَيْهِمَا. أَلَا تَرَى أَنَّ شِرَاءَ مَالِ الْمُضَارَبَةِ يَصِحُّ بِمُبَاشَرَةِ رَبِّ الْمَالِ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ رَجُلٌ وَكَّلَ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ عَلَى أَنْ لَا يُقَرَّ عَلَيْهِ أَوْ غَيْرَ جَائِزِ الْإِقْرَارِ بَطَلَ هَذَا الشَّرْطُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ عَلَى قَوْلِهِ الْإِقْرَارُ يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلْوَكِيلِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ لَا لِأَنَّهُ مِنْ الْخُصُومَةِ حَتَّى لَا يَخْتَصَّ بِمَجْلِسِ الْخُصُومَةِ فَيَصِيرَ ثَابِتًا بِالْوَكَالَةِ حُكْمًا لَا مَقْصُودًا فَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ وَلَا إبْطَالُهُ بِالْمُعَارَضَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ اسْتِعْمَالٌ وَالِاسْتِعْمَالُ وَرَاءَ التَّسْلِيطِ فَإِنَّ بَعْدَ الِاسْتِعْمَالِ إذَا لَحِقَهُ ضَمَانٌ يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَعْمِلِ وَبَعْدَ التَّسْلِيطِ يَسْقُطُ حَقُّ الْمُسَلِّطِ فِي التَّضْمِينِ لِرِضَاهُ بِهِ وَلَا يَثْبُتُ لِأَحَدٍ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ وَلِهَذَا قُلْنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إنَّ الصَّبِيَّ الْمُسْتَهْلِكَ إذَا ضَمِنَ لِلْمُسْتَحِقِّ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُودِعِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهُ أَتْلِفْهُ فَذَاكَ اسْتِعْمَالٌ لِلصَّبِيِّ بِالْأَمْرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَبْدًا صَارَ عَاصِيًا بِالِاسْتِعْمَالِ بِأَمْرِهِ، وَهَذَا تَسْلِيطٌ لَهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَبَحْتُ لَك أَنْ تَأْكُلَ هَذَا الطَّعَامَ إنْ شِئْتَ وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ فَأَكَلَهُ الصَّبِيُّ لَمْ يَضْمَنْ وَلَوْ جَاءَ مُسْتَحِقٌّ وَضَمِنَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الَّذِي قَالَ لَهُ ذَلِكَ فَهَذَا مِثْلُهُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ، فَإِنْ قِيلَ لَوْ أَوْدَعَ رَجُلًا مَالًا فَأَتْلَفَهُ صَبِيُّهُ ضَمِنَ وَالْإِيدَاعُ عِنْدَهُ إيدَاعٌ عِنْدَ مَنْ يَدْخُلُ فِي عِيَالِهِ. قُلْنَا لِأَنَّ الْقَبُولَ مِنْ الْمُودَعِ قَبُولٌ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مَنْ يَدْخُلُ فِي عِيَالِهِ أَيْضًا كَمَا يَكُونُ مِنْ رَبِّ الْوَدِيعَةِ إيدَاعًا إيَّاهُ وَمَنْ يَدْخُلُ فِي عِيَالِهِ فَيَصِيرُ الصَّبِيُّ عَلَى هَذَا مُودَعًا بِإِذْنِ وَلِيِّهِ فَيَصِيرُ فِي حُكْمِ الْبَالِغِ. قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ) وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي. أَنَّ الْبَيْعَ يَقَعُ عَلَى النِّصْفِ أَيْ نِصْفِ الْعَبْدِ بِالْأَلْفِ. وَإِنَّمَا دَخَلَ أَيْ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْمَبِيعِ وَهُوَ الْعَبْدُ لَا فِي الثَّمَنِ وَهُوَ الْأَلْفُ؛ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ تَنْصَرِفُ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ فِي الْكَلَامِ وَالْمَقْصُودُ هَاهُنَا هُوَ الْمَبِيعُ وَلِأَنَّهُ ابْتَدَأَ فِي صَدْرِ كَلَامِهِ بِذِكْرِ الْمَبِيعِ وَالِابْتِدَاءُ يَقَعُ بِالْأَهَمِّ فَكَانَ هُوَ الْمَقْصُودُ فَيَنْصَرِفُ الضَّمِيرُ وَالِاسْتِثْنَاءُ إلَيْهِ لَا إلَى الْأَلْفِ وَالْكَلَامُ الْمُقَيَّدُ بِالِاسْتِثْنَاءِ عِبَارَةٌ عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ بِعْتُ نِصْفَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَوْلُهُ عَلَى أَنْ لِي نِصْفَهُ شَرْطٌ مُعَارِضٌ يَعْنِي صَدْرُ الْكَلَامِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْعَبْدِ وَقَوْلُهُ عَلَى أَنْ لِي نِصْفَهُ لَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ بَلْ هُوَ عَامِلٌ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ لِلْأَوَّلِ وَهُوَ يَصْلُحُ مُعَارِضًا؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَبِدٌّ بِنَفْسِهِ وَمُوجِبُهُ عَلَى خِلَافِ الْأَوَّلِ كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ فَيَتَبَيَّنُ بِالْمُعَارَضَةِ أَنَّهُ جَعَلَ الْإِيجَابَ فِي نِصْفِهِ لِلْمُخَاطَبِ وَفِي نِصْفِهِ لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ إذَا كَانَ مُفِيدًا، وَقَدْ أَفَادَ هَاهُنَا تَقْسِيمَ الثَّمَنِ عَلَى الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ النِّصْفُ الْمَشْرُوطُ لِنَفْسِهِ فِي الْبَيْعِ لَصَارَ بَيْعًا بِالْحِصَّةِ ابْتِدَاءً وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَلَصَارَ قَبُولُ الْعَقْدِ فِي غَيْرِ الْمَبِيعِ شَرْطًا لِانْعِقَادِ الْعَقْدِ فِي الْمَبِيعِ وَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ فَيَفْسُدُ بِهِ الْبَيْعُ أَيْضًا، وَلَا يُمْكِنُ التَّقْسِيمُ فَعَرَفْنَا أَنَّ فِي الدُّخُولِ فَائِدَةً فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ شِرَاءِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ مِنْ الْمُضَارِبِ. وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ فِي قَوْلِهِ " شَرْطٌ مُعَارِضٌ " إشَارَةً إلَى أَنَّ كُلَّ الشُّرُوطِ لَيْسَتْ بِمُعَارِضَةٍ بَلْ هِيَ مَانِعَةٌ لِلْعِلَّةِ مِنْ الْعَمَلِ كَمَا عُرِفَ وَلَكِنَّ هَذَا شَرْطٌ مُعَارِضٌ؛ لِأَنَّ عَمَلَ كَلِمَةِ " عَلَى " يُخَالِفُ عَمَلَ " أَنَّ "، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ بِعْتُك إنْ كَانَ لِي نِصْفُهُ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ. قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ) وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانُ تَغْيِيرٍ قُلْنَا إذَا وَكَّلَ بِالْخُصُومَةِ وَالْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنْ يُوَكِّلَهُ بِالْخُصُومَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِشَيْءٍ آخَرَ فَيَصِيرَ وَكِيلًا بِالْإِنْكَارِ بِالْإِجْمَاعِ وَبِالْإِقْرَارِ فِي مَجْلِسٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَفِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ أَحْكَامِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. وَالثَّانِي أَنْ يُوَكِّلَهُ بِالْخُصُومَةِ غَيْرَ جَائِزِ الْإِقْرَارِ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى أَنْ لَا يُقِرَّ عَلَيْهِ بَطَلَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ

إلَّا بِنَقْضِ الْوَكَالَةِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتِثْنَاؤُهُ جَائِزٌ وَلِلْخَصْمِ أَنْ لَا يَقْبَلَ هَذَا الْوَكِيلَ؛ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ تَنَاوَلَتْ الْإِقْرَارَ عَمَلًا بِمَجَازِهَا عَلَى مَا عُرِفَ وَانْقَلَبَ الْمَجَازُ هُنَا بِدَلَالَةِ الدِّيَانَةِ حَقِيقَةً وَصَارَتْ الْحَقِيقَةُ كَالْمَجَازِ فَإِذَا اسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ وَقَيَّدَ التَّوْكِيلَ كَانَ بَيَانًا مُغَيِّرًا فَصَحَّ مَوْصُولًا وَعَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ لَا يَصِحَّ مَفْصُولًا إلَّا أَنْ يَعْزِلَهُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ بِحَقِيقَةِ اللُّغَةِ فَصَحَّ فَلَمْ يَكُنْ اسْتِثْنَاءً فِي الْحَقِيقَةِ وَعَلَى هَذَا يَصِحُّ مَفْصُولًا وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخَصَّافِ وَاخْتُلِفَ فِي اسْتِثْنَاءِ الْإِنْكَارِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ لِمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ـــــــــــــــــــــــــــــQكَمَا ذَكَرَ هَاهُنَا. وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَصِحُّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْوَكِيلَ قَامَ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فَيَمْلِكُ مَا كَانَ الْمُوَكِّلُ مَالِكًا لَهُ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِنْ الْخُصُومَةِ، وَالْمُوَكِّلُ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِنَفْسِهِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَفِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَكَذَا الْوَكِيلُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَصِيرُ الْإِقْرَارُ عَلَى الْمُوَكِّلِ ثَابِتًا لِلْوَكِيلِ حُكْمًا لِلْوَكَالَةِ لَا مَقْصُودًا فَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ غَيْرَ جَائِزِ الْإِقْرَارِ وَلَا إبْطَالُهُ بِالْمُعَارَضَةِ بِقَوْلِهِ عَلَى أَنْ لَا يُقِرَّ عَلَيَّ؛ لِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ ثُبُوتُ الْمُسْتَثْنَى مَقْصُودًا بِصَدْرِ الْكَلَامِ لِيُمْكِنَ جَعْلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي فَإِذَا ثَبَتَ حُكْمًا وَتَبَعًا لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ بِالْبَيْعِ عَلَى أَنْ لَا يَقْبِضَ الْوَكِيلُ الثَّمَنَ أَوْ لَا يُسْلِمَ الْمَبِيعَ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلًا وَكَذَلِكَ اسْتِثْنَاءُ أَطْرَافِ الْحَيَوَانِ فِي الْبَيْعِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ تَبَعًا لَا مَقْصُودًا، وَقَدْ نَصَّ فِي الْهِدَايَةِ أَنَّ مَا يَجُوزُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ، وَهَذَا لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ لَمَّا ثَبَتَ حُكْمًا لِلْوَكَالَةِ مَا دَامَتْ الْوَكَالَةُ بَاقِيَةً كَانَ حُكْمُهَا بَاقِيًا؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ إذَا بَقِيَ بَقِيَ بِحُكْمِهِ وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَصَرُّفٌ لَفْظِيٌّ فَيَقْتَصِرُ عَمَلُهُ عَلَى مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ وَلَا يَعْمَلُ فِيمَا ثَبَتَ بِطَرِيقِ الْحُكْمِ إلَّا بِنَقْضِ الْوَكَالَةِ أَيْ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ إقْرَارِهِ عَلَيْهِ إلَّا بِأَنْ يَنْقُضَ الْوَكَالَةَ بِالْعَزْلِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ حُكْمًا لِلْوَكَالَةِ يَنْتَقِضُ بِانْتِقَاضِهَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ اسْتِثْنَاؤُهُ جَائِزٌ وَلِلْخَصْمِ أَنْ لَا يَقْبَلَ هَذَا الْوَكِيلَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ اسْتِثْنَاءُ الْإِقْرَارِ لَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَى حَقِّهِ إلَّا بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَرُبَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يُفِيدُهُ مُخَاصَمَتُهُ فَكَانَ لَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ وَلِجَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْخُصُومَةَ تَتَنَاوَلُ الْإِقْرَارَ عَمَلًا بِمَجَازِهَا؛ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ لَمَّا كَانَتْ مَهْجُورَةً شَرْعًا صَارَ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ تَوْكِيلًا بِالْجَوَابِ مَجَازًا؛ لِأَنَّ تَوْكِيلَهُ إنَّمَا يَصِحُّ شَرْعًا بِمَا يَمْلِكُهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ وَاَلَّذِي تُيُقِّنَ بِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِلْمُوَكِّلِ الْجَوَابُ لَا الْإِنْكَارُ فَإِنَّهُ إذَا عُرِفَ الْمُدَّعِي مُحِقًّا لَا يَمْلِكُ الْإِنْكَارَ شَرْعًا وَتَوْكِيلُهُ بِمَا لَا يَمْلِكُ لَا يَجُوزُ شَرْعًا فَحَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمَجَازِ كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَبِيعُ أَحَدُهُمَا نِصْفَهُ مُطْلَقًا يَنْصَرِفُ بَيْعُهُ إلَى نَصِيبِهِ خَاصَّةً لِتَصْحِيحِ عَقْدِهِ، وَإِذَا صَارَ تَوْكِيلًا بِالْجَوَابِ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِقْرَارُ وَالْإِنْكَارُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ جَوَابٌ تَامٌّ كَالْإِنْكَارِ، ثُمَّ هَذَا الْمَجَازُ انْقَلَبَ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً بِدَلَالَةِ الدِّيَانَةِ فَإِنَّهَا تَحْمِلُهُ عَلَى الْجَوَابِ الْوَاجِبِ وَتَمْنَعُهُ عَنْ الْإِنْكَارِ عِنْدَ مَعْرِفَتِهِ الْمُدَّعِيَ مُحِقًّا وَصَارَتْ الْحَقِيقَةُ وَهِيَ الْخُصُومَةُ كَالْمَجَازِ فَلَمَّا اسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَرَفَ الْكَلَامَ مِنْ الْحَقِيقَةِ الَّتِي هِيَ مُطْلَقُ الْجَوَابِ إلَى الْمَجَازِ وَهُوَ الْإِنْكَارُ وَالْخُصُومَةُ وَقَيَّدَ التَّوْكِيلَ بِهِ، وَتَقْيِيدُ الْإِطْلَاقِ تَغْيِيرٌ لَهُ بِلَا شُبْهَةٍ فَكَانَ اسْتِثْنَاءُ الْإِقْرَارِ بَيَانًا مُغَيِّرًا فَيَصِحُّ مَوْصُولًا وَيَجِبُ أَنْ لَا يَصِحَّ مَفْصُولًا إلَّا أَنْ يَعْزِلَ الْوَكِيلَ عَنْ الْوَكَالَةِ فَحِينَئِذٍ يَسْقُطُ الْإِقْرَارُ بِبُطْلَانِ الْوَكَالَةِ. وَقَوْلُهُ أَصْلًا لِدَفْعِ وَهْمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْإِقْرَارَ يَسْقُطُ بِعَزْلِهِ عَنْ الْإِقْرَارِ وَإِنْ لَمْ يَسْقُطْ بِالِاسْتِثْنَاءِ مُنْفَصِلًا كَمَنْ وَكَّلَ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدَيْنِ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ أَحَدِهِمَا مُنْفَصِلًا وَيَصِحُّ عَزْلُهُ عَنْ بَيْعِ أَحَدِهِمَا عَيْنًا فَقَالَ لَا يَسْقُطُ الْإِقْرَارُ هَاهُنَا بِعَزْلِهِ عَنْهُ كَمَا لَا يَسْقُطُ بِالِاسْتِثْنَاءِ مُنْفَصِلًا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ ثَبَتَ لَهُ حُكْمًا لِلْوَكَالَةِ فَمَا لَمْ يَعْزِلْهُ عَنْ الْوَكَالَةِ لَا يَسْقُطُ الْإِقْرَارُ وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِ الْوَكِيلِ بِاعْتِبَارِ

[باب بيان الضرورة]

{بَابُ بَيَانِ الضَّرُورَةِ} قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْبَيَانِ يَقَعُ بِمَا لَمْ يُوضَعْ لَهُ وَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ نَوْعٌ مِنْهُ مَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمَنْطُوقِ وَنَوْعٌ مِنْهُ مَا يَثْبُتُ بِدَلَالَةِ حَالِ الْمُتَكَلِّمِ، وَنَوْعٌ مِنْهُ مَا يَثْبُتُ بِضَرُورَةِ الدَّفْعِ، وَنَوْعٌ مِنْهُ مَا يَثْبُتُ بِضَرُورَةِ الْكَلَامِ أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَمِثْلُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] صَدْرُ الْكَلَامِ أَوْجَبَ الشَّرِكَةَ ثُمَّ تَخْصِيصُ الْأُمِّ بِالثُّلُثِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَبَ يَسْتَحِقُّ الْبَاقِيَ فَصَارَ بَيَانًا لِقَدْرِ نَصِيبِهِ بِصَدْرِ الْكَلَامِ لَا بِمَحْضِ السُّكُوتِ وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي الْمُضَارَبَةِ: إنَّ بَيَانَ نَصِيبِ الْمُضَارِبِ وَالسُّكُوتَ عَنْ نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ صَحِيحٌ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الْبَيَانِ، وَبَيَانَ نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ وَالسُّكُوتَ عَنْ نَصِيبِ الْمُضَارِبِ صَحِيحٌ اسْتِحْسَانًا عَلَى أَنَّهُ بَيَانٌ بِالشَّرِكَةِ الثَّابِتَةِ بِصَدْرِ الْكَلَامِ ـــــــــــــــــــــــــــــQتَرْكِ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ إلَى نَوْعٍ مِنْ الْمَجَازِ إذْ الْإِقْرَارُ مُسَالَمَةٌ وَلَيْسَ بِخُصُومَةٍ فَهُوَ بِقَوْلِهِ غَيْرِ جَائِزِ الْإِقْرَارِ تَبَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ حَقِيقَتُهُ اللُّغَوِيَّةُ وَهِيَ الْخُصُومَةُ لَا مُطْلَقُ الْجَوَابِ الَّذِي هُوَ مَجَازٌ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ نِصْفَ الْعَبْدِ شَائِعًا مِنْ النَّصِيبَيْنِ لَا يَنْصَرِفُ إلَى نَصِيبِهِ خَاصَّةً عِنْدَ التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَطْلَقَ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا اسْتِثْنَاءً حَقِيقَةً بَلْ كَانَ بَيَانَ تَقْرِيرٍ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا وَمَفْصُولًا. وَالثَّالِثُ أَنْ يُوَكِّلَهُ بِالْخُصُومَةِ غَيْرَ جَائِزِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْإِنْكَارِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَعْطِيلِ اللَّفْظِ فَإِنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ الْمُنَازَعَةُ وَهِيَ تَحْصُلُ بِالْإِنْكَارِ وَمَجَازُهُ الْجَوَابُ وَهُوَ يَشْمَلُ الْإِقْرَارَ وَالْإِنْكَارَ فَبِاسْتِثْنَاءِ الْإِنْكَارِ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهِمَا جَمِيعًا فَيَبْطُلُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ عِبَارَةً عَنْ الْجَوَابِ وَالْجَوَابُ يَشْمَلُ الْإِنْكَارَ وَالْإِقْرَارَ جَمِيعًا صَحَّ اسْتِثْنَاءُ الْإِنْكَارِ كَمَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْإِقْرَارِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ الْوَصْلُ؛ لِأَنَّهُ تَقْيِيدٌ لِلْإِطْلَاقِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ لِمُحَمَّدٍ وَلَا يَسْتَقِيمُ تَخْرِيجُهُ عَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَمَلًا بِالْحَقِيقَةِ بِوَجْهٍ. وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَلَوْ اسْتَثْنَى الْإِنْكَارَ فَقَالَ غَيْرَ جَائِزِ الْإِنْكَارِ عَلَيَّ صَحَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ إنْكَارَ الْوَكِيلِ قَدْ يَضُرُّ الْمُوَكِّلَ بِأَنْ كَانَ الْمُدَّعِي وَدِيعَةً أَوْ بِضَاعَةً فَأَنْكَرَ الْوَكِيلُ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ دَعْوَى الرَّدِّ وَالْهَلَاكِ بَعْدَ صِحَّةِ الْإِنْكَارِ وَيُسْمَعُ ذَلِكَ مِنْهُ قَبْلَ الْإِنْكَارِ فَإِذَا كَانَ إنْكَارُهُ قَدْ يَضُرُّ الْمُوَكِّلَ صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ الْإِنْكَارَ كَمَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ الْإِقْرَارَ وَالرَّابِعُ أَنْ يَقُولَ وَكَّلْتُك بِالْخُصُومَةِ غَيْرَ جَائِزِ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ قَالُوا لَا يَصِحُّ هَذَا التَّوْكِيلِ أَصْلًا وَحُكِيَ عَنْ الْقَاضِي الْإِمَامِ صَاعِدٍ النَّيْسَابُورِيِّ أَنَّهُ قَالَ يَصِحُّ وَيَصِيرُ الْوَكِيلُ وَكِيلًا بِالسُّكُوتِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ حَتَّى يُسْمَعَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ. وَالْخَامِسُ أَنْ يُوَكِّلَهُ بِالْخُصُومَةِ جَائِزَ الْإِقْرَارِ عَلَيْهِ يَصِيرُ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ وَالْإِقْرَارِ جَمِيعًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ثُمَّ التَّوْكِيلُ بِالْإِقْرَارِ صَحِيحٌ وَلَا يَصِيرُ الْمُوَكِّلُ مُقِرًّا عِنْدَنَا إلَيْهِ أَشَارَ مُحَمَّدٌ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ بِالصُّلْحِ وَحُكِيَ عَنْ الشَّيْخِ الْإِمَامِ الزَّاهِدِ أَحْمَدَ الطَّوَاوِيسِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مَعْنَى التَّوْكِيلِ بِالْإِقْرَارِ هُوَ أَنْ يَقُولَ لِلْوَكِيلِ وَكَّلْتُك أَنْ تُخَاصِمَ وَتَذُبَّ عَلَيَّ فَإِذَا رَأَيْت مَذَمَّةً تَلْحَقُنِي بِالْإِنْكَارِ وَاسْتَصْوَبْتَ الْإِقْرَارَ فَأَقِرَّ عَلَيَّ فَإِنِّي قَدْ أَجَزْتُ لَكَ. كَذَا فِي الْمُغْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ بَيَانِ الضَّرُورَةِ] [أَوْجُهٍ بَيَانِ الضَّرُورَةِ] بَابُ بَيَانِ الضَّرُورَةِ أَيْ الْبَيَانُ الَّذِي يَقَعُ بِسَبَبِ الضَّرُورَةِ فَكَأَنَّهُ أَضَافَ الْحُكْمَ إلَى سَبَبِهِ بِمَا لَمْ يُوضَعْ لَهُ وَهُوَ السُّكُوتُ نَوْعٌ مِنْهُ مَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمَنْطُوقِ أَيْ النُّطْقُ يَدُلُّ عَلَى حُكْمِ الْمَسْكُوتِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْطُوقِ وَقَوْلُهُ: بِدَلَالَةِ حَالِ الْمُتَكَلِّمِ مَجَازٌ أَيْ بِدَلَالَةِ حَالِ السَّاكِتِ الْمُشَاهَدِ وَكَأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ سُكُوتَهُ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ سَمَّى نَفْسَهُ مُتَكَلِّمًا ضَرُورَةَ الدَّفْعِ أَيْ دَفْعِ الْغُرُورِ كَانَ بَيَانًا بِصَدْرِ الْكَلَامِ لَا بِمَحْضِ السُّكُوتِ يَعْنِي لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْبَيَانُ بِمُجَرَّدِ السُّكُوتِ عَنْ نَصِيبِ الْأَبِ بَلْ بِدَلَالَةِ صَدْرِ الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} [النساء: 11] يَصِيرُ نَصِيبُ الْأَبِ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عِنْدَ ذِكْرِ نَصِيبِ الْأُمِّ كَأَنَّهُ قِيلَ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ وَلِأَبِيهِ مَا بَقِيَ قَوْلُهُ: (وَنَظِيرُ ذَلِكَ) أَيْ مِثَالُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمَسَائِلِ مَا إذَا بَيَّنَ رَبُّ الْمَالِ نَصِيبَ الْمُضَارِبِ

وَعَلَى هَذَا حُكْمُ الْمُزَارَعَةِ أَيْضًا وَعَلَى هَذَا إذَا أَوْصَى رَجُلٌ لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ بِأَلْفٍ لِفُلَانٍ مِنْهَا أَرْبَعُمِائَةٍ كَانَ بَيَانًا أَنَّ السِّتَّمِائَةِ لِلْبَاقِي، وَكَذَلِكَ إذَا أَوْصَى لَهُمَا بِثُلُثِ مَالِهِ عَلَى أَنَّ لِفُلَانَ مِنْهُ كَذَا وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي فَمِثْلُ السُّكُوتِ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ أَمْرٍ يُعَايِنُهُ عَنْ التَّغْيِيرِ يَدُلُّ عَلَى الْحَقِّيَّةِ عَلَيْهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ الرِّبْحِ وَلَمْ يُبَيِّنْ نَصِيبَ نَفْسِهِ بِأَنْ قَالَ: خُذْ هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ لَك مِنْ الرِّبْحِ نِصْفَهُ جَازَ الْعَقْدُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا لِأَنَّ الْمُضَارِبَ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِالشَّرْطِ وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى بَيَانِ نَصِيبِهِ خَاصَّةٌ وَقَدْ حَصَلَ وَلَوْ بَيَّنَ نَصِيبَ نَفْسِهِ مِنْ الرِّبْحِ وَلَمْ يُبَيِّنْ نَصِيبَ الْمُضَارِبِ فَقَالَ: خُذْ هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَ الرِّبْحِ وَلَمْ يُسَمِّ لِلْمُضَارِبِ شَيْئًا جَازَ الْعَقْدُ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ مَا هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ وَهُوَ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَهُوَ نَصِيبُ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ بِالشَّرْطِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ اشْتِرَاطِ النِّصْفِ لَهُ اشْتِرَاطُ مَا بَقِيَ لِلْمُضَارِبِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَفْهُومٌ وَالْمَفْهُومُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِلِاسْتِحْقَاقِ وَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ اشْتِرَاطَ بَعْضِ الرِّبْحِ لِعَامِلٍ آخَرَ يَعْمَلُ مَعَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا بَيَّنَ نَصِيبَ الْمُضَارِبِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ ذَكَرَ مَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ وَهُوَ بَيَانُ نَصِيبِ مَنْ يَسْتَحِقُّ بِالشَّرْطِ. وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ عَقْدُ شَرِكَةٍ فِي الرِّبْحِ وَالْأَصْلُ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ أَنَّهُ إذَا بُيِّنَ نَصِيبُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ كَانَ ذَلِكَ بَيَانًا فِي حَقِّ الْآخَرِ أَنَّ لَهُ مَا بَقِيَ كَمَا بَيَّنَّا فِي قَوْله تَعَالَى {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] فَهَا هُنَا لَمَّا دَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ مُضَارَبَةً كَانَ ذَلِكَ تَنْصِيصًا عَلَى الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِي الرِّبْحِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ بِالشَّرِكَةِ الثَّابِتَةِ بِصَدْرِ الْكَلَامِ، فَإِذَا قَالَ عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَ الرِّبْحِ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَك مَا بَقِيَ فَصَحَّ الْعَقْدُ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ وَهَذَا عَمَلٌ بِالْمَنْصُوصِ لَا بِالْمَفْهُومِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ هُوَ فِي حُكْمِ الْمَنْطُوقِ قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا حُكْمُ الْمُزَارَعَةِ أَيْضًا) يَعْنِي إذَا لَمْ يُسَمِّ نَصِيبَ صَاحِبِ الْبَذْرِ وَسَمَّى نَصِيبَ الْعَامِلِ بِأَنْ قَالَ عَلَى أَنَّ لَك ثُلُثَ الْخَارِجِ فَهُوَ جَائِزٌ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ مَنْ لَا بَذْرَ مِنْ قِبَلِهِ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِالشَّرْطِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ نَصِيبِهِ لِيَثْبُتَ الِاسْتِحْقَاقُ لَهُ بِالشَّرْطِ فَأَمَّا صَاحِبُ الْبَذْرِ فَيَسْتَحِقُّ بِمِلْكِهِ الْبَذْرَ فَلَا يَنْعَدِمُ اسْتِحْقَاقُهُ بِتَرْكِ الْبَيَانِ فِي نَصِيبِهِ، وَإِنْ سَمَّى نَصِيبَ صَاحِبِ الْبَذْرِ وَلَمْ يُسَمِّ مَا لِلْآخَرِ بِأَنْ قَالَ عَلَى أَنَّ لِي ثُلُثَيْ الْخَارِجِ وَسَكَتَ عَنْ نَصِيبِ الْمُزَارِعِ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا مَا لَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِهِ وَتَرَكُوا مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ، وَمَنْ لَا بَذْرَ مِنْ قِبَلِهِ يَسْتَحِقُّ بِالشُّرُوطِ فَبِدُونِهِ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الْخَارِجُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَالتَّنْصِيصُ عَلَى نَصِيبِ أَحَدِهِمَا يَكُونُ بَيَانًا أَنَّ الْبَاقِيَ لِلْآخَرِ فَكَأَنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ قَالَ عَلَى أَنَّ لِي ثُلُثَيْ الْخَارِجِ وَلَك ثُلُثُهُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي) وَهُوَ السُّكُوتُ الَّذِي يَكُونُ بَيَانًا بِدَلَالَةِ حَالِ الْمُتَكَلِّمِ فَمِثْلُ سُكُوتِ صَاحِبِ الشَّرْعِ عِنْدَ أَمْرٍ يُعَايِنُهُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ عَنْ التَّغْيِيرِ يَدُلُّ خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هُوَ يَدُلُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِثْلُ مَا شَاهَدَ مِنْ بِيَاعَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ كَانَ النَّاسُ يَتَعَامَلُونَهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَمَآكِلَ وَمَشَارِبَ وَمُلَابِسَ كَانُوا يَسْتَدِيمُونَ مُبَاشَرَتَهَا فَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهَا وَلَمْ يُنْكِرْهَا عَلَيْهِمْ فَدَلَّ أَنَّ جَمِيعَهَا مُبَاحٌ فِي الشَّرْعِ إذْ لَا يَجُوزُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُقِرَّ النَّاسَ عَلَى مُنْكَرٍ مَحْظُورٍ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157] فَكَانَ سُكُوتُهُ بَيَانًا أَنَّ مَا أَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ دَاخِلٌ فِي الْمَعْرُوفِ خَارِجٌ عَنْ الْمُنْكَرِ. وَذُكِرَ فِي فِي بَعْضِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا عَلِمَ بِفِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ صَدَرَ عَنْ مُكَلَّفٍ وَسَكَتَ عَنْهُ وَقَرَّرَهُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ مَعَ كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى الْإِنْكَارِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ الَّتِي سَبَقَ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - النَّهْيُ عَنْهَا

وَيَدُلُّ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ عَلَى الْبَيَانِ مِثْلُ سُكُوتِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - عَنْ تَقْوِيمِ مَنْفَعَةِ الْبَدَنِ فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَتَحْرِيمُهَا وَمِنْ الْمُبَاشِرِ الْإِصْرَارُ عَلَيْهَا وَاعْتِقَادُ إبَاحَتِهَا أَوْ لَا يَكُون كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَسُكُوتِهِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ كَافِرًا يَمْشِي إلَى كَنِيسَةٍ عَنْ الْإِنْكَارِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَلَا عَلَى كَوْنِ النَّهْيِ مَنْسُوخًا بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ قَوْمٌ إنْ لَمْ يَسْبِقْهُ تَحْرِيمٌ فَتَقْرِيرُهُ دَلَّ عَلَى الْجَوَازِ وَنَفْيِ الْحَرَجِ، وَإِنْ سَبَقَهُ تَحْرِيمٌ فَتَقْرِيرُهُ يَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّ تَقْرِيرَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ وَالنَّسْخِ مُتَمَسِّكِينَ بِأَنَّ السُّكُوتَ وَعَدَمَ الْإِنْكَارِ مُحْتَمَلٌ إذْ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَكَتَ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ التَّحْرِيمُ فَلَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ عَلَيْهِ إذْ ذَاكَ حَرَامًا أَوْ سَكَتَ؛ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مَرَّةً فَلَمْ يَنْجَحْ فِيهِ الْإِنْكَارُ وَعَلِمَ أَنَّ إنْكَارَهُ ثَانِيًا لَا يُفِيدُ فَلَمْ يُعَاوِدْ وَأَقَرَّهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الْجَوَازِ وَالنَّسْخِ وَحُجَّةُ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ أَنَّ سُكُوتَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَوْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْجَوَازِ إنْ لَمْ يَسْبِقْ تَحْرِيمٌ وَعَلَى النَّسْخِ إنْ سَبَقَ لَزِمَ ارْتِكَابُ مُحَرَّمٍ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِعْلَ أَوْ الْقَوْلَ الصَّادِرَ لَوْ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا لَكَانَ التَّقْرِيرُ عَلَيْهِ وَالسُّكُوتُ عَنْ الْإِنْكَارِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ حَرَامًا فِي حَقِّ غَيْرِ النَّبِيِّ فَكَيْفَ فِي حَقِّهِ مَعَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «السَّاكِتُ عَنْ الْحَقِّ شَيْطَانٌ أَخْرَسُ» وَفِيهِ أَيْضًا تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ عَنْ الْبَاطِلِ يُوهِمُ الْجَوَازَ أَوْ النَّسْخَ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ بِالْإِجْمَاعِ إلَّا عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ تَكْلِيفَ الْمُحَالِ وَقَوْلُهُمْ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ التَّحْرِيمُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ عَدَمَ بُلُوغِ التَّحْرِيمِ إلَيْهِ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ الْإِنْكَارِ وَالْإِعْلَامِ بِأَنَّ تِلْكَ الْفِعْلَ أَوْ الْقَوْلَ حَرَامٌ بَلْ الْإِعْلَامُ بِالتَّحْرِيمِ وَاجِبٌ حَتَّى لَا يَعُودَ إلَيْهِ ثَانِيًا وَإِلَّا كَانَ السُّكُوتُ مُوهِمًا عَدَمَ التَّحْرِيمِ أَوْ النَّسْخَ وَكَذَا إذَا بَلَغَهُ التَّحْرِيمُ وَلَمْ يَنْزَجِرْ بِالْإِنْكَارِ مَرَّةً مَعَ كَوْنِهِ مُسْلِمًا مُتَّبِعًا لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَجِبُ تَجْدِيدُ الْإِنْكَارِ دَفْعًا لِلتَّوَهُّمِ الْمَذْكُورِ وَهَذَا بِخِلَافِ اخْتِلَافِ أَهْلِ الذِّمَّةِ إلَى كَنَائِسِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُتَّبِعِينَ لَهُ وَلَا مُعْتَقِدِينَ تَحْرِيمَ ذَلِكَ فَلَا يُتَوَهَّمُ نَسْخُ ذَلِكَ بِسُكُوتِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ (وَيَدُلُّ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ) إلَى كَذَا لَا يَخْلُو عَنْ اشْتِبَاهٍ؛ لِأَنَّ ضَمِيرَ يَدُلُّ إنْ رَجَعَ إلَى مَا رَجَعَ إلَيْهِ ضَمِيرُ يَدُلُّ الْأَوَّلُ لِانْعِطَافِهِ عَلَيْهِ بِوَاسِطَةِ الْوَاوِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ سُكُوتَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَدُلُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَعَلَى الْبَيَانِ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ لَا يُطَابِقُهُ الْمِثَالُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ سُكُوتُ الصَّحَابَةِ، وَإِنْ جُعِلَ ضَمِيرُهُ لِمُطْلَقِ السُّكُوتِ كَمَا هُوَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ يَأْبَاهُ الْعَطْفُ إذْ لَا بُدَّ فِي الْعَطْفِ مِنْ تَقْدِيرِ مَا قُدِّرَ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْمَعْطُوفِ وَلَوْ قُرِئَ مِثْلُ بِالنَّصْبِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ سُكُوتَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَدُلُّ عَلَى كَذَا مِثْلَ دَلَالَةِ سُكُوتِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ لَا يَسْتَقِيمُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِيهِ اعْتِبَارَ سُكُوتِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِسُكُوتِهِمْ وَهُوَ قَلْبُ الْأَصْلِ. وَلَوْ جُعِلَ مِثْلُ مَعْطُوفًا عَلَى " مِثْلُ " الْأَوَّلُ بِغَيْرِ وَاوٍ وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ بَعْضِ النُّحَاةِ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي التَّيْسِيرِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ لَاسْتَقَامَ وَصَارَ مُوَافِقًا لِعِبَارَةِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ قَالَ: وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي فَنَحْوُ سُكُوتِ صَاحِبِ الشَّرْعِ إلَى أَنْ قَالَ وَكَذَلِكَ سُكُوتُ الصَّحَابَةِ الْمَغْرُورُ مَنْ يَطَأُ امْرَأَةً مُعْتَمِدًا عَلَى مِلْكِ يَمِينٍ أَوْ نِكَاحٍ عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا حُرَّةً فَتَلِدُ مِنْهُ ثُمَّ تُسْتَحَقُّ وَوَلَدُهُ هَذَا حُرٌّ بِالْقِيمَةِ فَإِنَّ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ فُسَيْطٍ قَالَ: أَبَقَتْ أَمَةٌ فَأَتَتْ بَعْضَ الْقَبَائِلِ فَانْتَمَتْ إلَى بَعْضِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ فَنَثَرَتْ وَأَبْطَنَهَا ثُمَّ جَاءَ مَوْلَاهَا فَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَضَى بِهَا لِمَوْلَاهَا وَقَضَى عَلَى أَبِي

وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَسُكُوتُ الْبِكْرِ فِي النِّكَاحِ يُجْعَلُ بَيَانًا لِحَالِهَا الَّتِي تُوجِبُ ذَلِكَ وَهُوَ الْحَيَاءُ وَالنُّكُولُ جُعِلَ بَيَانًا لِحَالٍ فِي النَّاكِلِ وَهُوَ امْتِنَاعُهُ عَنْ أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْيَمِينُ وَقُلْنَا فِي أَمَةٍ وَلَدَتْ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ فِي بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ: إنَّهُ إذَا ادَّعَى أَكْبَرَهُمْ كَانَ نَفْيًا لِلْبَاقِينَ بِحَالٍ مِنْهُ وَهُوَ لُزُومُ الْإِقْرَارِ لَوْ كَانُوا مِنْهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْأَوْلَادِ أَنْ يَفْدِيَ أَوْلَادَهُ الْغُلَامَ بِالْغُلَامِ وَالْجَارِيَةَ بِالْجَارِيَةِ أَيْ الْغُلَامَ بِقِيمَةِ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةَ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ فَإِنَّ الْحَيَوَانَ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ بِالْمِثْلِ فِي الشَّرْعِ وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي فَضْلِ الشِّرَاءِ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرِ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْإِجْمَاعِ مِنْهُمْ ثُمَّ إنَّهُمْ حَكَمُوا بِرَدِّ الْجَارِيَةِ عَلَى مَوْلَاهَا وَبِكَوْنِ الْوَلَدِ حُرًّا بِالْقِيمَةِ وَبِوُجُوبِ الْعُقْرِ وَسَكَتُوا عَنْ بَيَانِ قِيمَةِ مَنْفَعَةِ بَدَلِ وَلَدِ الْمَغْرُورِ وَوُجُوبِهَا لِلْمُسْتَحِقِّ عَلَى الْمَغْرُورِ فَيَكُونُ سُكُوتُهُمْ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ الْمُجَرَّدِ عَنْ الْعَقْدِ وَعَنْ شُبْهَةِ الْعَقْدِ بِدَلَالَةِ حَالِهِمْ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ جَاءَ طَالِبًا حُكْمَ الْحَادِثَةِ وَهُوَ جَاهِلٌ بِمَا هُوَ وَاجِبٌ لَهُ وَكَانَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ أُولَى حَادِثَةٍ وَقَعَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا لَمْ يَسْمَعُوا فِيهِ نَصًّا فَكَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْبَيَانُ بِصِفَةِ الْكَمَالِ وَالسُّكُوتُ بَعْدَ وُجُوبِ الْبَيَانِ دَلِيلُ النَّفْيِ كَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ أَيْ وَمَا أَشْبَهَ تَقْوِيمَ مَنْفَعَةٍ بِدُونِ الْوَلَدِ مِنْ تَقْوِيمِ مَنَافِعِ الْجَارِيَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ وَخِدْمَتِهَا وَإِكْسَائِهَا فَإِنَّهُمْ لَمَّا سَكَتُوا عَنْ بَيَانِ حُكْمِهَا مَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ كَانَ بَيَانًا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُتَقَوِّمَةِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ سُكُوتِهِمْ فِي تَقْدِيرِ الْحَيْضِ عَمَّا فَوْقَ الْعَشَرَةِ مَعَ أَنَّهُ مَوْضِعُ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ تُوجِبُ ذَلِكَ أَيْ تُوجِبُ كَوْنَهُ بَيَانًا وَهُوَ الْحَيَاءُ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى الْحَالِ وَتَذْكِيرُهُ بِاعْتِبَارِ تَذْكِيرِ الْخَبَرِ أَيْ تِلْكَ الْحَالُ هِيَ الْحَيَاءُ عَلَى مَا أَشَارَتْ إلَيْهِ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي قَوْلِهَا: «إنَّ الْبِكْرَ لَتَسْتَحْيِي يَا رَسُولَ اللَّهِ» فَجَعَلَ سُكُوتَهَا دَلِيلًا عَلَى جَوَابٍ يَحُولُ الْحَيَاءُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ التَّكَلُّمِ بِهِ وَهُوَ الْإِجَازَةُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا إظْهَارُ الرَّغْبَةِ فِي الرِّجَالِ وَكَذَلِكَ النُّكُولُ أَيْ وَمِثْلُ سُكُوتِ الْبِكْرِ وَهُوَ امْتِنَاعُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْحَلِفِ بَعْدَ تَوَجُّهِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ مِنْ نَكْلِ الْقَرْنِ إذَا تَأَخَّرَ عَنْ مُحَارَبَةِ صَاحِبِهِ جُعِلَ بَيَانًا أَيْ إقْرَارًا بِوُجُوبِ الْمُدَّعَى بِهِ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِحَالٍ فِي النَّاكِلِ وَهُوَ أَيْ تِلْكَ الْحَالُ امْتِنَاعُهُ عَنْ أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْيَمِينُ فَإِنَّهَا قَدْ لَزِمَتْهُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» فَلَا يَكُونُ امْتِنَاعُهُ عَنْ أَدَائِهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ إلَّا لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْوُقُوعِ فِي أَمْرٍ أَعْظَمَ مِنْهُ وَهُوَ الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ إذْ الْمُسْلِمُ لَا يَمْتَنِعُ عَنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ إلَّا لِأَمْرٍ أَعْظَمَ مِنْهُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَالُهُ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يَجْعَلْهُ إقْرَارًا؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ كَمَا يَدُلُّ عَلَى الِاحْتِرَازِ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ يَدُلُّ عَلَى الِاحْتِرَازِ عَنْ نَفْسِ الْيَمِينِ وَالْفِدَاءِ عَنْهَا اقْتِدَاءً بِالصَّحَابَةِ وَعَمَلًا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224] . ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهَا وَهُوَ رِعَايَةُ حَقِّ الْمُدَّعِي لَا لِذَاتِهَا وَيَحْصُلُ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِبَدَلِ مَا ادَّعَى لَهُ فَيُحْمَلُ امْتِنَاعُهُ عَنْ الْيَمِينِ عَلَى اخْتِيَارِ الْبَذْلِ وَالْفِدَاءِ لَا الْإِقْرَارِ وَالِامْتِنَاعِ عَنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ إذْ الْوُجُوبُ مُنْتَفٍ عَلَى تَقْدِيرِ الْبَذْلِ احْتِرَازًا عَنْ نِسْبَتِهِ إلَى الْكَذِبِ كَانَ نَفْيًا لِلْبَاقِينَ لِحَالٍ فِيهِ يَعْنِي كَانَ تَخْصِيصُهُ الْأَكْبَرَ وَسُكُوتُهُ عَنْ دَعْوَةِ الْآخَرِينَ نَفْيًا لِلْبَاقِينَ بِدَلَالَةِ حَالٍ فِيهِ وَهِيَ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِنَسَبِ وَلَدٍ هُوَ مِنْهُ وَاجِبٌ وَأَنَّ نَفْيَ نَسَبِ وَلَدٍ لَيْسَ مِنْهُ عَنْ نَفْسِهِ وَاجِبٌ أَيْضًا، فَإِذَا سَكَتَ عَنْ بَيَانِ نَسَبِ الْآخَرِينَ بَعْدَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ بِثُبُوتِهِ لَوْ كَانَا مِنْهُ كَانَ دَلِيلَ النَّفْيِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ كَالتَّصْرِيحِ بِالنَّفْيِ وَلَا يُقَالُ: إنَّ الْجَارِيَةَ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ بِدَعْوَةِ الْأَكْبَرِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ نَسَبُ الْآخَرَيْنِ

وَأَمَّا الثَّالِثُ فَمِثْلُ الْمَوْلَى يَسْكُتُ حِينَ يَرَى عَبْدَهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَجُعِلَ إذْنًا دَفْعًا لِلْغُرُورِ عَنْ النَّاسِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالسُّكُوتِ؛ لِأَنَّهُمَا وَلَدَا أُمِّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّمَا يَثْبُتُ نَسَبِ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ بِالسُّكُوتِ إذَا لَمْ يُقَارِنْهُ نَفْيٌ وَهَاهُنَا قَدْ دَلَّ السُّكُوتُ عَلَى النَّفْيِ بِدَلَالَةِ حَالِهِ كَمَا ذَكَرْنَا فَلَا يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الثَّالِثُ) وَهُوَ السُّكُوتُ الَّذِي جُعِلَ بَيَانًا ضَرُورَةَ دَفْعِ الْغُرُورِ فَمِثْلُ الْمَوْلَى إذَا رَأَى عَبْدَهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَسَكَتَ عَنْ النَّهْيِ كَانَ سُكُوتُهُ إذْنًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَكُونُ إذْنًا؛ لِأَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ النَّهْيِ مُحْتَمِلٌ قَدْ يَكُونُ لِلرِّضَاءِ بِتَصَرُّفِهِ وَقَدْ يَكُونُ لِفَرْطِ الْغَيْظِ وَقِلَّةِ الِالْتِفَاتِ إلَى تَصَرُّفِهِ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ مَحْجُورٌ عَنْ ذَلِكَ شَرْعًا وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً كَمَنْ رَأَى إنْسَانًا يَبِيعُ مَالَهُ فَسَكَتَ وَلَمْ يَنْهَهُ لَا يَنْفُذُ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ بِسُكُوتِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ الَّذِي يُبَاشِرُهُ لَا يَنْفُذُ بِسُكُوتِ الْمَوْلَى فَإِنَّهُ إذَا رَآهُ يَبِيعُ شَيْئًا مِنْ مِلْكِهِ لَا يَنْفُذُ هَذَا التَّصَرُّفُ فَكَيْفَ يَصِيرُ مَأْذُونًا فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ فَالْحَاجَةُ إلَى رِضَاهُ مُسْقِطٌ لِحَقِّ الْمَوْلَى عَنْ مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالسُّكُوتِ كَمَنْ رَأَى آخَرَ يُتْلِفُ مَالَهُ فَسَكَتَ لَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ بِسُكُوتِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ سُكُوتِ الْبِكْرِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُحْتَمِلٌ وَلَكِنْ قَامَ الدَّلِيلُ الْمُوجِبُ لِتَرْجِيحِ الرِّضَاءِ فِيهِ وَهُوَ أَنَّ لَهَا عِنْدَ تَزْوِيجِ الْمَوْلَى كَلَامَيْنِ لَا وَنَعَمْ وَالْحَيَاءُ يَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ نَعَمْ لِمَا بَيَّنَّا وَلَا يَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ لَا فَكَانَ سُكُوتُهَا دَلِيلًا عَلَى الْجَوَابِ الَّذِي يَحُولُ الْحَيَاءُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ذَلِكَ وَلَا يُوجَدُ مِثْلُ لَا لَك هَا هُنَا فَلَا يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الرِّضَاءِ وَكَذَلِكَ سُكُوتُ الشَّفِيعِ عَنْ الطَّلَبِ فَإِنَّهُ لَا حَقَّ لِلشَّفِيعِ قَبْلَ الطَّلَبِ، وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يُثْبِتَ حَقَّهُ بِالطَّلَبِ، فَإِذَا لَمْ يَطْلُبْ لَمْ يَثْبُتْ حَقُّهُ وَهَاهُنَا حَقُّ الْمَوْلَى فِي مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ ثَابِتٌ، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى الرِّضَاءِ الْمُسْقِطِ لِحَقِّهِ وَنَحْنُ نَقُولُ لَوْ لَمْ يَكُنْ سُكُوتُ الْمَوْلَى عَنْ النَّهْيِ إذْنًا لَهُ بِالتِّجَارَةِ أَدَّى إلَى الضَّرَرِ وَالْغُرُورِ وَدَفْعُهُمَا وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ» وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» . وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ يُعَامِلُونَ الْعَبْدَ وَلَا يَمْتَنِعُونَ مِنْهَا عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْلَى إذَا كَانَ سَاكِتًا، فَإِذَا لَحِقَهُ دُيُونٌ ثُمَّ قَالَ الْمَوْلَى: كَانَ عَبْدِي مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِتَأَخُّرِ الدُّيُونِ إلَى وَقْتِ عِتْقِهِ وَلَا يَدْرِي مَتَى يَعْتِقُ وَهَلْ يَعْتِقُ أَوْ لَا يَعْتِقُ فَيَكُونُ آتَوْا حُقُوقَهُمْ وَيَلْحَقُهُمْ فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَا يَخْفَى وَيَصِيرُ الْمَوْلَى غَارًّا لَهُمْ فَلِدَفْعِ الضَّرَرِ وَالْغُرُورِ جَعَلْنَا سُكُوتَهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ. وَالسُّكُوتُ مُحْتَمِلٌ كَمَا قَالَ وَلَكِنَّ دَلِيلَ الْعُرْفِ يُرَجِّحُ جَانِبَ الرِّضَاءِ فَالْعَادَةُ أَنَّ مَنْ لَا يَرْضَى بِتَصَرُّفِ عَبْدِهِ يُظْهِرُ النَّهْيَ إذَا رَآهُ يَتَصَرَّفُ وَيُؤَدِّبُهُ عَلَى ذَلِكَ وَرُبَّمَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ شَرْعًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَالْغُرُورِ فَبِهَذَا الدَّلِيلِ رَجَّحْنَا جَانِبَ الرِّضَا لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بَعْدَمَا أَذِنَ لَهُ فِي أَهْلِ سُوقِهِ لَوْ حَجَرَ عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ لَمْ يَصِحَّ حَجْرُهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَالْغُرُورِ فَلَمَّا سَقَطَ اعْتِبَارُ حَجْرِهِ نَصًّا لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَلَأَنْ يَسْقُطَ احْتِمَالُ عَدَمِ الرِّضَاءِ مِنْ سُكُوتِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ النَّاسِ كَانَ أَوْلَى وَقَوْلُهُ هَذَا التَّصَرُّفُ بِسُكُوتِ الْمَوْلَى لَا يَنْفُذُ قُلْنَا: لِأَنَّ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ إزَالَةَ مِلْكِ الْمَوْلَى عَمَّا يَبِيعُهُ وَفِي إزَالَةِ مِلْكِهِ ضَرَرٌ مُتَحَقِّقٌ لِلْحَالِ فَلَا يَثْبُتُ بِسُكُوتِهِ وَلَيْسَ فِي ثُبُوتِ الْإِذْنِ ضَرَرٌ مُتَحَقِّقٌ عَلَى الْمَوْلَى فِي الْحَالِ فَقَدْ يَلْحَقُهُ الدَّيْنُ وَقَدْ لَا يَلْحَقُهُ وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ الْإِذْنُ بِهِ لِتَضَرُّرِ النَّاسِ الَّذِي يُعَامِلُونَهُ وَكَذَا لَا يَثْبُتُ الرِّضَاءُ بِالسُّكُوتِ إذَا رَأَى

وَكَذَلِكَ سُكُوتُ الشَّفِيعِ جُعِلَ رَدًّا لِهَذَا الْمَعْنَى. فَأَمَّا الرَّابِعُ فَمِثْلُ قَوْلِ عُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي رَجُلٍ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةٌ وَدِينَارٌ أَوْ مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ أَنَّ الْعَطْفَ جُعِلَ بَيَانًا لِلْأَوَّلِ وَجُعِلَ مِنْ جِنْسِ الْمَعْطُوفِ، وَكَذَلِكَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةٌ وَقَفِيزُ حِنْطَةٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الْمِائَةِ؛ لِأَنَّهَا مُجْمَلَةٌ فَإِلَيْهِ بَيَانُهَا وَالْعَطْفُ لَا يَصْلُحُ بَيَانًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ لَهُ كَمَا إذَا قَالَ مِائَةٌ وَثَوْبٌ وَشَاةٌ وَمِائَةٌ وَعَبْدٌ وَوَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ هَذَا يُجْعَلُ بَيَانًا عَادَةً وَدَلَالَةً أَمَّا الْعَادَةُ فَلِأَنَّ حَذْفَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْعَدَدِ مُتَعَارَفٌ ضَرُورَةَ كَثْرَةِ الْعَدَدِ وَطُولِ الْكَلَامِ يَقُولُ الرَّجُلُ: بِعْت مِنْك هَذَا بِمِائَةٍ وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَبِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَبِمِائَةٍ وَدِرْهَمٍ وَدِرْهَمَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حُكْمُ مَا هُوَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتَ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَلِأَنَّ الْمَعْطُوفَ مَعَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ شَيْءٍ وَاحِدٍ كَالْمُضَافِ مَعَ الْمُضَافِ إلَيْهِ لِلتَّعْرِيفِ ـــــــــــــــــــــــــــــQإنْسَانًا يُتْلِفُ مَالَهُ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ مُتَحَقِّقٌ فِي الْحَالِ وَسُكُوتُهُ لَا يَكُونُ دَلِيلَ الْتِزَامِ الضَّرَرِ حَقِيقَةً. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ سُكُوتُ الشَّفِيعِ جُعِلَ رَدًّا لِهَذَا الْمَعْنَى) أَيْ وَمِثْلُ سُكُوتِ الْمَوْلَى سُكُوتُ الشَّفِيعِ عَنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ جُعِلَ رَدًّا لِلشُّفْعَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ دَفْعُ الْغُرُورِ عَنْ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمُشْتَرَى، فَإِذَا لَمْ يُجْعَلْ سُكُوتُ الشَّفِيعِ عَنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ إسْقَاطًا لَهَا، فَإِمَّا أَنْ يَمْتَنِعَ الْمُشْتَرِي مِنْ التَّصَرُّفِ أَوْ يَنْقُضُ الشَّفِيعُ عَلَيْهِ تَصَرُّفَهُ فَلِدَفْعِ الضَّرَرِ وَالْغُرُورِ جَعَلْنَا ذَلِكَ كَالتَّنْصِيصِ مِنْهُ عَلَى إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ، وَإِنْ كَانَ السُّكُوتُ فِي أَصْلِهِ غَيْرَ مَوْضُوعٍ لِلْبَيَانِ بَلْ هُوَ ضِدُّهُ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ شُرِعَتْ لِدَفْعِ ضَرَرِ الدَّخِيلِ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِذَا سَكَتَ فَقَدْ رَضِيَ بِالْتِزَامِ الضَّرَرِ عَلَى نَفْسِهِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا النَّوْعُ الرَّابِعُ) وَهُوَ السُّكُوتُ الَّذِي جُعِلَ بَيَانًا لِضَرُورَةِ الْكَلَامِ فَكَذَا وَالْخِلَافُ لَيْسَ فِي هَذَا الْأَصْلِ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُوَافِقُنَا فِي أَنَّ السُّكُوتَ يُجْعَلُ بَيَانًا لِصَيْرُورَةِ الْكَلَامِ كَمَا فِي عَطْفِ الْجُمْلَةِ النَّاقِصَةِ عَلَى الْكَامِلَةِ وَكَمَا فِي عَطْفِ الْعَدَدِ الْمُفَسَّرِ عَلَى الْمُبْهَمِ إنَّمَا الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَعِنْدَنَا هِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَعِنْدَهُ لَيْسَتْ بِمَبْنِيَّةٍ عَلَيْهِ وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ الْقِيَاسُ أَنَّهُ أَبْهَمَ الْإِقْرَارَ بِالْمِائَةِ وَقَوْلُهُ وَدِرْهَمٌ لَيْسَ بِتَفْسِيرٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَيْهِ بِحَرْفِ الْوَاوِ وَالْعَطْفُ لَمْ يُوضَعْ لِلتَّفْسِيرِ لُغَةً أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْعَطْفِ الْمُغَايِرَةَ حَتَّى لَمْ يَجُزْ عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَمِنْ شَرْطِ صِحَّةِ التَّفْسِيرِ أَنْ يَكُونَ عَيْنَ الْمُفَسَّرِ فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ فِي قَوْلِهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ عَيْنُ الْعَشَرَةِ لَا غَيْرُهَا فَكَيْفَ يَصْلُحُ الْعَطْفُ مُفَسِّرًا يُوضِحُهُ أَنَّ الْمَعْطُوفَ وَهُوَ الدِّرْهَمُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ مِثْلُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمِائَةُ وَلَوْ كَانَ تَفْسِيرًا لَهَا لَمْ يَجِبْ بِهِ شَيْءٌ كَمَا لَوْ قَالَ مِائَةُ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِالْمُفَسَّرِ لَا بِالتَّفْسِيرِ وَإِذَا لَمْ يَصْلُحْ الْعَطْفُ مُفَسِّرًا بَقِيَتْ الْمِائَةُ مُجْمَلَةً فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي بَيَانِهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ مِائَةٌ وَثَوْبٌ وَمِائَةٌ وَشَاةٌ وَمِائَةٌ وَعَبْدٌ بِخِلَافِ قَوْلِهِ عَلَى مِائَةٍ وَثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ أَحَدَ الْعَدَدَيْنِ الْمُبْهَمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ. ثُمَّ فَسَّرَهُ بِالدَّرَاهِمِ فَيَنْصَرِفُ التَّفْسِيرُ إلَيْهِمَا لِحَاجَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى التَّفْسِيرِ كَمَا لَوْ قَالَ: مِائَةٌ وَثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ بِقَوْلِهِ دَرَاهِمَ زِيَادَةٌ عَلَى الْمَذْكُورِ وَيَلْزَمُهُ بِقَوْلِهِ وَدِرْهَمٌ زِيَادَةٌ عَلَى الْمِائَةِ لِمَا قُلْنَا وَجْهُ قَوْلِنَا وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ أَنَّ هَذَا أَيْ قَوْلَهُ وَدِرْهَمٌ أَوْ دِينَارٌ جُعِلَ بَيَانًا عَادَةً وَدَلَالَةً أَيْ عُرْفًا وَاسْتِدْلَالًا. وَقِيلَ الْعَادَةُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَفْعَالِ وَالْعُرْفُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَقْوَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ لَا أَضَعُ قَدَمِي أَمَّا الْعَادَةُ فَلِأَنَّ حَذْفَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أَيْ حَذْفَ تَفْسِيرِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَتَمْيِيزَهُ فِي الْعَدَدِ مُتَعَارَفٌ إذَا كَانَ فِي الْمَعْطُوفِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ بِأَنْ كَانَ مُفَسَّرًا بِقَوْلِ الرَّجُلِ: بِعْت هَذَا مِنْك بِمِائَةٍ وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَبِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا أَيْ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَبِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا. وَفَائِدَةُ إيرَادِ النَّظِيرَيْنِ جَوَازُ حَذْفِ مُمَيِّزِ الْمِائَةِ سَوَاءٌ كَانَ مُمَيِّزُ الْمَعْطُوفِ بِلَفْظِ الْفَرْدِ أَوْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَبِمِائَةٍ وَدِرْهَمٍ وَدِرْهَمَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ يَعْنِي كَمَا يُقَالُ بِمِائَةٍ وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَبِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَيُرَادُ بِالْجَمِيعِ الدَّرَاهِمُ يُقَالُ أَيْضًا بِمِائَةٍ وَدِرْهَمٍ وَبِمِائَةٍ وَدِرْهَمَيْنِ وَيُرَادُ بِالْكُلِّ الدَّرَاهِمُ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ فَلَمَّا صَلَحَ عَطْفُ الدِّرْهَمِ عَلَى الْمِائَةِ

فَإِذَا صَلَحَ الْعَطْفُ لِلتَّعْرِيفِ صَحَّ الْحَذْفُ فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ بِدَلَالَةِ الْعَطْفِ وَالْعَطْفُ إذَا كَانَ مِنْ الْمُقَدَّرَاتِ صَلَحَ لِلتَّعْرِيفِ فَجُعِلَ دَلِيلًا عَلَى الْمُضَافِ إلَيْهِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُقَدَّرًا مِثْلُ الثَّوْبِ وَالْفَرَسِ لَمْ يَصْلُحْ لِلتَّعْرِيفِ فَلَمْ يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الْمَحْذُوفِ وَاتَّفَقُوا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ دَرَاهِمُ؛ لِأَنَّ الْعِشْرُونَ مَعَ الْآحَادِ مَعْدُودٌ مَجْهُولٌ فَصَحَّ التَّعْرِيفُ بِالدِّرْهَمِ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ شَاةً أَوْ ثَوْبًا وَأَجْمَعُوا فِي قَوْلِهِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةٌ وَثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا أَنَّ الْمِائَةَ مِنْ الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّ الْجُمْلَتَيْنِ جَمِيعًا أُضِيفَتَا إلَى الدَّرَاهِمِ فَصَارَ بَيَانًا وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ مِائَةٌ وَثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ وَثَلَاثَةُ شِيَاهٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي الْبَيْعِ مُفَسِّرًا لَهَا بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ كَمَا صَلَحَ عَطْفُ الْعَدَدِ الْمُفَسِّرِ لِذَلِكَ يَصْلُحُ عَطْفُهُ عَلَيْهَا مُفَسِّرًا لَهَا فِي الْإِقْرَارِ أَيْضًا كَمَا صَلَحَ عَطْفُ الْعَدَدِ الْمُفَسِّرِ لِذَلِكَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَيْ كَعَطْفِ الدَّرَاهِمِ عَلَى الْمِائَةِ عَطْفُ مَا لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ مِثْلُ الثَّوْبِ وَالشَّاةِ عَلَيْهَا فَإِنَّ عَطْفَهُ لَيْسَ بِمُفَسِّرٍ لَهَا؛ لِأَنَّ مَا لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ مِثْلَ ثُبُوتِ مَا هُوَ مُقَدَّرٌ يَعْنِي الْمُوجِبَ لِلْحَذْفِ كَثْرَةُ الِاسْتِعْمَالِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَسْبَابِ التَّخْفِيفِ وَهِيَ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِي الْمُقَدَّرِ الَّذِي يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ حَالًّا وَمُؤَجَّلًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ كَثُرَ الْعُقُودُ وَالْمُبَايَعَاتُ بِهِ، فَأَمَّا غَيْرُ الْمُقَدَّرِ فَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ كَثْرَةُ الِاسْتِعْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ إلَّا فِي عَقْدٍ خَاصٍّ وَهُوَ السَّلَمُ أَوْ فِيمَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ الْبَيْعُ بِالثِّيَابِ الْمَوْصُوفَةِ مُؤَجَّلًا لَمْ يَقَعْ الْعُقُودُ وَالْمُعَامَلَاتُ بِهِ وَبِكَثْرَةِ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ فِي الْمُعَامَلَاتِ جَازَ الْحَذْفُ وَصَارَ الْعَطْفُ مُفَسِّرًا، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ بَقِيَتْ الْمِائَةُ مُجْمَلَةً فَيُرْجَعُ فِي تَفْسِيرِهَا إلَيْهِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ جَوَازَ الْحَذْفِ وَدَلَالَةَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَهِيَ تُوجَدُ فِي الْمُقَدَّرِ دُونَ غَيْرِهِ. وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَلِأَنَّ الْمَعْطُوفَ مَعَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ شَيْءٍ وَاحِدٍ كَالْمُضَافِ مَعَ الْمُضَافِ إلَيْهِ بِدَلِيلِ اتِّحَادِهِمَا فِي الْإِعْرَابِ وَاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْخَبَرِ وَالشَّرْطِ إذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ نَاقِصًا حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ وَلِهَذَا لَمْ يُحِلَّ الذَّبِيحَةَ إذَا قِيلَ بِسْمِ اللَّهِ وَمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ بِالْجَرِّ لِحُصُولِ الِاشْتِرَاكِ فِي التَّسْمِيَةِ وَكَذَا الْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُجَانَسَةَ حَتَّى لَمْ يَجُزْ عَطْفُ الِاسْمِ عَلَى الْفِعْلِ وَكَذَا عَكْسُهُ ثُمَّ الْمُضَافُ إلَيْهِ يُعَرِّفُ الْمُضَافَ حَتَّى صَارَ الدَّارُ وَالْعَبْدُ فِي قَوْلِك دَارُ فُلَانٍ وَعَبْدُ فُلَانٍ مُعَرَّفًا بِالْمُضَافِ إلَيْهِ فَكَذَا الْمَعْطُوفُ إذَا صَلَحَ لِلتَّعْرِيفِ يُعَرِّفُ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ أَيْ يَرْفَعُ إبْهَامَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمَا كَشَيْءٍ وَاحِدٍ. وَقَوْلُهُ: فَإِذَا صَلَحَ الْعَطْفُ أَيْ الْمَعْطُوفُ لِلتَّعْرِيفِ صَحَّ الْحَذْفُ فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ مَعْنَاهُ صَحَّ حَذْفُ الْمُضَافِ إلَيْهِ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِدَلَالَةِ الْعَطْفِ فَإِنَّ الْمَحْذُوفَ فِي قَوْلِهِ: عَلَيَّ مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ وَالدِّرْهَمُ الْمُضَافُ إلَيْهِ أَيْ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ وَدِرْهَمٍ وَالْعَطْفُ أَيْ الْمَعْطُوفُ إذَا كَانَ مِنْ الْمُقَدَّرَاتِ صَلَحَ لِلتَّعْرِيفِ يَعْنِي صَلَاحِيَّةَ الْمَعْطُوفِ لِتَعْرِيفِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَتَفْسِيرِهِ وَدَلَالَتِهِ عَلَى الْمَحْذُوفِ إنَّمَا يَثْبُتُ إذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ مِنْ الْمُقَدَّرَاتِ الَّتِي تَثْبُتُ دُيُونًا فِي الذِّمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِيُطَابِقَ قَوْلَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ فَإِنَّ مُوجَبَهُ اللُّزُومُ فِي الذِّمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مُقَدَّرًا مِثْلُ الثَّوْبِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ إلَّا فِي السَّلَمِ وَالْفَرَسِ مِائَةً لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الْمُبَايَعَاتِ أَصْلًا فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الْمَحْذُوفِ وَتَفْسِيرًا لِلْمِائَةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: عَلَيَّ مِائَةٌ عِبَارَةٌ عَمَّا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مُطْلَقًا ثُبُوتًا صَحِيحًا لَيْسَ وَمَا لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ كَذَلِكَ فَلِهَذَا لَا يَصِيرُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مُفَسَّرًا بِالْمَعْطُوفِ. وَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّا لَمْ نَجْعَلْ الْمَعْطُوفَ تَفْسِيرًا لِلْمِائَةِ حَقِيقَةً بَلْ جَعَلْنَاهُ دَلِيلًا عَلَى الْمَحْذُوفِ الَّذِي هُوَ تَفْسِيرٌ وَتَمْيِيزٌ لِلْمِائَةِ فَلَا يَلْزَمُ عَلَيْنَا مَا ذَكَرَ الْخَصْمُ أَنَّ مِنْ شَرْطِ التَّفْسِيرِ أَنْ يَكُونَ عَيْنَ الْمُفَسَّرِ وَالْمَعْطُوفُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَذُكِرَ فِي الْأَسْرَارِ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَطْفِ هُوَ الشَّرِكَةُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْخَبَرِ كَقَوْلِك: جَاءَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو وَهَذِهِ طَالِقٌ وَهَذِهِ وَالتَّفْسِيرُ لِلْمُجْمَلِ يَجْرِي مَجْرَى الْخَبَرِ عَلَى الِابْتِدَاءِ لِتَوَقُّفِ فَهْمِ الْمَقْصُودِ عَلَيْهِ تَوَقُّفَهُ عَلَى الْخَبَرِ فَيَقْتَضِي صِحَّةُ الْعَطْفِ الشَّرِكَةَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِيمَا هُوَ تَفْسِيرٌ كَمَا يَقْتَضِي

[باب بيان التبديل]

وَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَوْلِهِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةٌ وَثَوْبٌ أَوْ مِائَةٌ وَشَاةٌ أَنَّهُ يُجْعَلُ بَيَانًا؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ دَلِيلُ الِاتِّحَادِ مِثْلُ الْإِضَافَةِ فَكُلُّ جُمْلَةٍ تَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَإِنَّهَا تَحْتَمِلُ الِاتِّحَادَ فَلِذَلِكَ جُعِلَ بَيَانًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ مِائَةٌ وَعَبْدٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. {بَابُ بَيَانِ التَّبْدِيلِ وَهُوَ النَّسْخُ} قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي تَفْسِيرِ نَفْسِ النَّسْخِ وَمَحِلِّهِ وَشَرْطِهِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ أَمَّا النَّسْخُ فَإِنَّهُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ التَّبْدِيلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} [النحل: 101] فَسَمَّى النَّسْخَ تَبْدِيلًا وَمَعْنَى التَّبْدِيلِ أَنْ يَزُولَ شَيْءٌ فَيَخْلُفُهُ غَيْرُهُ يُقَالُ نَسَخَتْ الشَّمْسُ الظِّلَّ؛ لِأَنَّهَا تَخْلُفُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا ـــــــــــــــــــــــــــــQالشَّرِكَةَ فِيمَا هُوَ خَبَرٌ كَمَا لَوْ أَخَّرَ التَّفْسِيرَ عَنْ الْعَدَدَيْنِ جَمِيعًا فَإِنَّهُ إذَا أَخَّرَهُ أَوْ جَعَلَ الْعَدَدَ بِنَفْسِهِ مُفَسِّرًا سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ يَصِيرُ عَدَدًا مُفَسِّرًا. فَأَمَّا إذَا قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةٌ وَثَوْبٌ فَقَوْلُهُ وَثَوْبٌ لَيْسَ بِمُفَسِّرٍ؛ لِأَنَّ الثِّيَابَ مُخْتَلِفَةُ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ كَقَوْلِهِ مِائَةٌ إلَّا أَنَّهُ أَقَلُّ جَهَالَةً فَلَمْ يَلْتَحِقْ بِمَا وُضِعَ تَفْسِيرًا أَوْ خَبَرًا عَنْ الْجُمْلَةِ بَلْ كَانَ هَذَا إلَى الْقِيَاسِ أَقْرَبَ وَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى إلَى التَّفْسِيرِ الْمُصَرَّحِ بِهِ أَقْرَبُ فَاسْتُحْسِنَ الرَّدُّ إلَى التَّفْسِيرِ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْجُمْلَتَيْنِ أُضِيفَتَا إلَى الدَّرَاهِمِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: " عَلَيَّ مِائَةٌ " جُمْلَةٌ ظَرْفِيَّةٌ وَقَوْلُهُ وَثَلَاثَةٌ جُمْلَةٌ أُخْرَى ظَرْفِيَّةٌ نَاقِصَةٌ عُطِفَتْ عَلَى الْأُولَى وَقَدْ أُضِيفَتَا جَمِيعًا إلَى الدَّرَاهِمِ فَصَارَ لَفْظُ الدَّرَاهِمِ بَيَانًا لَهُمَا لِكَوْنِهِمَا مُفْتَقِرَيْنِ إلَى الْبَيَانِ قَوْلُهُ (وَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ) رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةٌ وَثَوْبٌ أَوْ مِائَةٌ وَشَاةٌ أَنَّهُ يُجْعَلُ بَيَانًا لِلْمِائَةِ فَيَكُونُ الْكُلُّ مِنْ الثِّيَابِ وَالشِّيَاهِ وَالْقَوْلُ فِي بَيَانِ جِنْسِهَا قَوْلُ الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّا إنَّمَا جَعَلْنَا الْمَعْطُوفَ تَفْسِيرًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الِاتِّحَادِ كَمَا ذَكَرْنَا فَكُلُّ جُمْلَةٍ أَيْ كُلُّ مَالٍ مُجْتَمِعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ أَيْ قِسْمَةَ الْجَمْعِ وَهِيَ أَنْ يُقَسَّمَ الْجَمِيعُ قِسْمَةً وَاحِدَةً بِطَرِيقِ الْخَبَرِ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى قِسْمَةٍ أُخْرَى فَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ لِلِاتِّحَادِ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْقَاضِي جَبْرًا لَا تَقَعُ إلَّا فِيمَا هُوَ مُتَّحِدُ الْجِنْسِ، وَالثَّوْبُ وَالشَّاةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْمُفَسَّرُ مِنْهُ تَفْسِيرًا لِلْمُبْهَمِ بِدَلَالَةِ الْعَطْفِ الْمُوجِبِ لِلِاتِّحَادِ كَالدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ فَلِذَلِكَ أَيْ فَلِاحْتِمَالِ الِاتِّحَادِ جُعِلَ قَوْلُهُ وَثَوْبٌ أَوْ شَاةٌ بَيَانًا لِلْمِائَةِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ مِائَةٌ وَعَبْدٌ فَإِنَّهُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ مُطْلَقًا فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الِاتِّحَادِ بِسَبَبِ الْعَطْفِ فَلَا يَصِيرُ الْمُجْمَلُ بِالْمَعْطُوفِ فِيهِ مُفَسِّرًا كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَالْمَبْسُوطِ وَهَذَا الْفَرْقُ مُشْكِلٌ فَإِنَّ عِنْدَهُ يُقَسَّمُ الرَّقِيقُ قِسْمَةَ جَمْعٍ وَهِيَ أَنْ يُقَسَّمَ الْجَمِيعُ وَاحِدَةً بِطَرِيقِ الْجَبْرِ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى قِسْمَةٍ أُخْرَى كَالثِّيَابِ وَالْغَنَمِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُسَاوِيَ الْعَبْدُ الثَّوْبَ فِي صَيْرُورَتِهِ بَيَانًا لِلْمِائَةِ بِالْعَطْفِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُمَا فِي الرَّقِيقِ أَنَّهَا تَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ مُؤَوَّلٌ بِمَا إذَا اتَّفَقَ رَأْيُ الْمُتَقَاسِمِينَ عَلَى الْقِسْمَةِ فَيُقَسِّمُ الْقَاضِي بِنَاءً عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ هَذَا قِسْمَةً حَقِيقَةً بَلْ يَكُونُ تَبَعًا كَذَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ مَنْقُولًا عَنْ شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الْحُسَامِيِّ وَلَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَاتِ الظَّاهِرَةِ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْهِدَايَةِ وَغَيْرِهِمَا إذْ الْمَذْكُورُ فِيهَا أَنَّ الرَّقِيقَ إذَا كَانُوا جِنْسًا وَاحِدًا تُقَسَّمُ قِسْمَةَ جَمْعٍ عِنْدَهُمَا بِطَلَبِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ، وَإِنْ أَبَى الْبَعْضُ وَأُجِيبَ أَيْضًا بِأَنَّ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو يُوسُفَ مُوَافِقًا لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي أَنَّ الرَّقِيقَ لَا يُقَسَّمُ قِسْمَةَ جَمْعٍ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الثَّوْبَ وَالْغَنَمَ يُقَسَّمَانِ قِسْمَةَ جَمْعٍ بِالِاتِّفَاقِ فَيَتَحَقَّقُ فِيهِمَا الِاتِّحَادُ وَالرَّقِيقُ لَا يُقَسَّمُ هَذِهِ الْقِسْمَةَ بِالِاتِّفَاقِ بَلْ هِيَ عَلَى الْخِلَافِ فَلَا يَثْبُتُ بِمِثْلِهَا الِاتِّحَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ بَيَانِ التَّبْدِيلِ] [تَفْسِيرِ النَّسْخِ] بَابُ بَيَانِ التَّبْدِيلِ: وَهُوَ النَّسْخُ تَكَلَّمَ الْأُصُولِيُّونَ فِي مَعْنَى النَّسْخِ لُغَةً فَقِيلَ مَعْنَاهُ الْإِزَالَةُ يُقَالُ نَسَخَتْ الشَّمْسُ الظِّلَّ أَيْ أَزَالَتْهُ وَرَفَعَتْهُ وَنَسَخَ الرِّيحُ الْآثَارَ إذَا مَحَتْهَا وَنَسَخَ الشَّيْبُ الشَّبَابَ أَيْ أَعْدَمَهُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ وَمَعْنَى التَّبْدِيلِ أَنْ يَزُولَ شَيْءٌ فَيَخْلُفُهُ غَيْرُهُ إلَى آخِرِهِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ النَّقْلُ وَهُوَ تَحْوِيلُ الشَّيْءِ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان أَوْ حَالَةٍ إلَى حَالَةٍ مَعَ بَقَائِهِ فِي نَفْسِهِ يُقَالُ نَسَخَتْ النَّحْلُ الْعَسَلَ إذَا نَقَلَتْهُ مِنْ خَلِيَّةٍ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَى أُخْرَى وَمِنْهُ تَنَاسُخُ الْمَوَارِيثِ لِانْتِقَالِهَا مِنْ قَوْمٍ إلَى قَوْمٍ وَمِنْهُ نَسَخْت الْكِتَابَ لِمَا فِيهِ مِنْ مُشَابَهَةِ النَّقْلِ بِتَحْصِيلِ مِثْلِ مَا فِي أَحَدِ الْكِتَابَيْنِ فِي الْآخَرِ ثُمَّ قِيلَ هِيَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أُطْلِقَ عَلَيْهِمَا وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ هُوَ الْحَقِيقَةُ وَقِيلَ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْإِزَالَةِ مَجَازٌ فِي الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ إلَّا فِي الْمَعْنَيَيْنِ وَلَيْسَ حَقِيقَةً فِي النَّقْلِ؛ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: نَسَخْت الْكِتَابَ لَمْ يُوجَدْ النَّقْلُ حَقِيقَةً فَتَعَيَّنَ كَوْنُهُ حَقِيقَةً فِي الْآخَرِ تَفَادِيًا عَنْ كَثْرَةِ الْمَجَازِ وَقِيلَ عَلَى الْعَكْسِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: نَسَخْت الْكِتَابَ إنْ كَانَ حَقِيقَةً فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ كَانَ مَجَازًا فَلَا يَكُونُ مُسْتَعَارًا مِنْ الْإِزَالَةِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُزَالٍ وَلَا مُشَابِهٍ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعَارًا مِنْ النَّقْلِ لِمُشَابِهَتِهِ إيَّاهُ وَإِذَا كَانَ مُسْتَعَارًا مِنْهُ كَانَ النَّقْلُ حَقِيقَةً فَكَانَ مَجَازًا فِي الْآخَرِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ وَالْأَوْلَى فِي الشَّرْعِ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْإِزَالَةِ؛ لِأَنَّ نَقْلَ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ مَنْسُوخٌ إلَى نَاسِخِهِ لَا يُتَصَوَّرُ. وَأَمَّا الْإِزَالَةُ وَهِيَ الْإِبْطَالُ وَالْإِعْدَامُ فَمُتَصَوَّرٌ وَذُكِرَ فِي الْمِيزَانِ أَنَّهُ اسْمٌ عُرْفِيٌّ عِنْدَ بَعْضِهِمْ فَإِنَّ مَا هُوَ مَعْنَاهُ وَهُوَ الرَّفْعُ وَالْإِزَالَةُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي النَّسْخِ الشَّرْعِيِّ فَكَانَ الِاسْتِعْمَالُ عُرْفًا فَيَكُونُ الِاسْمُ مَنْقُولًا كَاسْمِ الصَّلَاةِ لِلْأَفْعَالِ الْمَعْهُودَةِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَعْنَى الِاسْمِ اللُّغَوِيِّ يَكُونُ اسْمًا مَنْقُولًا لَا اسْمًا شَرْعِيًّا فَكَذَا هَذَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ اسْمٌ شَرْعِيٌّ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنًى لُغَوِيًّا وَهُوَ الْإِزَالَةُ مِنْ وَجْهٍ عَلَى مَا يُذْكَرُ وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ شَرِيعَةً أَيْضًا أَيْ فِي حَدِّهِ فَقِيلَ هُوَ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ، وَإِنَّمَا اُخْتِيرَ لَفْظُ الْخِطَابِ دُونَ النَّصِّ لِيَشْمَلَ اللَّفْظَ وَالْفَحْوَى وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَجُوزُ النَّسْخُ بِهِ وَفِيهِ احْتِرَازٌ عَنْ الْمَوْتِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَعْذَارِ الدَّالَّةِ عَلَى ارْتِفَاعِ الْأَحْكَامِ الزَّائِلَةِ بِهَا مَعَ تَرَاخِيهَا عَنْهَا وَكَوْنِهَا بِحَيْثُ لَوْلَاهَا لَكَانَتْ الْأَحْكَامُ الزَّائِلَةُ بِهَا مُسْتَمِرَّةً وَقَيَّدَ بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ احْتِرَازًا عَنْ الْخِطَابِ الدَّالِّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ الثَّابِتَةِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ فَإِنَّ ابْتِدَاءَ إيجَابِ الْعِبَادَاتِ فِي الشَّرْعِ يُزِيلُ حُكْمَ الْعَقْلِ مِنْ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ وَلَا يُسَمَّى نَسْخًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُزِلْ حُكْمَ خِطَابٍ وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا احْتِرَازًا عَمَّا إذَا وَرَدَ الْخِطَابُ بِحُكْمٍ مُوَقِّتٍ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] . وَبَعْدَ انْتِهَاءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَرَدَ الْخِطَابُ بِحُكْمٍ مُنَاقِضٍ لِلْأَوَّلِ كَمَا لَوْ وَرَدَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة: 187] فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا انْتِفَاءَ الثَّانِي لَمْ يَكُنْ الْأَوَّلُ مُسْتَمِرًّا بَلْ كَانَ مُنْتَهِيًا بِالْغُرُوبِ وَقَوْلُهُ مَعَ تَرَاخِيهِ احْتِرَازٌ عَنْ الْخِطَابِ الْمُتَّصِلِ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّقْيِيدِ بِالشَّرْطِ وَالْغَايَةِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بَيَانًا لَا نَسْخًا وَقِيلَ هُوَ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ الْمُتَقَدِّمِ زَائِلٌ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا، وَإِنَّمَا زِيدَ لَفْظُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْحَدِّ يَقُولُ تَحْقِيقُ الرَّفْعِ فِي الْحُكْمِ مُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّ الْمَرْفُوعَ إمَّا حُكْمٌ ثَابِتٌ أَوْ مَا لَا ثَبَاتَ لَهُ وَالثَّابِتُ لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ وَمَا لَا ثَبَاتَ لَهُ لَا حَاجَةَ إلَى رَفْعِهِ فَدَلَّ أَنَّ النَّسْخَ هُوَ رَفْعُ مِثْلِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ لَا رَفْعُ عَيْنِهِ أَوْ بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ وَقِيلَ هُوَ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى ظُهُورِ انْتِفَاءِ شَرْطِ دَوَامِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ وَقِيلَ هُوَ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى انْتِهَاءِ أَمَدِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مَعَ التَّأَخُّرِ عَنْ مَوْرِدِهِ وَزُيِّفَتْ هَذِهِ الْحُدُودُ بِأَنَّهَا مَعَ كَوْنِهَا تَعْرِيفَاتٍ لِلنَّاسِخِ لَا لِلنَّسْخِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ دَلِيلُ النَّسْخِ وَالطَّرِيقُ الْمُعَرِّفُ لَهُ لَا نَفْسُهُ غَيْرُ مُطَّرِدَةٍ؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ إذَا قَالَ نُسِخَ حُكْمُ كَذَا يَكُونُ هَذَا

هَذَا أَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَحَقِيقَتُهَا حَتَّى صَارَتْ تُشْبِهُ الْإِبْطَالَ مِنْ حَيْثُ كَانَ وُجُودًا يَخْلُفُ الزَّوَالَ وَهُوَ فِي حَقِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ بَيَانٌ مَحْضٌ لِمُدَّةِ الْحُكْمِ الْمُطْلَقِ الَّذِي كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنَّهُ أَطْلَقَهُ فَصَارَ ظَاهِرُهُ الْبَقَاءَ فِي حَقِّ الْبَشَرِ فَكَانَ تَبْدِيلًا فِي حَقِّنَا بَيَانًا مَحْضًا فِي حَقِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَهُوَ كَالْقَتْلِ بَيَانٌ مَحْضٌ لِلْأَجَلِ؛ لِأَنَّهُ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ بِلَا شُبْهَةٍ فِي حَقِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَفِي حَقِّ الْقَاتِلِ تَغْيِيرٌ وَتَبْدِيلٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْقَوْلُ خِطَابًا وَلَفْظًا دَالًّا عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ وَزَوَالُهُ ظُهُورُ انْتِفَاءِ شَرْطِ دَوَامِهِ وَانْتِهَاءُ أَمَدِهِ وَلَا يَكُونُ نَسْخًا بِالْإِجْمَاعِ وَغَيْرُ مُنْعَكِسَةٍ لِوُجُودِ النَّسْخِ بِفِعْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ لَيْسَ بِخِطَابٍ وَلِهَذَا زَادَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ هُوَ إزَالَةُ مِثْلِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِقَوْلٍ مَنْقُولٍ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ عَنْ رَسُولِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْ فِعْلٍ مَنْقُولٍ عَنْ رَسُولِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا. وَيَنْدَفِعُ الْأَوَّلُ بِأَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنْ الْخِطَابِ خِطَابُ الشَّارِعِ لَا خِطَابُ غَيْرِهِ فَإِنَّ الْخِطَابَ إذَا أُطْلِقَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ يُرَادُ بِهِ خِطَابُ الشَّارِعِ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ عَلَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كَلَامَ الْعَدْلِ دَالٌّ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ بَلْ كَلَامُهُ يَدُلُّ عَلَى خِطَابٍ مِنْ الشَّارِعِ دَالٍّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ وَكَذَا وَكَذَا فَلِذَلِكَ لَا يُسَمَّى نَسْخًا. وَالثَّانِي بِأَنْ يُقَالَ: فِعْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَدُلُّ عَلَى خِطَابٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى دَالٍّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ إذْ لَيْسَ لِلرَّسُولِ وِلَايَةُ رَفْعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ فِعْلُهُ مُعَرِّفًا لِلْخِطَابِ الدَّالِّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ وَمُخْتَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ فَقَيَّدَ بِالشَّرْعِيِّ احْتِرَازًا عَنْ الْعَقْلِيِّ فَإِنَّ رَفْعَ الْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ الثَّابِتَةِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْمُبَاحِ بِحُكْمِ الْأَصْلِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ لَا يُسَمَّى نَسْخًا بِالْإِجْمَاعِ وَبِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ احْتِرَازًا عَنْ الرَّفْعِ بِالْمَوْتِ وَبِقَوْلِهِ مُتَأَخِّرًا احْتِرَازًا عَنْ التَّقْيِيدِ بِالْغَايَةِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَنَحْوِهِمَا عَلَى مَا بَيَّنَّا وَقِيلَ لَا حَاجَةَ إلَى هَذَا الْقَيْدِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ رَفْعُ الْحُكْمِ خَرَجَ التَّقْيِيدُ بِالْغَايَةِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ الْمُتَّصِلَ بِالْخِطَابِ الْأَوَّلِ لَيْسَ بِرَافِعٍ لِحُكْمِ الْخِطَابِ الْأَوَّلِ بَلْ هُوَ بَيَانٌ وَإِتْمَامٌ لِمَعْنَاهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَتَقْيِيدٌ لَهُ بِمُدَّةٍ وَشَرْطٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ وَالْحَدُّ الصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ بَيَانُ انْتِهَاءِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْمُطْلَقِ الَّذِي فِي تَقْدِيرِ أَوْهَامِنَا اسْتِمْرَارُهُ لَوْلَاهُ بِطَرِيقِ التَّرَاخِي وَنَعْنِي بِالْحُكْمِ الْمَحْكُومَ لَا الْحُكْمَ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى. قَالَ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الْمُوَقَّتُ صَرِيحًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وَهْمِنَا اسْتِمْرَارُهُ وَلَا التَّخْصِيصُ فَإِنَّهُ بَيَانُ أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ مِنْ الْأَصْلِ لَا أَنَّهُ انْتِهَاءٌ بَعْدَ الثُّبُوتِ قَالَ وَمَا قَالُوا مِنْ الْإِزَالَةِ وَالرَّفْعِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ مِنْ الْحُكْمِ فِي الْمَاضِي لَا يُتَصَوَّرُ بُطْلَانُهُ وَمَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَمْ يَثْبُتْ بَعْدُ فَكَيْفَ يَبْطُلُ قُلْت وَهَذِهِ التَّعْرِيفَاتُ كُلُّهَا لَيْسَتْ بِجَامِعَةٍ؛ لِأَنَّ الرَّفْعَ بِطَرِيقِ الْإِنْسَاءِ نَسْخٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ حَيْثُ أَوْرَدُوا فِي كُتُبِهِمْ نَظِيرَ نَسْخِ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا مَا رُفِعَ مِنْ صُحُفِ إبْرَاهِيمَ بِالْإِنْسَاءِ وَمَا رُفِعَ مِنْ الْقُرْآنِ بِالْإِنْسَاءِ مِثْلُ مَا رُوِيَ أَنَّ سُورَةَ الْأَحْزَابِ كَانَتْ تَعْدِلُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي هَذِهِ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَاءَ لَيْسَ بِخِطَابٍ رَافِعٍ وَلَا دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَلَا بَيَانٍ لِشَيْءٍ فَإِذًا لَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةٍ تَصِيرُ بِهَا جَامِعَةً مِثْلُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ رَفْعُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ أَوْ بِإِنْسَاءٍ وَهَكَذَا فِي كُلِّ حَدٍّ، وَهَذَا عِنْدَ مَنْ جَعَلَ هَذَا الْقِسْمَ نَسْخًا، فَأَمَّا عِنْدَ مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ نَسْخًا كَالرَّفْعِ بِالْمَوْتِ وَالْجُنُونِ مُسْتَدِلًّا بِأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى النَّسْخِ فِي قَوْله تَعَالَى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106] وَالْعَطْفُ يَدُلُّ عَلَى الْمُغَايَرَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى زِيَادَةِ قَوْلِهِ (هَذَا) أَيْ التَّبْدِيلُ أَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ هِيَ النَّسْخُ حَتَّى صَارَتْ أَيْ حَقِيقَتُهَا وَهِيَ التَّبْدِيلُ تُشْبِهُ الْإِبْطَالَ مِنْ حَيْثُ كَانَ التَّبْدِيلُ أَيْ الْمُبَدِّلُ

[النسخ في أحكام الشرع]

وَالنَّسْخُ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ جَائِزٌ صَحِيحٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعَ وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِفَسَادِهِ وَهُمْ فِي ذَلِكَ فَرِيقَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا: إنَّهُ بَاطِلٌ عَقْلًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ بَاطِلٌ سَمْعًا وَتَوْقِيفًا وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ النَّسْخَ لَكِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ مُسْلِمٍ مَعَ صِحَّةِ عَقْدِ الْإِسْلَامِ أَمَّا مَنْ رَدَّهُ تَوْقِيفًا فَقَدْ احْتَجَّ أَنَّ مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه قَالَ لِقَوْمِهِ تَمَسَّكُوا بِالسَّبْتِ مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَأَنَّ ذَلِكَ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ وَأَنَّهُ بَلَغَهُمْ بِمَا هُوَ طَرِيقُ الْعِلْمِ عَنْ مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه أَنْ لَا نَسْخَ لِشَرِيعَتِهِ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ الْأَمْرَ يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالنَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى قُبْحِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَهُوَ النَّاسِخُ وُجُودَ الْخَلَفِ الزَّوَالِ أَيْ زَوَالِ الْمَنْسُوخِ وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْإِبْطَالِ فَإِنَّ الْمُبْطِلَ لِلشَّيْءِ يَخْلُفُ زَوَالَهُ وَهُوَ أَيْ النَّسْخُ فِي حَقِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ بَيَانٌ مَحْضٌ لِانْتِهَاءِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الرَّفْعِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ يَنْتَهِي فِي وَقْتِ كَذَا بِالنَّاسِخِ فَكَانَ النَّاسِخُ بِالنِّسْبَةِ إلَى عِلْمِهِ تَعَالَى مُبَيِّنًا لِلْمُدَّةِ لَا رَافِعًا إلَّا أَنَّهُ أَطْلَقَهُ أَيْ لَمْ يُبَيِّنْ تَوْقِيتَهُ الْحُكْمَ الْمَنْسُوخَ حِينَ شَرَعَهُ فَكَانَ ظَاهِرُهُ الْبَقَاءَ فِي حَقِّ الْبَشَرِ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الْأَمْرِ بِشَيْءٍ يُوهِمُنَا بَقَاءَ ذَلِكَ عَلَى التَّأْبِيدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَقْطَعَ الْقَوْلَ بِهِ فِي زَمَنِ الْوَحْيِ فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ مَعْنَى النَّسْخِ عِنْدَ الشَّيْخِ هُوَ التَّبْدِيلُ وَالْإِبْطَالُ لُغَةً وَكَذَلِكَ شَرْعًا بِالنِّسْبَةِ إلَى عِلْمِ الْعِبَادِ لَكِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى عِلْمِ صَاحِبِ الشَّرْعِ بَيَانٌ مَحْضٌ لِمُدَّةِ الْحُكْمِ. قَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ هَذَا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْقَوْلِ بِتَعَدُّدِ الْحُقُوقِ وَالْحَقُّ عِنْدَنَا وَاحِدٌ فِي الشَّرْعِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ جَمِيعًا وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ، فَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعِبَادِ فَمُتَعَدِّدٌ حَتَّى وَجَبَ عَلَى كُلِّ مُجْتَهِدٍ الْعَمَلُ بِاجْتِهَادِهِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ وَهَاهُنَا الْحَقُّ بِالنِّسْبَةِ إلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ وَاحِدٌ وَهُوَ كَوْنُهُ بَيَانًا لَا رَفْعًا وَإِبْطَالًا؛ لِأَنَّهُ أَيْ الْمَقْتُولَ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ أَيْ بِانْقِضَاءِ أَجَلِهِ بِلَا شُبْهَةٍ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ إذْ لَا أَجَلَ لَهُ سِوَاهُ كَمَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] وَالْمَوْتُ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا حَصَلَ فِي الْمَيِّتِ حَتْفَ أَنْفِهِ لَا بِفِعْلِ الْقَاتِلِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُتَوَلِّدَاتِ وَفِي حَقِّ الْقَاتِلِ تَبْدِيلٌ وَتَغْيِيرٌ أَيْ إبْطَالٌ وَقَطْعٌ لِلْحَيَاةِ بِالْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُبَاشِرُ لِسَبَبِ الْمَوْتِ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إنْ كَانَ عَمْدًا وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ إنْ كَانَ خَطَأً. [النَّسْخُ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ] قَوْلُهُ (وَالنَّسْخُ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ جَائِزٌ صَحِيحٌ) اخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ فِي جَوَازِ النَّسْخِ فَأَجَازَهُ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ سِوَى قَوْمٍ لَا اعْتِبَارَ بِخِلَافِهِمْ وَفِرَقُ النَّصَارَى كُلُّهَا وَافْتَرَقَتْ الْيَهُودُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ كَذَا ذُكِرَ فِي الْمِيزَانِ وَغَيْرِهِ فَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ وَهُمْ الْعِيسَوِيَّةُ إلَى جَوَازِهِ عَقْلًا وَسَمْعًا وَهُمْ الَّذِينَ يَعْتَرِفُونَ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنْ إلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً لَا إلَى الْأُمَمِ كَافَّةً وَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى مِنْهُمْ إلَى امْتِنَاعِهِ عَقْلًا وَسَمْعًا وَذَهَبَتْ الْفُرْقَةُ الثَّالِثَةُ إلَى جَوَازِهِ عَقْلًا وَامْتِنَاعِهِ سَمْعًا وَزَادَ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ فِرْقَةً أُخْرَى فَقَالَ وَزَعَمَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى مِنْ الْيَهُودِ أَنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ وَأَثْقَلُ عَلَى جِهَةِ الْعُقُوبَةِ لِلْمُكَلَّفِينَ إذَا كَانُوا لِذَلِكَ مُسْتَحَقِّينَ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ الشَّيْخِ وَقَالَتْ الْيَهُودُ بِفَسَادِهِ الْفُرْقَةَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ دُونَ الْجَمِيعِ وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ النَّسْخَ مِثْلُ أَبِي مُسْلِمٍ عَمْرِو بْنِ بَحْرٍ الْأَصْبَهَانِيِّ فَإِنَّهُ لَمْ يُجَوِّزْ النَّسْخَ فِي شَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَنْكَرَ وُقُوعَهُ فِي الْقُرْآنِ. وَالْمُرَادُ بَعْضُ مَنْ انْتَحَلَ الْإِسْلَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ لَا أَنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا عَلَى الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ إنْكَارَ النَّسْخِ مَعَ صِحَّةِ عَقْدِ الْإِسْلَامِ لَا يُتَصَوَّرُ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ قَوْلَهُ وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ النَّسْخَ لَا يُنَافِي قَوْلَهُ: النَّسْخُ جَائِزٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعَ وَذُكِرَ فِي الْقَوَاطِعِ أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ قَدْ ذَكَرُوا الْخِلَافَ فِي هَذَا مَعَ طَائِفَةٍ مِنْ الْيَهُودِ وَفِرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَنَسَبُوهُ إلَى أَبِي مُسْلِمٍ مُحَمَّدِ بْنِ بَحْرٍ الْأَصْبَهَانِيِّ وَهُوَ رَجُلٌ مَعْرُوفٌ بِالْعِلْمِ. وَإِنْ كَانَ يُعَدُّ

وَالنَّسْخُ يَدُلُّ عَلَى ضِدِّهِ فَفِي ذَلِكَ مَا يُوجِبُ الْبَدَاءَ وَالْجَهْلَ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَدَلِيلُنَا عَلَى جَوَازِهِ وَوُجُودِهِ سَمْعًا وَتَوْقِيفًا أَنَّ أَحَدًا لَمْ يُنْكِرْ اسْتِحْلَالَ الْأَخَوَاتِ فِي شَرِيعَةِ آدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه وَاسْتِحْلَالَ الْجُزْءِ لِآدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه وَهِيَ حَوَّاءُ الَّتِي خُلِقَتْ مِنْهُ وَأَنَّ ذَلِكَ نُسِخَ بِغَيْرِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَهُ كِتَابٌ كَثِيرٌ فِي التَّفْسِيرِ وَكُتُبٌ كَثِيرَةٌ فَلَا أَدْرِي كَيْفَ وَقَعَ هَذَا الْخِلَافُ مِنْهُ وَمَنْ خَالَفَ فِي هَذَا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَالْكَلَامُ مَعَهُ أَنْ نُرِيَهُ وُجُودَ النَّسْخِ فِي الْقُرْآنِ مِثْلُ نَسْخِ وُجُوبِ التَّوَجُّهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ وَوُجُوبِ التَّرَبُّصِ حَوْلًا عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَوُجُوبِ ثَبَاتِ الْوَاحِدِ لِلْعَشْرَةِ بِثَبَاتِهِ لِلِاثْنَيْنِ وَالْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْصَى فَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ كَانَ مُكَابَرَةً وَاسْتَحَقَّ أَنْ لَا يُتَكَلَّمَ مَعَهُ وَيُعْرَضَ عَنْهُ، وَإِنْ قَالَ: قَدْ كَانَ كَذَلِكَ وَلَكِنْ لَا أُسَمِّيهِ نَسْخًا كَانَ هَذَا نَعْتًا لَفْظِيًّا وَلَزِمَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ رَفْعَ شَرْعِ مَا قَبْلَنَا بِشَرْعِنَا لَا يَكُونُ نَسْخًا أَيْضًا وَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ أَمَّا مَنْ رَدَّهُ تَوْقِيفًا أَيْ نَصًّا لَا عَقْلًا فَقَدْ احْتَجَّ بِمَا يُرْوَى عَنْ مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه أَنَّهُ قَالَ تَمَسَّكُوا بِالسَّبْتِ أَيْ بِالْعِبَادَةِ فِي السَّبْتِ وَالْقِيَامِ بِأَمْرِهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ عِنْدَهُمْ. وَزَعَمُوا أَنَّهُ بَلَغَهُمْ بِالطَّرِيقِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ وَهُوَ التَّوَاتُرُ عَنْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: إنَّ شَرِيعَتِي لَا تُنْسَخُ وَأَنَّهُ قَالَ تَمَسَّكُوا بِشَرِيعَتِي مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَأَنَّهُ قَالَ أَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ قَالُوا: وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ عِنْدَنَا لَمْ يَجُزْ لَنَا تَصْدِيقُ مَنْ ادَّعَى نَسْخَ شَرِيعَتِهِ كَمَا أَنَّكُمْ لَمَّا زَعَمْتُمْ أَنَّ نَبِيَّكُمْ قَالَ لَا نَبِيَّ بَعْدِي. وَقَالَ أَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لَمْ تُصَدِّقُوا مَنْ ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ نَسْخَ شَرِيعَتِهِ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ طَعَنُوا فِي رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَقَالُوا لَا يَجُوزُ تَصْدِيقُهُ مِنْ أَجَلِ الْعَمَلِ بِالسَّبْتِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بِمُعْجِزَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ وَأَمَّا مَنْ أَنْكَرَهُ وَرَدَّهُ عَقْلًا فَقَدْ احْتَجَّ بِوُجُوهٍ مِنْ الشُّبَهِ أَحَدُهَا وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالنَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى قُبْحِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَالنَّسْخُ يَدُلُّ عَلَى ضِدِّهِ أَيْ نَسْخُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ يَدُلُّ عَلَى ضِدِّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فَإِنَّ نَسْخَ الْأَمْرِ يَكُونُ بِالنَّهْيِ وَنَسْخُ النَّهْيِ بِالْأَمْرِ أَوْ بِالْإِبَاحَةِ فَيَقْتَضِي أَنَّ مَا أُمِرَ بِهِ لِحُسْنِهِ كَانَ قَبِيحًا فِي ذَاتِهِ وَمَا نُهِيَ عَنْهُ لِقُبْحِهِ كَانَ حَسَنًا فِي نَفْسِهِ أَوْ غَيْرَ قَبِيحٍ وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ حَسَنًا وَقَبِيحًا فَكَانَ الْقَوْلُ بِجَوَازِ النَّسْخِ مُؤَدِّيًا إلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ الْبَدَاءِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَذَلِكَ كُفْرٌ؛ لِأَنَّ الْبَدَاءَ يَنْشَأُ مِنْ الْجَهْلِ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الظُّهُورِ بَعْدَ الْخَفَاءِ مِنْ قَوْلِهِمْ بَدَا لَهُمْ الْأَمْرُ الْفُلَانِيُّ إذَا ظَهَرَ بَعْدَ خَفَائِهِ وقَوْله تَعَالَى {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47] {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزمر: 48] أَيْ ظَهَرَ لَهُمْ بَعْدَ الْخَفَاءِ وَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَالثَّانِي أَنَّ الْخِطَابَ الْمَنْسُوخَ حُكْمُهُ عَلَى زَعْمِكُمْ إمَّا أَنْ يَكُونَ دَالًّا عَلَى التَّأْقِيتِ أَوْ التَّأْبِيدِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَمْتَنِعُ قَبُولُ الْخِطَابِ النَّسْخَ أَمَّا إذَا كَانَ مُوَقَّتًا فَلِأَنَّ ارْتِفَاعَ الْحُكْمِ فِيمَا بَعْدَ الْغَايَةِ لَيْسَ بِنَسْخٍ لِانْتِهَائِهِ بِانْتِهَاءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَشَرْطُ النَّسْخِ أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ دَالًّا عَلَى التَّأْبِيدِ فَكَذَلِكَ إذْ لَوْ قَبِلَ النَّسْخَ مَعَ التَّأْبِيدِ يَلْزَمُ التَّنَاقُصُ بِالْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ مُؤَبَّدٌ وَغَيْرُ مُؤَبَّدٍ وَيُؤَدِّي أَيْضًا إلَى نَفْيِ الْوُثُوقِ بِتَأْبِيدِ حُكْمٍ بِنَاءً عَلَى احْتِمَالِ النَّسْخِ وَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ أَنْ لَا يَبْقَى لَنَا وُثُوقٌ بِوَعْدِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ الظَّوَاهِرِ اللَّفْظِيَّةِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ اخْتِلَالِ الشَّرِيعَةِ وَالنَّجَاءُ قَوْلُ الْبَاطِنِيَّةِ إلَيْهَا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQوَيُؤَدِّي أَيْضًا إلَى جَوَازِ نَسْخِ شَرِيعَتِكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهِ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَوْ جَازَ النَّسْخُ الَّذِي هُوَ رَفْعُ الْحُكْمِ لَكَانَ رَفْعُهُ قَبْلَ وُجُودِهِ أَوْ بَعْدَ وُجُودِهِ أَوْ مَعَهُ وَارْتِفَاعُهُ قَبْلَ وُجُودِهِ أَوْ بَعْدَهُ بَاطِلٌ لِكَوْنِهِ مَعْدُومًا فِي الْحَالَيْنِ وَرَفْعُ الْمَعْدُومِ مُمْتَنِعٌ وَارْتِفَاعُهُ مَعَ وُجُودِهِ أَجْدَرُ بِالْبُطْلَانِ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ لِاسْتِلْزَامِهِ كَوْنَهُ مَوْجُودًا وَمَعْدُومًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ مُحَالٌ. وَمَنْ أَنْكَرَ جَوَازَهُ وَوُقُوعَهُ مِمَّنْ انْتَحَلَ الْإِسْلَامَ تَمَسَّكَ بِأَنَّ النَّسْخَ إبْطَالٌ وَهُوَ يُنَافِي الْكِتَابَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42] فَلَا يَجُوزُ وَإِذَا لَمْ يَجُزْ فِي الْكِتَابِ لَمْ يَجُزْ فِي السُّنَّةِ لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ وَلِمُنَافَاتِهَا الْإِبْطَالَ كَالْكِتَابِ وَدَلِيلُنَا عَلَى جَوَازِهِ بَلْ عَلَى وُجُودِهِ الْمُسْتَلْزِمِ لِجَوَازِهِ عَقْلًا مِنْ حَيْثُ السَّمْعُ أَنَّ نِكَاحَ الْأَخَوَاتِ كَانَ مَشْرُوعًا فِي شَرِيعَةِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَبِهِ حَصَلَ التَّنَاسُلُ وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ آدَمَ بِتَزْوِيجِ بَنَاتِهِ مِنْ بَنِيهِ وَكَذَا الِاسْتِمْتَاعُ بِالْجُزْءِ كَانَ حَلَالًا لِآدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنَّ زَوْجَتَهُ حَوَّاءَ كَانَتْ مَخْلُوقَةً مِنْ ضِلْعِهِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْخَبَرُ ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ بِغَيْرِهِ مِنْ الشَّرَائِعِ حَتَّى لَا يَجُوزَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهُ وَأَنْ يَسْتَمْتِعَ بَعْضٌ مِنْهُ بِنِكَاحِ نَحْوِ ابْنَتِهِ. وَكَذَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ كَانَ مَشْرُوعًا فِي شَرِيعَةِ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فَقَدْ ذُكِرَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهُ خَطَبَ الصُّغْرَى فَقَالَ أَبُوهُمَا: لَيْسَ مِنْ سُنَّةِ بَلَدِنَا أَنْ تُزَوَّجَ الصُّغْرَى قَبْلَ الْكُبْرَى فَتَزَوَّجَهُمَا مَعًا ثُمَّ حَرُمَ الْجَمْعُ فِي حُكْمِ التَّوْرَاةِ وَكَذَا الْعَمَلُ فِي السَّبْتِ كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ شَرِيعَةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ السَّبْتَ مُخْتَصٌّ بِشَرِيعَتِهِ ثُمَّ انْتَسَخَتْ تِلْكَ الْإِبَاحَةُ بِشَرِيعَةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَكَذَا تَرْكُ الْخِتَانِ كَانَ جَائِزًا فِي شَرِيعَةِ إبْرَاهِيمَ ثُمَّ انْتَسَخَ بِالْوُجُوبِ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَيْثُ أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ وِلَادَةِ الطِّفْلِ فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى إنْكَارِهِ وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ عَلَى الْأَوَّلِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ آدَمَ أُمِرَ بِتَزْوِيجِ بَنَاتِهِ اللَّاتِي كُنَّ فِي زَمَانِهِ وَحِينَئِذٍ تَحْرِيمُ ذَلِكَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ بَعْدَهُ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِكَوْنِهِ رَفْعَ مُبَاحِ الْأَصْلِ إذْ لَمْ يُؤْمَرْ مَنْ بَعْدَهُ بِهِ حَتَّى يَكُونُ تَحْرِيمُهُ عَلَيْهِمْ نَسْخًا وَلَئِنْ سَلَّمْنَا كَوْنَهُ مَأْمُورًا بِتَزْوِيجِ بَنَاتِهِ مُطْلَقًا لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْأَمْرُ مُقَيَّدًا بِظُهُورِ شَرْعِ مَنْ بَعْدَهُ وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ تَحْرِيمُهُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ نَسْخًا لِانْتِهَاءِ أَمَدِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ بِظُهُورِ شَرِيعَةِ مَنْ بَعْدَهُ كَمَا أَنَّ إبَاحَةَ الْإِفْطَارِ بِاللَّيَالِيِ لَا تَكُونُ نَسْخًا لِإِيجَابِ الصَّوْمِ إلَى اللَّيْلِ وَعَلَى الثَّانِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّ حِلَّ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْجُزْءِ ثَبَتَ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي شَرِيعَتِهِ بَلْ أُحِلَّ لَهُ ذَلِكَ فِي حَقِّ حَوَّاءَ خَاصَّةً حَتَّى لَمْ يَحِلَّ لَهُ التَّزَوُّجُ بِسَائِرِ بَنَاتِهِ وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ بَنِيهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَ نَفْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ تَحْرِيمُ الْبِنْتِ عَلَى غَيْرِهِ نَسْخًا لِحِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْجُزْءِ إذَا لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ بَلْ كَانَ الْحِلُّ مُنْتَهِيًا بِوَفَاتِهِ كَانْتِهَاءِ الصَّوْمِ بِاللَّيْلِ وَعَلَى الْبَاقِي أَنَّ الْجَمْعَ وَالْعَمَلَ بِالسَّبْتِ وَالْخِتَانِ كَانَ مُبَاحًا بِحُكْمِ الْأَصْلِ وَتَحْرِيمُ مُبَاحِ الْأَصْلِ لَيْسَ بِنَسْخٍ. وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ شَرِيعَةٍ ثُبُوتُهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَبَقَاؤُهَا إلَى أَنْ يُوجَدَ الْمُزِيلُ وَعَدَمُ اخْتِصَاصِهَا بِقَوْمٍ دُونَ

مِنْ الشَّرَائِعِ وَالدَّلِيلُ الْمَعْقُولُ أَنَّ النَّسْخَ هُوَ بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ لِلْعِبَادِ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ غَيْبًا عَنْهُمْ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّا إنَّمَا نُجَوِّزُ النَّسْخَ فِي حُكْمٍ مُطْلَقٍ عَنْ ذِكْرِ الْوَقْتِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُوَقَّتًا وَيَحْتَمِلُ الْبَقَاءَ وَالْعَدَمَ عَلَى السَّوَاءِ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ فِي حَيَاتِهِ لِلْإِيجَابِ لَا لِلْبَقَاءِ بَلْ الْبَقَاءُ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ عَلَى احْتِمَالِ الْعَدَمِ بِدَلِيلِهِ لَا أَنَّ الْبَقَاءَ بِدَلِيلٍ يُوجِبُهُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْبَقَاءَ لُغَةً فَلَمْ يَكُنْ دَلِيلُ النَّسْخِ مُتَعَرِّضًا لِحُكْمِ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ بِوَجْهٍ إلَّا ظَاهِرًا بَلْ كَانَ بَيَانًا لِلْمُدَّةِ الَّتِي هِيَ غَيْبٌ عَنَّا وَهِيَ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ بِلَا شُبْهَةٍ بِمَنْزِلَةِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِيجَادِ أَنَّ حُكْمَهُ الْحَيَاةُ وَالْوُجُودُ لَا الْبَقَاءُ بَلْ الْبَقَاءُ لِعَدَمِ أَسْبَابِ الْفَنَاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْمٍ إلَّا بِمُخَصِّصٍ فَلَا يَثْبُتُ وَالتَّقْيِيدُ بِالِاحْتِمَالِ بَلْ يُحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ وَلَمْ يُوجَدْ وَلَا يُقَالُ لَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِالْأَصْلِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ عِلْمِيَّةٌ فَلَا يُكْتَفَى فِيهَا بِالدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ؛ لِأَنَّا نَقُولُ قَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَمْرُ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِتَزْوِيجِ بَنَاتِهِ مِنْ بَنِيهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ تَقْيِيدٌ وَتَخْصِيصٌ فَوَجَبَ إجْرَاؤُهُ وَلَا يَقْدَحُ فِيهِ الِاحْتِمَالُ الَّذِي ذَكَرْتُمْ لِكَوْنِهِ غَيْرَ نَاشِئٍ عَنْ دَلِيلٍ وَبِمِثْلِهِ لَا يَخْرُجُ الدَّلِيلُ الْقَطْعِيُّ إلَى الظَّنِّ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَوْ صَارَ الدَّلِيلُ ظَنِّيًّا بِكُلِّ احْتِمَالٍ لَمْ يَبْقَ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ لِتَطَرُّقِ الِاحْتِمَالِ إلَى جَمِيعِ الْعَقْلِيَّاتِ مِنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَغَيْرِهَا وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ رَفْعَ الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ نَسْخٌ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يُتْرَكُوا سُدًى فِي زَمَانٍ فَالْإِبَاحَةُ وَالتَّحْرِيمُ ثَبَتَا فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ بِالشَّرَائِعِ فِي الْأَصْلِ فَكَانَ رَفْعُهَا رَفْعًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَكَانَ نَسْخًا لَا مَحَالَةَ، فَأَمَّا الِاعْتِرَاضُ الثَّانِي فَلَا مَحِيصَ عَنْهُ إنْ ثَبَتَ الِاخْتِصَاصُ الَّذِي ذَكَرُوهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ قَوْلُهُ (وَالدَّلِيلُ الْمَعْقُولُ أَنَّ النَّسْخَ) كَذَا يَعْنِي لَوْ وَقَّتَ الشَّارِعُ حُكْمًا فِي ابْتِدَاءِ شَرْعِهِ إلَى غَايَةٍ بِأَنْ قَالَ شَرَعْت الْحُكْمَ الْفُلَانِيَّ إلَى الْوَقْتِ الْفُلَانِيِّ لَصَحَّ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ لُزُومِ قُبْحٍ وَبَدَاءٍ، فَكَذَا إذَا بَيَّنَ أَمَدَهُ مُتَرَاخِيًا عَنْ زَمَانِ شَرْعِهِ بِالنَّسْخِ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ لَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ الَّتِي هِيَ غَيْبٌ عَنْ الْعِبَادِ لَهُمْ فَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ الْبَدَاءِ فِي شَيْءٍ. وَبَيَانُهُ أَيْ بَيَانُ أَنَّ النَّسْخَ بَيَانُ الْمُدَّةِ لَا بَدَاءٌ أَنَّا إنَّمَا يَجُوزُ النَّسْخُ فِي حُكْمٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوَقَّتًا بَعْدَمَا شُرِعَ وَأَنْ يَكُونَ مُؤَبَّدًا وَيَحْتَمِلُ الْبَقَاءَ بَعْدَمَا شُرِعَ وَالْعَدَمَ احْتِمَالًا عَلَى السَّوَاءِ، وَإِنَّمَا تَعَرَّضَ لِلِاحْتِمَالَيْنِ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ تَوْقِيتٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَاضِي وَإِعْدَامٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ فِي حَيَاتِهِ لِلْإِيجَابِ لَا لِلْبَقَاءِ أَيْ الْأَمْرُ الْوَارِدُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَقْتَضِي كَوْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَاجِبًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِبَقَائِهِ أَصْلًا بَلْ الْبَقَاءُ بَعْدَ الثُّبُوتِ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الْمُزِيلِ فَكَانَ ثَابِتًا بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ لَا بِدَلِيلٍ يُوجِبُهُ وَهُوَ الْأَمْرُ السَّابِقُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى الْبَقَاءِ لُغَةً؛ لِأَنَّهُ لِطَلَبِ الْفِعْلِ وَالِائْتِمَارِ لَا لِغَيْرِهِ وَكَذَا الْوُجُودُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِلْبَقَاءِ وَلِهَذَا صَحَّ أَنْ يُقَالَ وُجِدَ وَلَمْ يَبْقَ فَلَا يَكُونُ الْبَقَاءُ مِنْ مَوَاجِبِ الْأَمْرِ السَّابِقِ بِوَجْهٍ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ دَلِيلُ النَّسْخِ مُتَعَرِّضًا لِحُكْمِ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ بِوَجْهٍ أَيْ لَمْ يَكُنْ مُبْطِلًا لَهُ بِوَجْهٍ لِاقْتِصَارِ عَمَلِهِ عَلَى حَالَةِ الْبَقَاءِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَحْكَامِ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ إلَّا ظَاهِرًا أَيْ إلَّا مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ وَهُوَ تَقَرُّرُ بَقَائِهِ فِي أَوْهَامِنَا بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ لَوْلَا النَّاسِخُ وَهُوَ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ بِلَا شُبْهَةٍ أَيْ بَيَانُ الْمُدَّةِ بِالنَّسْخِ مِنْ بَابِ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ نِهَايَتَهَا لَا مِنْ بَابِ الْبَدَاءِ؛ لِأَنَّ شَرْعِيَّةَ الْأَحْكَامِ لِمَنَافِعَ تَعُودُ إلَى الْعِبَادِ إذْ الشَّارِعُ مُنَزَّهٌ عَنْ نَفْعٍ وَضَرَرٍ يَعُودُ إلَيْهِ وَقَدْ يَتَبَدَّلُ الْمَنْفَعَةُ بِتَبَدُّلِ الْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ وَلَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ إلَّا الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ الْحَكِيمُ الْقَدِيرُ جَلَّ جَلَالُهُ فَكَانَ تَبْدِيلُ الْحُكْمِ بِنَاءً عَلَى تَبْدِيلِ الْأَحْوَالِ مِنْ بَابِ الْحِكْمَةِ لَا مِنْ بَابِ الْبَدَاءِ قَوْلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِحْيَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ لِلْإِيجَابِ لَا لِلْبَقَاءِ أَوْ بِجَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ أَيْ إحْيَاءُ الشَّرِيعَةِ بِالْأَمْرِ. وَشَرْعُ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً بِمَنْزِلَةِ إحْيَاءِ الشَّخْصِ وَإِيجَادِهِ مِنْ الْعَدَمِ فَإِنَّ حُكْمَ الْأَحْيَاءِ الْحَيَاةُ، وَأَثَرُ الْإِيجَادِ الْوُجُودُ لَا الْبَقَاءُ بَلْ الْبَقَاءُ بِعَدَمِ أَسْبَابِ الْفَنَاءِ بِإِبْقَاءٍ هُوَ غَيْرُ الْإِيجَادِ وَكَأَنَّ " أَوْ " سَقَطَ

بِإِبْقَاءٍ هُوَ غَيْرُ الْإِيجَادِ وَلَهُ أَجَلٌ مَعْلُومٌ عِنْدَ اللَّهِ فَكَانَ الْإِفْنَاءُ وَالْإِمَاتَةُ بَيَانًا مَحْضًا فَهَذَا مِثْلُهُ هَذَا حُكْمُ بَقَاءِ الْمَشْرُوعِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِذَا قُبِضَ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ غَيْرِ نَسْخٍ صَارَ الْبَقَاءُ مِنْ بَعْدُ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ يُوجِبُهُ فَصَارَ بَقَاءً يَقِينًا لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ بِحَالٍ، فَإِذَا غَابَ الْحَيُّ بَقِيَتْ حَيَاتُهُ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى مَوْتِهِ فَكَذَلِكَ الْمَشْرُوعُ الْمُطْلَقُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ قَلَمِ النَّاسِخِ فِي هَذَا الْكَلَامِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثُمَّ الْبَقَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ بِإِبْقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ أَوْ بِانْعِدَامِ سَبَبِ الْفَنَاءِ وَمَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ بَلْ الْبَقَاءُ بِدَلِيلٍ آخَرَ أَوْ بِعَدَمِ مَا يُعْدِمُهُ وَهُوَ أَسْبَابُ الْفَنَاءِ أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّ الْبَقَاءَ بِعَدَمِ أَسْبَابِ الْفَنَاءِ وَعَدَمُهَا بِسَبَبِ إبْقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ فَإِنَّهُ إذَا أَرَادَ إبْقَاءَهُ لَمْ يُوجَدْ أَسْبَابُ الْفَنَاءِ قَوْلُهُ (بِإِبْقَاءٍ هُوَ غَيْرُ الْإِيجَادِ) ؛ لِأَنَّ الْإِبْقَاءَ إثْبَاتُ الْبَقَاءِ، وَالْإِيجَادَ إثْبَاتُ الْوُجُودِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْبَقَاءَ غَيْرُ الْوُجُودِ حَتَّى صَحَّ قَوْلُنَا وُجِدَ وَلَمْ يَبْقَ فَكَانَ الْإِبْقَاءُ غَيْرَ الْإِيجَادِ لَوْ كَانَ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ إلَّا أَنَّ الْغَيْرِيَّةَ لَا تَجْرِي فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً عَلَى مَا عُرِفَ فَكَانَ تَسْمِيَةُ الْإِبْقَاءِ غَيْرَ الْإِيجَادِ تَوَسُّعًا بِاعْتِبَارِ تَغَايُرِ الْأَمَارَةِ وَهُوَ كَالرَّمْيِ الْوَاحِدِ يُسَمَّى جُرْحًا وَقَتْلًا وَكَسْرًا إذَا تَحَقَّقَتْ هَذِهِ الْآثَارُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ غَيْرَ الْجُرْحِ وَالْكَسْرِ. وَلَهُ أَجَلٌ مَعْلُومٌ أَيْ لِهَذَا الْمَوْجُودِ مُدَّةٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لِبَقَائِهِ غَيْبٌ عَنْ الْعِبَادِ فَكَانَ الْإِفْنَاءُ وَالْإِمَاتَةُ بَيَانًا مَحْضًا لِمُدَّةِ بَقَاءِ الْحَيَاةِ الَّتِي كَانَتْ مَعْلُومَةً عِنْدَ الْخَالِقِ حِينَ خَلَقَهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْبًا عَنَّا وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْبَدَاءِ وَالْجَهْلِ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَلَمْ يَتَطَرَّقْ إلَيْهِ قُبْحٌ وَهَذَا أَيْ النَّسْخُ مِثْلُهُ أَيْ مِثْلُ الْإِفْنَاءِ أَيْضًا فَلَا يَكُونُ بَدَاءً وَجَهْلًا قَوْلُهُ (هَذَا حُكْمُ بَقَاءِ الْمَشْرُوعِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) كَأَنَّهُ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْت أَنْ لَا يَكُونَ الْأَحْكَامُ الْبَاقِيَةُ إلَى يَوْمِنَا هَذَا مَقْطُوعًا بِهَا لِبِنَاءِ بَقَائِهَا عَلَى الِاسْتِصْحَابِ الَّذِي لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَانْقِطَاعُ بَقَائِهَا عَنْ الدَّلَائِلِ الْمُثْبِتَةِ لَهَا فَقَالَ هَذَا أَيْ بَقَاءُ الْحُكْمِ بِاسْتِصْحَابِ الْحِلِّ حُكْمُ بَقَاءِ الْمَشْرُوعِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِاحْتِمَالِ وُرُودِ النَّسْخِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، فَأَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَدْ صَارَ الْبَقَاءُ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ يُوجِبُهُ وَهُوَ أَنْ لَا نَسْخَ بِدُونِ الْوَحْيِ وَقَدْ انْسَدَّ بَابُهُ بِوَفَاتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ الْقَاطِعِ أَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَأَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ فَصَارَ الْبَقَاءُ يَقِينًا لَا يَحْتَمِلُ الزَّوَالَ أَصْلًا بِمَنْزِلَةِ مَوْجُودٍ نُصَّ عَلَى بَقَائِهِ أَبَدًا كَالْجَنَّةِ وَأَهْلِهَا هَذَا تَقْرِيرُ كَلَامِ الشَّيْخِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ النَّسْخَ بَيَانُ الْمُدَّةِ فِي الْحَقِيقَةِ فَلَا يَكُونُ بَدَاءً وَذَكَرَ الْأُصُولِيُّونَ وَجْهًا آخَرَ فِي جَوَازِ النَّسْخِ عَقْلًا وَهُوَ أَنَّ الْمُخَالِفَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يَعْتَبِرُ الْمَصَالِحَ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَعَامَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَيَقُولُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ كَمَا يَشَاءُ بِحُكْمِ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى حِكْمَةٍ وَمَصْلَحَةٍ أَوْ يَكُونَ مِمَّنْ يَعْتَبِرُ الْغَرَضَ وَالْحِكْمَةَ فِي أَفْعَالِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَنَقُولُ لَا يَمْتَنِعُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَأْمُرَ بِفِعْلٍ فِي وَقْتٍ وَيَنْهَى عَنْهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ كَمَا أَمَرَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ وَنَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ عَقْلًا وَمَا نَعْنِي بِالْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ إلَّا ذَلِكَ نُبَيِّنُهُ أَنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يُطْلَقَ الْأَمْرُ. وَالْمُرَادُ إلَى أَنْ يَعْجِزَ عَنْهُ بِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ جَازَ أَيْضًا أَنْ يُطْلَقَ وَالْمُرَادُ إلَى أَنْ يَنْسَخَهُ غَيْرُهُ وَإِذَا جَازَ أَنْ لَا يُوجِبَ شَيْئًا بُرْهَةً مِنْ الزَّمَانِ ثُمَّ يُوجِبَهُ جَازَ أَيْضًا أَنْ يُوجِبَهُ بُرْهَةً مِنْ الزَّمَانِ ثُمَّ يَنْسَخَهُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَكَذَلِكَ إذْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى اسْتِلْزَامَ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لِمَصْلَحَةٍ وَاسْتِلْزَامَ النَّهْيِ عَنْهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ لِمَصْلَحَةٍ أُخْرَى إذْ الْمَصَالِحُ كَمَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ وَالْأَوْقَاتِ وَاعْتُبِرَ هَذَا

وَأَمَّا دَعْوَاهُمْ التَّوْقِيفَ فَبَاطِلٌ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَنَا تَحْرِيفُ كِتَابِهِمْ فَلَمْ يَبْقَ حُجَّةً. ـــــــــــــــــــــــــــــQبِأَمْرِ الطَّبِيبِ لِلْمَرِيضِ بِدَوَاءٍ خَاصٍّ فِي وَقْتٍ لِمَصْلَحَةٍ وَنَهْيِهِ عَنْهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ لِمَصْلَحَةٍ أُخْرَى يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ نَصَّ عَلَى التَّوْقِيتِ بِأَنْ قَالَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ الْعَمَلُ فِي السَّبْتِ أَلْفَ سَنَةٍ ثُمَّ هُوَ مُبَاحٌ عَلَيْكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ حَسَنًا وَدَالًّا عَلَى انْتِهَاءِ حِكْمَةِ التَّحْرِيمِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ وَلَمْ يَكُنْ بَدَاءً فَكَذَلِكَ عِنْدَ إطْلَاقِ اللَّفْظِ فِي التَّحْرِيمِ ثُمَّ النَّسْخُ بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ تَبْدِيلِ الصِّحَّةِ بِالْمَرَضِ وَالْغَنَاءِ بِالْفَقْرِ وَعَكْسِهِمَا إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَصْلَحَةً فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ وَبِمَنْزِلَةِ تَقَلُّبِ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ مِنْ الطُّفُولِيَّةِ وَالْبُلُوغِ وَالشَّبَابِ وَالْكُهُولَةِ وَالشَّيْخُوخَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ تَصْرِيفُ الْأُمُورِ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الْحِكْمَةُ وَيَدْعُو إلَيْهِ الْمَصْلَحَةُ وَامْتِحَانُ الْعِبَادِ وَابْتِلَاؤُهُمْ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ بِمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ وَأَدْعَى إلَى صَلَاحِهِمْ. وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ الْخِطَابُ الْمَنْسُوخُ حُكْمُهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ دَالًّا عَلَى التَّأْبِيدِ أَوْ عَلَى التَّوْقِيتِ إلَى آخِرِهِ هُوَ أَنَّهُ لَيْسَ بِدَالٍّ عَلَى التَّوْقِيتِ وَلَا عَلَى التَّأْبِيدِ صَرِيحًا بَلْ هُوَ مُطْلَقٌ يَحْتَمِلُ التَّأْبِيدَ إنْ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهِ نَاسِخٌ، وَالتَّوْقِيتَ إنْ وَرَدَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَإِذَا وَرَدَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مُوَقَّتًا وَهَذَا التَّوْقِيتُ يُسَمَّى نَسْخًا وَعَنْ قَوْلِهِمْ لَوْ جَازَ النَّسْخُ لَكَانَ قَبْلَ وُجُودِهِ أَوْ بَعْدَهُ أَوْ مَعَهُ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرُوا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ رَفْعِ الْحُكْمِ أَنَّ التَّكْلِيفَ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ زَالَ بِالنَّاسِخِ كَمَا يَزُولُ بِالْمَوْتِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا مِنْ جِهَةِ الْمُخَاطَبِ لِقَطْعِ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ عَنْهُ كَمَا أَنَّ النَّسْخَ سَبَبٌ مِنْ جِهَةِ الْمُخَاطِبِ لِقَطْعِ تَعَلُّقِهِ عَنْهُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الدَّفْعِ أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ مُتَعَلَّقُ الْحُكْمِ يَرْتَفِعُ لِيَنْتَهِضَ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ التَّقْسِيمِ. وَأَمَّا دَعْوَاهُمْ التَّوْقِيفَ فَبَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ عِنْدَنَا تَحْرِيفُ كِتَابِهِمْ فَلَمْ يَبْقَ نَقْلُهُمْ عَنْهُ حُجَّةً وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ الْإِيمَانُ بِالتَّوْرَاةِ الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ الْيَوْمَ بَلْ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِالتَّوْرَاةِ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَكَيْفَ يَصِحُّ نَقْلُهُمْ تَأْبِيدَ شَرِيعَةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَدْ ثَبَتَ رِسَالَةُ رُسُلٍ بَعْدَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْآيَاتِ الْمُعْجِزَةِ وَالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ وَلِأَنَّ شَرْطَ التَّوَاتُرِ لَمْ يُوجَدْ فِي نَقْلِ التَّوْرَاةِ إذْ لَمْ يَبْقَ مِنْ الْيَهُودِ عَدَدُ التَّوَاتُرِ فِي زَمَنِ بُخْتِ نَصَّرَ فَإِنَّهُمْ وَافَقُوا أَصْحَابَ التَّوَارِيخِ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَوْلَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ قَتَلَ رِجَالَهُمْ وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ إلَى أَرْضِ بَابِلَ وَأَحْرَقَ أَسْفَارَ التَّوْرَاةِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهِمْ مَنْ يَحْفَظُ التَّوْرَاةَ وَزَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْهَمَ عُزَيْرًا التَّوْرَاةَ بَعْدَ خَلَاصِهِ مِنْ أَسْرِ بُخْتِ نَصَّرَ وَقَدْ رَوَى أَحْبَارُهُمْ أَنَّ عُزَيْرًا كَتَبَ ذَلِكَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ وَعِنْدَ حُضُورِ أَجَلِهِ دَفَعَهُ إلَى تِلْمِيذٍ لَهُ لِيَقْرَأَهُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فَأَخَذُوا التَّوْرَاةَ عَنْ ذَلِكَ التِّلْمِيذِ وَنَقُولُ الْوَاحِدُ لَا يُثْبِتُ التَّوَاتُرَ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ التِّلْمِيذُ قَدْ زَادَ فِيهَا شَيْئًا وَحَذَفَ مِنْهَا فَكَيْفَ يُوثَقُ بِمَا هَذَا سَبِيلُهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ نُسَخَ التَّوْرَاةِ ثَلَاثٌ نُسْخَةٌ فِي أَيْدِي الْعَتَّابِيَّةِ وَنُسْخَةٌ فِي أَيْدِي السَّامِرِيَّةِ وَنُسْخَةٌ فِي أَيْدِي النَّصَارَى وَهَذِهِ النُّسَخُ الثَّلَاثُ مُخْتَلِفَةٌ مُتَفَاوِتَةٌ ذُكِرَ فِيهَا أَعْمَارُ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا عَلَى التَّفَاوُتِ فَفِي نُسْخَةِ السَّامِرِيَّةِ زِيَادَةُ أَلْفِ سَنَةٍ وَكَثِيرٍ عَلَى مَا فِي نُسْخَةِ الْعَتَّابِيَّةِ وَفِي التَّوْرَاةِ الَّتِي فِي النَّصَارَى زِيَادَةٌ بِأَلْفٍ وَثَلَثِمِائَةِ سَنَةٍ وَفِيهَا أَيْضًا الْوَعْدُ بِخُرُوجِ الْمَسِيحِ وَخُرُوجِ الْعَرَبِيِّ صَاحِبِ الْجَمَلِ وَارْتِفَاعِ تَحْرِيمِ السَّبْتِ عِنْدَ خُرُوجِهِمَا فَثَبَتَ أَنَّ التَّوْرَاةَ الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ لَيْسَتْ بِمَوْثُوقٍ بِهَا وَأَنَّ مَا نَقَلُوهُ مِنْ تَأْبِيدِ شَرِيعَةِ مُوسَى وَتَأْبِيدِ تَحْرِيمِ السَّبْتِ افْتِرَاءٌ عَلَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقِيلَ أَوَّلُ

[باب بيان محل النسخ]

(بَابُ بَيَانِ مَحِلِّ النَّسْخِ) مَحِلُّ النَّسْخِ حُكْمٌ يَحْتَمِلُ بَيَانَ الْمُدَّةِ وَالْوَقْتِ وَذَلِكَ بِوَصْفَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِهِ مُحْتَمِلًا لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، فَإِذَا كَانَ بِخِلَافِهِ لَمْ يَحْتَمِلْ النَّسْخَ، وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ مُلْحَقًا بِهِ مَا يُنَافِي الْمُدَّةَ وَالْوَقْتَ أَمَّا الْأَوَّلُ فَبَيَانُهُ أَنَّ الصَّانِعَ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ قَدِيمٌ لَا يَحْتَمِلُ الزَّوَالَ وَالْعَدَمَ فَلَا يَحْتَمِلُ شَيْءٌ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ النَّسْخَ بِحَالٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــQمَنْ وَضَعَ لَهُمْ ذَلِكَ ابْنُ الرَّاوَنْدِيِّ لِيُعَارِضَ بِهِ دَعْوَى الرِّسَالَةِ مِنْ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَقْرَبُ قَاطِعٍ فِي بُطْلَانِهِ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ لَمْ يَحْتَجَّ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى دَفْعِ قَوْلِهِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا عِنْدَهُمْ لَقَضَتْ الْعَادَةُ بِالِاحْتِجَاجِ بِهِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَاشْتُهِرَ مِنْهُمْ كَمَا اُشْتُهِرَ سَائِرُ أُمُورِهِمْ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ} [فصلت: 42] الْآيَةَ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يُبْطِلُهُ وَلَا يَأْتِيهِ مِنْ بَعْدِهِ مَا يُبْطِلُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ بَيَانِ مَحِلِّ النَّسْخِ] لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ النَّسْخَ بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ كَانَ رَفْعًا لَهُ فِي الظَّاهِرِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحِلُّهُ حُكْمًا يَحْتَمِلُ الْمُدَّةَ وَالْوَقْتَ أَيْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُوَقَّتًا إلَى غَايَةٍ وَأَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ احْتِمَالًا عَلَى السَّوَاءِ لِيَكُونَ النَّسْخُ بَيَانًا لِمُدَّتِهِ وَذَلِكَ أَيْ كَوْنُهُ مُحْتَمِلًا لِلتَّوْقِيتِ يَحْصُلُ بِوَصْفَيْنِ أَيْ بِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الَّذِي وَرَدَ عَلَيْهِ النَّسْخُ مُحْتَمِلًا فِي نَفْسِهِ لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ أَيْ مُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا وَأَنْ لَا يَكُونَ مَشْرُوعًا إذْ لَوْ لَمْ يَحْتَمِلْ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا كَالْكُفْرِ لَاسْتَمَرَّ عَدَمُ شَرْعِيَّتِهِ وَالنَّسْخُ لَا يَجْرِي فِي الْمَعْدُومِ وَلَوْ لَمْ يَحْتَمِلْ أَنْ لَا يَكُونَ مَشْرُوعًا كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ لَاسْتَمَرَّ شَرْعِيَّتُهُ ضَرُورَةً فَلَا يَجْرِي فِيهِ النَّسْخُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ النَّسْخَ تَوْقِيتٌ وَرَفْعٌ وَذَلِكَ مُنَافٍ لَمَّا لَزِمَ اسْتِمْرَارُ وُجُودِهِ. وَالثَّانِي أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِحَيْثُ يَلْحَقُ بِهِ مَا يُنَافِي الْمُدَّةَ وَالْوَقْتَ أَيْ مَا يُنَافِي بَيَانَ الْمُدَّةِ بِالنَّسْخِ يَعْنِي لَمْ يَلْتَحِقْ بِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ مُحْتَمِلًا لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ مَا يَمْتَنِعُ لِخَوْفِ النَّسْخِ الَّذِي هُوَ بَيَانُ مُدَّةِ الْمَشْرُوعِيَّةِ بِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ بِاعْتِبَارِ فَوَاتِ الْوَصْفِ الْأَوَّلِ وَإِلَيْهِ أُشِيرَ فِي قَوْلِهِ وَإِذَا كَانَ بِخِلَافِهِ لَمْ يَحْتَمِلْ النَّسْخَ فَبَيَانُهُ أَنَّ الصَّانِعَ جَلَّ جَلَالُهُ بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ أَيْ مَعَ جَمِيعِهَا مِثْلُ الرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ وَالْعَلِيمِ وَالْحَكِيمِ وَصِفَاتِهِ مِثْلُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحَيَاةِ الَّتِي هِيَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ وَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ عِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ قَدِيمٌ دَائِمٌ أَزَلًا وَأَبَدًا فَلَا يَحْتَمِلُ شَيْءٌ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ النَّسْخَ بِحَالٍ أَيْ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ بِحَالٍ أَعْنِي فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ وَغَيْرِهَا. الْحَاصِلُ أَنَّ النَّسْخَ لَا يَجْرِي فِي وَاجِبَاتِ الْعُقُولِ، وَإِنَّمَا يَجْرِي فِي جَائِزَاتِهَا وَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزْ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ النَّسْخَ فِي مَدْلُولِ الْخَبَرِ مَاضِيًا كَانَ أَوْ مُسْتَقْبَلًا؛ لِأَنَّ تَحَقُّقَ الْمَخْبَرِ بِهِ فِي خَبَرِ مَنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ وَالْخُلْفُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَالنَّسْخُ فِيهِ يُؤَدِّي إلَى الْكَذِبِ وَالْخُلْفِ فَلَا يَجُوزُ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ بِجَوَازِهِ فِي الْخَبَرِ مُطْلَقًا إذَا كَانَ مَدْلُولُهُ مُتَكَرِّرًا وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ عَامًّا كَمَا لَوْ قَالَ عَمَّرْت زَيْدًا أَلْفَ سَنَةٍ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ تِسْعَمِائَةٍ أَوْ قَالَ لَأُعَذِّبَنَّ الزَّانِيَ أَبَدًا ثُمَّ قَالَ: أَرَدْت بِهِ أَلْفَ سَنَةٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ النَّاسِخُ مُبَيِّنًا أَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُ ذَلِكَ الْمَدْلُولِ كَمَا فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَكَرِّرًا نَحْوُ قَوْلِهِ أَهْلَكَ اللَّهُ زَيْدًا ثُمَّ قَوْلِهِ مَا أَهْلَكَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَلَوْ أَخْبَرَ عَنْ إعْدَامِهِ وَإِيجَادِهِ جَمِيعًا كَانَ تَنَاقُضًا وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ فَمَنَعَهُ فِي الْمَاضِي وَجَوَّزَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّ الْوُجُودَ الْمُتَحَقِّقَ فِي الْمَاضِي لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ بِخِلَافِ الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ مَنْعُهُ مِنْ الثُّبُوتِ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQ {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ} [الواقعة: 13] {وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة: 14] فَإِنَّهُ نُسِخَ بَعْدَ سُؤَالِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِقَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ} [الواقعة: 39] {وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة: 40] . وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى لِآدَمَ {إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} [طه: 118] فَإِنَّهُ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [طه: 121] وَبِظَوَاهِر آيَاتِ الْوَعِيدِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93] {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 14] وَغَيْرِهَا فَإِنَّهَا نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وَكُلُّ ذَلِكَ إخْبَارٌ وَالصَّحِيحُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ النَّسْخَ تَوْقِيتٌ وَلَا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ فِي الْخَبَرِ بِحَالٍ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ: اعْتَقِدُوا الصِّدْقَ فِي هَذَا الْخَبَرِ إلَى وَقْتِ كَذَا ثُمَّ اعْتَقِدُوا خِلَافَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ هُوَ الْبَدَاءُ وَالْجَهْلُ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْيَهُودُ فِي أَصْلِ النَّسْخِ وَنَحْنُ لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ إرَادَةِ تِسْعِمِائَةٍ مِنْ لَفْظِ الْأَلْفِ وَلَا صِحَّةَ وُرُودِ النَّسْخِ عَلَى مَا الْتَحَقَ بِهِ تَأْبِيدُ مَا نُبَيِّنُ، فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] فَقَدْ قِيلَ مَعْنَاهُ يَنْسَخُ مَا يَسْتَصْوِبُ نَسْخَهُ وَيُثْبِتُ بَدَلَهُ أَوْ يَتْرُكُهُ غَيْرَ مَنْسُوخٍ وَقِيلَ يَمْحُو مِنْ دِيوَانِ الْحَفَظَةِ مَا لَيْسَ بِحَسَنَةٍ وَلَا سَيِّئَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِكَتْبَةِ كُلِّ قَوْلِ وَفِعْلٍ وَيُثْبِتُ غَيْرَهُ وَالْكَلَامُ فِيهِ وَاسِعُ الْمَجَالِ وقَوْله تَعَالَى {وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة: 40] لَيْسَ بِنَاسِخٍ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْفَعْ حُكْمًا ثَبَتَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى إذْ الْحُكْمُ فِي الْقَلِيلِ الْمَذْكُورِ فِيهَا ثَابِتٌ كَمَا كَانَ إلَّا أَنَّهُ أُلْحِقَ بِهِمْ فِرَقٌ أُخْرَى بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ بِتَضَرُّعِهِمْ أَوْ بِدُعَاءِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ {وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة: 40] . وَقِيلَ الْآيَةُ الْأُولَى فِي السَّابِقِينَ وَالثَّانِيَةُ فِي أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَعَنْ الْحَسَنِ سَابِقُو الْأُمَمِ أَكْثَرُ مِنْ سَابِقِي أُمَّتِنَا وَتَابِعُو الْأُمَمِ مِثْلُ تَابِعِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} [طه: 118] مِنْ بَابِ الْقَيْدِ وَالْإِطْلَاقِ لَا مِنْ بَابِ النَّسْخِ وَكَذَا آيَاتُ الْوَعِيدِ كُلُّهَا مُقَيَّدَةٌ أَوْ مَخْصُوصَةٌ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَسْأَلَةِ تَخْلِيدِ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ وَهَذَا إذَا كَانَ الْخَبَرُ فِي غَيْرِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنْ كَانَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَهُوَ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ سَوَاءٌ حَتَّى لَوْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ رَسُولُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْحِلِّ مُطْلَقًا فِي شَيْءٍ ثُمَّ وَرَدَ الْخَبَرُ بَعْدَهُ بِالْحُرْمَةِ يَنْتَسِخُ الْأَوَّلُ بِالثَّانِي وَأَمَّا الَّذِي يُنَافِي النَّسْخَ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي هِيَ فِي الْأَصْلِ مُحْتَمِلَةٌ لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فَثَلَاثَةٌ تَأْبِيدٌ ثَبَتَ نَصًّا وَتَأْبِيدٌ ثَبَتَ دَلَالَةً وَتَوْقِيتٌ أَمَّا التَّأْبِيدُ صَرِيحًا فَمِثْلُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء: 57] وَمِثْلُ قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 55] يُرِيدُ بِهِمْ الَّذِينَ صَدَّقُوا بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْقِسْمُ الثَّانِي مِثْلُ شَرَائِعِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الَّتِي قُبِضَ عَلَى قَرَارِهَا فَإِنَّهَا مُؤَبَّدَةٌ لَا تَحْتَمِلُ النَّسْخَ بِدَلَالَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ وَلَا نَسْخَ إلَّا بِوَحْيٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ. وَالثَّالِثُ وَاضِحٌ وَالنَّسْخُ فِيهِ قَبْلَ الِانْتِهَاءِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ فِي هَذَا كُلِّهِ بَدَاءٌ وَظُهُورُ الْغَلَطِ لَا بَيَانُ الْمُدَّةِ وَاَللَّهُ يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ 1 - قَوْلُهُ (وَأَمَّا الَّذِي يُنَافِي) أَيْ الْحُكْمُ الَّذِي يُنَافِي النَّسْخَ مِنْ الْأَحْكَامِ لِفَوَاتِ الْوَصْفِ الثَّانِي وَهُوَ عَدَمُ لُحُوقِ مَا يُنَافِي بَيَانَ الْمُدَّةِ مَعَ وُجُودِ الْوَصْفِ الْأَوَّلِ وَهُوَ كَوْنُهُ مُحْتَمِلًا لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فَثَلَاثَةٌ أَمَّا التَّأْبِيدُ صَرِيحًا فَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء: 57] وَصَفَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِالْخُلُودِ أَيْ بِالْإِقَامَةِ فِيهَا وَهُوَ مُطْلَقٌ يَقْبَلُ الزَّوَالَ فَلَمَّا اقْتَرَنَ بِهِ الْأَبَدُ صَارَ بِحَالٍ لَا يَقْبَلُ الزَّوَالَ؛ لِأَنَّ فِيهَا بَعْدَ التَّنْصِيصِ عَلَى التَّأْبِيدِ بَيَانُ التَّوْقِيتِ فِيهِ بِالنَّسْخِ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْبَدَاءِ وَظُهُورِ الْغَلَطِ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُتَعَالٍ عَنْهُ وَمِثْلُ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 55] قَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ هُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اتَّبَعُوا دِينَ الْمَسِيحِ وَصَدَّقُوا بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَوَاَللَّهِ مَا اتَّبَعَهُ مَنْ دَعَاهُ رَبًّا، وَمَعْنَى الْفَوْقِيَّةِ هَاهُنَا الْغَلَبَةُ بِالْحُجَّةِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ وَبِهَا وَبِالسَّيْفِ حِينَ أَظْهَرَ مُحَمَّدًا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأُمَّتَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ كَذَا فِي الْمَطْلَعِ. وَفِي الْكَشَّافِ وَمُتَّبِعُوهُ هُمْ الْمُسْلِمُونَ؛ لِأَنَّهُمْ مُتَّبِعُوهُ فِي أَصْلِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ اخْتَلَفَ الشَّرَائِعُ دُونَ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ مِنْ الْيَهُودِ وَكَذَبُوا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَيْهِ مِنْ النَّصَارَى وَعَنْ ابْنِ زَيْدٍ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَيْ فَوْقَ الْيَهُودِ فَلَا يَكُونُ لَهُمْ مَمْلَكَةٌ كَمَا لِلنَّصَارَى ثُمَّ هَذَا، وَإِنْ كَانَ تَوْقِيتًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي الظَّاهِرِ فَهُوَ تَأْبِيدٌ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ ظَاهِرُونَ عَلَى الْكَافِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة: 212] ، فَإِذَا كَانَ مُتَّبِعُوهُ ظَاهِرِينَ فِي الدُّنْيَا الَّتِي هِيَ مَوْضِعُ غَلَبَةِ الْكُفَّارِ كَانُوا غَالِبِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِي هُوَ مَحِلُّ غَلَبَةِ الْمُؤْمِنِينَ فَكَانُوا غَالِبِينَ أَبَدًا ضَرُورَةً وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ قَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نِعْمَ الرَّجُلُ صُهَيْبٌ لَوْ لَمْ يَخَفْ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ يَعْنِي لَوْ لَمْ يَكُنْ خَائِفًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ مَعْصِيَةٌ فَكَيْفَ يَصْدُرُ إذَا خَافَهُ وَلَا يُقَالُ لَا يَصِحُّ إيرَادُ هَذَيْنِ الْمِثَالَيْنِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْإِخْبَارِ لَا مِنْ الْأَحْكَامِ، وَامْتِنَاعُ النَّسْخِ فِيهِمَا بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ لَا بِالتَّأْبِيدِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْمَقْصُودُ إيرَادُ النَّظِيرِ لِلتَّأْبِيدِ نَصًّا وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْأَحْكَامِ تَأْبِيدٌ صَرِيحٌ وَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِإِيرَادِهِمَا فَلِذَلِكَ أَوْرَدَهُمَا وَمِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي تَأْبِيدُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ؛ لِأَنَّ أَهْلَهُمَا لَمَّا كَانُوا مُؤَبَّدِينَ فِيهِمَا كَانَتَا مُؤَبَّدَتَيْنِ ضَرُورَةً وَالثَّالِثُ وَاضِحٌ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الشَّارِعُ أَذِنْت لَكُمْ أَنْ تَفْعَلُوا كَذَا إلَى سَنَةٍ أَوْ قَالَ: أَحْلَلْت هَذَا الشَّيْءَ عَشْرَ سِنِينَ أَوْ مِائَةَ سَنَةٍ فَإِنَّ الْمَنْعَ عَنْهُ قَبْلَ مُضِيِّ تِلْكَ الْمُدَّةِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ الْبَدَاءِ وَالْغَلَطِ وَالنَّسْخُ الْمُؤَدِّي إلَيْهِ بَاطِلٌ. قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَيْسَ لِهَذَا الْقِسْمِ مِثَالٌ مِنْ الْمَنْصُوصَاتِ شَرْعًا وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ} [البقرة: 187] ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ شَرْعِيَّةُ حُرْمَةِ الْقُرْبَانِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَشَرْعِيَّةُ إبَاحَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي اللَّيْلِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِمُوَقَّتَةٍ بَلْ هِيَ ثَابِتَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ. 1 - وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْفَصْلِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ إلَى جَوَازِ نَسْخِ مَا لَحِقَهُ تَأْبِيدٌ أَوْ تَوْقِيتٌ مِنْ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ اخْتِيَارُ صَدْرِ الْإِسْلَامِ أَبِي الْيُسْرِ وَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ وَالشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ وَالْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ وَالشَّيْخَانِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَلَا خِلَافَ أَنَّ مِثْلَ قَوْلِهِ: الصَّوْمُ وَاجِبٌ مُسْتَمِرٌّ أَبَدًا لَا يَقْبَلُ النَّسْخَ لِتَأْدِيَةِ النَّسْخِ فِيهِ إلَى الْكَذِبِ وَالتَّنَاقُضِ تَمَسَّكَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْخِطَابَ إذَا كَانَ بِلَفْظِ التَّأْبِيدِ فَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ دَالًّا عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ لِعُمُومِهِ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطِبُ مَعَ ذَلِكَ مَرِيدًا لِثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ دُونَ الْبَعْضِ كَمَا فِي الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ لِجَمِيعِ الْأَشْخَاصِ وَإِذَا لَمْ يَمْتَنِعْ ذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ وُرُودُ النَّاسِخِ الْمُعَرِّفِ لِمُرَادِ الْمُخَاطِبِ وَلِذَلِكَ لَوْ فَرَضْنَا ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ عَلَيْهِ مُحَالٌ. تَنْبِيهٌ: إنَّ فِي الْعُرْفِ قَدْ يُرَادُ بِلَفْظِ التَّأْبِيدِ الْمُبَالَغَةُ لَا الدَّوَامُ كَقَوْلِ الْقَائِلِ لَازِمْ فُلَانًا أَبَدًا وَفُلَانٌ يُكْرِمُ الضَّيْفَ أَبَدًا وَاجْتَنِبْ فُلَانًا أَبَدًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِي اسْتِعْمَالِ الشَّرْعِ وَيَتَبَيَّنُ بِلُحُوقِ النَّاسِخِ بِهِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ لَا الدَّوَامُ وَلِأَنَّهُ لَا خَفَاءَ أَنَّ قَوْلَهُ صُومُوا أَبَدًا مَثَلًا لَا يَرْبُوا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى تَعْيِينِ الْوَقْتِ وَالتَّنْصِيصِ عَلَى قَوْلِهِ صُمْ غَدًا فَكَمَا جَازَ نَسْخُ هَذَا قَبْلَ الْغَدِ لِمَا سَنُبَيِّنُ جَازَ نَسْخُ الْآخَرِ أَيْضًا وَتَمَسَّكَ الْفَرِيقُ الثَّانِي بِأَنَّ نَسْخَ الْخِطَابِ الْمُقَيَّدِ بِالتَّأْبِيدِ أَوْ التَّوْقِيتِ يُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ وَالْبَدَاءِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّأْبِيدِ أَنَّهُ دَائِمٌ وَالنَّسْخُ يَقْطَعُ الدَّوَامَ فَيَكُونُ دَائِمًا غَيْرَ دَائِمٍ وَصَاحِبُ الشَّرْعِ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِنَسْخِهِ كَمَا لَوْ قِيلَ الصَّوْمُ

[أقسام مالا يحتمل النسخ]

فَصَارَ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَاَلَّذِي هُوَ مَحِلُّ النَّسْخِ قِسْمٌ وَاحِدٌ وَهُوَ حُكْمٌ مُطْلَقٌ يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ لَمْ يَجِبْ بَقَاؤُهُ بِدَلِيلٍ يُوجِبُ الْبَقَاءَ كَالشِّرَاءِ يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ دُونَ الْبَقَاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــQدَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ أَبَدًا يُوَضِّحُهُ أَنَّ التَّأْبِيدَ بِمَنْزِلَةِ التَّنْصِيصِ عَلَى كُلِّ وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِ الزَّمَانِ بِخُصُوصِهِ وَالنَّسْخُ لَا يَجْرِي فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ التَّأْبِيدَ يُفِيدُ الدَّوَامَ وَالِاسْتِمْرَارَ قَطْعًا فِي الْخَبَرِ كَمَا فِي تَأْبِيدِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَتَّى إنَّ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ فَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَأَهْلِهِمَا وَحَمَلَ قَوْله تَعَالَى {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء: 57] عَلَى الْمُبَالَغَةِ يُنْسَبُ إلَى الزَّيْغِ وَالضَّلَالِ فَكَذَا فِي الْأَحْكَامِ إذْ لَا فَرْقَ فِي دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الدَّوَامِ لُغَةً فِي الصُّورَتَيْنِ وَقَوْلُهُمْ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطِبُ مَرِيدًا لِبَعْضِ الْأَزْمَانِ دُونَ الْبَعْضِ كَمَا فِي الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا اتَّصَلَ قَرِينَةٌ بِالْكَلَامِ نُطْقِيَّةٌ أَوْ غَيْرُ نُطْقِيَّةٍ دَالَّةٌ عَلَى الْمُرَادِ مِنْ غَيْرِ تَأَخُّرٍ عَنْهُ، فَإِذَا خَلَا الْكَلَامُ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْقَرِينَةِ كَانَ دَالًّا عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ قَطْعًا لِمَا مَرَّ فَكَانَ وُرُودُ النَّسْخِ عَلَيْهِ مِنْ بَابِ الْبَدَاءِ ضَرُورَةً فَلَا يَجُوزُ. وَلَيْسَ هَذَا كَجَرَيَانِ النَّسْخِ فِي اللَّفْظِ الْمُتَنَاوِلِ لِلْأَعْيَانِ فَإِنَّ النَّسْخَ فِيهِ لَا يُؤَدِّي إلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْبَعْضُ بِقَرِينَةٍ مُتَأَخِّرَةٍ بَلْ الْحُكْمُ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْكُلِّ ثُمَّ انْقَطَعَ فِي حَقِّ الْبَعْضِ بِالنَّاسِخِ فَكَانَ هَذَا الْبَعْضُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي حَقِّهِ بِنَصٍّ خَاصٍّ ثُمَّ انْقَطَعَ بِنَاسِخٍ فَإِنْ قِيلَ قَدْ يَجُوزُ تَخْصِيصُ اللَّفْظِ الْعَامِّ مُتَأَخِّرًا وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا بَيَانَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْبَعْضُ بِقَرِينَةٍ مُتَأَخِّرَةٍ قُلْنَا: ذَلِكَ لَيْسَ بِتَخْصِيصٍ عِنْدَنَا بَلْ هُوَ نَسْخٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَأَمَّا مَنْ جَعَلَهُ تَخْصِيصًا فَقَدْ بَنَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُوجِبَ الْعَامِّ ظَنِّيٌّ عِنْدَهُ وَأَنَّ التَّخْصِيصَ بَيَانٌ مُقَرَّرٌ فَيَجُوزُ مُتَأَخِّرًا وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ وَالْفَرِيقُ الْأَوَّلُ لَمْ يُسَلِّمُوا لُزُومَ الْبَدَاءِ وَالتَّنَاقُضِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُقَيَّدَ بِالتَّأْبِيدِ مِثْلُ قَوْلِهِ: صُمْ رَمَضَانَ أَبَدًا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الرَّمَضَانَاتِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُتَعَلِّقَ الْوُجُوبِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِالْجَمِيعِ اسْتِمْرَارُ الْوُجُوبِ مَعَ الْجَمِيعِ فَإِذًا لَا يَلْزَمُ مِنْ صُمْ رَمَضَانَ أَبَدًا الْإِخْبَارُ بِكَوْنِ الصَّوْمِ مُؤَبَّدًا مُسْتَمِرًّا حَتَّى يَلْزَمَ مِنْ نَفْيِ الِاسْتِمْرَارِ بِالنَّسْخِ التَّنَاقُضُ وَالْبَدَاءُ كَمَا لَوْ كَانَ الْوَقْتُ مُعَيَّنًا بِأَنْ قَالَ: صُمْ رَمَضَانَ هَذِهِ السَّنَةَ ثُمَّ نَسَخَهُ قَبْلَ مَجِيئِهِ إذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ إيجَابِ صَوْمِ رَمَضَانَ وَانْقِطَاعِ التَّكْلِيفِ عَنْهُ قَبْلَهُ بِالنَّسْخِ كَانْقِطَاعِ التَّكْلِيفِ عَنْهُ قَبْلَهُ بِالْمَوْتِ وَيَكُونُ التَّأْبِيدُ مُعَلَّقًا بِشَرْطِ عَدَمِ النَّسْخِ أَيْ افْعَلُوا أَبَدًا إنْ لَمْ أَنْسَخْهُ عَنْكُمْ كَمَا كَانَ قَوْلُهُ: افْعَلْ كَذَا فِي وَقْتِ كَذَا مُقَيَّدًا بِشَرْطِ عَدَمِ النَّسْخِ أَيْ افْعَلْ كَذَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إنْ لَمْ أَنْسَخْهُ عَنْك. هَذَا حَاصِلُ كَلَامِ الْفَرِيقَيْنِ وَلَا طَائِلَ فِي هَذَا الْخِلَافِ إذْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْأَحْكَامِ حُكْمٌ مُقَيَّدٌ بِالتَّأْبِيدِ أَوْ التَّوْقِيتِ قَدْ نُسِخَ شَرْعِيَّتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ الْوَحْيِ وَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ بَعْدُ فَلَا يَكُونُ فِيهِ كَثِيرُ فَائِدَةٍ. [أَقْسَام مَالَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ] قَوْلُهُ (فَصَارَ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ) مَا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا وَهُوَ الْوُجُودُ وَمَا يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ وَقَدْ الْتَحَقَ بِهِ تَأْبِيدٌ نَصًّا أَوْ دَلَالَةً أَوْ تَوْقِيتٌ وَهُوَ حُكْمٌ مُطْلَقٌ احْتِرَازًا عَنْ الْمُقَيَّدِ بِالتَّأْبِيدِ أَوْ التَّوْقِيتِ يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ احْتِرَازًا عَمَّا لَا يَحْتَمِلُهُ كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ لَمْ يَجِبْ بَقَاؤُهُ بِدَلِيلٍ يُوجِبُ الْبَقَاءَ احْتِرَازًا عَنْ الشَّرَائِعِ الَّتِي قُبِضَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ صِفَةٌ بَعْدَ صِفَةٍ كَالشِّرَاءِ يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ دُونَ الْبَقَاءِ يَعْنِي أَنَّهُ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي وَلَا يُوجِبُ إبْقَاءَهُ لَهُ بَلْ بَقَاؤُهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ مُبْقٍ أَوْ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ الْمُزِيلِ وَكَذَا يُوجِبُ الثَّمَنَ لِلْبَائِعِ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي وَلَا يُوجِبُ بَقَاءَهُ

فَيَنْعَدِمُ الْحُكْمُ لِانْعِدَامِ سَبَبِهِ لَا بِالنَّاسِخِ بِعَيْنِهِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى التَّضَادِّ وَالْبَدَاءِ وَلَا يَصِيرُ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ حَسَنًا وَقَبِيحًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ بَلْ فِي حَالَيْنِ، فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْأَمْرَ بِذَبْحِ الْوَلَدِ فِي قِصَّةِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نُسِخَ فَصَارَ الذَّبْحُ بِعَيْنِهِ حَسَنًا بِالْأَمْرِ وَقَبِيحًا بِالنَّسْخِ قِيلَ لَهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِنَسْخٍ لِلْحُكْمِ بَلْ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِعَيْنِهِ ثَابِتٌ، وَالنَّسْخُ هُوَ انْتِهَاءُ الْحُكْمِ وَلَمْ يَكُنْ بَلْ كَانَ ثَابِتًا إلَّا أَنَّ الْمَحِلَّ الَّذِي أُضِيفَ إلَيْهِ لَمْ يَحِلَّهُ الْحُكْمُ عَلَى طَرِيقِ الْفِدَاءِ دُونَ النَّسْخِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَهُ فِي ذِمَّتِهِ قَوْلُهُ (فَيَنْعَدِمُ الْحُكْمُ) إلَى آخِرِهِ تَقْرِيبٌ وَجَوَابٌ عَنْ كَلَامِ الْيَهُودِ الَّذِينَ ادَّعَوْا لُزُومَ الْبَدَاءِ وَالتَّنَاقُضِ فِي النَّسْخِ يَعْنِي لَمَّا لَمْ يَكُنْ بَقَاءُ الْحُكْمِ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلْبَقَاءِ بَلْ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ الْمُزِيلِ كَانَ عَدَمُ الْحُكْمِ عِنْدَ وُرُودِ النَّاسِخِ لِعَدَمِ سَبَبِهِ أَيْ بِسَبَبِ بَقَائِهِ وَهُوَ عَدَمُ الدَّلِيلِ الْمُزِيلِ لِتَبَدُّلِ ذَلِكَ الْعَدَمِ بِوُجُودِ النَّاسِخِ لَا أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ بِنَفْسِهِ مُتَعَرِّضًا لَهُ بِالْإِبْطَالِ وَالْإِزَالَةِ لِيَلْزَمَ مِنْهُ الْبَدَاءُ وَالتَّنَاقُضُ كَمَا زَعَمُوا بَلْ عَدَمُهُ لِعَدَمِ سَبَبِهِ كَالْحَيَاةِ تَنْعَدِمُ بِعَدَمِ سَبَبِهَا لَا بِالْمَوْتِ. وَنَظِيرُهُ خُرُوجُ شَهْرٍ وَدُخُولُ آخَرَ فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَنْتَهِي بِهِ لَا أَنْ يَكُونَ الثَّانِي مُزِيلًا لَهُ فَكَذَا الْحُكْمُ الْأَوَّلُ يَنْتَهِي بِالنَّاسِخِ لَا أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مُزِيلًا فَلَا يَكُونُ تَنَاقُضًا وَبَدَاءً أَوْ الْمُرَادُ مِنْ السَّبَبِ الْمَعْنَى الدَّاعِي إلَى شَرْعِيَّتِهِ يَعْنِي انْعَدَمَ الْحُكْمُ لِعَدَمِ الْمَعْنَى الدَّاعِي إلَيْهِ لَا بِالنَّاسِخِ كَانْتِهَاءِ شَرْعِيَّةِ إعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ نَصِيبًا مِنْ الزَّكَاةِ بِانْتِهَاءِ سَبَبِهِ وَهُوَ ضَعْفُ الْمُسْلِمِينَ وَحُصُولُ إعْزَازِ الدِّينِ بِهِ فَإِنَّ تَأْلِيفَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ بِإِعْطَاءِ الْمَالِ وَدَفْعِ أَذَاهُمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ بِهِ كَانَ إعْزَازًا لِلدِّينِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَلَمَّا قَوِيَ أَمْرُ الْإِسْلَامِ كَانَ إعْطَاؤُهُمْ دَنِيَّةً فِي الدِّينِ لَا إعْزَازًا لَهُ فَانْتَهَى بِانْتِهَاءِ سَبَبِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ النَّسْخُ بَدَاءً وَلَا تَنَاقُضًا لِعَدَمِ تَعَرُّضِ النَّاسِخِ لِلْحُكْمِ الْأَوَّلِ أَصْلًا وَلَا مُسْتَلْزِمًا لِاجْتِمَاعِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا زَعَمُوا بَلْ يَلْزَمُ مِنْهُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فِي حَالَتَيْنِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُسْتَحِيلٍ إذْ مِنْ شَرْطِهِ اتِّحَادُ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ جَمِيعًا قَوْلُهُ (فَإِنْ قِيلَ) هَذَا سُؤَالٌ يَرِدُ عَلَى قَوْلِهِ وَلَا يَصِيرُ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ حَسَنًا وَقَبِيحًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّكُمْ أَنْكَرْتُمْ فِي النَّسْخِ لُزُومَ اجْتِمَاعِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنَّهُ أُمِرَ بِذَبْحِ الْوَلَدِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِذَبْحِ الشَّاةِ بِدَلِيلِ أَنَّ ذَبْحَ الْوَلَدِ قَدْ حَرُمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَصَارَ الذَّبْحُ مَنْهِيًّا عَنْهُ مَعَ قِيَامِ الْأَمْرِ حَتَّى وَجَبَ ذَبْحُ الشَّاةِ فِدَاءً عَنْهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَبْحِ الْوَلَدِ الَّذِي بِهِ ثَبَتَ الِانْتِسَاخُ كَانَ دَلِيلًا عَلَى قُبْحِهِ وَقِيَامُ الْأَمْرِ بِالذَّبْحِ دَلِيلٌ عَلَى حُسْنِهِ وَفِيهِ اجْتِمَاعُ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَأَجَابَ عَنْهُ وَقَالَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا انْتَسَخَ بِذَبْحِ الشَّاةِ وَكَيْفَ يُقَالُ ذَلِكَ وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى مُحَقِّقًا رُؤْيَاهُ بِقَوْلِهِ جَلَّ جَلَالُهُ {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 105] . أَيْ حَقَقْت مَا أُمِرَتْ بِهِ بَلْ نَقُولُ الْمَحِلُّ الَّذِي أُضِيفَ إلَيْهِ الذَّبْحُ وَهُوَ الْوَلَدُ لَمْ يُحِلَّهُ الْحُكْمُ عَلَى طَرِيقِ الْفِدَاءِ كَمَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] عَلَى مَعْنَى أَنَّ هَذَا الذِّبْحَ تَقَدَّمَ عَلَى الْوَلَدِ فِي قَبُولِ الذَّبْحِ الْمُضَافِ إلَى الْوَلَدِ إذْ الْفِدَاءُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا يَقُومُ مَقَامَ الشَّيْءِ فِي قَبُولِ الْمَكْرُوهِ الْمُتَوَجَّهِ عَلَيْهِ يُقَالُ: فَدَيْتُك نَفْسِي أَيْ قَبِلْت مَا تَوَجَّهَ عَلَيْك مِنْ الْمَكْرُوهِ وَكَذَلِكَ مَنْ رَمَى سَهْمًا إلَى غَيْرِهِ فَتَقَدَّمَ عَلَى الْمُرْمَى إلَيْهِ آخَرُ وَقَبِلَ ذَلِكَ السَّهْمَ يُقَالُ فَدَاهُ بِنَفْسِهِ مَعَ بَقَاءِ خُرُوجِ السَّهْمِ مِنْ الرَّامِي إلَى الْمَحِلِّ الَّذِي قَصَدَهُ وَلَمَّا سُمِّيَتْ الشَّاةُ فِدَاءً عُلِمَ أَنَّ الذَّبْحَ الْمُضَافَ إلَى الْوَلَدِ أُقِيمَ فِي الشَّاةِ وَصَارَتْ الشَّاةُ قَائِمَةً مَقَامَ الْوَلَدِ فِي قَبُولِ الذَّبْحِ مَعَ بَقَاءِ الْأَمْرِ مُضَافًا إلَى الْوَلَدِ فَيَصِيرُ مَحِلُّ إضَافَةِ السَّبَبِ الْوَلَدَ، وَمَحِلُّ قَبُولِ الْحُكْمِ الشَّاةَ وَلِهَذَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ» وَمَا ذُبِحَا حَقِيقَةً بَلْ فُدِيَا بِالْقُرْبَانِ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْقُرْبَانُ قَائِمًا مَقَامَ الْوَلَدِ صَارَ الْوَلَدُ بِذَبْحِهِ مَذْبُوحًا حُكْمًا وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ

وَكَانَ ذَلِكَ ابْتِلَاءً اسْتَقَرَّ حُكْمُ الْأَمْرِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ وَهُوَ إبْرَاهِيمُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه فِي آخِرِ الْحَالِ عَلَى أَنَّ الْمُبْتَغَى مِنْهُ فِي حَقِّ الْوَلَدِ أَنْ يَصِيرَ قُرْبَانًا بِنِسْبَةِ حُسْنِ الْحُكْمِ إلَيْهِ مُكْرَمًا بِالْفِدَاءِ الْحَاصِلِ لِمَعَرَّةِ الذَّبْحِ مُبْتَلًى بِالصَّبْرِ وَالْمُجَاهَدَةِ إلَى حَالِ الْمُكَاشَفَةِ وَإِنَّمَا النَّسْخُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْمُرَادِ بِالْأَمْرِ لَا قَبْلَهُ، وَقَدْ سُمِّيَ فِدَاءً فِي الْكِتَابِ لَا نَسْخًا فَيَثْبُتُ أَنَّ النَّسْخَ لَمْ يَكُنْ لِعَدَمِ رُكْنِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQبِطَرِيقِ الْفِدَاءِ كَانَ هُوَ مُمْتَثِلًا لِلْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْأَمْرِ فَلَا يَسْتَقِيمُ الْقَوْلُ بِالنَّسْخِ فِيهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَبْتَنِي عَلَى النَّهْيِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْأَمْرِ وَلَا تَصَوُّرَ لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ لَمْ يَجْتَمِعَا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ لِانْتِفَاءِ النَّهْيِ الْمُوجِبِ لِلْقُبْحِ النَّاسِخِ لِلْأَمْرِ بَلْ نَفَى الْأَمْرَ كَمَا كَانَ مُوجِبًا لِلْحُسْنِ إلَّا أَنَّ الْفِعْلَ انْتَقَلَ إلَى الشَّاةِ لِمَا قُلْنَا قَوْلُهُ. (وَكَانَ ذَلِكَ ابْتِلَاءً) كَأَنَّهُ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ مَا الْحِكْمَةُ فِي إضَافَةِ إيجَابِ الذَّبْحِ إلَى الْوَلَدِ إذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ فِعْلُ الذَّبْحِ فِيهِ فَقَالَ كَانَ ذَلِكَ ابْتِلَاءً فِي حَقِّ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَتَّى يَظْهَرَ مِنْهُ الِانْقِيَادُ وَالِاسْتِسْلَامُ وَالصَّبْرُ عَلَى مَا بِهِ مِنْ حُرْقَةِ الْقَلْبِ عَلَى وَلَدِهِ وَفِي حَقِّ الْوَلَدِ بِالْمُجَاهَدَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى مَعَرَّةِ الذَّبْحِ إلَى حَالِ الْمُكَاشَفَةِ وَاسْتَقَرَّ حُكْمُ الْأَمْرِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ وَهُوَ إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي آخِرِ الْحَالِ عَلَى أَنَّ الْمُبْتَغَى أَيْ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ أَيْ مِنْ الْأَمْرِ فِي حَقِّ الْوَلَدِ أَنْ يَصِيرَ قُرْبَانًا بِهَذِهِ الْجِهَةِ وَهِيَ نِسْبَةُ الذَّبْحِ إلَيْهِ بِأَنْ يُقَالَ ذَبِيحُ اللَّهِ لَا أَنْ يَصِيرَ قُرْبَانًا بِحَقِيقَةِ الْقَتْلِ مُكْرَمًا خَبَرٌ آخَرُ لِيَصِيرَ أَيْ وَأَنْ يَصِيرَ مُكْرَمًا بِالْفِدَاءِ الْحَاصِلِ لِمَعَرَّةِ الذَّبْحِ اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْحَاصِلِ وَضَمَّنَ الْحَاصِلَ مَعْنَى الدَّافِعِ أَيْ بِالْفِدَاءِ الَّذِي حَصَلَ دَافِعًا لِمَعَرَّةِ الذَّبْحِ أَيْ لِشِدَّتِهِ أَوْ بِالْفِدَاءِ الَّذِي حَصَلَ لِأَجْلِ دَفْعِ مَعَرَّتِهِ مُبْتَلًى خَبَرُ آخَرُ لَهُ أَيْضًا أَيْ وَأَنْ يَصِيرَ مُبْتَلًى بِالصَّبْرِ وَالْمُجَاهَدَةِ إلَى حَالَةِ الْمُكَاشَفَةِ وَهِيَ حَالَةُ الْفِدَاءِ فَإِنَّهُ صَبَرَ إلَى هَذِهِ الْحَالَةِ وَقَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَسْخٍ وَقَدْ سُمِّيَ أَيْ ذَبْحُ الشَّاةِ فِدَاءً فِي الْكِتَابِ أَيْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] وَالْفِدَاءُ اسْمٌ لِمَا يَكُونُ وَاجِبًا بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْأَصْلِ فَثَبَتَ أَنَّ النَّسْخَ لَمْ يَكُنْ لِعَدَمِ رُكْنِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ بَيَانًا لِانْتِهَاءِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ وَهُوَ وُجُوبُ الذَّبْحِ بَاقٍ بَعْدَ صَيْرُورَةِ الشَّاةِ فِدَاءً وَإِذَا لَمْ يَكُنْ نَسْخًا لَمْ يَلْزَمْ اجْتِمَاعُ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ لِمَا ذَكَرْنَا. (فَإِنْ قِيلَ) لَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَبْحَ الشَّاةِ وَجَبَ بِحُكْمِ الْأَمْرِ بِالذَّبْحِ الْمُضَافِ إلَى الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَفْهَمُ مِنْ الْأَمْرِ بِذَبْحِ الْوَلَدِ ذَبْحَ الشَّاةِ بَلْ نُسِخَ ذَلِكَ الْأَمْرُ بِأَمْرٍ مُبْتَدَأٍ مُضَافٍ إلَى الشَّاةِ وَانْتَهَى نِهَايَتَهُ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ عَامَّةُ الْأُصُولِيِّينَ وَتُبَيِّنُ أَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِالِاشْتِغَالِ بِمُقَدِّمَاتِ الذَّبْحِ وَهُوَ قَدْرُ مَا أَتَى بِهِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا ائْتَمَرَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى مُحَقِّقًا لِلرُّؤْيَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102] وَهَذَا يُنْبِئُ عَنْ الِاشْتِغَالِ بِمُقَدِّمَةِ الذَّبْحِ لَا عَنْ الِاشْتِغَالِ بِحَقِيقَتِهِ إذْ لَوْ كَانَ مَأْمُورًا بِحَقِيقَتِهِ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: إنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي ذَبَحْتُك إلَّا أَنَّ الشَّاةَ سُمِّيَتْ فِدَاءً لِتَصَوُّرِهَا بِصُورَةِ الْفِدَاءِ وَهُوَ أَنَّ ذَبْحَهَا كَانَ عَقِيبَ الذَّبْحِ الْمُضَافِ إلَى الْوَلَدِ قُلْنَا لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ أَمْرٍ آخَرَ وَهُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْقُرْآنِ وَلَوْ جَعَلْنَا الشَّاةَ مَذْبُوحَةً بِأَمْرٍ مُبْتَدَأٍ لَا يَكُونُ فِدَاءً لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفِدَاءَ مَا يَقْبَلُ مَكْرُوهًا مُتَوَجِّهًا عَلَى غَيْرِهِ فَمَتَى أُقِيمَ حُكْمُ الْأَمْرِ فِي الْوَلَدِ وَحَصَلَ الِائْتِمَارُ لَا تَكُونُ الشَّاةُ قَابِلَةً مَكْرُوهًا مُتَوَجِّهًا عَلَيْهِ فَلَا تَكُونُ فِدَاءً وَلِأَنَّهُ إنَّمَا رَأَى فِي الْمَنَامِ ذَبْحَ الْوَلَدِ مُقَدِّمَةَ الذَّبْحِ فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِمُقَدِّمَاتِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مُخَالَفَةَ النَّصِّ وَنِسْبَةُ إبْرَاهِيمَ وَوَلَدِهِ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - إلَى أَنَّهُمَا اعْتَقَدَا وُجُوبَ مَا لَا يَحِلُّ وَهُوَ ذَبْحُ الْوَلَدِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ ذَبَحْتُك؛ لِأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ فِعْلٍ مَاضٍ

[باب بيان شروط النسخ]

بَابُ بَيَانِ الشَّرْطِ) : وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ عَقْدِ الْقَلْبِ فَأَمَّا التَّمَكُّنُ مِنْ الْفِعْلِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: إنَّهُ شَرْطٌ وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّ حُكْمَ النَّصِّ بَيَانُ الْمُدَّةِ لِعَمَلِ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ جَمِيعًا أَوْ لِعَمَلِ الْقَلْبِ بِانْفِرَادِهِ وَعَمَلُ الْقَلْبِ هُوَ الْمُحَكَّمُ فِي هَذَا عِنْدَنَا وَالْآخَرُ مِنْ الزَّوَائِدِ وَعِنْدَهُمْ هُوَ بَيَانُ مُدَّةِ الْعَمَلِ بِالْبَدَنِ ـــــــــــــــــــــــــــــQقَدْ تَمَّ وَوَقَعَ الْفَرَاغُ عَنْهُ وَمَا رَأَى فِي الْمَنَامِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا رَأَى مُبَاشَرَةَ فِعْلِ الذَّبْحِ فَتَكُونُ الْعِبَارَةُ عَنْهُ أَذْبَحُك؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ يُنْبِئُ عَنْ الْحَالِ. ، فَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ مُصَدِّقًا لِلرُّؤْيَا فَلِأَنَّهُ بَاشَرَ فِيمَا وَسِعَهُ مِنْ أَسْبَابِ الذَّبْحِ وَإِمْرَارِ السِّكِّينِ عَلَى مَحِلِّ الذَّبْحِ بِطَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ مِرَارًا وَهَذَا هُوَ مُبَاشَرَةُ فِعْلِ الذَّبْحِ مِنْ الْعَبْدِ فَصَارَ بِهِ ذَابِحًا مُحَقِّقًا لِمَا أُمِرَ بِهِ فَلِذَلِكَ صَحَّ قَوْله تَعَالَى {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 105] ، فَأَمَّا حُصُولُ حَقِيقَةِ الذَّبْحِ فَلَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ إذْ الْمُتَوَلِّدَاتُ تَحْدُثُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّا نُسَلِّمُ نَسْخَ مَحَلِّيَّةِ الذَّبْحِ فِي الْوَلَدِ بِصَيْرُورَةِ الشَّاةِ فِدَاءً عَنْهُ وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ انْتِسَاخَ الْأَمْرِ وَالْإِضَافَةِ بَلْ نَقُولُ بَعْدَ صَيْرُورَةِ الشَّاةِ فِدَاءً بَقِيَ الْأَمْرُ مُضَافًا إلَى وَلَدٍ حَرَامٍ ذَبْحُهُ وَحُكْمُ ذَلِكَ الْأَمْرِ وُجُوبُ ذَبْحِ الشَّاةِ وَبَقِيَ الْوَلَدُ مَحِلًّا لِإِضَافَةِ الْإِيجَابِ إلَيْهِ وَقَدْ انْتَسَخَتْ مَحَلِّيَّةُ الْفِعْلِ لَا مَحَلِّيَّةُ الْإِضَافَةِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَالطَّرِيقَةِ الْبُرْغَرِيَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ بَيَانِ شُرُوطِ النَّسْخ] بَابُ بَيَانِ الشَّرْطِ: اعْلَمْ أَنَّ لِلنَّسْخِ شُرُوطًا بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ أَمَّا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فَكَوْنُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ حُكْمَيْنِ شَرْعِيَّيْنِ فَإِنَّ الْعَجْزَ وَالْمَوْتَ كُلُّ وَاحِدٍ يُزِيلُ التَّعَبُّدَ الشَّرْعِيَّ وَلَا يُسَمَّى نَسْخًا وَكَذَا إزَالَةُ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لَا يُسَمَّى نَسْخًا وَكَوْنُ النَّاسِخِ مُنْفَصِلًا عَنْ الْمَنْسُوخِ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَالْغَايَةَ لَا يُسَمَّيَانِ نَسْخًا وَقَدْ تَضَمَّنَ التَّعْرِيفَاتُ الْمَذْكُورَةُ لِلنَّسْخِ هَذِهِ الشُّرُوطَ وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَاشْتِرَاطُ كَوْنِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَاشْتِرَاطُ الْبَدَلِ لِلْمَنْسُوخِ. وَاشْتِرَاطُ كَوْنِهِ أَخَفَّ مِنْ الْمَنْسُوخِ أَوْ مِثْلَهُ فَإِنَّهَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ النَّسْخِ عِنْدَ قَوْمٍ عَلَى مَا سَيَأْتِيك بَيَانُهَا بَعْدُ وَمِنْ الشُّرُوطِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا التَّمَكُّنُ مِنْ الْفِعْلِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ هَذَا الْبَابُ فَهُوَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّتِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَعَامَّةِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْمُعْتَزِلَةِ إلَى أَنَّهُ شَرْطٌ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَأَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَمَعْنَى التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ أَنْ يَمْضِيَ بَعْدَمَا وَصَلَ الْأَمْرُ إلَى الْمُكَلَّفِ زَمَانٌ يَسَعُ الْفِعْلَ الْمَأْمُورَ بِهِ. قَوْلُهُ (وَحَاصِلُ الْأَمْرِ) أَيْ حَاصِلُ الْخِلَافِ أَنَّ حُكْمَ النَّسْخِ عِنْدَنَا بَيَانٌ لِمُدَّةِ عَمَلِ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ تَارَةً وَلِعَمَلِ الْقَلْبِ بِانْفِرَادِهِ وَهُوَ الْعَقْدُ أُخْرَى وَعَمَلُ الْقَلْبِ هُوَ الْمُحَكَّمُ فِي هَذَا أَيْ اشْتِرَاطُ التَّمَكُّنِ مِنْ الِاعْتِقَادِ وَكَوْنُ النَّسْخِ بَيَانًا لِمُدَّتِهِ هُوَ الْأَمْرُ الْأَصْلِيُّ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ وَالتَّغَيُّرَ؛ لِأَنَّهُ لَازِمٌ عَلَى كُلِّ التَّقَادِيرِ وَالْآخَرُ أَيْ التَّمَكُّنُ مِنْ الْعَمَلِ مِنْ الزَّوَائِدِ أَيْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّسْخُ بَيَانًا لِلْمُدَّةِ فِيهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ فِي الْإِيمَانِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ رُكْنٌ أَصْلِيٌّ دَائِمٌ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِحَالٍ وَالثَّانِيَ رُكْنٌ زَائِدٌ لَا يُشْتَرَطُ دَوَامُهُ وَيَسْقُطُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَعِنْدَهُمْ هُوَ أَيْ النَّسْخُ بَيَانُ مُدَّةِ الْعَمَلِ بِالْبَدَنِ أَيْ بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ بِالْبَدَنِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ الْفِعْلِ أَوْ التَّمَكُّنِ مِنْهُ حُكْمًا؛ لِأَنَّ التَّرْكَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ تَفْرِيطٌ مِنْ الْعَبْدِ فَلَا يَنْعَدِمُ بِهِ مَعْنَى بَيَانِ مُدَّةِ حُكْمِ الْعَمَلِ بِالنَّسْخِ. وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنْ يَرِدَ النَّاسِخُ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الِاعْتِقَادِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الْوَاجِبِ كَمَا إذَا قِيلَ فِي رَمَضَانَ حُجُّوا هَذِهِ السَّنَةَ ثُمَّ قِيلَ فِي آخِرِهِ لَا تَحُجُّوا أَوْ قِيلَ صُومُوا

قَالُوا: لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْبَدَنِ هُوَ الْمَقْصُودُ بِكُلِّ نَهْيٍ وَبِكُلِّ أَمْرٍ نَصًّا يُقَالُ: افْعَلُوا كَذَا أَوْ لَا تَفْعَلُوا فَيَقْتَضِي حُسْنَهُ بِالْأَمْرِ لَا مَحَالَةَ وَقُبْحَهُ بِالنَّهْيِ وَإِذَا وَقَعَ النَّسْخُ قَبْلَ الْفِعْلِ صَارَ بِمَعْنَى الْبَدَاءِ وَالْغَلَطِ وَالْحُجَّةُ لَنَا أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمِرَ بِخَمْسِينَ صَلَاةً لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ» ثُمَّ نُسِخَ مَا زَادَ عَلَى الْخَمْسِ ـــــــــــــــــــــــــــــQثُمَّ قِيلَ قَبْلَ انْفِجَارِ الصُّبْحِ لَا تَصُومُوا وَالثَّانِي أَنْ يَرِدَ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ زَمَانٍ يَسَعُ الْوَاجِبَ كَمَا إذَا قِيلَ لِإِنْسَانٍ اذْبَحْ وَلَدَك فَبَادَرَ إلَى أَسْبَابِهِ فَقَبْلَ إحْضَارِ الْكُلِّ قِيلَ لَهُ لَا تَذْبَحْهُ أَوْ شَرَعَ فِي الصَّوْمِ فِي قَوْلِهِ صُمْ غَدًا فَقِيلَ لَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْيَوْمِ لَا تَصُمْ هَكَذَا ذُكِرَ فِي الْمِيزَانِ وَعَامَّةِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ. قَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ وَدَلَائِلُ الْخُصُومِ ظَاهِرَةٌ لَوْ بُنِيَتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْأَمْرِ وُجُوبُ الْفِعْلِ إذْ وُجُوبُ الْفِعْلِ فِي زَمَانٍ لَا يُتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ الْفِعْلِ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ وَكَذَا لَوْ بُنِيَتْ عَلَى وُجُوبِ الِاعْتِقَادِ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ يَجِبُ عَلَيْهِ اعْتِقَادُ فِعْلِ وَاجِبٍ أَوْ غَيْرِ وَاجِبٍ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَجِبُ بِالْإِجْمَاعِ وَإِيجَابُ اعْتِقَادِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَاجِبًا مُحَالٌ مِنْ الشَّرْعِ وَكَذَا إيجَابُ اعْتِقَادِ فِعْلٍ غَيْرِ وَاجِبٍ مُحَالٌ أَيْضًا وَلَكِنَّ الْمَسْأَلَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ صَحِيحٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ وُجُوبُ الْفِعْلِ وَلَا وُجُوبُ الِاعْتِقَادِ حَقِيقَةً عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى أَزَلِيٌّ عِنْدَنَا وَتَعَلُّقُهُ بِالْمَأْمُورِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ فَائِدَةٌ فِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّ الْأَمْرَ بِمَا لَا يُرِيدُ اللَّهُ تَعَالَى وُجُودَهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا لِفَائِدَةِ الْوُجُوبِ فِي الْجُمْلَةِ فَكَذَا إذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ الْوُجُوبَ أَيْضًا لَكِنَّ فِيهِ نَوْعَ فَائِدَةٍ يَصِحُّ الْأَمْرُ وَهَاهُنَا كَذَلِكَ فَإِنَّ الْمَأْمُورَ إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ بِحُدُوثِ النَّسْخِ وَيَبْنِي الْأَمْرَ عَلَى ظَاهِرِ الْأَمْرِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْعَمَلِ يَعْتَقِدُهُ ظَاهِرًا وَيَعْزِمُ عَلَى الْأَدَاءِ وَيُهَيِّئُ أَسْبَابَهُ وَيُظْهِرُ الطَّاعَةَ مِنْ نَفْسِهِ فَيَتَحَقَّقُ الِابْتِلَاءُ إنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى عَالِمًا بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْفِعْلُ وَهَذَا فِي الْأَمْرِ بِذَبْحِ الْوَلَدِ أَظْهَرُ فَإِنَّهُ لَمَّا اشْتَغَلَ بِأَسْبَابِ الذَّبْحِ وَانْقَادَ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى الثَّابِتِ ظَاهِرًا تَعْظِيمًا لِأَمْرِهِ يَظْهَرُ مِنْهُ الطَّاعَةُ فَكَانَ النَّسْخُ مُفِيدًا فِي حَقِّ الْمَأْمُورِ وَصِحَّةُ الْأَمْرِ لِفَائِدَةِ الْمَأْمُورِ لَا غَيْرُ أَوْ لَمَّا حَسُنَ مِنْهُ الْعَزْمُ وَالِاعْتِقَادُ وَاشْتَغَلَ بِأَسْبَابِهِ اُجْتُزِئَ بِذَلِكَ مِنْهُ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَرَمِهِ وَجُعِلَ قَائِمًا مَقَامَ حَقِيقَةِ الْفِعْلِ فِي حَقِّ الثَّوَابِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ النَّسْخَ وَرَدَ بَعْدَ وُجُودِ الْفِعْلِ تَقْدِيرًا هَذَا طَرِيقُ تَخْرِيجِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. قَوْلُهُ (قَالُوا) أَيْ الْخُصُومُ إنَّمَا يُشْتَرَطُ التَّمَكُّنُ مِنْ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْبَدَنِ هُوَ الْمَقْصُودُ بِكُلِّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ نَصًّا أَيْ الْعَمَلُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِكُلِّ أَمْرٍ وَالْمَنْعُ مِنْ الْعَمَلِ هُوَ الْمَقْصُودُ بِكُلِّ نَهْيٍ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِصَرِيحِهِمَا تَدُلَّانِ عَلَى وُجُوبِ الْفِعْلِ وَالْمَنْعِ عَنْهُ لِدَلَالَتِهِمَا عَلَى الْمَصْدَرِ لَا عَلَى الْعَزْمِ وَالْقَصْدِ وَالْمَنْعِ مِنْهُ فَيَقْتَضِي كَوْنَ الْفِعْلِ وَالِامْتِنَاعِ عَنْهُ هُوَ الْمَقْصُودَ بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي حُسْنَ الْفِعْلِ بِالْأَمْرِ وَقُبْحَهُ بِالنَّهْيِ يَعْنِي لَمَّا كَانَ الْفِعْلُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ نَفْسُ الْفِعْلِ حَسَنًا إذَا وَرَدَ الْأَمْرُ بِهِ وَذَاتُهُ قَبِيحًا إذَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ وَالنَّسْخُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ يُؤَدِّي إلَى اجْتِمَاعِهِمَا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا أُمِرَ بِشَيْءٍ فِي وَقْتٍ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى حُسْنِ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَإِذَا نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ دَلَّ عَلَى قُبْحِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِكَوْنِ الْحُسْنِ وَالنَّسْخِ مِنْ ضَرُورَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ مُحَالٌ فَكَانَ الْقَوْلُ بِجَوَازِ النَّسْخِ الَّذِي يُؤَدِّي إلَيْهِ فَاسِدًا. وَكَانَ هَذَا النَّسْخُ مِنْ بَابِ الْبَدَاءِ وَالْغَلَطِ الَّذِي هُوَ عَلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ مُحَالٌ نُبَيِّنُهُ أَنَّ الشَّارِعَ إذَا أَمَرَ فِي صَبِيحَةِ يَوْمٍ بِأَدَاءِ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ غُرُوبِ

فَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَصَحَّ النَّسْخُ بَعْدَ وُجُودِ عَقْدِهِ وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ تَمَكُّنٌ مِنْ الْفِعْلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالشَّمْسِ بِطَهَارَةٍ ثُمَّ عِنْدَ الزَّوَالِ نَهَى عَنْ أَدَائِهِمَا عِنْدَ الْغُرُوبِ بِطَهَارَةٍ كَانَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مُتَنَاوِلًا فِعْلًا وَاحِدًا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَقَدْ صَدَرَ عَنْ مُكَلِّفٍ وَاحِدٍ إلَى مُكَلَّفٍ وَاحِدٍ وَفِي تَنَاوُلِ النَّهْيِ لِمَا تَنَاوَلَهُ الْأَمْرُ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي تَنَاوَلَهُ دَلِيلٌ عَلَى الْبَدَاءِ وَالْغَلَطِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْهَى عَمَّا أَمَرَ بِفِعْلِهِ إذَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ حَالِ الْمَأْمُورِ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهُ حِينَ أَمَرَ بِهِ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ بِالْأَمْرِ إنَّمَا طَلَبَ مِنْ الْمَأْمُورِ اتِّحَادَ الْفِعْلِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ لَا قَبْلَهُ إذْ التَّكْلِيفُ لَا يَكُونُ إلَّا بِحَسَبِ الْوُسْعِ، وَالْبَدَاءُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ قَالُوا وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِكُمْ إنَّ صِحَّةَ الْأَمْرِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْإِفَادَةِ وَقَدْ أَفَادَ اعْتِقَادَ الْوُجُوبِ وَالْعَزِيمَةِ عَلَى الْفِعْلِ فَيَجُوزُ نَسْخُهُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ بَدَاءٌ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُصَوَّرَةٌ فِيمَا إذَا كَانَ النَّهْيُ تَنَاوَلَ عَيْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْأَمْرُ تَنَاوَلَ الْفِعْلَ فَلَوْ جَوَّزْنَا نَسْخَهُ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ لَمْ يَبْقَ لِلْأَمْرِ فَائِدَةٌ فِيمَا وُضِعَ الْأَمْرُ لَهُ، فَأَمَّا اعْتِقَادُ الْوُجُوبِ وَالْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ بِمَوْضُوعٍ لَهُمَا فَلَا يَدُلُّ الْأَمْرُ عَلَيْهِمَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَلَا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: افْعَلُوا لَا يَصْلُحُ عِبَارَةً عَنْ اعْزِمُوا وَاعْتَقِدُوا بِوَجْهٍ فَثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ أَمْرٌ بِالْفِعْلِ لَا غَيْرُ فَكَانَ النَّسْخُ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ مُؤَدِّيًا إلَى سُقُوطِ الْفَائِدَةِ عَنْ الْأَمْرِ وَإِلَى الْبَدَاءِ وَالْحُجَّةُ لِعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ السُّنَّةُ، وَالدَّلِيلُ الْمَعْقُولُ أَمَّا السُّنَّةُ كَمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمِرَ بِخَمْسِينَ صَلَاةً لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ ثُمَّ نُسِخَ مَا زَادَ عَلَى الْخَمْسِ» وَكَانَ ذَلِكَ نَسْخًا قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ عَقْدِ الْقَلْبِ عَلَيْهِ فَدَلَّ وُقُوعُهُ عَلَى الْجَوَازِ وَزِيَادَةٍ. فَإِنْ قِيلَ هَذَا خَبَرٌ غَيْرُ ثَابِتٍ وَالْمُعْتَزِلَةُ يُنْكِرُونَ الْمِعْرَاجَ أَصْلًا وَمَنْ أَقَرَّ بِهِ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ يَقُولُونَ لَمْ يُرْوَ فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ ذِكْرُ نَسْخِ خَمْسِينَ صَلَاةً بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ وَذَلِكَ شَيْءٌ زَادَهُ الْقُصَّاصُ فِيهِ كَمَا زَادُوا غَيْرَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّمَكُّنِ مِنْ الِاعْتِقَادِ وَكَانَ الْأَمْرُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً عَلَى مَا زَعَمْتُمْ لِلْأُمَّةِ لَا لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَاصَّةً وَلَمْ يُوجَدْ التَّمَكُّنُ مِنْ الِاعْتِقَادِ لِلْأُمَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ قَبْلَ الْعِلْمِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ ثَابِتٌ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي بَيَّنَّا وَمِنْ شَرْطِ قَبُولِ الْخَبَرِ أَنْ لَا يُخَالِفَ الدَّلِيلَ الْعَقْلِيَّ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمُخَالِفٍ لَهُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فَرْضًا بِطَرِيقِ الْعَزْمِ بَلْ فَوَّضَ ذَلِكَ إلَى رَأْيِ رَسُولِهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَإِذَا اخْتَارَ الْخَمْسَ تَقَرَّرَ الْفَرْضُ قُلْنَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ مَشْهُورٌ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَهُوَ فِي مَعْنَى التَّوَاتُرِ فَلَا وَجْهَ إلَى إنْكَارِهِ وَأَهْلُ النَّقْلِ وَنَاقِدُوا الْحَدِيثِ كَمَا رَوَوْا أَصْلَ الْمِعْرَاجِ رَوَوْا فَرْضَ خَمْسِينَ صَلَاةً وَنَسْخَهَا بِخَمْسٍ وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الْأَحَادِيثِ فَوَجَبَ قَبُولُهُ كَمَا وَجَبَ قَبُولُ أَصْلِ الْمِعْرَاجِ وَلَمْ يَجُزْ الْقَوْلُ بِكَوْنِهِ مِنْ زِيَادَاتِ الْقُصَّاصِ قَالَ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ وَلَيْسَ إنْكَارُ الْقَدَرِيَّةِ الْمِعْرَاجَ إلَّا كَإِنْكَارِهِمْ خَبَرَ الرُّؤْيَةِ وَالْقَدَرِ وَأَخْبَارِ الشَّفَاعَةِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَالْحَوْضِ وَالْمِيزَانِ وَالْخَبَرُ صَحِيحٌ لَا يُرَدُّ بِطَعْنِ مُخَالَفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ كَمَا لَمْ يُرَدَّ خَبَرُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ بِطَعْنِ الرَّوَافِضِ وَالْخَوَارِجِ فِيهِ وَكَمَا لَمْ يُرَدَّ خَبَرُ الرَّجْمِ بِإِنْكَارِ الْخَوَارِجِ الرَّجْمَ وَهُوَ لَيْسَ بِمُخَالِفٍ لِلدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ. وَقَوْلُهُمْ لَمْ يُوجَدْ التَّمَكُّنُ مِنْ الِاعْتِقَادِ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْأَصْلُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى ذَلِكَ قَالَ أَبُو الْيُسْرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ظَهَرَ فِي الِانْتِهَاءِ أَنَّ الْمُبْتَلَى بِالْقَبُولِ

وَلِأَنَّ النَّسْخَ صَحِيحٌ بِالْإِجْمَاعِ بَعْدَ وُجُودِ جُزْءٍ مِنْ الْفِعْلِ أَوْ مُدَّةٍ يَصْلُحُ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ جُزْءٍ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْأَمْرِ يَحْتَمِلُ كُلَّهُ؛ لِأَنَّ الْأَدْنَى يَصْلُحُ مَقْصُودًا بِالِابْتِلَاءِ فَكَذَلِكَ عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى جِنْسِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَعَلَى حَقِّيَّتِهِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا مُنْفَصِلًا عَنْ الْفِعْلِ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ ابْتَلَانَا بِمَا هُوَ مُتَشَابِهٌ لَا يَلْزَمُنَا فِيهِ إلَّا اعْتِقَادُ الْحَقِّيَّةِ فِيهِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عَقْدَ الْقَلْبِ يَصْلُحُ أَصْلًا ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالِاعْتِقَادِ كَانَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَ أُمَّتِهِ، وَإِنَّهُ كَانَ مُبْتَلًى بِالْقَبُولِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي حَقِّ أُمَّتِهِ فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَجُوزُ أَنْ يُبْتَلَى بِأُمَّتِهِ كَمَا يُبْتَلَى بِنَفْسِهِ لِتَوَفُّرِ شَفَقَتِهِ عَلَى أُمَّتِهِ كَشَفَقَةِ الْأَبِ عَلَى الْوَلَدِ وَالْأَبُ يُبْتَلَى بِالْوَلَدِ كَمَا يُبْتَلَى بِنَفْسِهِ وَقَوْلُهُمْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَرْضًا عَزْمًا كَلَامٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ سَأَلَ التَّخْفِيفَ عَلَى أُمَّتِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ وَكَانَ مُوسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - يَحُثُّهُ عَلَى ذَلِكَ وَمَا زَالَ يَسْأَلُ ذَلِكَ وَيُجِيبُهُ رَبُّهُ إلَيْهِ حَتَّى انْتَهَى لِخَمْسٍ فَقِيلَ لَهُ لَوْ سَأَلَتْ التَّخْفِيفَ أَيْضًا فَقَالَ أَنَا أَسْتَحِي فَتَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُفَوَّضًا إلَى اخْتِيَارِهِ بَلْ كَانَ نَسْخًا عَلَى وَجْهِ التَّخْفِيفِ بِسُؤَالِهِ بَعْدَ الْفَرْضِيَّةِ وَقَدْ تَمَسَّكَ عَامَّةُ الْأُصُولِيِّينَ بِقِصَّةِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنَّ الْأَمْرَ بِذَبْحِ الْوَلَدِ قَدْ نُسِخَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ بِطَرِيقِ التَّحْوِيلِ إلَى الشَّاةِ كَنَسْخِ التَّوَجُّهِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَى الْكَعْبَةِ وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ قَوْلُهُ (وَلِأَنَّ النَّسْخَ) بَيَانٌ لِلدَّلِيلِ الْمَعْقُولِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ النَّسْخَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ بَعْدَ وُجُودِ جُزْءٍ مِنْ الْفِعْلِ أَوْ مُدَّةٍ تَصْلُحُ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ جُزْءٍ مِنْهُ يَعْنِي إذَا أُمِرَ بِالْفِعْلِ مُطْلَقًا بِأَنْ قِيلَ: افْعَلُوا كَذَا فِي مُسْتَقْبَلِ أَعْمَارِكُمْ يَجُوزُ نَسْخُهُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ بَعْدَ وُجُودِ أَصْلِ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ جُزْءٌ مِمَّا تَنَاوَلَهُ مُطْلَقُ الْأَمْرِ أَوْ بَعْدَ مُضِيِّ جُزْءٍ مِنْ الزَّمَانِ يَسَعُ أَصْلَ الْفِعْلِ وَلَوْلَا النَّسْخُ لَكَانَ الْأَمْرُ مُتَنَاوِلًا جَمِيعَ الْعُمُرِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ الْأَمْرَ إذَا وَرَدَ بِفِعْلٍ مِثْلِ أَنْ يُقَالَ صَلُّوا رَكْعَتَيْنِ أَوْ صُومُوا غَدًا فَبَعْدَ أَدَاءِ جُزْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ أَوْ جُزْءٍ مِنْ الصَّوْمِ أَوْ بَعْدَ مُضِيِّ زَمَانٍ يَسَعُ جُزْءًا مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ يَجُوزُ نَسْخُهُ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى مَا يُوهِمُ ظَاهِرُ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الصُّوَرِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا بَلْ الْمُرَادُ مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الْأَدْنَى يَصْلُحُ مَقْصُودًا يَعْنِي إنَّمَا صَحَّ النَّسْخُ بَعْدَ مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الْأَدْنَى أَيْ أَدْنَى مَا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ اسْمُ ذَلِكَ الْفِعْلِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا بِالِابْتِلَاءِ وَلَا يُؤَدِّي ذَلِكَ النَّسْخُ إلَى الْبَدَاءِ وَالْجَهْلِ بِعَاقِبَةِ الْأَمْرِ فَكَذَا عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى حُسْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَحَقِّيَّتِهِ أَيْ وُجُوبِهِ وَثُبُوتِهِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا بِالِابْتِلَاءِ مُنْفَصِلًا عَنْ الْفِعْلِ أَيْ بِدُونِ الْفِعْلِ وَكَانَ النَّسْخُ بَعْدَ عَقْدِ الْقَلْبِ عَلَى الْحُكْمِ وَحَقِّيَّتِهِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ بَيَانًا أَنَّ الْمُرَادَ كَانَ عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَيْهِ إلَى هَذَا الْوَقْتِ وَاعْتِقَادُ الْفَرْضِيَّةِ فِيهِ دُونَ مُبَاشَرَةِ الْعَمَلِ وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ اسْتِدْلَالٌ بِجَوَازِ أَصْلِ النَّسْخِ عَلَى جَوَازِهِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ وَعِبَارَةُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ فِيهِ أَنَّ الدَّلِيلَ لَمَّا قَامَ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِهِ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُنْسَخَ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ أَوْ بَعْدَ وَقْتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ اعْتِقَادَ الْوُجُوبِ وَالْعَزْمُ عَلَى الْفِعْلِ إذَا حَضَرَ وَقْتُهُ. وَيَكُونُ الِابْتِلَاءُ بِهَذَا الْقَدْرِ وَهَذَا ابْتِلَاءٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ رَأْسُ الطَّاعَاتِ فَيَجُوزُ أَنْ يَبْتَلِيَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِقَبُولِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ إيمَانًا وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْبَدَاءُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا يَسْقُطُ عَنْ الْمَأْمُورِ بِنَسْخِهِ يَسْقُطُ عَنْهُ بِمَوْتِهِ وَعَجْزِهِ عَنْ الْفِعْلِ ثُمَّ إذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِيلًا أَنْ يُؤْمَرَ بِالشَّيْءِ ثُمَّ لَا يَصِلُ إلَى فِعْلِهِ بِعَارِضٍ مِنْ عَجْزٍ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ أَوْ مَوْتٍ يَقْطَعُهُ عَنْهُ وَقَدْ يُؤْمَرُ الْمُسْلِمُ بِقَتْلِ الْكَافِرِ فَيَتَوَجَّهُ إلَيْهِ بِسَيْفِهِ ثُمَّ يُقْتَلُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ أَوْ يُصِيبَهُ آفَةٌ تَحُولُ دُونَ قَصْدِهِ لَا يَسْتَحِيلُ أَنْ لَا يَصِلَ إلَى فِعْلِهِ بِعَارِضِ النَّسْخِ أَيْضًا يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ قَرَنَ الْبَيَانَ صَرِيحًا بِالْأَمْرِ بِأَنْ قَالَ: افْعَلْ كَذَا فِي وَقْتِ كَذَا إنْ لَمْ أَنْسَخْهُ

وَلِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَصِيرُ قُرْبَةً إلَّا بِعَزِيمَةِ الْقَلْبِ وَعَزِيمَةُ الْقَلْبِ قَدْ تَصِيرُ قُرْبَةً بِلَا فِعْلٍ وَالْفِعْلُ فِي احْتِمَالِ السُّقُوطِ فَوْقَ الْعَزِيمَةِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَلَحَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا دُونَ الْفِعْلِ أَلَا يَرَى أَنَّ عَيْنَ الْحَسَنِ لَا يَثْبُتُ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ وَقَوْلُ الْقَائِلِ افْعَلُوا عَلَى سَبِيلِ الطَّاعَةِ أَمْرٌ بِعَقْدِ الْقَلْبِ لَا مَحَالَةَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ مَقْصُودًا لَازِمًا وَالْآخَرُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQعَنْك صَحَّ ذَلِكَ وَاسْتَقَامَ كَمَا لَوْ قَالَ: افْعَلْ فِي وَقْتِ كَذَا إنْ تَمَكَّنْت مِنْهُ وَتَكُونُ الْفَائِدَةُ فِي الْحَالِ هِيَ الْقَبُولَ بِالْقَلْبِ وَاعْتِقَادَ الْحَقِّيَّةِ فَكَذَلِكَ يَصِحُّ بَعْدَ الْأَمْرِ بِطَرِيقِ النَّسْخِ. قَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَصِيرُ قُرْبَةً) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى صَلَاحِيَّةِ الِاعْتِقَادِ مَقْصُودًا بِدُونِ الْفِعْلِ وَهُوَ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ قَوْلِ الْخَصْمِ أَنَّ الْفِعْلَ هُوَ الْمَقْصُودُ لَا غَيْرُ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْفِعْلَ لَا يَصِيرُ قُرْبَةً أَيْ سَبَبَ نَيْلِ الثَّوَابِ إلَّا بِعَزِيمَةِ الْقَلْبِ بِالِاتِّفَاقِ وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» . وَعَزِيمَةُ الْقَلْبِ قَدْ تَصِيرُ قُرْبَةً بِدُونِ الْفِعْلِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ» الْحَدِيثَ وَالْفِعْلُ فِي احْتِمَالِ السُّقُوطِ فَوْقَ الْعَزِيمَةِ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ وَكَذَا الطَّاعَاتُ الَّتِي هِيَ مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ مَعَ كَوْنِهَا مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ عِنْدَ قَوْمٍ تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِعَوَارِضَ وَالتَّصْدِيقُ الَّذِي هُوَ عَزِيمَةُ الْقَلْبِ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِحَالٍ وَلِهَذَا كَانَ تَرْكُ الْعَزِيمَةِ أَيْ تَرْكُ الِاعْتِقَادِ كُفْرًا وَتَرْكُ الْعَمَلِ فِسْقًا، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ كَانَ الشَّأْنُ كَمَا ذَكَرْنَا صَلَحَ أَنْ يَكُونَ عَقْدُ الْقَلْبِ مَقْصُودًا بِالِابْتِلَاءِ دُونَ الْفِعْلِ لِكَوْنِهِ أَهَمَّ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ بَدَاءً أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا قَدْ يَأْمُرُ عَبْدَهُ بِشَيْءٍ وَمَقْصُودُهُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُظْهِرَ عِنْدَ النَّاسِ حُسْنَ طَاعَتِهِ وَانْقِيَادِهِ لَهُ ثُمَّ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ حُصُولِ هَذَا الْمَقْصُودِ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ وَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ دَلِيلَ الْبَدَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْآمِرُ مِمَّنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْبَدَاءُ فَلَأَنْ لَا يُجْعَلُ النَّسْخُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ بَعْدَ عَزْمِ الْقَلْبِ وَاعْتِقَادِ الْحَقِّيَّةِ مُوهِمًا لِلْبَدَاءِ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْبَدَاءُ أَوْلَى قَوْلُهُ (أَلَا تَرَى أَنَّ غَيْرَ الْحَسَنِ لَا يَثْبُتُ) تَوْضِيحٌ لِصَلَاحِيَّةِ الِاعْتِقَادِ مَقْصُودًا وَجَوَابٌ عَنْ لُزُومِ اجْتِمَاعِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ يَعْنِي لَا يَثْبُتُ حَقِيقَةُ الْحُسْنِ لِلْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ قَبْلَ وُجُودِهِ؛ لِأَنَّ الْحُسْنَ صِفَةٌ لَهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ قَبْلَ وُجُودِهِ وَلَا بُدَّ لِلنَّسْخِ مِنْ تَحَقُّقِ الْمَأْمُورِ بِهِ لِيَكُونَ النَّاسِخُ بَيَانًا لِانْتِهَاءِ حُسْنِهِ وَمُثْبِتًا لِقُبْحِ مَا يُتَصَوَّرُ مِنْ أَمْثَالِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ثُمَّ لَمَّا جَازَ النَّسْخُ بِالْإِجْمَاعِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ قَبْلَ حُصُولِ حَقِيقَتِهِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ صِحَّتُهُ مَبْنِيَّةً عَلَى كَوْنِ الِاعْتِقَادِ مَقْصُودًا بِالْأَمْرِ كَالْفِعْلِ لِيَصْلُحَ النَّاسِخُ بَيَانًا لِانْتِهَاءِ حُسْنِهِ إذْ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِانْتِهَاءِ حُسْنِ الْفِعْلِ لِاسْتِحَالَةِ انْتِهَاءِ الشَّيْءِ قَبْلَ وُجُودِهِ وَلَمَّا جَازَ ذَلِكَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ بَدَاءٌ وَاجْتِمَاعُ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ جَازَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ أَيْضًا لِوُجُودِ هَذَا الْمَعْنَى. وَقَوْلُهُ وَقَوْلُ الْقَائِلِ كَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ الْفِعْلُ هُوَ الْمَقْصُودُ أَيْ إذَا قَالَ افْعَلُوا عَلَى سَبِيلِ الطَّاعَةِ يَكُونُ أَمْرًا بِعَقْدِ الْقَلْبِ كَمَا هُوَ أَمْرٌ بِالْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الطَّاعَةَ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ عَقْدِ الْقَلْبِ عَلَى حَقِّيَّةَ الْمَأْمُورِ بِهِ فَكَانَ الْأَمْرُ مُوجِبًا لِلْعَقْدِ وَالْفِعْلِ جَمِيعًا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ الْعَقْدُ مَقْصُودًا لَازِمًا لِكَوْنِهِ أَهَمَّ وَالْآخَرُ وَهُوَ الْفِعْلُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا وَبَيْنَ أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ وَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفِعْلَ بِعَيْنِهِ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ الْمَقْصُودُ هُوَ الِابْتِلَاءُ وَلَا يَحْصُلُ الِابْتِلَاءُ إلَّا بِكَوْنِ وُجُوبِ الِاعْتِقَادِ مِنْ مَوَاجِبِ الْأَمْرِ وَلِهَذَا لَوْ فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ وَلَمْ يَعْتَقِدْ وُجُوبَهُ لَا يَصِحُّ فِعْلُهُ فَكَانَ هُوَ مَقْصُودًا لَازِمًا بِخِلَافِ أَوَامِرِ الْعِبَادِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا لَيْسَ إلَّا طَلَبُ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ

[باب تقسيم الناسخ]

{بَابُ تَقْسِيمِ النَّاسِخِ} قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْحُجَجُ أَرْبَعَةٌ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ أَمَّا الْقِيَاسُ فَلَا يَصْلُحُ نَاسِخًا لِمَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ـــــــــــــــــــــــــــــQبِطَرِيقِ الِابْتِلَاءِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ لِجَرِّ النَّفْعِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْفِعْلِ لَا بِعَقْدِ الْقَلْبِ فَإِنْ قِيلَ: الِابْتِلَاءُ كَمَا يَحْصُلُ بِوُجُوبِ الْعَقْدِ يَحْصُلُ بِوُجُوبِ الْفِعْلِ فَكَانَ كِلَاهُمَا مَقْصُودًا قُلْنَا نَعَمْ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ كِلَاهُمَا مَقْصُودٌ وَلَكِنْ تَبَيَّنَ بِالنَّسْخِ الْمُرَادُ كَانَ هُوَ الِابْتِلَاءَ بِالِاعْتِقَادِ كَمَا إذَا نُسِخَ بَعْدَ الْفِعْلِ مَرَّةً وَقَدْ كَانَ الْأَمْرُ مُطْلَقًا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الِابْتِلَاءَ كَانَ بِالْفِعْلِ مَرَّةً أَوْ مُدَّةُ الْفِعْلِ كَانَتْ مَقْصُورَةً عَلَى هَذَا الزَّمَانِ، وَإِنْ كَانَ مُطْلَقُ الْأَمْرِ يَتَنَاوَلُ الْأَزْمِنَةَ كُلَّهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرِدْ النَّسْخُ وَجَبَ الْفِعْلُ فِي الْأَزْمِنَةِ كُلِّهَا بِقَضِيَّةِ الْأَمْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ تَقْسِيمِ النَّاسِخِ] اعْلَمْ أَنَّ النَّاسِخَ يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى يُقَالُ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى التَّوَجُّهَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] وَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج: 52] وَعَلَى الْحُكْمِ الثَّابِتِ كَمَا يُقَالُ وُجُوبُ صَوْمِ رَمَضَانَ نَسَخَ وُجُوبَ صَوْمِ عَاشُورَاءَ وَعَلَى مَنْ يَعْتَقِدُ نَسْخَ الْحُكْمِ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ يَنْسَخُ الْقُرْآنَ بِالسُّنَّةِ أَيْ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ وَعَلَى الطَّرِيقِ الْمُعَرِّفِ لِارْتِفَاعِ الْحُكْمِ مِنْ الْآيَةِ وَخَبَرِ الرَّسُولِ وَنَحْوِهِمَا عِنْدَ مَنْ جَوَّزَ النَّسْخَ بِغَيْرِهِمَا وَهُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا وَلَا خِلَافَ أَنَّ إطْلَاقَهُ عَلَى الْمُتَوَسِّطِينَ مَجَازٌ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الطَّرَفَيْنِ فَعِنْدَنَا إطْلَاقُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةٌ وَعَلَى الطَّرِيقِ الْمُعَرِّفِ مَجَازٌ وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى الْعَكْسِ وَالنِّزَاعُ لَفْظِيٌّ الْحُجَجُ أَرْبَعٌ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَرْبَعَةٌ عَلَى تَأْوِيلِ الدَّلَائِلِ قَوْلُهُ (أَمَّا الْقِيَاسُ فَلَا يَصْلُحُ نَاسِخًا لِمَا نُبَيِّنُ) كَأَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ لِمَا نُبَيِّنُ مَا ذُكِرَ فِي بَابِ شُرُوطِ الْقِيَاسِ أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَتَعَدَّى إلَى فَرْعٍ لَا نَصَّ فِيهِ إذْ التَّعَدِّيَةُ بِمُخَالَفَةِ النَّصِّ مُنَاقِضَةٌ حُكْمَ النَّصِّ وَهُوَ بَاطِلٌ وَاعْلَمْ أَنَّ الْقِيَاسَ الْمَظْنُونَ لَا يَكُونُ نَاسِخًا لِشَيْءٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سَوَاءٌ كَانَ جَلِيًّا أَوْ خَفِيًّا وَنُقِلَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ شُرَيْحٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ النَّسْخَ يَجُوزُ بِهِ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ بَيَانٌ كَالتَّخْصِيصِ فَمَا جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ جَازَ النَّسْخُ بِهِ أَيْضًا. وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيُّ مِنْ أَصْحَابِهِ لَا يُجَوِّزُ ذَلِكَ بِقِيَاسِ الشِّبْهِ وَيَجُوزُ بِقِيَاسٍ مُسْتَخْرَجٍ مِنْ الْأُصُولِ وَكَانَ يَقُولُ كُلُّ قِيَاسٍ هُوَ مُسْتَخْرَجٌ مِنْ الْقُرْآنِ يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِهِ وَكُلُّ قِيَاسٍ هُوَ مُسْتَخْرَجٌ مِنْ السُّنَّةِ يَجُوزُ نَسْخُ السُّنَّةِ بِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ وَنَسْخُ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ فَثُبُوتُ الْحُكْمِ بِمِثْلِ هَذَا الْقِيَاسِ يَكُونُ مُحَالًا بِهِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إذْ الْقِيَاسُ بِكَثِيرٍ مُحَالُ النَّصِّ وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنَّ النَّسْخَ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي الْقَاسِمِ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ دُونَ الْخَفِيِّ قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَفْظُ الْجَلِيِّ مُبْهَمٌ إنْ أَرَادَ بِهِ الْمَقْطُوعَ بِهِ فَهُوَ صَحِيحٌ وَأَمَّا الْمَظْنُونُ فَلَا. تَمَسَّكَ الْجُمْهُورُ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى تَرْكِ الرَّأْيِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ السُّنَّةُ مِنْ الْآحَادِ حَتَّى قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حَدِيثِ الْجَنِينِ كِدْنَا أَنْ نَقْضِيَ فِيهِ بِرَأْيِنَا وَفِيهِ سُنَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ بَاطِنُ الْخُفِّ بِالْمَسْحِ أَوْلَى مِنْ ظَاهِرِهِ وَلَكِنِّي «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ الْخُفِّ دُونَ بَاطِنِهِ» وَبِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ عَلَى الْقِيَاسِ الْمَظْنُونِ الَّذِي يُنْسَخُ

وَالْإِجْمَاعُ فَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ يَصِحُّ النَّسْخُ بِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ النَّسْخَ بِهِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْإِجْمَاعُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَيَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا إجْمَاعَ دُونَ رَأْيِهِ، وَالرُّجُوعُ إلَيْهِ فَرْضٌ وَإِذَا وُجِدَ مِنْهُ الْبَيَانُ كَانَ مُنْفَرِدًا بِذَلِكَ لَا مَحَالَةَ وَإِذَا صَارَ الْإِجْمَاعُ وَاجِبَ الْعَمَلِ بِهِ لَمْ يَبْقَ النَّسْخُ مَشْرُوعًا وَإِنَّمَا يَجُوزُ النَّسْخُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ وَنَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ وَنَسْخُ الْكِتَابِ بِالسَّنَةِ وَذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQبِهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا فَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا فَلَا يَجُوزُ نَسْخُهُ بِهِ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ تَقْدِيمِ الْقَاطِعِ عَلَى غَيْرِهِ وَتَرْكِ الْأَضْعَفِ بِالْأَقْوَى، وَإِنْ كَانَ ظَنِّيًّا فَلَا نَسْخَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْمَظْنُونِ الْمُتَقَدِّمِ إنَّمَا يَثْبُتُ مَشْرُوطًا بِرُجْحَانِهِ عَلَى مَا يُعَارِضُهُ وَيُنَافِيهِ إذْ لَوْ تَرَجَّحَ عَلَيْهِ قِيَاسٌ آخَرُ يَبْطُلُ شَرْطُ الْعَمَلِ بِهِ وَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مُقْتَضِيًا لِلْحُكْمِ فَتَبَيَّنَ مِنْ الْقِيَاسِ الرَّاجِحِ أَنَّ حُكْمَ الْمَظْنُونِ الْمُتَقَدِّمِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا وَإِذْ لَا ثُبُوتَ لَهُ فَلَا دَفْعَ وَلَا نَسْخَ وَأَمَّا اعْتِبَارُ النَّسْخِ بِالتَّخْصِيصِ فَمَنْقُوضٌ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَالْإِجْمَاعِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ فَإِنَّ التَّخْصِيصَ بِهَا جَائِزٌ دُونَ النَّسْخِ وَكَيْفَ يَتَسَاوَيَانِ وَالتَّخْصِيصُ بَيَانٌ وَالنَّسْخُ رَفْعٌ وَإِبْطَالٌ. وَمَا ذَكَرَهُ الْأَنْمَاطِيُّ ضَعِيفٌ أَيْضًا فَإِنَّ الْوَصْفَ الَّذِي بِهِ يُرَدُّ الْفَرْعُ إلَى الْأَصْلِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِأَنَّهُ هُوَ الْمَعْنَى فِي الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ حَتَّى لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مَقْطُوعًا بِهِ بِأَنْ كَانَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ جَازَ النَّسْخُ فِيهِ أَيْضًا كَالنَّصِّ وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي جَوَازِ كَوْنِ الْقِيَاسِ مَنْسُوخًا فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا كَالْحَنَابِلَةِ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ فِي قَوْلٍ مَصِيرٍ مِنْهُمْ إلَى أَنَّ الْقِيَاسَ إذَا كَانَ مُسْتَنْبَطًا مِنْ أَصْلٍ فَالْقِيَاسُ بَاقٍ بِبَقَاءِ الْأَصْلِ فَلَا يُتَصَوَّرُ رَفْعُ حُكْمِهِ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ نَسْخَ الْقِيَاسِ الْمَوْجُودِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دُونَ مَا وُجِدَ بَعْدَهُ كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَاخْتِيَارُ الْعَامَّةِ أَنْ لَا يَكُونَ مَنْسُوخًا كَمَا لَا يَكُونُ نَاسِخًا؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْقِيَاسِ قَطْعِيًّا كَانَ أَوْ ظَنِّيًّا يُبَيِّنُ زَوَالَ شَرْطِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ الْمَظْنُونِ وَهُوَ رُجْحَانُهُ لِرُجْحَانِ الْقَاطِعِ وَالظَّنِّيِّ الْمُتَأَخِّرِ عَنْهُ وَإِلَّا لَمَا صَلَحَ لِنَسْخِ الْمُتَقَدِّمِ، وَإِذَا زَالَ شَرْطُ الْعَمَلِ بِهِ فَلَا حُكْمَ لَهُ فَلَا رَفْعَ وَلَا نَسْخَ. وَذُكِرَ فِي الْمِيزَانِ نَسْخُ الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ بِالْقِيَاسِ وَلَا بِدَلِيلٍ فَوْقَهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّسْخَ انْتِهَاءُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَبِالدَّلِيلِ الْمُعَارِضِ إذَا كَانَ فَوْقَهُ تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْقِيَاسَ لَا يَصِحُّ، وَإِذَا كَانَ مِثْلَهُ لَا يُبْطِلُ حُكْمَ الْأَوَّلِ وَيَعْمَلُ الْمُجْتَهِدُ بِالثَّانِي إذَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ عَلَى مَا مَرَّ قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ نَسْخُ الْقِيَاسِ فِي الْمَعْنَى يَجُوزُ بِنَصٍّ مُتَقَدِّمٍ وَبِإِجْمَاعٍ وَبِقِيَاسٍ نَحْوُ أَنْ يَجْتَهِدَ بَعْضُ النَّاسِ فَيُحَرِّمُ شَيْئًا بِقِيَاسٍ بَعْدَمَا اجْتَهَدَ فِي طَلَبِ النُّصُوصِ ثُمَّ يَظْفَرُ بِنَصٍّ بِخِلَافِ قِيَاسِهِ أَوْ تُجْمِعُ الْأُمَّةُ عَلَى خِلَافِ قِيَاسِهِ أَوْ يَظْفَرُ هُوَ بِقِيَاسٍ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهِ الْأَوَّلِ فَيَلْزَمُ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ تَرْكُ قِيَاسِهِ الْأَوَّلِ وَلَا يُسَمَّى ذَلِكَ نَسْخًا؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ الْأَوَّلَ إنَّمَا عُمِلَ بِهِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُعَارِضَهُ قِيَاسٌ أَوْلَى مِنْهُ وَلَا نَصَّ وَلَا إجْمَاعَ. هَذَا إنَّمَا يَتِمُّ هَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: إنَّ هَذَا الْقِيَاسَ قَدْ تُعُبِّدَ بِهِ ثُمَّ رُفِعَ، فَأَمَّا مَنْ لَا يَقُولُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ قَدْ تُعُبِّدَ بِهِ فَلَا يُمْكِنُ نَسْخُ التَّعَبُّدِ بِهِ قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ) فَكَذَا الْإِجْمَاعُ يَجُوزُ نَاسِخًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا مِنْهُمْ عِيسَى بْنُ أَبَانَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ تَمَسَّكُوا بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا حَجَبَ الْأُمَّ عَنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ بِأَخَوَيْنِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَيْفَ تَحْجُبُهَا بِأَخَوَيْنِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] وَالْأَخَوَانِ لَيْسَا بِإِخْوَةٍ فَقَالَ حَجَبَهَا قَوْمُك يَا غُلَامُ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ بِالْإِجْمَاعِ وَبِأَنَّ الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ سَقَطَ نَصِيبُهُمْ مِنْ الصَّدَقَاتِ بِالْإِجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ فِي زَمَانِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَبِأَنَّ الْإِجْمَاعَ

[النسخ بالكتاب والسنة]

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِفَسَادِ الْقِسْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] وَذَلِكَ يَكُونُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ وَالسُّنَّتَيْنِ فَأَمَّا فِي الْقِسْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَلَا وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس: 15] فَثَبَتَ أَنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْسَخُ الْكِتَابَ ـــــــــــــــــــــــــــــQحُجَّةٌ مِنْ حُجَجِ الشَّرْعِ مُوجِبَةٌ لِلْعِلْمِ كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ النَّسْخُ بِهِ كَالنُّصُوصِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَقْوَى مِنْ الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ وَالنَّسْخُ بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ جَائِزٌ حَيْثُ جَازَ بِهِ الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ الَّتِي هِيَ نَسْخٌ فَبِالْإِجْمَاعِ أَوْلَى وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ لَا يَجُوزُ النَّسْخُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ عِبَارَةٌ عَنْ اجْتِمَاعِ الْآرَاءِ فِي شَيْءٍ وَلَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِي مَعْرِفَةِ نِهَايَةِ وَقْتِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فِي الشَّيْءِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ أَوَانِ النَّسْخِ حَالَ حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِاتِّفَاقِنَا عَلَى أَنْ لَا نَسْخَ بَعْدَهُ وَفِي حَالِ حَيَاتِهِ مَا كَانَ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِدُونِ رَأْيِهِ وَكَانَ الرُّجُوعُ إلَيْهِ فَرْضًا، وَإِذَا وُجِدَ الْبَيَانُ مِنْهُ فَالْمُوجِبُ لِلْعِلْمِ قَطْعًا هُوَ الْبَيَانُ الْمَسْمُوعُ مِنْهُ. ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِجْمَاعُ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ بَعْدَهُ وَلَا نَسْخَ بَعْدَهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ النَّسْخَ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ لَا يَجُوزُ وَهَذَا الدَّلِيلُ، وَإِنْ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ نَاسِخًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ نَاسِخًا لِلْإِجْمَاعِ فِي عَدَمِ الْجَوَازِ إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ فِي آخِرِ بَابِ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ أَنَّ نَسْخَ الْإِجْمَاعِ بِإِجْمَاعٍ آخَرَ جَائِزٌ فَيَكُونُ مَا ذُكِرَ هَاهُنَا مَحْمُولًا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ نَسْخِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِهِ دَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ وَالْفَرْقُ عَلَى مَا اخْتَارَهُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ أَلْبَتَّةَ بِخِلَافِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لَهُمَا وَلَوْ وُجِدَ الْإِجْمَاعُ بِخِلَافِهِمَا لَكَانَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى نَصٍّ آخَرَ ثَبَتَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ نَاسِخٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيُتَصَوَّرُ أَنْ يَنْعَقِدَ إجْمَاعٌ لِمَصْلَحَةٍ ثُمَّ تَتَبَدَّلُ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ فَيَنْعَقِدُ إجْمَاعٌ آخَرُ عَلَى خِلَافِ الْأَوَّلِ وَلَكِنَّ عَامَّةَ الْأُصُولِيِّينَ أَنْكَرُوا كَوْنَ الْإِجْمَاعِ نَاسِخًا لِشَيْءٍ أَوْ مَنْسُوخًا بِشَيْءٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ نَاسِخًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَصِيرَ مَنْسُوخًا بِهِمَا أَيْضًا لِعَدَمِ تَصَوُّرِ حُدُوثِ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَكَذَا لَا يَصْلُحُ نَاسِخًا لِلْإِجْمَاعِ وَلَا مَنْسُوخًا بِهِ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ الثَّانِيَ إنْ دَلَّ عَلَى بُطْلَانِ الْأَوَّلِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ إذْ الْإِجْمَاعُ لَا يَكُونُ بَاطِلًا. وَإِنْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ صَحِيحًا لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ الثَّانِيَ حَرَّمَ الْعَمَلَ بِهِ مِنْ بَعْدِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ إلَّا لِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَجَدِّدٍ وَقَعَ لِأَجْلِهِ الْإِجْمَاعُ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ لِدَلِيلٍ كَانَ مَوْجُودًا أَوْ خَفِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلُ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُمْ وَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ لِاسْتِحَالَةِ حُدُوثِ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ بَعْدَ وَفَاتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلِعَدَمِ جَوَازِ خَفَاءِ الدَّلِيلِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ عِنْدَ الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ عَلَى الْكُلِّ لِاسْتِلْزَامِهِ إجْمَاعَهُمْ عَلَى الْخَطَأِ وَكَذَا لَا يَصْلُحُ نَاسِخًا لِلْقِيَاسِ وَلَا مَنْسُوخًا بِهِ لِمَا مَرَّ وَأَمَّا تَمَسُّكُهُمْ بِقِصَّةِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ بِالْإِجْمَاعِ لَوْ ثَبَتَ كَوْنُ الْمَفْهُومِ حُجَّةً قَطْعًا حَتَّى يَكُونَ مَعْنَى الْآيَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَفْهُومُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إخْوَةٌ فَلَا يَكُونُ لِأُمِّهِ السُّدُسُ بَلْ الثُّلُثُ وَثَبَتَ أَيْضًا أَنَّ لَفْظَ الْإِخْوَةِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى الْأَخَوَيْنِ قَطْعًا وَلَمْ يَثْبُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا كَذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ النَّسْخُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ النَّسْخُ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِمَا أَيْضًا لِإِمْكَانِ تَقْدِيرِ النَّصِّ الدَّالِّ عَلَى الْحَجْبِ إذْ لَوْ لَمْ يُقَدَّرْ ذَلِكَ كَانَ الْإِجْمَاعُ عَلَى الْحَجْبِ خَطَأً وَحِينَئِذٍ يَكُونُ النَّاسِخُ هُوَ النَّصَّ لَا الْإِجْمَاعَ وَكَذَا تَمَسُّكُهُمْ بِسُقُوطِ نَصِيبِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُنْسَخْ بِالْإِجْمَاعِ بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ انْتِهَاءِ الْحُكْمِ بِانْتِهَاءِ مُوجِبِهِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ. [النَّسْخُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ] [نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ] قَوْلُهُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ بِفَسَادِ الْقِسْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ) هُمَا مَسْأَلَتَانِ إحْدَاهُمَا نَسْخُ الْكِتَابِ

وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا رُوِيَ لَكُمْ عَنِّي حَدِيثٌ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ وَافَقَ الْكِتَابَ فَاقْبَلُوهُ وَإِلَّا فَرُدُّوهُ» وَقَالَ وَلِأَنَّ فِي هَذِهِ صِيَانَةَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شُبْهَةِ الطَّعْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نُسِخَ الْقُرْآنُ بِهِ أَوْ سُنَنِهِ كَمَا نُسِخَتْ بِالْكِتَابِ لَكَانَ مَدْرَجَةً إلَى الطَّعْنِ فَكَانَ التَّعَاوُنُ بِهِ أَوْلَى ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي عَامَّةِ كُتُبِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَقْلًا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ وَالْقَلَانِسِيُّ مِنْ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجُوزُ ذَلِكَ عَقْلًا وَلَكِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِهِ وَلَوْ وَرَدَ بِهِ كَانَ جَائِزًا وَبِهِ قَالَ ابْنُ شُرَيْحٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ قَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الإِسْفِرايِينِي. وَالثَّانِيَةُ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ وَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا عِنْدَ جَمِيعِ مَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَعِنْدَ بَعْضِ مَنْ أَنْكَرَ الْجَوَازَ فِيهَا مِنْهُمْ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ وَأَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ وَذُكِرَ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ الْقَدِيمَةِ وَالْجَدِيدَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَسْخَ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ وَلَوَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ فَخَرَّجَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِهِ وَالْآخَرُ أَنَّهُ يَجُوزُ وَهُوَ الْأَوْلَى بِالْحَقِّ كَذَا ذَكَرَهُ السَّمْعَانِيُّ فِي الْقَوَاطِعِ وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَنْكَرَ الْجَوَازَ عَقْلًا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِأَنَّ الْمَنْسُوخَ مَا كَانَ مَنْسُوخًا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالْخَبَرُ يَصِيرُ مُتَوَاتِرًا بَعْدَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَعْرِفَةُ بِكَوْنِهِ مَنْسُوخًا مَوْقُوفَةً عَلَيْهِ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ النَّسْخُ بِالْإِجْمَاعِ إذْ لَوْ جَازَ بِهِ النَّسْخُ لَصَارَتْ الْمَعْرِفَةُ بِنَسْخِهِ مَوْقُوفَةً عَلَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى نَسْخِهِ. وَرُبَّمَا بَنَوْا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالُوا لَمَّا جَازَ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيمَا لَمْ يُوحَ إلَيْهِ لَمْ نَأْمَنْ فِي تَجْوِيزِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ أَنْ تَكُونَ السُّنَّةُ النَّاسِخَةُ صَادِرَةً عَنْ الِاجْتِهَادِ فَيَقَعُ حِينَئِذٍ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالِاجْتِهَادِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. قَالُوا: وَلِهَذَا أَخَّرْنَا التَّخْصِيصَ بِالسُّنَّةِ لِجَوَازِهِ بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ عِنْدَنَا وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ الْجَوَازِ شَرْعًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ لَا تُنْسَخُ إلَّا بِآيَةٍ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَدَلَ خَيْرٌ أَوْ مِثْلٌ وَعَلَى أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْمُبْدَلِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: لَا آخُذُ مِنْك دِرْهَمًا إلَّا آتِيك بِخَيْرٍ مِنْهُ يُفِيدُ أَنَّهُ يَأْتِي بِدِرْهَمٍ خَيْرٍ مِنْ الدِّرْهَمِ الْمَأْخُوذِ وَالسُّنَّةُ لَيْسَتْ خَيْرًا مِنْ الْقُرْآنِ وَلَا مِثْلًا لَهُ وَلَا مِنْ جِنْسِهِ بِلَا شَكٍّ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُعْجِزٌ وَالسُّنَّةُ كَلَامُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهِيَ غَيْرُ مُعْجِزَةٍ فَلَا يَجُوزُ نَسْخُهُ بِهَا. وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ نَأْتِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآتِيَ بِالْخَيْرِ أَوْ الْمِثْلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ لَهُ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا وَالنَّاسِخُ قُرْآنٌ لَا سُنَّةٌ وَيُؤَكِّدُهُ سِيَاقُ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106] لِإِشْعَارِهِ بِأَنَّ الْآتِيَ بِهِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَتَمَسَّكَ بَعْضُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِعَدَمِ الْجَوَازِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فَقَالُوا: لَمَّا دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْمُمَاثَلَةِ وَالْمُجَانَسَةِ فِي النَّسْخِ حَتَّى لَمْ يَجُزْ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ لِعَدَمِ الشَّرْطَيْنِ لَا يَجُوزُ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ لِفَوَاتِ الشَّرْطَيْنِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ وَذَلِكَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ أَيْ الْإِتْيَانُ بِالْمِثْلِ أَوْ بِالْخَيْرِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ أَوْ السُّنَّتَيْنِ لِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ الَّتِي هِيَ شَرْطُ النَّسْخِ بَيْنَهُمَا، فَأَمَّا فِي الْقِسْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَلَا أَيْ

وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] فِي الْآيَةِ فَرْضُ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ ثُمَّ نُسِخَتْ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» ـــــــــــــــــــــــــــــQفَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ وَلَكِنَّ هَذَا التَّمَسُّكَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ هَذَا النَّصِّ يَقْتَضِي الْإِتْيَانَ بِالْمِثْلِ أَوْ بِالْخَيْرِ فِي نَسْخِ الْآيَةِ لَا فِي مُطْلَقِ النَّسْخِ إذْ لَمْ يَقُلْ مَا نَنْسَخْ مِنْ شَيْءٍ فَلَا يَصِحُّ هَذَا الِاسْتِدْلَال وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَعَامَّةُ الْأُصُولِيِّينَ هَذَا التَّمَسُّكَ فِي كُتُبِهِمْ بَلْ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لَا غَيْرُ. 1 - وَاسْتَدَلُّوا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15] . أَخْبَرَ أَنَّ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَيْسَ إلَيْهِ وِلَايَةُ التَّبْدِيلِ وَأَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِمَا أُوحِيَ إلَيْهِ لَا مُبَدِّلٌ لَهُ وَالتَّبْدِيلُ بِإِطْلَاقِهِ يَتَنَاوَلُ تَبْدِيلَ اللَّفْظِ وَتَبْدِيلَ الْحُكْمِ فَيَنْتَفِي الْأَمْرَانِ جَمِيعًا وَلَا يَكُونُ لَهُ وِلَايَةُ تَبْدِيلِ الْحُكْمِ كَمَا لَا يَكُونُ لَهُ وِلَايَةُ تَبْدِيلِ اللَّفْظِ وَبِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذَا رُوِيَ لَكُمْ عَنِّي حَدِيثٌ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى فَاقْبَلُوهُ وَمَا خَالَفَ فَرُدُّوهُ» أَمَرَ بِالرَّدِّ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ وَلَا بُدَّ لِلنَّسْخِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ فَكَيْفَ يَجُوزُ النَّسْخُ بِهَا وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] جَعَلَ قَوْلَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَيَانًا لِلْمُنَزَّلِ فَلَوْ نُسِخَتْ السُّنَّةُ بِهِ لَخَرَجَتْ عَنْ كَوْنِهَا بَيَانًا لِانْعِدَامِهَا وَبِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] وَالسُّنَّةُ شَيْءٌ فَيَكُونُ الْكِتَابُ بَيَانًا لِحُكْمِهِ لَا رَافِعًا لَهُ وَذَلِكَ فِي أَنْ يَكُونَ مُؤَيِّدًا لَهَا إنْ كَانَ مُوَافِقًا وَمُبَيِّنًا لِلْغَلَطِ فِيهَا إنْ كَانَ مُخَالِفًا ثُمَّ بَيَّنَ الشَّيْخُ لَهُمْ مِنْ الْمَعْقُولِ دَلِيلًا يَشْمَلُ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَقَالَ وَلِأَنَّ فِي هَذَا أَيْ فِي عَدَمِ جَوَازِ نَسْخِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ صِيَانَةَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ شُبْهَةِ الطَّعْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نُسِخَ الْكِتَابُ بِهِ أَيْ بِالْحَدِيثِ يَقُولُ الطَّاعِنُ هُوَ أَوَّلُ قَائِلٍ وَأَوَّلُ عَامِلٍ بِخِلَافِ مَا يَزْعُمُ أَنَّهُ أُنْزِلَ إلَيْهِ فَكَيْفَ يُعْتَمَدُ عَلَى قَوْلِهِ وَلَوْ نُسِخَتْ سُنَّةٌ بِالْكِتَابِ يَقُولُ الطَّاعِنُ قَدْ كَذَّبَهُ رَبُّهُ فِيمَا قَالَ فَكَيْفَ نُصَدِّقُهُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ لَكَانَ مَدْرَجَةً إلَى الطَّعْنِ أَيْ طَرِيقًا وَوَسِيلَةً إلَيْهِ فَكَانَ التَّعَاوُنُ بِهِ أَيْ بِكُلِّ وَاحِدٍ أَوْلَى مِنْ الْمُخَالَفَةِ يَعْنِي جَعْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعِينًا لِلْآخَرِ وَمُؤَيِّدًا لَهُ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ رَافِعًا وَمُبْطِلًا لِصَاحِبِهِ سَدًّا لِبَابِ الطَّعْنِ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ مَصُونٌ عَمَّا يُوهِمُ الطَّعْنَ. وَلَا يُقَالُ فِي نَسْخِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ مِثْلُ هَذِهِ الْمَدْرَجَةِ أَيْضًا، فَإِنَّ الطَّاعِنَ يَقُولُ كَيْفَ نَعْتَمِدُ قَوْلَهُ فِي أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ هَذَا الطَّعْنِ بِقَوْلِهِ {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102] فَلَا يَكُونُ فِي تَجْوِيزِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ تَعْرِيضُهُ لِلطَّعْنِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ. 1 - قَوْلُهُ (وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا) مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي ذَلِكَ أَيْ فِي جَوَازِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 180] ، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُمْ كَانَتْ فَرْضًا بِمُوجَبِ هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي قُوَّةِ الْمُتَوَاتِرِ إذْ الْمُتَوَاتِرُ نَوْعَانِ مُتَوَاتِرٌ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةُ وَمُتَوَاتِرٌ مِنْ حَيْثُ ظُهُورُ الْعَمَلِ بِهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَإِنَّ ظُهُورَهُ يُغْنِي النَّاسَ عَنْ رِوَايَتِهِ وَهُوَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، فَإِنَّ الْعَمَلَ ظَهَرَ بِهِ مَعَ الْقَوْلِ مِنْ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى بِلَا تَنَازُعٍ فَيَجُوزُ النَّسْخُ بِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِمِثْلِ خَبَرِ الْمَسِيحِ لِشُهْرَتِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ

وَهَذَا الِاسْتِدْلَال غَيْرُ صَحِيحٍ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا ثَبَتَ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ. وَبَيَانُهُ أَنَّهُ قَالَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ فَرَتَّبَ الْمِيرَاثَ عَلَى وَصِيَّةٍ نَكِرَةٍ وَالْوَصِيَّةُ الْأُولَى كَانَتْ مَعْهُودَةً فَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ بَاقِيَةً مَعَ الْمِيرَاثِ ثُمَّ نُسِخَتْ بِالسُّنَّةِ لَوَجَبَ تَرْتِيبُهُ عَلَى الْمَعْهُودِ فَصَارَ الْإِطْلَاقُ نَسْخًا لِلْقَيْدِ كَمَا يَكُونُ الْقَيْدُ نَسْخًا لِلْإِطْلَاقِ وَالثَّانِي أَنَّ النَّسْخَ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا ابْتِدَاءٌ بَعْدَ انْتِهَاءٍ مَحْضٍ وَالثَّانِي بِطَرِيقِ الْحَوَالَةِ كَمَا نُسِخَتْ الْقِبْلَةُ بِطَرِيقِ الْحَوَالَةِ إلَى الْكَعْبَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQيُقَالَ: إنَّمَا ثَبَتَ النَّسْخُ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ؛ لِأَنَّ فِيهَا إيجَابَ حَقٍّ آخَرَ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ وَثُبُوتَ حَقٍّ بِطَرِيقٍ لَا يُنَافِي ثُبُوتَ حَقٍّ آخَرَ لِطَرِيقٍ آخَرَ كَمَا فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ وَبِدُونِ الْمُنَافَاةِ لَا يَثْبُتُ النَّسْخُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَعَلَّ نَاسِخَهُ مِمَّا أُنْزِلَ فِي الْقُرْآنِ وَلَكِنْ لَمْ يَبْلُغْنَا لِانْتِسَاخِ تِلَاوَتِهِ مَعَ بَقَاءِ حُكْمِهِ؛ لِأَنَّ فَتْحَ هَذَا الْبَابِ يُؤَدِّي إلَى الْقَوْلِ بِالْوَقْفِ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ إذْ مَا مِنْ حُكْمٍ إلَّا وَيُتَوَهَّمُ فِيهِ أَنَّ نَاسِخَهُ نَزَلَ وَلَمْ يَبْلُغْنَا لِانْتِسَاخِ تِلَاوَتِهِ. وَإِلَى الِامْتِنَاعِ تَعْيِينُ نَاسِخٍ وَمَنْسُوخٍ أَبَدًا إذْ مَا مِنْ نَاسِخٍ إلَّا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَدَّرَ أَنْ يَكُونُ النَّاسِخُ غَيْرَهُ وَمَا مِنْ مَنْسُوخٍ حُكْمُهُ إلَّا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَدَّرَ إسْنَادُ ذَلِكَ الْحُكْمِ إلَى غَيْرِهِ وَفِيهِ خَرْقُ الْإِجْمَاعِ لِانْعِقَادِهِ عَلَى أَنَّ مَا وُجِدَ صَالِحًا لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ هُوَ الْمُثْبَتُ وَمَا وُجِدَ صَالِحًا لِنَسْخِ الْحُكْمِ هُوَ النَّاسِخُ، وَإِنْ احْتَمَلَ إضَافَةَ الْحُكْمِ وَالنَّسْخِ إلَى غَيْرِ مَا ظَهَرَ مَعَ عَدَمِ الظَّفَرِ بِهِ بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ عَنْهُ قَالَ الشَّيْخُ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا الِاسْتِدْلَال غَيْرُ صَحِيحٍ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ نَسْخَ الْوَصِيَّةِ ثَبَتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَلْ ثَبَتَ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ آيَةِ الْوَصِيَّةِ بِالِاتِّفَاقِ وَبَيَانُهُ أَيْ بَيَانُ ثُبُوتِ النَّسْخِ بِالْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى رَتَّبَ الْإِرْثَ عَلَى وَصِيَّةٍ مُنَكَّرَةٍ بِقَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] . وَالْوَصِيَّةُ الْأُولَى كَانَتْ مَعْهُودَةً مُعَرَّفَةً بِاللَّامِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] فَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ الْمَفْرُوضَةُ بَاقِيَةً مَعَ الْمِيرَاثِ ثُمَّ نُسِخَتْ بِالْحَدِيثِ كَمَا زَعَمُوا لَوَجَبَ تَرْتِيبُ الْمِيرَاثِ عَلَى الْوَصِيَّةِ الْمَعْهُودَةِ الْمَفْرُوضَةِ ثُمَّ عَلَى الْوَصِيَّةِ النَّافِلَةِ بِأَنْ قَالَ مِنْ بَعْدِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَمِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ أَوْصَيْتُمْ بِهَا لِلْأَجَانِبِ فَلَمَّا رَتَّبَ الْإِرْثَ عَلَى الْوَصِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ النَّافِلَةِ دَلَّ عَلَى نَسْخِ الْوَصِيَّةِ الْمُقَيَّدَةِ الْمَفْرُوضَةِ؛ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ بَعْدَ التَّقْيِيدِ نَسْخٌ كَمَا أَنَّ التَّقْيِيدَ بَعْدَ الْإِطْلَاقِ نَسْخٌ لِتَغَايُرِ الْمَعْنَيَيْنِ وَلَا يُقَالُ الْمَعْرِفَةُ إذَا أُعِيدَتْ نَكِرَةً كَانَتْ الثَّانِيَةُ عَيْنَ الْأُولَى عَلَى مَا مَرَّ فِي بَابِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ فَيَكُونُ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ عَيْنَ الْأُولَى فَلَا يَكُونُ فِي الْآيَةِ إشَارَةٌ إلَى نَسْخِهَا فَيَتَحَقَّقُ النَّسْخُ بِالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ ذَلِكَ الْأَصْلُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّ صَدْرَ الْإِسْلَامِ أَبَا الْيُسْرِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الشَّيْءَ إذَا ذُكِرَ بِلَفْظِ النَّكِرَةِ بَعْدَمَا ذُكِرَ بِلَفْظِ الْمَعْرِفَةِ كَانَتْ النَّكِرَةُ غَيْرَ الْمَعْرِفَةِ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ رَأَيْت الرَّجُلُ ثُمَّ قَالَ رَأَيْت رَجُلًا يَكُونُ الْمَذْكُورُ آخِرًا غَيْرَ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا وَلَئِنْ سُلِّمَ فَذَلِكَ إذَا لَمْ يَمْنَعْ عَنْهُ مَانِعٌ وَقَدْ تَحَقَّقَ الْمَانِعُ هَاهُنَا، فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا أَنَّ الْمِيرَاثَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ لِلْأَجَانِبِ وَمُسْتَنِدُ الْإِجْمَاعِ هَذَا النَّصُّ فَلَوْ صُرِفَتْ الْوَصِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِيهِ إلَى الْمَعْهُودَةِ وَقَدْ نُسِخَتْ الْمَعْهُودَةُ بِلَا خِلَافٍ لَمْ يَبْقَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَأَخُّرِ الْمِيرَاثِ عَنْ الْوَصِيَّةِ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَالثَّانِي أَيْ الْوَجْهُ الثَّانِي لِبَيَانِ فَسَادِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ النَّسْخَ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا ابْتِدَاءٌ بَعْدَ انْتِهَاءٍ مَحْضٍ أَيْ إثْبَاتُ حُكْمٍ ابْتِدَاءً عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى انْتِهَاءِ حُكْمٍ كَانَ قَبْلَهُ بِالْكُلِّيَّةِ كَنَسْخِ الْمُسَالَمَةِ بِالْمُقَابَلَةِ وَنَسْخِ إبَاحَةِ الْخَمْرِ بِحُرْمَتِهَا. وَالثَّانِي نَسْخٌ بِطَرِيقِ الْحَوَالَةِ وَهُوَ أَنَّ تَحَوُّلَ الْحُكْمِ مِنْ مَحِلٍّ إلَى مَحِلٍّ آخَرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَهِيَ بِالْكُلِّيَّةِ كَنَسْخِ الْقِبْلَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَى الْكَعْبَةِ، فَإِنَّ أَصْلَ فَرْضِ التَّوَجُّهِ إلَى الْقِبْلَةِ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ وَلَكِنْ حُوِّلَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَى الْكَعْبَةِ

وَهَذَا النَّسْخُ مِنْ الْقَبِيلِ الثَّانِي وَبَيَانُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَوَّضَ الْإِيصَاءَ فِي الْأَقْرَبِينَ إلَى الْعِبَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 180] ثُمَّ تَوَلَّى بِنَفْسِهِ بَيَانَ ذَلِكَ الْحَقِّ وَقَصَرَهُ عَلَى حُدُودٍ لَازِمَةٍ تَعَيَّنَ بِهَا ذَلِكَ الْحَقُّ بِعَيْنِهِ فَتَحَوَّلَ مِنْ جِهَةِ الْإِيصَاءِ إلَى الْمِيرَاثِ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] أَيْ الَّذِي فَوَّضَ إلَيْكُمْ تَوَلَّى بِنَفْسِهِ إذْ عَجَزْتُمْ عَنْ مَقَادِيرِهِ الْإِيصَاءَ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ {لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء: 11] ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» أَيْ بِهَذَا الْفَرْضِ نُسِخَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ وَانْتَهَى وَمِنْهُمْ مَنْ احْتَجَّ بِأَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء: 15] نُسِخَ بِإِثْبَاتِ الرَّجْمِ بِالسُّنَّةِ إلَّا أَنَّا قَدْ رَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ أَنَّ الرَّجْمَ كَانَ مِمَّا يُتْلَى وَلِأَنَّ قَوْلَهُ جَلَّ وَعَلَا {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] مُجْمَلٌ فَسَرَّتْهُ السُّنَّةُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَكَنَسْخِ الْأَمْرِ بِذَبْحِ الْوَلَدِ إلَى الشَّاةِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ وَهَذَا النَّسْخُ أَيْ نَسْخُ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ مِنْ النَّوْعِ الثَّانِي. وَبَيَانُهُ أَيْ بَيَانُ كَوْنِهِ نَسْخًا بِطَرِيقِ التَّحْوِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَوَّضَ الْإِيصَاءَ فِي الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إلَى الْعِبَادِ بِشَرْطِ أَنْ يُرَاعُوا الْحُدُودَ وَبَيَّنُوا حِصَّةَ كُلِّ قَرِيبٍ بِحَسَبِ قَرَابَتِهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ بِالْمَعْرُوفِ ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْمُوصِي لَا يُحْسِنُ التَّدْبِيرَ فِي مِقْدَارِ مَا يُوصِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِجَهْلِهِ وَرُبَّمَا كَانَ يَقْصِدُ إلَى الْمُضَارَّةِ فِي ذَلِكَ تَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى بِنَفْسِهِ بَيَانَ ذَلِكَ الْحَقِّ عَلَى وَجْهٍ يُتَيَقَّنُ بِهِ بِأَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ وَأَنَّ فِيهِ الْحِكْمَةَ الْبَالِغَةَ وَقَصَرَهُ عَلَى حُدُودٍ لَازِمَةٍ لَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُهَا نَحْوُ السُّدُسِ وَالثُّلُثِ وَالثُّمُنِ وَغَيْرِهَا تَغَيَّرَ بِهَا الْحَقُّ أَيْ تَحَوَّلَ مِنْ جِهَةِ الْإِيصَاءِ إلَى الْمِيرَاثِ وَقَوْلُهُ فَتَحَوَّلَ تَفْسِيرُ التَّغْيِيرِ وَإِلَى هَذَا أَيْ إلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ نَسْخٌ بِطَرِيقِ التَّحْوِيلِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] حَيْثُ أَطْلَقَ لَفْظَ الْإِيصَاءِ أَيْ الْإِيصَاءُ الَّذِي فُوِّضَ إلَيْكُمْ تَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ إذْ عَجَزْتُمْ عَنْ مَقَادِيرِهِ لِجَهْلِكُمْ. وَبِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء: 11] أَيْ لَا تَعْلَمُونَ مَنْ أَنْفَعُ لَكُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَتَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى قِسْمَةَ الْمِيرَاثِ بَيْنَكُمْ كَمَا يَقْتَضِيهِ عِلْمُهُ وَحِكْمَتُهُ وَلَمْ يَكِلْهَا إلَيْكُمْ أَنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا بِالْحِكْمَةِ حَكِيمًا فِي الْقِسْمَةِ وَلَمَّا بَيَّنَ بِنَفْسِهِ ذَلِكَ الْحَقَّ بِعَيْنِهِ انْتَهَى حُكْمُ تِلْكَ الْوَصِيَّةِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِأَقْوَى الطُّرُقِ كَمَنْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِإِعْتَاقِ عَبْدِهِ ثُمَّ أَعْتَقَهُ بِنَفْسِهِ يَنْتَهِي بِهِ حُكْمُ الْوَكَالَةِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِمُبَاشَرَةِ الْمُوَكِّلِ الْإِعْتَاقَ بِنَفْسِهِ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» ، فَإِنَّ الْفَاءَ يَدُلُّ عَلَى سَبَبِيَّةِ الْأَوَّلِ كَقَوْلِك زَارَنِي فَأَكْرَمْتُهُ يَعْنِي انْتِفَاءَ الْوَصِيَّةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ إنَّمَا وَجَبَتْ لِتَبَيُّنِ حَقِّ الْقَرِيبِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ حَقُّهُ بِبَيَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ لَمْ تَبْقَ الْوَصِيَّةُ مَشْرُوعَةً وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ بِهَذَا الْفَرْضِ أَيْ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ نُسِخَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ وُجُوبُ الْوَصِيَّةِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْدَ تَقْرِيرِ هَذَا الْوَجْهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ بِهَذَا الطَّرِيقِ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ انْتِهَاءُ حُكْمِ وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، فَأَمَّا انْتِفَاءُ حُكْمِ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لَهُمْ فَلَا يَثْبُتُ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَلَا تَرَى أَنَّ بِالْحَوَالَةِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ الدَّيْنُ وَاجِبًا فِي الذِّمَّةِ الْأُولَى فَقَدْ بَقِيَتْ الذِّمَّةُ مَحِلًّا صَالِحًا لِوُجُوبِ الدَّيْنِ فِيهَا وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ انْتِفَاءِ وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ لَهُمْ انْتِفَاءُ الْجَوَازِ كَالْوَصِيَّةِ لِلْأَجَانِبِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ إنَّمَا انْتَسَخَ وُجُوبُ الْوَصِيَّةِ لَهُمْ لِضَرُورَةِ نَفْيِ أَصْلِ الْوَصِيَّةِ وَذَلِكَ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَتَقَرَّرُ الِاسْتِدْلَال بِهَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ. (وَمِنْهُمْ مَنْ احْتَجَّ) يَعْنِي فِي جَوَازِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ بِأَنَّ حُكْمَ الْإِمْسَاكِ فِي الْبُيُوتِ فِي حَقِّ الزَّوَانِي الثَّابِتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء: 15] نُسِخَ بِالسُّنَّةِ وَهِيَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ» إذْ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ مَا يُمْكِنُ إضَافَةُ إيجَابِ الرَّجْمِ وَنَسْخُ الْإِمْسَاكِ إلَيْهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَا نُسَلِّمُ نَسْخَهُ بِالسُّنَّةِ، فَإِنَّهَا لَا تَصْلُحُ نَاسِخَةً بِالِاتِّفَاقِ لِكَوْنِهَا مِنْ الْآحَادِ بَلْ النَّسْخُ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الرَّجْمَ كَانَ مِمَّا يُتْلَى فِي الْقُرْآنِ. وَقَالَ

وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 11] الْآيَةَ هَذَا حُكْمٌ نُسِخَ بِالسُّنَّةِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ هَذَا كَانَ فِيمَنْ ارْتَدَّتْ امْرَأَتُهُ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ أَنْ يُعْطَى مَا غَرِمَ فِيهَا زَوْجُهَا الْمُسْلِمُ مَعُونَةً لَهُ وَفِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْإِعَانَةَ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {فَعَاقَبْتُمْ} [الممتحنة: 11] أَيْ غَنِمْتُمْ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَوْلَا أَنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْت عَلَى حَاشِيَةِ الْمُصْحَفِ الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَكَانَ هَذَا نَسْخَ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ أَوَّلًا ثُمَّ نُسِخَ تِلَاوَةُ النَّاسِخِ وَبَقِيَ حُكْمُهُ وَقِيلَ نُسِخَ حُكْمُ الْإِمْسَاكِ بِآيَةِ الْجَلْدِ وَهِيَ تَتَنَاوَلُ الْبِكْرَ وَالثَّيِّبَ ثُمَّ خُصَّتْ الثَّيِّبُ بِحَدِيثِ الرَّجْمِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يَصْلُحُ مُخَصِّصًا عِنْدَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ نَاسِخًا أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا مُجْمَلٌ فَسَرَّتْهُ السُّنَّةُ يَعْنِي وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الرَّجْمَ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ فَذَلِكَ بِطَرِيقِ تَفْسِيرِ الْمُجْمَلِ لَا بِطَرِيقِ النَّسْخِ، فَإِنَّ حُكْمَ الْإِمْسَاكِ فِي الْبُيُوتِ كَانَ مُوَقَّتًا بِمَا هُوَ مُجْمَلٌ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] ، فَإِنَّ أَوْ هَذِهِ بِمَعْنَى إلَى أَنْ ثُمَّ فَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ الْمُجْمَلَ بِقَوْلِهِ «خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ» الْحَدِيثَ، وَتَفْسِيرُ الْمُجْمَلِ بِالسُّنَّةِ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ فَانْتَهَى ذَلِكَ الْحُكْمُ بِهَذَا الْبَيَانِ كَانْتِهَاءِ الصَّوْمِ بِاللَّيْلِ فَلَا يَكُونُ مِنْ بَابِ النَّسْخِ قَوْلُهُ (وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ) أَيْ بَعْضُ مَنْ جَوَّزَ نَسْخَ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 11] ، فَإِنَّ هَذَا الْحُكْمَ وَهُوَ إيتَاءُ الزَّوْجِ مِثْلَ مَا أَنْفَقَ حُكْمٌ نُسِخَ بِالسُّنَّةِ إذْ لَا يُتْلَى نَاسِخُهُ فِي الْقُرْآنِ. وَهَذَا الِاسْتِدْلَال غَيْرُ صَحِيحٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذَا أَيْ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ} [الممتحنة: 11] الْآيَةَ فِيمَنْ أَيْ فِي شَأْنِ مَنْ ارْتَدَّتْ امْرَأَتُهُ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ أَنْ يُعْطَى زَوْجُهَا بَدَلًا مِنْ مَالٍ أَيْ فِي إعْطَاءِ مَنْ ارْتَدَّتْ امْرَأَتُهُ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ مَا غَرِمَ فِيهَا مِنْ الصَّدَاقِ مَعُونَةً لَهُ فِي دَفْعِ الْخُسْرَانِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ كَمَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فَلَا يَكُونُ مَنْسُوخًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ وَلَكِنْ مِنْ مَالِ الْغَنِيمَةِ لَا مِنْ كُلِّ مَالٍ، فَإِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فَعَاقَبْتُمْ أَصَبْتُمُوهُمْ فِي الْقِتَالِ بِعُقُوبَةٍ حَتَّى غَنِمْتُمْ كَمَا قَالَ الزَّجَّاجُ أَوْ أَصَبْتُمْ عُقْبَى مِنْهُمْ أَيْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لَكُمْ حَتَّى غَنِمْتُمْ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ قِيلَ هُوَ غَيْرُ مَنْسُوخٍ أَيْضًا وَقِيلَ هُوَ مَنْسُوخٌ وَنَاسِخُهُ آيَةُ الْقِتَالِ كَذَا فِي التَّيْسِيرِ وَقِيلَ نَاسِخُهُ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] كَذَا فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي مَوْضِعِ النِّزَاعِ وَذُكِرَ فِي الْمَطْلَعِ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] أَدَّى الْمُؤْمِنُونَ مُهُورَ الْمُهَاجِرَاتِ إلَى أَزْوَاجِهِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَبَى الْمُشْرِكُونَ أَنْ يُؤَدُّوا شَيْئًا مِنْ مُهُورِ الْمُرْتَدَّاتِ إلَى أَزْوَاجِهِنَّ الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ خَرَجَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْمُشْرِكِينَ وَأَتَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ الْقَوْمُ هَذِهِ عَقَبَتُكُمْ قَدْ أَتَتْكُمْ فَنَزَلَتْ وَالْمَعْنَى، وَإِنْ سَبَقَكُمْ وَانْفَلَتَ مِنْكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ أَيْ أَحَدٌ مِنْهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ مِنْ الْعُقْبَةِ وَهِيَ النَّوْبَةُ شَبَّهَ مَا حَكَمَ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ مِنْ أَدَاءِ هَؤُلَاءِ مُهُورَ نِسَاءِ أُولَئِكَ تَارَةً وَأُولَئِكَ مُهُورَ نِسَاءِ هَؤُلَاءِ أُخْرَى بِأَمْرٍ يَتَعَاقَبُونَ فِيهِ أَيْ يَتَنَاوَبُونَ كَمَا يُتَعَاقَبُ فِي الرُّكُوبِ وَغَيْرِهِ وَمَعْنَاهُ فَجَاءَتْ عَقَبَتُكُمْ مِنْ أَدَائِكُمْ فَآتُوا مَنْ فَاتَتْهُ امْرَأَتُهُ مِنْ الْكُفَّارِ مُرْتَدَّةً مِثْلَ مَهْرِهَا مِنْ مَهْرِ مُهَاجِرَةٍ جَاءَتْكُمْ وَلَا تُؤْتُوهُ زَوْجَهَا الْكَافِرَ لِيَكُونَ قِصَاصًا. قَالُوا وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ الِامْتِحَانِ وَرَدِّ الْمَهْرِ وَأَخْذِهِ مِنْ الْكُفَّارِ

وَمِنْ الْحُجَّةِ الدَّالَّةِ أَنَّ التَّوَجُّهَ إلَى الْكَعْبَةِ فِي الِابْتِدَاءِ إنْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ فَقَدْ نُسِخَ بِالسُّنَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّوَجُّهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالثَّابِتُ بِالسُّنَّةِ مِنْ التَّوَجُّهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ نُسِخَ بِالْكِتَابِ، وَالشَّرَائِعُ الثَّابِتَةُ بِالْكُتُبِ السَّالِفَةِ نُسِخَتْ بِشَرِيعَتِنَا وَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ إلَّا بِتَبْلِيغِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ آيَةً فِي قِرَاءَتِهِ فَلَمَّا أُخْبِرَ بِهِ قَالَ أَلَمْ يَكُنْ فِيكُمْ أُبَيٌّ فَقَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ لَكِنِّي ظَنَنْت أَنَّهَا نُسِخَتْ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَوْ نُسِخَتْ لَأَخْبَرْتُكُمْ» وَإِنَّمَا ظَنَّ النَّسْخَ مِنْ غَيْرِ كِتَابٍ يُتْلَى وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ وَقَالَتْ عَائِشَةُ «مَا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ حَتَّى أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنْ النِّسَاءِ مَا شَاءَ» فَكَانَ نَسْخًا لِلْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ وَصَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ مَكَّةَ عَلَى رَدِّ نِسَائِهِمْ ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] ـــــــــــــــــــــــــــــQوَتَعْرِيضِ الزَّوْجِ الْمُسْلِمِ مِنْ الْغَنِيمَةِ أَوْ مِنْ صَدَاقٍ وَجَبَ رَدُّهُ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ كُلُّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَوْلُهُ. (وَمِنْ الْحُجَّةِ) كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَجَّهُ إلَى الْكَعْبَةِ فِي الصَّلَاةِ حِينَ كَانَ بِمَكَّةَ وَلَمَّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ كَانَ يَتَوَجَّهُ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي الصَّلَاةِ سِتَّةَ عَشْرَ شَهْرًا ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ كَانَ التَّوَجُّهُ إلَى الْكَعْبَةِ فِي الِابْتِدَاءِ يَعْنِي كَانَ بِمَكَّةَ ثَابِتًا بِالْكِتَابِ فَقَدْ نُسِخَ بِالسُّنَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّوَجُّهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَإِنَّهُ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُتْلَى فِي الْقُرْآنِ فَيَكُونُ دَلِيلَ جَوَازِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ التَّوَجُّهَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ الثَّابِتَ بِالسُّنَّةِ ظَاهِرًا قَدْ نُسِخَ بِالْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] فَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ، فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّوَجُّهَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَ ثَابِتًا بِالسُّنَّةِ بَلْ هُوَ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا وَشَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا تَلْزَمُنَا حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى انْتِسَاخِهِ وَهَذَا حُكْمٌ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] . قُلْنَا عِنْدَك شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا تَلْزَمُنَا بِطَرِيقِ أَنَّهَا تَصِيرُ شَرِيعَةً لَنَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَوْلًا أَوْ عَمَلًا فَلَا يَخْرُجُ بِهَذَا مِنْ أَنْ يَكُونَ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ مَعَ أَنَّ نَاسِخَ مَا كَانَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا قَدْ ثَبَتَ بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ كَانَ بِمَكَّةَ، فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي إلَى الْكَعْبَةِ ثُمَّ بَعْدَمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ لَمَّا صَلَّى إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ انْتَسَخَتْ السُّنَّةُ بِالسُّنَّةِ ثُمَّ لَمَّا نَزَلَتْ فَرْضِيَّةُ التَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ انْتَسَخَتْ السُّنَّةُ بِالْكِتَابِ وَالشَّرَائِعُ الثَّابِتَةُ بِالْكُتُبِ السَّالِفَةِ نُسِخَتْ بِشَرِيعَتِنَا بِلَا خِلَافٍ وَمَا ثَبَتَتْ هِيَ إلَّا بِتَبْلِيغِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَتَبْلِيغُهُ قَدْ يَكُونُ بِالْوَحْيِ الْمَتْلُوِّ وَغَيْرِ الْمَتْلُوِّ فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ. وَعِبَارَةُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ فِيهِ وَلَا خِلَافَ أَنَّ مَا كَانَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا ثَبَتَ انْتِسَاخُهُ فِي حَقِّنَا بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخِلَافِهِ وَهَذَا نَسْخُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا ظَنَّ النَّسْخَ مِنْ غَيْرِ كِتَابٍ يُتْلَى، فَإِنَّهُ كَانَ كَاتِبَ الْوَحْيِ وَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَيْهِ ظَنَّهُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ فِعْلَهُ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ التِّلَاوَةِ بِغَيْرِ الْكِتَابِ، وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ نَسْخِ التِّلَاوَةِ ثَبَتَ جَوَازُ نَسْخِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ التِّلَاوَةِ وَالْعَمَلَ بِحُكْمِ الْمُتَوَكِّلِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ قَالَ أَبُو الْيُسْرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ كَانَ الْقُرْآنُ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرُبَّمَا اعْتَقَدَ أَنَّهَا نُسِخَتْ بِآيَةٍ أُخْرَى قُبَيْلَ هَذَا الزَّمَانِ وَلَمْ تَبْلُغْهُ لِضِيقِ الْوَقْتِ فَلَا يَتَعَيَّنُ النَّسْخُ بِالْحَدِيثِ وَلَعَلَّهُ ظَنَّ النَّسْخَ بِالْإِنْسَاءِ. وَكَانَ نَسْخًا لِلْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] أَيْ لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ سِوَى هَؤُلَاءِ اللَّاتِي اخْتَرْنَك مِنْ بَعْدُ أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا اخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بِالسُّنَّةِ وَهِيَ إخْبَارُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إيَّاهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لَهُ ذَلِكَ وَأَشَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ اتَّفَقُوا عَلَى كَوْنِهِ مَنْسُوخًا وَنَاسِخُهُ لَا يُتْلَى فِي الْكِتَابِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا جَوَازَ نَسْخِ الْكِتَابِ بِغَيْرِهِ قَالَ أَبُو الْيُسْرِ وَهَذَا لَا يَقْوَى؛ لِأَنَّ هَذَا الْحِلَّ لَمْ يَثْبُتْ يَعْنِي حِلَّ مَا زَادَ عَلَى التِّسْعِ بَعْدَمَا حَرُمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] لَمْ يَثْبُتْ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ مَا زَادَ عَلَى التِّسْعِ مُحْكَمٌ لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ مِنْ بَعْدُ

وَالدَّلِيلُ الْمَعْقُولُ أَنَّ النَّسْخَ لِبَيَانِ مُدَّةِ الْحُكْمِ وَجَائِزٌ لِلرَّسُولِ بَيَانُ حُكْمِ الْكِتَابِ فَقَدْ بُعِثَ مُبَيِّنًا وَجَائِزٌ أَنْ يَتَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى بَيَانَ مَا أَجْرَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّ الْكِتَابَ يَزِيدُ بِنَظْمِهِ عَلَى السُّنَّةِ فَلَا يُشْكِلُ أَنَّهُ يَصْلُحُ نَاسِخًا وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَإِنَّمَا يُنْسَخُ بِهَا حُكْمُ الْكِتَابِ دُونَ نَظْمِهِ وَالسُّنَّةُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَحْيٌ مُطْلَقٌ يُوجِبُ مَا يُوجِبُهُ الْكِتَابُ، فَإِذَا بَقِيَ النَّظْمُ مِنْ الْكِتَابِ وَانْتَسَخَ الْحُكْمُ مِنْهُ بِالسُّنَّةِ كَانَ الْمَنْسُوخُ مِثْلَ النَّاسِخِ لَا مَحَالَةَ وَلَوْ وَقَعَ الطَّعْنُ بِمِثْلِهِ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ بَلْ فِي ذَلِكَ إعْلَاءُ مَنْزِلَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَعْظِيمُ سُنَّتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّأْبِيدِ إذْ الْبَعْدِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ تَتَنَاوَلُ الْأَبَدَ يُوَضِّحُهُ أَنَّ ذَلِكَ ثَبَتَ جَزَاءً لِحُسْنِ عَمَلِهِنَّ وَهُوَ اخْتِيَارُهُنَّ رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمُصَابَرَتُهُنَّ عَلَى الْفَقْرِ وَالشِّدَّةِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَبْطُلَ ذَلِكَ بِالنَّسْخِ مَعَ بَقَائِهِنَّ عَلَى ذَلِكَ الِاخْتِيَارِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا نَسْخَهُ فَذَلِكَ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب: 50] عَلَى مَا قِيلَ لَا بِالسُّنَّةِ فَلَا يَصِحُّ هَذَا الِاحْتِجَاجُ «وَصَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَحِقَ بِالْكُفَّارِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَرُدُّوهُ وَمَنْ لَحِقَ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ رَدُّوهُ وَكَانَتْ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَمَّا خُتِمَ كِتَابُ الصُّلْحِ جَاءَتْ سُبَيْعَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيَّةُ مُسْلِمَةً فَأَقْبَلَ زَوْجُهَا مُسَافِرٌ الْمَخْزُومِيُّ وَقِيلَ صَيْفِيُّ بْنُ الرَّاهِبِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اُرْدُدْ عَلَيَّ امْرَأَتِي كَمَا هُوَ الشَّرْطُ وَهَذِهِ طِينَةُ الْكِتَابِ لَمْ تَجِفَّ فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] إلَى آخِرِ الْآيَةِ» وَنُسِخَ ذَلِكَ الْحُكْمُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَهَذَا السُّنَّةُ بِالْكِتَابِ. قَوْلُهُ (وَالدَّلِيلُ الْمَعْقُولُ) وَهُوَ مُعْتَمَدُ الْجُمْهُورِ أَنَّ نَسْخَ أَحَدِهِمَا أَعْنِي الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ بِالْآخَرِ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ عَقْلًا وَلَمْ يَرِدْ مِنْهُ مَنْعٌ سَمْعًا فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ أَمَّا بَيَانُ عَدَمِ امْتِنَاعِهِ عَقْلًا فَلِأَنَّ النَّسْخَ فِي الْحَقِيقَةِ بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ كَمَا بَيَّنَّا، فَإِذَا ثَبَتَ حُكْمٌ بِالْكِتَابِ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُبَيِّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُدَّةَ بَقَائِهِ بِوَحْيٍ غَيْرِ مَتْلُوٍّ كَمَا لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُبَيِّنَهَا بِوَحْيٍ مَتْلُوٍّ وَكَمَا لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُبَيِّنَ مُجْمَلَ الْكِتَابِ بِعِبَارَتِهِ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُبَيِّنَ مُدَّةَ الْحُكْمِ الْمُطْلَقِ بِعِبَارَتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّسْخَ إسْقَاطُ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْعُمُومِ كَمَا أَنَّ التَّخْصِيصَ إسْقَاطُ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ الْأَعْيَانِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْعُمُومِ، فَإِذَا لَمْ يَمْتَنِعْ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ لَمْ يَمْتَنِعْ نَسْخُهُ بِهَا أَيْضًا، وَإِذَا ثَبَتَ حُكْمٌ بِالسُّنَّةِ لَمْ يَمْتَنِعْ أَيْضًا أَنْ يَتَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى بَيَانَ مُدَّتِهِ لِعِلْمِهِ بِتَبَدُّلِ الْمَصْلَحَةِ كَمَا لَوْ بَيَّنَهَا الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِنَفْسِهِ وَكَمَا لَوْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مُدَّةَ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَيْ الثَّابِتَ بِعِبَارَتِهِ هُوَ حُكْمٌ ثَابِتٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ بِالْكِتَابِ فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ عَقْلًا وَلَمْ يَرِدْ السَّمْعُ بِعَدَمِ جَوَازِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَا تَلَوْا مِنْ الْآيَاتِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فَثَبَتَ أَنَّهُ جَائِزٌ. وَعِبَارَةُ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ نَسْخُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ لَكَانَ لِغَيْرِهِ لَا لِذَاتِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَحْيٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا قَالَ {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] إلَّا أَنَّ الْكِتَابَ مَتْلُوٌّ وَالسُّنَّةَ غَيْرُ مَتْلُوَّةٍ وَنَسْخُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بِالْآخَرِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ بِذَاتِهِ وَلِهَذَا فَرْضُ خِطَابِ الشَّارِعِ بِجَعْلِ الْقُرْآنِ نَاسِخًا لِلسُّنَّةِ أَوْ بِجَعْلِ السُّنَّةِ نَاسِخَةً لِلْقُرْآنِ لِمَا لَزِمَ لِذَاتِهِ مُحَالٌ عَقْلًا فَإِذًا لَوْ امْتَنَعَ لَكَانَ لِغَيْرِهِ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ قَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ إذَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ نُسِخَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتْلُوَ قُرْآنًا أَيُقْبَلُ خَبَرُهُ أَمْ لَا، فَإِنْ قَالَ الْخَصْمُ لَا يُقْبَلُ فَقَدْ انْسَلَخَ عَنْ الدِّينِ، وَإِنْ قَالَ يُقْبَلُ فَقَدْ تَرَكَ مَذْهَبَهُ إذْ هُوَ تَفْسِيرُ جَوَازِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ. قَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْكِتَابَ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى الْجَوَازِ مُتَضَمِّنٌ لِلْجَوَابِ عَمَّا قَالُوا: إنَّ نَسْخَ أَحَدِهِمَا بِالْآخِرِ لَا يَجُوزُ لِفَوَاتِ الْمُمَاثَلَةِ الْمَشْرُوطَةِ بِالنَّصِّ فَقَالَ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ يَزِيدُ بِنَظْمِهِ لِكَوْنِهِ مُعْجِزًا عَلَى السُّنَّةِ فَيَصْلُحُ نَاسِخًا لَهَا لِكَوْنِهِ

وَظَهَرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَبْدِيلٍ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا قَالَ {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ يَجُوزُ أَنْ يَنْسَخَ السُّنَّةَ ـــــــــــــــــــــــــــــQخَيْرًا مِنْهَا كَمَا يَصْلُحُ نَاسِخًا لِلْكِتَابِ لِكَوْنِهِ مَثَلًا لَهُ وَالسُّنَّةُ مِثْلُ الْكِتَابِ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ وَإِيجَابِ الْعِلْمِ كَمَا قُرِّرَ فِي الْكِتَابِ فَيَصِحُّ نَسْخُهُ بِهَا أَيْضًا. (فَإِنْ قِيلَ) قَوْلُهُ: فَإِنَّمَا يُنْسَخُ بِهَا حُكْمُ الْكِتَابِ دُونَ نَظْمِهِ يُنَاقِضُ مَا سَبَقَ أَنَّ أُبَيًّا ظَنَّ نَسْخَ النَّظْمِ مِنْ غَيْرِ كِتَابٍ يُتْلَى، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ النَّظْمِ بِالسُّنَّةِ قُلْنَا الْمُرَادُ هَاهُنَا بَيَانُ الْوُقُوعِ أَيْ لَمْ يَقَعْ نَسْخُ النَّظْمِ بِالسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ نَسْخُ الْحُكْمِ بِهَا وَفِيمَا سَبَقَ بَيَانُ الْجَوَازِ أَيْ ظَنُّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ النَّظْمِ بِدُونِ الْكِتَابِ فَلَا يَكُونُ تَنَاقُضًا أَوْ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ، فَإِنَّمَا يُنْسَخُ بِهَا حُكْمُ الْكِتَابِ دُونَ نَظْمِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ النَّظْمِ بِالسُّنَّةِ عَلَى وَجْهٍ تَقُومُ السُّنَّةُ مَقَامَهُ فِي جَوَازِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ بِهَا. وَالْمُرَادُ مِنْ حَدِيثِ أُبَيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ النَّظْمِ بِالسُّنَّةِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ بَيَانًا لِانْتِهَاءِ حُكْمِهِ فَقَطْ فَيَنْدَفِعُ التَّنَاقُضُ وَقَوْلُهُ وَلَوْ وَقَعَ الطَّعْنُ جَوَابٌ عَمَّا قَالُوا نَسْخُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مَدْرَجَةٌ إلَى الطَّعْنِ فَقَالَ لَوْ وَقَعَ الطَّعْنُ بِمِثْلِهِ أَيْ بِمِثْلِ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ وَالسُّنَّةِ بِالْكِتَابِ وَامْتَنَعَ بِهِ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ أَيْ النَّسْخُ فِي الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ الطَّاعِنَ يَقُولُ: إنَّهُ يُنَاقِضُ فِي كَلَامِهِ وَيَنْقُلُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى كَلَامًا مُتَنَاقِضًا فَكَيْفَ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} [النحل: 101] قَالُوا: إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ ثُمَّ لَمْ يَنْدَفِعْ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ بِهَذَا الطَّعْنِ فَكَذَا مَا نَحْنُ فِيهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَلِمَ بِالْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ وَصِحَّةِ رِسَالَتِهِ وَأَنَّهُ مُبَلِّغٌ وَأَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَبْقَ لِلطَّعْنِ مَجَالٌ بَلْ فِي ذَلِكَ أَيْ فِي جَوَازِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ وَعَكْسِهِ إعْلَاءُ مَنْزِلَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَتَعْظِيمُ سُنَّتِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَوَّضَ بَيَانَ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ وَحْيٌ فِي الْأَصْلِ إلَيْهِ لِيُبَيِّنَهُ بِعِبَارَتِهِ وَجَعَلَ لِعِبَارَتِهِ مِنْ الدَّرَجَةِ مَا يُثْبِتُ بِهِ انْتِهَاءَ مُدَّةِ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ ثَابِتٌ بِوَحْيٍ مَتْلُوٍّ حَتَّى يَتَبَيَّنَ بِهِ انْتِسَاخُهُ. وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ جَعَلَ سُنَّتَهُ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ مِثْلَ كَلَامِهِ وَتَوَلَّى بَيَانَ مُدَّتِهِ بِنَفْسِهِ كَمَا تَوَلَّى بَيَانَ مُدَّةِ الْحُكْمِ الَّذِي أَثْبَتَهُ بِكَلَامِهِ قَوْلُهُ (وَظَهَرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَبْدِيلٍ) جَوَابٌ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس: 15] فَقَالَ ظَهَرَ بِمَا بَيَّنَّا أَنَّ نَسْخَ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ لَيْسَ بِتَبْدِيلٍ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ كَمَا زَعَمُوا بَلْ بِوَحْيٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مَتْلُوٍّ وَلَا يُقَالُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ عَنْ اجْتِهَادٍ لِجَوَازِ الِاجْتِهَادِ لَهُ فِيمَا لَمْ يُوحَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْإِذْنُ بِالِاجْتِهَادِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَيْضًا، وَإِنَّهُ فِي اجْتِهَادِهِ لَا يُقِرُّ الْخَطَأَ فَكَانَ اجْتِهَادُهُ مَعَ التَّقَرُّرِ بِمَنْزِلَةِ الْوَحْيِ أَيْضًا وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ النَّاسِخَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَيْسَ الشَّرْطُ أَنْ يُنْسَخَ حُكْمُ الْقُرْآنِ بَلْ بِوَحْيٍ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدٌ وَهُوَ النَّاسِخُ بِاعْتِبَارٍ وَهُوَ الْمَنْسُوخُ بِاعْتِبَارٍ وَلَيْسَ لَهُ كَلَامَانِ أَحَدُهُمَا قُرْآنٌ وَالْآخَرُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ بِالْعِبَارَاتِ فَرُبَّمَا دَلَّ عَلَى كَلَامِهِ بِلَفْظٍ مَنْظُومٍ يَأْمُرُ بِتِلَاوَتِهِ وَيُسَمَّى قُرْآنًا وَرُبَّمَا دَلَّ عَلَيْهِ بِلَفْظٍ غَيْرِ مَتْلُوٍّ وَيُسَمَّى سُنَّةً وَالْكُلُّ مَسْمُوعٌ مِنْ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالنَّاسِخُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى بِكُلِّ حَالٍ قَوْلُهُ وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ

وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْعَرْضَ عَلَى الْكِتَابِ إنَّمَا يَجِبُ فِيمَا أَشْكَلَ تَارِيخُهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الصِّحَّةِ بِحَيْثُ يُنْسَخُ بِهِ الْكِتَابُ فَكَانَ تَقْدِيمُ الْكِتَابِ أَوْلَى فَأَمَّا قَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْخَيْرِيَّةِ مَا يَرْجِعُ إلَى الْعِبَادِ دُونَ النَّظْمِ بِمَعْنَاهُ فَكَذَلِكَ الْمُمَاثَلَةُ عَلَى أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ نَسْخَ حُكْمِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ خَارِجٌ عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQقِيلَ هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَكَادُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ فِي الْكِتَابِ فَرْضِيَّةَ اتِّبَاعِهِ مُطْلَقًا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَرْضِيَّةُ اتِّبَاعِهِ مُقَيَّدًا بِأَنْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا لِمَا يُتْلَى فِي الْكِتَابِ ظَاهِرًا وَلَئِنْ ثَبَتَ فَالْمُرَادُ اخْتِبَارُ الْآحَادِ لَا الْمَسْمُوعِ عَنْهُ بِعَيْنِهِ أَوْ الثَّابِتِ عَنْهُ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَفِي اللَّفْظِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ وَهُوَ. قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذَا رُوِيَ لَكُمْ عَنِّي حَدِيثٌ وَلَمْ يَقُلْ: إذَا سَمِعْتُمْ مِنِّي وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يَثْبُتُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ كَوْنُهُ مَسْمُوعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطْعًا وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ بِهِ عِلْمُ الْيَقِينِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَا خَالَفَ فَرُدُّوهُ عِنْدَ التَّعَارُضِ إذَا جُهِلَ التَّارِيخُ بَيْنَهُمَا حَتَّى لَا يُوقَفَ عَلَى النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مِنْهُمَا، فَإِنَّهُ يُعْمَلُ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ مَا هُوَ ثَابِتٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى نَصًّا عِنْدَ التَّعَارُضِ وَنَحْنُ هَكَذَا نَقُولُ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا إذَا عُرِفَ التَّارِيخُ بَيْنَهُمَا قَوْلُهُ: فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106] جَوَابٌ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ الْمُرَادُ بِالْخَيْرِيَّةِ هُوَ الْخَيْرِيَّةُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مَرَافِقِ الْعِبَادِ دُونَ النَّظْمِ بِمَعْنَاهُ أَيْ مَعَ مَعْنَاهُ أَوْ مُلْتَبِسًا بِمَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ نَظْمَ الْقُرْآنِ لَا يَفْضُلُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ بَلْ الْكُلُّ سَوَاءٌ فِي الْإِعْجَازِ وَفِي كَوْنِهِ قُرْآنًا فَكَذَلِكَ الْمُمَاثَلَةُ أَيْ فَكَالْخَيْرِيَّةِ الْمُمَاثَلَةِ فِي أَنَّهَا رَاجِعَةٌ إلَى مَرَافِقِ الْعِبَادِ لَا إلَى الْمُمَاثَلَةِ فِي النَّظْمِ فَكَانَ الْمَعْنَى نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا فِي الْمَحَبَّةِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالثَّوَابِ وَنَحْوِهَا لَا بِلَفْظَةٍ خَيْرٍ مِنْ لَفْظِهَا أَوْ مِثْلِهَا فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخَيْرِيَّةَ وَالْمِثْلِيَّةَ بِاعْتِبَارِ الْحُكْمِ لَا بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ وَقَدْ يَكُونُ حُكْمُ السُّنَّةِ النَّاسِخَةِ خَيْرًا أَوْ مِثْلًا لِحُكْمِ الْآيَةِ الْمَنْسُوخَةِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ أَصْلَحَ لِلْمُكَلَّفِ مِنْ الْحُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ بِاعْتِبَارِ الثَّوَابِ وَغَيْرِهِ وَالْمُجَانَسَةُ حَاصِلَةٌ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ جِنْسٌ وَاحِدٌ مَعَ أَنَّنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْخَيْرِيَّةَ تَقْتَضِي الْمُجَانَسَةَ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ مَنْ لَقِيَنِي بِحَمْدٍ وَثَنَاءٍ لَقِيتُهُ بِخَيْرٍ مِنْهُ يُرَادُ بِهِ الْمِنْحَةُ وَالْعَطَاءُ لَا الْحَمْدُ وَالثَّنَاءُ. وَأُجِيبَ عَنْ الْآيَةِ أَيْضًا بِأَنَّهَا لَا تُفِيدُ أَنَّ الْخَيْرَ أَوْ الْمِثْلَ هُوَ النَّاسِخُ؛ لِأَنَّهُ رَتَّبَ الْإِتْيَانَ بِأَحَدِهِمَا عَلَى نَسْخِ الْآيَةِ فَلَوْ كَانَ الْخَيْرُ أَوْ الْمِثْلُ هُوَ النَّاسِخَ لَتَرَتَّبَ نَسْخُ الْآيَةِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِأَحَدِهِمَا وَهُوَ دَوْرٌ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ غَايَةَ مَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ الْخَيْرَ أَوْ الْمِثْلَ يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ نَاسِخًا بَلْ شَيْئًا آخَرَ مُغَايِرًا لِلنَّاسِخِ يَحْصُلُ بَعْدَ حُصُولِ النَّسْخِ وَهَذَا إنَّمَا كَانَ يُفِيدُ لَوْ كَانَ مُدَّعَى الْمُسْتَدِلِّ أَنَّ الْخَيْرَ أَوْ الْمِثْلَ هُوَ النَّاسِخُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مُدَّعَاهُ أَنَّ النَّاسِخَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا مِنْ الْمَنْسُوخِ أَوْ مِثْلَهُ؛ لِأَنَّ النَّاسِخَ بَدَلٌ عَنْ الْمَنْسُوخِ وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَدَلَ الْمَنْسُوخِ خَيْرٌ أَوْ مِثْلٌ خَارِجٌ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَيْ عَلَى وِفَاقِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، فَإِنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ السُّنَّةَ مِثْلُ الْكِتَابِ فِيمَا يَقَعُ فِيهِ النَّسْخُ وَهُوَ الْحُكْمُ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَيْ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ يُنْسَخُ بِالْكِتَابِ وَلَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَفْهُومَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] فَهُوَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى كَوْنِ السُّنَّةِ بَيَانًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ لِتُبَيِّنَ لِتُبَلِّغَ إذْ حَمْلُ الْبَيَانِ عَلَى التَّبْلِيغِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى بَيَانِ الْمُرَادِ تَفَادِيًا عَنْ لُزُومِ الْإِجْمَالِ وَالتَّخْصِيصِ فِيمَا أُنْزِلَ؛ لِأَنَّ التَّبْلِيغَ عَامٌّ فِيهِ بِخِلَافِ بَيَانِ الْمُرَادِ لِاخْتِصَاصِهِ بِبَعْضِهِ كَالْعَامِّ وَالْمُجْمَلِ وَالْمُطْلَقِ وَالْمَنْسُوخِ وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ الْمُرَادَ لِتُبَيِّنَ الْعَامَّ وَالْمُجْمَلَ وَالْمُطْلَقَ وَالْمَنْسُوخَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّسْخَ لَيْسَ بِبَيَانٍ؛ لِأَنَّهُ بَيَانٌ.

[نسخ السنة بالسنة]

وَنَسْخُ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ مِثْلُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنِّي كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا فَقَدْ أُذِنَ لِمُحَمَّدٍ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ أُمِّهِ وَكُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ أَنْ تُمْسِكُوهَا فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَأَمْسِكُوهَا مَا بَدَا لَكُمْ وَكُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ النَّبِيذِ فِي الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ، فَإِنَّ الظَّرْفَ لَا يُحِلُّ شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمُهُ» وَنَسْخُ خَبَرِ الْوَاحِدِ مِثْلُهُ جَائِزٌ أَيْضًا. ـــــــــــــــــــــــــــــQ [نَسْخُ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ] أَيْضًا قَوْلُهُ (وَنَسْخُ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ) كَذَا لَمْ يَذْكُرْ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَمْثِلَةَ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ كَمَا ذَكَرَهَا غَيْرُهُ لِظُهُورِهَا وَكَثْرَتِهَا مِثْلَ نَسْخِ آيَاتِ الْمُسَالَمَةِ الَّتِي هِيَ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةِ آيَةٍ بِآيَاتِ الْقِتَالِ وَنَسْخِ وُجُوبِ ثَبَاتِ الْوَاحِدِ لِلْعَشْرَةِ الثَّابِتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] بِوُجُوبِ ثَبَاتِهِ لِلِاثْنَيْنِ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] الْآيَةَ وَهَذَا النَّصُّ، وَإِنْ كَانَ طَرِيقُهُ طَرِيقَ الْخَبَرِ لَكِنَّهُ أَمْرٌ فِي الْحَقِيقَةِ رُوِيَ عَنْ بَرِيرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنِّي نَهَيْتُكُمْ عَنْ الثَّلَاثِ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَقَدْ أُذِنَ لِمُحَمَّدٍ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ أُمِّهِ وَلَا تَقُولُوا هُجْرًا وَعَنْ لَحْمِ الْأَضَاحِيِّ أَنْ تُمْسِكُوهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَأَمْسِكُوهُ مَا بَدَا لَكُمْ وَتَزَوَّدُوا، فَإِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ لِيَتَّسِعَ بِهِ مُوسِرُكُمْ عَلَى مُعْسِرِكُمْ وَعَنْ النَّبِيذِ فِي الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ ظَرْفٍ، فَإِنَّ الظَّرْفَ لَا يُحِلُّ شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمُهُ وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا» وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ «وَعَنْ الشُّرْبِ فِي الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ فَاشْرَبُوا فِي الظُّرُوفِ وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا» فَهَذَا نَسْخُ السُّنَّةِ بِالسَّنَةِ لِانْتِهَاءِ حُكْمِ النَّهْيِ بِالْإِذْنِ ثُمَّ قِيلَ الْمُرَادُ بِالنَّهْيِ عَنْ الزِّيَارَةِ هُوَ النَّهْيُ عَنْ زِيَارَةِ قُبُورِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُمْ مَا مُنِعُوا عَنْ زِيَارَةِ قُبُورِ الْمُسْلِمِينَ قَطُّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فَقَدْ أُذِنَ لِمُحَمَّدٍ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ أُمِّهِ وَكَانَتْ مُشْرِكَةً وَرُوِيَ أَنَّهُ زَارَ قَبْرَهَا فِي أَرْبَعِمِائَةِ فَارِسٍ فَوَقَفُوا بِالْبُعْدِ وَدَنَا هُوَ مِنْ قَبْرِهَا فَبَكَى حَتَّى سُمِعَ نَشِيجُهُ. وَقِيلَ إنَّمَا نُهُوا عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِمَا كَانَ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْدُبُونَ الْمَوْتَى عِنْدَ قُبُورِهِمْ وَرُبَّمَا يَتَكَلَّمُونَ بِمَا هُوَ كَذِبٌ أَوْ مُحَالٌ وَلِهَذَا قَالَ: وَلَا تَقُولُوا هُجْرًا أَيْ لَغْوًا مِنْ الْكَلَامِ فَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْمَمْنُوعَ كَانَ هُوَ التَّكَلُّمَ بِاللَّغْوِ عِنْدَ الْقُبُورِ وَذَلِكَ مَوْضِعٌ يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَتَّعِظَ بِهِ وَيَتَأَمَّلَ فِي حَالِ نَفْسِهِ وَهَذَا قَائِمٌ لَمْ يَنْتَسِخْ إلَّا أَنَّهُ فِي الِابْتِدَاءِ نَهَاهُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ لِتَحْقِيقِ الزَّجْرِ عَنْ الْهُجْرِ مِنْ الْكَلَامِ ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ فِي الزِّيَارَةِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَقُولُوا هُجْرًا وَقِيلَ الْإِذْنُ ثَبَتَ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ فَالنِّسَاءُ يُمْنَعْنَ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْمَقَابِرِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - خَرَجَتْ فِي تَعْزِيَةٍ لِبَعْضِ الْأَنْصَارِ فَلَمَّا رَجَعَتْ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَعَلَّك أَتَيْت الْمَقَابِرَ قَالَتْ لَا قَالَ لَوْ أَتَيْت مَا فَارَقْت جَدَّك يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْ كُنْت مَعَهُ فِي النَّارِ» وَالْأَصَحُّ أَنَّ الرُّخْصَةَ ثَابِتَةٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَتْ تَزُورُ قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُلِّ وَقْتٍ وَأَنَّهَا لَمَّا خَرَجَتْ حَاجَّةً زَارَتْ قَبْرَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَنْشَدَتْ عِنْدَ الْقَبْرِ قَوْلَ الْقَائِلِ: وَكُنَّا كَنَدْمَى فِي حَزِيمَةِ حِقْبَةٍ ... مِنْ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ تَتَصَدَّعَا فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكًا ... لِطُولِ اجْتِمَاعٍ لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً مَعًا وَالنَّهْيُ عَنْ إمْسَاكِ لُحُومِ الْأَضَاحِيّ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ لِلضِّيقِ وَالشِّدَّةِ فَنَهَاهُمْ عَنْ الْإِمْسَاكِ لِيَتَّسِعَ تَوَسُّعُهُمْ عَلَى مُعْسِرِهِمْ وَلَمَّا عُدِمَ ذَلِكَ الضِّيقُ أَذِنَ لَهُمْ فِي الْإِمْسَاكِ. فَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ الشُّرْبِ فِي الْأَوَانِي الْمُغْتَلِمَةِ فَقَدْ كَانَ تَحْقِيقًا لِلزَّجْرِ عَنْ شُرْبِ الْمُسْكِرِ الْحَرَامِ فَقَدْ كَانُوا أَلِفُوا شُرْبَهَا وَقَدْ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ الِانْزِجَارُ عَنْ الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ وَلِهَذَا أَمَرَ بِكَسْرِ الدِّنَانِ وَشَقِّ الزَّوَايَا وَلَمَّا حَصَلَ الِانْزِجَارُ أَذِنَ لَهُمْ فِي الشُّرْبِ فِي الْأَوَانِي وَبَيَّنَ أَنَّ الْمُحَرَّمَ شُرْبُ الْمُسْكِرِ وَأَنَّ الظَّرْفَ لَا يُحِلُّ شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمُهُ كَذَا

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ النَّاسِخِ أَشُقَّ مِنْ حُكْمِ الْمَنْسُوخِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَسَخَ التَّخْيِيرَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ بِعَزِيمَةِ الصِّيَامِ وَنَسَخَ الصَّفْحَ وَالْعَفْوَ عَنْ الْكُفَّارِ بِقِتَالِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فَقَالَ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] ثُمَّ نَسَخَهُ بِقِتَالِهِمْ كَافَّةً بِقَوْلِهِ {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] وَالنَّاسِخُ أَشُقُّ هَهُنَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَصِحُّ إلَّا بِمِثْلِهِ أَوْ بِأَخَفَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مَرَافِقِ الْعِبَادِ وَفِي الْأَشَقِّ فَضْلُ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي أَشْرِبَةِ الْمَبْسُوطِ عَنْ النَّبِيذِ أَيْ عَنْ أَخْذِ النَّبِيذِ أَوْ شُرْبِ النَّبِيذِ وَالنَّبِيذُ التَّمْرُ يُنْبَذُ فِي جَرَّةِ الْمَاءِ أَوْ غَيْرِهَا أَيْ يُلْقَى فِيهَا حَتَّى يَغْلِيَ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الزَّبِيبِ وَالْعَسَلِ وَالدُّبَّاءُ الْقَرْعُ وَالْحَنْتَمُ جِرَارٌ حُمْرٌ وَقِيلَ خُضْرٌ تُحْمَلُ فِيهِ الْخَمْرُ إلَى الْمَدِينَةِ الْوَاحِدُ حَنْتَمَةٌ وَالنَّقِيرُ الْخَشَبَةُ الْمُقَوَّرَةُ وَالْمُزَفَّتُ الْوِعَاءُ الْمَطْلِيُّ بِالزِّفْتِ وَهُوَ الْقَارُ وَهَذِهِ أَوْعِيَةٌ ضَارِيَةٌ تُسْرِعُ بِالشِّدَّةِ فِي الشَّرَابِ وَتُحْدِثُ فِيهِ التَّغَيُّرَ وَلَا يَشْعُرُ بِهِ صَاحِبُهُ فَهُوَ عَلَى خَطَرٍ مِنْ شُرْبِ الْمُحَرَّمِ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ. قَوْلُهُ (وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ النَّاسِخِ أَشُقُّ مِنْ حُكْمِ الْمَنْسُوخِ) اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالنَّسْخِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ بِبَدَلٍ أَخَفَّ كَنَسْخِ تَحْرِيمِ الْأَكْلِ بَعْدَ النَّوْمِ فِي لَيَالِيِ رَمَضَانَ بِحِلِّهِ وَبِبَدَلٍ مُمَاثِلٍ كَنَسْخِ وُجُوبِ التَّوَجُّهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ فِي جَوَازِ النَّسْخِ إلَى بَدَلٍ أَثْقَلَ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إلَى جَوَازِهِ وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الظَّاهِرِ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُد إلَى امْتِنَاعِهِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ فَرَائِضَ أَثْبَتَهَا وَأُخْرَى نَسَخَهَا رَحْمَةً وَتَخْفِيفًا لِعِبَادِهِ فَزَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ أَشَارَ بِهَذَا إلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِي النَّسْخِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ النَّاسِخَ أَخَفُّ مِنْ الْمَنْسُوخِ وَكَانَ لَا يُجَوِّزُ نَسْخَ الْأَخَفِّ بِالْأَثْقَلِ تَمَسَّكُوا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] أَخْبَرَ أَنَّ النَّاسِخَ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ الْمَنْسُوخِ أَوْ مِثْلُهُ. وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِيَّةِ أَوْ الْمِثْلِيَّةِ هُوَ الْخَيْرِيَّةُ أَوْ الْمِثْلِيَّةُ فِي حَقِّنَا وَإِلَّا فَالْقُرْآنُ خَيْرٌ كُلُّهُ مِنْ غَيْرِ تَفَاضُلٍ فِيهِ وَالْأَشَقُّ لَيْسَ بِخَيْرٍ وَلَا مِثْلٍ فَلَا يَجُوزُ النَّسْخُ بِهِ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28] ، فَإِنَّهُمَا يَدُلَّانِ عَلَى إرَادَةِ الْيُسْرِ وَالتَّخْفِيفِ وَالنَّقْلِ إلَى الْأَشَقِّ يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الْعُسْرِ وَالتَّثْقِيلِ فَيَكُونُ خِلَافَ النَّصِّ فَلَا يَجُوزُ وَبِأَنَّ النَّقْلَ إلَى الْأَشَقِّ أَبْعَدُ فِي الْمَصْلَحَةِ لِكَوْنِهِ إضْرَارًا فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِينَ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ فَعَلُوا الْتَزَمُوا الْمَشَقَّةَ الزَّائِدَةَ. وَإِنْ تَرَكُوا تَضَرَّرُوا بِالْعُقُوبَةِ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ الشَّارِعِ وَرَأْفَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ وَتَمَسَّكَ الْجُمْهُورُ بِدَلَالَةِ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ عَلَى الْجَوَازِ أَمَّا دَلَالَةُ الْعَقْلِ فَلِأَنَّ مَصْلَحَةَ الْمُكَلَّفِ قَدْ تَكُونُ فِي التَّرَقِّي مِنْ الْأَخَفِّ إلَى الْأَثْقَلِ كَمَا يَكُونُ فِي ابْتِدَاءِ التَّكْلِيفِ وَرَفْعِ الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ كَمَا يَكُونُ فِي النَّقْلِ مِنْ الْأَثْقَلِ إلَى الْأَخَفِّ أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّبِيبَ يَنْقُلُ الْمَرِيضَ مِنْ الْغِذَاءِ إلَى الدَّوَاءِ تَارَةً وَمِنْ الدَّوَاءِ إلَى الْغِذَاءِ أُخْرَى بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُ مِنْ مَنْفَعَتِهِ فِيهِ وَأَمَّا دَلَالَةُ الشَّرْعِ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَخَ التَّخْيِيرَ بَيْنَ صَوْمِ رَمَضَانَ وَالْفِدْيَةِ عَنْهُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَى مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ وَمُعَاذٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ذَلِكَ فَعَزِيمَةُ الصِّيَامِ أَيْ بِالصَّوْمِ حَتْمًا بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّوْمَ حَتْمًا أَشُقُّ مِنْ التَّخْيِيرِ وَنَسَخَ الصَّفْحَ وَالْعَفْوَ عَنْ الْكُفَّارِ الثَّابِتِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] بِآيَاتِ الْقِتَالِ وَنَسَخَ الْحَبْسَ وَالْإِيذَاءَ بِاللِّسَانِ فِي حَدِّ الزِّنَا بِالْجَلْدِ وَالرَّجْمِ وَنَسَخَ إبَاحَةَ الْخَمْرِ وَنِكَاحَ الْمُتْعَةِ وَلُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ بِتَحْرِيمِهَا وَنَسَخَ صَوْمَ عَاشُورَاءَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ وَكَوْنَ الْحَجِّ مَنْدُوبًا بِكَوْنِهِ فَرْضًا وَإِبَاحَةَ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْخَوْفِ بِوُجُوبِ أَدَائِهَا فِي أَثْنَاءِ الْقِتَالِ وَكُلُّ ذَلِكَ نَسْخٌ بِالْأَشَقِّ وَالْأَثْقَلِ وَأَمَّا تَمَسُّكُهُمْ بِالْآيَةِ

[باب تفصيل المنسوخ]

(بَابُ تَفْصِيلِ) (الْمَنْسُوخِ) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمَنْسُوخُ أَنْوَاعٌ أَرْبَعَةٌ التِّلَاوَةُ وَالْحُكْمُ وَالْحُكْمُ دُونَ التِّلَاوَةِ وَالتِّلَاوَةُ بِلَا حُكْمٍ وَنَسْخُ وَصْفِهِ فِي الْحُكْمِ أَمَّا نَسْخُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا فَمِثْلُ صُحُفِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنَّهَا نُسِخَتْ أَصْلًا إمَّا بِصَرْفِهَا عَنْ الْقُلُوبِ أَوْ بِمَوْتِ الْعُلَمَاءِ، وَكَانَ هَذَا جَائِزًا فِي الْقُرْآنِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى: 6] {إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 7] وَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106] فَأَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَلَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] أَيْ نَحْفَظُهُ مُنَزَّلًا لَا يَلْحَقُهُ تَبْدِيلٌ صِيَانَةً لِلدِّينِ إلَى آخِرِ الدَّهْرِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْأُولَى فَضَعِيفٌ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَشَقَّ لَيْسَ بِخَيْرٍ بَلْ هُوَ خَيْرٌ بِاعْتِبَارِ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ كَمَا أَنَّ الْأَخَفَّ خَيْرٌ بِاعْتِبَارِ السُّهُولَةِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْأَشَقَّ أَكْثَرُ ثَوَابًا عَلَى مَا «قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَجْرُك عَلَى قَدْرِ تَعَبِك وَقَالَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا أَيْ أَشَقُّهَا عَلَى الْبَدَنِ» وَكَذَا تَمَسُّكُهُمْ بِالْآيَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ؛ لِأَنَّ الْآيَتَيْنِ لَا تَدُلَّانِ عَلَى الْيُسْرِ وَالتَّخْفِيفِ فِي كُلِّ شَيْءٍ بَلْ فِي صُوَرٍ مَخْصُوصَةٍ. وَمَا ذَكَرُوا مِنْ الْمَعْقُولِ فَهُوَ لَازِمٌ عَلَيْهِمْ فِي نَقْلِ الْخَلْقِ عَنْ الْإِبَاحَةِ وَالْإِطْلَاقِ إلَى مَشَقَّةِ التَّكْلِيفِ وَعَنْ الصِّحَّةِ إلَى الْمَرَضِ وَعَنْ الْقُوَّةِ إلَى الضَّعْفِ وَعَنْ الْغِنَى إلَى الْفَقْرِ فَمَا هُوَ الْجَوَابُ لَهُمْ عَنْ صُوَرِ الْإِلْزَامِ فَهُوَ جَوَابُنَا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ تَفْصِيلِ الْمَنْسُوخِ] [أَنْوَاعٌ الْمَنْسُوخُ] بَابُ تَفْصِيلِ الْمَنْسُوخِ الْمَنْسُوخُ: اسْمٌ لِلْحُكْمِ الْمُرْتَفِعِ أَوْ اسْمٌ لِلْحُكْمِ الَّذِي انْتَهَى بِالدَّلِيلِ الْمُتَأَخِّرِ وَقَدْ يُسَمَّى الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ مَنْسُوخًا وَهُوَ أَنْوَاعٌ: نَسْخُ الدَّلِيلِ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ، وَنَسْخُ الشَّرْطِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ، وَنَسْخُ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنْوَاعٌ: نَسْخُ كُلِّ الْحُكْمِ، وَنَسْخُ بَعْضِ الْحُكْمِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، وَالنُّقْصَانُ عَنْهُ أَمَّا نَسْخُ الدَّلِيلِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ نَسْخُ وَحْيٍ مَتْلُوٍّ وَنَسْخُ وَحْيٍ غَيْرِ مَتْلُوٍّ وَهُوَ خَبَرُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَمَّا نَسْخُ الْكِتَابِ فَأَنْوَاعٌ نَسْخُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا وَنَسْخُ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ وَعَكْسُهُ كَذَا ذُكِرَ فِي الْمِيزَانِ فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ مُرَادَ الشَّيْخِ مِنْ تَفْصِيلِ الْمَنْسُوخِ فِي هَذَا الْبَابِ تَفْصِيلُ الْمَنْسُوخِ مِنْ الْكِتَابِ لَا تَفْصِيلَ مُطْلَقِ الْمَنْسُوخِ. الْمَنْسُوخُ أَنْوَاعٌ أَرْبَعَةٌ التِّلَاوَةُ وَالْحُكْمُ أَيْ اللَّفْظُ وَالْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِمَعْنَاهُ جَمِيعًا وَالْحُكْمُ دُونَ اللَّفْظِ وَعَكْسُهُ وَنَسْخُ وَصْفِهِ نَحْوُ نَسْخِ فَرْضِيَّةِ صَوْمِ عَاشُورَاءَ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ فَمِثْلُ صُحُفِ إبْرَاهِيمَ فَإِنَّا قَدْ عَلِمْنَا حَقِيقَةً أَنَّهَا كَانَتْ نَازِلَةً تُقْرَأُ وَيُعْمَلُ بِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى} [الأعلى: 18] {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 19] ثُمَّ نُسِخَتْ أَصْلًا وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَيْنَ الْخَلْقِ تِلَاوَةً وَلَا عَمَلًا بِهِ فَلَا طَرِيقَ لِذَلِكَ سِوَى الْقَوْلِ بِانْتِسَاخِ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ فِيمَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ بِصَرْفِهَا عَنْ الْقُلُوبِ أَيْ بِرَفْعِهَا عَنْهَا أَوْ هُوَ مِنْ مَغْلُوبِ الْكَلَامِ أَيْ تُصْرَفُ الْقُلُوبُ عَنْهَا أَيْ عَنْ حِفْظِهَا وَكَانَ هَذَا أَيْ هَذَا النَّوْعُ وَهُوَ نَسْخُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا بِصَرْفِ الْقُلُوبِ عَنْهُمَا جَائِزًا فِي الْقُرْآنِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلِاسْتِثْنَاءِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله تَعَالَى {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى: 6] {إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 7] إذْ لَوْ لَمْ يُتَصَوَّرْ النِّسْيَانُ لَخَلَا ذِكْرُ الِاسْتِثْنَاءِ عَنْ الْفَائِدَةِ. وقَوْله تَعَالَى أَوْ نُنْسِهَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ أَيْضًا وَذَلِكَ مِثْلُ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مُحَرِّمَاتٍ فَنُسِخْنَ بِخَمْسٍ وَرُوِيَ أَنَّ سُورَةَ الْأَحْزَابِ كَانَتْ تَعْدِلُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَقَالَ الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُوتِيَ قُرْآنًا ثُمَّ نَسِيَهُ فَلَمْ يَكُنْ شَيْئًا أَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ لَمَّا رَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَلْبِهِ ذَلِكَ فَأَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَلَا أَيْ فَلَا يَجُوزُ قَالَ بَعْضُ الرَّافِضَةِ وَالْمُلْحِدَةِ مِمَّنْ يَتَسَتَّرُ بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ قَاصِدٌ إلَى إفْسَادِهِ هَذَا جَائِزٌ بَعْدَ وَفَاتِهِ أَيْضًا وَزَعَمُوا أَنَّ فِي الْقُرْآنِ كَانَتْ آيَاتٌ فِي إمَامَةِ عَلِيٍّ وَفِي فَضَائِلِ أَهْلِ الْبَيْتِ فَكَتَمَهَا الصَّحَابَةُ فَلَمْ تَبْقَ بِانْدِرَاسِ زَمَانِهِمْ وَاسْتَدَلُّوا فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ فَصَحِيحَانِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَقَالَ لِأَنَّ النَّصَّ لِحُكْمِهِ فَلَا يَبْقَى بِدُونِهِ وَالْحُكْمُ بِالنَّصِّ ثَبَتَ فَلَا يَبْقَى بِدُونِهِ وَلِعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْإِيذَاءَ بِاللِّسَانِ وَإِمْسَاكَ الزَّوَانِي فِي الْبُيُوتِ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَقْرَأُ لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ وَأَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَقُولُ قَرَأْنَا فِي الْقُرْآنِ بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا أَنَّا لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا. وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَرَأْنَا آيَةَ الرَّجْمِ وَعَيَّنَّاهَا وَرُوِيَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِمَّا يُتْلَى بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْقَوْلِ قَوْله تَعَالَى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الْحِفْظَ لَدَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَعَالَى مِنْ أَنْ يُوصَفَ بِالنِّسْيَانِ وَالْغَفْلَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ الْحِفْظُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ الضَّيَاعَ مُحْتَمَلٌ مِنَّا قَصْدًا كَمَا فَعَلَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْغَفْلَةَ وَالنِّسْيَانَ مُتَوَهَّمٌ مِنَّا وَبِهِ يَنْعَدِمُ الْحِفْظُ إلَّا أَنْ يَحْفَظَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ أَيْ يَحْفَظُهُ مُنَزَّلًا لَا يَلْحَقُهُ تَبْدِيلٌ وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْ أَوْقَاتِ بَقَاءِ الْخَلْقِ فِي الدُّنْيَا عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مَا هُوَ ثَابِتٌ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ فِيمَا اُبْتُلُوا بِهِ مِنْ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ الَّتِي حَمَلُوهَا إذْ الْعَقْلُ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ وَلَيْسَ بِهِ كِفَايَةٌ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا نَاسِخَ لِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ بِوَحْيٍ يَنْزِلُ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ جَوَّزْنَا هَذَا فِي بَعْضِ مَا أُوحِيَ وَجَبَ الْقَوْلُ بِتَجْوِيزِ ذَلِكَ فِي جَمِيعِهِ فَيُؤَدِّي إلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ أَنْ لَا يَبْقَى شَيْءٌ مِمَّا ثَبَتَ بِالْوَحْيِ بَيْنَ النَّاسِ فِي حَالِ بَقَاءِ التَّكْلِيفِ وَهَذَا قَبِيحٌ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لِصِيَانَةِ الدِّينِ إلَى آخِرِ الدَّهْرِ أَخْبَرَ جَلَّ جَلَالُهُ أَنَّهُ هُوَ الْحَافِظُ لِمَا أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ عَنْ التَّغْيِيرِ وَالْمَحْوِ عَنْ الْقُلُوبِ فَلَا يَجُوزُ نَسْخُ شَيْءٍ مِنْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِطَرِيقِ الِانْدِرَاسِ وَذَهَابِ حِفْظِهِ مِنْ قُلُوبِ الْعِبَادِ وَمَا نَقَلُوا مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ فَبَعْضُهَا شَاذٌّ لَا يَكَادُ يَصِحُّ وَمَا ثَبَتَ مِنْهَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْمَحْوَ عَنْ قُلُوبِ الصَّحَابَةِ سِوَى قَلْبِ الرَّاوِي كَانَ قَبْلَ وَفَاتِهِ لَا بَعْدَهُ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ ذُكِرَ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ وَكَانَتْ الصَّحِيفَةُ تَحْتَ السَّرِيرِ فَاشْتَغَلْنَا بِدَفْنِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَدَخَلَ دَاجِنُ الْبَيْتِ فَأَكَلَهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ بِهَذَا لَا يَنْعَدِمُ حِفْظُهُ عَنْ الْقُلُوبِ وَلَا يَتَعَذَّرُ إثْبَاتُهُ فِي صَحِيفَةٍ أُخْرَى فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا أَصْلَ لِهَذَا الْحَدِيثِ كَذَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لِشَمْسِ الْأَئِمَّةِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي) وَهُوَ نَسْخُ الْحُكْمِ دُونَ التِّلَاوَةِ وَالثَّالِثُ وَهُوَ نَسْخُ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ صَحِيحَانِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَمِنْ النَّاسِ وَهُمْ فِرْقَةٌ شَاذَّةٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ مَنْ أَنْكَرَ الْجَوَازَ فِي الْقِسْمَيْنِ مُتَمَسِّكِينَ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ النَّصِّ حُكْمُهُ الْمُتَعَلِّقُ بِمَعْنَاهُ إذْ الِابْتِلَاءُ يَحْصُلُ بِهِ وَالنَّصُّ وَسِيلَةٌ إلَى هَذَا الْمَقْصُودِ فَلَا يَبْقَى النَّصُّ بِدُونِ حُكْمِهِ لِسُقُوطِ اعْتِبَارِ الْوَسِيلَةِ عِنْدَ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ كَوُجُوبِ الطَّهَارَةِ لَا يَبْقَى بَعْدَ سُقُوطِ الصَّلَاةِ بِالْحَيْضِ، وَالْحُكْمُ بِالنَّصِّ يَثْبُتُ لَا بِغَيْرِهِ فَلَا يَبْقَى بِدُونِهِ كَالْمِلْكِ الثَّابِتِ بِالْبَيْعِ لَا يَبْقَى بِدُونِ الْبَيْعِ بِأَنْ انْفَسَخَ وَعِبَارَةُ بَعْضِهِمْ أَنَّ التِّلَاوَةَ مَعَ الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ الْعِلْمِ مَعَ الْعَالَمِيَّةِ وَالْمَفْهُومِ مَعَ الْمَنْطُوقِ وَكَمَا لَا يَنْفَكُّ الْعِلْمُ مِنْ الْعَالَمِيَّةِ وَالْمَفْهُومُ مِنْ الْمَنْطُوقِ فَكَذَلِكَ التِّلَاوَةُ وَالْحُكْمُ لَا يَنْفَكَّانِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ نَسْخَ التِّلَاوَةِ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ دُونَ عَكْسِهِ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ وَاجِبٌ فِي الْمَتْلُوِّ أَنَّهُ قُرْآنٌ وَأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُعْتَقَدَ فِيهِ خِلَافُ هَذَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ وَالْقَوْلُ بِجَوَازِ نَسْخِ التِّلَاوَةِ يُؤَدِّي إلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ وَتَمَسَّكَتْ الْعَامَّةُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقِسْمَيْنِ بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ أَمَّا بَيَانُ الْمَنْقُولِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ نَسْخُ الْحُكْمِ دُونَ التِّلَاوَةِ فَهُوَ أَنَّ الْإِيذَاءَ بِاللِّسَانِ لِلزَّانِيَيْنِ الثَّابِتَ

نُسِخَ حُكْمُهُ وَبَقِيَتْ تِلَاوَتُهُ، وَكَذَلِكَ الِاعْتِدَادُ بِالْحَوْلِ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ وَلِأَنَّ لِلنَّظْمِ حُكْمَيْنِ: جَوَازُ الصَّلَاةِ وَمَا هُوَ قَائِمٌ بِمَعْنَى صِيغَتِهِ، وَجَوَازُ الصَّلَاةِ حُكْمٌ مَقْصُودٌ بِنَفْسِهِ وَكَذَلِكَ الْإِعْجَازُ الثَّابِتُ بِنَظْمِهِ حُكْمٌ مَقْصُودٌ فَبَقِيَ النَّصُّ لِهَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ وَدَلَالَةُ أَنَّهُمَا يَصْلُحَانِ مَقْصُودَيْنِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ مِنْ النُّصُوصِ مَا هُوَ مُتَشَابِهٌ لَا يَثْبُتُ بِهِ إلَّا مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْإِعْجَازِ وَجَوَازِ الصَّلَاةِ فَلِذَلِكَ اسْتَقَامَ الْبَقَاءُ بِهِمَا وَانْتَهَى الْآخَرُ. وَأَمَّا نَسْخُ التِّلَاوَةِ وَبَقَاءُ الْحُكْمِ فَمِثْلُ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ لَكِنَّهُ لَمَّا صَحَّ عَنْهُ إلْحَاقُهُ عِنْدَهُ بِالْمُصْحَفِ وَلَا تُهْمَةَ فِي رِوَايَتِهِ وَجَبَ الْحَمْلُ عَلَى أَنَّهُ نُسِخَ نَظْمُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ وَهَذَا لِأَنَّ لِلنَّظْمِ حُكْمًا يَتَفَرَّدُ بِهِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحُكْمُ مُتَنَاهِيًا أَيْضًا وَيَبْقَى الْحُكْمُ بِلَا نَظْمٍ وَذَلِكَ صَحِيحٌ فِي أَجْنَاسِ الْوَحْيِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: 16] وَإِمْسَاكُ الزَّوَانِي أَيْ الزَّانِيَاتُ الثَّابِتُ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء: 15] نُسِخَا بِالْجَلْدِ وَالرَّجْمِ مَعَ بَقَاءِ تِلَاوَةِ النَّصَّيْنِ الدَّالَّيْنِ عَلَيْهِمَا. وَقَوْلُهُ: نُسِخَ حُكْمُهُ أَيْ نَفْسُ هَذَا الْحُكْمِ وَمَشْرُوعِيَّتُهُ وَبَقِيَتْ تِلَاوَتُهُ أَيْ تِلَاوَةُ النَّصِّ الْمُثْبِتِ لَهُ وَلَوْ قِيلَ: إنَّ النَّصَّ الْمُوجِبَ لِلْإِيذَاءِ وَالْإِمْسَاكِ نُسِخَ حُكْمُهُ وَبَقِيَتْ تِلَاوَتُهُ لَكَانَ أَحْسَنَ وَكَذَلِكَ الِاعْتِدَادُ بِالْحَوْلِ أَيْ وَكَالْإِيذَاءِ بِاللِّسَانِ، وَالْإِمْسَاكِ الِاعْتِدَادُ بِالْحَوْلِ الثَّابِتُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234] وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاجٍ نُسِخَ مَعَ بَقَاءِ تِلَاوَةِ هَذَا النَّصِّ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ مِثْلُ نَسْخِ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ عَلَى نَجْوَى الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَنَسْخِ التَّخْيِيرِ فِي الصَّوْمِ وَنَسْخِ الْمُسَالَمَةِ مَعَ الْكُفَّارِ وَثَبَاتِ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ مَعَ بَقَاءِ تِلَاوَةِ الْآيَاتِ الْمُوجِبَةِ لَهَا. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ لِلنَّظْمِ حُكْمَيْنِ إلَى آخِرِهِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّصِّ مِنْ الْأَحْكَامِ عَلَى قِسْمَيْنِ قِسْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالنَّظْمِ مِثْلُ جَوَازِ الصَّلَاةِ وَالْإِعْجَازِ وَغَيْرِهِمَا وَقِسْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْنَى وَهُوَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ وَنَحْوِهِمَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَصْلَحَةً دُونَ الْآخَرِ، فَإِذَا انْتَسَخَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْنَى جَازَ أَنْ يَبْقَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّظْمِ لِكَوْنِهِ مَقْصُودًا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّظْمِ يَصْلُحُ مَقْصُودًا أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَا هُوَ مُتَشَابِهٌ وَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ إلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّظْمِ مِنْ جَوَازِ الصَّلَاةِ وَالْإِعْجَازِ فَإِذَا حَسُنَ ابْتِدَاءُ إنْزَالِ النَّظْمِ لَهُ فَالْبَقَاءُ أَوْلَى فَلِذَلِكَ أَيْ فَلِصَلَاحِ الْحُكْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لِكَوْنِهِمَا مَقْصُودَيْنِ اسْتَقَامَ الْبَقَاءُ بِهِمَا أَيْ بَقَاءُ النَّصِّ بِبَقَائِهِمَا وَانْتَهَى الْآخَرُ أَيْ الْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْمَعْنَى كَالصَّلَاةِ مَعَ الصَّوْمِ لَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودًا جَازَ بَقَاءُ أَحَدِهِمَا مَعَ عَدَمِ الْآخَرِ وَبِهِ خُرِّجَ الْجَوَابُ عَمَّا قَالُوا الْمَقْصُودُ مِنْ النَّصِّ حُكْمُهُ فَلَا يَبْقَى النَّصُّ بِدُونِهِ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُتَعَلِّقَ بِالنَّظْمِ لَمَّا كَانَ مَقْصُودًا جَازَ أَنْ يَبْقَى النَّظْمُ بِبَقَائِهِ فَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ نَسْخُ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ فَتَمَسَّكُوا بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ أَيْضًا أَمَّا الْمَنْقُولُ فَمِثْلُ قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ قِرَاءَةً مَشْهُورَةً إلَى زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَكِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا النَّقْلُ الْمُتَوَاتِرُ الَّذِي يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ الْقُرْآنُ. وَمِثْلُ قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَمِثْلُ قِرَاءَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ لِأُمٍّ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ وَكَرِوَايَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إلَى آخِرِهِ ثُمَّ لَا يُظَنُّ بِهَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ اخْتَرَعُوا مَا رَوَوْا مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِمَّا يُتْلَى ثُمَّ انْتَسَخَتْ تِلَاوَتُهُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصَرْفِ اللَّهِ تَعَالَى الْقُلُوبَ عَنْ حِفْظِهَا إلَّا قُلُوبَ هَؤُلَاءِ لِيَبْقَى الْحُكْمُ بِنَقْلِهِمْ فَإِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مُوجِبٌ لِلْعَمَلِ بِهِ فَكَانَ بَقَاءُ الْحُكْمِ بَعْدَ نَسْخِ التِّلَاوَةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ لَا أَنْ يَكُونَ نَسْخُ التِّلَاوَةِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنْ قِيلَ لَا يُتَصَوَّرُ نَسْخُ التِّلَاوَةِ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَلَمْ يَثْبُتْ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ أَنَّ مَا رَوَوْا كَانَ قُرْآنًا ثُمَّ نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحُكْمَ الْبَاقِيَ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ وَلَوْ كَانَ حُكْمَ الْقُرْآنِ لَكَانَ قَطْعِيًّا قُلْنَا

وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ فَمِثْلُ الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ فَإِنَّهَا نَسْخٌ عِنْدَنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQالْقُرْآنِيَّةُ تَثْبُتُ بِالسَّمَاعِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِخْبَارِهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ الرُّوَاةِ وَغَيْرِهِمْ إلَّا أَنَّ بِصَرْفِ قُلُوبِ غَيْرِهِمْ عَنْهُ لَمْ يَثْبُتْ الْقُرْآنِيَّةُ فِي حَقِّنَا فَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنَّهُ كَانَ قُرْآنًا حَقِيقَةً غَايَةَ مَا فِيهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ كَوْنُهُ قُرْآنًا فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي بِالظَّنِّ وَهُوَ لَيْسَ بِقَادِحٍ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّ الثُّبُوتَ بِطَرِيقِ الْقَطْعِ مَشْرُوطَةٌ فِيمَا بَقِيَ بَيْنَ الْخَلْقِ مِنْ الْقُرْآنِ لَا فِيمَا نُسِخَ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَيَبْقَى الْحُكْمُ بِلَا نَظْمٍ أَيْ بِلَا نَظْمِ الْقُرْآنِ وَذَلِكَ أَيْ الْحُكْمُ بِلَا نَظْمٍ مَتْلُوٍّ صَحِيحٌ فِي أَجْنَاسِ الْوَحْيِ مِثْلُ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ بِالسُّنَّةِ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ بِالْإِلْهَامِ وَهُوَ مِنْ أَقْسَامِ الْوَحْيِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ يَجُوزُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً بِوَحْيٍ غَيْرِ مَتْلُوٍّ فَلَأَنْ يَجُوزَ بَقَاءُ الْحُكْمِ بَعْدَمَا انْتَسَخَ حُكْمُ التِّلَاوَةِ مِنْ الْوَحْيِ الْمَتْلُوِّ كَانَ أَوْلَى وَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُمْ: الْحُكْمُ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ فَلَا يَبْقَى بِدُونِهِ فَاسِدٌ لِأَنَّ بَقَاءَ الْحُكْمِ لَا يَكُونُ بِبَقَاءِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ فَانْتِسَاخُ التِّلَاوَةِ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْحُكْمِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا كَالْعِلْمِ مَعَ الْعَالَمِيَّةِ إذْ لَا مُغَايَرَةَ بَيْنَ قِيَامِ الْعِلْمِ بِالذَّاتِ وَبَيْنَ الْعَالَمِيَّةِ فَإِنَّ الْعَالَمِيَّةَ هِيَ قِيَامُ الْعِلْمِ بِالذَّاتِ وَإِذْ لَا تَغَايُرَ فَلَا تَلَازُمَ وَلَا يُقَالُ الْكَلَامُ فِي تَلَازُمِ الْعِلْمِ وَالْعَالَمِيَّةِ لَا فِي تَلَازُمِ الْعَالَمِيَّةِ وَقِيَامِ الْعِلْمِ بِالذَّاتِ لِأَنَّا نَقُولُ نَفْسُ الْعِلْمِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ قِيَامِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَالَمِيَّةَ تِلْكَ الذَّاتِ وَكَذَا لَا نُسَلِّمُ مُلَازَمَةَ الْمَفْهُومِ لِلْمَنْطُوقِ وَلَوْ سَلِمَ عَدَمُ الِانْفِكَاكِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَالَمِيَّةِ وَبَيْنَ الْمَفْهُومِ وَالْمَنْطُوقِ فَلَا نُسَلِّمُ التَّسَاوِيَ فِي الشَّبَهِ إذْ الْعِلْمُ وَالْمَنْطُوقُ عِلَّةُ الْعَالَمِيَّةِ وَالْمَفْهُومِ بِخِلَافِ التِّلَاوَةِ فَإِنَّهَا أَمَارَةُ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً لَا دَوَامًا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ الْأَمَارَةِ انْتِفَاءُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ وَلَا مِنْ انْتِفَاءِ مَدْلُولِهَا انْتِفَاؤُهَا قَوْلُهُ. (وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ) وَهُوَ نَسْخُ الْوَصْفِ فَمِثْلُ الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ إنْ كَانَتْ عِبَادَةً مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا كَزِيَادَةِ وُجُوبِ الصَّوْمِ أَوْ الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُوبِ الصَّلَوَاتِ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِحُكْمِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا زِيَادَةُ حُكْمٍ فِي الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ لِلْأَوَّلِ وَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّ زِيَادَةَ صَلَاةٍ سَادِسَةٍ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ نَسْخٌ فَقَدْ بَنَوْا ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا تُزِيلُ وُجُوبَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ الْوُسْطَى الْمَأْمُورِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] لِأَنَّ السَّادِسَةَ تُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنِهَا وُسْطَى وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّ كَوْنَهَا وُسْطَى أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ لَا شَرْعِيٌّ فَلَا يَكُونُ رَفْعُهُ نَسْخًا وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَنْهُ أَنَّ الشَّارِعَ لَوْ أَوْجَبَ أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ ثُمَّ أَوْجَبَ صَلَاةً خَامِسَةً أَوْ صَوْمًا أَوْ زَكَاةً أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ نَسْخًا لِإِخْرَاجِ الْعِبَادَةِ الْأَخِيرَةِ عَنْ كَوْنِهَا أَخِيرَةً وَإِخْرَاجِ الْعِبَادَاتِ السَّابِقَةِ عَنْ كَوْنِهَا أَرْبَعًا وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ إذَا وَرَدَ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ تَأَخُّرًا يُجَوِّزُ الْقَوْلَ بِالنَّسْخِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الزَّمَانِ كَزِيَادَةِ شَرْطِ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ الْكَفَّارَةِ وَزِيَادَةِ التَّغْرِيبِ عَلَى الْجَلْدِ فِي جَلْدِ الزَّانِي بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لَوْ وَرَدَتْ مُقَارِنَةً لِلْمَزِيدِ عَلَيْهِ لَا تَكُونُ نَسْخًا كَوُرُودِ رَدِّ الشَّهَادَةِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ مُقَارِنًا لِلْجَلْدِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ نَسْخًا لَهُ لِلْقُرْآنِ فَقَالَ عَامَّةُ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ مَشَايِخِنَا وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِ دِيَارِنَا إنَّهَا تَكُونُ نَسْخًا مَعْنًى وَإِنْ

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنَّهُ تَخْصِيصٌ وَلَيْسَ بِنَسْخٍ وَذَلِكَ زِيَادَةُ النَّفْيِ عَلَى الْجَلْدِ وَزِيَادَةُ قَيْدِ الْإِيمَانِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ قَالَ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ عَامَّةٌ فِي الْكَافِرَةِ وَالْمُؤْمِنَةِ فَاسْتَقَامَ فِيهَا الْخُصُوصُ وَإِنَّمَا النَّسْخُ تَبْدِيلٌ وَفِي قَيْدِ الْإِيمَانِ تَقْرِيرٌ لَا تَبْدِيلٌ، وَكَذَلِكَ فِي شَرْطِ النَّفْيِ تَقْرِيرٌ لِلْجَلْدِ لَا تَبْدِيلٌ فَلَمْ يَكُنْ نَسْخًا وَلَيْسَ الشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ الزِّيَادَةُ تَخْصِيصًا لَا مَحَالَةَ بَلْ لَيْسَ نَسْخًا بِكُلِّ حَالٍ، وَلَنَا أَنَّ النَّسْخَ بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ وَابْتِدَاءُ حُكْمٍ آخَرَ، وَالنَّصُّ الْمُطْلَقُ يُوجِبُ الْعَمَلَ بِإِطْلَاقِهِ، فَإِذَا صَارَ مُقَيَّدًا صَارَ شَيْئًا آخَرَ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ وَالْإِطْلَاقَ ضِدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا غَيْرَ الْأَوَّلِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْقَوْلِ بِانْتِهَاءِ الْأَوَّلِ وَابْتِدَاءِ الثَّانِي ـــــــــــــــــــــــــــــQكَانَ بَيَانًا صُورَةً وَهُوَ مُخْتَارُ الشَّيْخِ فِي الْكِتَابِ. وَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إنَّهَا لَا يَكُونُ نَسْخًا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَأَبُو هَاشِمٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الزِّيَادَةَ إنْ غَيَّرَتْ الْمَزِيدَ عَلَيْهِ تَغْيِيرًا شَرْعِيًّا بِحَيْثُ لَوْ فَعَلَهُ كَمَا قَدْ كَانَ يَفْعَلُهُ قَبْلَ الزِّيَادَةِ يَجِبُ اسْتِئْنَافُهُ كَانَ نَسْخًا كَزِيَادَةِ رَكْعَةٍ عَلَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ نَسْخًا كَزِيَادَةِ التَّغْرِيبِ فِي حَدِّ الزَّانِي وَزِيَادَةِ عِشْرِينَ عَلَى الثَّمَانِينَ فِي حَدِّ الْقَاذِفِ لَوْ فَرَضْنَا وُرُودَ الشَّرْعِ بِهَا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْغَزَالِيُّ وَعَبْدُ الْجَبَّارِ الْهَمْدَانِيُّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنُقِلَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ الزِّيَادَةَ إنْ كَانَتْ مُغَيِّرَةً حُكْمَ الْمَزِيدِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَانَتْ نَسْخًا كَزِيَادَةِ التَّغْرِيبِ عَلَى الْجَلْدِ إذَا وَرَدَتْ مُتَأَخِّرَةً وَكَزِيَادَةِ عِشْرِينَ عَلَى حَدِّ الْقَاذِفِ فَإِنَّهَا تُوجِبُ تَغَيُّرَ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ الْكُلِّ إلَى الْبَعْضِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُغَيِّرَةً لَا يَكُونُ نَسْخًا كَزِيَادَةِ وُجُوبِ سَتْرِ الرُّكْبَةِ بَعْدَ وُجُوبِ سَتْرِ الْفَخِذِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ نَسْخًا لِوُجُوبِ سَتْرِ كُلِّ الْفَخِذِ لِأَنَّ سَتْرَ الْفَخِذِ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ سَتْرِ بَعْضِ الرُّكْبَةِ فَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ مُغَيِّرَةً لِلْحُكْمِ الْأَوَّلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَلْ تَكُونُ مُقَرِّرَةً لَهُ، وَمُخْتَارُ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الزِّيَادَةَ إنْ رَفَعَتْ حُكْمًا شَرْعِيًّا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ فَهِيَ نَسْخٌ لِوُجُودِ حَقِيقَةِ النَّسْخِ عَلَى مَا مَرَّ فِي بَيَانِ حَدِّهِ وَمَا خَالَفَهُ بِأَنْ لَا يَكُونَ الْحُكْمُ الْمَرْفُوعُ شَرْعِيًّا أَوْ لَا تَكُونَ الزِّيَادَةُ مُتَأَخِّرَةً عَنْهُ أَوْ لَا يَكُونَ إثْبَاتُهَا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ لَيْسَ بِنَسْخٍ لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ فَيَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ كُلٍّ مِنْهَا. تَمَسَّكَ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِنَسْخٍ أَصْلًا بِوُجُوهٍ مِنْ الْكَلَامِ أَحَدُهَا أَنَّهُمْ بَنَوْا عَلَى أَصْلِهِمْ أَنَّ الْمُطْلَقَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَامِّ عِنْدَهُمْ وَأَنَّ الْعَامَّ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ قَطْعًا بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْبَعْضُ وَبِالْمُطْلَقِ الْمُقَيَّدُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ظَهَرَ بِوُرُودِ الزِّيَادَةِ الْمُقَيِّدَةِ لِلْمُطْلَقِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْعَامِّ الْبَعْضُ وَمِنْ الْمُطْلَقِ الْمُقَيَّدُ فَيَكُونُ تَخْصِيصًا وَبَيَانًا لَا نَسْخًا، وَذَلِكَ مِثْلُ الرَّقَبَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ فَإِنَّهَا اسْمٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الْمُؤْمِنَةَ وَالْكَافِرَةَ وَالزَّمِنَةَ وَغَيْرَهَا فَإِخْرَاجُ الْكَافِرَةِ مِنْهَا بِزِيَادَةِ قَيْدِ الْإِيمَانِ يَكُونُ تَخْصِيصًا لَا نَسْخًا، كَإِخْرَاجِ الزَّمِنَةِ وَالْعَمْيَاءِ مِنْهَا وَكَإِخْرَاجِ أَصْلِ الذِّمَّةِ مِنْ لَفْظِ الْمُشْرِكِينَ. وَالثَّانِي: أَنَّ حَقِيقَةَ النَّسْخِ لَمْ تُوجَدْ فِي الزِّيَادَةِ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ تَبْدِيلٌ وَرَفْعٌ لِلْحُكْمِ الْمَشْرُوعِ، وَالزِّيَادَةُ تَقْرِيرٌ لِلْحُكْمِ الْمَشْرُوعِ وَضَمُّ حُكْمٍ آخَرَ إلَيْهِ وَالتَّقْرِيرُ ضِدُّ الرَّفْعِ فَلَا يَكُونُ نَسْخًا أَلَا تَرَى أَنَّ إلْحَاقَ صِفَةِ الْإِيمَانِ بِالرَّقَبَةِ لَا يُخْرِجُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مُسْتَحِقَّةً لِلْإِعْتَاقِ فِي الْكَفَّارَةِ وَإِلْحَاقُ النَّفْيِ بِالْجَلْدِ لَا يُخْرِجُ الْجَلْدَ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا بَلْ هُوَ وَاجِبٌ بَعْدَهُ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ فَيَكُونُ وُجُوبُ التَّغْرِيبِ ضَمَّ حُكْمٍ إلَى حُكْمٍ وَذَلِكَ لَيْسَ بِنَسْخٍ كَوُجُوبِ عِبَادَةٍ بَعْدَ عِبَادَةٍ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ بِأَلْفٍ وَآخَرَانِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ حَتَّى قُضِيَ لَهُ بِالْمَالِ كُلِّهِ كَانَ مِقْدَارُ الْأَلْفِ مَقْضِيًّا بِهِ بِشَهَادَتِهِمْ جَمِيعًا وَإِلْحَاقُ الزِّيَادَةِ بِالْأَلْفِ بِشَهَادَةِ الْآخَرِ يُوجِبُ تَقْرِيرَ الْأَصْلِ فِي كَوْنِهِ مَشْهُودًا بِهِ لَا رَفْعَهُ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الزِّيَادَةَ لَا تَتَعَرَّضُ لِأَصْلِ الْحُكْمِ الْمَشْرُوعِ فَيَكُونُ فِيهَا مَعْنَى النَّسْخِ بِوَجْهٍ يُوَضِّحُهُ أَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِدَلِيلٍ مُتَأَخِّرٍ مُنَافٍ لِلْأَوَّلِ بِحَيْثُ لَوْ وَرَدَا مَعًا لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِتَنَافِيهِمَا وَهَاهُنَا

وَهَذَا لِأَنَّهُ مَتَى صَارَ مُقَيَّدًا صَارَ الْمُطْلَقُ بَعْضَهُ وَمَا لِلْبَعْضِ حُكْمُ الْوُجُودِ كَبَعْضِ الْعِلَّةِ وَبَعْضِ الْحَدِّ حَتَّى أَنَّ شَهَادَةَ الْقَاذِفِ لَا تَبْطُلُ بِبَعْضِ الْحَدِّ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَدٍّ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا نَسْخٌ بِمَنْزِلَةِ نَسْخِ جُمْلَتِهِ، فَأَمَّا التَّخْصِيصُ فَتَصَرُّفٌ فِي النَّظْمِ بِبَيَانِ أَنَّ بَعْضَ الْجُمْلَةِ غَيْرُ مُرَادٍ بِالنَّظْمِ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ النَّظْمُ ـــــــــــــــــــــــــــــQإنْ وَرَدَتْ الزِّيَادَةُ مُقَارِنَةً لِلْمَزِيدِ عَلَيْهِ وَجَبَ الْجَمْعُ وَلَا تَكُونُ مُنَافِيَةً لَهُ فَكَيْفَ يَثْبُتُ بِهَا النَّسْخُ إذَا وَرَدَتْ مُتَأَخِّرَةً بَلْ يَكُونُ بَيَانًا وَإِلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أُشِيرَ فِي الْكِتَابِ وَقَوْلُهُ: وَلَيْسَ الشَّرْطُ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ تَخْصِيصًا اعْتِذَارٌ عَنْ. قَوْلِهِ: إنَّهُ تَخْصِيصٌ وَلَيْسَ بِنَسْخٍ بِأَنْ يَكُونَ تَخْصِيصًا يَسْتَقِيمُ فِي تَقْيِيدِ الرَّقَبَةِ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ وَلَا يَسْتَقِيمُ فِي إيجَابِ النَّفْيِ فَقَالَ: لَيْسَ الشَّرْطُ أَيْ شَرْطُ الزِّيَادَةِ أَنْ تَكُونَ تَخْصِيصًا يَعْنِي لَا نَدَّعِي أَنَّهَا تَخْصِيصٌ لَا مَحَالَةَ بَلْ تَكُونُ تَخْصِيصًا وَقَدْ لَا تَكُونُ كَذَلِكَ وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَسْخٍ بِوَجْهٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ لَوْ كَانَ نَسْخًا لَكَانَ الْقِيَاسَ بَاطِلًا لِأَنَّ الْقِيَاسَ إلْحَاقُ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ وَزِيَادَةُ حُكْمٍ لَمْ يُوجِبْهُ النَّصُّ بِصِيغَتِهِ وَحِينَ كَانَ الْقِيَاسُ جَائِزًا وَدَلِيلًا شَرْعِيًّا عُلِمَ أَنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِنَسْخٍ وَالرَّابِعُ: أَنَّ النَّسْخَ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ هُوَ الْبَقَاءُ، وَالْقَوْلُ بِالتَّخْصِيصِ وَالتَّقْيِيدِ يُوجِبُ تَغَيُّرَ الْكَلَامِ مِنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ وَمِنْ الظَّاهِرِ إلَى خِلَافِهِ لَكِنَّهُ مُتَعَارَفٌ فِي اللُّغَةِ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ الْحَمْلِ عَلَى النَّسْخِ وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الزِّيَادَةَ نَسْخٌ مَعْنًى بِأَنَّ النَّسْخَ بَيَانُ انْتِهَاءِ حُكْمٍ بِابْتِدَاءِ حُكْمٍ آخَرَ وَهَذَا عِنْدَ مَنْ شَرَطَ الْبَدَلَ فِي النَّسْخِ فَأَمَّا عِنْدَ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ إلَى قَوْلِهِ بِابْتِدَاءِ حُكْمٍ آخَرَ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ فَيَكُونُ نَسْخًا. وَبَيَانُهُ أَنَّ الْإِطْلَاقَ مَعْنًى مَقْصُودٌ مِنْ الْكَلَامِ وَلَهُ حُكْمٌ مَعْلُومٌ وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِالْإِتْيَانِ بِمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى قَيْدٍ وَالتَّقْيِيدُ مَعْنًى آخَرُ مَقْصُودٌ عَلَى مُضَادَّةِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ إثْبَاتُ الْقَيْدِ وَالْإِطْلَاقَ رَفْعُهُ وَلَهُ حُكْمٌ مَعْلُومٌ وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِمُبَاشَرَةِ مَا وُجِدَ فِيهِ الْقَيْدُ دُونَ مَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ ذَلِكَ، فَإِذَا صَارَ الْمُطْلَقُ مُقَيَّدًا لَا بُدَّ مِنْ انْتِهَاءِ حُكْمِ الْإِطْلَاقِ بِثُبُوتِ حُكْمِ التَّقْيِيدِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لِلتَّنَافِي فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَسْتَلْزِمُ الْجَوَازَ بِدُونِ الْقَيْدِ، وَالثَّانِي يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْجَوَازِ بِدُونِهِ. وَإِذَا انْتَهَى الْحُكْمُ الْأَوَّلُ بِالثَّانِي كَانَ الثَّانِي نَاسِخًا لَهُ ضَرُورَةً وَقَوْلُهُ: وَهَذَا لِأَنَّهُ كَذَا تَوْضِيحٌ لِمَا ذُكِرَ مِنْ انْعِقَادِ الْأَوَّلِ بِالثَّانِي وَجَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَا نُسَلِّمُ انْتِهَاءَ الْأَوَّلِ بَلْ هُوَ بَاقٍ وَلَكِنْ ضُمَّ إلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ يَعْنِي إنَّمَا قُلْنَا بِانْتِهَاءِ الْأَوَّلِ بِالثَّانِي؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ مَتَى صَارَ مُقَيَّدًا صَارَ الْمُطْلَقُ بَعْضَهُ أَيْ صَارَ مَا كَانَ مُطْلَقًا قَبْلَ التَّقْيِيدِ بَعْضَ الْمُقَيَّدِ لِاشْتِمَالِ الْمُقَيَّدِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:. أَحَدُهُمَا: مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمُطْلَقُ وَالثَّانِي مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمُقَيَّدُ وَمَا لِلْبَعْضِ حُكْمُ الْوُجُودِ أَيْ لَيْسَ لِبَعْضِ مَا يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ عِبَادِهِ أَوْ عُقُوبَةً أَوْ كَفَّارَةً حُكْمُ وُجُودِ الْجُمْلَةِ بِوَجْهٍ وَلَا حُكْمُ وُجُودِهِ فِي نَفْسِهِ بِدُونِ انْضِمَامِ الْبَاقِي إلَيْهِ، فَإِنَّ الرَّكْعَةَ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ لَا يَكُونُ فَجْرًا وَلَا بَعْضَ الْفَجْرِ بِدُونِ انْضِمَامِ الْأُخْرَى إلَيْهَا، وَالرَّكْعَتَانِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ كَذَلِكَ وَكَذَا الْمُظَاهِرُ إذَا صَامَ شَهْرًا ثُمَّ عَجَزَ فَاطْعَمْ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا لَا يَكُونُ مُكَفِّرًا بِالْإِطْعَامِ وَلَا بِالصَّوْمِ كَبَعْضِ الْعِلَّةِ وَبَعْضِ الْحَدِّ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِبَعْضِ الْعِلَّةِ حُكْمُ الْوُجُودِ وَلِبَعْضِ الْحَدِّ حُكْمُ الْحَدِّ حَتَّى إنَّ بَعْضَ الْعِلَّةِ لَا يُوجِبُ شَيْئًا مِنْ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْعِلَّةِ وَبَعْضَ الْحَدِّ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْحَدِّ مِنْ طُهْرَةِ الْمَحْدُودِ وَخُرُوجِ الْإِمَامِ عَنْ عُهْدَةِ إقَامَةِ الْوَاجِبِ وَسُقُوطِ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ إذَا كَانَ الْحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْحَدِّ عِنْدَنَا وَبَعْضُ

وَالْقَيْدُ لَا يَتَنَاوَلُهُ الْإِطْلَاقُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِطْلَاقَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَدَمِ وَالتَّقْيِيدَ عِبَارَةٌ عَنْ الْوُجُودِ فَيَصِيرُ إثْبَاتُ نَصٍّ بِالْمُقَايَسَةِ أَوْ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلِأَنَّ الْمَخْصُوصَ إذَا لَمْ يَبْقَ مُرَادًا بَقِيَ الْبَاقِي ثَابِتًا بِذَلِكَ النَّظْمِ بِعَيْنِهِ فَلَمْ يَكُنْ نَسْخًا، وَإِذَا ثَبَتَ قَيْدُ الْإِيمَانِ لَمْ يَكُنْ الْمُؤْمِنَةُ ثَابِتَةً بِذَلِكَ النَّصِّ الْأَوَّلِ بِنَظْمِهِ بَلْ بِهَذَا الْقَيْدِ فَيَكُونُ لِلْإِثْبَاتِ ابْتِدَاءً وَدَلِيلُ الْخُصُوصِ لِلْإِخْرَاجِ لَا لِلْإِثْبَاتِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْحَدِّ لَيْسَ بِحَدٍّ. وَإِنَّمَا قَالَ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُتَعَلِّقٌ بِالْقَذْفِ الَّذِي هُوَ فِسْقٌ عِنْدَهُ عَلَى مَا عُرِفَ فَيَثْبُتُ أَنَّ الْحُكْمَ الْأَوْلَى قَدْ انْتَهَى وَإِنَّ هَذَا أَيْ التَّقْيِيدَ فِي الْمُطْلَقِ نَسْخٌ لِوَصْفِ الْإِطْلَاقِ بِمَنْزِلَةِ نَسْخِ جُمْلَتِهِ أَيْ بِمَنْزِلَةِ نَسْخِ أَصْلِهِ ثُمَّ بَيَّنَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ التَّقْيِيدَ لَيْسَ بِتَخْصِيصٍ عَلَى مَا زَعَمَ الْخَصْمُ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ التَّخْصِيصَ تَصَرُّفٌ فِي اللَّفْظِ بِبَيَانِ أَنَّ بَعْضَ مَا تَنَاوَلَهُ النَّظْمُ بِظَاهِرِهِ لَوْلَا دَلِيلُ التَّخْصِيصِ غَيْرُ مُرَادٍ بِهِ. وَالْقَيْدُ لَا يَتَنَاوَلُهُ الْإِطْلَاقُ أَيْ لَا دَلَالَةَ لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْقَيْدِ بِوَجْهٍ كَاسْمِ الرَّقَبَةِ لَا يَتَنَاوَلُ صِفَةَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ هُوَ الْمُتَعَرِّضُ لِلذَّاتِ دُونَ الصِّفَاتِ فَكَانَ التَّقْيِيدُ تَصَرُّفًا فِيمَا لَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ مُتَنَاوِلًا لَهُ فَلَا يَكُونُ تَخْصِيصًا أَلَا تَرَى تَوْضِيحَ قَوْلِهِ: وَالْقَيْدُ لَا يَتَنَاوَلُهُ الْإِطْلَاقُ يَعْنِي الْإِطْلَاقُ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَدَمِ أَيْ عَدَمِ الْقَيْدِ، وَالتَّقْيِيدُ عِبَارَةٌ عَنْ الْوُجُودِ أَيْ وُجُودُ الْقَيْدِ فَكَيْفَ يَتَنَاوَلُ الْإِطْلَاقُ التَّقْيِيدَ مَعَ تَنَافِيهِمَا، وَإِذَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ لَا يَكُونُ التَّقْيِيدُ تَخْصِيصًا بَلْ يَكُونُ إثْبَاتَ نَصٍّ نَاسِخٍ لِلْإِطْلَاقِ بِالْمُقَايَسَةِ أَوْ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ. وَبَيَانُهُ أَنَّ الْخَصْمَ لَمَّا أَثْبَتَ التَّقْيِيدَ فِي رَقَبَةِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَوْ الظِّهَارِ بِالْقِيَاسِ بِأَنْ قَالَ: تَحْرِيرٌ فِي تَكْفِيرٍ فَكَانَ الْإِيمَانُ مِنْ شَرْطِهِ قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ الْقَتْلِ أَوْ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ «مُعَاوِيَةَ بْنَ الْحَكَمِ جَاءَ بِجَارِيَةٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: عَلِيٌّ رَقَبَةٌ أَفَأُعْتِقُهَا فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْنَ اللَّهُ فَقَالَتْ: فِي السَّمَاءِ قَالَ مَنْ أَنَا قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» فَامْتِحَانُهَا بِالْإِيمَانِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِالْمُؤْمِنَةِ وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمُطْلَقِ الْمُقَيَّدُ كَانَ هَذَا مِنْهُ إثْبَاتَ نَصٍّ مُقَيِّدٍ لِلرَّقَبَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكَفَّارَةِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْكَفَّارَتَيْنِ {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] كَمَا قَالَ كَذَلِكَ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَإِثْبَاتُ مِثْلِ هَذَا النَّصِّ بِالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ. وَالثَّانِي أَنَّ الْعَامَّ إذَا خُصَّ مِنْهُ شَيْءٌ وَخَرَجَ الْمَخْصُوصُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ بَقِيَ الْحُكْمِ فِيمَا وَرَاءَهُ ثَابِتًا بِذَلِكَ النَّظْمِ بِعَيْنِهِ كَلَفْظِ الْمُشْرِكِينَ إذَا خُصَّ مِنْهُ أَهْلَ الذِّمَّةِ وَمَنْ بِمَعْنَاهُمْ بَقِيَ الْحُكْمُ فِي غَيْرِهِمْ ثَابِتًا بِذَلِكَ اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ حَتَّى وَجَبَ قَتْلُ مَنْ لَا أَمَانَ لَهُ لِأَنَّهُ مُشْرِكٌ فَلَمْ يَكُنْ أَيْ التَّخْصِيصُ نَسْخًا؛ لِأَنَّ النَّسْخَ بَيَانُ هَذَا الْحُكْمِ الثَّابِتِ، وَهَذَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا، وَإِذَا ثَبَتَ قَيْدُ إيمَانٍ فِي الرَّقَبَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَوْ الظِّهَارِ وَخَرَجَتْ الْكَافِرَةُ مِنْ الْجُمْلَةِ لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ فِي الْمُؤْمِنَةِ ثَابِتًا بِذَلِكَ النَّصِّ الْأَوَّلِ وَهُوَ الرَّقَبَةُ بِنَظْمِهِ أَيْ بِصِيغَتِهِ لِمَا قُلْنَا: إنَّهُ لَا دَلَالَةَ لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِوَجْهٍ بَلْ يَكُونُ ثَابِتًا بِهَذَا الْقَيْدِ فَيَكُونُ التَّقْيِيدُ لِإِثْبَاتِ ابْتِدَاءٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْمُطْلَقِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ وَدَلِيلُ الْخُصُوصِ لِإِخْرَاجِ مَا كَانَ ثَابِتًا لَوْلَا التَّخْصِيصُ لَا لِلْإِثْبَاتِ ابْتِدَاءً وَلَا تَشَابُهَ بَيْنَ إخْرَاجِ مَا كَانَ دَاخِلًا فِي الْجُمْلَةِ وَبَيْنَ إثْبَاتِ مَا لَيْسَ بِثَابِتٍ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ نَسْخٌ وَلَيْسَ بِتَخْصِيصٍ. وَعِبَارَةُ الْقَاضِي الْإِمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هِيَ أَنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِتَخْصِيصٍ، فَإِنَّ حُكْمَ الْعُمُومِ إذَا أُخِصَّ مِنْهُ بَقِيَ الْحُكْمُ فِيمَا لَمْ يُخَصَّ مِنْهُ بِالنَّصِّ الْعَامِّ نَفْسِهِ لَا بِشَيْءٍ آخَرَ فَلَمْ يَكُنْ نَسْخًا إذَا بَقِيَ مِنْ الْحُكْمِ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ عَلَى مَا كَانَ وَمَتَى زِيدَتْ لَمْ يَبْقَ لِلنَّصِّ الْأَوَّلِ حُكْمٌ، فَإِنَّ نَصَّ الزِّنَا جَعَلَ الْجَلْدَ حَدًّا وَلَا يَبْقَى حَدٌّ بِنَفْسِهِ بَعْدَ ثُبُوتِ النَّفْيِ حَدًّا مَعَهُ وَآيَةُ الْكَفَّارَةِ

وَلَا يُشْكِلُ أَنَّ النَّفْيَ إذَا أُلْحِقَ بِالْجَلْدِ لَمْ يَبْقَ الْجَلْدُ حَدًّا ـــــــــــــــــــــــــــــQجَعَلَتْ الرَّقَبَةَ بِدُونِ صِفَةِ الْإِيمَانِ كَفَّارَةً وَلَا تَبْقَى بَعْدَ قَيْدِ الْإِيمَانِ كَفَّارَةً؛ لِأَنَّ الْكَافِرَةَ تَخْرُجُ مِنْ الْجُمْلَةِ وَالْمُؤْمِنَةَ تَجُوزُ لَا لِأَنَّهَا رَقَبَةٌ عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بَلْ لِلْوَصْفِ الزَّائِدِ الَّذِي لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَبِدُونِهِ لَا يَكُونُ مَا يَبْقَى كَفَّارَةً وَلَا بَعْضُهَا فَالزِّيَادَةُ نَسْخٌ مَعْنًى. وَبَيَانُ صُورَةِ قَوْلِهِ (وَلَا يُشْكِلُ أَنَّ النَّفْيَ) كَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: النَّفْيُ تَقْرِيرٌ لِلْجَلْدِ فَلَمْ يَكُنْ نَسْخًا فَقَالَ نَحْنُ لَا نَدَّعِي أَنَّهُ نَسْخٌ لِنَفْسِ الْجَلْدِ بَلْ هُوَ نَسْخٌ لِكَوْنِهِ حَدًّا لِصَيْرُورَتِهِ بَعْضَ الْحَدِّ وَلَيْسَ لِبَعْضِ الْحَدِّ حُكْمُ الْحَدِّ وَذَكَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ فِي الْمُعْتَمَدِ أَنَّ النَّظَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَعْنِي فِي الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ يَتَعَلَّقُ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ تَقْتَضِي زَوَالَ شَيْءٍ لَا مَحَالَةَ، وَأَقَلُّهُ زَوَالُ عَدَمِهَا الَّذِي كَانَ ثَابِتًا وَثَانِيهَا أَنَّ الْمُزَالَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ إنْ كَانَ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَكَانَ الزِّيَادَةُ مُتَرَاخِيًا سُمِّيَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ نَسْخًا وَإِنْ كَانَ حُكْمًا عَقْلِيًّا وَهُوَ الْبَرَاءَةُ الْأَصْلِيَّةُ لَا تُسَمَّى نَسْخًا وَثَالِثُهَا أَنَّ الزَّائِلَ بِالزِّيَادَةِ إنْ كَانَ حُكْمَ الْعَقْلِ يُجَوِّزُ الزِّيَادَةَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ، وَإِنْ كَانَ الزَّائِلُ حُكْمًا شَرْعِيًّا، فَإِنْ كَانَ دَلِيلُ الزِّيَادَةِ بِحَيْثُ يُجَوِّزُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِدَلِيلِ الْحُكْمِ الزَّائِلِ جَازَ إثْبَاتُ الزِّيَادَةِ وَإِلَّا فَلَا وَخَرَّجَ عَلَيْهِ الْفُرُوعَ فَقَالَ: زِيَادَةُ التَّغْرِيبِ لَا تُزِيلُ إلَّا نَفْيَ وُجُوبِ مَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ وَهَذَا النَّفْيُ غَيْرُ مَعْلُومٍ بِالشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَا زَادَ عَلَيْهَا نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا بَلْ هُوَ مَعْلُومٌ بِالْفِعْلِ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَأَمَّا كَوْنُ الْمِائَةِ وَحْدَهَا مُجْزِئَةً وَكَوْنُهَا كَمَالَ الْحَدِّ وَحُصُولُ الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ لِلْإِمَامِ بِإِقَامَتِهَا فَكُلُّهَا تَابِعٌ لِنَفْيِ وُجُوبِ الزِّيَادَةِ وَلَمَّا كَانَ نَفْيُ الزِّيَادَةِ مَعْلُومًا بِالْعَقْلِ جَازَ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِيهِ كَمَا أَنَّ الْفُرُوضَ لَوْ كَانَتْ خَمْسَةً لَتَوَقَّفَ عَلَى أَدَائِهَا الْخُرُوجُ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ فَلَوْ زِيدَ فِيهَا شَيْءٌ آخَرُ لَتَوَقَّفَ الْخُرُوجُ عَنْ الْعُهْدَةِ عَلَى أَدَاءِ ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ فَكَذَا هَاهُنَا، فَأَمَّا لَوْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى الْمِائَةُ وَحْدَهَا كَمَالُ الْحَدِّ وَإِنَّهَا وَحْدَهَا مُجْزِئَةٌ فَلَا يُقْبَلُ فِي الزِّيَادَةِ هَاهُنَا خَبَرُ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ نَفْيَ الزِّيَادَةِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ كُلِّيَّةَ الْحَدِّ فِيهَا لَيْسَتْ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَلَا يَكُونُ رَفْعُهَا نَسْخًا وَأَجَابَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ عَنْهُ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ مَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالشَّرْعِ وَتَقْدِيرُ الْحَدِّ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالشَّرْعِ فَكَانَ شَرْعِيًّا وَلِأَنَّ الْحَدَّ مَتَى كَانَ وَاجِبًا ثُمَّ جَاءَ نَصُّ التَّغْرِيبِ مُتَرَاخِيًا فَيَكُونُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَاكِتًا عَنْ حُكْمِ التَّغْرِيبِ وَالسُّكُوتُ عِنْدَ الْحَاجَةِ بَيَانٌ فَصَارَ وُجُوبُ انْتِفَاءِ التَّغْرِيبِ حُكْمًا شَرْعِيًّا بِدَلَالَةِ السُّكُوتِ، فَإِذَا جَاءَ خَبَرُ الْوَاحِدِ بِإِيجَابِ التَّغْرِيبِ كَانَ نَسْخًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ وُجُوبُ انْتِفَاءِ التَّغْرِيبِ بِسُكُوتِهِ وَلَوْ أَمَرَ صَاحِبُ الشَّرْعِ نَصًّا فَقَالَ: اجْلِدُوا وَلَا تُغَرِّبُوا وَعُرِفَ ذَلِكَ قَطْعًا ثُمَّ جَاءَ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِي إيجَابِ التَّغْرِيبِ أَلَيْسَ يَكُونُ نَسْخًا فَكَذَا هَذَا وَلَكِنْ يَلْزَمُ عَلَيْهِ إيجَابُ عِبَادَةٍ بَعْدَ أُخْرَى، فَإِنَّ سُكُوتَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعْدَ إيجَابِ عِبَادَةٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ نَصَّ عَلَيْهَا ثُمَّ جَازَ إيجَابُ عِبَادَةٍ بَعْدَهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ بِالْإِجْمَاعِ فَيَجُوزُ هَاهُنَا أَيْضًا وَأَجَابَ غَيْرُهُ بِأَنَّ زِيَادَةَ النَّفْيِ نَسْخٌ لِتَحْرِيمِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمِائَةِ، فَإِنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مَعْلُومٌ ثُبُوتُهُ فِي الشَّرْعِ

وَلِهَذَا لَمْ نَجْعَلْ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ فَرْضًا؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ وَلَمْ نَجْعَلْ الطَّهَارَةَ فِي الطَّوَافِ شَرْطًا؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إنَّ الْقَلِيلَ مِنْ الْمُثَلَّثِ لَا يَحْرُمُ؛ لِأَنَّهُ بَعْضُ الْمُسْكِرِ وَلَيْسَ لِبَعْضِ الْعِلَّةِ حُكْمُ الْعِلَّةِ بِوَجْهٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِطَرِيقِهِ كَزِيَادَةِ رَكْعَةٍ عَلَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، فَإِنَّهَا نَسْخٌ لِتَحْرِيمِ الزِّيَادَةِ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ فِي الْفَرَائِضِ الْمُقَدَّرَةِ تَحْرِيمُ الزِّيَادَةِ عَلَى مَقَادِيرِهَا بِخِلَافِ زِيَادَةِ عِبَادَةٍ، فَإِنَّهَا لَا تَقْتَضِي تَغْيِيرَ حُكْمٍ مَقْصُودٍ وَذَكَرَ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ زِيَادَةَ التَّغْرِيبِ عَلَى الْجَلْدِ إنْ كَانَ نَسْخًا لَزِمَكُمْ أَنْ يَكُونَ إدْخَالُ نَبِيذِ التَّمْرِ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ نَسْخًا؛ لِآيَةِ الْوُضُوءُ وَأَنْ يَكُونَ وُجُوبُ الْوُضُوءِ بِالْقَهْقَهَةِ نَسْخًا لِمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْأَحْدَاثِ النَّاقِضَةِ لِلطَّهَارَةِ. وَإِذَا أَثْبَتُّمْ ذَلِكَ فَكَأَنَّكُمْ أَجَزْتُمْ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ بِأَخْبَارٍ ضِعَافٍ وَلَمْ تُجِيزُوا بِأَخْبَارٍ صِحَاحٍ قَالَ: وَمَنْ زَادَ الْخَلْوَةَ عَلَى آيَتَيْ الطَّلَاقِ قَبْلَ الْمَسِيسِ فِي إيجَابِ الْعِدَّةِ وَتَكْمِيلِ الْمَهْرِ بِخَبَرِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَعَ مُخَالَفَةِ غَيْرِهِ لَهُ وَامْتَنَعَ عَنْ الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ بِخَبَرٍ صَحِيحٍ كَانَ حَاكِمًا فِي دِينِ اللَّهِ بِرَأْيِهِ. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ النَّبِيذَ فِي حُكْمِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَشَارَ بِقَوْلِهِ تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ إلَى أَنَّ الْمَائِيَّةَ لَمْ تَزُلْ بِإِلْقَاءِ التَّمْرِ فِيهِ فَيَكُونُ دَاخِلًا فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] فَلَا يَكُونُ نَسْخًا وَأَمَّا جَعْلُ الْقَهْقَهَةِ مِنْ الْأَحْدَاثِ أَوْ مِنْ النَّوَاقِضِ فَنَظِيرُ إيجَابِ عِبَادَةٍ بَعْدَ عِبَادَةٍ فَلَا يَكُونُ مِنْ النَّسْخِ فِي شَيْءٍ وَأَمَّا تَكْمِيلُ الْمَهْرِ بِالْخَلْوَةِ فَثَبَتَ عِنْدَنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21] وَبِدَلَائِلَ أُخَرَ عُرِفَتْ فِي مَوْضِعِهَا فَلَا يَكُونُ مِنْ بَابِ الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ وَنَسْخُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ لَمْ يَجْعَلْ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ فَرْضًا؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ قَوْله تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] . وَعُمُومَهُ يَقْتَضِي الْجَوَازَ بِدُونِ الْفَاتِحَةِ فَكَانَ تَقْيِيدُ الْقِرَاءَةِ بِالْفَاتِحَةِ نَسْخًا لِذَلِكَ الْإِطْلَاقِ فَلَا يَجُوزُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ يَعْنِي وَلِأَنَّهُ لَيْسَ لِبَعْضِ الشَّيْءِ حُكْمُ جُمْلَتِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ شُرْبُ الْقَلِيلِ مِنْ الْمُثْلَثِ وَهُوَ مَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ بِالطَّبْخِ ثُمَّ صَارَ مُسْكِرًا لَا يَحْرُمُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ هُوَ السُّكْرُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ» وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِشُرْبِ الْكَثِيرِ مِنْهُ دُونَ الْقَلِيلِ فَكَانَ شُرْبُ الْقَلِيلِ مُبَاشَرَةً بَعْضَ عِلَّةِ السُّكْرِ وَلَيْسَ لِبَعْضِ الْعِلَّةِ حُكْمُ الْعِلَّةِ فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ التَّحْرِيمِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِوَايَةٍ يُكْرَهُ شُرْبُهُ وَفِي رِوَايَةٍ يَحْرُمُ شُرْبُهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» وَفِي رِوَايَةٍ «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» وَفِي رِوَايَةٍ «مَا أَسْكَرَ الْجَرَّةُ مِنْهُ فَالْجَرُّ مِنْهُ حَرَامٌ» وَلِأَنَّ الْمُثْلَثَ بَعْدَمَا اشْتَدَّ خَمْرٌ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ إنَّمَا سُمِّيَتْ بِهَذَا الِاسْمِ لِمُخَامَرَتِهَا الْعَقْلَ لَا لِكَوْنِهَا نِيًّا وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» وَلَوْ سَمَّاهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ لَكَانَ يَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ عَلَى إثْبَاتِ هَذَا الِاسْمِ، فَإِذَا سَمَّاهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ بِهِ وَهُوَ أَفْصَحُ الْعَرَبِ كَانَ أَوْلَى. وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْجَمْعَ إذَا أَمْكَنَ بَيْنَ الْآثَارِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِبَعْضِهَا وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْبَعْضِ وَقَدْ أَمْكَنَ هَاهُنَا بِأَنْ يُحْمَلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى الشُّرْبِ عَلَى قَصْدِ السُّكْرِ، فَإِنَّ شُرْبَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ عَلَى هَذَا الْقَصْدِ حَرَامٌ وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ

وَكَذَلِكَ الْجُنُبُ وَالْمُحْدِثُ لَا يَسْتَعْمِلَانِ الْمَاءَ الْقَلِيلَ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ بَعْضُ الْمُطَهِّرِ فَلَمْ يَكُنْ مُطَهِّرًا كَامِلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى الشُّرْبِ لِاسْتِمْرَاءِ الطَّعَامِ، فَإِنَّ الْقَلِيلَ بِهَذَا الْقَصْدِ حَرَامٌ وَبِدُونِهِ لَا يَحْرُمُ كَالْمَشْيِ عَلَى قَصْدِ الزِّنَا يَكُونُ حَرَامًا وَعَلَى قَصْدِ الطَّاعَةِ يَكُونُ طَاعَةً أَوْ بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ لِتَحْقِيقِ الزَّجْرِ كَتَحْرِيمِ الِانْتِبَاذِ فِي الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ ثُمَّ ثَبَتَ الرُّخْصَةُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي شُرْبِ الْقَلِيلِ مِنْهُ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» تَشْبِيهٌ بِالْخَمْرِ فِي حُكْمٍ خَاصٍّ وَهُوَ الْحَدُّ فَقَدْ بُعِثَ مُبَيِّنًا لِلْأَحْكَامِ دُونَ الْأَسَامِي وَالْمَعْقُولُ الَّذِي ذَكَرُوهُ قِيَاسٌ فِي اللُّغَةِ فَلَا يُقْبَلُ قَالَ أَبُو الْفَضْلِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي إشَارَاتِ الْأَسْرَارِ وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ وَقَعَ فِي أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَشَنَّعَ عَلَيْهِ فِي أَنَّهُ أَبَاحَ مِثْلَ هَذَا الشَّرَابِ وَلَمْ يَسْلُكْ فِيهِ طَرِيقَةَ الِاحْتِيَاطِ فَهَذَا مِنْ الْقَائِلِ سَفَهٌ وَقِلَّةُ دَيَّانَةٍ إذْ الْأَصْلُ أَنَّ تَحْرِيمَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَهُ لَا فُرْقَانَ بَيْنَهُمَا وَمَتَى لَمْ يَقُمْ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى حُرْمَتِهِ وَبَلَغَتْهُ الْآثَارُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَهُ وَيَسْقُونَ الْأَضْيَافَ وَيَجْلِدُونَ عَلَى السُّكْرِ مِنْهُ كَيْفَ يَسُوغُ لَهُ فِي الشَّرْعِ الْفَتْوَى بِالْحُرْمَةِ وَفِيهِ تَعَرُّضٌ لِحُدُودِ الدِّينِ مِنْ تَحْرِيمِ شَيْءٍ لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ وَأَمْرُ التَّقْوَى وَالْأَخْذُ بِالثِّقَةِ يَرْجِعُ إلَى الْعَمَلِ بِهِ دُونَ الْفَتْوَى الَّتِي هِيَ بَيَانُ حُدُودِ الدِّينِ وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ لَوْ أُعْطِيت الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا مَا شَرِبْتُهُ وَلَوْ أُعْطِيت الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا مَا أَفْتَيْت بِأَنَّهُ حَرَامٌ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَكَمَا أَنَّ شُرْبَ الْقَلِيلِ مِنْ الْمُثْلَثِ لَا يَحْرُمُ؛ لِأَنَّهُ بَعْضُ الْعِلَّةِ لَا يَجِبُ عَلَى الْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الْقَلِيلِ لِصِحَّةِ التَّيَمُّمِ وَصُورَتُهُ إذَا وَجَدَ الْمُحْدِثُ مَاءً لَا يَكْفِي الْوُضُوءَ أَوْ الْجُنُبُ مَاءً لَا يَكْفِي الِاغْتِسَالَ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ عِنْدَنَا وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] . ذَكَرَهُ مُنَكَّرًا فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ قَدْرٍ مِنْهُ فَيَكُونُ عَدَمُهُ شَرْطًا لِجَوَازِهِ فَمَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ لَا يَكُونُ التُّرَابُ طَهُورًا ثُمَّ اسْتِعْمَالُ هَذَا الْقَدْرِ مُفِيدٌ لِلطَّهَارَةِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اسْتَعْمَلَهُ ثُمَّ أَصَابَ مَاءً آخَرَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إعَادَةُ الْأَوَّلِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِي إذَا وَجَدَ مَا يَسْتُرُ بِهِ بَعْضَ عَوْرَتِهِ يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُهُ بِقَدْرِهِ وَكَذَا إذَا كَانَ بِهِ نَجَاسَةٌ حَقِيقَةً فَوَجَدَ مَا يُزِيلُ بَعْضَهَا يَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ كَذَا هَاهُنَا وَلَنَا أَنَّ عَدَمَ الطَّهُورِ قَدْ تَحَقَّقَ فَيُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْلَنَا طَهُورٌ لَا يُرَادُ بِهِ طَهَارَةً حِسِّيَّةً بَلْ الْمُرَادُ بِهِ طَهَارَةً حُكْمِيَّةً أَيْ مُحَلِّلَةً لِلصَّلَاةِ وَبِاسْتِعْمَالِ هَذَا الْمَاءِ لَا يَحْصُلُ شَيْءٌ مِنْ الْحِلِّ يَقِينًا بَلْ الْحِلُّ مَوْقُوفٌ عَلَى الْكَمَالِ، فَإِنَّهُ حُكْمٌ وَالْعِلَّةُ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ كُلِّهَا وَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ حُكْمِ الْعِلَّةِ كَبَعْضِ النِّصَابِ فِي حَقِّ الزَّكَاةِ وَبَعْضِ عِلَّةِ الرِّبَا فِي حَقِّ الرِّبَا وَهَذَا كَمَنْ وَجَدَ بَعْضَ الرَّقَبَةِ فِي بَابِ الْكَفَّارَاتِ دُونَ الْكَمَالِ حَلَّ لَهُ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ كَمَا لَوْ عَدِمَ الرَّقَبَةَ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ رَقَبَةٌ تَكُونُ كَفَّارَةً، وَهَذَا الْبَعْضُ لَا يَصْلُحُ كَفَّارَةً؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَجَزَّأُ كَحُكْمِ الطَّهَارَةِ هَاهُنَا وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] مَاءٌ طَهُورٌ أَيْ مُحَلِّلٌ لِلصَّلَاةِ بِاسْتِعْمَالِهِ فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ أَوْ رَافِعٌ لِلْحَدَثِ عَنْهَا، فَإِنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ لِبَيَانِ هَذِهِ الطَّهَارَةِ لَا غَيْرُ، وَالْمَاءُ الْمُحَلِّلُ مَاءٌ مُقَدَّرٌ لَا نَفْسُ الْمَاءِ. وَهَذَا بِخِلَافِ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ

[الفرق بين التخصيص والنسخ]

وَلِأَنَّ دَلِيلَ النَّسْخِ مَا لَوْ جَاءَ مُقَارِنًا كَانَ مُعَارَضًا وَالْقَيْدُ بِعَارِضِ الْإِطْلَاقِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ وُجُوهِ النَّسْخِ وَنَظِيرُ هَذَا الْأَصْلِ اخْتِلَافُ الشُّهُودِ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّمَنِ يَجْعَلُ الْأَوَّلَ بَعْضَهُ وَقَدْ صَارَ كُلًّا مِنْ وَجْهٍ فَصَارَا غَيْرَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْبَعْضِ حُكْمُ الْوُجُودِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQمِمَّا يُزَالُ فِيهِمَا أَمْرٌ حِسِّيٌّ عَوْرَةٌ ظَاهِرَةٌ وَنَجَاسَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وَإِذَا كَانَ حِسِّيًّا اُعْتُبِرَ الزَّوَالُ حِسِّيًّا لَا حُكْمًا وَالزَّوَالُ حِسًّا ثَابِتٌ بِقَدْرِ الْمَاءِ الَّذِي مَعَهُ، وَكَذَا زَوَالُ الِانْكِشَافِ ثَابِتٌ بِقَدْرِ الثَّوْبِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ. [الْفُرْق بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ] قَوْلُهُ (وَلِأَنَّ دَلِيلَ النَّسْخِ) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى أَنَّ الْقَيْدَ نَسْخٌ لِلْإِطْلَاقِ وَجَوَابٌ عَمَّا قَالَ بَعْضُهُمْ إنَّهُ لَيْسَ بِنَسْخٍ لَهُ بِدَلِيلِ إمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَا مُقَارِنَيْنِ بِأَنْ جُهِلَ التَّارِيخُ بَيْنَهُمَا فَقَالَ لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ بَلْ لَوْ جُهِلَ التَّارِيخُ بَيْنَهُمَا كَانَ الْقَيْدُ مُعَارِضًا لِلْإِطْلَاقِ وَمَانِعًا عَنْ الْعَمَلِ يَعْنِي إذًا كَانَا فِي الْحُكْمِ كَسَائِرِ دَلَائِلِ النَّسْخِ فَعِنْدَ مَعْرِفَةِ التَّارِيخِ يَكُونُ التَّقْيِيدُ نَسْخًا لِلْإِطْلَاقِ أَيْضًا. قَوْلُهُ (وَنَظِيرُ هَذَا الْأَصْلِ) وَهُوَ أَنَّ الزِّيَادَةَ نَسْخٌ مَعْنًى اخْتِلَافِ الشُّهُودِ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ جَوَابٌ عَنْ اعْتِبَارِهِمْ الزِّيَادَةَ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا مِنْ جِنْسِهَا لَا تُوجِبُ تَغْيِيرَ مَا كَانَ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ شَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى أَلْفٍ وَشَهَادَةِ الْآخَرِينَ عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَقَالَ الشَّيْخُ لَيْسَ ذَلِكَ الْفَرْعُ نَظِيرَ هَذَا الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ لَا تُوجِبُ تَغْيِيرًا بَلْ نَظِيرُهُ اخْتِلَافُ الشُّهُودِ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ بِأَنْ شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِالْبَيْعِ بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِالْبَيْعِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فِي إثْبَاتِ الْعَقْدِ بِأَلْفٍ، وَإِنْ اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّاهِدَانِ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّ الَّذِي شَهِدَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ قَدْ جَعَلَ الْأَلْفَ بَعْضَ الثَّمَنِ. وَانْعِقَادُ الْبَيْعِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى لَا بِبَعْضِهِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْمَعْنَى شَاهِدٌ بِعَقْدٍ آخَرَ وَالْأَلْفُ الْمَذْكُورُ فِي شَهَادَةِ الْآخَرِ كَانَ بِحَيْثُ يَثْبُتُ بِهِ الْعَقْدُ لَوْلَا وَصْلُ شَيْءٍ آخَرَ بِهِ بِمَنْزِلَةِ التَّخْيِيرِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَيَصِيرُ شَيْئًا آخَرَ إذَا اتَّصَلَ بِهِ التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ فَحُكْمُ الزِّيَادَةِ يَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَيْضًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ 1 - (فَصْلٌ) ذَكَرَ الْأُصُولِيُّونَ فُرُوقًا بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ وَنُقِلَ عَنْ الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ مَوْلَانَا حُمَيْدٍ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فُرُوقٌ أَيْضًا بَيْنَ التَّقْيِيدِ وَالنَّسْخِ وَالتَّعْلِيقِ وَغَيْرِهَا فَأَلْحَقْتهَا بِهَذَا الْبَابِ تَتْمِيمًا لِلْفَائِدَةِ ثُمَّ النَّسْخُ وَالتَّخْصِيصُ وَإِنْ اشْتَرَكَا مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيَانُ مَا لَمْ يَرِدْ بِاللَّفْظِ إلَّا أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ التَّخْصِيصَ يُبَيِّنُ أَنَّ الْعَامَّ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْمَخْصُوصَ وَالنَّسْخَ يُرْفَعُ بَعْدَ الثُّبُوتِ وَأَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَرِدُ إلَّا عَلَى الْعَامِّ وَالنَّسْخَ يَرِدُ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا عِنْدَنَا، وَالنَّسْخُ لَا يَكُونُ إلَّا مُتَرَاخِيًا وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَى أَنْ لَا يَبْقَى شَيْءٌ وَالنَّسْخُ يَجُوزُ كَذَلِكَ وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِأَدِلَّةِ السَّمْعِ وَغَيْرِهَا وَالنَّسْخُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالسَّمْعِ وَأَنَّهُ يَكُونُ مَعْلُومًا وَمَجْهُولًا وَالنَّسْخُ لَا يَكُونُ إلَّا مَعْلُومًا وَأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ الْمَخْصُوصُ مِنْهُ مِنْ كَوْنِهِ مَعْمُولًا بِهِ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ وَالنَّسْخُ يُخْرِجُ الْمَنْسُوخَ عَنْ ذَلِكَ وَأَنَّهُ يَرِدُ فِي الْأَخْبَارِ وَالْأَحْكَامِ وَالنَّسْخُ لَا يَرِدُ إلَّا فِي الْأَحْكَامِ وَأَنَّ دَلِيلَ الْخُصُوصِ يَقْبَلُ التَّعْلِيلَ وَدَلِيلَ النَّسْخِ لَا يَقْبَلُهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالتَّقْيِيدِ أَنَّ التَّقْيِيدَ تَصَرُّفٌ فِيمَا كَانَ الْأَوَّلُ سَاكِتًا عَنْهُ وَالتَّخْصِيصَ تَصَرُّفٌ فِيمَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ ظَاهِرًا وَأَنَّ التَّقْيِيدَ مُفْرَدٌ وَالتَّخْصِيصَ جُمْلَةٌ وَأَنَّ فِي التَّقْيِيدِ يُعْمَلُ بِالْقَيْدِ لَا بِالْأَصْلِ وَفِي التَّخْصِيصِ يُعْمَلُ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْمَخْصُوصُ مِنْهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ التَّخْصِيصَ مُسْتَبِدٌّ بِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ يَقْبَلُ التَّعْلِيلَ بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ وَأَنَّ لِدَلِيلِ الْخُصُوصِ حُكْمًا بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالنَّسْخِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ يَرِدُ

[باب أفعال النبي]

(بَابُ أَفْعَالِ النَّبِيِّ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: مُبَاحٌ، وَمُسْتَحَبٌّ، وَوَاجِبٌ، وَفَرْضٌ، وَفِيهَا قِسْمٌ آخَرُ وَهُوَ الزَّلَّةُ لَكِنْ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلِاقْتِدَاءِ وَلَا يَخْلُو عَنْ بَيَانِ مَقْرُونٍ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْفَاعِلِ أَوْ مِنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَزَّ {وَعَصَى آدَمُ} [طه: 121] وَقَالَ جَلَّ وَعَزَّ حِكَايَةً عَنْ مُوسَى مِنْ قَتْلِ الْقِبْطِيِّ {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص: 15] ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي الْأَخْبَارِ وَالْأَحْكَامِ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا مُتَّصِلًا بِخِلَافِ النَّسْخِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ كُلِّهَا وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّقْيِيدِ وَالنَّسْخِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَنَّ التَّقْيِيدَ مُفْرَدٌ وَالنَّسْخَ جُمْلَةٌ وَأَنَّهُ وَصْفٌ لِلْأَوَّلِ وَالنَّسْخُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مُقَارِنًا وَالنَّسْخُ لَا يَكُونُ إلَّا مُتَأَخِّرًا وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّعْلِيقِ وَالِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَعْمَلُ فِي جَمِيعِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بَلْ يَعْمَلُ فِي بَعْضِهِ بِالْإِبْطَالِ، وَالتَّعْلِيقَ يَعْمَلُ فِي جَمِيعِ الْمُعَلَّقِ بِالتَّغْيِيرِ وَأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَعَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ بَلْ هُوَ إيجَابٌ، وَالتَّعْلِيقُ يَمِينٌ وَأَنَّ التَّعْلِيقَ يَصِحُّ فِي الْإِيجَابِ دُونَ الْخَبَرِ وَالِاسْتِثْنَاءَ يَصِحُّ فِيهِمَا وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّعْلِيقِ وَالتَّقْيِيدِ أَنَّ التَّعْلِيقَ تَبْدِيلٌ مِنْ الْإِيجَابِ إلَى الْيَمِينِ وَالتَّقْيِيدَ لَيْسَ بِتَبْدِيلِ صُورَةٍ بَلْ زِيَادَةُ أَمْرٍ آخَرَ وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّقْيِيدِ وَالِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ التَّقْيِيدَ يُثْبِتُ أَمْرًا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا بِالْأَوَّلِ وَالِاسْتِثْنَاءَ يُخْرِجُ عَنْ الْأَوَّلِ مَا كَانَ ثَابِتًا صُورَةً وَأَنَّ التَّقْيِيدَ لَا يُخْرِجُ الْأَوَّلَ عَنْ حَقِيقَتِهِ صُورَةً، فَإِنَّ الرَّقَبَةَ بِزِيَادَةِ وَصْفٍ لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا رَقَبَةً بَلْ تَبْقَى رَقَبَةً لَكِنْ لَمْ يَبْقَ الْجَوَازُ بِهَا وَالِاسْتِثْنَاءَ قَدْ يُخْرِجُ الْأَوَّلَ عَنْ حَقِيقَتِهِ كَمَا لَوْ اُسْتُثْنِيَ مِنْ الْأَلْفِ شَيْءٌ لَا يَبْقَى أَلْفًا وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّسْخِ وَالتَّعْلِيقِ أَنَّ التَّعْلِيقَ لَا يَصِحُّ إلَّا مُقَارِنًا وَالنَّسْخُ عَلَى عَكْسِهِ. وَأَنَّ الشَّرْطَ مَعَ الْمَشْرُوطِ يَمِينٌ وَالنَّاسِخَ مَعَ الْمَنْسُوخِ لَيْسَ كَذَلِكَ وَأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِعَرْضِيَّةِ أَنْ يَصِيرَ إيجَابًا وَالْمَنْسُوخُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالتَّعْلِيقِ أَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَرِدُ إلَّا عَلَى الْعَامِّ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي التَّعْلِيقِ ذَلِكَ وَأَنَّ التَّخْصِيصَ لَهُ حُكْمٌ عَلَى ضِدِّ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ فِي التَّعْلِيقِ ذَلِكَ وَأَنَّ دَلِيلَ الْخُصُوصِ مُسْتَقِلٌّ وَالشَّرْطُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَأَنَّهُ يَقْبَلُ التَّعْلِيلَ وَالتَّعْلِيقَ لَا يَقْبَلُهُ وَقِسْ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ أَفْعَالِ النَّبِيِّ] [أَقْسَام أَفْعَالِ النَّبِيِّ] (بَابُ أَفْعَالِ النَّبِيِّ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) وَالْأَفْعَالُ عَلَى ضَرْبَيْنِ مَا لَيْسَ لَهُ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى وُجُودِهِ كَبَعْضِ أَفْعَالِ النَّائِمِ وَالسَّاهِي، فَإِنَّهُ لَا يُوصَفُ بِحُسْنٍ وَلَا قُبْحٍ، وَمَالَهُ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى وُجُودِهِ كَسَائِرِ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ وَإِنَّهَا تَنْقَسِمُ إلَى حَسَنٍ وَقَبِيحٍ وَالْحَسَنُ مِنْهَا يَنْقَسِمُ إلَى وَاجِبٍ وَمَنْدُوبٍ وَمُبَاحٍ وَالْقَبِيحُ مِنْهَا يَنْقَسِمُ إلَى مَحْظُورٍ وَمَكْرُوهٍ وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ سِوَى الْقِسْمِ الْأَخِيرِ يَصِحُّ وُقُوعُهَا عَنْ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَخِيرُ فَيَصِحُّ وُقُوعُهُ عَنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَنِي آدَمَ وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ وُقُوعُ مَا هُوَ مَعْصِيَةٌ مِنْهُ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -، فَإِنَّهُمْ عُصِمُوا عَنْ الْكَبَائِرِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَنْ الصَّغَائِرِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا خِلَافًا لِبَعْضِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يُعْصَمُوا عَنْ الزَّلَّاتِ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْأَفْعَالِ فِي هَذَا الْبَابِ الْأَفْعَالُ الَّتِي تَقَعُ عَنْ قَصْدٍ وَلَمْ تَكُنْ مِنْ قَبِيلِ الزَّلَّةِ؛ لِأَنَّ الْبَابَ لِبَيَانِ الِاقْتِدَاءِ وَمَا وَقَعَ بِطَرِيقِ الزَّلَّةِ أَوْ وَقَعَ لَا عَنْ قَصْدٍ مِثْلُ مَا يَحْصُلُ فِي حَالَةِ النَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ لَا يَصْلُحُ لِلِاقْتِدَاءِ. وَقَدْ يَقْتَرِنُ الْبَيَانُ بِالزَّلَّةِ لَا مَحَالَةَ إمَّا مِنْ جِهَةِ الْفَاعِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إخْبَارًا عَنْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حِينَ قَتَلَ الْقِبْطِيَّ {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص: 15] أَيْ هَيَّجَ غَضَبِي حَتَّى ضَرَبْته فَوَقَعَ قَتْلًا فَأَضَافَهُ إلَيْهِ تَسَبُّبًا وَإِنَّمَا جُعِلَ قَتْلُ الْكَافِرِ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ كَانَ قَبْلَ الْإِذْنِ فِي الْقَتْلِ وَقِيلَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَأْمَنًا فِيهِمْ وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْمَنِ قَتْلُ الْكَافِرِ الْحَرْبِيِّ وَهُوَ

وَالزَّلَّةُ اسْمٌ لِفِعْلٍ غَيْرِ مَقْصُودٍ فِي عَيْنِهِ لَكِنَّهُ اتَّصَلَ الْفَاعِلُ بِهِ عَنْ فِعْلِ مُبَاحٍ قَصَدَهُ فَزَلَّ بِشُغْلِهِ عَنْهُ إلَى مَا هُوَ حَرَامٌ وَلَمْ يَقْصِدْهُ أَصْلًا بِخِلَافِ الْمَعْصِيَةِ فَإِنَّهَا اسْمٌ لِفِعْلٍ حَرَامٍ مَقْصُودٍ بِعَيْنِهِ اخْتَلَفُوا فِي سَائِرِ أَفْعَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا لَيْسَ بِسَهْوٍ وَلَا طَبْعٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَمْ يَقْصِدْ قَتْلَهُ فَكَانَ زَلَّةً أَوْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ} [طه: 121] أَيْ بِأَكْلِ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا وَالْعِصْيَانُ تَرْكُ الْأَمْرِ أَوْ ارْتِكَابُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ عَمْدًا كَانَ ذَنْبًا وَإِنْ كَانَ خَطَأً كَانَ زَلَّةً فَغَوَى أَيْ فَعَلَ مَا لَمْ يَكُنْ فِعْلَهُ وَقِيلَ أَخْطَأَ حَيْثُ طَلَبَ الْمُلْكَ وَالْخُلْدَ بِأَكْلِ مَا نُهِيَ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ الْبَيَانُ مُقْتَرِنًا بِهِ لَا مَحَالَةَ عُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ صَالِحٍ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ ثُمَّ الشَّيْخُ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَسَّمَا أَفْعَالَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سِوَى الزَّلَّةِ وَمَا لَيْسَ عَنْ قَصْدٍ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ فَرْضٌ وَوَاجِبٌ وَمُسْتَحَبٌّ وَمُبَاحٌ وَالْقَاضِي الْإِمَامُ وَسَائِرُ الْأُصُولِيِّينَ قَسَّمُوهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ وَاجِبٌ مُسْتَحَبٌّ وَمُبَاحٌ وَأَرَادُوا بِالْوَاجِبِ الْفَرْضَ وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الِاصْطِلَاحِيَّ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ فِيهِ اضْطِرَابٌ وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ الْمُوجِبَةَ كُلَّهَا فِي حَقِّهِ قَطْعِيَّةٌ وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ تَقْسِيمُ أَفْعَالِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا كَمَا أُشِيرَ إلَيْهِ فِي آخِرِ الْبَابِ وَحِينَئِذٍ يَتَحَقَّقُ فِيهَا الْوَاجِبُ الِاصْطِلَاحِيُّ لِتَصَوُّرِ ثُبُوتِ وُجُوبِ بَعْضِ أَفْعَالِهِ فِي حَقِّنَا بِدَلِيلٍ مُضْطَرِبٍ قَوْلُهُ (وَالزَّلَّةُ اسْمٌ) لِكَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَمَّا الزَّلَّةُ، فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ فِيهَا الْقَصْدُ إلَى عَيْنِهَا وَلَكِنْ يُوجَدُ الْقَصْدُ إلَى أَصْلِ الْفِعْلِ. قَالَ وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ الزَّلَّةَ أُخِذَتْ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ زَلَّ الرَّجُلُ فِي الطِّينِ إذَا لَمْ يُوجَدْ الْقَصْدُ إلَى الْوُقُوعِ وَلَا إلَى الثَّبَاتِ بَعْدَ الْوُقُوعِ وَلَكِنْ وُجِدَ الْقَصْدُ إلَى الْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ فَعَرَفْنَا بِهَذَا أَنَّ الزَّلَّةَ مَا يَتَّصِلُ بِالْفَاعِلِ عِنْدَ فِعْلِهِ مَا لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ بِعَيْنِهِ وَلَكِنَّهُ زَلَّ فَاشْتَغَلَ بِهِ عَمَّا قَصَدَهُ بِعَيْنِهِ وَالْمَعْصِيَةُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَا يَقْصِدُهُ الْمُبَاشِرُ بِعَيْنِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَطْلَقَ الشَّرْعُ ذَلِكَ عَلَى الزَّلَّةِ مَجَازًا، فَإِنْ قِيلَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ الْحَرَامُ مَقْصُودًا فِي الزَّلَّةِ فَفِيمَ الْعِتَابُ قُلْنَا: إنَّ الزَّلَّةَ لَا تَخْلُو عَنْ نَوْعِ تَقْصِيرٍ يُمْكِنُ لِلْمُكَلَّفِ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ عِنْدَ التَّثَبُّتِ فَاسْتِحْقَاقُ الْعِتَابِ بِنَاءً عَلَيْهِ كَمَنْ زَلَّ فِي الطَّرِيقِ يَسْتَحِقُّ اللُّوَّمَ لِتَرْكِ التَّثَبُّتِ وَالتَّقْصِيرِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَيْسَ مَعْنَى الزَّلَّةِ أَنَّهُمْ زَلُّوا عَنْ الْحَقِّ إلَى الْبَاطِلِ وَعَنْ الطَّاعَةِ إلَى الْمَعْصِيَةِ وَلَكِنْ مَعْنَاهَا الزَّلَلُ عَنْ الْأَفْضَلِ إلَى الْفَاضِلِ وَالْأَصْوَبِ إلَى الصَّوَابِ وَكَانُوا يُعَاقَبُونَ لِجَلَالِ قَدْرِهِمْ وَمَنْزِلَتِهِمْ وَمَكَانَتِهِمْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلُهُ (بِشُغْلِهِ عَنْهُ) الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَالضَّمِيرُ الْأَوَّلُ لِلْفَاعِلِ وَالثَّانِي لِلْفِعْلِ الْمُبَاحِ أَيْ زَلَّ الْفَاعِلُ بِسَبَبِ شُغْلِهِ عَنْ الْفِعْلِ الْمُبَاحِ الَّذِي قَصَدَهُ أَيْ بِسَبَبِ غَفْلَتِهِ عَنْهُ إلَى مَا هُوَ حَرَامٌ لَمْ يُقْصَدْ أَصْلًا، فَإِنَّهَا أَيْ الْمَعْصِيَةُ اسْمٌ لِفِعْلٍ حَرَامٍ مَقْصُودٍ بِعَيْنِهِ أَيْ نَفْسُ الْفِعْلِ مَقْصُودٌ مَعَ الْعِلْمِ بِحُرْمَتِهِ دُونَ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَقْصُودَةً لَكَانَ كُفْرًا. قَوْلُهُ (وَاخْتَلَفُوا فِي سَائِرِ أَفْعَالِ النَّبِيِّ) أَيْ بَاقِي أَفْعَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الزَّلَّةِ مِمَّا لَيْسَ بِسَهْوٍ مِثْلُ تَسْلِيمِهِ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي الظُّهْرِ حَتَّى قَالَ ذُو الْيَدَيْنِ أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيت وَلَا طَبْعٍ مِثْلُ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا يَخْلُو ذُو الرُّوحِ عَنْهَا كَالتَّنَفُّسِ وَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَإِلَى أُمَّتِهِ بِلَا خِلَافٍ وَلَا بُدَّ لِتَلْخِيصِ مَحَلِّ النِّزَاعِ مِنْ قُيُودٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا الْفِعْلُ بَيَانًا لِمُجْمَلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ تَابِعًا لِلْمُبَيَّنِ فِي الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ وَأَنْ لَا يَكُونَ امْتِثَالًا وَتَنْفِيذًا لِأَمْرٍ سَابِقٌ، فَإِنَّهُ تَابِعٌ

لِأَنَّ الْبَشَرَ لَا يَخْلُو عَمَّا جُبِلَ عَلَيْهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ الْوَقْفُ فِيهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ يَلْزَمُنَا اتِّبَاعُهُ فِيهَا وَقَالَ الْكَرْخِيُّ نَعْتَقِدُ فِيهَا الْإِبَاحَةَ فَلَا يَثْبُتُ الْفَضْلُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَلَا يَثْبُتُ الْمُتَابَعَةُ مِنَّا إيَّاهُ فِيهَا إلَّا بِدَلِيلٍ وَقَالَ الْجَصَّاصُ مِثْلَ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِلْأَمْرِ أَيْضًا بِالِاتِّفَاقِ فِي الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَأَنْ لَا يَكُونَ مُخْتَصًّا بِهِ كَوُجُوبِ الضُّحَى وَالتَّهَجُّدِ وَالزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ فِي النِّكَاحِ وَصَفِيِّ الْمَغْنَمِ وَخُمُسِ الْخُمُسِ، فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّشْرِيكِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ بِالِاتِّفَاقِ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إمَّا أَنْ عُلِمَتْ صِفَةُ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي حَقِّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْ لَمْ تُعْلَمْ، فَإِنْ عُلِمَتْ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ أُمَّتَهُ مِثْلُهُ فِي كَوْنِهِمْ مُتَعَبَّدِينَ فِي التَّأَسِّي بِهِ بِإِتْيَانِ مِثْلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ وَذَهَبَ شِرْذِمَةٌ إلَى أَنَّ حُكْمَ مَا عُلِمَتْ صِفَتُهُ كَحُكْمِ مَا لَمْ تُعْلَمْ صِفَتُهُ هَكَذَا ذَكَرَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ. قَالَ أَبُو الْيُسْرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَأَمَّا إذَا قَامَ دَلِيلُ صِفَةِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَجَمِيعُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَأَبُو بَكْرٍ الدَّقَّاقُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَخْصُوصٌ بِهِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ إيَّاهُ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَالشَّافِعِيُّ وَجَمِيعُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ يَثْبُتُ لِأُمَّتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شَرِكَةٌ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْخُصُوصِ وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ صِفَتُهُ بِأَنْ كَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُعَامَلَاتِ فَفِعْلُهُ يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ بِالْإِجْمَاعِ كَذَا قَالَ أَبُو الْيُسْرِ وَإِنْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْقُرَبِ فَاخْتُلِفَ فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجِبُ الْوَقْفُ فِيهَا أَيْ فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَمْ تُعْرَفْ صِفَتُهَا فَلَا يُحْكَمُ فِيهَا بِوُجُوبٍ وَلَا نَدْبٍ وَلَا إبَاحَةٍ وَلَا يَثْبُتُ لَنَا فِيهَا مُتَابَعَةٌ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ يُبَيِّنُ الْوَصْفَ وَيُثْبِتُ الشَّرِكَةَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَامَّةُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كَالْغَزَالِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الدَّقَّاقِ وَأَبِي الْقَاسِمِ بْنِ كَجٍّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَلْزَمُنَا اتِّبَاعُهُ أَيْ اتِّبَاعُ النَّبِيِّ فِيهَا أَيْ فِي تِلْكَ الْأَفْعَالِ وَتَكُونُ وَاجِبَةً فِي حَقِّهِ وَفِي حَقِّهَا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَبِهِ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ شُرَيْحٍ وَالْإِصْطَخْرِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ وَالْحَنَابِلَةُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ يُعْتَقَدُ الْإِبَاحَةُ فِيهَا فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَثْبُتُ الْفَضْلُ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَهُوَ الْوُجُوبُ أَوْ النَّدْبُ فِي حَقِّهِ إلَّا بِدَلِيلٍ. قَوْلُهُ (وَلَا يَثْبُتُ الْمُتَابَعَةُ) ذُكِرَ فِي التَّقْوِيمِ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُعْتَقَدُ الْإِبَاحَةُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ بَيَانِ سَائِرِ الْأَوْصَافِ، وَإِذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى وَصْفٍ زَائِدٍ نَحْوُ الْوُجُوبِ مَثَلًا كَانَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَخْصُوصًا بِهِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْمُشَارَكَةِ وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ إنْ عُلِمَ صِفَةُ فِعْلِهِ أَنَّهُ فَعَلَهُ وَاجِبًا أَوْ نَدْبًا أَوْ مُبَاحًا، فَإِنَّهُ يُتَّبَعُ فِيهِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ فِيهِ صِفَةُ الْإِبَاحَةِ ثُمَّ لَا يَكُونُ الِاتِّبَاعُ فِيهِ ثَابِتًا إلَّا بِقِيَامِ الدَّلِيلِ. فَعَلَى مَا ذُكِرَ فِي التَّقْوِيمِ يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ وَلَا يَثْبُتُ الْمُتَابَعَةُ مِنَّا إيَّاهُ لَا يَصِحُّ مُتَابَعَتُنَا لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي أَفْعَالِهِ سَوَاءٌ عُلِمَتْ صِفَاتُهَا أَوْ لَمْ تُعْلَمْ إلَّا بِدَلِيلٍ يُوجِبُ الْمُشَارَكَةَ وَعَلَى مَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ يَكُونُ مَعْنَاهُ وَلَا يَثْبُتُ الْمُتَابَعَةُ فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي لَمْ يُعْرَفْ صِفَاتُهَا إلَّا بِدَلِيلٍ وَمَا ذَكَرَ أَبُو الْيُسْرِ يُؤَيِّدُ الْمَذْكُورَ فِي التَّقْوِيمِ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا يُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ قَوْلُهُ (وَقَالَ الْجَصَّاصُ) ذُكِرَ فِي التَّقْوِيمِ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ يُعْتَقَدُ الْإِبَاحَةُ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ الْبَيَانِ عَلَى صِفَةِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ثُمَّ يَلْزَمُنَا يَعْنِي بَعْدَ الْبَيَانِ عَلَى ذَلِكَ الْوَصْفِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ اخْتِصَاصِهِ بِهِ. وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَكَانَ الْجَصَّاصُ يَقُولُ بِقَوْلِ الْكَرْخِيِّ

إلَّا أَنَّهُ قَالَ عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ لَا نَتْرُكُ ذَلِكَ إلَّا بِدَلِيلٍ وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدَنَا أَمَّا الْوَاقِفُونَ فَقَدْ قَالُوا إنَّ صِفَةَ الْفِعْلِ إذَا كَانَتْ مُشْكِلَةً امْتَنَعَ الِاقْتِدَاءُ؛ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ فِي الْمُتَابَعَةِ فِي أَصْلِهِ وَوَصْفِهِ، فَإِذَا خَالَفَهُ فِي الْوَصْفِ لَمْ يَكُنْ مُقْتَدِيًا فَوَجَبَ الْوَقْفُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ. وَأَمَّا الْآخَرُونَ فَقَدْ احْتَجُّوا بِالنَّصِّ الْمُوجِبِ لِطَاعَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] وَالنُّصُوصُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَأَمَّا الْكَرْخِيُّ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ الْإِبَاحَةَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ هِيَ ثَابِتَةٌ بِيَقِينٍ فَلَمْ يَجُزْ إثْبَاتُ غَيْرِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَوَجَبَ إثْبَاتُ الْيَقِينِ كَمَنْ وَكَّلَ رَجُلًا بِمَالِهِ يَثْبُتُ الْحِفْظُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقِينٌ وَقَدْ وَجَدْنَا اخْتِصَاصَ الرَّسُولِ بِبَعْضِ مَا فَعَلَهُ وَوَجَدْنَا الِاشْتِرَاكَ أَيْضًا ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَّا أَنَّهُ يَقُولُ إذَا لَمْ يُعْلَمْ فَالِاتِّبَاعُ لَهُ فِي ذَلِكَ ثَابِتٌ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهِ مَخْصُوصًا فَمَا ذُكِرَ فِي التَّقْوِيمِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ الِاتِّبَاعُ عِنْدَهُ إذَا عُرِفَ وَصْفُ ذَلِكَ الْفِعْلِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَبُو الْيُسْرِ وَمَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاتِّبَاعَ ثَابِتٌ عِنْدَهُ بِكُلِّ حَالٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ فِي التَّقْوِيمِ مُوَافِقًا لِمَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَيْضًا يُعْرَفُ بِالتَّأَمُّلِ وَقَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ مَعْنَاهُ لَنَا جَوَازُ مُتَابَعَتِهِ فِيهِ لَا يُتْرَكُ ذَلِكَ أَيْ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ إلَّا بِدَلِيلٍ أَوْ مَعْنَاهُ وَجَبَ عَلَيْنَا اعْتِقَادُ إبَاحَتِهِ فِي حَقِّنَا لَا يُتْرَكُ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَالْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِ الْجَصَّاصِ وَبَيْنَ قَوْلِ الْفَرِيقِ الثَّانِي أَنَّ الِاتِّبَاعَ وَاجِبٌ عِنْدَهُمْ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ وَاجِبٌ فِي حَقِّهِ وَفِي حَقِّنَا، وَالِاتِّبَاعُ فِي قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ ثَابِتٌ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّهُ مُبَاحٌ فِي حَقِّهِ وَفِي حَقِّنَا كَمَا لَوْ ثَبَتَ بِالتَّنْصِيصِ إبَاحَةُ فِعْلٍ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَجْهُ قَوْلِ الْوَاقِفِيَّةِ أَنَّ الِاتِّبَاعَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي أَفْعَالِهِ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْمَصَالِحِ وَلَيْسَ يَجِبُ اشْتِرَاكُ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْمَصَالِحِ إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلٌ مَصْلَحَةً فِي حَقِّ شَخْصٍ وَلَا يَكُونُ مَصْلَحَةً فِي حَقِّ آخَرَ فَإِذًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مَصْلَحَةً فِي حَقِّ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَا يَكُونُ مَصْلَحَةً فِي حَقِّنَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ أُبِيحَ لَهُ مَا لَمْ يُبَحْ لَنَا مِنْ الْعَدَدِ فِي النِّكَاحِ وَالصَّفِيِّ مِنْ الْمَغْنَمِ وَغَيْرِهِمَا وَقَدْ أُوجِبَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُوجَبْ عَلَيْنَا مِثْلُ قِيَامِ اللَّيْلِ وَالضُّحَى وَنَحْوِهِمَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَلْزَمُنَا مُتَابَعَتُهُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الشَّرِكَةِ. لَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الِاتِّبَاعَ وَاجِبٌ فَذَلِكَ لَيْسَ بِمُمْكِنٍ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْمُتَابَعَةَ فِي الْفِعْلِ عِبَارَةٌ عَنْ إتْيَانِ مِثْلِ فِعْلِ الْغَيْرِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ فَعَلَهُ حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْفِعْلُ مِثْلَ الْأَوَّلِ كَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ أَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ بِأَنْ كَانَ أَحَدُهُمَا وَاجِبًا وَالْآخَرُ نَفْلًا أَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ فَعَلَهُ بِأَنْ صَلَّى رَجُلَانِ الظُّهْرَ مُنْفَرِدَيْنِ امْتِثَالًا لِلْأَمْرِ لَا يَكُونُ مُتَابَعَةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ الْمُتَابَعَةُ قَبْلَ مَعْرِفَةِ صِفَةِ الْفِعْلِ وَلَا وَجْهَ إلَى الْمُخَالَفَةِ أَيْضًا فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ وَصْفُ الْفِعْلِ بِالدَّلِيلِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا الْكَلَامُ عِنْدَ التَّأَمُّلِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَائِلَ إنْ كَانَ يَمْنَعُ الْأُمَّةَ مِنْ أَنْ يَفْعَلُوا مِثْلَ فِعْلِهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَيَلُومُهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ أَثْبَتَ صِفَةَ الْحَظْرِ فِي الِاتِّبَاعِ وَإِنْ كَانَ لَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَلُومُهُمْ عَلَيْهِ فَقَدْ أَثْبَتَ صِفَةَ الْإِبَاحَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْقَوْلَ بِالْوَقْفِ لَا يَتَحَقَّقُ فِي هَذَا الْفَصْلِ وَأَمَّا الْآخَرُونَ وَهُمْ الَّذِينَ قَالُوا بِوُجُوبِ الِاتِّبَاعِ فَقَدْ احْتَجُّوا بِالنُّصُوصِ الْمُوجِبَةِ لِطَاعَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى الْإِطْلَاقِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] أَيْ عَنْ شَأْنِ الرَّسُولِ وَسَمْتِهِ وَطَرِيقَتِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] أَيْ شَأْنُهُ وَطَرِيقَتُهُ وَمَذْهَبُهُ قَالُوا وَحَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى الشَّأْنِ هَاهُنَا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْقَوْلِ لِانْتِظَامِ الشَّأْنِ الْقَوْلَ وَالْفِعْلَ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ. وَالنُّصُوصُ فِيهَا أَيْ فِي طَاعَةِ الرَّسُولِ وَوُجُوبِ اتِّبَاعِهِ كَثِيرَةٌ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ، فَإِنَّ هَذِهِ النُّصُوصَ وَأَمْثَالَهَا تُوجِبُ اتِّبَاعَهُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَمِثْلُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَلَعَ نَعْلَهُ فِي الصَّلَاةِ فَخَلَعُوا اسْتِدْلَالًا بِفِعْلِهِ فَأَقَرَّهُمْ عَلَى اسْتِدْلَالِهِمْ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ بَلْ بَيَّنَ الْعِلَّةَ بِقَوْلِهِ أَخْبَرَنِي جَبْرَائِيلُ أَنَّ فِيهَا قَذَرًا وَأَمَرَهُمْ بِالْحَلْقِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فَتَرَبَّصُوا وَتَوَقَّفُوا فَلَمَّا فَعَلَ بِنَفْسِهِ تَبَادَرُوا إلَى الْحَلْقِ فَدَلَّ أَنَّ لِلْفِعْلِ مِنْ الْمَكَانَةِ فِي الْقُلُوبِ مَا لَيْسَ لِلْقَوْلِ

فَوَجَبَ الْوَقْفُ فِيهِ أَيْضًا، وَوَجْهُ قَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ الْإِتْبَاعَ أَصْلٌ؛ لِأَنَّهُ إمَامٌ يُقْتَدَى بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] فَوَجَبَ التَّمَسُّكُ بِالْأَصْلِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى غَيْرِهِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا تَقْسِيمُ السُّنَنِ فِي حَقِّنَا وَهَذَا ـــــــــــــــــــــــــــــQوَلَمَّا «قَبَّلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْحَجَرَ قَالَ: إنِّي أَعْلَمُ أَنَّك حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَكِنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ يُقَبِّلُك» فَرَأَى أَنَّ مُتَابَعَتَهُ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ فِعْلِهِ وَاجِبَةٌ وَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا يَرَوْنَ الْمُبَادَرَةَ إلَى مُتَابَعَةِ أَفْعَالِهِ مِثْلَ الْمُبَادَرَةِ إلَى مُتَابَعَةِ أَقْوَالِهِ وَأَمَّا الْكَرْخِيُّ فَقَدْ زَعَمَ أَيْ قَالَ بِأَنَّ الْإِبَاحَةَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ وَهِيَ الْوُجُوبُ وَالنَّدْبُ وَالْإِبَاحَةُ هِيَ الثَّابِتَةُ فِي حَقِّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِيَقِينٍ لِتَحَقُّقِهَا فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ فَوَجَبَ إثْبَاتُهَا وَلَمْ يَجُزْ إثْبَاتُ غَيْرِهَا إلَّا بِدَلِيلٍ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِيهِ ثُمَّ لِمَا ثَبَتَتْ الْإِبَاحَةُ بِهَذَا الطَّرِيقِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَوْ قَامَ دَلِيلٌ يُبَيِّنُ صِفَةَ الْفِعْلِ عَلَى مَا نَقَلَهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ لَمْ يَجُزْ مُتَابَعَةٌ فِيهِ إلَّا بِدَلِيلٍ؛ لِأَنَّا قَدْ وَجَدْنَا اخْتِصَاصَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِبَعْضِ الْأَفْعَالِ كَمَا ذَكَرْنَا وَوَجَدْنَا الِاشْتِرَاكَ أَيْ اشْتَرَاكَ النَّبِيِّ وَالْأُمَّةِ فِي الْبَعْضِ وَهَذَا الْفِعْلُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا اخْتَصَّ هُوَ بِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا هُوَ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِهِ فَعِنْدَ احْتِمَالِ الْوَجْهَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ يَجِبُ التَّوَقُّفُ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ لِتَحَقُّقِ الْمُعَارَضَةِ. قَوْلُهُ (وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخِرِ) بِكَسْرِ الْخَاءِ وَهُوَ الْجَصَّاصُ أَنَّ الِاتِّبَاعَ أَصْلٌ إلَى آخِرِهِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الصَّحِيحُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجَصَّاصُ؛ لِأَنَّ فِي قَوْله تَعَالَى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] تَنْصِيصٌ عَلَى جَوَازِ التَّأَسِّي بِهِ فِي أَفْعَالِهِ فَيَكُونُ هَذَا النَّصُّ مَعْمُولًا بِهِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ الْمَانِعُ وَهُوَ مَا يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ بِذَلِكَ وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب: 37] وَفِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّ ثُبُوتَ الْحِلِّ فِي حَقِّهِ مُطْلَقًا دَلِيلُ ثُبُوتِهِ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ نَصَّ عَلَى تَخْصِيصِهِ فِيمَا كَانَ هُوَ مَخْصُوصًا بِهِ بِقَوْلِهِ {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] وَهُوَ النِّكَاحُ بِغَيْرِ مَهْرٍ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُطْلَقُ فِعْلِهِ دَلِيلًا لِلْأُمَّةِ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى مِثْلِهِ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {خَالِصَةً لَكَ} [الأحزاب: 50] فَائِدَةً، فَإِنَّ الْخُصُوصِيَّةَ ثَابِتَةٌ بِدُونِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمَّا «قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ حِينَ صَلَّى عَلَى الْأَرْضِ فِي يَوْمٍ قَدْ مُطِرُوا فِي السَّفَرِ أَلَمْ يَكُنْ لَك فِي أُسْوَةٌ فَقَالَ أَنْتَ تَسْعَى فِي رَقَبَةٍ قَدْ فُكَّتْ وَأَنَا أَسْعَى فِي رَقَبَةٍ لَمْ يُعْرَفْ فِكَاكُهَا فَقَالَ: إنِّي مَعَ هَذَا أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ» وَلَمَّا «سَأَلَتْ امْرَأَةٌ أُمَّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ قَالَتْ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ فَقَالَتْ لَسْنَا كَرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ثُمَّ سَأَلَتْ أُمُّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ سُؤَالِهَا فَقَالَ هَلَّا أَخْبَرْتِهَا أَنِّي أُقَبِّلُ وَأَنَا صَائِمٌ فَقَالَتْ: قَدْ أَخْبَرْتُهَا بِذَلِكَ فَقَالَتْ كَذَا فَقَالَ: إنِّي أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِحُدُودِهِ» فَفِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّ اتِّبَاعَهُ فِيمَا يَثْبُتُ مِنْ أَفْعَالِهِ أَصْلٌ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهِ مَخْصُوصًا بِفِعْلٍ. وَهَذَا لِأَنَّ الرُّسُلَ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِهِمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] فَالْأَصْلُ فِي كُلِّ فِعْلٍ يَكُونُ مِنْهُمْ جَوَازُ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ إلَّا مَا يَثْبُتُ فِيهِ دَلِيلُ الْخُصُوصِيَّةِ بِاعْتِبَارِ أَحْوَالِهِمْ وَعُلُوِّ مَنَازِلِهِمْ، وَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ هَذَا فَفِي كُلِّ فِعْلٍ يَكُونُ مِنْهُمْ بِصِفَةِ الْخُصُوصِ يَجِبُ بَيَانُ الْخُصُوصِيَّةِ مُقَارِنًا بِهِ إذْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ مَاسَّةٌ عِنْدَ كُلِّ فِعْلٍ يَكُونُ حُكْمُهُ بِخِلَافِ هَذَا الْأَصْلِ وَالسُّكُوتُ عَنْ الْبَيَانِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ دَلِيلُ النَّفْيِ فَتَرْكُ بَيَانِ الْخُصُوصِيَّةِ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ

[باب تقسيم السنة في حق النبي]

(بَابُ تَقْسِيمِ السُّنَّةِ) فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْلَا جَهْلُ بَعْضِ النَّاسِ وَالطَّعْنُ بِالْبَاطِلِ فِي هَذَا الْبَابِ لَكَانَ الْأَوْلَى مِنَّا الْكَفَّ عَنْ تَقْسِيمِهِ فَإِنَّهُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْكَمَالِ الَّذِي لَا يُحِيطُ بِهِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَالْوَحْيُ نَوْعَانِ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ أَمَّا الظَّاهِرُ فَثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ. مَا ثَبَتَ بِلِسَانِ الْمَلَكِ فَوَقَعَ فِي سَمْعِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْمُبَلِّغِ بِآيَةٍ قَاطِعَةٍ وَهُوَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ بِلِسَانِ الرُّوحِ الْأَمِينِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالثَّانِي مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ وَوَضَحَ لَهُ بِإِشَارَةِ الْمَلَكِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ بِالْكَلَامِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعِي أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا أَلَا فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ» وَالثَّالِثُ مَا تَبَدَّى لِقَلْبِهِ بِلَا شُبْهَةٍ وَلَا مُزَاحِمٍ وَلَا مُعَارِضٍ بِإِلْهَامٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْ أَرَاهُ بِنُورٍ عِنْدَهُ كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَلَا {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] فَهَذَا وَحْيٌ ظَاهِرٌ كُلُّهُ مَقْرُونٌ بِمَا هُوَ ابْتِلَاءٌ أَعْنِي بِهِ الِابْتِلَاءَ فِي دَرْكِ حَقِّيَّتِهِ بِالتَّأَمُّلِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ طَرِيقُ الظُّهُورِ وَهَذَا مِنْ خَوَاصِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى كَانَ حُجَّةً بَالِغَةً وَإِنَّمَا يُكْرَمُ غَيْرُهُ بِشَيْءٍ مِنْهَا لِحَقِّهِ عَلَى مِثَالِ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ جُمْلَةِ الْأَفْعَالِ الَّتِي هُوَ فِيهَا قُدْوَةُ أُمَّتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي الْحَسَنِ الْأَصْلَ هُوَ الِاخْتِصَاصُ وَالِاشْتِرَاكُ لِعَارِضٍ وَعِنْدَ الْجَصَّاصِ الْأَصْلُ هُوَ الِاتِّبَاعُ وَالْخُصُوصِيَّةُ بِعَارِضٍ كَمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَلَامِ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ بِعَارِضٍ وَالْعَارِضُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ. قَوْلُهُ (وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا تَقْسِيمُ السُّنَنِ فِي حَقِّنَا) أَيْ هَذَا الْبَابُ لِتَقْسِيمِ أَفْعَالِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حَقِّنَا، فَإِنَّهُ لِبَيَانِ أَنْوَاعِ الِاتِّبَاعِ الَّذِي هُوَ رَاجِعٌ إلَيْنَا وَلِهَذَا أُدْخِلَ فِيهِ الْوَاجِبُ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ أَوْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَوَّلِ أَقْسَامِ السُّنَّةِ إلَى مَا انْتَهَيْنَا إلَيْهِ تَقْسِيمُ السُّنَّةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا وَهَذَا الْبَابُ الَّذِي نَشْرَعُ فِيهِ. [بَابُ تَقْسِيمِ السُّنَّةِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ] [أَنْوَاع الوحى] (بَابُ تَقْسِيمِ السُّنَّةِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : أَيْ بَيَانُ طَرِيقَتِهِ فِي إظْهَارِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ قَوْلُهُ (وَلَوْلَا جَهْلُ بَعْضِ النَّاسِ وَالطَّعْنُ بِالْبَاطِلِ) بِأَنْ قَالُوا: لَا يَجُوزُ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يَحْكُمَ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ وَأَنْ يَعْتَمِدَ فِي بَيَانِ الْأَحْكَامِ عَلَى غَيْرِ الْوَحْيِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُؤَدٍّ إلَى انْحِطَاطِ دَرَجَةِ النُّبُوَّةِ إلَى دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ لَكَانَ الْأَوْلَى مِنَّا الْكَفُّ عَنْ تَقْسِيمِهِ أَيْ تَقْسِيمِ سُنَّتِهِ وَطَرِيقَتِهِ فِي إظْهَارِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّعْظِيمِ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ دُونَهُ عَدَمُ اشْتِغَالِهِ بِمِثْلِ هَذَا التَّقْسِيمِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِالْكَمَالِ الَّذِي لَا يُحِيطُ بِهِ إلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَفِي الِاشْتِغَالِ بِالتَّقْسِيمِ نَوْعُ إحَاطَةٍ وَفِيهِ أَيْضًا نِسْبَةُ الْخَطَأِ فِي بَعْضِ الصُّدُورِ إلَيْهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَعَ عَدَمِ التَّقْرِيرِ عَلَيْهِ وَفِيهِ سُوءُ أَدَبٍ فَكَانَ الْأَوْلَى تَرْكَهُ وَلَكِنَّ طَعْنَ الْجَاهِلِ وَتَعَنُّتَهُ بِأَنْ قَالَ: كَيْفَ سَاغَ لَهُ الِاشْتِغَالُ بِالِاجْتِهَادِ مَعَ تَوَصُّلِهِ إلَى مَا يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ وَهُوَ الْوَحْيُ حَمَلَ عَلَى هَذَا التَّقْسِيمِ وَرَخَّصَ فِي الِاشْتِغَالِ بِهِ دَفْعًا لِعَنَتِهِمْ وَكَشْفًا عَنْ شُبْهَتِهِمْ قَوْلُهُ (وَالْوَحْيُ نَوْعَانِ) يَعْنِي أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ مُعْتَمِدًا عَلَى الْوَحْيِ فِي إظْهَارِ جَمِيعِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ إلَّا أَنَّ الْوَحْيَ نَوْعَانِ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ. وَقَسَّمَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ إلَى وَحْيٍ ظَاهِرٍ وَإِلَى وَحْيٍ بَاطِنٍ وَإِلَى مَا يُشْبِهُ الْوَحْيَ وَجَعَلَ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مِنْ الْوَحْيِ الظَّاهِرِ وَالْقِسْمَ الثَّالِثَ مِنْ الْوَحْيِ الْبَاطِنِ وَعَمَلُهُ بِالِاجْتِهَادِ مِمَّا يُشْبِهُ الْوَحْيَ وَلِكُلٍّ وَجْهٌ يُعْرَفُ بِالتَّأَمُّلِ وَبَعْدَ عِلْمِهِ أَيْ عِلْمِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْمُبَلِّغِ وَهُوَ الْمَلَكُ بِآيَةٍ قَاطِعَةٍ ظَهَرَتْ لَهُ تُوجِبُ عَلَى الْيَقِينِ بِأَنَّهُ مَلَكٌ يُبَلِّغُهُ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا ظَهَرَتْ لَنَا الْآيَاتُ الْقَاطِعَةُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ جَلَّ جَلَالُهُ وَالْمُعْجِزَاتُ الظَّاهِرَةُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وَهُوَ أَيْ مَا ثَبَتَ بِلِسَانِ الْمَلَكِ هُوَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ بِلِسَانِ الرُّوحِ الْأَمِينِ وَهُوَ جَبْرَائِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ - قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ - نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ - عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء: 40 - 194] . قَوْلُهُ (كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعِي) أَيْ أَوْقَعَ فِي قَلْبِي أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَيْ تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا بِكَمَالِهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ أَيْ اجْهَدُوا فِي طَلَبِ التَّقْوَى وَجِدُّوا فِي تَحْصِيلِهَا كُلَّ الْجُهْدِ وَالْجَدِّ، فَإِنَّهَا لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالسَّعْيِ لَا فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، فَإِنَّهُ لَا يَفُوتُ أَحَدًا بَلْ أَجْمِلُوا فِي طَلَبِهِ بِمُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ وَتَرْكِ الْمُبَالَغَةِ فِيهِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَحْظُورِ مُعْتَقِدِينَ أَنَّ الرِّزْقَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى

[جواز الاجتهاد للنبي]

وَأَمَّا الْوَحْيُ الْبَاطِنُ فَهُوَ مَا يُنَالُ بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ بِالتَّأَمُّلِ فِي الْأَحْكَامِ الْمَنْصُوصَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الْفَصْلِ فَأَبَى بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ حَظِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا لَهُ الْوَحْيُ الْخَالِصُ لَا غَيْرُ وَإِنَّمَا الرَّأْيُ وَالِاجْتِهَادُ لِأُمَّتِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ لَهُ الْعَمَلُ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ بِالْوَحْيِ وَالرَّأْيِ جَمِيعًا وَالْقَوْلُ الْأَصَحُّ عِنْدَنَا وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنَّ الرَّسُولَ مَأْمُورٌ بِانْتِظَارِ الْوَحْيِ فِيمَا لَمْ يُوحَ إلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الْوَاقِعَةِ ثُمَّ الْعَمَلُ بِالرَّأْيِ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الِانْتِظَارِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا مِنْ الْكَسْبِ بَلْ الِاشْتِغَالُ بِهِ لِلِامْتِثَالِ بِالْأَمْرِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاتَّقُوا اللَّهَ مُتَعَلِّقًا بِ أَجْمِلُوا أَيْ فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ بِالْإِجْمَالِ فِي طَلَبِهِ بِالِاحْتِرَازِ عَنْ الِاشْتِغَالِ بِالْأَسْبَابِ الْمَحْظُورَةِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَالثَّالِثُ مَا تَبَدَّى أَيْ ظَهَرَ لِقَلْبِهِ يَعْنِي مِنْ الْحَقِّ بِلَا شُبْهَةٍ وَقَوْلُهُ بِلَا مُعَارِضٍ وَلَا مُزَاحِمٍ تَأْكِيدٌ وَالْإِلْهَامُ مِنْ أَقْسَامِ الْوَحْيِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا} [الشورى: 51] أَيْ بِطَرِيقِ الْإِلْهَامِ وَهُوَ الْقَذْفُ فِي الْقَلْبِ كَمَا قَذَفَ فِي قَلْبِ أُمِّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَّا أَنَّ النَّبِيَّ لَمَّا عَرَفَ قَطْعًا أَنَّهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ ذَلِكَ حُجَّةً قَاطِعَةً فَهَذَا أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ وَحْيٌ ظَاهِرٌ كُلُّهُ لِظُهُورِهِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دَرْكِ حَقِّيَّتِهِ أَيْ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُبْتَلًى بِدَرْكِ حَقِّيَّتِهِ بِالتَّأَمُّلِ فِيمَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى حَقِّيَّتِهِ وَنَحْنُ مُبْتَلَوْنَ بَدْرِك حَقِّيَّتِهِ أَيْضًا بَعْدَ تَبْلِيغِهِ إلَيْنَا بِالتَّأَمُّلِ فِي الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ طَرِيقُ الظُّهُورِ بِأَنْ ظَهَرَ الْبَعْضُ بِتَبْلِيغِ الْمَلَكِ وَالْبَعْضُ بِإِشَارَتِهِ وَالْبَعْضُ بِإِظْهَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ وَهَذِهِ أَيْ هَذِهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ مِنْ خَوَاصِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا شَرِكَةَ لِلْأُمَّةِ فِيهَا إذْ الْوَحْيُ مِنْ خَصَائِصِهِ بِلَا شُبْهَةٍ وَكَذَا الْإِلْهَامُ الَّذِي لَا يَبْقَى مَعَهُ شُبْهَةٌ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَلَوْ وُجِدَ وَأُكْرِمَ غَيْرُهُ بِذَلِكَ كَانَ ثُبُوتُهُ لَهُ لِحَقِّ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَيْ لِحُرْمَتِهِ عَلَى مِثَالِ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، فَإِنَّهَا تَثْبُتُ لِحُرْمَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَإِتْمَامًا لِمُعْجِزَتِهِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَخْرُجُ بِثُبُوتِهِ لِلْغَيْرِ مِنْ خَصَائِصِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ لِلْغَيْرِ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَ الْإِلْهَامِ حُجَّةً مَخْصُوصٌ بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْوَحْيُ الْبَاطِنُ) فَكَذَا جُعِلَ الِاجْتِهَادُ مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَحْيًا بَاطِنًا بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ، فَإِنَّ تَقْدِيرَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى اجْتِهَادِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ حَقِيقَةً كَمَا إذَا ثَبَتَ بِالْوَحْيِ ابْتِدَاءً وَجَعَلَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ مُشَابِهًا لِلْوَحْيِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ أَيْضًا فَقَالَ: وَأَمَّا مَا يُشْبِهُ الْوَحْيَ فِي حَقِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ اسْتِنْبَاطُ الْأَحْكَامِ مِنْ النُّصُوصِ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ، فَإِنَّ مَا يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِهَذَا الطَّرِيقِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ بِالْوَحْيِ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ صَوَابًا لَا مَحَالَةَ، فَإِنَّهُ كَانَ لَا يُقَرُّ عَلَى الْخَطَأِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ حُجَّةً قَاطِعَةً، وَمِثْلُ هَذَا مِنْ الْأُمَّةِ لَا يُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ الْوَحْيِ؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ الْكَمَالِ مَا لَا يُحِيطُ بِهِ إلَّا اللَّهُ فَلَا شَكَّ أَنَّ غَيْرَهُ لَا يُسَاوِيه فِي إعْمَالِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ. [جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِلنَّبِيِّ] قَوْلُهُ (وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الْفَصْلِ) أَيْ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي كَوْنِهِ مُتَعَبَّدًا بِهِ فَأَبَى بَعْضُهُمْ وَهُمْ الْأَشْعَرِيَّةُ وَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ أَنْ يَكُونَ الِاجْتِهَادُ حَظَّ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالُوا: إنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَيْهِ عَقْلًا وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَابْنِهِ أَبِي هَاشِمٍ وَبَعْضِهِمْ قَالُوا: إنَّهُ جَائِزٌ عَلَيْهِ عَقْلًا وَلَكِنَّهُ لَمْ يُتَعَبَّدْ بِهِ شَرْعًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَهُمْ عَامَّةُ أَهْلِ الْأُصُولِ كَانَ لَهُ الْعَمَلُ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ بِالْوَحْيِ وَالرَّأْيِ جَمِيعًا أَيْ بِالْوَحْيِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَعَامَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا بِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ مُتَعَبَّدًا بِانْتِظَارِ الْوَحْيِ فِي حَادِثَةٍ لَيْسَ

احْتَجَّ الْأَوَّلُ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] وَلِأَنَّ الِاجْتِهَادَ مُحْتَمِلٌ لِلْخَطَأِ وَلَا يَصْلُحُ لِنَصْبِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَإِلَيْهِ نَصْبُهُ بِخِلَافِ أَمْرِ الْحُرُوبِ؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْعِبَادِ بِدَفْعٍ أَوْ جَرٍّ فَصَحَّ إثْبَاتُهُ بِالرَّأْيِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَمَرَ بِالِاعْتِبَارِ عَامًّا بِقَوْلِهِ {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وَهُوَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَحَقُّ النَّاسِ بِهَذَا الْوَصْفِ، وَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص: 24] جَوَابٌ بِالرَّأْيِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِيهَا وَحْيٌ، فَإِنْ لَمْ يَنْزِلْ الْوَحْيُ بَعْدَ الِانْتِظَارِ كَانَ ذَلِكَ دَلَالَةً لِلْإِذْنِ بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ قِيلَ: مُدَّةُ الِانْتِظَارِ مُقَدَّرَةٌ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَقِيلَ بِخَوْفِ فَوْتِ الْغَرَضِ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْحَوَادِثِ كَانْتِظَارِ الْوَلِيِّ الْأَقْرَبِ فِي النِّكَاحِ مُقَدَّرٌ بِفَوْتِ الْخَاطِبِ الْكُفْءِ. وَكُلُّهُمْ اتَّفَقُوا أَنَّ الْعَمَلَ يَجُوزُ لَهُ بِالرَّأْيِ فِي الْحُرُوبِ وَأُمُورِ الدُّنْيَا احْتَجَّ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَنْطِقُ إلَّا عَنْ وَحْيٍ وَالْحُكْمُ الصَّادِرُ عَنْ اجْتِهَادٍ لَا يَكُونُ وَحْيًا فَيَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ النَّفْيِ وَبِالْمَعْقُولِ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَنْصِبُ أَحْكَامَ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً وَالِاجْتِهَادُ دَلِيلٌ مُحْتَمِلٌ لِلْخَطَاءِ؛ لِأَنَّهُ رَأْيُ الْعِبَادِ فَلَا يَصْلُحُ لِنَصْبِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ نَصْبَ الشَّرْعِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ إلَيْهِ نَصْبُهُ لَا إلَى الْعِبَادِ بِخِلَافِ أُمُورِ الْحَرْبِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُعَامَلَاتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ إذْ الْمَطْلُوبُ إمَّا دَفْعُ ضُرٍّ عَنْهُمْ أَوْ جَرُّ نَفْعٍ إلَيْهِمْ مِمَّا يَقُومُ بِهِ مَصَالِحُهُمْ وَاسْتِعْمَالُ الرَّأْيِ جَائِزٌ فِي مِثْلِهِ لِحَاجَةِ الْعِبَادِ إلَى ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِمْ فَوْقَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَتَعَالَى عَمَّا يُوصَفُ بِهِ الْعِبَادُ مِنْ الْعَجْزِ وَالْحَاجَةِ فَمَا هُوَ حَقُّهُ لَا يَثْبُتُ ابْتِدَاءً إلَّا بِمَا يَكُونُ مُوجِبًا عِلْمَ الْيَقِينِ يُبَيِّنُهُ، أَنَّ الْمَصِيرَ إلَى الرَّأْيِ الَّذِي هُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْخَطَأِ إنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ حَتَّى لَمْ يَجُزْ الِاشْتِغَالُ بِهِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ وَالضَّرُورَةُ إنَّمَا تَثْبُتُ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ لَا فِي حَقِّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذْ الْوَحْيُ يَأْتِيه فِي كُلِّ وَقْتٍ فَكَانَ اشْتِغَالُهُ بِالرَّأْيِ كَاشْتِغَالِنَا بِهِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ وَهَذَا كَتَحَرِّي الْقِبْلَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ بَعُدَ عَنْ الْكَعْبَةِ وَلَمْ يَجِدْ سَبِيلًا إلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهَا لِلضَّرُورَةِ لَا لِمَنْ كَانَ مُشَاهِدًا لِلْكَعْبَةِ وَلَا لِمَنْ يَجِدُ سَبِيلًا إلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهَا لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ الْمُحْوِجَةِ إلَى التَّحَرِّي وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَهُ الِاجْتِهَادُ لَجَازَ مُخَالَفَتُهُ لِمُجْتَهِدٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْمُخَالَفَةِ مِنْ أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ وَبِالِاتِّفَاقِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَهُ فِي حُكْمِهِ فَعُلِمَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ غَيْرُ سَائِغٍ لَهُ لِانْتِفَاءِ مُوجِبِهِ فِي حَقِّهِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي أُمُورِ الْحَرْبِ لَمَّا جَازَ لَهُ الرَّأْيُ جَازَتْ مُخَالَفَتُهُ حَتَّى خَالَفَهُ السَّعْدَانِ فِي إعْطَاءِ شَطْرِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فِي النُّزُولِ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَلِأَنَّ الِاجْتِهَادَ مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَبَبٌ لِتَنْفِيرِ النَّاسِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ مَتَى سَمِعُوا أَنَّهُ يَحْكُمُ بِرَأْيِهِ فِي شَرِيعَتِهِ يَسْبِقُ إلَى أَوْهَامِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَتَأَمَّلُوا حَقَّ التَّأَمُّلِ أَنَّهُ يَنْصِبُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ سَبَبٌ لِلنُّفْرَةِ إذْ الطَّبْعُ يَنْفِرُ عَنْ اتِّبَاعِ مَيْلِهِ وَمَا يُؤَدِّي إلَى النُّفْرَةِ لَا يَكُونُ هُوَ مَأْذُونًا فِيهِ لِتَأْدِيَتِهِ إلَى الْمُنَاقَشَةِ لِكَوْنِهِ مَبْعُوثًا لِلدَّعْوَةِ إلَيْهِ لَا لِلنَّفْرَةِ عَنْهُ 1 - وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ الْعَامَّةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالدَّلِيلُ الْمَعْقُولُ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] أَمَرَ بِالِاعْتِبَارِ عَامًّا لِأُولِي الْبَصَائِرِ إذْ الْمُرَادُ مِنْ الْبَصَرِ الْبَصِيرَةُ وَكَأَنَّ قَوْلَهُ {يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] تَعْلِيلٌ لِلِاعْتِبَارِ أَيْ اعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ لِاتِّصَافِكُمْ بِالْبَصِيرَةِ وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَعْظَمُ النَّاسِ بَصِيرَةً وَأَصْفَاهُمْ سَرِيرَةً وَأَصْوَبُهُمْ اجْتِهَادًا وَأَحْسَنُهُمْ اسْتِنْبَاطًا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَحَقُّ النَّاسِ بِهَذَا الْوَصْفِ أَيْ بِوَصْفِ الْبَصِيرَةِ فَكَانَ أَوْلَى بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ وَبِالدُّخُولِ تَحْتَ هَذَا الْخِطَابِ وَقَالَ تَعَالَى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] رُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَحَاكَمَا إلَى دَاوُد وَعِنْدَهُ سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - أَحَدُهُمَا صَاحِبُ حَرْثٍ وَالْآخَرُ صَاحِبُ غَنَمٍ فَقَالَ صَاحِبُ الْحَرْثِ: إنَّ هَذَا انْفَلَتَتْ غَنَمُهُ لَيْلًا فَوَقَعَتْ فِي حَرْثِي فَلَمْ يُبْقِ مِنْهُ شَيْئًا

«وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْخَثْعَمِيَّةِ أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ فَقَضَيْته أَمَا كَانَ يُقْبَلُ مِنْك قَالَتْ نَعَمْ قَالَ دَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ» وَقَالَ لِعُمَرَ وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت بِمَاءٍ ثُمَّ مَجَجْته أَكَانَ تَضُرُّك وَهَذَا قِيَاسٌ ظَاهِرٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَقَالَ لَك رِقَابُ الْغَنَمِ فَقَالَ سُلَيْمَانُ أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ يَنْطَلِقُ أَصْحَابُ الْحَرْثِ بِالْغَنَمِ فَيُصِيبُونَ مِنْ أَلْبَانِهَا وَمَنَافِعِهَا وَيَقُومُ أَصْحَابُ الْغَنَمِ عَلَى الْحَرْثِ حَتَّى إذَا كَانَ لَيْلَةٌ نَفَشَتْ فِيهِ دَفَعَ هَؤُلَاءِ إلَى هَؤُلَاءِ غَنَمَهُمْ وَدَفَعَ هَؤُلَاءِ إلَى هَؤُلَاءِ حَرْثَهُمْ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْحَرْثَ كَانَ كَرْمًا قَدْ تَدَلَّتْ عَنَاقِيدُهُمْ فَقَالَ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْقَضَاءُ مَا قَضَيْت وَحَكَمَ بِذَلِكَ فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 78] إلَى أَنْ قَالَ {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] الْهَاءُ ضَمِيرُ الْحُكُومَةِ الْمَدْلُولُ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ وَذَلِكَ أَيْ ذَلِكَ التَّفْهِيمُ عِبَارَةٌ عَنْ الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ أَيْ الْمُرَادُ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى الْحُكْمِ بِطَرِيقِ الرَّأْيِ لَا بِطَرِيقِ الْوَحْيِ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ فَدَاوُد وَسُلَيْمَانُ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - فِيهِ سَوَاءٌ وَحَيْثُ خَصَّ سُلَيْمَانَ بِالْفَهْمِ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْفَهْمُ بِطَرِيقِ الرَّأْيِ وَلِأَنَّ الْقَضِيَّةَ الَّتِي قَضَاهَا دَاوُد أَوَّلًا لَوْ كَانَتْ بِالْوَحْيِ لَمَا وَسِعَ سُلَيْمَانَ خِلَافُهُ وَلَمَّا خَالَفَ وَمُدِحَ عَلَى ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ بِالرَّأْيِ. وَذَكَرَ فِي الْمَطْلَعِ قِيلَ: إنَّهُمَا اجْتَهَدَا جَمِيعًا فَجَاءَ اجْتِهَادُ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَشْبَهَ بِالصَّوَابِ فَرَجَعَ دَاوُد إلَى اجْتِهَادِ سُلَيْمَانَ قَبْلَ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا وَقَعَ بِالِاجْتِهَادِ لَا يَنْتَقِضُ بِاجْتِهَادٍ آخَرَ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى أَيْ وَمِثْلُ قَوْلِهِ {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] قَوْله تَعَالَى إخْبَارًا عَنْ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص: 24] جَوَابٌ مِنْ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالرَّأْيِ، فَإِنَّهُ كَانَ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ وَإِنَّمَا يَحْسُنُ ذَلِكَ إذَا فَوَّضَ الْحُكْمَ إلَى رَأْيِهِ وَعِبَارَةُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ أَوْضَحُ، فَإِنَّهُ قَالَ وَقَدْ حَكَمَ دَاوُد بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ حِينَ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ، فَإِنَّهُ قَالَ {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص: 24] وَهَذَا بَيَانٌ بِالْقِيَاسِ الظَّاهِرِ وَنُقِلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ تَمَسَّكَ فِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] ، فَإِنَّهُ بِعُمُومِهِ يَتَنَاوَلُ الْحُكْمَ بِالنَّصِّ وَبِالِاسْتِنْبَاطِ مِنْهُ إذْ الْحُكْمُ لِكُلٍّ مِنْهَا حُكْمٌ بِمَا أَرَاهُ اللَّهُ وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا أَرَاك مِمَّا أَنْزَلَهُ إلَيْك لِدَلَالَةِ السَّابِقِ عَلَيْهِ إذْ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ أَنَفَذْت إلَيْك ذَلِكَ الْكِتَابَ لِتَحْكُمَ بِغَيْرِهِ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي اُسْتُنْبِطَ مِنْ الْمُنَزَّلِ حُكْمٌ بِالْمُنَزَّلِ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ بِمَعْنَاهُ وَبِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْمُنَزَّلِ خِلَافُ الْأَصْلِ. وَقَرَّرَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ هَذَا التَّمَسُّكَ فَقَالَ الْإِرَاءَةُ هَاهُنَا لَا تَسْتَقِيمُ أَنْ تَكُونَ لِإِرَاءَةِ الْعَيْنِ لِاسْتِحَالَتِهَا فِي الْأَحْكَامِ وَلَا لِمَعْنَى الْإِعْلَامِ لِوُجُوبِ ذِكْرِ الْمَفْعُولِ الثَّالِثِ كَذِكْرِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى مَا أَرَاكَهُ اللَّهُ لِتَتِمَّ الصِّلَةُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَعْنَى لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ لَك رَأْيًا وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِرَاءَةَ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ لَا مَوْصُولَةٌ لِتَحْتَاجَ إلَى ضَمِيرٍ وَيَكُونُ قَدْ حُذِفَ الْمَفْعُولَانِ وَهُوَ جَائِزٌ. 1 - وَأَمَّا السُّنَّةُ فَحَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ، فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اعْتَبَرَ فِيهِ دَيْنَ اللَّهِ بِدَيْنِ الْعِبَادِ، وَذَلِكَ بَيَانٌ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ وَحَدِيثُ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ «عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَأَلَ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ: إنِّي أَتَيْت الْيَوْمَ أَمْرًا عَظِيمًا فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ فَقَالَ هَشَشْت إلَى امْرَأَتِي فَقَبَّلْتُهَا فَقَالَ: رَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت بِمَاءٍ ثُمَّ مَجَجْته أَكَانَ يَضُرُّك قَالَ لَا قَالَ فَفِيمَ إذًا» أَيْ فَفِيمَ تَشُكُّ إذْ قَدْ عَرَفْت ذَلِكَ فَاعْتَبَرَ فِيهِ مُقَدَّمَةَ الْجِمَاعِ وَهِيَ الْقُبْلَةُ بِمُقَدَّمَةِ الشُّرْبِ وَهِيَ الْمَضْمَضَةُ فِي عَدَمِ فَسَادِ الصَّوْمِ وَهُوَ قِيَاسٌ ظَاهِرٌ بَلْ عَدَمُ الْفَسَادِ فِي الْقُبْلَةِ

وَقِيلَ فِيمَنْ أَتَى أَهْلَهُ أَنَّهُ يُؤْجَرُ فَقِيلَ أَيُؤْجَرُ أَحَدُنَا فِي شَهْوَتِهِ فَقَالَ أَرَأَيْت لَوْ وَضَعَهُ فِي حَرَامٍ أَمَا كَانَ بِإِثْمٍ وَقَالَ فِي حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت بِمَاءٍ ثُمَّ مَجَجْته أَكُنْت شَارِبَهُ وَهَذَا قِيَاسٌ وَاضِحٌ فِي تَحْرِيمِ الْأَوْسَاخِ لِحُكْمِ الِاسْتِعْمَالِ وَلِأَنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْبَقُ النَّاسِ فِي الْعِلْمِ حَتَّى وُضِعَ لَهُ مَا خَفِيَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمُتَشَابِهِ فَمُحَالٌ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ مَعَانِي النَّصِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَظْهَرُ؛ لِأَنَّهَا تُهَيِّجُ الشَّهْوَةَ وَلَا تُسَكِّنُهَا وَالتَّمَضْمُضُ تُسَكِّنُ شَيْئًا مِنْ الْعَطَشِ وَقَالَ فِيمَنْ أَتَى أَهْلَهُ إنَّهُ يُؤْجَرُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ قَالَ أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهِ وِزْرٌ فَكَذَلِكَ إذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ» اعْتَبَرَ مُبَاشَرَةَ الْحَلَالِ فِي اسْتِحْقَاقِ مُوجِبِهَا وَهُوَ الْأَجْرُ بِضِدِّهَا وَهُوَ مُبَاشَرَةُ الْحَرَامِ فِي اسْتِحْقَاقِ مُوجِبِهَا وَهُوَ الْوِزْرُ، وَهَذَا بَيَانُ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ، وَالْمَجُّ رَمْيُ الْمَاءِ مِنْ الْفَمِ مِمَّا يُطْلَبُ. ، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعِلْمِ بِمَعَانِي النُّصُوصِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْبَقُ النَّاسِ فِي الْعِلْمِ أَيْ أَكْمَلُهُمْ فِيهِ حَتَّى كَانَ يَعْلَمُ بِالْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنْ الْأُمَّةِ بَعْدَهُ وَكَانَ عَالِمًا بِمَعْنَى النَّصِّ الَّذِي هُوَ مُتَعَلَّقُ الْحُكْمِ لَا مَحَالَةَ وَبَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ وَالْوُقُوفِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعْمَالِ لَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ حَجْرٍ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِعُلُوِّ دَرَجَتِهِ مَعَ اطِّلَاعِ غَيْرِهِ فِيهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْعَمَلُ بِالِاجْتِهَادِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْعِلْمِ لِلْعِبَادِ وَأَكْثَرُ صَوَابًا لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَشَقَّةِ وَجَازَ لِأُمَّتِهِ ذَلِكَ لَكَانَتْ الْأُمَّةُ أَفْضَلَ مِنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَلَا يُقَالُ: إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْصِبٌ أَعْلَى مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَسْتَدْرِكُ الْأَحْكَامَ وَحْيًا وَهُوَ أَعْلَى مِنْ الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْوَحْيُ وَإِنْ كَانَ أَعْلَى مِنْ الِاجْتِهَادِ لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ تَحَمُّلُ الْمَشَقَّةِ فِي اسْتِدْرَاكِ الْحُكْمِ فَلَا يَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُ جُودَةِ الْخَاطِرِ وَقُوَّةِ الْقَرِيحَةِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا نَوْعًا مُفْرَدًا مِنْ الْفَضِيلَةِ لَمْ يَخْلُ الرَّسُولُ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ ثُمَّ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ هَاهُنَا أَنَّ الْمُتَشَابِهَ وَضَحَ لِلرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دُونَ غَيْرِهِ وَهَكَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ يُتَرَاءَى مُخَالِفًا لِظَاهِرِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ إنْ وَجَبَ عَلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 7] كَمَا هُوَ مُخْتَارُ السَّلَفِ وَالشَّيْخَيْنِ فَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَعْلَمَهُ الرَّسُولُ كَمَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى قَوْله تَعَالَى {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] كَمَا هُوَ مُخْتَارُ الْخَلَفِ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَخْصُوصًا بِعِلْمِهِ بَلْ الرَّاسِخُونَ يَعْلَمُونَهُ أَيْضًا، فَأَمَّا أَنْ يَعْلَمَهُ الرَّسُولُ وَلَا يَعْلَمَهُ غَيْرُهُ فَمُخَالِفٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الْوُقُوفِ عَلَى إلَّا اللَّهُ وَمَا يَعْلَمُ أَحَدٌ تَأْوِيلَهُ بِدُونِ تَعَلُّمِ اللَّهِ إلَّا اللَّهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} [النمل: 65] أَيْ لَا يَعْلَمُ بِدُونِ تَعْلِيمِ اللَّهِ إلَّا اللَّهُ فَيَكُونُ إلَّا حِينَئِذٍ بِمَعْنَى غَيْرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مَخْصُوصًا بِالتَّعْلِيمِ بِدُونِ إذْنٍ بِالْبَيَانِ لِغَيْرِهِ فَيَبْقَى غَيْرَ مَعْلُومٍ مِنْ حَقِّ غَيْرِهِ وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي حَصْرَ الْعِلْمِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِذَا صَارَ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَالِمًا بِالْمُتَشَابِهَاتِ النَّازِلَةِ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالتَّعْلِيمِ لَا يَسْتَقِيمُ الْحَصْرُ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيمُ حَاصِلًا بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَلَا يَكُونُ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَالِمًا بِالْمُتَشَابِهِ قَبْلَ نُزُولِهَا فَيَسْتَقِيمُ الْحَصْرُ بِقَوْلِهِ {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 7] وَبِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى حَصْرِ الْعِلْمِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَلَى مَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ بِالتَّأْوِيلِ الَّذِي ذُكِرَ أَلَا تَرَى أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ تُوجِبُ حَصْرَ عِلْمِ الْغَيْبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ إنَّهُ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَعْلَمَ غَيْرُ اللَّهِ بِتَعْلِيمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى

وَإِذَا وَضَحَ لَهُ لَزِمَهُ الْعَمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ لِلْعَمَلِ شُرِعَتْ إلَّا أَنَّ اجْتِهَادَ غَيْرِهِ يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ وَاجْتِهَادَهُ لَا يَحْتَمِلُ وَلَا يَحْتَمِلُ الْقَرَارَ عَلَى الْخَطَأِ، فَإِذَا أَقَرَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُصِيبٌ بِيَقِينٍ وَذَلِكَ مِثْلُ مُشَاوَرَتِهِ فِي أُمُورِ الْحَرْبِ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُشَاوِرُ فِي سَائِرِ الْحَوَادِثِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ مِثْلُ مُشَاوَرَتِهِ فِي أُمُورِ الْحَرْبِ أَلَا يُرَى أَنَّهُ شَاوَرَهُمْ فِي أُسَارَى بَدْرٍ فَأَخَذَ بِرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ وَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الرَّأْيَ عِنْدَهُ فَمَنَّ عَلَيْهِمْ حَتَّى نَزَلَ قَوْلُهُ {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] ـــــــــــــــــــــــــــــQ {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26] {إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 27] فَكَذَا هَاهُنَا قَوْلُهُ (إلَّا أَنَّ اجْتِهَادَ غَيْرِهِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لِمَا جَازَ لَهُ الِاجْتِهَادُ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَنْزِلَتَهُ دُونَ النَّصِّ فَيَكُونَ ظَنِّيًّا كَاجْتِهَادِ غَيْرِهِ، وَيَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ إذْ ذَاكَ فَقَالَ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ اجْتِهَادَ غَيْرِهِ يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ وَالْقَرَارَ عَلَيْهِ وَاجْتِهَادُهُ لَا يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّا أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِ فِي الْأَحْكَامِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] وَبِغَيْرِهِ مِنْ الْآيَاتِ فَلَوْ جَازَ الْخَطَأُ عَلَيْهِ لَكُنَّا مَأْمُورِينَ بِاتِّبَاعِ الْخَطَأِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ وَإِنْ احْتَمَلَ الْخَطَأَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] . ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَخْطَأَ فِي الْإِذْنِ لَهُمْ وَبِدَلِيلِ نُزُولِ الْعِتَابِ فِي أُسَارَى بَدْرٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الدَّلَائِلِ فَلَا يُحْتَمَلُ الْقَرَارُ عَلَى الْخَطَأِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الْخَطَأِ، فَإِذَا أَقَرَّهُ اللَّهُ عَلَى اجْتِهَادِهِ دَلَّ أَنَّهُ كَانَ هُوَ الصَّوَابَ فَيُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ كَالنَّصِّ فَيَكُونُ مُخَالَفَتُهُ حَرَامًا وَكُفْرًا وَهُوَ نَظِيرُ الْإِلْهَامِ، فَإِنَّ إلْهَامَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ لَا يَسَعُ مُخَالَفَتُهُ بِوَجْهٍ، وَإِلْهَامُ غَيْرِهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. قَوْلُهُ (وَذَلِكَ مِثْلُ أُمُورِ الْحَرْبِ) أَيْ الِاجْتِهَادُ وَالْعَمَلُ بِالرَّأْيِ فِي سَائِرِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مِثْلُ الْعَمَلِ بِالرَّأْيِ فِي أُمُورِ الْحَرْبِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ إبْطَالُ الْفَرْقِ الَّذِي ادَّعَتْهُ الطَّائِفَةُ الْأُولَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ شَاوَرَهُمْ فِي أُسَارَى بَدْرٍ وَهُوَ مُشَاوَرَةٌ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ مُفَادَاةَ الْأَسِيرِ بِالْمَالِ جَوَازُهَا وَفَسَادُهَا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَمِمَّا هُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَعُلِمَ أَنَّهُ كَانَ يُشَاوِرُهُمْ فِي الْأَحْكَامِ كَمَا فِي الْحُرُوبِ. وَقِصَّةُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ وَهُزِمَ الْمُشْرِكُونَ وَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا وَأُسِرَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ اسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأُسَارَى فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَؤُلَاءِ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةُ وَالْإِخْوَانُ وَأَرَى أَنْ نَأْخُذَ مِنْهُمْ الْفِدْيَةَ فَيَكُونُ مَا أَخَذْنَا قُوَّةً لَنَا عَلَى الْكُفَّارِ وَعَسَى أَنْ يَهْدِيَهُمْ اللَّهُ فَيَكُونُوا لَنَا عَضُدًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ فَقَالَ: إنَّهُمْ كَذَّبُوكَ وَأَخْرَجُوك وَهَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَقَادَةُ الْمُشْرِكِينَ فَأَرَى أَنْ تُمَكِّنَنِي مِنْ فُلَانٍ قَرِيبٍ لِعُمَرَ وَعَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ وَحَمْزَةَ مِنْ الْعَبَّاسِ فَلْنَضْرِبَنَّ أَعْنَاقَهُمْ حَتَّى يَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قُلُوبِنَا مَوَدَّةٌ لِلْمُشْرِكِينَ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَثَلُكَ يَا أَبَا بَكْرٍ كَمَثَلِ إبْرَاهِيمَ حَيْثُ قَالَ {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36] وَمَثَلُك يَا عُمَرُ كَمَثَلِ نُوحٍ قَالَ {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] فَهَوِيَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قَالَ عُمَرُ فَأَخَذَ مِنْهُمْ الْفِدَاءَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] إلَى قَوْلِهِ {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] أَيْ لَوْلَا حُكْمٌ سَبَقَ إثْبَاتُهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُعَاقِبُ أَحَدًا بِخِطَاءٍ وَهَذَا خَطَأٌ فِي الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّهُمْ نَظَرُوا فِي أَنَّ اسْتِبْقَاءَهُمْ رُبَّمَا يُؤَدِّي إلَى إسْلَامِهِمْ وَتَدَيُّنِهِمْ وَخَفِيَ عَلَيْهِمْ أَنَّ قَتْلَهُمْ أَعَزُّ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْيَبُ لِمَنْ وَرَاءَهُمْ وَقِيلَ كِنَايَةٌ أَنَّهُ يَسْتَحِلُّ لَهُمْ الْفِدْيَةُ الَّتِي أَخَذُوهَا وَقِيلَ: إنَّ أَهْلَ بَدْرٍ مَغْفُورٌ لَهُمْ وَقِيلَ: إنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ قَوْمًا إلَّا بَعْدَ تَأْكِيدِ الْحُجَّةِ وَتَقْدِيمِ النَّهْيِ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ مِنْ الْفِدَاءِ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ نَزَلَ بِنَا عَذَابٌ مَا نَجَا إلَّا عُمَرَ» وَإِنَّمَا أَمْضَى ذَلِكَ الْحُكْمَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا أُمْضِيَ بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ نَزَلَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ وَظَهَرَ خَطَؤُهُ عُمِلَ بِهِ فِي

وَكَمَا شَاوَرَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ فِي بَذْلِ شَطْرِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ ثُمَّ أَخَذَ بِرَأْيِهِمَا وَكَذَلِكَ أَخَذَ بِرَأْيِ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ فِي النُّزُولِ عَلَى الْمَاءِ يَوْمَ بَدْرٍ وَكَانَ يَقْطَعُ الْأَمْرَ دُونَهُمْ فِيمَا أُوحِيَ إلَيْهِ فِي الْحَرْبِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحَوَادِثِ، وَالْجِهَادُ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَرْقٌ وَكَانَ يَقُولُ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قُولَا فَإِنِّي فِيمَا لَمْ يُوحَ إلَيَّ مِثْلُكُمَا وَلَا يَحِلُّ الْمَشُورَةُ مَعَ قِيَامِ الْوَحْيِ وَإِنَّمَا الشُّورَى فِي الْعَمَلِ بِالرَّأْيِ خَاصَّةً أَلَا يُرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْصُومٌ عَنْ الْقَرَارِ عَلَى الْخَطَأِ أَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يُعْصَمُ عَنْ الْقَرَارِ عَلَى الْخَطَأِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ اجْتِهَادُهُ وَرَأْيُهُ صَوَابًا بِلَا شُبْهَةٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُسْتَقْبَلِ لَا فِيمَا مَضَى كَذَا قِيلَ وَالْأَصَحُّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمْضَى ذَلِكَ الْحُكْمَ بَعْدَ الْعِتَابِ بِقَوْلِهِ {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا} [الأنفال: 69] . قَوْلُهُ (وَكَمَا شَاوَرَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ) رُوِيَ أَنَّ الْأَمْرَ لَمَّا ضَاقَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي حَرْبِ الْأَحْزَابِ وَكَانَ فِي الْكُفَّارِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ عَوْنًا لَهُمْ رَئِيسُهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيّ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى عُيَيْنَةَ وَقَالَ: ارْجِعْ أَنْتَ وَقَوْمُك وَلَك ثُلُثُ ثِمَارِ مَدِينَةٍ فَأَبَى إلَّا أَنْ يُعْطِيَهُ نِصْفَهَا فَاسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ الْأَنْصَارَ وَفِيهِمْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ أَحَدُهُمَا رَئِيسُ الْأَوْسِ وَالْآخَرُ رَئِيسُ الْخَزْرَجِ فَقَالَا هَذَا شَيْءٌ أَمَرَك اللَّهُ بِهِ أَمْ شَيْءٌ رَأَيْته مِنْ نَفْسِك فَقَالَ لَا بَلْ رَأْيٌ رَأَيْته مِنْ عِنْدِ نَفْسِي فَقَالَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُمْ لَمْ يَنَالُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ إلَّا بِشِرَاءٍ أَوْ بِقِرًى، فَإِذَا أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ لَا نُعْطِيهِمْ الدَّنِيَّةَ فَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ إلَّا السَّيْفُ وَفَرِحَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ إنِّي رَأَيْت الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ فَأَرَدْت أَنْ أَصْرِفَهُمْ عَنْكُمْ، فَإِذَا ثَبَتُّمْ فَذَاكَ ثُمَّ قَالَ لِلَّذِينَ جَاءُوا بِالصُّلْحِ اذْهَبُوا فَلَا نُعْطِيهِمْ إلَّا السَّيْفَ وَكَذَلِكَ أَخَذَ بِرَأْيِ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ النُّزُولَ فَقَالَ لَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ أَوْ حُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ إنْ كَانَ عَنْ وَحْيٍ فَسَمْعًا وَطَاعَةً وَإِنْ كَانَ عَنْ رَأْيٍ، فَإِنِّي أَرَى أَنْ نَنْزِلَ عَلَى الْمَاءِ وَنَأْخُذَ الْحِيَاضَ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَأْيِهِ وَنَزَلَ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ الْمُشَاوَرَةُ فِي أُسَارَى بَدْرٍ» نَظِيرٌ لِقَوْلِهِ شَاوَرَهُمْ فِي سَائِرِ الْحَوَادِثِ لِمَا قُلْنَا: إنَّهَا مُشَاوَرَةٌ فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَأَمَّا الْمُشَاوَرَةُ فِي بَذْلِ شَطْرِ الثِّمَارِ وَالنُّزُولِ عَلَى الْمَاءِ فَلَا يَصِحُّ نَظِيرًا لَهُ؛ لِأَنَّهَا مُشَاوَرَةٌ فِي أُمُورِ الْحَرْبِ فَلَا تَصْلُحُ إلْزَامًا عَلَى الْخَصْمِ وَظَنِّي أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ وَكَمَا شَاوَرَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَقَعَتْ زَائِدَةً مِنْ النَّاسِخِ فَبِدُونِهَا يَسْتَقِيمُ الْكَلَامُ فَيَصِيرُ الْمُشَاوَرَةُ فِي الْأُسَارَى نَظِيرًا لِقَوْلِهِ شَاوَرَ فِي سَائِرِ الْحَوَادِثِ وَمُشَاوَرَةُ السَّعْدَيْنِ وَالْأَخْذُ بِرَأْيِ أُسَيْدَ نَظِيرَيْنِ لِقَوْلِهِ: مِثْلُ مُشَاوِرَتِهِ فِي أُمُورِ الْحَرْبِ، وَكَذَا رَأَيْت مَكْتُوبًا بِدُونِ الْوَاوِ فِي نُسْخَةٍ عَتِيقَةٍ مَقْرُوءَةٍ عَلَى الْعَلَّامَةِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْكُرْدِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعَلَى مَنْ قَبْلَهُ أَيْضًا. (قَوْلُهُ وَقَدْ كَانَ يَقْطَعُ الْأَمْرَ) أَيْ الشَّأْنَ دُونَهُمْ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ مِثْلُ مُشَاوَرَتِهِ فِي أُمُورِ الْحَرْبِ يَعْنِي كَانَ يَحْكُمُ فِي أَمْرِ الْحَرْبِ الْأَمْرَ بِطَرِيقِ الْقَطْعِ إذَا كَانَ فِيهِ وَحْيٌ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ كَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْحَوَادِثِ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ أَبْطَلَ الْفَرْقَ الْمَذْكُورَ بِإِثْبَاتِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ أُمُورِ الْحَرْبِ وَسَائِرِ الْحَوَادِثِ فِيمَا إذَا وُجِدَ فِيهَا الْوَحْيُ وَفِيمَا إذَا لَمْ يُوجَدْ فَقَالَ إذَا لَمْ يُوجَدْ الْوَحْيُ كَانَ يَسْتَشِيرُهُمْ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَإِذَا وُجِدَ الْوَحْيُ يَقْطَعُ الْأَمْرَ فِيهَا مِنْ غَيْرِ مُشَاوَرَةٍ وَالْتِفَاتٍ إلَى رَأْيِ أَحَدٍ فَلَا مَعْنَى لِلْفَرْقِ الَّذِي ذَكَرُوهُ ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ إبْطَالُ الْفَرْقِ بِقَوْلِهِ وَالْجِهَادُ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَرْقٌ، فَإِذَا جَازَ لَهُ الْعَمَلُ بِالرَّأْيِ جَازَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ أَيْضًا وَقَوْلُهُ: وَلَا تَحِلُّ الْمَشُورَةُ مَعَ قِيَامِ الْوَحْيِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ شَاوَرَ فِي سَائِرِ الْحَوَادِثِ يَعْنِي وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ شَاوَرَهُمْ فِي سَائِرِ الْحَوَادِثِ وَلَا تَحِلُّ الْمَشُورَةُ مَعَ قِيَامِ الْوَحْيِ بَلْ تَحِلُّ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِالرَّأْيِ عُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا شَاوَرَهُمْ لِلْعَمَلِ بِالرَّأْيِ وَفِي قَوْلِهِ خَاصَّةً إشَارَةٌ إلَى دَفْعِ سُؤَالٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَشُورَةُ لِتَطْبِيبِ قُلُوبِهِمْ فَقَالَ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لِلْعَمَلِ بِالرَّأْيِ خَاصَّةً قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -

إلَّا أَنَّا اخْتَرْنَا تَقْدِيمَ انْتِظَارِ الْوَحْيِ؛ لِأَنَّهُ مُكَرَّمٌ بِالْوَحْيِ الَّذِي يُغْنِيه عَنْ الرَّأْيِ وَعَلَى ذَلِكَ غَالِبُ أَحْوَالِهِ فِي أَنْ لَا يُخْلَى عَنْ الْوَحْيِ، وَالرَّأْيُ ضَرُورِيٌّ فَوَجَبَ تَقْدِيمُ الطَّلَبِ لِاحْتِمَالِ الْإِصَابَةِ غَالِبًا كَالتَّيَمُّمِ لَا يَجُوزُ فِي مَوْضِعِ وُجُودِ الْمَاءِ غَالِبًا إلَّا بَعْدَ الطَّلَبِ وَصَارَ ذَلِكَ كَطَلَبِ النَّصِّ النَّازِلِ الْخَفِيِّ بَيْنَ النُّصُوصِ فِي حَقِّ سَائِرِ الْمُجْتَهِدِينَ وَمُدَّةِ الِانْتِظَارِ عَلَى مَا يَرْجُو نُزُولَهُ إلَّا أَنْ يَخَافَ الْفَوْتَ فِي الْحَادِثَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّمَا كَانَ يَسْتَشِيرُهُمْ فِي الْأَحْكَامِ لِتَطْيِيبِ قُلُوبِهِمْ؛ لِأَنَّ فِيمَا كَانَ الْوَحْيُ ظَاهِرًا مَعْلُومًا مَا كَانَ يَسْتَشِيرُهُمْ وَفِيمَا كَانَ يَسْتَشِيرُهُمْ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ يَعْمَلُ بِرَأْيِهِمْ أَوْ لَا يَعْمَلُ، فَإِنْ كَانَ لَا يَعْمَلُ بِرَأْيِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا لَهُمْ فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الِاسْتِشَارَةِ تَطْيِيبُ النَّفْسِ بَلْ هِيَ نَوْعٌ مِنْ الِاسْتِهْزَاءِ وَظَنُّ ذَلِكَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحَالٌ وَإِنْ كَانَ يَسْتَشِيرُهُمْ لِيَعْمَلَ بِرَأْيِهِمْ فَلَا شَكَّ أَنَّ رَأْيَهُ كَانَ أَقْوَى مِنْ رَأْيِهِمْ. وَإِذَا جَازَ لَهُ الْعَمَلُ بِرَأْيِهِمْ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ فَجَوَازُ ذَلِكَ بِرَأْيِهِ أَوْلَى وَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ يَسْتَشِيرُهُمْ لِتَقْرِيبِ الْوُجُوهِ وَتَخْمِيرِ الرَّأْيِ عَلَى مَا كَانَ يُقَالُ الْمَشُورَةُ تَلْقِيحُ الْعُقُولِ وَيُقَالُ مِنْ الْحَزْمِ أَنْ تَسْتَشِيرَ ذَا رَأْيٍ ثُمَّ تُطِيعَهُ ثُمَّ إنَّمَا أَعَادَ قَوْلَهُ إلَّا أَنَّ النَّبِيَّ مَعْصُومٌ عَنْ الْقَرَارِ عَلَى الْخَطَأِ وَبَعْدَهُ مَا ذَكَرَهُ مَرَّةً رَدًّا لِكَلَامِ الْخَصْمِ وَجَوَابًا عَنْ قَوْلِهِمْ الِاجْتِهَادُ يَحْتَمِلُ لِلْخَطَأِ فَلَا يَصْلُحُ لِنَصْبِ الشَّرْعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قُلْنَا: إنَّهُ مَعْصُومٌ عَنْ الْقَرَارِ عَلَى الْخَطَأِ كَانَ اجْتِهَادُهُ وَرَأْيُهُ بَعْدَمَا قُرِّرَ عَلَيْهِ صَوَابًا بِلَا شُبْهَةٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَصْدُرَ الْحُكْمُ عَنْ الِاجْتِهَادِ ثُمَّ يَنْضَمَّ إلَيْهِ مَا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِالصِّحَّةِ وَيَنْضَمَّ تَحْرِيمُ الْمُخَالَفَةِ كَالْإِجْمَاعِ الصَّادِرِ عَنْ الِاجْتِهَادِ وَقَوْلُهُ إلَّا أَنَّا اخْتَرْنَا تَقْدِيمَ انْتِظَارِ الْوَحْيِ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْقَوْلِ الثَّانِي وَبَيَانٌ لِلْمَذْهَبِ الْمُخْتَارِ وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْحَقَّ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ وَاحِدًا فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِتَعَدُّدِ الْحُقُوقِ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْخَطَأُ فِي اجْتِهَادِهِ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ اجْتِهَادَ غَيْرِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ فَاجْتِهَادُهُ أَوْلَى فَوَجَبَ تَقْدِيمُ الطَّلَبِ أَيْ طَلَبُ النَّصِّ بِانْتِظَارِ الْوَحْيِ لِاحْتِمَالِ الْإِصَابَةِ أَيْ إصَابَةُ النَّصِّ بِنُزُولِ الْوَحْيِ وَصَارَ ذَلِكَ أَيْ انْتِظَارُ الْوَحْيِ فِي حَقِّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَطَلَبِ النَّصِّ النَّازِلِ الْخَفِيِّ بَيْنَ النُّصُوصِ فِي حَقِّ سَائِرِ الْمُجْتَهِدِينَ يَعْنِي النَّصَّ الَّذِي اخْتَفَى بَيْنَ النُّصُوصِ وَلَمْ يَصِلْ إلَى الْمُجْتَهِدِ إذْ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الِاجْتِهَادُ قَبْلَ طَلَبِهِ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ وَكَانَ تَرَبُّصُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِنُزُولِ الْوَحْيِ بِمَنْزِلَةِ تَرَبُّصِنَا لِلتَّأَمُّلِ فِي الْمُنْزَلِ وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَكَانَ الِانْتِظَارُ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ التَّأَمُّلِ فِي النَّصِّ الْمُؤَوَّلِ وَالْخَفِيِّ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَمُدَّةُ الِانْتِظَارِ عَلَى مَا نَرْجُو نُزُولَهُ أَيْ نُزُولَ الْوَحْيِ يَعْنِي هِيَ مَا فِيهِ مَا دَامَ رَجَاءُ نُزُولِ الْوَحْيِ بَاقِيًا إلَّا أَنْ يُخَافَ الْفَوْتُ أَيْ فَوْتُ الْغَرَضِ أَوْ فَوْتُ الْحُكْمِ فِي الْحَادِثَةِ يَعْنِي يُخَافُ أَنْ يَفُوتَ الْحَادِثَةُ بِلَا حُكْمٍ وَحِينَئِذٍ يَنْقَطِعُ طَمَعُهُ عَنْ الْوَحْيِ فَيُحْكَمُ بِالرَّأْيِ. قَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ وَهَذَا الْقَوْلُ حَسَنٌ يَعْنِي اشْتِرَاطَ الِانْتِظَارِ مَا دَامَ يُرْجَى نُزُولُ الْوَحْيِ أَحْسَنَ لَكِنَّ قَوْلَ الْعَامَّةِ أَحَقُّ وَكَانَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْوَحْيِ وَالتَّبْلِيغُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالِانْتِظَارُ لِلْوَحْيِ الظَّاهِرِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْحَاجَةِ. 1 - وَأَمَّا تَمَسُّكُ الْخَصْمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] فَفَاسِدٌ إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى مَوْضِعِ النِّزَاعِ، فَإِنَّهُ نَزَلَ فِي شَأْنِ الْقُرْآنِ رَدًّا لِمَا زَعَمَ الْكُفَّارُ أَنَّهُ افْتِرَاءٌ مِنْ عِنْدِهِ فَكَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ مَا يَنْطِقُ بِهِ قُرْآنًا فَهُوَ وَحْيٌ لَا عَنْ هَوًى لَا أَنَّ مَا يَنْطِقُ بِهِ مُطْلَقًا كَذَلِكَ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّعْمِيمُ؛ لِأَنَّ بِخُصُوصِ السَّبَبِ لَا يُتَخَصَّصُ عُمُومُ اللَّفْظِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ اجْتِهَادَهُ مَعَ التَّقْرِيرِ عَلَيْهِ لَيْسَ بِوَحْيٍ بَلْ هُوَ وَحْيٌ بَانَ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ وَلِأَنَّهُ إذَا تَعَبَّدَنَا بِالِاجْتِهَادِ بِالْوَحْيِ يَكُونُ نُطْقُهُ بِذَلِكَ الْحُكْمِ عَنْ وَحْيٍ لَا عَنْ هَوًى وَلِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْهَوَى هُوَ النَّفْسُ الْبَاطِلُ لَا الرَّأْيُ الصَّوَابُ

[باب شرائع من قبلنا]

وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِسُنَّةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرَائِعُ مَنْ قَبْلَهُ وَإِنَّمَا أَخَّرْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ شَرِيعَةً لَهُ وَهَذَا. (بَابُ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا) قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَلْزَمُنَا شَرَائِعُ مَنْ قَبْلَنَا حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى النَّسْخِ بِمَنْزِلَةِ شَرَائِعِنَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَلْزَمُنَا حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَلْزَمُنَا عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَتُنَا وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّ مَا قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا عَلَيْنَا مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ أَوْ قَصَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ فَإِنَّهُ يَلْزَمُنَا عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَةُ رَسُولِنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ـــــــــــــــــــــــــــــQالصَّادِرُ عَنْ عَقْلٍ وَنَظَرٍ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ وَانْدَرَجَ فِيمَا ذَكَرْنَا الْجَوَابُ عَنْ بَقِيَّةِ كَلِمَاتِهِمْ فَلَا نُعِيدُهُ. قَوْلُهُ (وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِسُنَّةِ نَبِيِّنَا شَرَائِعُ مَنْ قَبْلَهُ) ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا بَقِيَتْ إلَى مَبْعَثِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَصَارَتْ شَرِيعَةً لَهُ لِمَا سَنُبَيِّنُ كَانَتْ مِنْ سُنَنِهِ وَإِنَّمَا أَخَّرْنَاهُ لِلِاخْتِلَافِ فِي كَوْنِهَا شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَذِكْرُ الضَّمَائِرِ الثَّلَاثَةِ الْأَوَاخِرِ مَعَ كَوْنِهَا رَاجِعَةً إلَى الشَّرَائِعِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ أَوْ لِكَوْنِ الشَّرَائِعِ مُضَافَةً إلَى الْمَذْكُورِ وَهُوَ مَنْ قَبْلَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَهَذَا. [بَابُ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا] أَيْ بَابُ بَيَانِ الِاخْتِلَافِ فِي شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ كَذَا فَهُوَ مَعْنَى إيرَادِ الْفَاءِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِشَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَيَأْمُرَهُ بِاتِّبَاعِهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَبَّدَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ اتِّبَاعِهَا وَلَيْسَ فِي دِينٍ اسْتِبْعَادٌ وَلَا اسْتِنْكَارٌ وَإِنَّ مَصَالِحَ الْعِبَادِ قَدْ تَتَّفِقُ وَقَدْ تَخْتَلِفُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَصْلَحَةً فِي زَمَانِ النَّبِيِّ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي وَيَجُوزُ عَكْسُهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً فِي زَمَانِ النَّبِيِّ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فَيَجُوزُ أَنْ تَخْتَلِفَ الشَّرَائِعُ وَتَتَّفِقُ. وَلَا يُقَالُ: إذَا جَاءَ الثَّانِي بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ الْأَوَّلُ لَمْ يَكُنْ لِبِعْثَتِهِ وَإِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى يَدِهِ فَائِدَةٌ؛ لِأَنَّ شَرِيعَتَهُ مَعْلُومَةٌ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّهُمَا وَإِنْ اتَّفَقَا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي بَعْضِهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ مَبْعُوثًا إلَى قَوْمٍ وَالثَّانِي إلَى غَيْرِهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَرِيعَةُ الْأَوَّلِ قَدْ انْدَرَسَتْ فَلَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ جِهَةِ الثَّانِي وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَدَثَ فِي الْأُولَى بِدَعٌ فَيُزِيلُهَا الثَّانِيَةُ فَعُلِمَ أَنَّ الْأَمْرَيْنِ جَائِزَانِ إلَّا أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِ التَّعَبُّدِ بِهَا فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هَلْ كَانَ مُتَعَبَّدًا بِشَرْعِ أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَ الْبَعْثِ فَأَبَى بَعْضُهُمْ ذَلِكَ كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأَثْبَتَهُ بَعْضُهُمْ مُخْتَلِفِينَ فِيهِ أَيْضًا فَقِيلَ كَانَ مُتَعَبَّدًا بِشَرْعِ نُوحٍ وَقِيلَ بِشَرْعِ إبْرَاهِيمَ وَقِيلَ بِشَرْعِ مُوسَى وَقِيلَ بِشَرْعِ عِيسَى وَقِيلَ بِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ شَرْعٌ وَتَوَقَّفَ فِيهِ بَعْضُهُمْ كَالْغَزَالِيِّ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ وَغَيْرِهِمَا وَمَحَلُّ بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ أُصُولِ التَّوْحِيدِ. وَالثَّانِي أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعْدَ الْبَعْثِ وَأُمَّتَهُ هَلْ كَانُوا مُتَعَبَّدِينَ بِشَرْعِ مَنْ تَقَدَّمَ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي عُقِدَ الْبَابُ لِبَيَانِهَا فَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَعَامَّةُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ مُتَعَبَّدًا بِشَرَائِعَ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وَأَنَّ كُلَّ شَرِيعَةٍ ثَبَتَتْ لِنَبِيٍّ فَهِيَ بَاقِيَةٌ فِي حَقِّ مَنْ بَعْدَهُ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إلَّا أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى الِانْتِسَاخِ فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُنَا شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا عَلَى أَنَّهَا شَرِيعَةُ ذَلِكَ النَّبِيِّ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ نَسْخُهَا وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ مُتَعَبَّدًا بِشَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا وَأَنَّ شَرِيعَةَ كُلِّ نَبِيٍّ يَنْتَهِي بِوَفَاتِهِ عَلَى مَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ أَوْ يُبْعَثَ نَبِيٌّ آخَرُ عَلَى مَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَيَتَجَدَّدُ لِلثَّانِي شَرِيعَةٌ أُخْرَى إلَّا مَا لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ وَالِانْتِسَاخَ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهَا إلَّا بِمَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى بَقَائِهِ بِبَيَانِ الرَّسُولِ الْمَبْعُوثِ بَعْدَهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَلْزَمُنَا الْعَمَلُ بِمَا نُقِلَ مِنْ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا فِيمَا لَمْ يَثْبُتْ انْتِسَاخُهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ شَرِيعَةٌ لِنَبِيِّنَا وَلَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَ مَا يَصِيرُ مَعْلُومًا مِنْهَا بِنَقْلِ أَهْلِ

احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] وَالْهُدَى اسْمٌ يَقَعُ عَنْ الْإِيمَانِ وَالشَّرَائِعِ وَلِأَنَّهُ ثَبَتَ حَقِيقَتُهُ دِينًا لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَدَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى حَسَنٌ مَرْضِيٌّ عِنْدَهُ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] وَقَالَ {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48] فَصَارَ الْأَصْلُ هُوَ الْمُوَافَقَةَ وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الثَّانِيَةِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرَائِعِ الْمَاضِيَةِ الْخُصُوصُ فِي الْمَكَانِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْكِتَابِ أَوْ بِرِوَايَةِ الْمُسْلِمِينَ عَمَّا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ الْكِتَابِ وَبَيْنَ مَا لَمْ يَثْبُتُ مِنْ ذَلِكَ بِبَيَانٍ فِي الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ. وَذَهَبَ أَكْثَرُ مَشَايِخِنَا مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ وَالْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ وَالشَّيْخَانِ وَعَامَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إلَى أَنَّ مَا ثَبَتَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا أَوْ بِبَيَانٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْزَمُنَا الْعَمَلُ بِهِ عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَةُ نَبِيِّنَا مَا لَمْ يَظْهَرْ نَاسِخُهُ، فَأَمَّا مَا عُلِمَ بِنَقْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ بِفَهْمِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُتُبِهِمْ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ لِقِيَامِ دَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُمْ حَرَّفُوا الْكُتُبَ فَلَا يُعْتَبَرُ نَقْلُهُمْ فِي ذَلِكَ وَلَا فَهْمُ الْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ الْكُتُبِ لِتَوَهُّمِ أَنَّ الْمَنْقُولَ أَوْ الْمَفْهُومَ مِنْ جُمْلَةِ مَا حَرَّفُوا وَبَدَّلُوا وَكَذَا لَا يُعْتَبَرُ قَوْلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَرَفَ ذَلِكَ بِظَاهِرِ الْكِتَابِ أَوْ بِقَوْلِ جَمَاعَتِهِمْ وَلَا حُجَّةَ فِي ذَلِكَ لِمَا قُلْنَا احْتَجَّ الْأَوَّلُ أَيْ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ أَوْ الْعَامِلُ الْأَوَّلُ بِالنُّصُوصِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [الأنعام: 90] يَعْنِي الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ ذُكِرُوا فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ أَيْ فَاخْتَصَّ هَدْيَهُمْ بِالِاقْتِدَاءِ وَلَا تَقْتَدِ إلَّا بِهِمْ وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ يُوقَفُ عَلَيْهَا فِي الْوَقْفِ وَتَسْقُطُ فِي الْوَصْلِ وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِكَسْرِ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ جَاعِلًا الْهَاءَ كِنَايَةً عَنْ الْمَصْدَرِ أَيْ اقْتَدِ الِاقْتِدَاءِ كَمَا فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا، أَمَرَ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالِاقْتِدَاءِ بِهَدْيِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْهَدْيُ اسْمٌ لِلْإِيمَانِ وَالشَّرَائِعِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الِاهْتِدَاءَ يَقَعُ بِالْكُلِّ فَيَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ شَرْعِهِمْ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْهَدْيَ شَامِلٌ الْإِيمَانَ وَالشَّرَائِعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الْمُتَّقِينَ بِالْإِيمَانِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] ثُمَّ قَالَ {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] . وقَوْله تَعَالَى {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وقَوْله تَعَالَى {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة: 44] وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ جُمْلَتِهِمْ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِهَا وَقَوْلُهُ جَلَّ جَلَالُهُ {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13] وَالدِّينُ اسْمٌ لِمَا يُدَانُ اللَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالشَّرَائِعِ وَبِالْمَعْقُولِ وَهُوَ أَنَّ الرَّسُولَ الَّذِي كَانَتْ الشَّرِيعَةُ مَنْسُوبَةً إلَيْهِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا بِبَعْثِ رَسُولٍ آخَرَ بَعْدَهُ فَكَذَا شَرِيعَتُهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا بِهَا بِبَعْثِ رَسُولٍ آخَرَ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ النَّسْخِ فِيهَا يُوَضِّحُهُ أَنَّ مَا يَثْبُتُ شَرِيعَةً لِرَسُولٍ فَقَدْ ثَبَتَتْ حَقِّيَّتُهُ وَكَوْنُهُ مَرْضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ وَبُعِثَ الرَّسُولُ لِبَيَانِ مَا هُوَ مَرَضِيٌّ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَمَا عُلِمَ كَوْنُهُ مَرَضِيًّا بِبَعْثِ رَسُولٍ لَا يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَرَضِيًّا بِبَعْثِ رَسُولٍ آخَرَ. وَإِذَا بَقِيَ مَرْضِيًّا كَانَ مَعْمُولًا بِهِ كَمَا كَانَ قَبْلَ بَعْثِ الرَّسُولِ الثَّانِي وَكَانَ بَعْثُ الثَّانِي مُؤَيِّدًا لَهَا وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ فِي قَوْله تَعَالَى إخْبَارًا {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] ؛ لِأَنَّ كُلَّهُمْ يَدْعُونَ الْخَلْقَ إلَى دِينٍ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وقَوْله تَعَالَى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} [المائدة: 48] أَيْ الْقُرْآنَ {بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة: 48] أَيْ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ جِنْسِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ أَيْ أَمِينًا وَشَاهِدًا عَلَى الْكُتُبِ الَّتِي خَلَتْ قَبْلَهُ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي شَرَائِعِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - الْمُوَافَقَةُ إلَّا إذَا ظَهَرَ تَغْيِيرُ حُكْمٍ بِدَلِيلِ النَّسْخِ. وَذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ مَا يُنْسَبُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - مِنْ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ شَرِيعَةُ اللَّهِ تَعَالَى لَا شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَهُوَ الشَّارِعُ لِلشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ قَالَ اللَّهُ

أَلَا تَرَى أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَمِلُ الْخُصُوصُ فِي الْمَكَانِ كَرَسُولَيْنِ بُعِثَا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ فِي مَكَانَيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا تَبَعًا لِلْآخَرِ كَمَا قَالَ فِي قِصَّةِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَكَمَا كَانَ هَارُونُ لِمُوسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - فَكَذَلِكَ فِي الزَّمَانِ أَيْضًا فَصَارَ الِاخْتِصَاصُ فِي شَرَائِعِهِمْ أَصْلًا إلَّا بِدَلِيلٍ. وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الثَّالِثَةِ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَصْلًا فِي الشَّرَائِعِ وَكَانَتْ شَرِيعَتُهُ عَامَّةً لِكَافَّةِ النَّاسِ وَكَانَ وَارِثًا لِمَا مَضَى مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ـــــــــــــــــــــــــــــQ {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13] أَضَافَ الشَّرْعَ إلَى نَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ الدُّعَاءُ إلَى شَرِيعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَبْلِيغُهَا إلَى عِبَادِهِ إلَّا إذَا ثَبَتَ الِانْتِسَاخُ فَيُعْلَمُ بِهِ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ قَدْ تَبَدَّلَتْ بِتَبَدُّلِ الزَّمَانِ فَيَنْتَهِي الْأَوَّلُ إلَى الثَّانِي فَأَمَّا مَعَ بَقَائِهَا شَرِيعَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَمَعَ قِيَامِ الْمَصْلَحَةِ وَالْحِكْمَةِ فِي الْبَقَاءِ فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِانْتِهَائِهَا بِوَفَاةِ الرَّسُولِ الْمَبْعُوثِ الْآتِي بِهَا فَيُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الثَّانِيَةِ وَهُمْ الَّذِينَ قَالُوا بِاخْتِصَاصِ كُلِّ شَرِيعَةٍ بِنَبِيِّهَا وَانْتِهَائِهَا بِوَفَاتِهِ أَوْ بِبَعْثِ رَسُولٍ آخَرَ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ أَيْ جَعَلْنَا لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ شِرْعَةً بِبَعْثِ الْأَنْبِيَاءِ أَيْ شَرِيعَةً وَهِيَ الطَّرِيقُ الظَّاهِرُ وَمِنْهَاجًا طَرِيقًا وَاضِحًا يَجْرُونَ عَلَيْهِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ نَبِيٍّ دَاعِيًا إلَى شَرِيعَتِهِ وَأَنْ يَكُونَ كُلُّ أُمَّةٍ مُخْتَصَّةً بِشَرِيعَةٍ جَاءَ بِهَا نَبِيُّهُمْ وَبِالْمَعْقُولِ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرِيعَةِ الْمَاضِيَةِ الْخُصُوصُ؛ لِأَنَّ بَعْثَ الرَّسُولِ لَيْسَ إلَّا لِبَيَانِ مَا بِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَى بَيَانِهِ، وَإِذَا لَمْ يَجْعَلْ شَرِيعَةَ رَسُولٍ مُنْتَهِيَةً بِبَعْثِ رَسُولٍ آخَرَ وَلَمْ يَأْتِ الثَّانِي بِشَرْعٍ مُسْتَأْنِفٍ لَمْ يَكُنْ بِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَى الْبَيَانِ عِنْدَ بَعْثِ الثَّانِي لِكَوْنِهِ مُبَيِّنًا عِنْدَهُمْ بِالطَّرِيقِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ فَلَمْ يَكُنْ فِي بَعْثِهِ فَائِدَةٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يُرْسِلُ رَسُولًا بِغَيْرِ فَائِدَةٍ فَثَبَتَ أَنَّ الِاخْتِصَاصَ هُوَ الْأَصْلُ أَلَا تَرَى أَنَّهَا أَيْ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا كَانَتْ تَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ فِي الْمَكَانِ أَيْ قَدْ كَانَتْ مُخْتَصَّةً بِمَكَانٍ حِينَ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهَا عَلَى أَهْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ دُونَ مَكَان آخَرَ كَرَسُولَيْنِ بُعِثَا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ فِي مَكَانَيْنِ مِثْلُ شُعَيْبٍ وَمُوسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، فَإِنَّ شَرِيعَةَ شُعَيْبٍ كَانَتْ مُخْتَصَّةً بِأَهْلِ مَدْيَنَ وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ وَشَرِيعَةَ مُوسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - كَانَتْ مُخْتَصَّةً بِبَنِي إسْرَائِيلَ وَمَنْ بُعِثَ إلَيْهِمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ أَيْ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الرَّسُولَيْنِ تَبَعًا لِلْآخَرِ فَحِينَئِذٍ لَا يَثْبُتُ الْخُصُوصُ. وَكَانَ التَّبَعُ دَاعِيًا إلَى شَرَائِعِ الْأَصْلِ كَإِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ، فَإِنَّ لُوطًا وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ كَانَ تَبَعًا لِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وَدَاعِيًّا إلَى شَرِيعَتِهِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْلِهِ {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26] وَكَذَلِكَ هَارُونُ كَانَ تَابِعًا لِمُوسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - فِي الشَّرِيعَةِ وَرِدْءًا لَهُ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْلِهِ إخْبَارًا عَنْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} [القصص: 34] {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي} [طه: 29] {هَارُونَ أَخِي} [طه: 30] فَكَذَلِكَ فِي الزَّمَانِ أَيْضًا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ فِي الْمَكَانِ يَعْنِي كَمَا احْتَمَلَتْ الْخُصُوصَ فِي الْمَكَانِ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ فِي الزَّمَانِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: إنَّ الْأَنْبِيَاءَ قَبْلَ نَبِيِّنَا - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - أَكْثَرَهُمْ إنَّمَا بُعِثُوا إلَى قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ وَرَسُولُنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هُوَ الْمَبْعُوثُ إلَى النَّاسِ كَافَّةً عَلَى مَا قَالَ «أُعْطِيت خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي بُعِثْت إلَى الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ قَبْلِي يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ» الْحَدِيثَ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي الْمُرْسَلِينَ مَنْ يَكُونُ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِشَرِيعَتِهِ عَلَى أَهْلِ مَكَان دُونَ أَهْلِ مَكَان آخَرَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَرْضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عَلِمْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِهَا عَلَى أَهْلِ زَمَانٍ دُونَ أَهْلِ زَمَانٍ آخَرَ وَأَنَّ ذَلِكَ الشَّرْعَ يَكُونُ مُنْتَهِيًا بِبَعْثِ نَبِيٍّ آخَرَ فَقَدْ كَانَ يَجُوزُ اجْتِمَاعُ النَّبِيَّيْنِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي مَكَانَيْنِ عَلَى أَنْ يَدْعُوَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى شَرِيعَتِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي زَمَانَيْنِ وَأَنَّ الْمَبْعُوثَ آخِرًا يَدْعُو إلَى الْعَمَلِ بِشَرِيعَتِهِ وَيَأْمُرُ النَّاسَ بِاتِّبَاعِهِ وَلَا يَدْعُو إلَى الْعَمَلِ بِشَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَهُ. وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الثَّالِثَةِ

{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] «وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي يَدِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَحِيفَةً فَقَالَ مَا هِيَ فَقَالَ التَّوْرَاةُ فَقَالَ أَتُهَوِّكُونَ أَنْتُمْ كَمَا تَهَوَّكَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَاَللَّهِ لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا لَمَا وَسِعَهُ إلَّا اتِّبَاعِي» فَصَارَ الْأَصْلُ الْمُوَافَقَةَ وَالْأُلْفَة لَكِنْ بِالشَّرْطِ الَّذِي قُلْنَا وَمَعْرُوفٌ لَا يُنْكَرُ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَمَلُ بِمَا وَجَدَهُ صَحِيحًا فِيمَا سَلَفَ مِنْ الْكُتُبِ غَيْرَ مُحَرَّفٍ إلَّا أَنْ يَنْزِلَ وَحْيٌ بِخِلَافِهِ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَهُمْ الَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّهَا يَلْزَمُنَا عَلَى أَنَّهَا شَرِيعَتُنَا مُطْلَقًا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَصْلًا فِي الشَّرَائِعِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ أَخْذَ الْمِيثَاقِ عَلَى النَّبِيِّينَ بِالتَّصْدِيقِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} [آل عمران: 81] مِنْ أَبْيَنِ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ أُمَّةِ مَنْ بُعِثَ آخِرًا فِي وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ وَلِهَذَا ظَهَرَ شَرَفُ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ فَكَانَ الْكُلُّ مِمَّنْ تَقَدَّمَ وَمِمَّنْ تَأَخَّرَ فِي حُكْمِ الْمُتَّبِعِ لَهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَلْبِ يُطِيعُهُ الرَّأْسُ وَيَتْبَعُهُ الرِّجْلُ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَبَّدًا بِشَرِيعَةِ مَنْ سَلَفَ؛ لِأَنَّ فِيهِ جَعْلَ الرَّسُولِ كَوَاحِدٍ مِنْ أُمَّةِ مَنْ تَقَدَّمَهُ وَهَذَا غَضٌّ مِنْ دَرَجَتِهِ وَحَطٌّ مِنْ رُتْبَتِهِ وَاعْتِقَادٌ أَنَّهُ تَبَعٌ لِكُلِّ نَبِيٍّ تَقَدَّمَهُ وَلَا يَسْتَجِيزُ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ بَلْ فِيهِ التَّنْفِيرُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ تَابِعًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَتْبُوعًا وَمَدْعُوًّا بَعْدَ أَنْ كَانَ دَاعِيًا، فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - كَانُوا قَبْلَهُ فَكَيْفَ يَكُونُ هُوَ أَصْلًا فِي شَرَائِعِ الَّذِينَ مَضَوْا قَبْلَهُ قُلْنَا: لَا يَمْنَعُ تَقَدُّمُهُمْ فِي الزَّمَانِ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ السُّنَّةَ الْأَرْبَعَ قَبْلَ الظُّهْرِ وَهِيَ تَابِعَةٌ لَهُ وَلَا يَمْنَعُ عَنْ كَوْنِهِ أَصْلًا فَالْأَنْبِيَاءُ مَعَ تَقَدُّمِهِمْ مُؤَسَّسُونَ بِقَاعِدَتِهِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ فِطْرَةِ الْخَلْقِ إدْرَاكُهُمْ سَعَادَةَ الْقُرْبِ مِنْ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إلَّا بِتَعْرِيفِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - فَكَانَتْ النُّبُوَّةُ مَقْصُودَةً بِالْإِيجَابِ وَالْمَقْصُودُ كَمَالُهَا لَا أَوَّلُهَا، وَإِنَّمَا يَكْمُلُ بِحَسَبِ سُنَّةِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ بِالتَّدْرِيجِ فَتَمَهَّدَ أَصْلُ النُّبُوَّةِ بِآدَمَ وَلَمْ يَزَلْ تَنْمُو وَتَكْمُلُ حَتَّى بَلَغَتْ الْكَمَالَ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ تَمْهِيدُ أَوَائِلِهَا وَسِيلَةً إلَى الْكَمَالِ كَتَأْسِيسِ الْبِنَاءِ، وَتَمْهِيدُ أُصُولِ الْحِيطَانِ وَسِيلَةً إلَى كَمَالِ صُورَةِ الدَّارِ الَّتِي هِيَ غَرَضُ الْمُهَنْدِسِينَ وَلِهَذَا كَانَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْكَمَالِ نُقْصَانٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي النُّبُوَّةِ وَالشَّرِيعَةِ، وَغَيْرُهُ بِمَنْزِلَةِ التَّابِعِ لَهُ وَكَانَتْ شَرِيعَتُهُ عَامَّةً لِكَافَّةِ النَّاسِ عَلَى مَا قَالَ بِهِ {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28] وَغَرَضُ الشَّيْخِ مِنْ هَذَا أَنَّهُ مَبْعُوثٌ إلَى جَمِيعِ النَّاسِ حَتَّى وَجَبَ عَلَى الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ اتِّبَاعُ شَرِيعَتِهِ فَكَانَ الْكُلُّ تَابِعًا لَهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حِينَ يَنْزِلُ إلَى الدُّنْيَا يَدْعُو النَّاسَ إلَى شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا إلَى شَرِيعَةِ نَفْسِهِ كَمَا نَطَقَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ الْمَشْهُورَةُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَاتِلُ الدَّجَّالَ وَالْقِتَالُ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا فِي شَرِيعَتِهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَصْلًا فِي الشَّرَائِعِ ثُمَّ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ وَكَانَ وَارِثًا لِمَا مَضَى مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ مُسْتَدِلًّا بِإِشَارَةِ قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] أَشَارَ إلَى أَنَّ شَرَائِعَ مَنْ قَبْلَنَا إنَّمَا تَلْزَمُنَا عَلَى أَنَّهَا شَرِيعَةٌ لِنَبِيِّنَا لَا أَنَّهَا بَقِيَتْ شَرَائِعَ لَهُمْ، فَإِنَّ الْمِيرَاثَ يَنْتَقِلُ مِنْ الْمُوَرِّثِ إلَى الْوَارِثِ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ مِلْكًا لِلْوَارِثِ وَمُضَافًا إلَيْهِ لَا أَنَّهُ يَكُونُ مِلْكًا لِلْمُوَرِّثِ فَكَذَلِكَ هَذَا وَمَحَاسِنُ الشَّرِيعَةِ مِثْلُ إيجَابِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ وَإِيجَابِ الْعِبَادَاتِ وَالْأَمْرِ بِالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ وَنَحْوِهَا وَمَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ مِثْلُ الْعَفْوِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ وَالْإِحْسَانِ إلَى الْمُسِيءِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ عَلَى مَا تَضَمَّنَ بَيَانَهُمَا كِتَابُ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَكِتَابُ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَقِيلَ: مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ فِي ثَلَاثَةٍ: إعْطَاءُ مَنْ يَحْرِمُهُ وَوَصْلُ مَنْ يَقْطَعُهُ وَالْعَفْوُ عَمَّنْ اعْتَدَى عَلَيْهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ حَكِيمُ الْعَجَمِ مَوْدُودُ بْنُ آدَمَ النَّسَائِيّ إنَّك سَمَّيْت

إلَّا أَنَّ التَّحْرِيفَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانَ ظَاهِرًا وَكَذَلِكَ الْحَسَدُ وَالْعَدَاوَةُ وَالتَّلْبِيسُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَوَقَعَتْ الشُّبْهَةُ فِي نَقْلِهِمْ فَشَرَطْنَا فِي هَذَا أَنْ يَقُصَّ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ احْتِيَاطًا فِي بَابِ الدِّينِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا مِنْ الْأَقْوَالِ بِهَذَا الشَّرْطِ الَّذِي ذَكَرْنَا قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] وَقَالَ {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [آل عمران: 95] فَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَجْرِي هَذَا، وَقَدْ احْتَجَّ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَصْحِيحِ الْمُهَايَأَةِ وَالْقِسْمَةِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} [القمر: 28] . وَقَالَ {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155] فَاحْتَجَّ بِهَذَا النَّصِّ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِهِ فِي غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ نَظِيرُهُ فَثَبَتَ أَنَّ الْمَذْهَبَ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَمَا يَقَعُ بِهِ خَتْمُ بَابِ السُّنَّةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQنِدَاد ذَرْ بخشش، وَإِنَّك بايت بِرَنْدِ سِرّ بخشش، وَإِنَّك زَهِرَتْ دهد بِدُودِهِ فَتِدْ، وَإِنَّك أزتوبر دند وبيوند تاشوي درجهان وَصَلِّ وَفِرَاق دفترى أَزّ مَكَارِم أَخْلَاق ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ نَبِيَّنَا كَانَ أَصْلًا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: «وَاَللَّهِ لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا لَمَا وَسِعَهُ إلَّا اتِّبَاعِي» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّسُلَ الْمُتَقَدِّمَةَ صَارُوا بِبَعْثِ نَبِيِّنَا بِمَنْزِلَةِ أُمَّتِهِ فِي لُزُومِ اتِّبَاعِ شَرِيعَتِهِ لَوْ كَانُوا أَحْيَاءً وَأَنَّ شَرَائِعَهُمْ قَدْ انْتَهَتْ بِشَرِيعَتِهِ وَصَارَتْ مِيرَاثًا لَهُ وَالتَّهَوُّكُ التَّحَيُّرُ وَالتَّحَوُّكُ أَيْضًا مِثْلُ التَّهَوُّرِ وَهُوَ الْوُقُوعُ فِي الشَّيْءِ لِقِلَّةِ مُبَالَاةٍ وَرَوِيَّةٍ فَصَارَ الْأَصْلُ الْمُوَافَقَةَ وَالْأُلْفَةَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَكَانَ وَارِثًا يَعْنِي لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ وَارِثٌ لِمَا مَضَى مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ صَارَ الْأَصْلُ فِي الشَّرَائِعِ الْمُوَافَقَةَ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْمِيرَاثَ يَنْتَقِلُ مِنْ الْمُوَرِّثِ إلَى الْوَارِثِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ لَكِنْ بِالشَّرْطِ الَّذِي قُلْنَا وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الْإِرْثِ وَمَعْرُوفٌ لَا يُنْكَرُ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَيْ مِنْ شَأْنِهِ الْعَمَلُ بِمَا وَجَدَهُ صَحِيحًا فِيمَا سَلَفَ مِنْ الْكُتُبِ غَيْرَ مُحَرَّفٍ كَرَجْمِ الْيَهُودِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ زَنَيَا بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ وَنَصَّهُ بِقَوْلِهِ أَنَا أَحَقُّ بِإِحْيَاءِ سُنَّةٍ أَمَاتُوهَا عَلَى وُجُوبِ الرَّجْمِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَلَى أَنَّ ذَلِكَ صَارَ شَرِيعَةً لَهُ إلَّا أَنَّهُ زِيدَ فِي شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ لِإِيجَابِ الرَّجْمِ الْإِسْلَامُ وَلِمِثْلِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ حُكْمُ النَّسْخِ عِنْدَنَا فَبِبَيَانِ هَذَا أَيْ مَا قُلْنَا مِنْ الْمُوَافَقَةِ وَالْأُلْفَةِ الشَّرْطُ الْمَذْكُورُ هُوَ الْأَصْلُ. وَقَوْلُهُ إلَّا أَنَّ التَّحْرِيفَ أَيْ التَّغْيِيرَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْقَوْلِ الثَّالِثِ أَوْ مِنْ قَوْلِهِ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ بِمَعْنَى لَكِنْ وَبَيَانٌ لِلْمُخْتَارِ مِنْ الْأَقْوَالِ بِهَذَا الشَّرْطِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَهُوَ أَنْ يَقُصَّ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ رَسُولُهُ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ قَوْلُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] أَيْ اتَّبِعُوهَا وَاحْفَظُوهَا وَقَالَ تَعَالَى {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 95] يَتَّصِلَانِ بِقَوْلِهِ فَصَارَ الْأَصْلُ الْمُوَافَقَةَ وَالْأُلْفَةَ فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ النَّصَّيْنِ أَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ وَقَدْ امْتَنَعَ ثُبُوتُهَا مِلَّةً لَهُ لِلْحَالِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْقَوْلِ الثَّانِي فَثَبَتَ أَنَّهَا مِلَّتُهُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا كَانَتْ لَهُ فَبَقِيَتْ حَقًّا كَذَلِكَ وَصَارَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَالْمَالِ الْمَوْرُوثِ مُضَافًا إلَى الْوَارِثِ لِلْحَالِ وَهُوَ عَيْنُ مَا كَانَ لِلْمَيِّتِ لَا مِلْكٌ آخَرُ لَكِنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الْمَالِكِ يَنْتَهِي بِالْمَوْتِ إلَى الْوَارِثِ فَكَذَلِكَ الشَّرِيعَةُ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - كَذَا فِي التَّقْوِيمِ ثُمَّ بَيَّنَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ وَقَدْ احْتَجَّ مُحَمَّدٌ أَنَّ مَا اخْتَارَهُ هُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا، فَإِنَّهُ احْتَجَّ فِي تَصْحِيحِ الْمُهَايَأَةِ وَالْقِسْمَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ صَالِحٍ {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} [القمر: 28] وَقَوْلِهِ {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155] وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا احْتَجَّ بِهِ إلَّا بَعْدَ اعْتِقَادِهِ بَقَاءَ ذَلِكَ الْحُكْمِ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ أَحْكَامَ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا شَرَائِعَ مَنْ قَبْلَهُ ثُمَّ قِيلَ: إنَّ الْمُهَايَأَةَ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْقِسْمَةَ فِي الْعَيْنِ، وَإِنَّ قَوْلَهُ وَنَبِّئْهُمْ دَلِيلُ جَوَازِ الْقِسْمَةِ وَقَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ إخْبَارًا {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155] دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْمُهَايَأَةِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْمُتَرَادِفَيْنِ هَاهُنَا، فَإِنَّ الْمُرَادَ قِسْمَةُ الْمَاءِ بِطَرِيقِ الْمُهَايَأَةِ، فَإِنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ أَنَّ مُحَمَّدًا اسْتَدَلَّ فِي كِتَابِ الشُّرْبِ عَلَى جَوَازِ الْقِسْمَةِ أَيْ قِسْمَةِ الشُّرْبِ بِطَرِيقِ الْمُهَايَأَةِ بِالْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ وَالْمُهَايَأَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْهَيْئَةِ وَهِيَ الْحَالَةُ الظَّاهِرَةُ لِلْمُتَهَيِّئِ لِلشَّيْءِ كَأَنَّ الْمُتَهَايِئَيْنِ لَمَّا تَوَاضَعَا عَلَى أَمْرٍ رَضِيَ كُلُّ وَاحِدٍ

[باب متابعة أصحاب النبي والاقتداء بهم]

(بَابُ مُتَابَعَةِ أَصْحَابِ) (النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) (وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ) قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيُّ تَقْلِيدُ الصَّحَابِيِّ وَاجِبٌ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ قَالَ وَعَلَى هَذَا أَدْرَكْنَا مَشَايِخَنَا وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: لَا يَجِبُ تَقْلِيدُهُ إلَّا فِيمَا لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يُقَلَّدُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ فِي التَّقْلِيدِ فَقَلَّدَ الْخُلَفَاءَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقَدْ اخْتَلَفَ عَمَلُ أَصْحَابِنَا فِي هَذَا الْبَابِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إنَّ إعْلَامَ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - خِلَافُهُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْحَامِلِ: إنَّهَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ خِلَافُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ: إنَّهُ ضَامِنٌ وَرَوَيَا ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَخَالَفَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ بِالرَّأْيِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQبِحَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَاخْتَارَهَا إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْمُغْرِبِ. وَفِي الطِّلْبَةِ الْمُهَايَأَةُ مُقَاسَمَةُ الْمَنَافِعِ وَهِيَ أَنْ يَتَرَاضَى الشَّرِيكَانِ يَنْتَفِعُ هَذَا بِهَذَا النِّصْفِ الْمُفْرَزِ وَذَاكَ بِذَلِكَ النِّصْفِ وَهَذَا بِكُلِّهِ فِي كَذَا مِنْ الزَّمَانِ وَذَاكَ بِكُلِّهِ فِي كَذَا مِنْ الزَّمَانِ بِقَدْرِ الْأَوَّلِ بِمَا هُوَ نَظِيرُهُ أَيْ فِيمَا هُوَ نَظِيرُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ كَالطَّاحُونَةِ وَالْبِئْرِ وَالْبَيْتِ الصَّغِيرِ قَوْلُهُ وَمَا يَقَعُ بِهِ بَابُ السُّنَّةِ. [بَابُ مُتَابَعَةِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ] [تَقْلِيدُ الصَّحَابِيِّ] (بَابُ مُتَابَعَةِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ) ؛ لِأَنَّ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ لَمَّا كَانَتْ شُبْهَةُ السَّمَاعِ نَاسَبَ أَنْ يُلْحَقَ بِآخِرِ أَقْسَامِ السُّنَّةِ إذْ الشَّبَهُ بَعْدَ الْحَقِيقَةِ فِي الرُّتْبَةِ لَا خِلَافَ أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ إمَامًا كَانَ أَوْ حَاكِمًا أَوْ مُفْتِيًا لَيْسَ بِحَجَّةٍ عَلَى صَحَابِيٍّ آخَرَ إنَّمَا الْخِلَافُ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً عَلَى التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّهُ حُجَّةٌ وَتَقْلِيدُهُ وَاجِبٌ يُتْرَكُ بِهِ أَيْ بِقَوْلِهِ أَوْ بِمَذْهَبِهِ الْقِيَاسُ وَهُوَ مُخْتَارُ الشَّيْخَيْنِ وَأَبِي الْيُسْرِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَصْحَابَهُ فِي رِسَالَتِهِ الْقَدِيمَةِ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِمَا هُمْ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: وَهُمْ فَوْقَنَا فِي كُلِّ عِلْمٍ وَاجْتِهَادٍ وَوَرَعٍ وَعَقْلٍ لِيُسْتَدْرَكَ بِهِ عِلْمٌ أَوْ لِيُسْتَنْبَطَ وَآرَاؤُهُمْ أَوْلَى مِنْ آرَائِنَا عِنْدَنَا؛ لِأَنْفُسِنَا وَنَصَّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الصَّحَابَةَ إذَا اخْتَلَفَتْ فَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ أَوْلَى، فَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ فَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَوْلَى وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ يَجِبُ التَّرْجِيحُ بِقَوْلِ الْأَعْلَمِ وَالْأَكْبَرِ قِيَاسًا؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ عِلْمِهِ يُقَوِّي اجْتِهَادَهُ وَيُبْعِدُهُ عَنْ التَّقْصِيرِ وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا لَا يَجِبُ تَقْلِيدُهُ إلَّا فِيمَا لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ عَلَى مَا يُشِيرُ تَقْرِيرُهُ فِي التَّقْوِيمِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْ فِي قَوْلِهِ الْجَدِيدِ لَا يُقَلَّدُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَيْ لَا يَكُونُ قَوْلُهُ حُجَّةً، وَإِنْ كَانَ فِيمَا لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَتْ الْأَشَاعِرَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَهَذَا اللَّفْظُ كَمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ التَّقْلِيدِ يُشِيرُ إلَى عَدَمِ جَوَازِهِ أَيْضًا وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَهُمْ، وَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُهُمْ التَّقْلِيدَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُهُ. وَذَكَرَ فِي الْقَوَاطِعِ أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ إنْ كَانَ مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ فَهُوَ حُجَّةٌ إلَّا أَنَّ الْأَصْحَابَ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ الْحُجَّةُ فِي الْقِيَاسِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْحُجَّةُ فِي قَوْلِهِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ أَوْ كَانَ مَعَ الصَّحَابِيِّ قِيَاسٌ خَفِيٌّ وَالْجَلِيُّ يُخَالِفُ قَوْلَهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ: قَوْلُ الصَّحَابِيِّ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: الْقِيَاسُ أَوْلَى وَمِنْهُمْ أَيْ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ فَصَّلَ فِي التَّقْلِيدَ أَيْ فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ فَقَلَّدَ أَيْ أَوْجَبَ تَقْلِيدَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَأَمْثَالِهِمْ أَيْ فِي الْفَضِيلَةِ وَالتَّخْصِيصِ بِتَشْرِيفِ مِثْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَمَنْ قَلَّدَ الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَلَّدَ الشَّيْخَيْنِ لَا غَيْرُ وَعَنْ الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ وَاجِبٌ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ أَقْرَانِهِ خِلَافُ ذَلِكَ أَمَّا إذَا خَالَفَهُ غَيْرُهُ فَلَا يَجِبُ تَقْلِيدُ الْبَعْضِ وَلَكِنْ وَجَبَ التَّرْجِيحُ بِالدَّلِيلِ. قَوْلُهُ (وَقَدْ اخْتَلَفَ عَمَلُ أَصْحَابِنَا) يَعْنِي أَبَا حَنِيفَةَ وَأَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي هَذَا الْبَابِ أَيْ فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ لَمْ يَسْتَقِرَّ مَذْهَبُهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُمْ رِوَايَةٌ ظَاهِرَةٌ فِيهَا فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي إعْلَامِ

وَقَدْ اتَّفَقَ عَمَلُ أَصْحَابِنَا بِالتَّقْلِيدِ فِيمَا لَا يُعْقَلُ بِالْقِيَاسِ فَقَدْ قَالُوا فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ إنَّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَرَوَوْا ذَلِكَ عَنْ أَنَسٍ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ وَأَفْسَدُوا شِرَاءَ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ عَمَلًا بِقَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي قِصَّةِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ـــــــــــــــــــــــــــــQقَدْرِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ أَيْ تَسْمِيَةِ مِقْدَارِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ أَيْ فِيمَا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مُشَارًا؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ أَبْلُغُ فِي التَّعْرِيفِ مِنْ الْعِبَارَةِ وَالتَّسْمِيَةِ. وَالْإِعْلَامُ بِالْعِبَارَةِ يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ فَكَذَا بِالْإِشَارَةِ فَعَمِلَا بِالْقِيَاسِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - خِلَافُهُ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - شَرَطَ الْإِعْلَامَ فِيمَا ذَكَرْنَا لِجَوَازِ السَّلَمِ وَقَالَ: بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْحَامِلِ أَنَّهَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ قِيَاسًا عَلَى الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ فِي حَقِّهَا غَيْرُ مَرْجُوٍّ إلَى زَمَانِ وَضْعِ الْحَمْلِ كَمَا هُوَ غَيْرُ مَرْجُوٍّ فِي حَقِّ الصَّغِيرَةِ إلَى زَمَانِ الْبُلُوغِ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَامَ الشَّهْرُ فِي حَقِّهَا مَقَامَ الطُّهْرِ أَوْ الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ فِي كَوْنِهِ زَمَانَ تَجَدُّدِ آخَرَ عَنْهُ بِخِلَافِ مُمْتَدَّةِ الطُّهْرِ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ فِي حَقِّهَا مَرْجُوٌّ سَاعَةً فَسَاعَةً فَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ الشَّهْرِ فِي حَقِّهَا مَقَامَ تَجَدُّدِ آخَرَ عَنْهُ فَعَمِلَا بِالْقِيَاسِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تَطْلُقُ لِلسُّنَّةِ إلَّا وَاحِدَةً بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ وَهُوَ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ إلَّا بِالْعَمَلِ كَالصَّبَّاغِ وَالْقَصَّارِ إنَّهُ ضَامِنٌ لِمَا ضَاعَ فِي يَدِهِ إذَا كَانَ الْهَلَاكُ بِسَبَبٍ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَالسَّرِقَةِ وَنَحْوِهَا، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَالْغَرَقِ الْغَالِبِ وَالْحَرْقِ الْغَالِبِ وَالْغَارَةِ الْعَامَّةِ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ وَرَوَيَا ذَلِكَ أَيْ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِنَّهُ كَانَ يُضَمِّنُ الْخَيَّاطَ وَالْقَصَّارَ صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ وَخَالَفَ ذَلِكَ أَيْ الْمَرْوِيَّ عَنْ عَلِيٍّ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِالرَّأْيِ فَقَالَ: إنَّهُ أَمِينٌ فَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا كَالْأَجِيرِ الْوَاحِدِ وَالْمُودِعِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ نَوْعَانِ: ضَمَانُ جَبْرٍ وَضَمَانُ شَرْطٍ لَا ثَالِثَ لَهُمَا، وَضَمَانُ الْجَبْرِ يَجِبُ بِالتَّعَدِّي وَالتَّفْوِيتِ، وَضَمَانُ الشَّرْطِ يَجِبُ بِالْعَقْدِ وَلَمْ يُوجَدْ التَّعَدِّي وَالتَّفْوِيتِ؛ لِأَنَّ قَطْعَ يَدِ الْمَالِكِ حَصَلَ بِإِذْنِهِ وَالْحِفْظُ لَا يَكُونُ خِيَانَةً وَلَمْ يُوجَدْ عَقْدٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ أَيْضًا فَبَقِيَتْ الْعَيْنُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ فَلَا يَضْمَنُ بِالْهَلَاكِ كَالْوَدِيعَةِ. (قَوْلُهُ وَقَدْ اتَّفَقَ عَمَلُ أَصْحَابِنَا) يَعْنِي الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ بِالتَّقْلِيدِ فِيمَا لَا يُعْقَلُ بِالْقِيَاسِ أَيْ بِالرَّأْيِ مِثْلُ الْمَقَادِيرِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي لَا تُعْرَفُ بِالرَّأْيِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا أَقَلَّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةٌ وَأَكْثَرَهُ عَشَرَةٌ وَرَوَوْا ذَلِكَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ رَوَوْا أَكْثَرَ النِّفَاسِ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا بِقَوْلِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ إلَّا أَنَّ النِّفَاسَ لَمَّا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ لِكَوْنِهِ أَرْبَعَةَ أَمْثَالِ أَكْثَرِ الْحَيْضِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ الْحَيْضِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ عِنْدَ هَذَا الْقَائِل فَلِذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ وَرَوَوْا ذَلِكَ أَيْ تَعَدِّيَ الْحَيْضِ عَنْ أَنَسٍ وَعُثْمَانَ مَعَ أَنَّهُ قَدْ أَسْنَدَهُ إلَى عُثْمَانَ صَرِيحًا فِي الْمَبْسُوطِ فَقَالَ: رَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ» وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَأَفْسَدُوا شِرَاءَ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ يَعْنِي قَبْلَ أَخْذِ الثَّمَنِ مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي جَوَازَهُ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَبِيعِ قَدْ تَمَّ بِالْقَبْضِ لِلْمُشْتَرِي فَيَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ الْبَائِعِ بِمَا شَاءَ كَالْبَيْعِ مِنْ غَيْرِهِ وَكَالْبَيْعِ بِمِثْلِ الثَّمَنِ مِنْهُ عَمَلًا بِقَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَهُوَ مَا رَوَتْ أُمُّ يُونُسَ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَقَالَتْ: إنِّي بِعْت مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ خَادِمًا

أَمَّا فِيمَا لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْعَمَلِ بِهِ حَمْلًا لِذَلِكَ عَلَى التَّوْقِيفِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا وَجْهَ لَهُ غَيْرَ هَذَا إلَّا التَّكْذِيبُ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ لَا مَحَالَةَ فَأَمَّا فِيمَا يُعْقَلُ بِالْقِيَاسِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى الْعَطَاءِ فَاحْتَاجَ إلَى ثَمَنِهِ فَاشْتَرَيْته مِنْهُ قَبْلَ مَحَلِّ الْأَجَلِ بِسِتِّمِائَةٍ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بِئْسَمَا شَرَيْت وَاشْتَرَيْت أَبْلَغِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبْطَلَ جِهَادَهُ وَحَجَّهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ لَمْ يَتُبْ فَأَتَاهَا زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ مُعْتَذِرًا فَتَلَتْ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] فَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَمَّا كَانَ مُخَالِفًا لِقَوْلِهَا تَعَيَّنَ جِهَةُ السَّمَاعِ فِيهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا جَعَلَتْ جَزَاءَهُ عَلَى مُبَاشَرَةِ هَذَا الْعَقْدِ بُطْلَانَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَأَجْزِئَةُ الْجَرَائِمِ لَا تُعْرَفُ بِالرَّأْيِ فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ كَالْمَسْمُوعِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاعْتِذَارُ زَيْدٍ إلَيْهَا دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يُخَالِفُ بَعْضًا فِي الْمُجْتَهَدَاتِ وَمَا كَانَ يَعْتَذِرُ إلَى صَاحِبِهِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْأَقْوَالِ شَرَعَ فِي إقَامَةِ الدَّلَائِلِ عَلَيْهَا وَبَدَأَ بِمَا اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى وُجُوبِ التَّقْلِيدِ فِيهِ فَقَالَ: أَمَّا فِيمَا لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ نَحْوُ الْمَقَادِيرِ وَغَيْرِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ الْعَمَلِ بِهِ أَيْ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ فِيهِ حَمْلًا لِقَوْلِهِ عَلَى التَّوْقِيفِ أَيْ السَّمَاعِ وَالتَّنْصِيصِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِهِمْ الْمُجَازَفَةَ فِي الْقَوْلِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، فَإِنَّ طَرِيقَ الدِّينِ مِنْ النُّصُوصِ إنَّمَا انْتَقَلَ إلَيْنَا بِرِوَايَتِهِمْ وَفِي حَمْلِ قَوْلِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ قَوْلٌ بِفِسْقِهِمْ وَذَلِكَ يُبْطِلُ رِوَايَتَهُمْ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الرَّأْيُ وَالسَّمَاعُ مِمَّنْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَلَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي هَذَا الْبَابِ فَتَعَيَّنَ السَّمَاعُ وَصَارَ فَتْوَاهُ مُطْلَقَةً كَرِوَايَتِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ سَمَاعَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ ذَلِكَ حُجَّةً لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِهِ فَكَذَا إذَا أَفْتَى بِهِ وَلَا طَرِيقَ لِفَتْوَاهُ إلَّا السَّمَاعُ، فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنَّهُ إنَّمَا أَفْتَى لِخَبَرٍ ظَنَّهُ دَلِيلًا وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَمَعَ جَوَازِ أَنْ لَا يَكُونَ دَلِيلًا لَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ كَالِاجْتِهَادِ لَمَّا احْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونَ دَلِيلًا لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى مُجْتَهِدٍ آخَرَ أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى صَحَابِيٍّ مِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ كَالْمَسْمُوعِ لَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِ. وَأَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي حَقِّ التَّابِعِيِّ وَسَائِرِ الْمُجْتَهِدِينَ إذْ لَا يُظَنُّ الْمُجَازَفَةُ فِي الْقَوْلِ بِالْمُجْتَهِدِ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَلَا يَجُوزُ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى الْكَذِبِ ثُمَّ لَا يَكُونُ فَتْوَاهُ حُجَّةً فِيمَا لَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ كَمَا لَا يَكُونُ حُجَّةً فِيمَا يُعْرَفُ بِالْقِيَاسِ. قُلْنَا هَذَا مَحْمَلٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ تَقَدُّمَهُمْ فِي الْعِلْمِ وَالْوَرَعِ وَاحْتِيَاطَهُمْ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَدِقَّةَ نَظَرِهِمْ فِيهَا يَرُدُّ ذَلِكَ كَيْفَ وَإِنَّهُ يُؤَدِّي إلَى سُقُوطِ رِوَايَتِهِمْ وَتَرْكِ الِاعْتِمَادِ عَلَى قَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّ ظَنَّ مَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ دَلِيلًا وَالِاعْتِمَادَ عَلَيْهِ لِلْفَتْوَى مِنْ بَابِ الْمُسَاهَلَةِ وَقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ وَتَرْكِ الِاحْتِيَاطِ، وَرِوَايَةُ الْمُتَسَاهِلِ لَا تُقْبَلُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مِثْلَ هَذَا الظَّنِّ بِهِمْ فَاسِدٌ لَا يُؤَدِّي إلَيْهِ كَذَلِكَ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى صَحَابِيٍّ آخَرَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا كَانَ لِلْقِيَاسِ مَدْخَلٌ فِيهِ لِاحْتِمَالِ السَّمَاعِ وَالرَّأْيِ فَأَمَّا فِيمَا لَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ فَلَا يَتَعَيَّنُ إلَّا جِهَةُ السَّمَاعِ فِيهِ فَيَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْكُلِّ فَأَمَّا قَوْلُ التَّابِعِيِّ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ اتِّصَالِ قَوْلِهِ بِالسَّمَاعِ يَكُونُ بِوَاسِطَةٍ وَتِلْكَ الْوَاسِطَةُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَبِدُونِهَا لَا يَثْبُتُ السَّمَاعُ بِوَجْهٍ فَأَمَّا الصَّحَابِيُّ فَقَدْ كَانَ مُصَاحِبًا لِمَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فَكَانَ الْأَصْلُ فِي حَقِّهِ السَّمَاعَ فَلَا يُجْعَلُ قَوْلٌ مُنْقَطِعًا عَنْ السَّمَاعِ إلَّا إذَا ظَهَرَ دَلِيلٌ غَيْرُهُ وَهُوَ الرَّأْيُ فَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَثْبُتُ الِانْقِطَاعُ بِالِاحْتِمَالِ إلَيْهِ أَشَارَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ الْحَدِيثَ فِي حَقِّ

فَوَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ الْقَوْلَ بِالرَّأْيِ مِنْ أَصْحَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَشْهُورٌ وَاحْتِمَالُ الْخَطَأِ فِي اجْتِهَادِهِمْ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ فَقَدْ كَانَ يُخَالِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَكَانُوا لَا يَدْعُونَ النَّاسَ إلَى أَقْوَالِهِمْ وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ إنْ أَخْطَأْت فَمِنْ الشَّيْطَانِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ تَقْلِيدُ مِثْلِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالصَّحَابِيِّ قَطْعِيٌّ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَوَاتِرِ فِي حَقِّنَا لِسَمَاعِهِ مِنْ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَفِي حَقِّ التَّابِعِيِّ وَمَنْ دُونَهُ ظَنِّيٌّ لِتَخَلُّلِ الْوَاسِطَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ لِتَخَلُّلِهَا أَثَرًا فِي الضَّعْفِ عَلَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْفَتْوَى فِيمَا لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِيهِ قَدْ وُجِدَ مِمَّنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ نَصٍّ كَمَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ بَلْ إنَّمَا أَفْتَوْا بِنَصٍّ ظَهَرَ لَهُمْ أَيْ بِرَأْيٍ اسْتَنْبَطُوهُ مِنْ نَصٍّ وَلَوْ ثَبَتَ عَنْهُمْ قَوْلٌ فِيمَا لَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ لَقُلْنَا: إنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى نَقْلٍ وَلَجَعَلْنَاهُ حُجَّةً أَيْضًا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ. ، فَإِنْ قِيلَ قَدْ قُلْتُمْ فِي الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ أَثَرٍ فِيهِ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَدَّرَ مُدَّةَ الْبُلُوغِ بِالسِّنِّ بِثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً أَوْ بِسَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً بِالرَّأْيِ وَقَدَّرَ مُدَّةَ وُجُوبِ مَنْعِ الْمَالِ مِنْ السَّفِيهِ الَّذِي لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً بِالرَّأْيِ وَقَدَّرَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مُدَّةَ تَمَكُّنِ الرَّجُلِ مِنْ نَفْيِ الْوَلَدِ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا بِالرَّأْيِ وَقَدَّرَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا مَا يَطْهُرُ بِهِ الْبِئْرُ عِنْدَ وُقُوعِ الْفَأْرَةِ فِيهَا بِعِشْرِينَ دَلْوًا فَبِهَذَا تَبَيَّنَ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي مَعْرِفَةِ الْمَقَادِيرِ، وَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ جِهَةُ السَّمَاعِ فِي ذَلِكَ إذَا قَالَهُ صَحَابِيٌّ قُلْنَا: إنَّمَا أَرَدْنَا بِمَا قُلْنَا الْمَقَادِيرَ الَّتِي تَثْبُتُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً دُونَ مِقْدَارٍ يَكُونُ فِيمَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، فَإِنَّ الْمَقَادِيرَ فِي الْحُدُودِ وَالْعِبَادَاتِ نَحْوُ أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ فِي الصَّلَوَاتِ مِمَّا لَا يُشْكِلُ عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ فِيمَا يَكُونُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ مِمَّا أَشَرْنَا إلَيْهِ فَأَمَّا مَا اسْتَدْلَلْتُمْ بِهِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِيمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ، فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ لَا يَكُونُ بَالِغًا وَأَنَّ ابْنَ عِشْرِينَ سَنَةً يَكُونُ بَالِغًا ثُمَّ التَّرَدُّدُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فَيَكُونُ هَذَا اسْتِعْمَالَ الرَّأْيِ فِي إزَالَةِ التَّرَدُّدِ وَهُوَ نَظِيرُ مَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ فِي الْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ وَمَعْرِفَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ وَالتَّقْدِيرِ فِي النَّفَقَةِ، فَإِنَّ لِلرَّأْيِ مَدْخَلًا فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا وَكَذَلِكَ حُكْمُ دَفْعِ الْمَالِ إلَى السَّفِيهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] . وَقَالَ {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] فَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَةِ الْكِبَرِ عَلَى وَجْهٍ يُتَيَقَّنُ مَعَهُ بِنَوْعٍ مِنْ الرُّشْدِ وَذَلِكَ مِمَّا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ فَقَدَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَلِكَ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً؛ لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَصِيرَ جَدًّا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَمَنْ صَارَ فَرْعُهُ أَصْلًا فَقَدْ تَنَاهَى فِي الْأَصْلِيَّةِ نَتَيَقَّنُ لَهُ بِصِفَةِ الْكِبَرِ وَنَعْلَمُ إينَاسَ رُشْدٍ مَا مِنْهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ بَلَغَ أَشُدَّهُ، فَإِنَّهُ قِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْأَشُدِّ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ إنَّهُ هَذِهِ الْمُدَّةُ وَكَذَلِكَ مَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ النَّفْيِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ لِسَاعَةٍ أَوْ سَاعَتَيْنِ لَا مَحَالَةَ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ النَّفْيِ بَعْدَ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنَّمَا وَقَعَ التَّرَدُّدُ فِيمَا بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْ الْمُدَّةِ فَاعْتُبِرَ الرَّأْيُ فِيهِ بِالْبِنَاءِ عَلَى أَكْثَرِ مُدَّةِ النِّفَاسِ فَأَمَّا حُكْمُ طَهَارَةِ الْبِئْرِ بِالنَّزْحِ، فَإِنَّمَا عَرَفْنَا بِآثَارِ الصَّحَابَةِ بِأَنَّ فَتْوَى عَلِيٍّ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي ذَلِكَ مَعْرُوفَةٌ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَلِيلِ مِنْ النَّزْحِ وَالْكَثِيرِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لِلرَّأْيِ مَدْخَلًا فِي مَعْرِفَتِهِ كَذَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لِشَمْسِ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (قَوْلُهُ) فَوَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ كَذَا تَمَسَّكَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي الْقَوْلِ بِعَدَمِ جَوَازِ تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ بِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ فِيهِمْ الْفَتْوَى بِالرَّأْيِ ظُهُورًا لَا وَجْهَ لِإِنْكَارِهِ، وَاحْتِمَالُ الْخَطَأِ فِي اجْتِهَادِهِمْ ثَابِتٌ لِكَوْنِهِمْ غَيْرَ مَعْصُومِينَ عَنْ الْخَطَأِ كَسَائِرِ

بَلْ وَجَبَ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي الْعَمَلِ بِالرَّأْيِ مِثْلَ مَا عَمِلُوا، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ» الْخَبَرَ. وَمَنْ ادَّعَى الْخُصُوصَ احْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقْتَدُوا بِاَلَّذِينً مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَبِمَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ اخْتِصَاصِهِمْ مِمَّا دَلَّ عَلَى مَا قُلْنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُجْتَهِدِينَ فَكَانَ قَوْلُهُمْ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ كَقَوْلِ غَيْرِهِمْ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِلْخَطَأِ أَنَّهُ كَانَ يُخَالِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَرْجِعُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ عَنْ فَتْوَاهُ إلَى فَتْوَى غَيْرِهِ وَكَانُوا لَا يَدْعُونَ النَّاسَ إلَى أَقْوَالِهِمْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلْخَطَأِ لَمَا جَازَ لَهُمْ الْمُخَالَفَةُ بِآرَائِهِمْ وَلَوَجَبَ عَلَيْهِمْ دُعَاءُ النَّاسِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ دَلِيلًا قَطْعِيًّا وَمُخَالَفَةُ الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ حَرَامٌ وَالدَّعْوَةُ إلَيْهِ وَاجِبَةٌ كَالدَّعْوَةِ إلَى الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مَسْأَلَةِ الْمُفَوِّضَةِ، فَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ فَثَبَتَ أَنَّ احْتِمَالَ الْخَطَأِ فِيهِ ثَابِتٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ وَإِذَا كَانَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ مُحْتَمِلًا لِلْخَطَأِ لَمْ يَجُزْ لِمُجْتَهِدٍ آخَرَ تَقْلِيدُ مِثْلِهِ أَيْ تَقْلِيدُ مِثْلِ الصَّحَابِيِّ وَتَرْكُ الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِقَوْلِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ بِقَوْلِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ وَلِأَنَّ الصَّحَابِيَّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَقُولَ عَنْ اجْتِهَادٍ أَوْ حَدِيثٍ عِنْدَهُ، فَإِنْ كَانَ عَنْ اجْتِهَادٍ فَهُوَ رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ مِنْ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ الْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ الْأَصْلُ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ النَّظَرُ وَالتَّأَمُّلُ فِي ذَلِكَ الْأَصْلِ لِيَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ فَرْعُ ذَلِكَ الْأَصْلِ فَيَتْبَعُونَهُ لَا فَرْعُ أَصْلٍ آخَرَ فَيُخَالِفُونَهُ. وَإِنْ كَانَ عَنْ حَدِيثٍ فَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْغَلَطِ وَالسَّهْوِ وَأَنَّهُ سَمِعَ بَعْضَ الْحَدِيثِ وَبِدُونِ الْبَاقِي يَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ وَحُكْمُهُ فَلَا يَتْرُكُ الْحُجَّةَ بِالِاحْتِمَالِ وَلِأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ لَوْ كَانَ حُجَّةً لَكَانَ لِكَوْنِهِمْ أَعْلَمَ وَأَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِمْ لِمُشَاهَدَتِهِمْ التَّنْزِيلَ وَسَمَاعِهِمْ التَّأْوِيلَ وَوُقُوفِهِمْ عَلَى أَحْوَالِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمُرَادِهِ مِنْ كَلَامِهِ عَلَى مَا لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ قَوْلُ الْأَعْلَمِ الْأَفْضَلِ صَحَابِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ إذْ لَيْسَ لِلْمُجْتَهِدِ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ قَوْلُهُ (بَلْ وَجَبَ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ) جَوَابٌ عَمَّا تَمَسَّكَ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ تَقْلِيدِهِمْ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ» فَقَالَ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي الْجَرْيِ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ مِنْ أَخْذِهِمْ الْحُكْمَ مِنْ الْكِتَابِ أَوَّلًا ثُمَّ مِنْ السُّنَّةِ ثُمَّ اسْتِعْمَالُ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ لَا تَقْلِيدُهُمْ فِي أَقْوَالِهِمْ أَلَا تَرَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شَبَّهَهُمْ بِالنُّجُومِ، وَإِنَّمَا يُهْتَدَى بِالنُّجُومِ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى الطَّرِيقِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَا أَنَّ نَفْسَ النَّجْمِ يُوجِبُ ذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ هَذَا النَّصُّ عَمَّ الصَّحَابَةَ وَفِيهِمْ مَنْ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ بِالْإِجْمَاعِ كَأَعْرَابٍ فَثَبَتَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَهْلَ الْبَصَرِ وَأَهْلُ الْبَصَرِ عَمِلُوا بِالرَّأْيِ بَعْدَ الْكِتَابِ فِي السُّنَّةِ فَيَجِبُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي ذَلِكَ. قَوْلُهُ (وَمَنْ ادَّعَى الْخُصُوصَ) أَيْ وَمَنْ قَالَ بِتَقْلِيدِ الْخُلَفَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي» وَبِمَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْ بَابِ الِاقْتِدَاءِ وَالتَّقْلِيدِ مِنْ اخْتِصَاصِهِمْ أَيْ اخْتِصَاصِ الْخُلَفَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ بِفَضَائِلَ مِمَّا دَلَّ عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ وُجُوبِ تَقْلِيدِهِمْ. وَكَلِمَةُ " مِنْ " فِي " مِمَّا " بَيَانٌ لِلِاخْتِصَاصِ وَفِي مِنْ اخْتِصَاصِهِمْ بَيَانٌ بِمَا رُوِيَ يَعْنِي لِلتَّمَسُّكِ وَهُوَ الْأَحَادِيثُ الَّتِي رُوِيَتْ فِي اخْتِصَاصِهِمْ بِالْفَضَائِلِ الَّتِي تُوجِبُ الِاقْتِدَاءَ مِثْلُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي وَرَضِيت لِأُمَّتِي مَا رَضِيَ لَهَا ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ»

وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ الْعَمَلَ بِرَأْيِهِمْ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا احْتِمَالُ السَّمَاعِ وَالتَّوْقِيفِ وَذَلِكَ أَصْلٌ فِيهِمْ مُقَدَّمٌ عَلَى الرَّأْيِ ـــــــــــــــــــــــــــــQ «وَلِكُلِّ شَيْءٍ فَارِسٌ وَفَارِسُ الْقُرْآنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ» «وَأَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأَفْرَضُكُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ» لَا الْأَحَادِيثُ الَّتِي تُوجِبُ نَفْسَ الْفَضِيلَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ مِثْلُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ بِلَالٌ وَأَبُو عُبَيْدَةَ أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَإِنَّ الْجَنَّةَ إلَى سَلْمَانَ أَشْوَقُ مِنْ سَلْمَانَ إلَى الْجَنَّةِ وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى زُهْدِ عِيسَى فَلْيَنْظُرْ إلَى زُهْدِ أَبِي ذَرٍّ» وَأَمْثَالُهَا. قَوْلُهُ (وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ) احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ التَّقْلِيدِ بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ أَمَّا النَّصُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100] مَدَحَ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ التَّابِعُونَ لَهُمْ هَذَا الْمَدْحَ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ بِإِحْسَانٍ مِنْ حَيْثُ الرُّجُوعُ إلَى رَأْيِهِمْ دُونَ الرُّجُوعِ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ اسْتِحْقَاقَ الْمَدْحِ بِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا بِاتِّبَاعِ الصَّحَابَةِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِي قَوْلٍ وُجِدَ مِنْهُمْ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ بَعْضِهِمْ فِيهِ خِلَافٌ، فَأَمَّا الَّذِي فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَهُمْ فَلَا يَكُونُ مَوْضِعَ اسْتِحْقَاقِ الْمَدْحِ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ بِاتِّبَاعِ الْبَعْضِ يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ بِتَرْكِ اتِّبَاعِ الْبَعْضِ فَوَقَعَ التَّعَارُضُ فَكَانَ النَّصُّ دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ تَقْلِيدِهِمْ إذَا لَمْ يُوجَدْ بَيْنَهُمْ اخْتِلَافٌ ظَاهِرٌ كَذَا فِي الْمِيزَانِ وَذَكَرَ فِي الْمَطْلَعِ نَقْلًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100] اتَّبَعُوهُمْ عَلَى دِينِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ وَقِيلَ: يَقْتَدُونَ بِأَعْمَالِهِمْ الْحَسَنَةِ وَلَا يَقْتَدُونَهُمْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَقِيلَ يَذْكُرُونَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِالرَّحْمَةِ وَالدُّعَاءِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ وَيَذْكُرُونَ مَحَاسِنَهُمْ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ احْتِمَالَ السَّمَاعِ وَالتَّوْقِيفِ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ ثَابِتٌ بَلْ الظَّاهِرُ الْغَالِبُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يُفْتِي بِالْخَبَرِ، وَإِنَّمَا يُفْتِي بِالرَّأْيِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَيُشَاوِرُ مَعَ الْقُرَنَاءِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ خَبَرٌ، فَإِذَا لَمْ يَجِدْ اشْتَغَلَ بِالْقِيَاسِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ وَذَلِكَ أَيْ السَّمَاعُ أَصْلٌ فِيهِمْ مُقَدَّمٌ عَلَى الرَّأْيِ يَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَاحِبُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ فَكَانَ السَّمَاعُ أَصْلًا فِيهِمْ فَلَا يَجْعَلُ فَتْوَاهُمْ مُنْقَطِعَةً عَنْ السَّمَاعِ إلَّا بِدَلِيلٍ قَوْلُهُ (وَكَانُوا يَسْكُتُونَ عَنْ الْإِسْنَادِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ مُبِينًا عَلَى السَّمَاعِ لَأَسْنَدَهُ إلَى النَّبِيِّ وَقَالَ سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ التَّبْلِيغُ وَاجِبٌ وَلَيْسَ مِنْ عَادَتِهِمْ كِتْمَانُ مَا بُلِّغَ إلَيْهِمْ وَلَمَّا لَمْ يُسْنِدْهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى الِاجْتِهَادِ فَقَالَ: قَدْ ظَهَرَ مِنْ عَادَتِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْكُتُونَ عَنْ الْإِسْنَادِ عِنْدَ الْفَتْوَى إذَا كَانَ عِنْدَهُمْ خَبَرٌ يُوَافِقُ فَتْوَاهُمْ كَمَا كَانُوا يُسْنِدُونَهُ إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْكِتْمَانِ إذْ الْوَاجِبُ بَيَانُ الْحُكْمِ عِنْدَ السُّؤَالِ لَا غَيْرُ إلَّا إذَا سُئِلَ عَنْ مُسْتَنَدِ الْحُكْمِ فح يَجِبُ الْإِسْنَادُ، وَإِذَا ثَبَتَ احْتِمَالُ السَّمَاعِ فِي قَوْلِهِ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى الرَّأْيِ الَّذِي لَيْسَ عِنْدَ صَاحِبِهِ خَبَرٌ يُوَافِقُهُ وَيُقِرُّهُ فَكَانَ تَقْدِيمُ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ عَلَى الرَّأْيِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِمَنْزِلَةِ تَقْدِيمِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى الْقِيَاسِ. وَالثَّانِي وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ وَلِاحْتِمَالِ فَضْلِ إصَابَتِهِمْ أَنَّ قَوْلَهُ: إنْ كَانَ صَادِرًا عَنْ الرَّأْيِ فَرَأْيُ الصَّحَابَةِ أَقْوَى مِنْ رَأْيِ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ شَاهَدُوا طَرِيقَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ وَشَاهَدُوا الْأَحْوَالَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا النُّصُوصُ وَالْمَحَالَّ

وَقَدْ كَانُوا يَسْكُتُونَ عَنْ الْإِسْنَادِ وَلِاحْتِمَالِ فَضْلِ إصَابَتِهِمْ فِي نَفْسِ الرَّأْيِ فَكَانَ هَذَا الطَّرِيقُ هُوَ النِّهَايَةَ فِي الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ لِيَكُونَ السُّنَّةُ بِجَمِيعِ وُجُوهِهَا وَشِبْهِهَا مُقَدَّمًا عَلَى الْقِيَاسِ ثُمَّ الْقِيَاسُ بِأَقْوَى وُجُوهِهِ حُجَّةً وَهُوَ الْمَعْنَى الصَّحِيحُ بِأَثَرِهِ الثَّابِتِ شَرْعًا فَقَدْ ضَيَّعَ الشَّافِعِيُّ عَامَّةً وُجُوهَ السُّنَنِ ثُمَّ مَالَ إلَى الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ قِيَاسُ الشَّبَهَ وَهُوَ لَيْسَ بِصَالِحٍ لِإِضَافَةِ الْوُجُوبِ إلَيْهِ فَمَا هُوَ إلَّا كَمَنْ تَرَكَ الْقِيَاسَ وَعَمِلَ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ فَجَعَلَ الِاحْتِيَاطَ مَدْرَجَةً إلَى الْعَمَلِ بِلَا دَلِيلٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQالَّتِي يَتَغَيَّرُ بِاعْتِبَارِهَا الْأَحْكَامُ وَلِأَنَّ لَهُمْ زِيَادَةَ جِدٍّ وَحِرْصٍ فِي بَذْلِ مَجْهُودِهِمْ فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَالْقِيَامِ بِمَا هُوَ تَثْبِيتُ قِوَامِ الدِّينِ وَزِيَادَةَ احْتِيَاطٍ فِي حِفْظِ الْأَحَادِيثِ وَضَبْطِهَا وَطَلَبِهَا وَالتَّأَمُّلِ فِيمَا لَا نَصَّ عِنْدَهُمْ غَايَةَ التَّأَمُّلِ وَفَضْلَ دَرَجَةٍ لَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ كَمَا نَطَقَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ مِثْلُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي الَّذِينَ بُعِثْت فِيهِمْ» . وَقَوْلِهِ «لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَنَا أَمَانٌ لِأَصْحَابِي وَأَصْحَابِي أَمَانٌ لِأُمَّتِي» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ وَلِمِثْلِ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ أَثَرٌ فِي إصَابَةِ الرَّأْيِ وَكَوْنِهِ أَبْعَدَ عَنْ الْخَطَأِ فَبِهَذِهِ الْمَعَانِي تَرَجَّحَ رَأْيُهُمْ عَلَى رَأْيِ غَيْرِهِمْ وَعِنْدَ تَعَارُضِ الرَّأْيَيْنِ إذَا ظَهَرَ لِأَحَدِهِمَا نَوْعُ تَرْجِيحٍ وَجَبَ الْأَخْذُ بِذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ رَأْيِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ وَرَأْيِ الْوَاحِدِ مِنَّا يَجِبُ تَقْدِيمُ رَأْيِهِ عَلَى رَأْيِنَا لِزِيَادَةِ قُوَّةٍ فِي رَأْيِهِ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ أَنَّ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ جِهَةَ الْإِجْمَاعِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ لَظَهَرَ لِاتِّحَادِ مَكَانِهِمْ وَطَلَبِ الْعِلْمِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى السَّوَاءِ وَمُشَاوَرَةِ كُلِّ وَاحِدٍ قُرَنَائَهُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ صَاحِبِهِ خَبَرٌ يَمْنَعُهُ عَنْ اسْتِعْمَالِ الرَّأْيِ، وَلَوْ ظَهَرَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ لَوَصَلَ إلَيْنَا مِنْ جِهَةِ التَّابِعِينَ لِنَصْبِ أَنْفُسِهِمْ لِتَبْلِيغِ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ وَلَوْ تَحَقَّقَ الْإِجْمَاعُ يَجِبُ الْعَمَلُ قَطْعًا، فَإِذَا تَرَجَّحَ جِهَةُ وُجُودِ الْإِجْمَاعِ فِيهِ كَانَ الْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِقِيَاسٍ لَيْسَ فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى وَبِمَا ذَكَرْنَا خُرِّجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إنَّهُ مُحْتَمَلٌ فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ؛ لِأَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنْ لَيْسَتْ الدَّلَائِلُ الْمُحْتَمَلَةُ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَعَ احْتِمَالِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ فَكَذَا قَوْلُ الصَّحَابِيِّ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إلَى الصَّوَابِ لِمَا ذَكَرْنَا وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ وَلَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ فَكَذَلِكَ وَلَكِنَّ كَلَامَنَا وَقَعَ فِيمَا إذَا وُجِدَ مِنْ الصَّحَابِيِّ وَلَمْ يَظْهَرْ رُجُوعُهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَا خِلَافُ غَيْرِهِ إيَّاهُ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ. ، وَإِنَّمَا لَمْ يَلْزَمْ غَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ لِمُسَاوَاتِهِ إيَّاهُ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُجُوهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ لِوُجُودِ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمْ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي مَرَّتْ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَيْسَ لِلْمُجْتَهِدِ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ فَمَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا كَانَ عِنْدَ مُجْتَهِدٍ أَنَّ مَنْ يُخَالِفُهُ فِي الرَّأْيِ أَعْلَمُ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ يَدَعُ رَأْيَهُ لِرَأْيِ مَنْ عَرَفَ زِيَادَةَ قُوَّةٍ فِي اجْتِهَادِهِ كَمَا أَنَّ الْعَامِّيَّ يَدَعُ رَأْيَهُ لِرَأْيِ الْمَعْنِيِّ الْمُجْتَهِدِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَدَعُ الْمُجْتَهِدُ فِي زَمَانِنَا رَأْيَهُ لِرَأْيِ مَنْ هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ فِي الِاجْتِهَادِ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ لِوُجُودِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالِ وَفِي مَعْرِفَةِ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَلَكِنَّ هَذَا لَا يُوجَدُ فِيمَا بَيْنَ الْمُجْتَهِدِ مِنَّا وَالْمُجْتَهِدِ مِنْ الصَّحَابَةِ فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالَةِ لَا يَخْفَى فِي طَرِيقِ الْعِلْمِ كَذَلِكَ فَهُمْ قَدْ شَاهَدُوا أَحْوَالَ مَنْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَسَمِعُوا مِنْهُ، وَإِنَّمَا انْتَقَلَ ذَلِكَ إلَيْنَا بِخَبَرِهِمْ وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ. ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ تَأْوِيلَ الصَّحَابِيِّ لِلنَّصِّ لَا يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى تَأْوِيلِ غَيْرِهِ وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَكَذَلِكَ فِي الْفَتْوَى بِالرَّأْيِ قُلْنَا: إنَّ التَّأْوِيلَ يَكُونُ بِالتَّأَمُّلِ فِي وُجُوهِ اللُّغَةِ وَمَعَانِي الْكَلَامِ وَلَا مِزْيَةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْبَابِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَعْرِفُ مِنْ مَعَانِي اللِّسَانِ فَأَمَّا الِاجْتِهَادُ فِي الْأَحْكَامِ، فَإِنَّمَا يَكُونُ التَّأَمُّلُ فِي النُّصُوصِ الَّتِي هِيَ أَصْلٌ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَلِأَجْلِهِ يَظْهَرُ لَهُمْ الْمِزْيَةُ

فَصَارَ الطَّرِيقُ الْمُتَنَاهِي فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَفُرُوعِهَا عَلَى الْكَمَالِ هُوَ طَرِيقَ أَصْحَابِنَا بِحَمْدِ اللَّهِ إلَيْهِمْ انْتَهَى الدِّينُ بِكَمَالِهِ وَبِفَتْوَاهُمْ قَامَ الشَّرْعُ إلَى آخِرِ الدَّهْرِ بِخِصَالِهِ لَكِنَّهُ بَحْرٌ عَمِيقٌ لَا يَقْطَعُهُ كُلُّ سَانِحٍ وَالشُّرُوطُ كَثِيرَةٌ لَا يَجْمَعُهَا كُلُّ طَالِبٍ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي كُلِّ مَا ثَبَتَ عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَهُمْ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَثْبُتَ أَنَّهُ بَلَغَ غَيْرَ قَائِلِهِ فَسَكَتَ مُسَلِّمًا لَهُ، فَأَمَّا إذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ فَإِنَّ الْحَقَّ فِي أَقْوَالِهِمْ لَا يَعْدُوهُمْ عِنْدَنَا عَلَى مَا نُبَيِّنُ فِي بَابِ الْإِجْمَاعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يَسْقُطُ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ بِالتَّعَارُضِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا اخْتَلَفُوا وَلَمْ تَجْرِ الْمُحَاجَّةُ بِالْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ سَقَطَ احْتِمَالُ التَّوْقِيفِ وَتَعَيَّنَ وَجْهُ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ فَصَارَ تَعَارُضُ أَقْوَالِهِمْ كَتَعَارُضِ وُجُوهِ الْقِيَاسِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّرْجِيحَ فَإِنْ تَعَذَّرَ التَّرْجِيحُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِأَيِّهَا شَاءَ الْمُجْتَهِدُ عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ وَاحِدٌ مِنْهَا لَا غَيْرُ ثُمَّ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالثَّانِي مِنْ بَعْدُ إلَّا بِدَلِيلٍ عَلَى مَا مَرَّ فِي بَابِ الْمُعَارَضَةِ وَأَمَّا التَّابِعِيُّ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الْفَتْوَى فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُزَاحِمْهُمْ فِي الرَّأْيِ كَانَ أُسْوَةَ سَائِرِ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى مِنْ السَّلَفِ لَا يَصِحُّ تَقْلِيدُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِمُشَاهَدَةِ أَحْوَالِ الْخِطَابِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُشَاهِدْ وَلَا يُقَالُ هَذِهِ أُمُورٌ بَاطِنَةٌ، وَإِنَّمَا أُمِرْنَا بِبِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ بِنَاءَ الْحُكْمِ عَلَى الظَّاهِرِ مُسْتَقِيمٌ عِنْدَنَا وَلَكِنْ فِي مَوْضِعٍ يَتَعَذَّرُ اعْتِبَارُ الْبَاطِنِ فَأَمَّا إذَا أَمْكَنَ اعْتِبَارُهُمَا جَمِيعًا فَلَا شُبْهَةَ أَنَّ اعْتِبَارَهُمَا يَتَقَدَّمُ عَلَى مُجَرَّدِ اعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَفِي الْأَخْذِ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ اعْتِبَارُهُمَا وَفِي الْعَمَلِ بِالرَّأْيِ اعْتِبَارُ الظَّاهِرِ فَقَدْ كَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى كَذَا قَرَّرَ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قَوْلُهُ (فَكَانَ هَذَا الطَّرِيقُ) أَيْ إيجَابُ مُتَابَعَةِ الصَّحَابِيِّ وَتَقْلِيدِهِمْ أَوْ الطَّرِيقُ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ فِي بَابِ السُّنَّةِ مِنْ قَبُولِ الْمُسْنَدِ وَالْمُرْسَلِ رِوَايَةً وَالْمَعْرُوفِ وَالْمَجْهُولِ وَإِيجَابِ تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ هُوَ النِّهَايَةُ فِي الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ لِيَكُونَ لِلسُّنَّةِ بِجَمِيعِ وُجُوهِهَا مِنْ الْمُتَوَاتِرِ وَالْمَشْهُورِ وَالْآحَادِ وَالْمُسْنَدِ وَالْمُرْسَلِ وَغَيْرِهَا وَشَبَهِهَا مِنْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ مُقَدَّمًا عَلَى الْقِيَاسِ ثُمَّ الْقِيَاسُ أَيْ ثُمَّ يَكُونُ الْقِيَاسُ بِأَقْوَى وُجُوهِهِ وَهِيَ الْإِحَالَةُ وَالسُّنَّةُ وَالطَّرْدُ وَالْقِيَاسُ بِالْوَصْفِ الْمُؤَثِّرِ حُجَّةً بَعْدَ جَمِيعِ أَقْسَامِ السُّنَّةِ وَشَبَهِهَا فَقَدْ ضَيَّعَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَامَّةَ وُجُوهِ السُّنَنِ، فَإِنَّهُ رَدَّ الْمَرَاسِيلَ مَعَ كَثْرَتِهَا وَلَمْ يَقْبَلْ رِوَايَةَ الْمَجْهُولِ مِنْ الْقُرُونِ الْأُولَى مَعَ شَهَادَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَهُمْ بِالْخَيْرِيَّةِ وَفِيهِ تَعْطِيلُ كَثِيرٍ مِنْ السُّنَّةِ وَلَمْ يَرَ تَقْلِيدَ الصَّحَابَةِ وَفِيهِ إعْرَاضٌ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا فِيهِ شُبْهَةُ السَّمَاعِ لِإِضَافَةِ الْوُجُوبِ أَيْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ إلَيْهِ كَمَنْ تَرَكَ الْقِيَاسَ أَيْ لَمْ يُجَوِّزْ الْعَمَلَ بِهِ وَعَمِلَ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ مِثْلُ دَاوُد الْأَصْفَهَانِيِّ الظَّاهِرِيِّ وَأَمْثَالِهِ مِنْ نُفَاةِ الْقِيَاسِ فَجَعَلَ أَيْ الشَّافِعِيُّ الِاحْتِيَاطَ، فَإِنَّهُ يَرُدُّ الْمَرَاسِيلَ وَرِوَايَةَ الْمَجْهُولِ وَقَوْلَ الصَّحَابِيِّ احْتِيَاطًا مَدْرَجَةً أَيْ طَرِيقًا وَوَسِيلَةً إلَى الْوُقُوعِ فِي الْعَمَلِ بِمَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ وَهُوَ قِيَاسُ الشَّبَهِ وَفِي أَصْلِهِ شُبْهَةٌ أَيْ فِي أَصْلِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ شُبْهَةٌ فَفِي قِيَاسِ الشَّبَهِ أَوْلَى أَوْ جَعْلِهِ وَسِيلَةً إلَى الْعَمَلِ بِمَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ وَهُوَ نَفْسُ الْقِيَاسِ، وَإِنَّهُ مُظْهِرٌ وَلَيْسَ بِمُثْبِتٍ وَفِي أَصْلِهِ شَبَهٌ أَنَّهُ صَوَابٌ أَوْ خَطَأٌ وَلَا شُبْهَةَ فِي أَصْلِ السُّنَّةِ إنَّمَا الشُّبْهَةُ فِي طَرِيقِهَا قَامَ الشَّرْعُ بِخِصَالِهِ أَيْ مُلْتَبِسًا بِخِصَالِهِ وَهِيَ مَحَاسِنُهُ وَأَحْكَامُهُ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّكُمْ قَدَّمْتُمْ شُبْهَةَ السَّمَاعِ عَلَى الْقِيَاسِ مِنْ حَيْثُ أَوْجَبْتُمْ تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ ثُمَّ قَدَّمْتُمْ الْقِيَاسَ عَلَى حَقِيقَةِ السَّمَاعِ فِي حَدِيثِ الْمُصِرَّاتِ وَأَمْثَالِهِ مَعَ كَوْنِ الرَّاوِي مَعْرُوفًا بِالضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ وَالْعَدَالَةِ وَكَوْنِهِ مِنْ أَجَلِّ الصَّحَابَةِ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْ الصَّحَابَةِ فِيمَا ذَكَرْنَا الْفُقَهَاءُ مِنْهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيُسْرِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ فِي رِوَايَةٍ يَجِبُ تَقْلِيدُ كُلِّ صَحَابِيٍّ وَتَقْدِيمُ قَوْلِهِ عَلَى الْقِيَاسِ وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَجِبُ التَّقْلِيدُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ وَإِلَيْهِ مَالَ أَبُو الْحَسَنِ مَعَ جَمَاعَةٍ وَفِي رِوَايَةٍ يَجِبُ تَقْلِيدُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا يَجِبُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِمْ وَإِلَيْهِ مَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيُّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ الْإِيمَانِ مِنْ الْمَبْسُوطِ وَلَكِنَّ قَوْلَ الْوَاحِدِ مِنْ فُقَهَائِهِمْ فِيمَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ وَفِي شَرْحِ الْبُيُوعِ فِي مَسْأَلَةِ اشْتِرَاطِ إعْلَامِ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقَوْلُ الْفَقِيهِ مِنْ الصَّحَابَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ وَفِي بَابِ الْبَيْعِ إذَا كَانَ فِيهِ شَرْطٌ وَقَوْلُ الْوَاحِدِ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ عِنْدَنَا وَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: «أَصْحَابِي

[تقليد التابعين]

وَإِنْ ظَهَرَ فَتْوَاهُ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ كَانَ مِثْلَهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا لِتَسْلِيمِهِمْ مُزَاحَمَتَهُ إيَّاهُمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ لَا يَصِحُّ تَقْلِيدُهُ وَهُوَ دُونَهُمْ لِعَدَمِ احْتِمَالِ التَّوْقِيفِ فِيهِ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ شُرَيْحًا خَالَفَ عَلِيًّا فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْحَسَنِ وَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ لَهُ فِي الْمَشُورَةِ قُلْ أَيُّهَا الْعَبْدُ الْأَبْظَرُ وَخَالَفَ مَسْرُوقٌ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي النَّذْرِ بِنَحْرِ الْوَلَدِ ثُمَّ رَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ إلَى فَتْوَاهُ وَلِأَنَّهُ بِتَسْلِيمِهِمْ دَخَلَ فِي جُمْلَتِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -. ـــــــــــــــــــــــــــــQكَالنُّجُومِ» أَهْلُ الْبَصَرِ مِنْهُمْ أَيْ أَهْلُ الرَّأْيِ وَهُمْ الْفُقَهَاءُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ فُقَهَاؤُهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ انْدَفَعَ التَّنَاقُضُ فَكَانَ قَوْلُهُ عَلَى احْتِمَالِ السَّمَاعِ مُقَدَّمًا عَلَى الْقِيَاسِ كَمَا إذَا رُوِيَ خَبَرٌ أَوْ عَلَى احْتِمَالِ عَدَمِهِ كَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُجُوهِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَلَا تَنَاقُضَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا كَانَ مُقَدَّمًا فِيمَا إذَا كَانَ الرَّاوِي غَيْرَ فَقِيهٍ إذَا انْسَدَّ بَابُ الرَّأْيِ فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ وَهَاهُنَا لَمْ يَنْسَدَّ بِقَوْلِهِ بَابُ الرَّأْيِ بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا احْتَمَلَ أَنَّهُ قَالَهُ عَنْ رَأْيٍ كَانَ مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى لَوْ لَزِمَ مِنْهُ انْسِدَادُ بَابِ الرَّأْيِ لَا يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى الْقِيَاسِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ أَيْضًا إلَيْهِ أَشَارَ شَيْخُنَا الْعَلَامَةُ مَوْلَانَا حَافِظُ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي ثُمَّ بَيَّنَ الشَّيْخُ مَحَلَّ النِّزَاعِ فَقَالَ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ أَيْ الِاخْتِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي كَذَا وَذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ مَا إذَا وَرَدَ عَنْ الصَّحَابِيِّ قَوْلٌ فِي حَادِثَةٍ لَمْ تَحْتَمِلْ الِاشْتِهَارَ فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ بِأَنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَقَعُ بِهَا الْبَلْوَى وَالْحَاجَةُ لِلْكُلِّ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ مَا اُشْتُهِرَ عَادَةً ثُمَّ ظَهَرَ نَقْلُ هَذَا الْقَوْلِ فِي التَّابِعِينَ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُ ذَلِكَ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَوْلُ فِي حَادِثَةٍ مِنْ حَقِّهَا الِاشْتِهَارُ لَا مَحَالَةَ وَلَا تَحْتَمِلُ الْخَفَاءَ بِأَنْ كَانَتْ الْحَاجَةُ وَالْبَلْوَى يَعُمُّ الْعَامَّةَ وَاشْتُهِرَ مِثْلُهَا فِيمَا بَيْنَ الْخَوَاصِّ وَلَمْ يَظْهَرْ خِلَافٌ مِنْ غَيْرِهِ فِيهِ فَهَذَا إجْمَاعٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى الْمَعْرُوفِ فِي الْإِجْمَاعِ وَكَذَا إذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ فَالْحَقُّ لَا يَعْدُو أَقَاوِيلَهُمْ إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ. وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا وَرَدَ قَوْلٌ مِنْ صَحَابِيٍّ فِيمَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ وَلَمْ يُنْقَلْ مِنْ غَيْرِهِ تَسْلِيمٌ وَلَا إنْكَارٌ وَرَدٌّ إذْ لَوْ كَانَ وُرُودُهُ فِيمَا لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ كَانَ حُجَّةً بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَلَوْ نُقِلَ مِنْ غَيْرِهِ تَسْلِيمٌ كَانَ إجْمَاعًا فَلَا يَجُوزُ خِلَافُهُ وَلَوْ نُقِلَ مِنْ غَيْرِهِ رَدٌّ، وَإِنْكَارٌ كَانَ ذَلِكَ اخْتِلَافًا مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ بِالرَّأْيِ وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّرْجِيحَ أَوْ الْعَمَلَ عِنْدَ تَعَذُّرِ التَّرْجِيحِ بِأَيِّهَا شَاءَ وَعَدَمُ جَوَازِ إحْدَاثِ قَوْلٍ آخَرَ عَلَى مَا مَرَّ فِي بَابِ الْمُعَارَضَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِذَا عُمِلَ بِذَلِكَ أَيْ بِأَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ لَمْ يَجُزْ نَقْضُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ فَوْقَهُ فَوَجَبَ نَقْضُ الْأَوَّلِ حَتَّى لَمْ يَجُزْ نَقْضُ حُكْمٍ أُمْضِيَ بِالِاجْتِهَادِ بِمِثْلِهِ كَانَ أُسْوَةً أَيْ مِثْلُ سَائِرِ الْمُجْتَهِدِينَ يُقَالُ: هُمْ أُسْوَةٌ فِي هَذَا الْمِثَالِ أَيْ مُتَسَاوُونَ وَذُكِرَ فِي الْمُغْرِبِ أَنَّ الْأُسْوَةَ بِمَعْنَى التَّبَعِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ. [تَقْلِيد التَّابِعِينَ] قَوْلُهُ: (وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ ظَهَرَ فَتْوَاهُ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ) كَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَشُرَيْحٍ وَمَسْرُوقٍ وَعَلْقَمَةَ كَانَ مِثْلَهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْ مِثْلَ الصَّحَابَةِ فِي وُجُوبِ التَّقْلِيدِ عَنْ الْبَعْضِ. ذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ حُسَامُ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّ فِي تَقْلِيدِ التَّابِعِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنَّهُ قَالَ: لَا أُقَلِّدُهُمْ هُمْ رِجَالٌ اجْتَهَدُوا وَنَحْنُ رِجَالٌ نَجْتَهِدُ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْهَبِ وَالثَّانِيَةُ مَا ذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ وَأَفْتَى فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَزَاحَمَهُمْ فِي الْفَتْوَى وَسَوَّغُوا لَهُ الِاجْتِهَادَ فَأَنَا أُقَلِّدُهُ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا سَوَّغُوا لَهُ الِاجْتِهَادَ وَزَاحَمَهُمْ فِي الْفَتْوَى صَارَ مِثْلَهُمْ بِتَسْلِيمِهِمْ مُزَاحَمَتَهُ إيَّاهُمْ أَلَا تَرَى أَنَّ عَلِيًّا تَحَاكَمَ إلَى شُرَيْحٍ وَكَانَ عُمَرُ وَلَّاهُ الْقَضَاءَ فَخَالَفَ عَلِيًّا فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْحَسَنِ لَهُ لِلْقَرَابَةِ وَكَانَ مِنْ رَأْيِ

[باب الإجماع]

(بَابُ الْإِجْمَاعِ) الْكَلَامُ فِي الْإِجْمَاعِ فِي رُكْنِهِ وَأَهْلِيَّةِ مَنْ يَنْعَقِدُ بِهِ وَشَرْطِهِ وَحُكْمِهِ وَسَبَبِهِ وَأَمَّا رُكْنُهُ فَنَوْعَانِ عَزِيمَةٌ وَرُخْصَةٌ أَمَّا الْعَزِيمَةُ فَالتَّكَلُّمُ مِنْهَا بِمَا يُوجِبُ الِاتِّفَاقَ مِنْهُمْ أَوْ شُرُوعَهُمْ فِي الْفِعْلِ فِيمَا كَانَ مِنْ بَابِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَوَازُ شَهَادَةِ الِابْنِ لِأَبِيهِ وَخَالَفَ مَسْرُوقٌ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي النَّذْرِ بِذَبْحِ الْوَلَدِ فَأَوْجَبَ مَسْرُوقٌ فِيهِ شَاةً بَعْدَمَا أَوْجَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيهِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ فَرَجَعَ إلَى قَوْلِ مَسْرُوقٍ وَسُئِلَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: سَلُوا عَنْهَا سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَهُوَ أَعْلَمُ بِهَا مِنِّي وَكَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: سَلُوا عَنْهَا مَوْلَانَا الْحَسَنَ فَثَبَتَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُسَوِّغُونَ الِاجْتِهَادَ لِلتَّابِعِينَ وَيَرْجِعُونَ إلَى أَقْوَالِهِمْ وَيَعُدُّونَهُمْ مِنْ جُمْلَتِهِمْ فِي الْعِلْمِ وَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ تَقْلِيدُهُمْ كَتَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ إنَّمَا جُعِلَ حُجَّةً لِاحْتِمَالِ السَّمَاعِ وَلِفَضْلِ إصَابَتِهِمْ فِي الرَّأْيِ بِبَرَكَةِ صُحْبَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَذَانِكَ مَفْقُودَانِ فِي حَقِّ التَّابِعِيِّ. وَإِنْ بَلَغَ الِاجْتِهَادَ وَزَاحَمَهُمْ فِي الْفَتْوَى وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيمَا ذَكَرُوا مِنْ الْأَمْثِلَةِ؛ لِأَنَّ غَايَةَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ صَارُوا مِثْلَهُمْ فِي الْفَتْوَى وَزَاحَمُوهُمْ فِيهَا وَأَنَّ الصَّحَابَةَ سَلَّمُوا لَهُمْ الِاجْتِهَادَ وَلَكِنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا وُجُوبُ التَّقْلِيدِ مِنْ احْتِمَالِ السَّمَاعِ وَمُشَاهَدَةِ أَحْوَالِ التَّنْزِيلِ وَبَرَكَةِ صُحْبَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَفْقُودَةٌ فِي حَقِّهِمْ أَصْلًا فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ بِحَالٍ وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ قَوْلَ التَّابِعِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى وَجْهٍ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ فَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا جَاءَنَا عَنْ التَّابِعِينَ زَاحَمْنَاهُ يَعْنِي فِي الْفَتْوَى فَنُفْتِي بِخِلَافِ رَأْيِهِمْ بِاجْتِهَادِنَا إنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ قَوْلَهُ هَلْ يُعْتَدُّ بِهِ فِي إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حَتَّى لَا يَتِمَّ إجْمَاعُهُمْ مَعَ خِلَافِهِ فَعِنْدَنَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فَكَأَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ لَمْ يَعْتَبِرْ رِوَايَةَ النَّوَادِرِ وَالشَّيْخُ اعْتَبَرَهَا وَأَثْبَتَ الْخِلَافَ، فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ حُجَّةً فَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِ أَبِي حَنِيفَةَ أَقْوَالَهُمْ فِي الْمَسَائِلِ قُلْنَا: إنَّمَا ذَكَرَهَا لِبَيَانِ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَنِدْ بِهَذَا الْقَوْلِ مُخْتَرِعًا بَلْ سَبَقَهُ غَيْرُهُ فِيهِ وَأَنَّهُ وَافَقَهُ فِيهِ مَنْ هُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ لَا لِبَيَانِ أَنَّهُ يُقَلِّدُهُمْ وَالْأَبْظَرُ هُوَ الَّذِي فِي شَفَتَيْهِ بُظَارَةٌ وَهِيَ هِنَّةٌ نَابِتَةٌ فِي وَسَطِ الشَّفَةِ الْعُلْيَا وَلَا تَكُونُ لِكُلِّ أَحَدٍ وَقِيلَ الْأَبْظَرُ الصِّحَارُ الطَّوِيلُ اللِّسَانِ وَجَعَلَهُ عَبْدًا؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ عَلَيْهِ سَبْيُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْإِجْمَاعِ] [أَرْكَان الْإِجْمَاع] (بَابُ الْإِجْمَاعِ) الْإِجْمَاعُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْعَزْمُ يُقَالُ: أَجْمَعَ فُلَانٌ عَلَى كَذَا إذَا عَزَمَ عَلَيْهِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى إخْبَارًا {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} [يونس: 71] أَيْ اعْزِمُوا عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا صِيَامَ لَمَنْ لَمْ يُجْمِعْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» أَيْ لَمْ يَعْزِمْ، وَالِاتِّفَاقُ أَيْضًا وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ أَجْمَعَ الْقَوْمُ عَلَى كَذَا أَيْ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ مُتَصَوَّرٌ مِنْ وَاحِدٍ وَبِالْمَعْنَى الثَّانِي لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا مِنْ الِاثْنَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا وَفِي الشَّرِيعَةِ قِيلَ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ اتِّفَاقِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُوجَدُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جُمْلَةُ مَنْ اتَّبَعَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ وُجِدَ فِي بَعْضِ الْأَعْصَارِ مِنْهُمْ، فَإِنَّمَا هُمْ بَعْضُ الْأُمَّةِ لَا كُلُّهَا وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَبًا لِأَحَدٍ وَبِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، فَإِنَّهُ لَوْ خَلَا عَصْرٌ عَنْ الْمُجْتَهِدِينَ وَاتَّفَقُوا

لِأَنَّ رُكْنَ كُلِّ شَيْءٍ مَا يَقُومُ بِهِ أَصْلُهُ وَالْأَصْلُ فِي نَوْعَيْ الْإِجْمَاعِ مَا قُلْنَا. ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى أَمْرٍ دِينِيٍّ، فَإِنَّ اتِّفَاقَهُمْ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ إجْمَاعًا شَرْعِيًّا بِالِاتِّفَاقِ مَعَ انْطِبَاقِ هَذَا الْحَدِّ عَلَيْهِ وَغَيْرَ مُنْعَكِسٍ، فَإِنَّ الْأُمَّةَ وَالْمُجْتَهِدِينَ لَوْ اتَّفَقُوا عَلَى عَقْلِيٍّ أَوْ عُرْفِيٍّ كَانَ إجْمَاعًا مَعَ خُرُوجِهِمَا عَنْ هَذَا الْحَدِّ لِكَوْنِهِمَا غَيْرَ دِينِيَّيْنِ وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي بِأَنَّ الْمُرَادَ الْمُجْتَهِدُونَ الْمَوْجُودُونَ فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ كَوْنَ الِاتِّفَاقِ عَلَى عَقْلِيٍّ أَوْ عُرْفِيٍّ إجْمَاعًا غَيْرُ مُسَلَّمٍ عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ وَقِيلَ هُوَ اجْتِمَاعُ جَمِيعِ آرَاءِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ عَلَى حُكْمٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ عَقْلِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ عِنْدَ نُزُولِ الْحَادِثَةِ. وَقِيلَ وَهُوَ الْأَصَحُّ: إنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ اتِّفَاقِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي عَصْرٍ عَلَى أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ فَأُرِيدَ بِالِاتِّفَاقِ الِاشْتِرَاكُ فِي الِاعْتِقَادِ أَوْ الْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ. وَإِذَا أَطْبَقَ بَعْضُهُمْ عَلَى الِاعْتِقَادِ وَبَعْضُهُمْ عَلَى الْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ الدَّالَيْنِ عَلَى الِاعْتِقَادِ، وَاحْتَرَزَ بِلَفْظِ الْمُجْتَهِدِينَ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ الْمُسْتَغْرِقِ بِالْجَمِيعِ عَنْ اتِّفَاقِ غَيْرِهِمْ كَالْعَامَّةِ وَاتِّفَاقِ بَعْضِهِمْ وَبِقَوْلِهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَنْ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أَرْبَابِ الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ وَبِقَوْلِهِ فِي عَصْرٍ عَنْ إيهَامِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِاتِّفَاقِ مُجْتَهِدِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ إلَى يَوْمِ الْقِيمَةِ لِتَنَاوُلِ لَفْظِ الْمُجْتَهِدِينَ جَمِيعَهُمْ، وَإِنَّمَا قِيلَ عَلَى أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ لِيَكُونَ مُتَنَاوِلًا لِلْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ وَالْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ ثُمَّ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ مُتَصَوَّرٌ وَأَنْكَرَ بَعْضُ الرَّوَافِضِ وَالنَّظَّامُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ تَصَوُّرَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَمْرٍ غَيْرِ ضَرُورِيٍّ مُسْتَدِلِّينَ بِأَنَّ انْتِشَارَ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا يَمْنَعُ نَقْلَ الْحُكْمِ إلَيْهِمْ عَادَةً، فَإِذَا امْتَنَعَ ذَلِكَ امْتَنَعَ الِاتِّفَاقُ الَّذِي هُوَ فَرْعُ تَسَاوِيهِمْ فِي نَقْلِ الْحُكْمِ إلَيْهِمْ وَبِأَنَّ اتِّفَاقَهُمْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَنْ قَاطِعٍ أَوْ ظَنٍّ إذْ لَا ثَالِثَ وَلَا بُدَّ لِلْإِجْمَاعِ مِنْ مُسْتَنَدٍ، فَإِنْ كَانَ عَنْ قَاطِعٍ فَالْعَادَةُ تُحِيلُ عَدَمَ نَقْلِهِ وَتَوَاطُؤِ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ عَلَى إخْفَائِهِ وَحَيْثُ لَمْ يُنْقَلْ دَلَّ عَلَى عَدَمِهِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ ظَنٍّ فَالِاتِّفَاقُ فِيهِ مُمْتَنِعٌ عَادَةً أَيْضًا لِاخْتِلَافِ الْقَرَائِحِ كَمَا أَنَّ الْعَادَةَ تُحِيلُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى أَكْلِ طَعَامٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ قَالَ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَمَّا كَانَ مُتَصَوَّرًا فِي الْأَخْبَارِ الْمُسْتَفِيضَةِ يَكُونُ مُتَصَوَّرًا فِي الْأَحْكَامِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ كَمَا يُوجَدُ سَبَبٌ يَدْعُو إلَى إجْمَاعِهِمْ عَلَى الْأَخْبَارِ الْمُسْتَفِيضَةِ لَوُجِدَ أَيْضًا سَبَبٌ يَدْعُو إلَى إجْمَاعِهِمْ بِاعْتِقَادِ الْأَحْكَامِ، وَالِانْتِشَارُ إنَّمَا يَمْنَعُ عَنْ النَّقْلِ عَادَةً إذَا لَمْ يَكُونُوا مُجِدِّينَ وَبَاحِثِينَ فَأَمَّا إذَا كَانُوا كَذَلِكَ فَلَا وَالْعَادَةُ لَا تُحِيلُ أَيْضًا عَدَمَ نَقْلِ الْقَاطِعِ إذَا اُسْتُغْنِيَ عَنْ نَقْلِهِ بِدَلَالَةِ غَيْرِهِ عَلَى حُكْمِهِ كَالْإِجْمَاعِ فِي مِثَالِنَا، فَإِنَّهُ أَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ. وَكَذَا اخْتِلَافُ الْقَرَائِحِ إنَّمَا يَمْنَعُ مِنْ الِاتِّفَاقِ فِيمَا هُوَ خَفِيٌّ مِنْ الظَّنِّ لَا فِيمَا هُوَ جَلِيٌّ مِنْهُ بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ بَلْ يُؤَدِّي اجْتِهَادُ الْكُلِّ بِالنَّظَرِ فِيهِ إلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ وَيَبْطُلُ جَمِيعُ مَا ذَكَرُوا بِالْوُقُوعِ، وَإِنَّا نَعْلَمُ عِلْمًا لَا مِرَاءَ فِيهِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى تَقْدِيمِ النَّصِّ الْقَاطِعِ عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَبِإِجْمَاعِ جَمِيعِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى وُجُوبِ إخْفَاءِ التَّسْمِيَةِ فِي الصَّلَاةِ وَبِإِجْمَاعِ جَمِيعِ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى بُطْلَانِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَالْوُقُوعُ دَلِيلُ الْجَوَازِ وَزِيَادَةٌ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُتَصَوَّرٌ بَلْ وَاقِعٌ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ رُكْنِهِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ وَهُوَ مَا يَقُومُ بِهِ الْإِجْمَاعُ وَأَهْلِيَّةُ مَنْ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِهِ أَيْ بِرَأْيِهِ أَوْ بِقَوْلِهِ إذْ لَا بُدَّ لِكَوْنِ الشَّيْءِ مُعْتَبَرًا مِنْ صُدُورِ رُكْنِهِ مِنْ الْأَهْلِ وَشَرْطُهُ وَهُوَ مَا يَكُونُ الْإِجْمَاعُ

وَأَمَّا الرُّخْصَةُ فَأَنْ يَتَكَلَّمَ الْبَعْضُ وَيَسْكُتَ سَائِرُهُمْ بَعْدَ بُلُوغِهِمْ وَبَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ فِي الْحَادِثَةِ وَكَذَلِكَ فِي الْفِعْلِ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لَا بُدَّ مِنْ النَّصِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQمُتَوَقِّفًا عَلَيْهِ بَعْدَ صُدُورِهِ مِنْ الْأَهْلِ وَحُكْمُهُ أَيْ الْأَثَرُ الثَّابِتُ بِهِ وَسَبَبُهُ وَهُوَ الْمَعْنَى الدَّاعِي إلَى الْإِجْمَاعِ الْجَامِعِ لِلْآرَاءِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِمُسْتَنِدِ الْإِجْمَاعِ، عَزِيمَةٌ وَهِيَ مَا كَانَ أَصْلًا فِي بَابِ الْإِجْمَاعِ إذْ الْعَزِيمَةُ هِيَ الْأَمْرُ الْأَصْلِيُّ وَرُخْصَةٌ وَهِيَ مَا جُعِلَ إجْمَاعًا لِضَرُورَةٍ إذْ مَبْنَى الرُّخْصَةِ عَلَى الضَّرُورَةِ. وَأَمَّا الْعَزِيمَةُ فَالتَّكَلُّمُ بِمَا يُوجِبُ الِاتِّفَاقَ مِنْهُمْ أَوْ شُرُوعُهُمْ فِي الْفِعْلِ فِيمَا يَكُونُ مِنْ بَابِ الْفِعْلِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ ذَلِكَ مَوْجُودًا مِنْ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ فِيمَا يَسْتَوِي الْكُلُّ فِي الْحَاجَةِ إلَى مَعْرِفَتِهِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى الْعَامِّ فِيهِ كَتَحْرِيمِ الزِّنَا وَالرِّبَا أَوْ تَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ وَيَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ فِيمَا لَا يَحْتَاجُ الْعَامُّ إلَى مَعْرِفَتِهِ لِعَدَمِ الْبَلْوَى الْعَامِّ لَهُمْ فِيهِ كَحُرْمَةِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا، وَفَرَائِضُ الصَّدَقَاتِ مِمَّا يَجِبُ فِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَذَكَرَ فِي الْقَوَاطِعِ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ مَا لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ الْحُكْمِ وَالْبَيَانِ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْإِجْمَاعُ كَمَا أَنَّ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَفْعَالِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَخْرَجَ الشَّرْعِ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الشَّرْعُ. وَأَمَّا الَّذِي خَرَجَ مِنْ الْأَفْعَالِ مَخْرَجَ الْحُكْمِ وَالْبَيَانِ فَيَصِحُّ أَنْ يَنْعَقِدَ بِهِ الْإِجْمَاعُ، فَإِنَّ الشَّرْعَ يُؤْخَذُ مِنْ فِعْلِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ إذَا وُجِدَ الْإِجْمَاعُ مِنْ حَيْثُ الْفِعْلُ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ مَا فَعَلُوا وَكَوْنِهِ مُسْتَحَبًّا، وَلَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ مَا لَمْ تُوجَدْ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ عَلَى مَا رُوِيَ مَا اجْتَمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى شَيْءٍ كَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا فَرْضٍ. قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الرُّخْصَةُ) فَكَذَا سُمِّيَ هَذَا الْقِسْمُ رُخْصَةً؛ لِأَنَّهُ جُعِلَ إجْمَاعًا ضَرُورَةً لِلِاحْتِرَازِ عَنْ نِسْبَتِهِمْ إلَى الْفِسْقِ وَالتَّقْصِيرِ فِي أَمْرِ الدِّينِ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ مَا إذَا ذَهَبَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِي عَصْرٍ إلَى حُكْمٍ فِي مَسْأَلَةٍ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْمَذَاهِبِ عَلَى حُكْمِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَانْتَشَرَ ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ عَصْرِهِ وَمَضَى مُدَّةُ التَّأَمُّلِ فِيهِ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَالِفٌ كَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مَقْطُوعًا بِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ يَعْنِي إذَا فَعَلَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فِعْلًا وَعَلِمَ بِهِ أَهْلُ زَمَانِهِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ يَكُونُ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى إبَاحَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَيُسَمَّى هَذَا إجْمَاعًا سُكُوتِيًّا عِنْدَ مَنْ قَالَ إنَّهُ إجْمَاعٌ وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ فِيهِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِهَذَا الطَّرِيقِ إذَا كَانَ تَرْكُ الرَّدِّ وَالْإِنْكَارِ فِي غَيْرِ حَالَةِ التَّقِيَّةِ وَبَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ؛ لِأَنَّ إظْهَارَ الرِّضَاءِ وَتَرْكَ النَّكِيرِ فِي حَالَةِ التَّقِيَّةِ أَمْرٌ مُعْتَادٌ بَلْ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ رُخْصَةً فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى الرِّضَا وَكَذَا السُّكُوتُ وَالِامْتِنَاعُ عَنْ الرَّدِّ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ حَلَالٌ شَرْعًا فَلَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَاءِ فَلِهَذَا شَرَطْنَا مَعَ السُّكُوتِ وَتَرْكِ الْإِنْكَارِ زَوَالَ التَّقِيَّةِ وَمُضِيَّ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ ثُمَّ قَالَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِمْ فِي مَعْرِفَتِهَا تَكْلِيفٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ فِي مَعْرِفَتِهَا تَكْلِيفٌ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَفْضَلُ أَمْ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَتَرْكُ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ قَالَ فِيهَا بِقَوْلٍ لَا يَكُونُ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ تَكْلِيفٌ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الْحُكْمِ لَمْ يَلْزَمْهُمْ النَّظَرُ فِيهِ فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ صَوَابًا أَوْ خَطَأً فَلَا يَلْزَمُهُمْ الْإِنْكَارُ إذْ ذَلِكَ الْإِنْكَارُ إنَّمَا يَلْزَمُهُمْ عِنْدَ مَعْرِفَةِ كَوْنِهِ خَطَأً. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَنْ يَبْعُدَ أَنْ يَتْرُكُوا الْإِنْكَارَ فِيهِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ مَعْرِفَةِ كَوْنِهِ خَطَأً فَلَا يَكُونُ سُكُوتُهُمْ دَلِيلَ التَّسْلِيمِ وَالرِّضَاءِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَيْهِمْ تَكْلِيفٌ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ يَكُونُ سُكُوتُهُمْ تَصْوِيبًا وَرِضَاءً بِذَلِكَ الْحُكْمِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ يَلْزَمُهُ مِنْهُ إجْمَاعُهُمْ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ مِنْ

وَلَا يَثْبُتُ بِالسُّكُوتِ وَحُكِيَ هَذَا عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَاوَرَ الصَّحَابَةَ فِي مَالٍ فَضَلَ عِنْدَهُ وَعَلِيٌّ سَاكِتٌ حَتَّى قَالَ لَهُ مَا تَقُولُ يَا أَبَا الْحَسَنِ فَرَوَى لَهُ حَدِيثًا فِي قِسْمَةِ الْفَضْلِ فَلَمْ يَجْعَلْ سُكُوتَهُ تَسْلِيمًا وَشَاوَرَهُمْ فِي إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ فَرَأَوْا بِأَنْ لَا غُرْمَ عَلَيْهِ وَعَلِيٌّ سَاكِتٌ فَلَمَّا سَأَلَهُ قَالَ أَرَى عَلَيْك الْغُرَّةَ وَلِأَنَّ السُّكُوتَ قَدْ يَكُونُ مَهَابَةً كَمَا قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَا مَنَعَك أَنْ تُخْبِرَ عُمَرَ بِقَوْلِك فِي الْعَوْلِ فَقَالَ دِرَّتُهُ وَقَدْ يَكُونُ لِلتَّأَمُّلِ فَلَا يَصْلُحُ حُجَّةً ـــــــــــــــــــــــــــــQالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْمُحَالِ وَهُوَ الْخَلْفُ فِي إخْبَار اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّهُ تَعَالَى مَدَحَهُمْ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَشَهِدَ لَهُمْ بِذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] وَمَا يُؤَدِّي إلَى الْمُحَالِ فَاسِدٌ. 1 - فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةً بِأَنْ كَانَتْ مِنْ الْفُرُوعِ الَّتِي هِيَ مِنْ بَابِ الْعَمَلِ دُونَ الِاعْتِقَادِ فَالْجَوَابُ فِيهَا وَفِي الْمَسْأَلَةِ الِاعْتِقَادِيَّةِ سَوَاءٌ يَعْنِي يَكُونُ ذَلِكَ إجْمَاعًا عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كَصَاحِبِ الْقَوَاطِعِ وَمَنْ تَابَعَهُ وَنُقِلَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ حُجَّةٌ وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَقِيلَ هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ قَدْ نَصَّ فِي مَوْضِعٍ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ إذَا انْتَشَرَ وَلَمْ يُخَالَفْ فَهُوَ حُجَّةٌ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ مَنْ نَسَبَ إلَى سَاكِتٍ قَوْلًا فَقَدْ افْتَرَى عَلَيْهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ حُجَّةٌ عِنْدَهُ وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو هَاشِمٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَلَا حُجَّةٍ وَإِلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ مَذْهَبُ عِيسَى بْنِ أَبَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَالْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيِّ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَدَاوُد الظَّاهِرِيِّ وَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ وَيُحْكَى عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إنْ ظَهَرَ الْقَوْلُ مِنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَالسَّاكِتُونَ نَفَرٌ يَسِيرٌ يَثْبُتُ بِهِ الْإِجْمَاعُ، وَإِنْ انْتَشَرَ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ اثْنَيْنِ وَالسَّاكِتُونَ أَكْثَرُ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْإِجْمَاعُ وَنُقِلَ عَنْ الْجُبَّائِيُّ أَنَّهُ إجْمَاعٌ وَحُجَّةٌ بِشَرْطِ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إنْ كَانَ ذَلِكَ فَتْوَى وَانْتَشَرَ وَلَمْ يُعْرَفْ مُخَالِفٌ يَكُونُ إجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَ حُكْمًا لَا يَكُونُ إجْمَاعًا وَلَا حُجَّةً وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إنْ كَانَ حُكْمًا يَكُونُ إجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَ فَتْوَى لَا يَكُونُ إجْمَاعًا وَقَوْلُهُ لَا بُدَّ مِنْ النَّصِّ أَيْ مِنْ التَّنْصِيصِ عَلَى الْحُكْمِ مِنْ الْكُلِّ لِثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ إنْ كَانَ قَوْلِيًّا وَمِنْ شُرُوعِهِمْ جَمِيعًا فِي الْفِعْلِ إنْ كَانَ فِعْلِيًّا وَلَا يَثْبُتُ بِالسُّكُوتِ أَيْ لَا يَثْبُتُ التَّنْصِيصُ بِالسُّكُوتِ، فَإِنَّهُ لَا يُنْسَبُ قَوْلٌ إلَى سَاكِتٍ أَوْ وَلَا يَثْبُتُ الْإِجْمَاعُ بِالسُّكُوتِ احْتَجَّ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ أَصْلًا بِالْآثَارِ وَالْمَعْقُولِ أَمَّا الْآثَارُ فَمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ «ذِي الْيَدَيْنِ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَهَا نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقَالَ: أَحَقٌّ مَا يَقُولُهُ ذُو الْيَدَيْنِ» وَلَوْ كَانَ تَرْكُ النَّكِيرِ دَلِيلَ الْمُوَافَقَةِ لَاكْتَفَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمَا اسْتَنْطَقَهُمْ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمَّا شَاوَرَ الصَّحَابِيَّ فِي مَالٍ فَضَلَ عِنْدَهُ مِنْ الْغَنَائِمِ أَشَارُوا عَلَيْهِ بِتَأْخِيرِ الْقِسْمَةِ وَالْإِمْسَاكِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْقَوْمِ سَاكِتٌ فَقَالَ لَهُ مَا تَقُولُ يَا أَبَا الْحَسَنِ قَالَ لَمْ نَجْعَلْ يَقِينَك شَكًّا وَعِلْمَك جَهْلًا أَرَى أَنْ تُقَسِّمَ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَرَوَى فِيهِ حَدِيثًا فَعُمَرُ لَمْ يَجْعَلْ سُكُوتَهُ تَسْلِيمًا وَدَلِيلًا عَلَى الْمُوَافَقَةِ حَتَّى سَأَلَهُ وَاسْتَجَازَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - السُّكُوتَ مَعَ كَوْنِ الْحَقِّ عِنْدَهُ فِي خِلَافِهِمْ وَمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَبَلَغَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهَا تُجَالِسُ الرِّجَالَ وَتُحَدِّثُهُمْ فَأَشْخَصَ إلَيْهَا لِيَمْنَعَهَا عَنْ ذَلِكَ فَأَمْصَلَتْ مِنْ هَيْبَتِهِ فَشَاوَرَ الصَّحَابَةَ فِي ذَلِكَ فَقَالُوا لَا غُرْمَ إنَّمَا أَنْتَ مُؤَدِّبٌ وَمَا أَرَدْت إلَّا الْخَيْرَ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَاكِتٌ فِي الْقَوْمِ فَقَالَ مَا تَقُولُ يَا أَبَا الْحَسَنِ فَقَالَ إنْ كَانَ هَذَا جَهْدُ رَأْيِهِمْ فَقَدْ أَخْطَئُوا، وَإِنْ قَارَبُوك أَيْ طَلَبُوا قُرْبَتَك

وَلَنَا شَرْطُ النُّطْقِ مِنْهُمْ جَمِيعًا مُتَعَذِّرٌ غَيْرُ مُعْتَادٍ بَلْ الْمُعْتَادُ فِي كُلِّ عَصْرٍ أَنْ يَتَوَلَّى الْكِبَارُ الْفَتْوَى وَيُسَلِّمُ سَائِرُهُمْ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَقَدْ غَشُّوك أَيْ خَانُوك أَرَى عَلَيْك الْغُرَّةُ فَقَالَ: أَنْتَ صَدَقْتَنِي فَقَدْ اسْتَجَازَ عَلِيٌّ السُّكُوتَ مَعَ إضْمَارِ الْخِلَافِ وَلَمْ يَجْعَلْ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - سُكُوتَهُ دَلِيلَ الْمُوَافَقَةِ حَتَّى اسْتَنْطَقَهُ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ السُّكُوتَ كَمَا يَكُونُ لِلْمُوَافَقَةِ يَكُونُ لِلْمَهَابَةِ وَالتَّقِيَّةِ مَعَ إضْمَارِ الْخِلَافِ كَمَا قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمَّا أَظْهَرَ قَوْلَهُ فِي الْعَوْلِ وَقَدْ كَانَ يُنْكِرُهُ هَلَّا قُلْت هَذَا فِي زَمَنِ عُمَرَ، وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِالْعَوْلِ فَقَالَ كَانَ رَجُلًا مَهِيبًا فَهِبْتُهُ وَفِي رِوَايَةٍ مَنَعَنِي عَنْ ذَلِكَ دِرَّتُهُ وَقَدْ يَكُونُ لِلْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَأَمَّلُوا فِي الْمَسْأَلَةِ أَيْ لَمْ يَجْتَهِدُوا لِاشْتِغَالِهِمْ بِالْجِهَادِ أَوْ سِيَاسَةِ الرَّعِيَّةِ أَوْ اجْتَهَدُوا فَلَمْ يُؤَدِّ اجْتِهَادُهُمْ إلَى شَيْءٍ فَتَوَقَّفُوا. وَقَدْ يَكُونُ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَلَمْ يَرَوْا الْإِنْكَارَ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ مَعْنًى لِكَوْنِ هَذَا الْقَوْلِ صَوَابًا فِي حَقِّ قَائِلِهِ عِنْدَهُمْ كَالْقَاضِي إذَا قَضَى فِي مَسْأَلَةٍ مُجْتَهِدًا فِيهَا بِرَأْيِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَسَكَتَ الْمُخَالِفُونَ لَا يَكُونُ سُكُوتُهُمْ دَلِيلَ الرِّضَاءِ وَالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ يَكُونُ لِكَوْنِ الْعَامِلِ أَكْبَرَ سِنًّا وَأَعْظَمَ حُرْمَةً وَأَقْوَى فِي الِاجْتِهَادِ فَلَا يَزُولُ التَّدَارُكُ وَالْإِنْكَارُ مَصْلَحَةً احْتِرَامًا لَهُ، وَإِذَا كَانَ مُحْتَمِلًا لِهَذِهِ الْمَعَانِي لَا يَكُونُ حُجَّةً خُصُوصًا فِيمَا هُوَ مُوجِبٌ لِلْعِلْمِ قَطْعًا أَلَا تَرَى أَنَّ السُّكُوتَ فِيمَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى شَيْءٍ لِكَوْنِهِ مُحْتَمِلًا فَكَذَا فِيمَا لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ خِلَافٌ. 1 - وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: إنَّهُ حُجَّةٌ وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ بِأَنَّ سُكُوتَهُمْ مَعَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ يَدُلُّ ظَاهِرًا عَلَى الْمُوَافَقَةِ فَيَكُونُ حُجَّةً يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا كَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ وَقَدْ احْتَجَّ الْفُقَهَاءُ فِي كُلِّ عَصْرٍ بِالْقَوْلِ الْمُنْتَشِرِ فِي الصَّحَابَةِ إذَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَالِفٌ فَدَلَّ أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوهُ حُجَّةً إلَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ إجْمَاعًا مَقْطُوعًا بِهِ لِلِاحْتِمَالَاتِ الْمَذْكُورَةِ. وَوَجْهُ قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ الْأَكْثَرَ أَنْ يَجْعَلَ الْأَقَلَّ تَبَعًا لِلْأَكْثَرِ، فَإِذَا كَانَ الْأَكْثَرُ سُكُوتًا يَجْعَلُ ذَلِكَ كَسُكُوتِ الْكُلِّ، وَإِذَا ظَهَرَ الْقَوْلُ مِنْ الْأَكْثَرِ يَجْعَلُ ذَلِكَ كَظُهُورٍ مِنْ الْكُلِّ. وَأَمَّا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَدْ تَمَسَّكَ بِأَنَّ الْمَوْجُودَ إذَا كَانَ حُكْمًا مِنْ بَعْضِ الْقُضَاةِ لَا يَدُلُّ السُّكُوتُ مِنْ الْبَاقِينَ عَلَى الرِّضَاءِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ يُسْقِطُ الِاعْتِرَاضَ؛ لِأَنَّ فِي الْإِنْكَارِ اقْتِيَاتًا عَلَيْهِ قَالَ وَنَحْنُ نَحْضُرُ بَعْضَ الْأَحْكَامِ وَنَرَاهُمْ يَقْضُونَ بِخِلَافِ مَذْهَبِنَا وَلَا نُنْكِرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَلَا يَكُونُ سُكُوتُنَا رِضَاءً مِنَّا بِذَلِكَ بِخِلَافِ قَوْلِ الْمُفْتِي، فَإِنَّ فَتْوَاهُ غَيْرُ لَازِمَةٍ وَلَا مَانِعَةٍ مِنْ الِاعْتِرَاضِ وَوَافَقَهُ أَبُو إِسْحَاقَ فَقَالَ: إنَّ الْأَغْلَبَ أَنَّ الصَّادِرَ مِنْ الْحَاكِمِ يَكُونُ عَنْ مَشُورَةٍ وَالصَّادِرَ عَنْ فَتْوَى يَكُونُ عَنْ اسْتِبْدَادٍ، فَإِذَا صَدَرَ الْقَوْلُ عَنْ مُشَاوَرَةٍ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْإِجْمَاعِ، وَإِذَا صَدَرَ عَنْ اسْتِبْدَادِهِ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى الْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا الْجُبَّائِيُّ فَقَالَ: انْقِرَاضُ الْعَصْرِ يُضْعِفُ احْتِمَالَاتِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ سُكُوتُ الْعُلَمَاءِ عَلَى مُجْتَهِدٍ فِي مَسْأَلَةٍ ظَنِّيَّةٍ لَكِنَّ اسْتِمْرَارَهُمْ عَلَى السُّكُوتِ فِي الزَّمَنِ الْمُتَطَوِّرِ يَبْعُدُ وَيُخَالِفُ الْعَادَةَ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يَتَكَرَّرُ تَذَاكِيرُ الْوَاقِعَةِ وَالْخَوْضُ فِيهَا لَمْ يُتَصَوَّرْ دَوَامُ السُّكُوتِ مِنْ كُلِّ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى تَكَرُّرِ الْوَاقِعَةِ فِي حُكْمِ الْعَادَةِ وَلِهَذَا أَظْهَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ خِلَافًا فِي مَسْأَلَةِ الْعَوْلِ مِنْ بَعْدُ فَلِذَلِكَ شَرَطْنَا انْقِرَاضَ الْعَصْرِ لِصَيْرُورَتِهِ إجْمَاعًا. قَوْلُهُ: (إنَّ شَرْطَ النُّطْقِ مِنْهُمْ جَمِيعًا مُتَعَذِّرٌ) إلَى آخِرِهِ وَبَيَانُهُ مَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ التَّنْصِيصُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى قَوْلِهِ وَإِظْهَارُ الْمُوَافَقَةِ مَعَ الْأَخْرَسِ قَوْلًا إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ إجْمَاعُ أَهْلِ الْعَصْرِ كُلِّهِمْ عَلَى قَوْلٍ يُسْمَعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ إلَّا

وَلِأَنَّا إنَّمَا نَجْعَلُ السُّكُوتَ تَسْلِيمًا بَعْدَ الْعَرْضِ وَذَلِكَ مَوْضِعُ وُجُوبِ الْفَتْوَى وَحُرْمَةِ السُّكُوتِ لَوْ كَانَ مُخَالِفًا، فَإِذَا لَمْ يُجْعَلْ تَسْلِيمًا كَانَ فِسْقًا أَوْ بَعْدَ الِاشْتِهَارِ وَالْإِشْهَارُ يُنَافِي الْخَفَاءَ فَكَانَ كَالْعَرْضِ وَذَلِكَ أَيْضًا بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ وَذَلِكَ يُنَافِي الشُّبْهَةَ فَتَعَيَّنَ وَجْهُ التَّسْلِيمِ. وَأَمَّا سُكُوتُ عَلِيٍّ فَإِنَّمَا كَانَ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ أَفْتَوْا بِإِمْسَاكِ الْمَالِ وَبِأَنْ لَا غُرْمَ عَلَيْهِ فِي إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ كَانَ حَسَنًا ـــــــــــــــــــــــــــــQوَفِي الْعَادَةِ إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِانْتِشَارِ الْفَتْوَى مِنْ الْبَعْضِ وَسُكُوتِ الْبَاقِينَ وَفِي اتِّفَاقِنَا عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً وَطَرِيقًا لِمَعْرِفَةِ الْحُكْمِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُتَعَذِّرَ كَالْمُمْتَنِعِ ثُمَّ تَعْلِيقُ الشَّيْءِ بِشَرْطٍ هُوَ مُمْتَنِعٌ يَكُونُ نَفْيًا فَكَذَا تَعْلِيقُهُ بِشَرْطٍ هُوَ مُتَعَذِّرٌ وَهَذَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَفَعَ عَنَّا الْحَرَجَ كَمَا لَمْ يُكَلِّفْنَا مَا لَيْسَ فِي وُسْعِنَا وَلَيْسَ فِي وُسْعِ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ السَّمَاعُ مِنْ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُمْ بِقُرُونٍ فَكَانَ ذَلِكَ سَاقِطًا عَنْهُمْ فَكَذَلِكَ يَتَعَذَّرُ السَّمَاعُ مِنْ جَمِيعِ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ وَالْوَقْفُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي حُكْمِ حَادِثَةٍ حَقِيقَةً لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ الْبَيِّنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ اشْتِهَارُ الْفَتْوَى مِنْ الْبَعْضِ وَالسُّكُوتُ مِنْ الْبَاقِينَ كَافِيًا فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ. قَوْلُهُ (وَلِأَنَّا إنَّمَا نَجْعَلُ) دَلِيلٌ آخَرُ مُتَضَمِّنٌ لِلْجَوَابِ عَمَّا ذَكَرَ الْخَصْمُ مِنْ تَحَقُّقِ الِاحْتِمَالَاتِ. وَبَيَانُهُ أَنَّا إنَّمَا نَجْعَلُ سُكُوتَ الْبَاقِينَ تَسْلِيمًا لِقَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ بَعْدَ عَرْضِ الْحَادِثَةِ وَجَوَابِ هَذَا الْقَائِلِ فِيهَا عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ أَيْ الْعَرْضُ مَوْضِعُ وُجُوبِ الْفَتْوَى وَحُرْمَةِ السُّكُوتِ لَوْ كَانَ السَّاكِتُ مُخَالِفًا إذْ السَّاكِتُ عَنْ الْحَقِّ شَيْطَانٌ أَخْرَسُ، فَإِذَا لَمْ يُجْعَلْ السُّكُوتُ تَسْلِيمًا لِقَوْلِهِ كَانَ فِسْقًا؛ لِأَنَّهُ امْتِنَاعٌ عَنْ إظْهَارِ الْحَقِّ وَتَرْكٌ لِلْوَاجِبِ احْتِشَامًا لِلْغَيْرِ، وَالْعَدَالَةُ مَانِعَةٌ عَنْهُ فَلَا يُظَنُّ بِهِمْ ذَلِكَ خُصُوصًا بِالصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُ ظَهَرَ مِنْ صِغَارِهِمْ الرَّدُّ عَلَى الْكِبَارِ وَقَبُولُ الْكِبَارِ ذَلِكَ مِنْهُمْ إذَا كَانَ ذَلِكَ حَقًّا وَقَوْلُهُ أَوْ بَعْدَ الِاشْتِهَارِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ بَعْدَ الْعَرْضِ أَيْ يُجْعَلُ السُّكُوتُ تَسْلِيمًا بَعْدَ الْعَرْضِ أَوْ بَعْدَ الِاشْتِهَارِ إذْ الِاشْتِهَارُ يُنَافِي الْخَطَأَ فَكَانَ كَالْعَرْضِ، وَذَلِكَ أَيْضًا أَيْ جَعْلُ السُّكُوتِ تَسْلِيمًا بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ أَيْضًا كَمَا هُوَ بَعْدَ الْعَرْضِ أَوْ الِاشْتِهَارِ فَيَنْدَفِعُ بِإِسْقَاطِهِمَا احْتِمَالُ السُّكُوتِ لِلْخَفَاءِ وَالتَّأَمُّلِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ، وَذَلِكَ أَيْ مُضِيُّ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ بَعْدَ الْعَرْضِ أَوْ الِاشْتِهَارِ بِاشْتِرَاطِهِمَا يُنَافِي الشُّبْهَةَ أَيْ شُبْهَةَ عَدَمِ التَّسْلِيم فِي السُّكُوتِ فَتَعَيَّنَ وَجْهُ التَّسْلِيمِ فِيهِ يُبَيِّنُهُ أَنَّ أَهْلَ الْإِجْمَاعِ مَعْصُومُونَ عَنْ الْخَطَأِ وَالْعِصْمَةُ وَاجِبَةٌ لَهُمْ كَمَا لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِذَا رَأَى النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُكَلَّفًا يَقُولُ قَوْلًا فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ فَسَكَتَ كَانَ سُكُوتُهُ تَقْرِيرًا مِنْهُ إيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ وَنَزَلَ مَنْزِلَةَ التَّصْرِيحِ بِالتَّصْدِيقِ لَهُ فِي ذَلِكَ فَكَذَلِكَ سُكُوتُ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ التَّصْرِيحِ بِالْمُوَافَقَةِ قَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ: وَلَمَّا كَانَ الْقَوْلُ الْمُنْتَشِرُ مَعَ السُّكُوتِ مِنْ الْبَاقِينَ إجْمَاعًا صَحِيحًا فِي الْحُكْمِ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الِاعْتِقَادِ كَانَ إجْمَاعًا فِي الْفُرُوعِ أَيْضًا لِمَعْنًى جَامِعٍ بَيْنَهُمَا وَهُوَ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ. فَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ الْمُنْتَشِرُ عِنْدَهُمْ خَطَأً لَا يَحِلُّ لَهُمْ السُّكُوتُ وَتَرْكُ الرَّدِّ فِي الْمُعْتَقَدَاتِ وَكَذَا فِي الْفُرُوعِ وَهَذَا عَلَى قَوْلِنَا، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا فِيمَا أَدَّى اجْتِهَادُهُ لَا يَرْضَى بِقَوْلِ صَاحِبِهِ قَوْلًا لِنَفْسِهِ بَلْ يَعْتَقِدُ فِيهِ خِلَافَهُ وَيَدْعُو النَّاسَ إلَى مُعْتَقَدِهِ وَيُنَاظِرُ مَعَ خَصْمِهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْقَوْلُ الْمُنْتَشِرُ مُعْتَقَدَ الْبَاقِينَ لَظَهَرَ وَانْتَشَرَ إلَّا عَنْ خَوْفٍ وَتَقِيَّةٍ وَحِينَئِذٍ ظَهَرَ سَبَبُ التَّقِيَّةِ لَا مَحَالَةَ فَلَمَّا لَمْ يَظْهَرْ سَبَبُ التَّقِيَّةِ وَلَا الْخِلَافُ مِنْهُمْ لِذَلِكَ الْقَوْلِ الْمُنْتَشِرِ دَلَّ أَنَّهُمْ رَضُوا بِذَلِكَ قَوْلًا؛ لِأَنْفُسِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الْعُلَمَاءَ الْحَنَفِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّينَ وَغَيْرَهُمْ لَوْ اجْتَمَعُوا فِي مَجْلِسٍ فَقَامَ سَائِلٌ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَسَأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ فَأَجَابَ بِمَا يُوَافِقُ مَذْهَبَهُ وَسَكَتَ الْحَاضِرُونَ مِنْ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ عَنْ الرَّدِّ لَا يُحْمَلُ سُكُوتُهُمْ عَلَى التَّسْلِيمِ وَالرِّضَاءِ بِقَوْلِهِ فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. قُلْنَا قَدْ احْتَرَزْنَا عَنْهُ بِقَوْلِنَا قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْمَذَاهِبِ فِي بَيَانِ صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا يَدُلُّ سُكُوتُهُمْ فِيمَا ذُكِرَ عَلَى الرِّضَاءِ؛ لِأَنَّ مَذَاهِبَ الْكُلِّ قَدْ تَقَرَّرَتْ وَصَارَتْ مَعْلُومَةً فَلَا يَدُلُّ السُّكُوتُ عَلَى الْمُوَافَقَةِ وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي حَادِثَةٍ تَقَعُ بَيْنَ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا قَوْلٌ فَيَذْكُرُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قَوْلًا فِيهِ وَيَنْتَشِرُ فِي الْبَاقِينَ وَلَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ إنْكَارٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ أَنَّ الْمَذَاهِبَ إذَا كَانَتْ مَعْلُومَةً وَالْإِنْكَارُ مِنْ الْبَاقِينَ لِذَلِكَ مَعْلُومٌ، وَإِنْ لَمْ يُظْهِرُوهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَكَانَ سُكُوتُهُمْ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ قَبْلُ لَا عَلَى إظْهَارِ الْمُوَافَقَةِ أَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ السُّكُوتِ عَلَى مِثْلِ هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ مِنْ قَبْلُ خِلَافٌ مِنْهُمْ لِذَلِكَ وَالسُّكُوتُ عَلَى مِثْلِ هَذَا بَعْدَ أَنْ عَلِمُوا أَنَّهُ خَطَأٌ لَا يَجُوزُ فَدَلَّ أَنَّ سُكُوتَهُمْ كَانَ مَحْضَ الْمُوَافَقَةِ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ إثْبَاتَ الْإِجْمَاعِ بِهَذَا الطَّرِيقِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْعَصْرِ لَا يَجُوزُ إجْمَاعُهُمْ عَلَى الْخَطَأِ وَعَلَى أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، فَإِذَا ظَهَرَ قَوْلٌ مِنْ وَاحِدٍ فَسُكُوتُ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ إمَّا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجْتَهِدُوا أَوْ اجْتَهَدُوا فَلَمْ يُؤَدِّ اجْتِهَادُهُمْ إلَى شَيْءٍ أَوْ أَدَّى إلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ الْقَوْلِ أَوْ صِحَّتِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ اجْتَهَدُوا؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ تُخَالِفُهُ، فَإِنَّ تَرْكَ الِاجْتِهَادِ مِنْ الْجَمِّ الْغَفِيرِ فِي حَادِثَةٍ نَزَلَتْ خِلَافَ الْعَادَةِ وَمُؤَدٍّ إلَى إهْمَالِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا حَدَثَ مَعَ وُجُوبِهِ عَلَيْهِمْ لِكَوْنِهِمْ مُجْتَهِدِينَ وَالظَّاهِرُ عَدَمُ ارْتِكَابِهَا مِنْ الْمُسْلِمِ الْمُتَدَيِّنِ وَمُؤَدٍّ إلَى خُرُوجِ الْحَقِّ عَنْ أَهْلِ الْعَصْرِ بَعْضُهُمْ بِتَرْكِ الِاجْتِهَادِ وَبَعْضُهُمْ بِالْعُدُولِ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْقَوْلُ حَقًّا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا اجْتَهَدُوا فَلَمْ يُؤَدِّ اجْتِهَادُهُمْ إلَى شَيْءٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى خَفَاءِ الْحَقِّ مَعَ ظُهُورِ طُرُقِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ وَهُوَ مُحَالٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا اجْتَهَدُوا فَأَدَّى اجْتِهَادُهُمْ إلَى خِلَافِهِ إلَّا أَنَّهُمْ كَتَمُوا؛ لِأَنَّ إظْهَارَ الْحَقِّ وَاجِبٌ لَا سِيَّمَا مَعَ ظُهُورِ قَوْلٍ هُوَ بَاطِلٌ عِنْدَهُمْ وَالتَّعْلِيقُ بِالْهَيْبَةِ وَالتَّقِيَّةِ تَعْلِيقٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْحَقَّ وَلَا يَهَابُونَ أَحَدًا، وَإِذَا بَطَلَتْ هَذِهِ الْأَوْجُهُ تَعَيَّنَ الْوَجْهُ الْأَخِيرُ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُمْ إنَّمَا سَكَتُوا لِرِضَاهُمْ بِمَا ظَهَرَ مِنْ الْقَوْلِ فَصَارَ كَالنُّطْقِ، فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنَّهُمْ سَكَتُوا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ قُلْنَا: لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ مُبَاحَثَتِهِ وَطَلَبِ الْكَشْفِ عَنْ مَأْخَذِهِ لَا بِطَرِيقِ الْإِنْكَارِ كَالْعَادَةِ الْجَارِيَةِ بِمُنَاظَرَةِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ كَمُنَاظَرَتِهِمْ فِي مَسَائِلِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ وَالْعَوْلِ وَدِيَةِ الْجَنِينِ عَلَى أَنَّ فِي الصَّحَابَةِ لَمْ يَكُنْ مَنْ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ وَذَكَرَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيُسْرِ وَصَاحِبُ الْقَوَاطِعِ أَنَّ هَذَا الْإِجْمَاعَ لَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ شُبْهَةٍ لِمَا ذَكَرَهُ الْخُصُومُ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مُسْتَدَلًّا عَلَيْهِ وَيَكُونُ دُونَ الْقَوَاطِعِ مِنْ وُجُوهِ الْإِجْمَاعِ لَكِنَّهُ مَعَ هَذَا مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ قُلْت فَعَلَى هَذَا لَمْ يَبْقَ فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ حُجَّةٌ وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَبَيْنَ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ إجْمَاعٌ وَكَانَ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا إلَّا أَنْ يَثْبُتَ عَنْ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَا يُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ عِنْدَهُمْ فَيَظْهَرُ الْفَرْقُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْفَرْقُ ثَابِتٌ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ: إنَّهُ إجْمَاعٌ أَرَادَ أَنَّهُ إجْمَاعٌ مَقْطُوعٌ بِهِ وَلَكِنَّهُ دُونَ الْإِجْمَاعِ قَوْلًا كَالنَّصِّ. وَالْمُفَسَّرُ دُونَ الْمُحْكَمِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ قَطْعِيًّا وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ حُجَّةٌ وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ أَرَادَ أَنَّهُ حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ فَيَتَحَقَّقُ الْفَرْقُ وَلَا يُقَالُ لَوْ كَانَ قَطْعِيًّا يَلْزَمُ أَنْ يَكْفُرَ جَاحِدُهُ أَوْ يُضَلَّلَ كَجَاحِدِ سَائِرِ الْحُجَجِ الْقَطْعِيَّةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّمَا لَمْ يَكْفُرْ لِكَوْنِهِ

إلَّا أَنَّ تَعْجِيلَ الْإِمْضَاءِ فِي الصَّدَقَةِ وَالْتِزَامَ الْغُرْمِ مِنْ عُمَرَ صِيَانَةٌ عَنْ الْقِيلِ وَالْقَالَ وَرِعَايَةٌ لِحُسْنِ الثَّنَاءِ وَبَسْطِ الْعَدْلِ كَانَ أَحْسَنَ فَحَلَّ السُّكُوتُ عَنْ مِثْلِهِ، وَبَعُدَ فَإِنَّ السُّكُوتَ بِشَرْطِ الصِّيَانَةِ عَنْ الْفَوْتِ جَائِزٌ تَعْظِيمًا لِلْفُتْيَا وَذَلِكَ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ وَكَلَامُنَا فِي السُّكُوتِ الْمُطْلَقِ، فَأَمَّا حَدِيثُ الدِّرَّةِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ وَالْمُنَاظَرَةَ بَيْنَهُمْ أَشْهُرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَلْيَنَ لِلْحَقِّ وَأَشَدَّ انْقِيَادًا لَهُ مِنْ غَيْرِهِ وَإِنْ صَحَّ فَتَأْوِيلُهُ إيلَاءُ الْعُذْرِ فِي الْكَفِّ عَنْ مُنَاظَرَتِهِ بَعْدَ ثَبَاتِهِ عَلَى مَذْهَبِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمُتَمَسِّكًا بِدَلِيلٍ يَصْلُحُ شُبْهَةً. أَلَا تَرَى أَنَّ مُوجِبَ الْعَامِّ قَطْعِيٌّ عِنْدَنَا ثُمَّ لَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ لِتَمَسُّكِهِ بِمَا يَصْلُحُ شُبْهَةً ثُمَّ أَجَابَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَمَّا تَمَسَّكُوا بِهِ مِنْ الْآثَارِ فَقَالَ سُكُوتُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حَدِيثِ الْقِسْمَةِ وَالْإِمْلَاصِ لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْحَسَنِ وَالْأَحْسَنِ لَا مِنْ بَابِ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ، فَإِنَّ الَّذِينَ أَفْتَوْا بِإِمْسَاكِ الْمَالِ فِي حَدِيثِ الْقِسْمَةِ وَبِأَنْ لَا غُرْمَ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى عُمَرَ فِي إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ كَانَ حَسَنًا؛ لِأَنَّ حِفْظَ الْمَالِ الْفَاضِلِ لِيُصْرَفَ إلَى نَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْقِسْمَةِ عَلَيْهِمْ عِنْدَ نُزُولِهَا حَسَنٌ وَكَذَا الْحُكْمُ بِعَدَمِ لُزُومِ الْغُرَّةِ عَلَيْهِ إذْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ خِيَانَةٌ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ وَلَا بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ إلَّا أَنَّ أَيْ لَكِنَّ تَعْجِيلَ الْإِمْضَاءِ فِي الصَّدَقَةِ أَيْ تَعْجِيلَ قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ وَسَمَّاهَا صَدَقَةً مَجَازًا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا لَا تَجِبُ بِعِوَضٍ مَالِيٍّ وَيَتَوَلَّى الْإِمَامُ قِسْمَتَهَا كَالصَّدَقَاتِ وَأَكْثَرُ مَصَارِفِهَا مَصَارِفُ الصَّدَقَاتِ. وَالْتِزَامُ الْغُرْمِ أَيْ غُرْمِ الْغُرَّةِ مِنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صِيَانَةً عَنْ الْقِيلِ وَالْقَالِ أَيْ لِأَجْلِ صِيَانَةِ النَّفْسِ عَنْ أَلْسُنِ النَّاسِ فَيَقُولُوا: إنَّهُ أَمْسَكَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ وَمَنَعَهَا عَنْ مُسْتَحَقِّهَا لِمَوْهُومٍ عَسَى لَا يَقَعُ وَخَوْفُ امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ تَحَقَّقَتْ مِنْهَا حَتَّى أَمْلَصَتْ وَتَلِفَتْ نَفْسٌ بِذَلِكَ وَدُعَائِهِ أَيْ عَلَى نَفْسِهِ بِحُسْنِ الثَّنَاءِ أَيْ بِحُسْنِهِ وَبَسْطِ الْعَدْلِ كَانَ أَحْسَنَ وَأَقْرَبَ إلَى أَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَالْخُرُوجِ عَمَّا تَحَمَّلَ مِنْ الْعُهْدَةِ وَهُوَ كَتَأْخِيرِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ إلَى انْقِضَاءِ الْحَوْلِ يَكُونُ حَسَنًا وَتَعْجِيلُهُ قَبْلَ انْقِضَائِهِ يَكُونُ أَحْسَنَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ حَلَّ السُّكُوتُ عَنْ مِثْلِهِ وَلَا يَجِبُ إظْهَارُ الْخِلَافِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بِمَعْزِلٍ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ إذْ الْكَلَامُ فِيمَا لَا يَجُوزُ السُّكُوتُ عَنْهُ بِحَالٍ إذَا كَانَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ وَبَعُدَ أَيْ بَعْدَمَا ذَكَرْنَا هَذَا الْجَوَابَ أَوْ بَعْدَمَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ الْحَسَنِ وَالْأَحْسَنِ وَكَانَ مِنْ جِنْسِ مَا وَقَعَ النِّزَاعُ فِيهِ لَا يَدُلُّ هَذَا السُّكُوتُ عَلَى الرِّضَاءِ أَيْضًا، فَإِنَّ السُّكُوتَ بِشَرْطِ الصِّيَانَةِ عَنْ الْفَوَاتِ أَيْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَفُوتَ الْحَقُّ جَائِزٌ تَعْظِيمًا لِلْفُتْيَا، فَإِنَّ تَرْكَ التَّعْجِيلِ فِي الْفُتْيَا وَالتَّأَمُّلَ فِيهَا وَالسُّكُوتَ إلَى أَنْ يُبْرِزَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا فِي ضَمِيرِهِ ثُمَّ إنَّهُ يُظْهِرُ الْحَقَّ الَّذِي وَضَحَ لَهُ تَعْظِيمٌ لَهَا وَفِيهِ احْتِرَازٌ عَنْ الْمُخَالَفَةِ أَيْضًا، فَإِنَّهُمْ رُبَّمَا يَرْجِعُونَ إلَى الْحَقِّ فَلَا يُحْتَاجُ إلَى إظْهَارِ مُخَالَفَتِهِمْ. وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مُجَرَّدَ السُّكُوتِ عَنْ إظْهَارِ الْخِلَافِ لَا يَكُونُ دَلِيلَ الْمُوَافَقَةِ عِنْدَنَا مَا بَقِيَ مَجْلِسُ الْمُشَاوَرَةِ وَلَمْ يُفْصَلْ الْحُكْمُ بَعْدُ، فَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا حُجَّةً أَنْ لَوْ فَصَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْحُكْمَ بِقَوْلِهِمْ أَوْ ظَهَرَ مِنْهُ تَوَقُّفٌ فِي الْجَوَابِ وَيَكُونُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَاكِتًا بَعْدَ ذَلِكَ وَلَمْ يُنْقَلْ هَذَا، فَإِنَّمَا يُحْمَلُ سُكُوتُهُ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى أَنَّهُ لِتَجْرِبَةِ أَفْهَامِهِمْ أَوْ لِتَعْظِيمِ الْفَتْوَى الَّتِي يُرِيدُ إظْهَارَهَا بِاجْتِهَادِهِ حَتَّى لَا يَزْدَرِيَ بِهَا أَحَدٌ مِنْ السَّامِعِينَ أَوْ لِيُرَوِّيَ النَّظَرَ فِي الْحَادِثَةِ وَيُمَيِّزَ مِنْ الِاشْتِبَاهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ مَا هُوَ الصَّوَابُ فَيُظْهِرَهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْتَنْطِقْهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَكَانَ هُوَ ذَكَرَ مَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ رَأْيُهُ مِنْ الْجَوَابِ قَبْلَ إبْرَامِ الْحُكْمِ وَانْقِضَاءِ مَجْلِسِ الْمُشَاوَرَةِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا حَدِيثُ الدِّرَّةِ) وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ مَنَعَنِي دِرَّتُهُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنَاظِرُونَ وَلَا يَهَابُونَ أَحَدًا مِنْ إظْهَارِ الْحَقِّ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ قَبُولَ الْحَقِّ وَيُقَدِّرُونَ إظْهَارَهُ نُصْحًا وَالسُّكُوتَ عَنْهُ غِشًّا فِي الدِّينِ، وَالْمُنَاظَرَةُ فِي مَسْأَلَةِ الْعَوْلِ كَانَتْ مَشْهُورَةً بَيْنَهُمْ فَمِنْ الْبَعِيدِ أَنَّ

وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُخَرَّجُ أَيْضًا أَنَّهُمْ إذَا اخْتَلَفُوا عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ إجْمَاعًا عَلَى أَنَّ مَا خَرَجَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ فَبَاطِلٌ وَكُلُّ عَصْرٍ مِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ هَذَا سُكُوتٌ أَيْضًا بَلْ اخْتِلَافُهُمْ يُسَوِّغُ الِاجْتِهَادَ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يُخْبِرْ بِقَوْلِهِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَهَابَةً لَهُ مَعَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يُقَدِّمُهُ وَيَدْعُوهُ فِي الشُّورَى مَعَ الْكِبَارِ مِنْ الصَّحَابَةِ لِمَا عَرَفَ مِنْ فِطْنَتِهِ وَقُوَّةِ ذِهْنِهِ وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ بِأَشْيَاءَ فَقَبِلَهَا مِنْهُ وَاسْتَحْسَنَهَا وَكَانَ يَقُولُ لَهُ غُصْ يَا غَوَّاصُ شَنْشَنَةً أَعْرِفُهَا مِنْ أَحْزَمَ يَعْنِي أَنَّهُ شَبَّهَ ابْنَ الْعَبَّاسِ فِي رِوَايَتِهِ وَدَهَائِهِ وَمَعَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ أَلْيَنَ لِلْحَقِّ وَأَشَدَّ انْقِيَادًا لَهُ مِنْ غَيْرِهِ حَتَّى كَانَ يَقُولُ لَا خَيْرَ فِيكُمْ مَا لَمْ تَقُولُوا وَلَا خَيْرَ فِي مَا لَمْ أَسْمَعْ، وَكَانَ يَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَهْدَى إلَيَّ عُيُوبِي، وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنِي بَيْنَ قَوْمٍ إذَا رَغِبْت عَنْ الْحَقِّ قَوَّمُونِي وَلَمَّا نَهَى عَنْ الْمُغَالَاةِ فِي الْمُهُورِ فِي خُطْبَتِهِ قَالَتْ امْرَأَةٌ: أَمَا سَمِعْت قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20] فَتَمْنَعُنَا عَمَّا أَعْطَانَا اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ امْرَأَةٌ خَاصَمَتْ رَجُلًا فَخَصَمَتْهُ. وَفِي رِوَايَةٍ قِيلَ وَقَالَ: كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ حَتَّى النِّسَاءِ فِي الْبُيُوتِ وَلَمَّا عَزَمَ عَلَى جَلْدِ الْحَامِلِ قَالَ لَهُ مُعَاذٌ إنْ جَعَلَ اللَّهُ لَك عَلَى ظَهْرِهَا سَبِيلًا فَلَمْ يَجْعَلْ لَك عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا سَبِيلًا فَقَالَ لَوْلَا مُعَاذٌ لَهَلَكَ عُمَرُ وَسَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ قَوْله تَعَالَى {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ} [التوبة: 100] بِالْوَاوِ وَهُوَ كَانَ يَقْرَأُ بِغَيْرِ وَاوٍ فَقَالَ مَنْ أَقْرَأَك فَقَالَ أُبَيٌّ فَدَعَاهُ فَقَالَ أَقْرَأَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّك لَتَبْتَعُ الْقُرْطَ بِالْبَقِيعِ فَقَالَ صَدَقْت، وَإِنْ شِئْت قُلْت شَهِدْنَا وَغِبْتُمْ وَنَصَرْنَا وَخَذَلْتُمْ وَآوَيْنَا وَطَرَدْتُمْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ امْتَنَعَ عَنْ إظْهَارِ قَوْلِهِ وَحُجَّتِهِ مَهَابَةً لَهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَلَئِنْ صَحَّ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ فَتَأْوِيلُهُ إبْلَاءُ الْعُذْرِ أَيْ إظْهَارُهُ فِي الِامْتِنَاعِ عَنْ مُنَاظَرَتِهِ يَعْنِي لَمَّا عَرَفَ فَضْلَ رَأْيِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَفِقْهِهِ مَنَعَهُ ذَلِكَ مِنْ الِاسْتِقْصَاءِ فِي الْمُحَاجَّةِ مَعَهُ كَمَا يَكُونُ مِنْ حَالِ الشُّبَّانِ مَعَ ذَوِي الْأَسْنَانِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، فَإِنَّهُمْ يَهَابُونَ الْكِبَارَ فَلَا يَسْتَقْصُونَ فِي الْمُحَاجَّةِ مَعَهُمْ حَسَبَ مَا يَفْعَلُونَ مَعَ الْأَقْرَانِ بَعْدَ ثَبَاتِهِ عَلَى مَذْهَبِهِ أَيْ بَعْدَ ثَبَاتِ عُمَرَ عَلَى مَذْهَبِهِ يَعْنِي لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ ثَابِتٌ عَلَى مَذْهَبِهِ وَلَا يَرْجِعُ عَنْهُ لِقَوْلِهِ تَرَكَ مُنَاظَرَتَهُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ أَوْ بَعْدَ ثَبَاتِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى مَذْهَبِهِ يَعْنِي لَمَّا كَانَ هُوَ ثَابِتًا عَلَى مَذْهَبِهِ لَا يَضُرُّهُ الِامْتِنَاعُ عَنْ مُنَاظَرَةِ مَنْ فَوْقَهُ فِي الدَّرَجَةِ احْتِشَامًا لَهُ. قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ) وَهُوَ أَنَّ السُّكُوتَ يَدُلُّ عَلَى الْوِفَاقِ وَيَنْعَقِدُ بِهِ الْإِجْمَاعُ يُخَرِّجُ الْمَسْأَلَةَ الْمَذْكُورَةَ وَهِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إذَا اخْتَلَفُوا فِي حَادِثَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ أَوْ أَقَاوِيلَ مَحْصُورَةٍ كَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا قَوْلَ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ سِوَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَأَنَّ مَا خَرَجَ مِنْهَا بَاطِلٌ فَلَا يَجُوزُ إحْدَاثُ قَوْلٍ آخَرَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَإِنَّمَا فَسَّرَ قَوْلَهُ: إنَّهُمْ إذَا اخْتَلَفُوا بِقَوْلِهِ أَعْنِي أَصْحَابَ النَّبِيِّ وَعَطَفَ قَوْلَهُ وَكُلُّ عَصْرٍ مِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ إجْمَاعٌ وَفِي اخْتِلَافِ مَنْ بَعْدَهُمْ اخْتِلَافٌ كَمَا ذَكَرْنَا فِي آخِرِ الْبَابِ وَزَعَمَ بَعْضُ مَنْ أَنْكَرَ الْإِجْمَاعَ السُّكُوتِيَّ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ هَذَا سُكُوتٌ أَيْضًا يَعْنِي اخْتِلَافَهُمْ عَلَى الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ سُكُوتٌ عَمَّا وَرَاءَهَا وَهُوَ مُحْتَمَلٌ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ قَوْلٍ آخَرَ كَمَا لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَة الْأُولَى إذْ الْمُحْتَمَلُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ بَلْ اخْتِلَافُهُمْ دَلِيلٌ عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِي الْحَادِثَةِ وَالْمَصِيرِ إلَى مَا أَدَّى إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِيهَا فَجَازَ إحْدَاثُ قَوْلٍ

وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّ الْإِجْمَاعَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حُجَّةٌ لَا يَعْدُوهُ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ بِيَقِينٍ، وَإِذَا اخْتَلَفُوا عَلَى أَقْوَالٍ فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى حَصْرِ الْأَقْوَالِ فِي الْحَادِثَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ الْجَهْلُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا مَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كُلِّ عَصْرٍ عَلَى أَقْوَالٍ فَعَلَى هَذَا أَيْضًا عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا وَقَدْ قِيلَ إنَّ هَذَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ إنَّمَا ذَلِكَ لِلصَّحَابَةِ خَاصَّةً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - أَجْمَعِينَ وَكَذَلِكَ مَا خَطَبَ بِهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِنْ الْخُلَفَاءِ فَلَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِ فَهُوَ إجْمَاعٌ لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQآخَرَ فِيهَا كَمَا لَوْ لَمْ يَسْتَقِرَّ الْخِلَافُ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ أَيْ لَا يُعَيِّنُ سُكُوتُهُمْ أَنَّ مَا ذَكَرُوا مِنْ الْأَقْوَالِ هُوَ الثَّابِتُ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ نَفْيَ الْغَيْرِ نَوْعُ تَعْيِينٍ لَهَا، وَالتَّعَيُّنُ لَا يَثْبُتُ بِالْمُحْتَمَلِ وَفَصَلَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ فَقَالَ إنْ كَانَ الْقَوْلُ الْحَادِثُ رَافِعًا لِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ يَكُونُ مَرْدُودًا أَيْ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فِي الْجَدِّ مَعَ الْأَخِ عَلَى قَوْلَيْنِ اسْتِحْقَاقُ كُلِّ الْمَالِ وَالْمُقَاسَمَةُ اتِّفَاقًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَهُ قِسْطًا مِنْ الْمَالِ فَالْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا يَكُونُ مَرْدُودًا لِاسْتِلْزَامِهِ خِلَافَ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَافِعًا لِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ بَلْ وَافَقَ كُلَّ قَوْلٍ مِنْ وَجْهٍ وَخَالَفَهُ مِنْ وَجْهٍ لَا يَكُونُ مَرْدُودًا مِثْلُ اخْتِلَافِهِمْ فِي أُمٍّ وَزَوْجٍ أَبٍ أَوْ زَوْجَةٍ وَأَبٍ عَلَى قَوْلَيْنِ فَقِيلَ لَهَا ثُلُثُ الْكُلِّ فِي الصُّورَتَيْنِ وَقِيلَ ثُلُثُ مَا يَبْقَى فِي الصُّورَتَيْنِ. فَالْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهَا ثُلُثُ الْكُلِّ فِي إحْدَى الصُّورَتَيْنِ وَهِيَ امْرَأَةٌ وَأَبَوَانِ وَثُلُثُ الْبَاقِي فِي الْأُخْرَى لَا يَكُونُ مَرْدُودًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ مُخَالَفَةَ الْإِجْمَاعِ وَلَا إبْطَالَ الْقَوْلَيْنِ بِالْكُلِّيَّةِ وَالْمَانِعُ مِنْ إحْدَاثِ الْقَوْلِ الثَّالِثِ لَيْسَ إلَّا أَحَدُ هَذَيْنِ، فَإِذَا انْتَفَيَا لَزِمَ الْجَوَازُ لِانْتِفَاءِ الْمَانِعِ وَوُجُودِ الْمُقْتَضِي وَهُوَ الِاجْتِهَادُ كَمَا لَوْ حَكَمَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ فِي مَسْأَلَتَيْنِ بِحُكْمَيْنِ وَالْفَرِيقُ الْآخَرُ بِنَقِيضِهَا فِيهِمَا وَالثَّالِثُ وَافَقَ كُلًّا فِي إحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى، فَإِنَّهُ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ لِعَدَمِ اسْتِلْزَامِهِ مُخَالَفَةَ الْإِجْمَاعِ وَبُطْلَانَ الْقَوْلَيْنِ بِالْكُلِّيَّةِ فَكَذَا هَذَا وَلَكِنَّنَا نَقُولُ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ لَا نَعُدُّهُ الْحَقَّ وَالصَّوَابَ لِمَا سَنُبَيِّنُ، فَإِذَا اخْتَلَفُوا عَلَى أَقْوَالٍ كَانَ هَذَا إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى حَصْرِ الْأَقْوَالِ فِي الْحَادِثَةِ إذْ لَوْ كَانَ وَرَاءَ أَقْوَالِهِمْ قَوْلٌ آخَرُ مُحْتَمِلٌ لِلصَّوَابِ لَكَانَ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ إجْمَاعًا عَلَى الْخَطَأِ وَلَوَجَبَ نِسْبَةُ الْأُمَّةِ إلَى تَضْيِيعِ الْحَقِّ إذْ لَا بُدَّ لِلْقَوْلِ الْخَارِجِ مِنْ دَلِيلٍ وَلَا بُدَّ مِنْ نِسْبَةِ الْأُمَّةِ إلَى تَضْيِيعِهِ وَالْغَفْلَةِ عَنْهُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ أَيْ بِجَمِيعِ الْأُمَّةِ الْجَهْلُ بِالْحَقِّ وَالْعُدُولُ عَنْهُ فَكَانَ اخْتِلَافُهُمْ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِمْ عَلَيْهَا بِمَنْزِلَةِ التَّنْصِيصِ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ مَا هُوَ الْحَقُّ حَقِيقَةً فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ وَذَكَرَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْأُمَّةَ إذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ فَقَدْ اجْتَمَعَتْ فِي الْمَعْنَى عَلَى الْمَنْعِ مِنْ إحْدَاثِ قَوْلٍ ثَالِثٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تُحَرِّمُ الْأَخْذَ إلَّا بِمَا قَالَتْهُ أَوْ قَالَهُ مُخَالِفُهَا فَقَطْ فَجَوَازُ إحْدَاثِ قَوْلٍ آخَرَ يَقْتَضِي جَوَازَ الْأَخْذِ بِهِ وَقَدْ مَنَعُوا مِنْهُ. وَلَا يُقَالُ إنَّمَا حَظَرُوا الْأَخْذَ إلَّا بِمَا قَالُوهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ اجْتِهَادُ غَيْرِهِمْ إلَى قَوْلٍ ثَالِثٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَوْ جَوَّزْنَا هَذَا الِاحْتِمَالَ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ إنَّمَا أَوْجَبُوا التَّمَسُّكَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى الْقَوْلِ الْوَاحِدِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَظْهَرَ قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ فَاسِدٌ وَلَا يُقَالُ أَيْضًا إنَّمَا جَوَّزْنَا الْقَوْلَ الْحَادِثَ؛ لِأَنَّ الْمُصِيبَ إنْ كَانَ وَاحِدًا لَا يَلْزَمُ مِنْ تَجْوِيزِ الْقَوْلِ بِهِ حَقِيقَةٌ إذْ الِاجْتِهَادُ الْخَطَأُ قَدْ يُعْمَلُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا لَا يَلْزَمُ مِنْ حَقِيقَتِهِ بُطْلَانُ مَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَوْ صَحَّ هَذَا لَصَحَّ مُخَالَفَةُ أَيِّ إجْمَاعٍ كَانَ وَهُوَ بَاطِلٌ وَقَوْلُهُمْ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ يُوجِبُ تَسْوِيغَ الِاجْتِهَادِ قُلْنَا إنَّهُ يُوجِبُ جَوَازَ الِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ فَأَمَّا فِي قَوْلٍ ثَالِثٍ فَلَا لِتَأْدِيَتِهِ إلَى إبْطَالِ إجْمَاعِهِمْ أَوْ أَنَّهُ يُوجِبُ جَوَازَ الِاجْتِهَادِ مُطْلَقًا وَلَكِنْ قَبْلَ تَقَرُّرِ الْخِلَافِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى بُطْلَانِ الْقَوْلِ الْحَادِثِ فَأَمَّا بَعْدَ تَقَرُّرِ الْخِلَافِ

[باب أهلية الإجماع]

(بَابُ الْأَهْلِيَّةِ) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَهْلِيَّةُ الْإِجْمَاعِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِأَهْلِيَّةِ الْكَرَامَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَلَا وَالْقَوْلُ بِالتَّفْضِيلِ يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأُمَّةِ لَمْ يُفَضِّلْ وَلِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ تَخْطِئَةَ كُلِّ الْأُمَّةِ لِاسْتِلْزَامِهِ تَخْطِئَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ فِي بَعْضِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ فَيَكُونُ فَاسِدًا. ، فَإِنْ قِيلَ إنَّ مَسْرُوقًا أَحْدَثَ فِي مَسْأَلَةِ الْحَرَامِ وَهِيَ مَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ قَوْلًا آخَرَ بَعْدَ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِيهَا عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ فَقَالَ لَا أُبَالِي أُحَرِّمُ امْرَأَتِي أَوْ قَصْعَةً مِنْ ثَرِيدٍ يَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَأَحْدَثَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ فِي أُمٍّ وَزَوْجٍ أَوْ زَوْجَةٍ وَأَبٍ قَوْلًا ثَالِثًا بَعْدَ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ وَهُمَا اسْتِحْقَاقُهَا ثُلُثَ كُلِّ الْمَالِ فِي الصُّورَتَيْنِ أَوْ ثُلُثَ الْبَاقِي فِي الصُّورَتَيْنِ فَقَالَ لَهَا ثُلُثُ الْكُلِّ فِي امْرَأَةٍ وَأَبَوَيْنِ وَثُلُثُ الْبَاقِي فِي زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ وَأَقَرَّهُمَا سَائِرُ الْعُلَمَاءِ وَلَمْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِمَا مُخَالَفَةَ الْإِجْمَاعِ فَدَلَّ أَنَّ إحْدَاثَ قَوْلٍ آخَرَ جَائِزٌ قُلْنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إحْدَاثُ الْقَوْلِ مِنْهُمَا قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْخِلَافِ وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُهُمْ فِي مُهْلَةِ النَّظَرِ فَيَجُوزُ إحْدَاثُ قَوْلٍ آخَرَ مَعَ أَنَّهُمَا كَانَا مُعَاصِرَيْنِ لِلصَّحَابَةِ وَكَانَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي زَمَانِهِمْ فَلَا يَنْعَقِدُ لَهُمْ إجْمَاعٌ بِدُونِ رَأْيِهِمَا وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ مُخَالَفَتِهِمَا الصَّحَابَةَ مُخَالَفَةُ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّا نَقُولُ أَنَّهُمَا مَحْجُوجَانِ بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ، وَإِنَّ قَوْلَهُمَا مَرْدُودٌ لِمُخَالَفَتِهِمَا الْإِجْمَاعَ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَكَاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي كُلِّ عَصْرٍ عَلَى أَقْوَالٍ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ رَدَّ الْقَوْلِ الْحَادِثِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْخِلَافِ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي ذَكَرْنَا لَا يَفْصِلُ بَيْنَ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ وَاخْتِلَافِ غَيْرِهِمْ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا إنَّ هَذَا أَيْ اخْتِلَافَ مَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ يُخَالِفُ اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ فِيمَا ذَكَرْنَا إنَّمَا ذَلِكَ أَيْ رَدُّ الْقَوْلِ الْحَادِثِ مُخْتَصٌّ بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ لِمَا لَهُمْ مِنْ الْفَضْلِ وَالسَّابِقِيَّةِ فِي الدَّيْنِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ وَلَكِنَّ هَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ حُجَّةً دُونَ إجْمَاعِ مَنْ بَعْدَهُمْ وَسَيَظْهَرُ لَك فَسَادُ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَتَنْصِيصِ الْبَعْضِ وَسُكُوتِ الْبَاقِينَ مَا خَطَبَ بِهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِنْ الْخُلَفَاءِ أَيْ بَيَّنَ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ فِي خُطْبَتِهِ فَلَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِ فَهُوَ إجْمَاعٌ لِمَا قُلْنَا مِنْ وُجُوبِ إظْهَارِ الْحَقِّ وَحُرْمَةِ السُّكُوتِ لَوْ كَانَ مُخَالِفًا فَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ سُكُوتُهُمْ تَسْلِيمًا كَانَ فِسْقًا أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا ذَرٍّ قَالَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي خُطْبَتِهِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُك؛ لِأَنَّك خَالَفْت النَّبِيَّ وَأَبَا بَكْرٍ فَإِنِّي مَرَرْت عَلَى بَابِك فَرَأَيْت قِدْرَيْنِ يَغْلِيَانِ وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ وَلَا لِأَبِي بَكْرٍ إلَّا قِدْرٌ وَاحِدٌ فَاعْتَذَرَ عُمَرُ وَقَالَ إنَّ فِي أَحَدَيْهِمَا دَوَاءً وَفِي الْأُخْرَى طَعَامًا وَقَسَمَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حُلَلًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَأَعْطَى لِكُلِّ وَاحِدٍ حُلَّةً ثُمَّ خَطَبَ فِي حِلَّتَيْنِ وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ اسْمَعُوا فَقَالَ سَلْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا نَسْمَعُ؛ لِأَنَّ فِعْلَك يُخَالِفُ قَوْلَك، فَإِنَّك قَدْ جُرْت فِي الْقِسْمَةِ وَأَخَذْت حُلَّتَيْنِ وَأَعْطَيْت غَيْرَك حُلَّةً حُلَّةً فَقَالَ قَدْ اسْتَعَرْت أَحَدَيْهِمَا مِنْ ابْنِي وَلَيْسَ لِي إلَّا حُلَّةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ الْآنَ نَسْمَعُ قَوْلَك فَلَمَّا لَمْ يَسْكُتُوا عَمَّا هُوَ دَاخِلٌ فِي حَدِّ الْإِبَاحَةِ وَلَكِنَّهُ مُخِلٌّ بِدَقَائِقِ التَّقْوَى فَكَيْف يُظَنُّ بِهِمْ السُّكُوتُ فِيمَا كَانَ الْحَقُّ بِخِلَافِهِ عِنْدَهُمْ وَقَوْلُهُ مِنْ الْخُلَفَاءِ لَيْسَ بِقَيْدٍ لَازِمٍ بَلْ لَوْ خَطَبَ غَيْرُهُمْ وَسَكَتُوا كَانَ إجْمَاعًا إلَّا أَنَّ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَمْ يَكُنْ يَخْطُبُ إلَّا الْخُلَفَاءُ وَالْأُمَرَاءُ فَلِذَلِكَ قَالَ مِنْ الْخُلَفَاءِ [بَابُ أَهْلِيَّةِ الْإِجْمَاع] (بَابُ الْأَهْلِيَّةِ) اعْلَمْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً بِالنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ بِلَفْظِ الْأُمَّةِ مِثْلُ

وَذَلِكَ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ لَيْسَ فِيهِ هَوًى وَلَا فِسْقٌ أَمَّا الْفِسْقُ فَيُورِثُ التُّهْمَةَ وَيُسْقِطُ الْعَدَالَةَ وَبِأَهْلِيَّةِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَصِفَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ثَبَتَ هَذَا الْحُكْمُ ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْله تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ» وَهَذَا اللَّفْظُ، وَإِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْكُفَّارَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ، وَيَتَنَاوَلُ بِظَاهِرِهِ كُلَّ مُسْلِمٍ لَكِنْ لَهُ طَرَفَانِ وَاضِحَانِ وَالنَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ وَأَوْسَاطٌ مُتَشَابِهَةٌ أَمَّا الْوَاضِحُ فِي النَّفْيِ فَالْأَطْفَالُ وَالْمَجَانِينُ وَالْأَجِنَّةُ فَإِنَّهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ الْأُمَّةِ فَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُ مَا أُرِيدَ بِالْأُمَّةِ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ» وَأَمْثَالِهِ إلَّا مَنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْوِفَاقُ الْخِلَافُ فِي الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ فَهْمِهَا وَلَا مَدْخَلَ فِيهِ مَنْ لَا يَفْهَمُهَا وَكَذَا كُلُّ مَنْ سَيُوجَدُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ ظَاهِرًا فِيهِ؛ لِأَنَّ مَا دَلَّ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً دَلَّ عَلَى وُجُوبِ التَّمَسُّكِ بِهِ وَلَا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِقَوْلِ الْكُلِّ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِعَدَمِ كَمَالِ الْمُجْمِعِينَ وَلَا فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِانْقِطَاعِ التَّكْلِيفِ وَأَمَّا الْوَاضِحُ فِي الْإِثْبَاتِ فَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مَقْبُولُ الْفَتْوَى؛ إذْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ قَطْعًا فَلَا بُدَّ مِنْ مُوَافَقَتِهِ فِي الْإِجْمَاعِ وَأَمَّا الْأَوْسَاطُ الْمُتَشَابِهَةُ فَالْعَوَامُّ الْمُكَلَّفُونَ، وَالْفَقِيهُ الَّذِي لَيْسَ بِأُصُولِيٍّ، وَالْأُصُولِيُّ الَّذِي لَيْسَ بِفَقِيهٍ، وَالْمُجْتَهِدُ الْفَاسِقُ وَالْمُبْتَدِعُ وَأَمْثَالُهُمْ ثُمَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ اشْتَرَطَ مُوَافَقَةَ الْأَوْسَاطِ أَيْضًا فَقَالَ: إنَّ الْإِجْمَاعَ الْمُوجِبَ لِلْعِلْمِ لَا يَكُونُ إلَّا بِاتِّبَاعِ فِرَقِ الْأُمَّةِ خَوَاصِّهِمْ وَعَوَامِّهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ وَأَهْلِ الْبِدْعَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَمُطْلَقُ اسْمِ الْأُمَّةِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ لَكِنْ خُصَّ مِنْهُ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَمَنْ لَمْ يُوجَدْ لِعَدَمِ الْفَهْمِ التَّامِّ وَلِعَدَمِ تَصَوُّرِ الْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ مِنْهُمْ فَيَبْقَى الْبَاقِي بِحَالِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى كَذَا» تَنَاوَلَ الْكُلَّ فَكَذَا هَا هُنَا وَلِأَنَّ قَوْلَ الْأُمَّةِ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً بِعِصْمَتِهَا عَنْ الْخَطَأِ وَلَا بُعْدَ أَنْ يَكُونَ الْعِصْمَةُ مِنْ صِفَاتِ الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مِنْ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، وَالشَّيْخُ لَمْ يَعْتَبِرْ إلَّا اتِّفَاقَ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ الْمَوْصُوفِينَ بِالْعَدَالَةِ وَمُجَانَبَةِ الْبِدْعَةِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ فَقَالَ: أَهْلِيَّةُ الْإِجْمَاعِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِأَهْلِيَّةِ الْكَرَامَةِ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً كَرَامَةً لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَهْلِيَّةِ الْكَرَامَةِ فِيهِمْ وَذَلِكَ أَيْ ثُبُوتُ الْأَهْلِيَّةِ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ لَيْسَ فِيهِ هَوًى أَيْ بِدْعَةٌ وَلَا فِسْقٌ أَيْ فِسْقٌ ظَاهِرٌ يَعْنِي أَهْلِيَّةَ الْإِجْمَاعِ تَثْبُتُ بِصِفَةِ الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِقَامَةِ فِي الدِّينِ عَمَلًا وَاعْتِقَادًا؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ وَالْحُجَجَ الَّتِي جَعَلَتْ الْإِجْمَاعَ حُجَّةً تَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ هَذِهِ الْمَعَانِي أَمَّا اشْتِرَاطُ الِاسْتِقَامَةِ عَمَلًا وَهِيَ الْعَدَالَةُ فَلِأَنَّ حُكْمَ الْإِجْمَاعِ وَهُوَ كَوْنُهُ مُلْزِمًا إنَّمَا ثَبَتَ بِأَهْلِيَّةِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] وَبِصِفَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] وَأَهْلِيَّةُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ تَثْبُتُ بِصِفَةِ الْعَدَالَةِ وَكَذَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ لِأَنَّهُمَا يُوجِبَانِ اتِّبَاعَ الْآمِرِ وَالنَّاهِي فِيمَا يَأْمُرُ وَيَنْهَى؛ إذْ لَوْ لَمْ يَلْزَمْ الِاتِّبَاعُ لَا يَكُونُ فِيهِمَا فَائِدَةٌ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ اتِّبَاعُ الْعَدْلِ الْمَرْضِيِّ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ، وَالْمُسْتَحِقُّ لِلْكَرَامَاتِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَالْفِسْقُ يُسْقِطُ الْعَدَالَةَ فَلَمْ يَبْقَ بِهِ أَهْلًا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَلَا يُوجِبُ اتِّبَاعَ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ التَّوَقُّفَ فِي قَوْلِهِ وَاجِبٌ بِالنَّصِّ وَذَلِكَ يُنَافِي وُجُوبَ الِاتِّبَاعِ وَيُورِثُ التُّهْمَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَحَرَّزْ مِنْ إظْهَارِ

وَأَمَّا الْهَوَى فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ يَدْعُو النَّاسَ إلَيْهِ فَسَقَطَتْ عَدَالَتُهُ بِالتَّعَصُّبِ الْبَاطِلِ وَبِالسَّفَهِ وَكَذَلِكَ إنْ مَجَنَ بِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ غَلَا حَتَّى كَفَرَ بِهِ مِثْلُ خِلَافِ الرَّوَافِضِ وَالْخَوَارِجِ فِي الْإِمَامَةِ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْعَصَبِيَّةِ وَصَاحِبُ الْهَوَى الْمَشْهُورُ بِهِ لَيْسَ مِنْ الْأُمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِعْلِ مَا يَعْتَقِدُهُ بَاطِلًا لَا يَتَحَرَّزُ عَنْ إظْهَارِ قَوْلٍ يَعْتَقِدُهُ بَاطِلًا أَيْضًا فَثَبَتَ أَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَإِنَّهُ لَا اعْتِبَارَ لِقَوْلِهِ وَافَقَ أَمْ خَالَفَ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كَأَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ: يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ: وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِدُونِهِ؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ الْمُجْتَهِدَ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ بَلْ يَتْبَعُ فِيمَا يَقَعُ لَهُ مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَكَيْفَ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ فِي حَقِّهِ، وَاجْتِهَادُهُ يُخَالِفُ اجْتِهَادَ مَنْ سِوَاهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْفَاسِقَ يَدْخُلُ فِي الْإِجْمَاعِ مِنْ وَجْهٍ وَيَخْرُجُ مِنْ وَجْهٍ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ الْفَاسِقَ إذَا أَظْهَرَ خِلَافَهُ يُسْأَلُ عَنْ دَلِيلِهِ لِجَوَازِ أَنَّهُ يَحْمِلُهُ فِسْقُهُ عَلَى اعْتِقَادِ شَرْعٍ لِغَيْرِ دَلِيلٍ فَإِذَا أَظْهَرَ مِنْ اسْتِدْلَالِهِ دَلِيلًا صَالِحًا عَلَى خِلَافِهِ يَرْتَفِعُ الْإِجْمَاعُ بِخِلَافِهِ وَصَارَ دَاخِلًا فِي جُمْلَةِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ لَمْ يُظْهِرْ دَلِيلًا صَالِحًا عَلَى خِلَافِهِ لَمْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِهِ وَيُفَارِقُ الْعَدْلَ الْفَاسِقَ فِي هَذَا؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ إذَا أَظْهَرَ خِلَافَهُ جَازَ الْإِمْسَاكُ عَنْ اسْتِعْلَامِ دَلِيلِهِ؛ لِأَنَّ عَدَالَتَهُ مَانِعَةٌ مِنْ اعْتِقَادِ شَرْعٍ لِغَيْرِ دَلِيلٍ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ ثُبُوتَ الْإِجْمَاعِ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ بِنَاءً عَلَى صِفَةٍ وَهُوَ الْوَسَاطَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] فَلَا يَثْبُتُ بِدُونِ هَذِهِ الصِّفَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ كَافِرًا لَوْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ وَذَكَرَ دَلِيلًا صَالِحًا لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى خِلَافِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ فَكَذَا الْفَاسِقُ قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الْهَوَى) فَكَذَا يَعْنِي اتِّبَاعَ الْهَوَى وَالْبِدْعَةِ مَانِعٌ مِنْ أَهْلِيَّةِ الْإِجْمَاعِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ دَاعِيًا إلَيْهِ أَوْ مَاجِنًا بِهِ، أَوْ يَكُونَ غَالِبًا فِيهِ بِحَيْثُ يَكْفُرُ بِهِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ يَدْعُو النَّاسَ إلَى مُعْتَقَدِهِ سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَصَّبُ لِذَلِكَ حِينَئِذٍ تَعَصُّبًا بَاطِلًا حَتَّى يُوصَفَ بِالسَّفَهِ فَيَصِيرَ مُتَّهَمًا فِي أَمْرِ الدِّينِ فَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ فِي الْإِجْمَاعِ وَالتَّعَصُّبُ تَفَعُّلٌ مِنْ الْعَصَبِيَّةِ، وَهِيَ الْخَصْلَةُ الْمَنْسُوبَةُ إلَى الْعُصْبَةِ، وَهِيَ التَّقْوِيَةُ وَالنُّصْرَةُ وَرَأَيْت فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي أَنَّ الْمُتَعَصِّبَ مَنْ يَكُونُ عَقِيدَتُهُ مَانِعَةً مِنْ قَبُولِ الْحَقِّ عِنْدَ ظُهُورِ الدَّلِيلِ، وَكَذَلِكَ إنْ مَجَنَ بِالْهَوَى أَيْ لَمْ يُبَالِ بِمَا قَالَ وَمَا صَنَعَ وَمَا قِيلَ لَهُ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْمُبَالَاةِ مُسْقِطٌ لِلْعَدَالَةِ أَيْضًا وَمَصْدَرُهُ الْمُجُونُ وَالْمَجَانَةُ اسْمٌ مِنْهُ، وَالْفِعْلُ مِنْ بَابِ طَلَبَ وَكَذَلِكَ إنْ غَلَا فِيهِ حَتَّى وَجَبَ إكْفَارُهُ بِهِ لَا يُعْتَبَرُ خِلَافُهُ وَوِفَاقُهُ أَيْضًا لِعَدَمِ دُخُولِهِ فِي مُسَمَّى الْأُمَّةِ الْمَشْهُودِ لَهَا بِالْعِصْمَةِ وَإِنْ صَلَّى إلَى الْقِبْلَةِ وَاعْتَقَدَ نَفْسَهُ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ لَيْسَتْ عِبَارَةً عَنْ الْمُصَلِّينَ إلَى الْقِبْلَةِ بَلْ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ كَافِرٌ وَإِنْ كَانَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ كَافِرٌ وَقَوْلُهُ: مِثْلُ خِلَافِ الرَّوَافِضِ وَالْخَوَارِجِ فِي الْإِمَامَةِ أَيْ خِلَافِ الرَّوَافِضِ فِي إمَامَةِ الشَّيْخَيْنِ وَخِلَافِ الْخَوَارِجِ فِي إمَامَةِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَظِيرِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَلِهَذَا قَالَ: فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْعَصَبِيَّةِ وَنَظِيرُ الْقِسْمِ الثَّانِي مَا نُقِلَ عَنْ الرَّوَافِضِ مِنْ الْهَذَيَانَاتِ فِي حَقِّ الصَّحَابَةِ وَالْحِكَايَاتِ الَّتِي افْتَرَوْهَا عَلَيْهِمْ حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ تُحَابِيهِمْ وَتَعَصُّبُهُمْ فِي هَوَاهُمْ وَنَظِيرُ الْقِسْمِ الثَّالِثِ مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُجَسِّمَةِ مِنْ الْغُلُوِّ فِي التَّشْبِيهِ وَعَنْ بَعْضِ الرَّوَافِضَةِ مِنْ الْغُلُوِّ فِي أَمْرِ عَلِيٍّ حَتَّى قَالُوا: غَلِطَ جِبْرِيلُ فِي تَبْلِيغِ الْوَحْيِ إلَى مُحَمَّدٍ وَعَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنْ نَفْيِ عِلْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - بِالْمَعْدُومِ حَتَّى قَالُوا: لَمْ يَعْلَمْ اللَّهُ شَيْئًا حَتَّى خَلَقَ الْأَشْيَاءَ فَهَذَا كُلُّهُ كُفْرٌ قَوْلُهُ: (وَصَاحِبُ الْهَوَى الْمَشْهُورُ) بِهِ أَيْ الَّذِي غَلَا فِي هَوَاهُ حَتَّى خَرَجَ عَنْ رِبْقَةِ الْإِسْلَامِ لَيْسَ مِنْ الْأُمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ جَوَابٌ عَمَّا ذَكَرُوا أَنَّهُ مِنْ الْأُمَّةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً» فَيُشْتَرَطُ

فَأَمَّا صِفَةُ الِاجْتِهَادِ فَشَرْطٌ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ أَمَّا فِي أُصُولِ الدِّينِ الْمُمَهَّدَةِ مِثْلُ نَقْلِ الْقُرْآنِ، وَمِثْلُ أُمَّهَاتِ الشَّرَائِعِ فَعَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ دَاخِلُونَ مَعَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ فَأَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِالرَّأْيِ وَالِاسْتِنْبَاطِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ إلَّا أَهْلُ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ وَكَذَلِكَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْبَابِ إلَّا فِيمَا يُسْتَغْنَى عَنْ الرَّأْيِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوِفَاقُهُ لِثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ فَقَالَ: إنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْأُمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ كَسَائِرِ الْكُفَّارِ لَا مِنْ أُمَّةِ الْمُتَابَعَةِ، وَمُطْلَقُ الْأُمَّةِ تَتَنَاوَلُ أُمَّةَ الْمُتَابَعَةِ دُونَ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِنْ كَانَ لَا يَدْعُو النَّاسَ إلَى هَوَاهُ وَلَكِنَّهُ مَشْهُورٌ بِهِ فَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا فِيمَا يُضَلَّلُ هُوَ فِيهِ: لَا مُعْتَبَرَ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُضَلِّلُ لِمُخَالَفَتِهِ نَصًّا مُوجِبًا لِلْعِلْمِ، وَكُلُّ قَوْلٍ كَانَ بِخِلَافِ النَّصِّ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ: وَلَا يَثْبُتُ الْإِجْمَاعُ مَعَ مُخَالَفَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ فِي الْأَحْكَامِ. قَالَ: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ إنْ كَانَ مُتَّهَمًا بِالْهَوَى، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُظْهِرٍ لَهُ فَالْجَوَابُ هَكَذَا، فَأَمَّا إذَا كَانَ مُظْهِرًا لِهَوَاهُ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ فِي الْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ لَا يُوجَدُ هَا هُنَا فَإِنَّهُ يُقْبَلُ لِانْتِفَاءِ تُهْمَةِ الْكَذِبِ عَلَى مَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْمٌ عَظَّمُوا الذُّنُوبَ حَتَّى جَعَلُوهَا كُفْرًا لَا يَهْتَمُّونَ بِالْكَذِبِ فِي الشَّهَادَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْتَمَنُونَ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُمْ فِيهِ فَإِنَّ الْخَوَارِجَ هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ الذَّنْبُ نَفْسُهُ كُفْرٌ، وَقَدْ كَفَّرُوا أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ عَلَيْهِمْ مَدَارُ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَاهَا بِنَقْلِهِمْ فَكَيْفَ يُعْتَمَدُ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ، وَأَدْنَى مَا فِيهِ أَنَّهُمْ لَا يَتَعَلَّمُونَ ذَلِكَ إذَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ كُفْرَ النَّاقِلِينَ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِقَوْلِ الْجُهَّالِ فِي الْإِجْمَاعِ قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَوْ خَالَفَ الْمُبْتَدِعُ فِي مَسْأَلَةٍ بَعْدَ مَا حَكَمْنَا بِكُفْرِهِ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى خِلَافِهِ، فَإِنْ تَابَ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الْمُخَالَفَةِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي أَجْمَعُوا عَلَيْهَا فِي حَالِ كُفْرِهِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى خِلَافِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ بِإِجْمَاعِ كُلِّ الْأُمَّةِ، وَكَانَ الْمُجْمِعُونَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كُلَّ الْأُمَّةِ دُونَهُ فَصَارَ كَمَا لَوْ خَالَفَ كَافِرٌ جَمِيعَ كَافَّةِ الْأُمَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَ، وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى ذَلِكَ الْخِلَافِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَشْتَرِطُ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ فِي الْإِجْمَاعِ قَوْلُهُ: (فَأَمَّا الِاجْتِهَادُ فَشَرْطٌ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ) إنَّ الشَّرِيعَةَ تَنْقَسِمُ إلَى مَا يَشْتَرِكُ فِي دَرْكِهِ الْخَوَاصُّ وَالْعَوَامُّ وَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى رَأْيٍ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَوُجُوبِ الصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَمِثْلُ أُمَّهَاتِ الشَّرَائِعِ أَيْ أُصُولِهَا، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْخَوَاصِّ وَالْعَوَامِّ، وَيُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ اتِّفَاقُهُمْ جَمِيعًا حَتَّى لَوْ فُرِضَ خِلَافُ بَعْضِ الْعَوَامّ فِيهِ لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ وَإِلَى مَا يَخْتَصُّ بِدَرْكِهِ الْخَوَاصُّ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ وَهُوَ مَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ كَتَفْصِيلِ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ فَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْخَوَاصُّ فَالْعَوَامُّ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِيهِ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ لَا يُضْمِرُونَ فِيهِ خِلَافًا فَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْخَوَاصِّ وَالْعَوَامِّ أَيْضًا إلَّا أَنَّ الشَّرْطَ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فِي هَذَا الْقِسْمِ اتِّفَاقُ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ دُونَ غَيْرِهِمْ حَتَّى لَوْ خَالَفَ بَعْضُ الْعَوَامّ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ لَا يُعْتَبَرُ بِخِلَافِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِطَلَبِ الصَّوَابِ؛ إذْ لَيْسَ لَهُ آلَةُ هَذَا الشَّأْنِ فَهُوَ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فِي نُقْصَانِ الْآلَةِ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْ عِصْمَةِ الْأُمَّةِ مِنْ الْخِطَابِ إلَّا عِصْمَةُ مَنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْإِصَابَةُ لِأَهْلِيَّتِهِ، وَلِأَنَّ الْعَصْرَ الْأَوَّلَ مِنْ الصَّحَابَةِ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالْعَوَامِّ فِي هَذَا الْبَابِ، وَلِأَنَّ الْعَامِّيَّ إذَا قَالَ قَوْلًا عُلِمَ أَنَّهُ يَقُولُ عَنْ جَهْلٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ يَدْرِي مَا يَقُولُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ فِيهِ، وَعَنْ هَذَا لَا يُتَصَوَّرُ صُدُورُهُ مِنْ عَامِّيٍّ عَاقِلٍ؛ لِأَنَّهُ يُفَوَّضُ مَا لَا يَدْرِي إلَى مَنْ يَدْرِي وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ فُرِضَتْ، وَلَا وُقُوعَ لَهَا أَصْلًا كَذَا ذَكَرَهُ

وَمِنْ النَّاسِ مَنْ زَادَ فِي هَذَا، وَقَالَ: لَا إجْمَاعَ إلَّا لِلصَّحَابَةِ لِأَنَّهُمْ هُمْ الْأُصُولُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إلَى مَا أَيْ مَا يَجْرِي مَجْرَى مَا يَخْتَصُّ بِالرَّأْيِ مِثْلُ الْمَقَادِيرِ، فَإِنَّ الرَّأْيَ وَإِنْ كَانَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِيهَا، وَلَكِنْ أَجْرَوْا بَعْضَهَا مَجْرَى مَا يَدْخُلُ فِيهِ الرَّأْيُ كَتَقْدِيرِ الْبُلُوغِ بِالسِّنِّ وَنَحْوِهِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ إلَّا أَهْلُ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ أَيْ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَوَامُّ كَمَا اُعْتُبِرَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَيَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِدُونِهِمْ وَكَذَلِكَ أَيْ وَمِثْلُ الْعَوَامّ فِي عَدَمِ الِاعْتِبَارِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَالْمُتَكَلِّمِ الَّذِي لَا يَعْرِفُ إلَّا عِلْمَ الْكَلَامِ وَالْمُفَسِّرِ الَّذِي لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَالْمُحَدِّثِ الَّذِي لَا بَصَرَ لَهُ فِي وُجُوهِ الرَّأْيِ وَطُرُقِ الْمَقَايِيسِ وَالنَّحْوِيِّ الَّذِي لَا عِلْمَ لَهُ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ بِاعْتِبَارِ نُقْصَانِ آلَاتِهِمْ فِي دَرْكِ الْأَحْكَامِ بِمَنْزِلَةِ الْعَوَامّ وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ يَحْفَظُ أَحْكَامَ الْفُرُوعِ وَلَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِأُصُولِ الْفِقْهِ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْفُرُوعِيِّ وَفِيمَنْ تَفَرَّدَ بِأُصُولِ الْفِقْهِ وَلَمْ يَحْفَظْ الْفُرُوعَ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْأُصُولِيِّ فَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ الْأُصُولِيَّ دُونَ الْفُرُوعِيِّ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إلَى مَقْصُودِ الِاجْتِهَادِ لِعِلْمِهِ بِمَدَارِكِ الْأَحْكَامِ وَأَقْسَامِهَا وَكَيْفِيَّةِ دَلَالَاتِهَا وَكَيْفِيَّةِ تَلَقِّي الْأَحْكَامِ مِنْ مَنْطُوقِهَا وَمَفْهُومِهَا وَمَعْقُولِهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْفُرُوعِيِّ وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ الْفُرُوعِيَّ دُونَ الْأُصُولِيِّ لِعِلْمِهِ بِتَفَاصِيلِ الْأَحْكَامِ وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَهُمَا نَظَرًا إلَى وُجُودِ نَوْعٍ مِنْ الْأَهْلِيَّةِ الَّذِي عُدِمَ ذَلِكَ فِي الْعَامَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَفَاهُمَا وَإِلَيْهِ يُشِيرُ كَلَامُ الشَّيْخِ نَظَرًا إلَى عَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي أَئِمَّةِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَفْظُ الْأُمَّةِ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ فَيُشْتَرَطُ اشْتِرَاطُ الْكُلِّ فَيَقُولُ: إنَّهُ عَامٌّ قَدْ خُصَّ مِنْهُ فَنَحْمِلُهُ عَلَى الْفُقَهَاءِ الْعَارِفِينَ بِطُرُقِ الْأَحْكَامِ، وَنَقُولُ أَيْضًا: إنَّمَا كَانَ قَوْلُ الْأُمَّةِ حُجَّةً إذَا قَالُوهُ عَنْ اسْتِدْلَالٍ، وَهِيَ إنَّمَا عُصِمَتْ عَنْ الْخَطَأِ فِي اسْتِدْلَالِهَا، وَالْعَامَّةُ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ لِيُعْصَمُوا مِنْ الْخَطَأِ فَصَارَ وُجُودُهُمْ وَعَدَمُهُمْ بِمَنْزِلَةٍ إلَّا فِيمَا يُسْتَغْنَى عَنْ الرَّأْيِ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَأُمَّهَاتِ الشَّرَائِعِ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُمْ فِيهِ كَمَا يُعْتَبَرُ قَوْلُ الْعَامَّةِ وَكَذَا إذَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي مَسْأَلَةٍ تَتَبَنَّى عَلَى عُلُومِهِمْ مِثْلُ النَّحْوِ أَوْ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ قَوْلُ كُلِّ عَالِمٍ فِيمَا هُوَ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ قَوْلُهُ: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ زَادَ عَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى اشْتِرَاطِ الِاجْتِهَادِ فِي الْإِجْمَاعِ كَوْنَ الْمُجْمِعِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ فَقَالَ: لَا إجْمَاعَ إلَّا لِلصَّحَابَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُد وَشِيعَتِهِ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً بِصِفَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ كَمَا قُلْنَا وَالصَّحَابَةُ هُمْ الْأُصُولُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا هُمْ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وَبِقَوْلِهِ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] دُونَ غَيْرِهِمْ إذْ الْخِطَابُ يَتَنَاوَلُ الْمَوْجُودَ دُونَ الْمَعْدُومِ وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ» خَاصٌّ بِالصَّحَابَةِ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إذْ هُمْ كُلُّ الْمُؤْمِنِينَ وَكُلُّ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ لَا يَكُونُ مَوْصُوفًا بِالْإِيمَانِ فَلَا يَكُونُ مِنْ الْأُمَّةِ وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِجْمَاعِ مِنْ اتِّفَاقِ الْكُلِّ، وَالْعِلْمُ بِاتِّفَاقِ الْكُلِّ لَا يَحْصُلُ إلَّا عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الْكُلِّ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ أَحَدٌ سِوَاهُمْ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي إلَّا فِي الْجَمْعِ الْمَحْصُورِ كَمَا فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ أَمَّا فِي سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ فَيَسْتَحِيلُ مَعْرِفَةُ اتِّفَاقِ جَمِيعِ

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ عِتْرَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - فَهُمْ الْمَخْصُوصُونَ بِالْعِرْقِ الطَّيِّبِ الْمَجْبُولُونَ عَلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُؤْمِنِينَ عَلَى شَيْءٍ مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَتَفَرُّقِهِمْ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَسْأَلَةٍ لَا تَكُونُ مُجْمَعًا عَلَيْهَا يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ فَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي لَا تَكُونُ مُجْمَعًا عَلَيْهَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ تَكُونُ مَحَلًّا لِلِاجْتِهَادِ بِإِجْمَاعِهِمْ فَلَوْ اُعْتُبِرَ إجْمَاعُ غَيْرِهِمْ لَخَرَجَتْ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلِاجْتِهَادِ وَذَلِكَ يُفْضِي إلَى تَنَاقُضِ الْإِجْمَاعَيْنِ. قَوْلُهُ: (وَقَالَ بَعْضُهُمْ) وَهُمْ الزَّيْدِيَّةُ وَالْإِمَامِيَّةُ مِنْ الرَّوَافِضِ: لَا يَصِحُّ الْإِجْمَاعُ إلَّا مِنْ عِتْرَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَيْ قَرَابَتِهِ مُتَمَسِّكِينَ فِي ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] أَخْبَرَ بِنَفْيِ الرِّجْسِ عَنْهُمْ بِكَلِمَةِ إنَّمَا الْحَاصِرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى انْتِفَائِهِ عَنْهُمْ فَقَطْ، وَالْخَطَأُ مِنْ الرِّجْسِ فَيَكُونُ مَنْفِيًّا عَنْهُمْ فَقَطْ، وَبِالسُّنَّةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ الثَّقَلَيْنِ فَإِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَمْ تَضِلُّوا كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي» حَصَرَ التَّمَسُّكَ بِهِمَا فَلَا يَقِفُ إقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى غَيْرِهِمَا وَبِالْمَعْقُولِ وَهُوَ أَنَّهُمْ اخْتَصُّوا بِالشَّرَفِ وَالنَّسَبِ فَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ الرِّسَالَةِ وَمَهْبِطَ الْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ وَوَقَفُوا عَلَى أَسْبَابِ التَّنْزِيلِ وَمَعْرِفَةِ التَّأْوِيلِ وَأَفْعَالِ الرَّسُولِ وَأَقْوَالِهِ بِكَثْرَةِ الْمُخَالَطَةِ فَكَانُوا أَوْلَى بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ. قَوْلُهُ: (وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَيْسَ ذَلِكَ) أَيْ لَا إجْمَاعَ إلَّا لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: أَهْلُ الْمَدِينَةِ إذَا أَجْمَعُوا عَلَى شَيْءٍ لَمْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ مُتَمَسِّكًا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ الْمَدِينَةَ تَنْفِي خَبَثَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ» وَالْخَطَأُ مِنْ الْخَبَثِ فَكَانَ مَنْفِيًّا عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَإِذَا انْتَفَى عَنْهُمْ وَجَبَ مُتَابَعَتُهُمْ ضَرُورَةً، وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ الْإِسْلَامَ لَيَأْرِزُ إلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا» أَيْ يَنْضَمُّ إلَيْهَا وَيَجْتَمِعُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ فِيهَا، وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا يَكِيدُ أَحَدٌ أَهْلَ الْمَدِينَةِ إلَّا امَّاعَ كَمَا يَمَّاعُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ» إلَى غَيْرِهَا مِنْ الْأَخْبَارِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ خَطَرِهَا وَكَثْرَةِ شَرَفِهَا وَبِأَنَّ الْمَدِينَةَ دَارُ هِجْرَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَوْضِعُ قَبْرِهِ وَمَهْبِطُ الْوَحْيِ، وَمَجْمَعُ الصَّحَابَةِ وَمُسْتَقَرُّ الْإِسْلَامِ وَمُتَبَوَّأُ الْإِيمَانِ، وَفِيهَا ظَهَرَ الْعِلْمُ، وَمِنْهَا صَدَرَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ الْحَقُّ عَنْ قَوْلِ أَهْلِهَا، وَإِنَّهُمْ شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ وَسَمِعُوا التَّأْوِيلَ، وَكَانُوا أَعْرَفَ بِأَحْوَالِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ غَيْرِهِمْ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْرُجَ الْحَقُّ مِنْ قَوْلِهِمْ (قَوْلُهُ: إلَّا أَنَّ هَذِهِ) جَوَابٌ عَنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَيْ لَكِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَهِيَ اشْتِرَاطُ كَوْنِ الْمُجْمِعِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ أَوْ مِنْ عِتْرَةِ الرَّسُولِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أُمُورٌ زَائِدَةٌ عَلَى أَهْلِيَّةِ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ بِصِفَةِ الْوَسَاطَةِ وَالشَّهَادَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي لَا تَخْتَصُّ بِزَمَانٍ وَلَا بِمَكَانٍ وَلَا بِقَوْمٍ وَمَا ثَبَتَ بِهِ الْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ مِنْ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ» وَغَيْرُهَا لَا يُوجِبُ اخْتِصَاصَ الْإِجْمَاعِ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا أَيْ مِمَّا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ وَعِتْرَةَ الرَّسُولِ وَأَهْلَ الْمَدِينَةِ كَمَا كَانُوا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ عِتْرَتُهُمْ مِنْ مُؤْمِنِي أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ كَذَلِكَ أَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا قَالُوا فَنَقُولُ: مَا قَالَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ مِنْ أَنَّ النُّصُوصَ الْمُوجِبَةَ لِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً تَتَنَاوَلُ الْمَوْجُودِينَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ دُونَ غَيْرِهِمْ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ بَعْدَ مَوْتِ مَنْ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ وُرُودِ تِلْكَ النُّصُوصِ؛ لِأَنَّ إجْمَاعَهُمْ لَيْسَ إجْمَاعَ جَمِيعِ الْمُخَاطَبِينَ وَقْتَ وُرُودِهَا

فَهُمْ أَهْلُ حَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا أَنَّ هَذِهِ أُمُورٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ وَمَا ثَبَتَ بِهِ الْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ لَا يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا وَإِنَّمَا هَذَا كَرَامَةُ الْأُمَّةِ وَلَا اخْتِصَاصَ لِلْأُمَّةِ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQوَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِ مَنْ يَبْقَى مِنْ الصَّحَابَةِ بَعْدَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَبَعْدَ مَنْ مَاتَ بَعْدَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا؛ لِأَنَّ الْمَاضِيَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ كَمَا أَنَّ الْآتِيَ غَيْرُ مُنْتَظَرٍ وَقَوْلُهُمْ: الْعِلْمُ بِاتِّفَاقِ الْكُلِّ لَا يَحْصُلُ إلَّا عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الْكُلِّ فَاسِدٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إلَى تَعَذُّرِ حُصُولِ الْإِجْمَاعِ فِي غَيْرِ زَمَانِ الصَّحَابَةِ وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ إنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ كَانَ حُجَّةً وَكَذَا شُبْهَتُهُمْ الثَّالِثَةُ فَاسِدَةٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ مَا قَالُوا لَزِمَ امْتِنَاعُ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ بِعَيْنِ مَا ذَكَرُوا، وَهُوَ بَاطِلٌ لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا إجْمَاعَهُمْ عَلَى تَجْوِيزِ الِاجْتِهَادِ فَهُوَ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الْإِجْمَاعِ وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ التَّعَارُضُ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إذَا وُجِدَ عَلَى حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ زَالَ شِرْكُ الْإِجْمَاعِ عَلَى التَّجْوِيزِ فَيَزُولُ بِزَوَالِ شَرْطُهُ وَكَذَا مَا تَمَسَّكَ بِهِ الْفَرِيقُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33] أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ قَرَابَةُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَالْمُرَادُ مِنْ الرِّجْسِ الشِّرْكُ أَوْ الْإِثْمُ أَوْ الشَّيْطَانُ أَوْ الْأَهْوَاءُ وَالْبِدَعُ أَوْ الْبُخْلُ وَالطَّمَعُ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي التَّفْسِيرِ فَلَا يَصِحُّ الِاجْتِمَاعُ بِهِ وَكَذَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «تَرَكْت فِيكُمْ الثَّقَلَيْنِ» مِنْ الْآحَادِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُفِيدُ وُجُوبَ التَّمَسُّكِ بِالْكِتَابِ وَالْعِتْرَةِ لَا بِالْعِتْرَةِ وَحْدَهَا مَعَ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِنَحْوِ «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ» الدَّالِّ عَلَى جَوَازِ التَّمَسُّكِ بِقَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَكَوْنِ الْمُتَمَسِّكِ بِهِ مُهْتَدِيًا، وَإِنْ خَالَفَ ذَلِكَ الصَّحَابِيُّ أَهْلَ الْبَيْتِ وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ قَوْلُهُمْ وَاجِبَ الِاتِّبَاعِ. وَكَذَا مَا تَمَسَّكَ بِهِ مَالِكٌ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ فَضْلِهَا لَا عَلَى أَنَّ إجْمَاعَ أَهْلِهَا دُونَ غَيْرِهِمْ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ يَجِبُ مُتَابَعَتُهُ ضَرُورَةً بَلْ مُوَافَقَةُ الْغَيْرِ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ، وَلِأَنَّ الْخَبَثَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ كَرِهَ الْمُقَامَ بِهَا؛ إذْ كَرَاهَةُ ذَلِكَ مَعَ جِوَارِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَسْجِدِهِ وَمَا وَرَدَهُ مِنْ الْبِنَاءِ عَلَى الْمُقِيمِينَ بِهَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ الدِّينِ أَوْ؛ لِأَنَّ نَفْيَهَا الْخَبَثَ مَخْصُوصٌ بِزَمَانِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَوْلُهُ «الْمَدِينَةُ دَارُ الْهِجْرَةِ» إلَى آخِرِهِ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِهَا فَإِنَّ مَكَّةَ مَعَ اشْتِمَالِهَا عَلَى الْبَيْتِ وَالْمَقَامِ وَالزَّمْزَمِ وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَمَوَاضِعِ الْمَنَاسِكِ وَكَوْنِهَا مَوْلِدَ النَّبِيِّ وَمَنْشَأَ إسْمَاعِيلَ وَمَنْزِلَ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - لَا يَكُونُ إجْمَاعُ أَهْلِهَا حُجَّةً، وَلَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ أَحَدٌ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلْبِقَاعِ فِي ذَلِكَ بَلْ الِاعْتِبَارُ لِعِلْمِ الْعُلَمَاءِ وَاجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَوْ كَانُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ مَثَلًا قَالَ السَّمْعَانِيُّ: وَكَمَا أَنَّ الْمَدِينَةَ كَانَتْ مَجْمَعَ الصَّحَابَةِ وَمَهْبِطَ الْوَحْيِ فَقَدْ كَانَتْ دَارَ الْمُنَافِقِينَ وَمَجْمَعَ أَعْدَاءِ الدِّينِ وَفِيهِمْ مَنْ قَالَ: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون: 7] ، وَمَنْ قَالَ: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون: 8] وَمِنْهَا الْمَارِدُونَ عَلَى النِّفَاقِ وَفِيهَا طُعِنَ عُمَرُ وَحُوصِرَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حَتَّى قُتِلَ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لِبَعْضِ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ عِنْدِنَا خَرَجَ الْعِلْمُ فَقَالَ نَعَمْ وَلَكِنْ لَمْ يَعُدْ إلَيْكُمْ قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنْ أَرَادَ مَالِكٌ أَنَّ الْمَدِينَةَ هِيَ الْجَامِعَةُ لِلصَّحَابَةِ فَذَلِكَ لَيْسَ بِمُسَلَّمٍ لَهُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَجْمَعْ جَمِيعَ الْعُلَمَاءِ لَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَلَا بَعْدَهَا بَلْ لَا يَزَالُونَ مُتَفَرِّقِينَ فِي الْأَسْفَارِ وَالْغَزَوَاتِ وَالْأَمْصَارِ، وَقَدْ ارْتَحَلَ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ إلَى الشَّامِ وَنَيِّفٌ وَثَلَاثُمِائَةٍ إلَى الْعِرَاقِ وَفِرْقَةٌ جَمَّةٌ إلَى خُرَاسَانَ وَسَائِرِ

[باب شروط الإجماع]

بَابُ شُرُوطِ) (الْإِجْمَاعِ) : قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - انْقِرَاضُ الْعَصْرِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الشَّرْطُ أَنْ يَمُوتُوا عَلَى ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ رُجُوعِ بَعْضِهِمْ لَكِنَّا نَقُولُ مَا ثَبَتَ بِهِ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً لَا فَصْلَ فِيهِ وَإِنَّمَا ثَبَتَ مُطْلَقًا فَلَا يَصِحُّ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَهُوَ نَسْخٌ عِنْدَنَا وَلِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَعْدُو الْإِجْمَاعَ كَرَامَةً لَهُ لَا لِمَعْنًى يُعْقَلُ فَوَجَبَ ذَلِكَ بِنَفْسِ الْإِجْمَاعِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْبِلَادِ، وَأَقَامُوا بِهَا حَتَّى مَاتُوا وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ قَوْلَهُمْ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّهُمْ الْأَكْثَرُونَ وَالْعِبْرَةُ بِقَوْلِ الْأَكْثَرِ فَهُوَ فَاسِدٌ أَيْضًا لِمَا سَيُذْكَرُ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ لِاتِّفَاقِهِمْ فِي قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ عَلَى أَنَّهُمْ اسْتَدَلُّوا إلَى سَمَاعٍ قَاطِعٍ فَإِنَّ الْوَحْيَ نَزَلَ فِيهِمْ فَلَا يَشِذُّ عَنْهُمْ مَدَارِكُ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ تَحَكُّمٌ؛ إذْ لَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَسْمَعَ غَيْرُهُمْ حَدِيثًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ أَوْ فِي الْمَدِينَةِ لَكِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا قَبْلَ نَقْلِهِ فَالْحُجَّةُ فِي الْإِجْمَاعِ وَلَا إجْمَاعَ. [بَابُ شُرُوطِ الْإِجْمَاعِ] الِانْقِرَاضُ الِانْقِطَاعُ وَانْقِرَاضُ الْعَصْرِ أَيْ أَهْلِهِ عِبَارَةٌ عَنْ مَوْتِ جَمِيعِ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى حُكْمٍ فِيهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِهِ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فَقَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وَلَا لِصَيْرُورَتِهِ حُجَّةً، وَهُوَ أَصَحُّ مَذَاهِبِ الشَّافِعِيِّ، وَذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ إلَى أَنَّهُ شَرْطٌ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ كَأَبِي إِسْحَاقَ الإِسْفِرايِينِي إنْ كَانَ الْإِجْمَاعُ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى الْحُكْمِ قَوْلًا وَفِعْلًا لَا يُشْتَرَطُ الِانْقِرَاضُ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ الْإِجْمَاعُ بِنَصِّ الْبَعْضِ وَسُكُوتِ الْبَاقِينَ يُشْتَرَطُ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ الْإِجْمَاعُ عَنْ قِيَاسٍ كَانَ شَرْطًا، وَإِلَّا فَلَا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ. ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِالِاشْتِرَاطِ اخْتَلَفُوا فِي فَائِدَتِهِ، فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَمَنْ تَابَعَهُ: إنَّهَا جَوَازُ الرُّجُوعِ قَبْلَ الِانْقِرَاضِ لَا دُخُولُ مَنْ سَيَحْدُثُ فِي إجْمَاعِهِمْ وَاعْتِبَارُ مُوَافَقَتِهِ لِلْإِجْمَاعِ حَتَّى لَوْ أَجْمَعُوا وَانْقَرَضُوا مُصِرِّينَ عَلَى مَا قَالُوا يَكُونُ إجْمَاعًا، وَإِنْ خَالَفَهُمْ الْمُجْتَهِدُ اللَّاحِقُ فِي زَمَانِهِمْ، وَقِيَاسُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُخَالِفُ عَارِفًا لِلْإِجْمَاعِ أَيْضًا لِوُقُوعِ الْخِلَافِ قَبْلَ الْحُكْمِ بِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ إذْ اتِّفَاقُهُمْ لَيْسَ إجْمَاعًا بَعْدُ بَلْ الْأَمْرُ مَوْقُوفٌ فَإِذَا انْقَرَضُوا لَمْ يَبْقَ ذَلِكَ الْخِلَافُ مُعْتَبَرًا وَيَكُونُ قَوْلُ الْمُخَالِفِ إذْ ذَاكَ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ. وَذَهَبَ الْبَاقُونَ مِنْهُمْ إلَى أَنَّهَا جَوَازُ الرُّجُوعِ وَإِدْخَالُ مَنْ أَدْرَكَ عَصْرَهُمْ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي إجْمَاعِهِمْ أَيْضًا وَاعْتِبَارُ مُوَافَقَتِهِمْ لَا إدْخَالُ مَنْ أَدْرَكَ عَصْرَ مَنْ أَدْرَكَ عَصْرَهُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَلَّا يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ أَصْلًا. احْتَجَّ مَنْ شَرَطَ الِانْقِرَاضَ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ بِنَاءً عَلَى وَصْفِ الِاجْتِمَاعِ فَلَا يَثْبُتُ الِاجْتِمَاعُ إلَّا بِاسْتِقْرَارِ الْآرَاءِ وَاسْتِقْرَارُهَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِانْقِرَاضِ الْعَصْرِ؛ لِأَنَّ قَبْلَهُ يَكُونُ النَّاسُ فِي حَالِ تَأَمُّلٍ وَتَفَحُّصٍ، وَكَانَ رُجُوعُ الْكُلِّ أَوْ الْبَعْضِ مُحْتَمَلًا وَمَعَ احْتِمَالِ الرُّجُوعِ لَا يَثْبُتُ الِاسْتِقْرَارُ فَلَا يَثْبُتُ الْإِجْمَاعُ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ نَهَى التَّسْوِيَةَ فِي الْقِسْمَةِ وَلَا يَفْضُلُ مَنْ كَانَ لَهُ فَضِيلَةٌ مِنْ سَبْقِ الْإِسْلَامِ وَالْعِلْمِ وَقِدَمِ الْعَهْدِ عَلَى غَيْرِهِ وَلَمْ يُخَالِفْهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمَّا صَارَ الْأَمْرُ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَالَفَهُ فِيهِ وَفَضَّلَ فِي الْقِسْمَةِ بِالسَّبْقِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْعِلْمِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَإِنَّمَا صَحَّتْ هَذِهِ الْمُخَالَفَةُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعَصْرَ لَمْ يَنْقَرِضْ وَأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَرَى عَدَمَ جَوَازِ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، ثُمَّ إنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَالَفَهُ مِنْ بَعْدُ، حَتَّى قَالَ لَهُ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ بِأَنَّك فِي الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ رَأْيِك وَحْدَك

فَإِذَا رَجَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْدُ لَمْ يَصِحَّ رُجُوعُهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَصِحُّ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَنْعَقِدُ إجْمَاعُهُمْ إلَّا بِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَبْقَى إلَّا بِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ بَعْدَ مَا ثَبَتَ الْإِجْمَاعُ لَمْ يَسَعْهُ الْخِلَافُ وَصَارَ يَقِينًا كَرَامَةً وَفِي الِابْتِدَاءِ كَانَ خِلَافُهُ مَانِعًا عِنْدَنَا. ـــــــــــــــــــــــــــــQوَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا؛ لِأَنَّ الْعَصْرَ لَمْ يَنْقَرِضْ فَعَرَفْنَا أَنَّ بِدُونِ الِانْقِرَاضِ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِجْمَاعِ. لَكِنَّا نَقُولُ مَا ثَبَتَ بِهِ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً مِنْ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ مَا إذَا انْقَرَضَ الْعَصْرُ وَلَمْ يَنْقَرِضْ أَيْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ قَبْلَ الِانْقِرَاضِ كَمَا هُوَ حُجَّةٌ بَعْدَ الِانْقِرَاضِ، فَلَا يَصِحُّ الزِّيَادَةُ أَيْ زِيَادَةُ اشْتِرَاطِ الِانْقِرَاضِ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى مَا ثَبَتَ بِهِ الْإِجْمَاعُ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ شَيْءٍ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ أَوْ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَجْرِي مَجْرَى النَّسْخِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ بِمَا ذَكَرُوا مِنْ الدَّلِيلِ، وَلِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَعْدُو الْإِجْمَاعَ أَيْ لَا يُجَاوِزُهُ كَرَامَةً أَيْ كَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا لِأَهْلِ الْإِجْمَاعِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَا لِمَعْنًى يُعْقَلُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ فَلَوْ كَانَ لِمَعْنًى مَعْقُولٍ لَمْ يَخْتَصَّ بِأُمَّةٍ دُونَ أُمَّةٍ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَثْبُتُ ذَلِكَ أَيْ عَدَمُ مُجَاوَزَةِ الْحَقِّ عَنْهُمْ بِنَفْسِ الْإِجْمَاعِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى انْقِرَاضِ الْعَصْرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَوَقَّفَ عَلَيْهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْأُمَّةُ حِينَ اتَّفَقَتْ أَجْمَعَتْ عَلَى الْخَطَأِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. وَقَوْلُهُمْ الِاسْتِقْرَارُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِانْقِرَاضِ الْعَصْرِ؛ لِأَنَّ قَبْلَهُ حَالَ تَأَمُّلٍ وَتَفَحُّصٍ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا مَضَتْ مُدَّةُ التَّأَمُّلِ وَقَطَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى الِاتِّفَاقِ وَأَخْبَرُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ مُعْتَقِدُونَ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فَيَكُونُ اشْتِرَاطُهُ بِلَا حَاجَةٍ فَيَكُونُ فَاسِدًا. وَكَذَا تَعَلُّقُهُمْ بِحَدِيثِ التَّسْوِيَةِ فِي الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ قَدْ خَالَفَ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي زَمَانِهِ وَنَاظَرَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: أَتَجْعَلُ مَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ طَوْعًا كَمَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ كَرْهًا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّمَا عَمِلُوا لِلَّهِ فَأَجْرُهُمْ عَلَى اللَّهِ، وَإِنَّمَا الدُّنْيَا بَلَاغٌ أَيْ بُلْغَةُ الْعَيْشِ وَهُمْ فِي الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ سَوَاءٌ. وَلَمْ يُرْوَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ إلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ فَلَا يَكُونُ الْإِجْمَاعُ بِدُونِ رَأْيِهِ مُنْعَقِدًا، فَلَمَّا آلَ الْأَمْرُ إلَيْهِ عَمِلَ بِرَأْيِهِ فِي حَالِ إمَامَتِهِ وَكَذَا مُخَالَفَةُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ بَيْعَ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فِي زَمَانِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْهُمْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرُهُ فَلَا يَكُونُ الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدًا أَيْضًا. وَقَوْلُ عُبَيْدَةَ: رَأْيُك فِي الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ رَأْيِك وَحْدَكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَعَ عُمَرَ جَمَاعَةً لَا أَنَّ مَعَهُ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ. وَإِنَّمَا اخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ عَلِيٍّ مُنْضَمًّا إلَى قَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لِأَنَّهُ كَانَ يُرَجِّحُ قَوْلَ الْأَكْثَرِ عَلَى قَوْلِ الْأَقَلِّ وَعَلِيٌّ لَا يَرَى التَّرْجِيحَ بِالْكَثْرَةِ بَلْ بِقُوَّةِ الدَّلِيلِ. قَوْلُهُ (فَإِذَا رَجَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْدُ) أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا اتَّفَقُوا عَلَى حُكْمٍ تَقْرِيرٌ وَبَيَانٌ لِثَمَرَةِ الِاخْتِلَافِ، وَلِهَذَا قَالَ بِالْفَاءِ يَعْنِي لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْإِجْمَاعِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى انْقِرَاضِ الْعَصْرِ لَمْ يَصِحَّ رُجُوعُ الْبَعْضِ عَمَّا اتَّفَقَ الْكُلُّ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَمَنْ شَرَطَ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ يَصِحُّ رُجُوعُهُ؛ لِأَنَّ فِي الِابْتِدَاءِ مَا لَمْ يُوجَدْ الِاجْتِمَاعُ مِنْ الْكُلِّ عَلَيْهِ لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ، فَكَذَا فِي حَالِ الْبَقَاءِ مَا لَمْ يُوجَدْ الِاجْتِمَاعُ مِنْ الْكُلِّ لَا يَبْقَى إجْمَاعًا؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ بِوَصْفِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَإِذَا رَجَعَ الْبَعْضُ لَمْ يَبْقَ وَصْفُ الِاجْتِمَاعِ فَلَا يَبْقَى اسْتِحْقَاقُ الْكَرَامَةِ وَلَا يَبْقَى حُجَّةً بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الِانْقِرَاضِ لِبَقَاءِ الِاجْتِمَاعِ وَعَدَمِ تَصَوُّرِ الرُّجُوعِ وَهَذِهِ النُّكْتَةُ تُشِيرُ إلَى أَنَّ عِنْدَهُمْ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ لَكِنْ لَا يَبْقَى حُجَّةً بَعْدَ الرُّجُوعِ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ مَعَ

وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا يُشْتَرَطُ اتِّفَاقُهُمْ بَلْ خِلَافُ الْوَاحِدِ لَا يُعْتَبَرُ وَلَا خِلَافُ الْأَقَلِّ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ أَحَقُّ بِالْإِصَابَةِ وَأَوْلَى بِالْحُجَّةِ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ» . وَالْجَوَابُ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جَعَلَ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةً فَمَا بَقِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ يَصْلُحُ لِلِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ مُخَالِفًا لَمْ يَكُنْ إجْمَاعًا وَإِنَّمَا هَذَا كَرَامَةٌ ثَبَتَتْ عَلَى الْمُوَافَقَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْقَلَ بِهِ دَلِيلُ الْإِصَابَةِ فَلَا يَصْلُحُ إبْطَالُ حُكْمِ الْأَفْرَادِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَرُبَّمَا كَانَ الْمُخَالِفُ وَاحِدًا وَرُبَّمَا قَلَّ عَدَدُهُمْ فِي مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ ـــــــــــــــــــــــــــــQاحْتِمَالِ الرُّجُوعِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ بَعْدَمَا ثَبَتَ الْإِجْمَاعُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى انْقِرَاضِ الْعَصْرِ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ خِلَافُهُ كَمَا لَوْ تَحَقَّقَ الِانْقِرَاضُ؛ لِأَنَّ بِاتِّفَاقِهِمْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَقَّ فِيمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَصَارَ اتِّفَاقُهُمْ دَلِيلًا قَطْعِيًّا كَرَامَةً لَهُمْ فَكَانَ الرُّجُوعُ مُخَالَفَةً لِلدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ وَمُبَيِّنًا أَنَّ إجْمَاعَهُمْ انْعَقَدَ عَلَى الْخَطَأِ فَيَكُونُ مَرْدُودًا بِخِلَافِ الِابْتِدَاءِ؛ فَإِنَّ خِلَافَ الْبَعْضِ كَانَ مَانِعًا مِنْ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فَلَمْ يَثْبُتْ الْحَقُّ بِيَقِينٍ فَيَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْعَمَلُ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ لِاحْتِمَالِ الصَّوَابِ فَظَهَرَ أَنَّ الِابْتِدَاءَ مُخَالِفٌ لِلْبَقَاءِ فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ حَالَةِ الْبَقَاءِ بِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ وَلَمْ يَسَعْهُ وَخِلَافُهُ رَاجِعٌ إلَى الْبَعْضِ. قَوْلُهُ (وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لَا يُشْتَرَطُ اتِّفَاقُهُمْ) يُحْتَمَلُ أَنَّ الشَّيْخَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى سَبِيلِ الْمَنْعِ لِمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ بَعْدَمَا أَجَابَ عَنْهُ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الشَّارِحِينَ، يَعْنِي مَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ مَا كَانَ يَنْعَقِدُ إجْمَاعُهُمْ فِي الِابْتِدَاءِ إلَّا بِهِ مَمْنُوعٌ أَيْضًا عَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ فِي الْإِجْمَاعِ اتِّفَاقَ الْجَمِيعِ بَعْدَمَا أَجَبْنَا عَنْهُ وَفَرَّقْنَا بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ وَيَجُوزُ أَنَّهُ ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ الدَّرَجِ وَالِاسْتِطْرَادِ؛ فَإِنَّ كَلَامَهُ لَمَّا آلَ إلَى أَنَّ خِلَافَ الْبَعْضِ فِي الِابْتِدَاءِ مَانِعٌ ذَكَرَ الْخِلَافَ الَّذِي فِيهِ، وَقَالَ هَذَا عِنْدَنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَيْضًا. ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ مِثْلُ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْخَيَّاطِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ أُسْتَاذِ الْكَعْبِيِّ: لَا يُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ بَلْ يَنْعَقِدُ بِاتِّفَاقِ الْأَكْثَرِ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَقَلِّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ الْأَقَلُّ قَدْ بَلَغَ عَدَدَ التَّوَاتُرِ مَنَعَ خِلَافُهُ مِنْ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ، وَإِلَّا فَلَا. وَنُقِلَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الرَّازِيّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْجَمَاعَةَ إنْ سَوَّغَتْ الِاجْتِهَادَ لِلْمُخَالِفِ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ كَانَ خِلَافُهُ مُعْتَدًّا بِهِ مِثْلُ خِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي تَوْرِيثِ الْأُمِّ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ مَعَ الزَّوْجِ وَالْأَبِ أَوْ مَعَ الْمَرْأَةِ وَالْأَبِ وَخِلَافِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَإِنْ لَمْ يُسَوِّغُوا لَهُ ذَلِكَ الِاجْتِهَادَ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ، مِثْلُ خِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ وَخِلَافِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي أَنَّ النَّوْمَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقِيلَ يَكُونُ قَوْلُ الْأَكْثَرِ حُجَّةً وَلَا يَكُونُ إجْمَاعًا، وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ تَمَسَّكَ مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ خِلَافَ الْأَقَلِّ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ» وَالسَّوَادُ الْأَعْظَمُ عَامَّةُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا جَمِيعُهُمْ فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى أَنَّ الْوَاحِدَ الْمُنْفَرِدَ بِقَوْلِهِ مُخْطِئٌ، وَأَنَّ قَوْلَ الْأَقَلِّ لَا يُعَارِضُ قَوْلَ الْجَمَاعَةِ وَبِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ فَمَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ» كَانَ لَفْظُ الْأُمَّةِ الْوَارِدُ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ» يَصِحُّ إطْلَاقُهُ عَلَى أَهْلِ الْعَصْرِ وَإِنْ شَذَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَوْ اثْنَانِ كَمَا يُقَالُ: بَنُو تَمِيمٍ يَحْمُونَ الْجَارَ، وَيُرَادُ أَكْثَرُهُمْ. وَيُقَالُ: رَأَيْت بَقَرَةً سَوْدَاءَ وَإِنْ كَانَتْ فِيهَا شَعَرَاتٌ بِيضٌ وَبِأَنَّ الْأُمَّةَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ اعْتَمَدَتْ عَلَى الْإِجْمَاعِ، وَقَدْ خَالَفَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَعَلِيٌّ وَسُلَيْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَمْ يَعْتَدُّوا بِخِلَافِهِمْ وَبِأَنَّ خَبَرَ الْجَمَاعَةِ إذَا بَلَغَتْ حَدَّ التَّوَاتُرِ مُفِيدٌ لِلْعِلْمِ مُقَدَّمٌ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ، فَكَذَا فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ وَبِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَنْكَرَتْ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ خِلَافَهُ فِي رِبَا الْفَضْلِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ اتِّفَاقُ الْأَكْثَرِ حُجَّةً لَمَا جَازَ لَهُمْ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ مُجْتَهِدًا. وَمُتَمَسَّكُ الْجُمْهُورِ مَا أَشَارَ

وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ» هُوَ عَامَّةُ الْمُؤْمِنِينَ وَكُلُّهُمْ مَنْ هُوَ أُمَّةٌ مُطْلَقًا. ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَيْهِ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عُرِفَ حُجَّةً بِالدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ مِنْ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ» وَهَذِهِ النُّصُوصُ بِحَقِيقَتِهَا تَتَنَاوَلُ كُلَّ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فَمَا بَقِيَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ مُخَالِفًا لَهُمْ لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ. وَإِنَّمَا هَذَا كَرَامَةٌ أَيْ كَوْنُ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْقَلَ بِهِ أَيْ بِاتِّفَاقِهِمْ أَوْ بِإِجْمَاعِهِمْ دَلِيلُ إصَابَةِ الْحَقِّ يَعْنِي ثَبَتَ كَوْنُهُ حُجَّةً غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ فِي عَصْرٍ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَاتَّفَقُوا عَلَى حُكْمٍ يَثْبُتُ بِهِ الْإِجْمَاعُ مَعَ أَنَّ الْعَقْلَ لَا يُحِيلُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى الْخَطَأِ كَمَا لَا يُحِيلُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى الْكَذِبِ إذَا أَخْبَرُوا بِخَبَرٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَصِحُّ إبْطَالُ حُكْمِ الْأَفْرَادِ أَيْ عَدَمُ اعْتِبَارِ مُخَالَفَتِهِمْ وَإِثْبَاتُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ بِدُونِ رَأْيِهِمْ؛ لِأَنَّ فِيمَا ثَبَتَ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى وَجَبَ رِعَايَةُ جَمِيعِ أَوْصَافِ النَّصِّ، وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُمْ فِي الْأَحْكَامِ وَرُبَّمَا كَانَ الْمُخَالِفُ وَاحِدًا كَمُخَالَفَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْعَوْلِ وَفِي اشْتِرَاطِ ثَلَاثَةٍ مِنْ الْإِخْوَةِ لِحَجْبِ الْأُمِّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ وَمِثْلُ مُخَالَفَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَا تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ وَرُبَّمَا قَلَّ عَدَدُهُمْ فِي مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ كَخِلَافِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي جَوَازِ أَدَاءِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ وَكَانُوا يَعُدُّونَ الْكُلَّ اخْتِلَافًا لَا إجْمَاعًا، وَلِهَذَا لَمْ يُنْكِرُوا عَلَى خِلَافِ الْوَاحِدِ الْجَمِيعَ وَالْأَقَلِّ الْأَكْثَرَ وَلَوْ كَانَ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِ إجْمَاعًا بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ لَأَحَالَتْ الْعَادَةُ عَدَمَ الْإِنْكَارِ عَلَى الْمُخَالِفِ مِنْ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ الَّذِينَ لَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ فِي إظْهَارِ الْحَقِّ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَفَرَّدَ قَوْمٌ مِنْ الصَّحَابَةِ بِأَشْيَاءَ، وَقَدْ أَثْبَتُّمْ الْإِجْمَاعَ مَعَ خِلَافِهِمْ مِثْلُ خِلَافِ حُذَيْفَةَ فِي وَقْتِ السُّحُورِ وَخِلَافِ أَبِي طَلْحَةَ فِي أَكْلِ الْبَرَدِ فِي حَالِ الصَّوْمِ، وَقَوْلُهُ: إنَّهُ لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ وَخِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِبَا الْفَضْلِ قُلْنَا: إنَّمَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ الْوَاحِدِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ فَأَمَّا إذَا كَانَ بِخِلَافِ النَّصِّ فَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَخِلَافِ حُذَيْفَةَ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] وَكَذَا خِلَافُ أَبِي طَلْحَةَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وَالصِّيَامُ هُوَ الْإِمْسَاكُ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِمْسَاكُ مَعَ أَكْلِ الْبَرَدِ، وَكَذَا خِلَافُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الرِّبَا مُخَالِفٌ لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ» ، وَلِهَذَا أَنْكَرَتْ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ وَرَجَعَ إلَى قَوْلِهِمْ بَعْدَمَا بَلَغَهُ الْخَبَرُ لَا لِأَنَّهُ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ. قَوْلُهُ (وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) جَوَابٌ عَنْ تَمَسُّكِ الْخَصْمِ فَقَالَ: الْمُرَادُ مِنْ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ عَامَّةُ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ جَمِيعُهُمْ، وَلِهَذَا قَالَ وَكُلُّهُمْ تَفْسِيرًا وَتَأْكِيدًا لِلْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُطْلَقُ عَلَى الْأَكْثَرِ مِمَّنْ هُوَ أُمَّةٌ مُطْلَقَةٌ أَيْ مِمَّنْ هُوَ مِنْ الْأُمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لَيْسَ فِيهِمْ أَهْوَاءٌ وَبِدَعٌ؛ فَإِنَّ الْكُفَّارَ وَأَهْلَ الْأَهْوَاءِ لَيْسُوا مِنْ الْأُمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ هُمْ أُمَّةُ دَعْوَةٍ لَا أُمَّةُ مُتَابَعَةٍ. وَذُكِرَ فِي الْمِيزَانِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ هُوَ الْكُلُّ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا دُونَ الْكُلِّ وَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ كُلِّهَا أَوْ الْمُرَادُ مِنْ مُتَابَعَةِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مُتَابَعَةُ الْأَكْثَرِ، وَلَكِنْ فِيمَا إذَا وُجِدَ الْإِجْمَاعُ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِهِ، ثُمَّ خَالَفَ الْبَعْضُ بِشُبْهَةٍ اعْتَرَضَتْ لَهُمْ

وَاخْتَلَفُوا فِي شَرْطٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِي السَّلَفِ، فَقَدْ صَحَّ الْقَوْلُ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَأَنَّ إجْمَاعَ كُلِّ عَصْرٍ حُجَّةٌ فِيمَا سَبَقَ فِيهِ الْخِلَافُ مِنْ السَّلَفِ عَلَى بَعْضِ أَقْوَالِهِمْ وَفِيمَا لَمْ يَسْبِقْ الْخِلَافُ مِنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِأَنَّ رُجُوعَهُمْ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَعْدَ صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ وَانْعِقَادِهِ، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ مَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ؛ لِأَنَّ الشَّاذَّ مَنْ خَالَفَ بَعْدَ الْمُوَافَقَةِ يُقَالُ: شَذَّ الْبَعِيرُ وَنَدَّ إذَا تَوَحَّشَ بَعْدَمَا كَانَ أَهْلِيًّا فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ إذْ الْمُخَاطَبُ لَا يَدْخُلُ فِيمَنْ أُمِرَ بِمُلَازَمَتِهِمْ وَاتِّبَاعِهِمْ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفٌ لَا يَتَحَقَّقُ كَوْنُهُ حُجَّةً. قُلْنَا: يَلْزَمُ مِمَّا ذَكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ إجْمَاعٍ مُخَالِفٌ شَاذٌّ لِيَكُونَ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ حُجَّةً بِدُونِ الْمُخَالِفِ وَبُطْلَانُهُ ظَاهِرٌ ثُمَّ نَقُولُ: يَكُونُ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ حُجَّةً عَلَى مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ مِمَّنْ هُوَ أَقَلُّ عَدَدًا مِنْ الْأَوَّلِ فَسُمِّيَ الْأَوَّلُ السَّوَادَ الْأَعْظَمَ وَيَكُونُ حُجَّةً عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي مَنْعِهِمْ عَنْ الرُّجُوعِ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ عَلَيْكُمْ خِطَابًا لِكُلِّ وَاحِدٍ أَوْ يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْعَمَلِ وَالِاعْتِقَادِ بِهِ؛ فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ وَالِاعْتِقَادِ بِمُوجِبِهِ كَالنُّصُوصِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَفْظَةُ الْأَمَةِ تُطْلَقُ عَلَى مَا دُونَ الْكُلِّ فَذَلِكَ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ، وَلِهَذَا إذَا شَذَّ عَنْ الْأُمَّةِ وَاحِدٌ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ الْبَاقِي لَيْسَ كُلَّ الْأُمَّةِ وَالْأَصْلُ هُوَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ، وَأَمَّا إمَامَةُ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً قَبْلَ مُوَافَقَةِ عَلِيٍّ وَسَعْدٍ وَسَلْمَانَ بِالْإِجْمَاعِ بَلْ بِالْبَيْعَةِ مِنْ الْأَكْثَرِ وَهِيَ كَافِيَةٌ لِانْعِقَادِ الْإِمَامَةِ، ثُمَّ رَجَعَ هَؤُلَاءِ إلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعَامَّةُ فَتَقَرَّرَ الْإِجْمَاعُ وَتَأَكَّدَتْ الْإِمَامَةُ إذْ ذَاكَ بِالْإِجْمَاعِ وَاعْتِبَارُهُمْ الْإِجْمَاعَ بِالتَّوَاتُرِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً بِالنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ عَنْ الْخَطَأِ وَالْأَكْثَرُ لَيْسَ كُلَّ الْأُمَّةِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي التَّوَاتُرِ فَافْتَرَقَا قَوْلُهُ (وَاخْتَلَفُوا فِي شَرْطٍ آخَرَ) إذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ عَصْرٍ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ وَاسْتَقَرَّ خِلَافُهُمْ بِأَنْ اعْتَقَدَ كُلُّ وَاحِدٍ حَقِّيَّةَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ خِلَافُهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْبَحْثِ عَنْ الْمَأْخُوذِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَحَدٌ فِي الْمَسْأَلَةِ حَقِّيَّةَ شَيْءٍ مِنْ طَرَفَيْهَا وَلَمْ يَكُنْ بَعْضُهُمْ فِي مُهْلَةِ النَّظَرِ فَذَلِكَ هَلْ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ فِي الْعَصْرِ الَّذِي بَعْدَهُ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِمْ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَهَلْ يَكُونُ عَدَمُ الِاخْتِلَافِ شَرْطًا لِصِحَّتِهِ؟ وَذَهَبَ عَامَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّهُ يَمْنَعُ وَتَبْقَى الْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةً كَمَا كَانَتْ وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: إنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ السَّابِقُ بِهِ، وَإِلَيْهِ مَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ وَابْنُ أَبِي خَيْرَانَ وَأَبُو بَكْرٍ الْقَفَّالُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَمْنَعُ مِنْ الِانْعِقَادِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَمْنَعُ إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا يُخَرَّجُ قَوْلُهُ وَاخْتَلَفُوا إلَى آخِرِهِ إلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهُ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا الثَّلَاثَةُ فِي اشْتِرَاطِ عَدَمِ الِاخْتِلَافِ السَّابِقِ لِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ فَقَدْ صَحَّ الْقَوْلُ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ ذَلِكَ أَيْ عَدَمَ الِاخْتِلَافِ لَيْسَ بِشَرْطٍ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ عِنْدَهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَهُمْ وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ اُخْتُلِفَ فِي أَنَّ عَدَمَ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ وَهُوَ عَدَمُ الِاخْتِلَافِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ أَوْ هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَهُمْ فَقَدْ صَحَّ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَنُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى اشْتِرَاطِهِ

فَقَدْ صَحَّ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ بَاطِلٌ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ لَا يُنْقَضُ، فَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَعَلَ الِاخْتِلَافَ الْأَوَّلَ مَانِعًا مِنْ إجْمَاعِ الْمُتَأَخِّرِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ تَأْوِيلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ مُجْتَهَدٌ وَفِيهِ شُبْهَةٌ فَيَنْفُذُ قَضَاءُ الْقَاضِي وَلَا يُنْقَضُ عِنْدَ الشُّبْهَةِ أَمَّا مَنْ أَثْبَتَ الْخِلَافَ فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُخَالِفَ الْأَوَّلَ لَوْ كَانَ حَيًّا لَمَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ دُونَهُ، وَهُوَ مِنْ الْأُمَّةِ بَعْدَ مَوْتِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ وَجْهٍ وَلَا يَصْلُحُ مِنْ وَجْهٍ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الِاخْتِلَافُ مُتَحَقِّقًا بَيْنَهُمْ وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لَا يَكُونُ، فَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي أَنَّ عَدَمَ اشْتِرَاطِهِ عَلَى الِاتِّفَاقِ أَوْ عَلَى الِاخْتِلَافِ عِنْدَهُمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ الشَّيْخُ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى مَا ذُكِرَ فِي أُصُولِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَفِي بَعْضِهَا مَعَ مُحَمَّدٍ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْمِيزَانِ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ الْإِجْمَاعَ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ يَنْعَقِدُ وَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ، كَذَا رَأَيْت فِي بَعْضِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ. قَوْلُهُ (فَقَدْ صَحَّ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ فِيمَا سَبَقَ فِيهِ الْخِلَافُ. وَاعْلَمْ أَنَّ بَيْعَ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَأَكْثَرُهُمْ لَمْ يُجَوِّزُوهُ حَتَّى قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَيْفَ تَبِيعُونَهُنَّ، وَقَدْ اخْتَلَطَتْ لُحُومُكُمْ بِلُحُومِهِنَّ وَدِمَاؤُكُمْ بِدِمَائِهِنَّ. وَجَوَّزَهُ عَلِيٌّ وَجَابِرٌ وَغَيْرُهُمَا حَتَّى قَالَ عَلِيٌّ اتَّفَقَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ عَلَى أَنْ لَا تُبَاعَ أُمَّهَاتُ الْأَوْلَادِ وَالْآنَ رَأَيْت بَيْعَهُنَّ، وَقَالَ جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كُنَّا نَبِيعُ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ التَّابِعُونَ أَجْمَعُوا قَاطِبَةً عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَلَوْ قَضَى قَاضٍ بِجِوَازِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ يَكُونُ قَضَاؤُهُ بَاطِلًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ فِي فَصْلٍ مُجْمَعٍ عَلَى خِلَافِهِ فَدَلَّ هَذَا الْجَوَابُ عَلَى أَنَّ عِنْدَهُ قَدْ ارْتَفَعَ الِاخْتِلَافُ السَّابِقُ بِهَذَا الْإِجْمَاعِ وَأَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَمْ تَبْقَ اجْتِهَادِيَّةً. وَرَوَى الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ لَا يُنْقَضُ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا وَهُمْ الَّذِينَ أَثْبَتُوا الِاخْتِلَافَ فِي اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ. هَذَا أَيْ هَذَا الْجَوَابُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَمْ يَرْتَفِعْ الِاخْتِلَافُ السَّابِقُ وَأَنَّهُ مَنَعَ مِنْ انْعِقَادِ إجْمَاعِ الْمُتَأَخِّرِ حَيْثُ صَحَّ الْقَضَاءُ وَلَمْ يُنْقَضْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ تَأْوِيلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ كَذَا يَعْنِي لَا يَدُلُّ هَذَا الْجَوَابُ مِنْهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ مَنَعَ مِنْ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ الْمُتَأَخِّرِ بَلْ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ إنَّ هَذَا أَيْ الْإِجْمَاعَ الَّذِي تَقَدَّمَهُ خِلَافٌ إجْمَاعٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ أَيْ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَعِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ هُوَ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ، وَفِيهِ شُبْهَةٌ أَيْ عِنْدَ مَنْ جَعَلَهُ إجْمَاعًا هُوَ إجْمَاعٌ فِيهِ شُبْهَةٌ بِمَنْزِلَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ حَتَّى لَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ وَلَا يُضَلَّلُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَنْفُذُ قَضَاءُ الْقَاضِي فِيهِ أَيْ فِي بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَلَا يُنْقَضُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُخَالِفٍ لِلْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ فَكَانَ هَذَا قَضَاءً فِي مُجْتَهَدٍ فِيهِ فَيَنْفُذُ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا إذَا قَضَى الْقَاضِي فِي فَصْلٍ اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ يَصِيرُ لَازِمًا وَمُجْمَعًا عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ قَضَى قَاضٍ آخَرُ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ عَلَى خِلَافِ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ كَانَ بَاطِلًا لِأَنَّهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَلَوْ كَانَ نَفْسُ الْقَضَاءِ مُخْتَلَفًا فِيهِ بِأَنْ اُسْتُقْضِيَ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ فَقُضِيَ بِقَضِيَّةٍ أَوْ اُسْتُقْضِيَتْ امْرَأَةٌ فَقُضِيَتْ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَرُفِعَ إلَى آخَرَ فَأَبْطَلَهُ جَازَ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ لَمَّا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ كَانَ الْقَضَاءُ الثَّانِي فِي مُجْتَهَدٍ فِيهِ لَا فِي أَمْرٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ فَيَنْفُذُ كَذَا هَاهُنَا. وَذُكِرَ فِي فُصُولِ الْأُسْرُوشَنِيِّ فِي الْقَضَاءِ بِجَوَازِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ رِوَايَاتٌ وَأَظْهَرُهَا أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ، وَفِي قَضَاءِ الْجَامِعِ أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ إنْ أَمْضَى ذَلِكَ الْقَضَاءَ نَفَذَ وَإِنْ أَبْطَلَ بَطَلَ وَهَذَا أَوْجَهُ الْأَقَاوِيلِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا مَنْ أَثْبَتَ الْخِلَافَ)

أَلَا تَرَى أَنَّ خِلَافَهُ اُعْتُبِرَ بِدَلِيلِهِ لَا لِعَيْنِهِ. وَدَلِيلُهُ بَاقٍ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلِأَنَّ فِي تَصْحِيحِ هَذَا الْإِجْمَاعِ تَضْلِيلَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، مِثْلُ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فِي الْعَوْلِ، وَقَدْ قَالَ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ خَلِيَّةٌ بَرِيَّةٌ بَتَّةٌ بَائِنٌ وَنَوَى الثَّلَاثَ ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ لَا يُحَدُّ لِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّهَا رَجْعِيَّةٌ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ عِنْدَ نِيَّةِ الثَّلَاثِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ دَلِيلَ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً هُوَ اخْتِصَاصُ الْأُمَّةِ بِالْكَرَامَةِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَذَلِكَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الْأَحْيَاءِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الدَّلِيلَ بَاقٍ فَهُوَ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ نُسِخَ كَنَصٍّ يُتْرَكُ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْخِلَافَ الْأَوَّلَ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مُرْتَفِعًا بِالْإِجْمَاعِ الْمُتَأَخِّرِ وَجَعَلَ عَدَمَ الِاخْتِلَافِ شَرْطًا لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْحُجَّةَ اتِّفَاقُ كُلِّ الْأُمَّةِ وَلَمْ يَحْصُلْ اتِّفَاقُهُمْ؛ لِأَنَّ الْمُخَالِفَ الْأَوَّلَ مِنْ الْأُمَّةِ وَلَمْ يَخْرُجْ بِمَوْتِهِ عَنْ الْأُمَّةِ وَلَمْ يَبْطُلْ قَوْلُهُ بِهِ إذْ لَوْ بَطَلَ لَمْ يَبْقَ الْمَذَاهِبُ بِمَوْتِ أَصْحَابِهَا كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَلَصَارَ قَوْلُ الْبَاقِينَ مِنْ الْأُمَّةِ فِيمَا إذَا اخْتَلَفُوا فِي حُكْمٍ عَلَى قَوْلَيْنِ وَمَاتَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ إجْمَاعًا لِكَوْنِهِمْ كُلَّ الْأُمَّةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ اتِّفَاقُ كُلِّ الْأُمَّةِ لَا يَكُونُ إجْمَاعًا، ثُمَّ اسْتَوْضَحَ هَذَا الْكَلَامَ فَقَالَ أَلَا تَرَى أَنَّ خِلَافَهُ أَيْ خِلَافَ الْمُخَالِفِ اُعْتُبِرَ لِدَلِيلِهِ لَا لِعَيْنِهِ أَيْ لَا لِذَاتِ الْمُخَالِفِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ غَيْرِ صَاحِبِ الشَّرْعِ لَا يُعْتَبَرُ إلَّا بِالدَّلِيلِ وَدَلِيلُ الْمُخَالِفِ بَاقٍ بَعْدَ مَوْتِهِ وَكَانَ كَبَقَاءِ نَفْسِهِ مُخَالِفًا؛ وَلِأَنَّ فِي تَصْحِيحِ هَذَا الْإِجْمَاعِ وَهُوَ الَّذِي سَبَقَهُ اخْتِلَافٌ تَضْلِيلَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَيْ يَلْزَمُ مِنْ تَصْحِيحِهِ نِسْبَةُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ إلَى الضَّلَالِ؛ لِأَنَّ إجْمَاعَ التَّابِعِينَ لَوْ انْعَقَدَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الصَّحَابَةِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ لَتَبَيَّنَ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي ذَهَبَ الْمُجْمِعُونَ إلَيْهِ وَأَنَّ الْقَوْلَ الْآخَرَ خَطَأٌ بِيَقِينٍ فَكَانَ فِيهِ نِسْبَةُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ إلَى الضَّلَالِ إذْ الْخَطَأُ بِيَقِينٍ هُوَ الضَّلَالُ وَأَحَدٌ لَا يَظُنُّ بِابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ ضَلَّ فِي إنْكَارِهِ الْعَوْلَ وَفِي تَوْرِيثِهِ الْأُمَّ ثُلُثَ كُلِّ الْمَالِ فِي زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ وَإِنْ أَجْمَعَ التَّابِعُونَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَلَا بِابْنِ مَسْعُودٍ ذَلِكَ فِي تَقْدِيمِهِ ذَوِي الْأَرْحَامِ عَلَى مَوْلَى الْعَتَاقَةِ، وَإِنْ أَجْمَعُوا بَعْدَهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ (وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) لَمْ يُرِدْ أَنَّهُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً؛ فَإِنَّهُ قَوْلُ عُلَمَائِنَا جَمِيعًا لَكِنَّ مُحَمَّدًا هُوَ الَّذِي أَوْرَدَهُ فِي الْأَصْلِ فَأَسْنَدَهُ إلَيْهِ فَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ خَلِيَّةٌ أَوْ بَرِيَّةٌ أَوْ بَائِنٌ أَوْ بَتَّةٌ أَوْ حَرَامٌ، وَقَالَ: أَرَدْت بِذَلِكَ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ، ثُمَّ جَامَعَهَا فِي الْعِدَّةِ، وَقَالَ عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا اخْتِلَافًا ظَاهِرًا. وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: إنَّهَا أَيْ الطَّلْقَةُ الْوَاقِعَةُ بِهَذَا اللَّفْظِ رَجْعِيَّةٌ وَإِنْ نَوَى الزَّوْجُ ثَلَاثًا فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بَعْدَ الصَّحَابَةِ: إنَّ الْوَاقِعَ بِالْكِنَايَةِ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ عِنْدَ نِيَّةِ الثَّلَاثِ أَمَّا عِنْدَنَا فَلِأَنَّ الْوَاقِعَ بِالْكِنَايَاتِ بَوَائِنُ فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَلِأَنَّ الْوَاقِعَ بِالْكِتَابَةِ وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا إلَّا أَنَّ نِيَّةَ الثَّلَاثِ تَصِحُّ وَلَا رَجْعَةَ بَعْدَ الثَّلَاثِ وَوَطْءُ الْمُعْتَدَّةِ عَنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ يُوجِبُ الْحَدَّ بِالِاتِّفَاقِ إذَا قَالَ: عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ وَلَمْ يُوجَبْ الْحَدُّ هَاهُنَا فَعَرَفْنَا أَنَّ الِاخْتِلَافَ السَّابِقَ مَنَعَ مِنْ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ. وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ، وَهُوَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ السَّابِقَ لَا يَمْنَعُ مِنْ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ أَنَّ الدَّلَائِلَ الَّتِي عَرَفْنَا بِهَا كَوْنَ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ إجْمَاعٍ سَبَقَهُ وَبَيْنَ إجْمَاعٍ لَمْ يَسْبِقْهُ خِلَافٌ فَصَرْفُهَا إلَى إجْمَاعٍ لَمْ يَسْبِقْهُ خِلَافٌ تَقْيِيدٌ لَهَا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ يُوجِبُهُ فَكَانَ بَاطِلًا. ، أَلَا تَرَى أَنَّ اخْتِصَاصَ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِهَذِهِ الْكَرَامَةِ ثَبَتَ بِاعْتِبَارِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَذَلِكَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الْأَحْيَاءِ فِي كُلِّ عَصْرٍ دُونَ مَنْ مَاتَ قَبْلَهُمْ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ تَوَهُّمُ قَوْلٍ مِمَّنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ فِي مَنْعِ ثُبُوتِ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ، فَكَذَا لَا يُعْتَبَرُ قَوْلُ مَنْ مَاتَ قَبْلَهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا فِي عَصْرِهِمْ عَلَى خِلَافِهِ؛ لِأَنَّهُمْ كُلُّ الْأُمَّةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ. يُبَيِّنُهُ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَوْ اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ، ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى أَحَدِهِمَا لَسَقَطَ الِاخْتِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ بِالْإِجْمَاعِ الْمُتَأَخِّرُ، فَكَذَا فِي مَسْأَلَتِنَا؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ

وَأَمَّا التَّضْلِيلُ فَلَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الرَّأْيَ يَوْمَئِذٍ كَانَ حُجَّةً لِفَقْدِ الْإِجْمَاعِ فَإِذَا حَدَثَ الْإِجْمَاعُ انْقَطَعَ الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ لِلْحَالِ وَذَلِكَ كَالصَّحَابَةِ إذَا اخْتَلَفُوا بِالرَّأْيِ فَلَمَّا عَرَضُوا ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَرَدَّ قَوْلَ الْبَعْضِ لَمْ يَنْسُبْ صَاحِبَهُ إلَى الضَّلَالِ وَكَصَلَاةِ أَهْلِ قُبَاءَ بَعْدَ نُزُولِ النَّصِّ قَبْلَ بُلُوغِهِمْ، وَإِنَّمَا أَسْقَطَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْحَدَّ بِالشُّبْهَةِ وَمِنْ شَرْطِهِ اجْتِمَاعُ مَنْ هُوَ دَاخِلٌ فِي أَهْلِيَّةِ الْإِجْمَاعِ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا شَرَطَ الْأَكْثَرَ وَالصَّحِيحُ مَا قُلْنَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً كَرَامَةً تَثْبُتُ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ فَلَا تَثْبُتُ بِدُونِ هَذَا الشَّرْطِ.. ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي إجْمَاعِ التَّابِعِينَ مِثْلُ الْحُجَّةِ فِي إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَلَمَّا سَقَطَ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ بِإِجْمَاعِهِمْ سَقَطَ بِإِجْمَاعِ الْبَاقِينَ أَيْضًا فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْإِجْمَاعُ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ حُجَّةً لَتَعَارَضَ الْإِجْمَاعَاتُ؛ لِأَنَّ اسْتِقْرَارَ خِلَافِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ بَعْدَ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ دَلِيلٌ عَلَى إجْمَاعِهِمْ عَلَى تَجْوِيزِ الْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ بِاجْتِهَادٍ أَوْ تَعْلِيلٍ، وَهُوَ يُعَارِضُ إجْمَاعَ الْعَصْرِ الثَّانِي عَلَى امْتِنَاعِ الْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ، وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا التَّعَارُضِ تَخْطِئَةُ أَحَدِ الْإِجْمَاعَيْنِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ سَمْعًا قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ لُزُومَ التَّعَارُضِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَ اتِّفَاقُ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ عَلَى قَوْلَيْنِ دَلِيلًا عَلَى إجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ الْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَطَأً إذْ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى تَجْوِيزِ الْأَخْذِ بِالْخَطَأِ خَطَأٌ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا إجْمَاعَهُمْ عَلَى جَوَازِ الْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّا نَقُولُ: وَهُوَ مَشْرُوطٌ بِأَنْ لَا يَنْعَقِدَ إجْمَاعٌ عَلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ كَمَا أَنْ نَسُوغَهُمْ بِالْأَخْذِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْخِلَافِ مَشْرُوطٌ بِانْتِفَاءِ الْقَاطِعِ فَإِنْ قِيلَ: لَوْ جَازَ تَقْدِيرُ الِاشْتِرَاطِ فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ لَجَازَ أَنْ يَنْعَقِدَ إجْمَاعٌ ثَانٍ عَلَى خِلَافِ إجْمَاعٍ أَوَّلٍ وَلَجَازَ أَنْ يُخَالِفَ وَاحِدٌ الْإِجْمَاعَ وَيُقَدِّرَ أَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ الثَّانِي أَوْ بِعَدَمِ الْوَاحِدِ الْمُخَالِفِ، وَهُوَ بَاطِلٌ. قُلْنَا: فِيهِ إبْطَالُ أَصْلِ الْإِجْمَاعِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْجَوَازِ فِيمَا ذَكَرْنَا الْجَوَازُ هَاهُنَا وَلَوْ سُلِّمَ فَالْإِجْمَاعُ يَمْنَعُ مِنْهُ فِيمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الصُّورَتَيْنِ وَلَمْ يَمْنَعْ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَسْتَقِرَّ خِلَافُهُمْ، ثُمَّ أَجَابَ عَنْ كَلَامِ الْخَصْمِ فَقَالَ: أَمَّا قَوْلُهُ أَيْ قَوْلُ الْخَصْمِ أَنَّ الدَّلِيلَ بَاقٍ فَهُوَ كَذَلِكَ أَيْ هُوَ كَمَا قَالَ لَكِنَّهُ نُسِخَ أَيْ لَمْ يَبْقَ مُعْتَبَرًا مَعْمُولًا بِهِ بَعْدَمَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ كَنَصٍّ يَنْزِلُ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ يَخْرُجُ الْقِيَاسُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا مَعْمُولًا بِهِ. قَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ: هَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ بِوَفَاةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَرَجَ الْأَحْكَامُ عَنْ احْتِمَالِ النَّسْخِ لِانْقِطَاعِ الْوَحْيِ الَّذِي تَوَقَّفَ النَّسْخُ عَلَيْهِ بِوَفَاتِهِ بَلْ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ أَنَّ إجْمَاعَ التَّابِعِينَ يُبَيِّنُ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا بَلْ كَانَ شُبْهَةً؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَا يَظْهَرُ خَطَأً أَبَدًا بَلْ يَتَقَرَّرُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ فَأَمَّا الشُّبْهَةُ فَتَزُولُ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى الْبُطْلَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ شُبْهَةٌ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ بِوَفَاةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَبْقَ مَشْرُوعِيَّةُ النَّسْخِ بِالْوَحْيِ وَبَقِيَتْ الْأَحْكَامُ الثَّابِتَةُ فِي زَمَانِهِ عَلَى مَا كَانَتْ، فَأَمَّا الْأَحْكَامُ الثَّابِتَةُ بِالِاجْتِهَادِ أَوْ بِالْإِجْمَاعِ بَعْدَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَجُوزُ أَنْ تُنْسَخَ، وَهُوَ مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ بِأَنْ يُوَفِّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ثُبُوتِ حُكْمٍ بِإِجْمَاعِ أَوْ بِاجْتِهَادِ أَهْلَ عَصْرٍ آخَرَ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى خِلَافِهِ بِنَاءً عَلَى اجْتِهَادٍ نُسِخَ لَهُمْ عَلَى خِلَافِ اجْتِهَادِ أَهْلِ الْعَصْرِ الْمُتَقَدِّمِ وَيَكُونُ هَذَا بَيَانًا لِانْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ كَمَا فِي النُّصُوصِ وَلَا يُقَالُ هَذَا غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي مَعْرِفَةِ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّا لَا نَدَّعِي أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ انْتِهَاءَ مُدَّةِ الْحُكْمِ بِآرَائِهِمْ بَلْ نَقُولُ لَمَّا انْتَهَى ذَلِكَ الْحُكْمُ بِانْتِهَاءِ الْمَصْلَحَةِ وَفَّقَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لِلِاتِّفَاقِ عَلَى خِلَافِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ تَبَدَّلَ بِتَبَدُّلِ الْمَصْلَحَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفُوا عِنْدَ الِاتِّفَاقِ تَبَدُّلَ الْمَصْلَحَةِ وَمُدَّةَ الْحُكْمِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا التَّضْلِيلُ فَلَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الرَّأْيَ كَانَ حُجَّةً يَوْمَئِذٍ) إلَى آخِرِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَلِأَنَّ التَّضْلِيلَ هُوَ الْخَطَأُ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ، فَأَمَّا مِنْ حَيْثُ وُجُوبُ الْعَمَلِ فَلَا بَلْ هُوَ خَطَأٌ مَعْذُورٌ فِيهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ

[باب حكم الإجماع ومحله]

بَابُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حُكْمُهُ فِي الْأَصْلِ أَنْ يَثْبُتَ الْمُرَادُ بِهِ حُكْمًا شَرْعِيًّا عَلَى سَبِيلِ الْيَقِينِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُجْتَهِدِينَ فِي الشَّرْعِيَّاتِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِاجْتِهَادِهِ وَلَكِنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاعْتِقَادُ بِحَقِّيَّةِ قَوْلِهِ إلَّا مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاعْتِقَادُ عَلَى الْإِبْهَامِ أَنَّ مَا أَرَادَ اللَّهُ مِمَّا اخْتَلَفَا فِيهِ حَقٌّ، وَإِذَا لَمْ يَعْتَقِدْ حَقِّيَّةَ مَذْهَبِهِ بِطَرِيقِ الْقَطْعِ لَا يَكُونُ ضَلَالًا وَلَا يَكُونُ تَخْطِئَتُهُ تَضْلِيلًا لِلْحَالِ أَيْ مُقْتَصِرًا عَلَى الْحَالِ وَذَلِكَ أَيْ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ وَحُدُوثُ الْإِجْمَاعِ بَعْدَهُ نَظِيرُ اخْتِلَافِهِمْ بِالرَّأْيِ وَرَدُّ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَوْلَ الْبَعْضِ وَكَصَلَاةِ أَهْلِ قُبَاءَ؛ فَإِنَّهُمْ صَلَّوْا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَمَا نَزَلَتْ فَرْضِيَّةُ التَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ حَتَّى أُخْبِرُوا بِأَنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ إلَى الْكَعْبَةِ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُمْ ضَلَالًا وَإِنْ ظَهْر خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالنَّصِّ النَّاسِخِ، فَكَذَا هَذَا وَقُبَاءُ بِالضَّمِّ وَالْمَدِّ مِنْ قُرَى الْمَدِينَةِ يُنَوَّنُ وَلَا يُنَوَّنُ. ، وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ بِإِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِ الصَّحَابَةِ وَثَبَتَ الْإِجْمَاعُ بِرُجُوعِهِ لَا مَحَالَةَ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُوجِبًا تَضْلِيلَهُ فِيمَا كَانَ يُفْتِي بِهِ قَبْلَ الرُّجُوعِ، فَكَذَا مَا نَحْنُ فِيهِ قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا أَسْقَطَ مُحَمَّدٌ بِالشُّبْهَةِ) أَيْ بِالشُّبْهَةِ الْمُتَمَكِّنَةِ فِي هَذَا الْإِجْمَاعِ؛ فَإِنَّ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ إجْمَاعًا يَكُونُ الِاخْتِلَافُ الْأَوَّلُ بَاقِيًا فَيُورِثُ الِاخْتِلَافُ فِيهِ شُبْهَةَ بَقَاءِ الِاخْتِلَافِ الْأَوَّلِ وَالْحَدُّ يَسْقُطُ بِأَدْنَى شُبْهَةٍ. ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَفَّذَ قَضَاءَ الْقَاضِي بِبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ لِهَذِهِ الشُّبْهَةِ فَلَأَنْ يَسْقُطَ الْحَدُّ لِهَذِهِ الشُّبْهَةِ كَانَ أَوْلَى. قَوْلُهُ (وَمِنْ شَرْطِهِ) أَيْ مِنْ شَرْطِ الْإِجْمَاعِ كَذَا إنَّمَا أَعَادَ ذِكْرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَمَا ذَكَرَهَا مَرَّةً؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهَا هُنَاكَ بِطَرِيقِ الِاسْتِطْرَادِ وَهَاهُنَا ذَكَرَهَا قَصْدًا وَلِيُبَيِّنَ أَنَّ فِيهَا اخْتِلَافًا لِبَعْضِ مَشَايِخِنَا وَلِيُبَيِّنَ اخْتِيَارَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. [بَابُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ وَمَحِلّه] (بَابُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ) حُكْمُ الشَّيْءِ، وَهُوَ الْأَثَرُ الثَّابِتُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ وُجُودِ رُكْنِهِ مِمَّنْ هُوَ أَهْلُهُ وَبَعْدَ وُجُودِ شَرْطِهِ فَلِذَلِكَ أَخَّرَهُ عَنْهُمَا حُكْمُ الْإِجْمَاعِ فِي الْأَصْلِ أَيْ أَصْلِ الْإِجْمَاعِ، وَهُوَ أَنْ يَتَحَقَّقَ بِجَمِيعِ شَرَائِطِهِ أَنْ يَثْبُتَ الْمُرَادُ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْيَقِينِ يَعْنِي الْأَصْلُ فِي الْإِجْمَاعِ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ قَطْعًا كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْيَقِينُ بِهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَذَلِكَ بِسَبَبِ الْعَوَارِضِ كَمَا فِي الْآيَةِ الْمُؤَوَّلَةِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَقَوْلُهُ حُكْمًا شَرْعِيًّا مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ الْمُرَادِ وَيَصِحُّ لِلْحَالِ لِاتِّصَافِهِ بِصِفَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى قُرْآنًا فِي قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [فصلت: 3] ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِقَوْلِهِ حُكْمًا شَرْعِيًّا أَيْ أَمْرًا دِينِيًّا إشَارَةً إلَى أَنَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ الْأُمُورُ الدِّينِيَّةُ لَا غَيْرَ وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِيمَا يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ كَوُجُودِ الْبَارِي جَلَّ جَلَالُهُ وَصِحَّةِ الرِّسَالَةِ لِاسْتِلْزَامِهِ الدَّوْرَ لِتَوَقُّفِ صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى النُّصُوصِ الْمُتَوَقِّفَةِ عَلَى وُجُودِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ وَصِحَّةِ النُّبُوَّةِ فَلَوْ تَوَقَّفَا عَلَيْهِ لَزِمَ الدَّوْرُ. وَأَمَّا مَا لَا يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ أَمْرًا دِينِيًّا يَكُونُ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً اتِّفَاقًا سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْفُرُوعِ الشَّرْعِيَّةِ كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَأَحْكَامِ الدِّمَاءِ وَالْفُرُوعِ أَوْ مِنْ الْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ كَرُؤْيَةِ الْبَارِي لَا فِي جِهَةٍ وَنَفْيِ الشَّرِيكِ وَغُفْرَانِ الْمُذْنِبِينَ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا دُنْيَوِيًّا كَتَجْهِيزِ الْجُيُوشِ وَتَدْبِيرِ الْحُرُوبِ وَالْعِمَارَةِ وَالزِّرَاعَةِ وَغَيْرِهَا فَقَدْ

وَمِنْ أَهْلِ الْهَوَى مَنْ لَمْ يَجْعَلْ الْإِجْمَاعَ حُجَّةً قَاطِعَةً؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ اعْتَمَدَ مَا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ لَكِنَّ هَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالدَّلِيلِ الْمَعْقُولِ ـــــــــــــــــــــــــــــQاخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَكُونُ الْإِجْمَاعُ فِيهِ حُجَّةً حَتَّى لَوْ اتَّفَقَ أَهْلُ عَصْرٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا يَجُوزُ الْمُخَالَفَةُ فِيهِ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ الدَّالَّةَ عَلَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ مِنْ الْخَطَإِ وَوُجُوبِ اتِّبَاعِهِمْ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَمْرٍ دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَكُونُ حُجَّةً؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ أَعْلَى حَالًا مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ حُجَّةٌ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ دُونَ مَصَالِحِ الدُّنْيَا فَكَذَلِكَ الْإِجْمَاعُ، وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قِصَّةِ التَّلْقِيحِ «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأُمُورِ دُنْيَاكُمْ» وَكَانَ إذَا رَأَى رَأْيًا فِي الْحَرْبِ رَاجَعَهُ الصَّحَابَةُ فِي ذَلِكَ وَرُبَّمَا كَانَ يَتْرُكُ رَأْيَهُ بِرَأْيِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُرَاجِعُهُ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ. وَذُكِرَ فِي الْمِيزَانِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْإِجْمَاعَ حُجَّةً فِيهِ هَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فِي الْعَصْرِ الثَّانِي كَمَا فِي الْإِجْمَاعِ فِي أُمُورِ الدِّينِ فَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْحَالُ يَجِبُ وَإِنْ تَغَيَّرَ لَا يَجِبُ وَيَجُوزُ الْمُخَالَفَةُ؛ لِأَنَّ أُمُورَ الدُّنْيَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمَصَالِحِ الْعَاجِلَةِ وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ الزَّوَالَ سَاعَةً فَسَاعَةً وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ مَقْطُوعٌ بِهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ حُجَّةً مِثْلُ إبْرَاهِيمَ النَّظَّامِ وَالْقَاشَانِيِّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَأَكْثَرِ الرَّوَافِضِ، وَقَالَتْ الْإِمَامِيَّةُ مِنْهُمْ: إنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مِنْ حَيْثُ الْإِجْمَاعُ وَلَكِنَّهُ حُجَّةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْإِمَامَ دَاخِلٌ فِيهِمْ، وَقَوْلُهُ مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ فَالْحُجَّةُ قَوْلُ الْإِمَامِ عِنْدَهُمْ دُونَ الْإِجْمَاعِ. وَقَوْلُهُ وَمِنْ أَهْلِ الْهَوَى مَنْ لَمْ يَجْعَلْ الْإِجْمَاعَ حُجَّةً قَاطِعَةً يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ يَكُونُ حُجَّةً عِنْدَهُمْ غَيْرَ قَاطِعَةٍ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ رَأَى الِاجْتِهَادَ مِنْهُمْ حُجَّةً؛ لِأَنَّ اجْتِهَادَ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ إذَا كَانَ حُجَّةً فِي حَقِّ نَفْسِهِ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ كَانَ اجْتِهَادُ الْجَمِيعِ حُجَّةً فِي حَقِّهِمْ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ يَكُونُ حُجَّةً ظَنِّيَّةً يَجُوزُ مُخَالَفَتُهَا إذَا تَبَدَّلَ الِاجْتِهَادُ وَلَكِنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْكُتُبِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا تَمَسَّكَ مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ حُجَّةً بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ وُقُوعَهُ مُسْتَحِيلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُ أَقَاوِيلِ الْعُلَمَاءِ مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَتَبَاعُدِ دِيَارِهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ بَغْدَادَ لَا يَعْرِفُونَ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالْمَغْرِبِ وَلَا بِالْمَشْرِقِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَعْرِفُوا أَقَاوِيلَهُمْ فِي الْحَوَادِثِ فَثَبَتَ أَنَّ مَعْرِفَةَ قَوْلِ الْأُمَّةِ بِإِجْمَاعِهِمْ فِي الْحَوَادِثِ مُتَعَذِّرٌ وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ اتِّفَاقُ آرَائِهِمْ فِي الْحَادِثَةِ مَعَ تَفَاوُتِ الْفِطَنِ وَالْقَرَائِحِ وَاخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ وَالْمَطَالِبِ وَأَخْذِ كُلِّ قَوْمٍ صَوْتًا مِنْ أَسَالِيبِ الطُّيُورِ فَيَكُونُ تَصْوِيرُ إجْمَاعِهِمْ فِي الْحُكْمِ الْمَظْنُونِ بِهِ بِمَنْزِلَةِ تَصْوِيرِ الْعَالَمِينَ فِي صُبْحِيَّةِ يَوْمٍ عَلَى قِيَامٍ أَوْ قُعُودٍ وَأَكْلِ نَوْعٍ مِنْ الطَّعَامِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ انْعَقَدَ إمَّا أَنْ يَنْعَقِدَ عَنْ نَصٍّ أَوْ إمَّا لَا إذْ لَا بُدَّ مِنْ مُسْتَنَدٍ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْعَقِدَ عَنْ نَصٍّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْعَقَدَ عَنْ نَصٍّ وَجَبَ نَقْلُهُ عَلَيْهِمْ إذَا تَعَلَّقَ وَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ بِهِ عَنْ الْإِجْمَاعِ وَيَكُونُ هُوَ الْحُجَّةُ دُونَ الْإِجْمَاعِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْعَقِدَ عَنْ أَمَارَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَاخْتِلَافِ هِمَمِهِمْ لَا يَتَّفِقُونَ عَلَى رَأْيٍ وَاحِدٍ مَظْنُونٍ عَلَى أَنَّهُ إنْ انْعَقَدَ عَنْ أَمَارَةٍ يَكُونُ الْأَمَارَةُ هِيَ الْحُجَّةُ دُونَ الْإِجْمَاعِ أَيْضًا. 1 - وَالثَّالِثُ: وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ لَهُمْ فِي هَذَا الْفَصْلِ مَا أَشَارَ الشَّيْخُ إلَيْهِ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ أَنَّ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ عَلَى وَجْهٍ يُؤْمَنُ مَعَهُ الْخَطَأُ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ اعْتَمَدَ مَا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَيَحْتَمِلُ الْخَطَأَ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَجُوزَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْخَطَأُ، ثُمَّ لَا يَجُوزُ الْخَطَأُ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ كَمَا يَسْتَحِيلُ عَكْسُهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مُصِيبًا وَلَا يَكُونُ جَمِيعُهُمْ عَلَى الصَّوَابِ وَكَمَا يَسْتَحِيلُ

أَمَّا الْكِتَابُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115] فَأَوْجَبَ هَذَا أَنْ يَكُونَ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا بِيَقِينٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنْ يَكُونَ مَحَلُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ أَسْوَدَ أَوْ أَبْيَضَ وَلَا يَكُونُ الْجَمِيعُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ إجْمَاعُهُمْ حُجَّةً قَاطِعَةً كَقَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. قَوْلُهُ (لَكِنَّ هَذَا) أَيْ مَا ذَكَرَهُ الْمُخَالِفُ خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالدَّلِيلِ الْمَعْقُولِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الدَّلَائِلَ تُوجِبُ أَنَّهُ حُجَّةٌ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. 1 - أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} [النساء: 115] وَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ أَنَّهُ تَعَالَى تَوَعَّدَ عَلَى مُتَابَعَةِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا تَوَعَّدَ عَلَى مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ وَالسَّبِيلُ مَا يَخْتَارُ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ قَوْلًا وَعَمَلًا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُحَرَّمًا لَمَّا تَوَعَّدَ عَلَيْهِ وَلَمَا حَسُنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُشَاقِّ الرَّسُولِ فِي الْوَعِيدِ كَمَا لَا يَحْسُنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَأَكْلِ الْخُبْزِ الْمُبَاحِ فِي الْوَعِيدِ، وَإِذَا حَرُمَ اتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَجَبَ اتِّبَاعُ سَبِيلِهِمْ فَيَكُونُ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً؛ لِأَنَّهُ سَبِيلُهُمْ وَعَلَى مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ مُتَابَعَةَ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَنْزِلَةِ مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ فِي اسْتِيجَابِ النَّارِ وَسَوَّى بَيْنَهُمَا فَكَانَ تَرْكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاجِبًا قَطْعًا. ثُمَّ تَرْكُ الْمُشَاقَّةِ إنَّمَا وَجَبَ قَطْعًا؛ لِأَنَّ قَوْلَ الرَّسُولِ حَقٌّ بِيَقِينٍ فَكَذَلِكَ تَرْكُ اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ إنَّمَا وَجَبَ قَطْعًا؛ لِأَنَّ سَبِيلَهُمْ حَقٌّ بِيَقِينٍ وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ اتِّبَاعَ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مُتَوَعَّدٌ عَلَيْهِ بِشَرْطِ مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ فَلَا يَثْبُتُ التَّوَعُّدُ بِدُونِهَا إذْ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِكَوْنِهِ مَشْرُوطًا بِهَا الِاشْتِرَاطَ اللَّفْظِيَّ فَهُوَ مَمْنُوعٌ إذْ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَعَلُّقِ الِاتِّبَاعِ بِالْمُشَاقَّةِ فِي صِحَّةِ تَرَتُّبِ الْوَعِيدِ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ الْوَعِيدَ تَرَتَّبَ عَلَى الْمُشَاقَّةِ وَالِاتِّبَاعِ الْمَذْكُورَيْنِ مَجْمُوعًا فَلَا يَثْبُتُ تَرَتُّبُ الْوَعِيدِ عَلَى الِاتِّبَاعِ بِانْفِرَادِهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطَيْنِ لَا يَثْبُتُ عِنْدَ وُجُودِ أَحَدِهِمَا كَمَا لَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَكَلَّمْت زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ لَا يَثْبُتُ الطَّلَاقُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فَذَلِكَ فَاسِدٌ أَيْضًا قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُشَاقَّةَ بِانْفِرَادِهَا سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْوَعِيدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 13] . ، وَقَدْ سَاعَدَنَا الْخَصْمُ فِي ذَلِكَ فَلَوْ كَانَ الْمَجْمُوعُ شَرْطًا وَسَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُشَاقَّةُ بِانْفِرَادِهِ سَبَبًا لِذَلِكَ، وَهُوَ خِلَافُ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَإِذَا كَانَتْ الْمُشَاقَّةُ بِانْفِرَادِهَا سَبَبًا لِذَلِكَ كَانَ الِاتِّبَاعُ بِانْفِرَادِهِ سَبَبًا لَهُ أَيْضًا إذْ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ سَبَبًا لَهُ لَمْ يَبْقَ لِذِكْرِهِ فَائِدَةٌ وَصَارَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ سَبَبٌ لِلْإِثْمِ فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِدْلَال بِهَذِهِ الْآيَةِ إنَّمَا يَتِمُّ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ الِاتِّبَاعَ عِبَارَةٌ عَنْ مُجَرَّدِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ فِعْلِ الْغَيْرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِلَّا يَلْزَمْ أَنْ يُقَالَ الْمُسْلِمُونَ أَتْبَاعُ الْيَهُودِ فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَنُبُوَّةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَلْ مُتَابَعَةُ الْغَيْرِ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ فِعْلِ الْغَيْرِ لِأَجْلِ أَنَّهُ فَعَلَهُ، فَأَمَّا الْآتِي بِمِثْلِ فِعْلِ الْغَيْرِ لَا لِأَجْلِ أَنَّ الْغَيْرَ فَعَلَهُ بَلْ لِأَنَّ الدَّلِيلَ سَاقَهُ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا لِلْغَيْرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ حَصَلَ بَيْنَ مُتَابَعَةِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَبَيْنَ مُتَابَعَةِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَاسِطَةٌ وَهِيَ أَنْ لَا يُتَّبَعَ أَحَدٌ أَصْلًا بَلْ يُتَوَقَّفُ إلَى ظُهُورِ الدَّلِيلِ، وَإِذَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْوَاسِطَةُ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ تَحْرِيمِ اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وُجُوبُ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فَيَسْقُطُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQالِاسْتِدْلَال قُلْنَا: الِاسْتِدْلَال تَامٌّ فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْ الِاتِّبَاعِ فِي الْآيَةِ نَفْسُ الْمُوَافَقَةِ وَالسُّلُوكِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ فُلَانٌ يَتَّبِعُ السَّبِيلَ الْفُلَانِيَّ يُفْهَمُ مِنْهُ نَفْسُ السُّلُوكِ وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ سَلَكَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَى اتِّبَاعِ أَحَدٍ بَلْ لِشُبْهَةٍ صَرَفَتْهُ إلَيْهِ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلْوَعِيدِ بِلَا خِلَافٍ. وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَيَسْلُكُ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الِاتِّبَاعِ هَاهُنَا نَفْسُ السُّلُوكِ وَالْمُوَافَقَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ انْتَفَتْ الْوَاسِطَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْخَصْمُ وَلَزِمَ مِنْ حُرْمَةِ اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ لُزُومُ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ضَرُورَةً يُوَضِّحُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ وَتَرْكَ الصَّلَاةِ مَثَلًا غَيْرُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِذَا حَرُمَ عَلَيْهِ شُرْبُ الْخَمْرِ وَتَرْكُ الصَّلَاة لَزِمَ عَلَيْهِ تَرْكُ الشُّرْب وَالتَّحَرُّزُ عَنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ وَهُمَا غَيْرُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا فَيَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ أَحَدِهِمَا ثُبُوتُ الْآخَرِ لَا مَحَالَةَ. فَإِنْ قِيلَ: لَفْظُ السَّبِيلِ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ؛ فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ الطَّرِيقُ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ الْمَشْيُ، وَهُوَ غَيْرُ مُرَادٍ مِنْهُ فَيُحْمَلُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْكَلَامِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي صَارُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ، وَهُوَ الْإِيمَانُ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ الْكُفْرُ بِاَللَّهِ وَتَكْذِيبُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ فَإِنَّ أَحَدًا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ لَا تَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الصَّالِحِينَ فُهِمَ مِنْهُ سَبِيلُهُمْ الَّذِي صَارُوا صَالِحِينَ لَا سَبِيلُهُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقَ؛ فَإِنَّهُ سَرَقَ دِرْعًا وَالْتَحَقَ بِالْمُشْرِكِينَ مُرْتَدًّا فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} [النساء: 115] أَيْ يُخَالِفُهُ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى أَيْ ظَهَرَ لَهُ الدِّينُ الْحَقُّ {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] أَيْ غَيْرَ طَرِيقِهِمْ بِالِارْتِدَادِ كَمَا فَعَلَهُ طُعْمَةُ {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115] نَتْرُكُهُ وَمَا تَوَلَّى مِنْ وِلَايَةِ الشَّيْطَانِ وَقِيلَ: نَدَعْهُ وَمَا اخْتَارَ لِنَفْسِهِ مِنْ الدِّينِ غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ {وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} [النساء: 115] نُدْخِلْهُ فِيهَا كَذَا ذُكِرَ فِي التَّفَاسِيرِ، وَإِذَا حُمِلَ السَّبِيلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لَمْ تَبْقَ حُجَّةٌ فِي الْإِجْمَاعِ قُلْنَا. الْأَصْلُ إجْرَاءُ الْكَلَامِ عَلَى عُمُومِهِ وَإِطْلَاقِهِ وَالسَّبِيلُ مُطْلَقٌ أَوْ عَامٌّ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ الْإِضَافَةُ بِمَنْزِلَةِ لَامِ التَّعْرِيفِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّعْمِيمِ فَتَقْتَضِي النَّصُّ بِعُمُومِهِ وَإِطْلَاقِهِ لُحُوقَ الْوَعِيدِ عِنْدَ تَرْكِ اتِّبَاعِ سَبِيلِهِمْ فِيمَا صَارُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ وَفِيمَا لَمْ يَصِيرُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قِيلَ لِأَحَدٍ اتَّبِعْ سَبِيلَ الْعُلَمَاءِ يَقْتَضِي أَنْ يَتَّبِعَ سَبِيلَهُمْ فِيمَا صَارُوا بِهِ عُلَمَاءَ وَفِيمَا لَمْ يَصِيرُوا بِهِ عُلَمَاءَ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِمُشَاقَّةِ الرَّسُولِ إلَّا تَرْكُ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي صَارُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ فَلَوْ حَمَلْنَا السَّبِيلَ عَلَى ذَلِكَ لَزِمَ التَّكْرَارُ وَلَا يُعْتَنَى لِقَوْلِهِمْ نَزَلَ فِي رَجُلٍ مُرْتَدٍّ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ وَذَكَرَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ بِقَاطِعَةٍ فِي وُجُوبِ مُتَابَعَةِ الْإِجْمَاعِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] فِي مُتَابَعَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْ مُنَاصَرَتِهِ أَوْ الِاقْتِدَاءِ بِهِ أَوْ فِي الْإِيمَانِ بِهِ لَا فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَثْبُتُ الْقَطْعُ وَغَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِيهِ فَيَسْتَقِيمُ التَّمَسُّكُ بِهَا لِمَا يُرَى الْإِجْمَاعُ حُجَّةً ظَنِّيَّةً لَا يَكْفُرُ وَلَا يُفَسَّقُ مُخَالِفُهَا كَمَا هُوَ مُخْتَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لَا لِمَنْ يَرَى أَنَّهُ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ يَكْفُرُ أَوْ يَفْسُقُ مُخَالِفُهَا؛ لِأَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْمُحْتَمَلِ الظَّنِّيِّ فِي مَقَامِ الْقَطْعِ غَيْرُ مُفِيدٍ وَأُجِيبَ عَنْهُ أَنَّ كُلَّ احْتِمَالٍ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِ الدَّلِيلِ قَطْعِيًّا؛ فَإِنَّ الِاحْتِمَالَ قَدْ تَطَرَّقَ إلَى جَمِيعِ الْعَقْلِيَّاتِ مِنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَغَيْرِهِمَا فَلَوْ اُعْتُبِرَ

وَقَالَ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] وَالْخَيْرِيَّةُ تُوجِبُ الْحَقِّيَّةَ فِيمَا أَجْمَعُوا ـــــــــــــــــــــــــــــQكُلُّ احْتِمَالٍ لَمْ يَبْقَ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الظَّوَاهِرَ وَالْعُمُومَاتِ مِنْ الدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ عِنْدَ أَكْثَرِ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ وَالْقَاضِي أَبِي زَيْدٍ وَعَامَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ تَمَسَّكُوا فِيمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ بِشُبْهَةٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَحْتَمِلُهَا اللَّفْظُ لَكِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ خِلَافَ الظَّاهِرِ لَمْ تَقْدَحْ فِي قَطْعِيَّةِ النُّصُوصِ حَتَّى وَجَبَ تَضْلِيلُهُمْ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ لِاحْتِمَالٍ لَمْ يَنْشَأْ عَنْ دَلِيلٍ. 1 - وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِخِطَابِ الشَّارِعِ إلَّا مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُهُ إنْ تَجَرَّدَ عَنْ قَرِينَةٍ وَإِنْ احْتَمَلَ غَيْرَ ظَاهِرِهِ أَوْ مَا يَقْتَضِيهِ مَعَ قَرِينَةٍ إنْ وُجِدَتْ مَعَهُ قَرِينَةٌ إذْ لَوْ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ غَيْرُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُهُ لَمَا حَصَلَ الْوُثُوقُ بِخِطَابِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ غَيْرُ ظَاهِرِهِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْهُ وَذَلِكَ يُفْضِي إلَى اشْتِبَاهِ الْأَمْرِ عَلَى النَّاسِ.، أَلَا تَرَى أَنَّا نَعْلَمُ الشَّيْءَ جَائِزَ الْوُقُوعِ قَطْعًا، ثُمَّ نَقْطَعُ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ انْقِلَابُ مَاءِ جَيْحُونَ دَمًا وَانْقِلَابُ الْجُدْرَانِ ذَهَبًا وَظُهُورُ الْإِنْسَانِ الشَّيْخِ لَا مِنْ الْأَبَوَيْنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَمَعَ ذَلِكَ نَقْطَعُ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ، فَكَذَا هَاهُنَا وَإِنْ جَوَّزْنَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى كُلَّ شَيْءٍ وَلَكِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِينَا عِلْمًا بَدِيهِيًّا؛ فَإِنَّهُ لَا يَعْنِي لِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ إلَّا ظَوَاهِرَهَا فَكَذَلِكَ أَمِنَّا عَنْ الِالْتِبَاسِ وَعَرَفْنَا أَنَّ الظَّوَاهِرَ قَاطِعَةٌ يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِهَا فِي الْأَحْكَامِ الْقَطْعِيَّةِ. قَوْلُهُ: وَقَالَ تَعَالَى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] كَانَ عِبَارَةٌ عَنْ وُجُودِ الشَّيْءِ فِي زَمَانٍ مَاضٍ عَلَى سَبِيلِ الْإِبْهَامِ وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمٍ سَابِقٍ وَلَا عَلَى انْقِطَاعٍ طَارِئٍ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96] وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] كَأَنَّهُ قِيلَ: وُجِدْتُمْ وَخُلِقْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ وَقِيلَ: كُنْتُمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ خَيْرَ أُمَّةٍ وَقِيلَ كُنْتُمْ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مَذْكُورِينَ بِأَنَّكُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ مَوْصُوفِينَ بِهِ، أُخْرِجَتْ أُظْهِرَتْ، وَقَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ بَيَّنَ بِهِ كَوْنَهُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ كَمَا يُقَالُ: زَيْدٌ كَرِيمٌ يُطْعِمُ النَّاسَ وَيَكْسُوهُمْ وَيَقُومُ بِمَصَالِحِهِمْ وَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ خَيْرِيَّتِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَامُ التَّعْرِيفِ فِي اسْمِ الْجِنْسِ يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَمَرُوا بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَنَهَوْا عَنْ كُلِّ مُنْكِرٍ فَلَوْ أَجْمَعُوا عَلَى خَطَإٍ قَوْلًا لَكَانُوا أَجْمَعُوا عَلَى مُنْكَرٍ قَوْلًا فَكَانُوا آمِرِينَ بِالْمُنْكَرِ نَاهِينَ عَنْ الْمَعْرُوفِ هُوَ يُنَاقِضُ مَدْلُولَ الْآيَةِ. وَعَلَى مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ خَيْرِيَّتِهِمْ بِكَلِمَةِ التَّفْضِيلِ؛ فَإِنَّ كَلِمَةَ " خَيْرَ " هَاهُنَا بِمَعْنَى التَّفْضِيلِ فَتَدُلُّ عَلَى النِّهَايَةِ فِي الْخَيْرِيَّةِ وَذَلِكَ يُوجِبُ حَقِّيَّةَ مَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَقًّا لَكَانُوا آمِرِينَ بِالْمُنْكَرِ نَاهِينَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَكُونُ خَيِّرًا مُطْلَقًا فَيَلْزَمُ مِنْهُ خِلَافُ النَّصِّ. وَعِبَارَةُ التَّقْوِيمِ أَنَّ كَلِمَةَ " خَيْرَ " بِمَعْنَى أَفْعَلَ فَتَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ الْخَيْرِيَّةِ وَنَفْسُ الْخَيْرِيَّةِ فِي كَيْنُونَةِ الْعَبْدِ مَعَ الْحَقِّ وَالنِّهَايَةُ فِي كَيْنُونَتِهِ مَعَ الْحَقِّ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَدَلَّ لَفْظُ الْخَيْرِ، وَهُوَ بِمَعْنَى أَفْعَلَ عَلَى أَنَّهُمْ يُصِيبُونَ لَا مَحَالَةَ الْحَقَّ الَّذِي هُوَ حَقٌّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى إذَا اجْتَمَعُوا عَلَى شَيْءٍ وَإِنَّ ذَلِكَ الْحَقَّ لَا يَعْدُوهُمْ إذَا اخْتَلَفُوا. فَإِنْ قِيلَ: الْآيَةُ مَتْرُوكَةُ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي اتِّصَافَ كُلِّ وَاحِدٍ بِوَصْفِ الْخَيْرِيَّةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْمَعْلُومُ خِلَافُهُ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ إجْرَاؤُهَا عَلَى الظَّاهِرِ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ الْإِمَامُ الْمَعْصُومُ عِنْدَنَا. قُلْنَا: لَيْسَ الْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ

وَقَالَ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ وَذَلِكَ يُضَادُّ الْجَوْرَ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى النَّاسِ تَقْتَضِي الْإِصَابَةَ وَالْحَقِّيَّةَ إذَا كَانَتْ شَهَادَةً جَامِعَةً لِلدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQكُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ وَصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ بِأَنَّهُ خَيْرُ أُمَّةٍ وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ أُمَّةٌ حَقِيقَةً وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ خَيْرًا مِنْ صَاحِبِهِ، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ فَكَانَ الْمُخَاطَبُ بِهِ مَجْمُوعَ الْأُمَّةِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْمَلِكِ لِعَسْكَرِهِ أَنْتُمْ خَيْرُ عَسْكَرٍ فِي الدُّنْيَا تَفْتَحُونَ الْقِلَاعَ وَتَكْسِرُونَ الْجُيُوشَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمَلِكَ وَصَفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْعَسْكَرِ بِذَلِكَ بَلْ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ وَصَفَ الْمَجْمُوعَ بِهِ بِمَعْنَى أَنَّ فِي الْعَسْكَرِ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ، فَكَذَا هَاهُنَا وَصْفُ مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ بِالْخَيْرِيَّةِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ بِمَعْنَى أَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ أَوْ بِمَعْنَى أَنَّ أَكْثَرَهُمْ مَوْصُوفُونَ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} [البقرة: 55] {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة: 72] وَكَقَوْلِ الرَّجُلِ بَنُو هَاشِمٍ حُلَمَاءُ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ فُقَهَاءُ أَيْ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مَوْصُوفٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ مَوْصُوفٌ بِهَا. 1 - قَوْلُهُ: وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] أَيْ وَمِثْلُ ذَلِكَ الْجَعْلِ الْعَجِيبِ، وَهُوَ جَعْلُ الْكَعْبَةِ قِبْلَةً جَعَلْنَاكُمْ أَيْ صَيَّرْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا أَيْ خِيَارًا وَهِيَ صِفَةٌ بِالِاسْمِ الَّذِي هُوَ وَسَطُ الشَّيْءِ وَلِذَلِكَ اسْتَوَى فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَقِيلَ لِلْخِيَارِ وَسَطٌ؛ لِأَنَّ الْأَطْرَافَ يَتَسَارَعُ إلَيْهَا الْخَلَلُ وَالْأَوْسَاطُ مَحْمِيَّةٌ. وَقِيلَ عُدُولًا لِأَنَّ الْوَسَطَ عَدْلٌ بَيْنَ الْأَطْرَافِ لَيْسَتْ إلَى بَعْضِهَا أَقْرَبَ مِنْ بَعْضٍ، وَالتَّمَسُّكُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِكَوْنِهِمْ وَسَطًا وَالْوَسَطُ هُوَ الْعَدْلُ الَّذِي يُرْتَضَى بِقَوْلِهِ قَالَ تَعَالَى {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28] أَيْ أَعْدَلُهُمْ وَأَرْضَاهُمْ قَوْلًا، وَقَالَ الشَّاعِرُ: هُمْ وَسَطٌ يَرْضَى الْأَنَامُ بِحُكْمِهِمْ ... إذَا نَزَلَتْ إحْدَى اللَّيَالِي بِمُعْظَمِ فَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ الْأُمَّةِ مَوْصُوفًا بِالْعَدَالَةِ إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مَوْصُوفًا بِهَا؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ خِلَافُهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ حَقًّا؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَقًّا كَانَ بَاطِلًا وَكَذِبًا وَالْكَاذِبُ الْمُبْطِلُ يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ فَلَا يَكُونُ عَدْلًا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَذَلِكَ أَيْ كَوْنُهُمْ وَسَطًا يُضَادُّ الْجَوْرَ أَيْ الْمَيْلَ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: الْوَسَطُ فِي اللُّغَةِ مَنْ يُرْتَضَى بِقَوْلِهِ وَمُطْلَقُ الِارْتِضَاءِ فِي إصَابَةِ الْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ فِي الْأَصْلِ مَرْدُودٌ وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ إلَّا أَنَّ الْمُخْطِئَ رُبَّمَا يُعْذَرُ بِسَبَبِ عَجْزِهِ وَيُؤْجَرُ عَلَى قَدْرِ طَلَبِهِ لِلْحَقِّ بِطَرِيقِهِ لَا أَنْ يَكُونَ الْخَطَأُ مَرْضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَإِنْ قِيلَ: وَصْفُهُمْ بِذَلِكَ لَا يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ عُدُولًا فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ فِي جَانِبِ الثُّبُوتِ يَتَحَقَّقُ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ؛ فَإِنَّ قَوْلَنَا زَيْدٌ عَالِمٌ يَقْتَضِي كَوْنَهُ عَالِمًا بِشَيْءٍ وَلَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ عَالِمًا بِكُلِّ الْأَشْيَاءِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ عُدُولًا فِي كُلِّ شَيْءٍ فَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ مُحِقِّينَ فِي الْإِجْمَاعِ؛ فَإِنَّ الْخَطَأَ إنْ كَانَ مَعْصِيَةً فَهُوَ مِنْ الصَّغَائِرِ لَا مِنْ الْكَبَائِرِ فَلَا يَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ. قُلْنَا: إنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِالظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِعَدَالَةِ أَحَدٍ إلَّا وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ يَكُونُ عَدْلًا حَقِيقَةً كَالْمُزَكِّي إذَا أَخْبَرَ بِعَدَالَةِ شَاهِدٍ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَدْلًا ظَاهِرًا وَهَاهُنَا قَدْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِعَدَالَتِهِمْ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونُوا عُدُولًا فِي كُلِّ شَيْءٍ وَأَنْ لَا يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ الْخَطَأُ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْكَذِبِ، وَهُوَ يُنَافِي الْعَدَالَةَ الْمُطْلَقَةَ الْحَقِيقَةِ. بِخِلَافِ شُهُودِ الْحَاكِمِ حَيْثُ تَثْبُتُ عَدَالَتُهُمْ وَتَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ مَعَ جَوَازِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQالصَّغِيرَةِ عَلَيْهِمْ وَاحْتِمَالِ الْكَذِبِ وَالْخَطَأِ فِي شَهَادَتِهِمْ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى مَعْرِفَةِ الْبَاطِنِ فَلَا جَرَمَ اكْتَفَى بِالظَّاهِرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ شُهَدَاءَ، وَالشَّاهِدُ اسْمٌ لِمَنْ يُخْبِرُ بِالصِّدْقِ حَقِيقَةً وَيَكُونُ قَوْلُهُ حُجَّةً وَالْكَاذِبُ لَا يُسَمَّى شَاهِدًا عَلَى الْحَقِيقَةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ صَدَقَةٌ فِيمَا أَخْبَرُوا وَإِنَّ قَوْلَهُمْ حُجَّةٌ؛ فَإِنَّ الْحَكِيمَ لَا يَحْكُمُ بِخَيْرِيَّةِ قَوْمٍ لِيَشْهَدُوا، وَهُوَ عَالِمٌ بِأَنَّ كُلَّهُمْ يُقْدِمُونَ عَلَى الْكَذِبِ فِيمَا يَشْهَدُونَ فَدَلَّ أَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يُقْدِمُونَ إلَّا عَلَى الْحَقِّ حَيْثُ وَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ شَهَادَتُهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْأُمَمِ بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ بَلَّغَتْ إلَيْهِمْ الرِّسَالَةَ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْخَبَرُ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونُوا صَدَقَةً فِي شَهَادَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ لَا فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَأَنْ يَكُونُوا عُدُولًا فِي الْآخِرَةِ لَا فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ عَدَالَةَ الشُّهُودِ إنَّمَا تُعْتَبَرُ حَالَ الْأَدَاءِ لَا حَالَ التَّحَمُّلِ. قُلْنَا: لَا تَفْصِيلَ فِي الْآيَةِ فَتَتَنَاوَلُ شَهَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكَذَا لَمْ يُذْكَرْ الْمَشْهُودُ بِهِ، وَتَرْكُ ذِكْرِ الْمَفْعُولِ بِهِ يُوجِبُ التَّعْمِيمَ كَمَا فِي قَوْلِك: فُلَانٌ يُعْطِي وَيَمْنَعُ؛ فَيَكُونُ الْآيَةُ مُتَنَاوِلَةً شَهَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنْ شَهَادَتِهِمْ حُكْمُهُمْ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ عَلَى النَّاسِ بِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَجِبُ أَنْ يَكُونُوا صَادِقِينَ فِيهِ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ صَيْرُورَتَهُمْ عُدُولًا فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالُوا لَقَالَ سَنَجْعَلُكُمْ أُمَّةً وَسَطًا كَيْفَ وَجَمِيعُ الْأُمَمِ عُدُولٌ فِي الْآخِرَةِ لَا يَبْقَى فِي الْآيَةِ تَخْصِيصٌ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ وَإِلَى مَا ذَكَرْنَا أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ إذَا كَانَتْ شَهَادَةً جَامِعَةً لِلدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ يَعْنِي إذَا كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ مُعْتَبَرَةً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ صَوَابًا وَحَقًّا لَا مَحَالَةَ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ تَعَالَى كَمَا جَعَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ شُهَدَاءَ جَعَلَ أَهْلَ الْكِتَابِ كَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ قُلْ {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} [آل عمران: 99] ، ثُمَّ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعُهُمْ حُجَّةً، فَكَذَا إجْمَاعُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. قُلْنَا: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ حُجَّةً حِينَ كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِالْكِتَابِ شُهَدَاءَ بِهِ وَلَمْ يَبْقَ الْيَوْمَ حُجَّةً لِكُفْرِهِمْ، عَلَى أَنَّ تَأْوِيلَ الْآيَةِ وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ بِمَا فِيهِ مِنْ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَلِمَ لَا تَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ. فَإِنْ قِيلَ: إنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ جَمِيعَ مَنْ صَدَّقَ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ إحَاطَةُ عِلْمِنَا بِإِجْمَاعِ كُلِّ مَنْ صَدَّقَ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مَنْ وُجِدَ فِي زَمَانِ نُزُولِ الْآيَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ إجْمَاعٌ حُجَّةً حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّ جَمِيعَ مَنْ كَانَ حَاضِرًا وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ قَدْ قَالَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ. قُلْنَا: لِمَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعَدَالَةِ وَالشَّهَادَةِ فَقَدْ أَوْجَبَ عَلَيْنَا قَبُولَ قَوْلِهِمْ فِي ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَسِّمَ تَقْسِيمًا يُؤَدِّي إلَى سَدِّ بَابِ الْوُصُولِ إلَى شَهَادَتِهِمْ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ أَهْلَ كُلِّ عَصْرٍ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ وَاعْتَمَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ وَصَاحِبُ الْمِيزَانِ فِي إثْبَاتِ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً عَلَى قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْكَوْنِ مَعَ الصَّادِقِينَ. وَالْمُرَادُ مِنْ الصَّادِقِ هُوَ الصَّادِقُ فِي كُلِّ الْأُمُورِ، إذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الصَّادِقُ فِي الْبَعْضِ لَزِمَ مِنْهُ الْأَمْرُ بِمُوَافَقَةِ كِلَا الْخَصْمَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَادِقٌ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، ثُمَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَمْرًا بِالْمُتَابَعَةِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَبَيِّنٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ الْإِجْمَالُ وَالتَّعْطِيلُ، ثُمَّ يَقُولُ ذَلِكَ الصَّادِقُ فِي

وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ» وَعُمُومُ النَّصِّ يَنْفِيَ جَمِيعَ وُجُوهِ الضَّلَالَةِ فِي الْإِيمَانِ وَالشَّرَائِعِ جَمِيعًا «، وَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْرٍ لِيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إنَّهُ رَجُلٌ رَقِيقٌ، فَمُرْ عُمَرَ لِيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَبَى اللَّهُ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ» ، وَسُئِلَ عَنْ الْخَمِيرَةِ يَتَعَاطَاهَا الْجِيرَانُ، فَقَالَ: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» . ـــــــــــــــــــــــــــــQكُلِّ الْأُمُورِ الَّذِي يَجِبُ مُتَابَعَتُهُ فِي كُلِّ الْأُمُورِ إمَّا مَجْمُوعُ الْأُمَّةِ أَوْ بَعْضُهُمْ وَالثَّانِي بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِالْكَوْنِ مَعَهُمْ يَسْتَلْزِمُ الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ وَلَا تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ إلَّا بِمَعْرِفَةِ أَعْيَانِهِمْ. وَقَدْ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّا لَا نَعْرِفُ وَاحِدًا نَقْطَعُ فِيهِ بِأَنَّهُ مِنْ الصَّادِقِينَ الَّذِينَ أُمِرْنَا بِالْكَوْنِ مَعَهُمْ فَثَبَتَ أَنَّهُمْ مَجْمُوعُ الْأُمَّةِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ. قَوْلُهُ (وَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ» ) هَذَا مِنْ الْحُجَجِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالسُّنَّةِ فِي إثْبَاتِ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً وَهِيَ أَدَلُّ عَلَى الْغَرَضِ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَإِنْ كَانَتْ دُونَهَا مِنْ جِهَةِ التَّوَاتُرِ وَتَقْرِيرُ هَذَا الدَّلِيلِ أَنَّ الرِّوَايَاتِ تَظَاهَرَتْ عَنْ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعِصْمَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَنْ الْخَطَأِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ عَلَى لِسَانِ الثِّقَاتِ مِنْ الصَّحَابَةِ كَعُمَرَ وَابْنِهِ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَحُذَيْفَةَ بْنُ الْيَمَانِ وَغَيْرِهِمْ مَعَ اتِّفَاقِ الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الْخَطَأِ» «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ أَوْ عَلَى ضَلَالَةٍ» سَأَلْت رَبِّي أَنْ لَا تَجْتَمِعَ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ فَأَعْطَانِيهِ وَرُوِيَ عَلَى خَطَإٍ يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَجْمَعَ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ، وَرُوِيَ وَلَا عَلَى خَطَأٍ «عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ» «يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَلَا يُبَالِي بِشُذُوذِ مَنْ شَذَّ» «مَنْ خَرَجَ مِنْ الْجَمَاعَةِ قَيْدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ عَنْ عُنُقِهِ» «مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَخْرُجَ الدَّجَّالُ» «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ» «ثَلَاثٌ لَا يُغَلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ إخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَالنُّصْحُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلُزُومُ الْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَائِهِمْ» «مَنْ سَرَّهُ بُحْبُوحَةُ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ» «لَنْ يَزَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ نَاوَأَهُمْ أَيْ عَادَاهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَرُوِيَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي كَذَا وَكَذَا فِرْقَةٍ كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا فِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ قِيلَ: وَمَنْ تِلْكَ الْفِرْقَةُ؟ قَالَ: هِيَ الْجَمَاعَةُ إلَى غَيْرِهَا مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي لَا تُحْصَى كَثْرَةً وَلَمْ تَزَلْ كَانَتْ ظَاهِرَةً مَشْهُورَةً بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إلَى زَمَانِنَا هَذَا لَمْ يَدْفَعْهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَخَلَفِهَا مِنْ مُوَافِقِي الْأُمَّةِ وَمُخَالِفِيهَا وَلَمْ تَزَلْ الْأُمَّةُ تَحْتَجُّ بِهَا فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ. ثُمَّ الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الدَّلِيلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حُصُولُ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ سَمِعَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِأَنَّ قَصْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَإِنْ لَمْ يَتَوَاتَرْ آحَادُهَا تَعْظِيمُ شَأْنِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَالْإِخْبَارُ بِعِصْمَتِهَا عَنْ الْخَطَإِ كَمَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ شَجَاعَةُ عَلِيٍّ وُجُودُ حَاتِمٍ وَخَطَابَةُ حَجَّاجٍ مِنْ آحَادِ وَقَائِعَ نُقِلَتْ عَنْهُمْ وَثَانِيهِمَا حُصُولُ الْعِلْمِ الِاسْتِدْلَالِيِّ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ لَمْ تَزَلْ ظَاهِرَةً مَشْهُورَةً بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مُتَمَسَّكًا بِهَا فِي إثْبَاتِ الْإِجْمَاعِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِيهَا وَلَا نَكِيرٍ إلَى زَمَانِ الْمُخَالِفِ وَالْعَادَةُ قَاضِيَةٌ بِإِحَالَةِ اتِّفَاقِ مِثْلِ هَذَا الْخَلْقِ الْكَثِيرِ وَالْجَمِّ الْغَفِيرِ مَعَ تَكَرُّرِ الْأَزْمَانِ وَاخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ وَهِمَمِهِمْ وَدَوَاعِيهِمْ مَعَ كَوْنِهَا مَجْبُولَةً عَلَى الْخِلَافِ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِمَا لَا أَصْلَ لَهُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي إثْبَاتِ أَصْلٍ مِنْ الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ الْإِجْمَاعُ الْمَحْكُومُ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنَبِّهَ أَحَدٌ عَلَى فَسَادِهِ وَإِبْطَالِهِ وَإِظْهَارِ النَّكِيرِ فِيهِ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ رُبَّمَا خَالَفَ وَاحِدٌ وَلَمْ يُنْقَلْ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مِمَّا تُحِيلُهُ الْعَادَةُ إذْ الْإِجْمَاعُ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الدِّينِ فَلَوْ خَالَفَ فِيهِ مُخَالِفٌ اُشْتُهِرَ إذْ لَمْ يَنْدَرِسْ خِلَافُ الصَّحَابَةِ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ وَحَدِّ الشُّرْبِ وَغَيْرِهِمَا فَكَيْفَ انْدَرَسَ فِي أَصْلٍ عَظِيمٍ يَلْزَمُ مِنْهُ التَّضْلِيلُ وَالتَّبْدِيعُ لِمَنْ أَخْطَأَ فِي نَفْيِهِ أَوْ إثْبَاتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ اشْتَهَرَ خِلَافُ النَّظَّامِ مَعَ سُقُوطِ قَدْرِهِ فَكَيْفَ اخْتَفَى خِلَافُ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ؟ ، وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا إثْبَاتُ الْإِجْمَاعِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّكُمْ اسْتَدْلَلْتُمْ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى صِحَّةِ الْخَبَرِ وَبِالْخَبَرِ عَلَى صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ وَأُجِيبَ بِأَنَّا اسْتَدْلَلْنَا عَلَى الْإِجْمَاعِ بِالْخَبَرِ وَعَلَى صِحَّةِ الْخَبَرِ بِخُلُوِّ الْأَعْصَارِ عَنْ الْمُدَافَعَةِ وَالْمُخَالَفَةِ مَعَ أَنَّ الْعَادَةَ تَقْتَضِي إنْكَارَ إثْبَاتِ أَصْلٍ قَاطِعٍ بِحُكْمٍ عَلَى الْقَوَاطِعِ بِخَبَرٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ فَعَلِمْنَا بِالْعَادَةِ كَوْنَ الْخَبَرِ مَقْطُوعًا بِهِ لَا بِالْإِجْمَاعِ وَالْعَادَةُ أَصْلٌ يُسْتَفَادُ مِنْهَا مَعَارِفُ بِهَا يُعْرَفُ بُطْلَانُ دَعْوَى مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ وَبُطْلَانُ دَعْوَى نَصِّ الْإِمَامَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالثَّالِثُ: لَعَلَّهُمْ أَثْبَتُوا الْإِجْمَاعَ بِغَيْرِهَا وَأُجِيبَ بِأَنَّ تَمَسُّكَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِهَا فِي مَعْرِضِ التَّهْدِيدِ لِمُخَالِفِ الْجَمَاعَةِ دَلِيلٌ أَنَّ الْإِثْبَاتَ إنَّمَا كَانَ بِهَا. الرَّابِعُ: لَوْ كَانَتْ مَعْلُومَةَ الصِّحَّةِ لَعَرَّفَتْ الصَّحَابَةُ التَّابِعِينَ طُرُقَ صِحَّتِهَا دَفْعًا لِلشَّكِّ وَالِارْتِيَابِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ عَدَمَ التَّعْرِيفِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِكَوْنِ تِلْكَ الطُّرُقِ قَرَائِنَ أَحْوَالٍ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْحِكَايَةِ دَلَّتْ ضَرُورَةً عَلَى قَصْدِهِ إلَى بَيَانِ نَفْيِ الْخَطَأِ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَتِلْكَ الْقَرَائِنُ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْحِكَايَةِ وَلَوْ حَكَوْهَا لَتَطَرَّقَ إلَى آحَادِهَا احْتِمَالَاتٌ فَاكْتَفَوْا بِعِلْمِ التَّابِعِينَ بِأَنَّ الْخَبَرَ الْمَشْكُوكَ فِيهِ لَا يَثْبُتُ بِهِ أَصْلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ. الْخَامِسُ: حَمْلُهُمْ الضَّلَالَ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ عَلَى الْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ» وَقَوْلُهُ عَلَى الْخَطَإِ لَمْ يَتَوَاتَرْ وَإِنْ صَحَّ فَالْخَطَأُ عَامٌّ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْكُفْرِ وَدُفِعَ بِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يُنْبِئُ عَنْهُ وَيُؤَكِّدُهُ قَوْله تَعَالَى {وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى} [الضحى: 7] ، وَقَدْ فُهِمَ عَلَى الضَّرُورَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ تَعْظِيمُ شَأْنِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَتَخْصِيصُهَا بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ أَمَّا الْعِصْمَةُ عَنْ الْكُفْرِ فَقَدْ أَنْعَمَ بِهَا فِي حَقِّ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ وَزَيْدٍ عَلَى مَذْهَبِ النَّظَّامِ؛ لِأَنَّهُمْ مَاتُوا عَلَى الْحَقِّ وَكَمْ مِنْ آحَادٍ عُصِمُوا عَنْ الْكُفْرِ حَتَّى مَاتُوا فَأَيُّ خَاصَّةٍ لِلْأُمَّةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَا لَا تُعْصَمُ عَنْهُ الْآحَادُ مِنْ سَهْوٍ وَخَطَأٍ وَكَذِبٍ وَيُعْصَمُ عَنْهُ الْأُمَّةُ تَنْزِيلًا لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ مَنْزِلَةَ النَّبِيِّ فِي الْعِصْمَةِ عَنْ الْخَطَإِ فِي الدِّينِ وَأَشَارَ الشَّيْخُ إلَى جَوَابِ هَذَا السُّؤَالِ بِقَوْلِهِ عُمُومُ النَّصِّ، وَهُوَ نَفْيُ الضَّلَالَةِ مُحَلَّاةً فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ إنْ كَانَتْ الرِّوَايَةُ بِاللَّامِ، وَكَوْنُهَا نَكِرَةً فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ إنْ كَانَتْ الرِّوَايَةُ بِغَيْرِ لَامٍ يَنْفِي جَمِيعَ وُجُوهِ الضَّلَالَةِ فِي الْإِيمَانِ وَالشَّرَائِعِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الضَّلَالَةَ ضِدُّ الْهُدَى وَالْهُدَى اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالشَّرَائِعِ وَالْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الْعَامِّ إجْرَاؤُهُ عَلَى عُمُومِهِ فَلَا يَجُوزُ الْحَمْلُ عَلَى الْكُفْرِ خَاصَّةً مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. السَّادِسُ: حَمْلُهُمْ الْخَطَأَ عَلَى بَعْضِ أَنْوَاعِهِ مِنْ الشَّهَادَةِ فِي الْآخِرَةِ أَوْ مِمَّا يُوَافِقُ النَّصَّ الْمُتَوَاتِرَ أَوْ دَلِيلَ الْعَقْلِ دُونَ مَا يَكُونُ بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأُمَّةِ لَمْ يَذْهَبْ إلَى هَذَا التَّفْصِيلِ؛ لِأَنَّ مَا دَلَّ

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ رَسُولَنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَشَرِيعَتَهُ بَاقِيَةٌ إلَى آخِرِ الدَّهْرِ وَأُمَّتُهُ ثَابِتَةٌ عَلَى الْحَقِّ إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ. قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، وَقَالَ حَتَّى تُقَاتِلَ آخِرُ عِصَابَةٍ مِنْ أُمَّتِي الدَّجَّالَ» ـــــــــــــــــــــــــــــQالدَّلِيلُ عَلَى تَجْوِيزِ الْخَطَأِ عَلَيْهِمْ فِي شَيْءٍ دَلَّ عَلَى تَجْوِيزِهِ فِي شَيْءٍ آخَرَ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَارِقٌ لَمْ يَثْبُتْ تَخْصِيصٌ بِالتَّحَكُّمِ، ثُمَّ هَذِهِ الْأَخْبَارُ إنَّمَا وَرَدَتْ لِإِيجَابِ مُتَابَعَةِ الْأُمَّةِ وَالْحَثِّ عَلَيْهَا وَالزَّجْرِ عَنْ الْمُخَالَفَةِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْخَطَأُ مَحْمُولًا عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِهِ بَلْ عَلَى بَعْضٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ لَامْتَنَعَ إيجَابُ الْمُتَابَعَةِ فِيهِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَعْلُومٍ وَلَبَطَلَتْ فَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْأُمَّةِ بِمَا ظَهَرَ مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَصْدُ تَعْظِيمِهَا لِمُشَارَكَةِ آحَادِ النَّاسِ إيَّاهُمْ فِي الْعِصْمَةِ عَنْ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْخَطَأِ إذْ مَا مِنْ شَخْصٍ يُخْطِئُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بَلْ كُلُّ إنْسَانٍ يُعْصَمُ عَنْ الْخَطَإِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ، وَبِهَذَا خَرَجَ الْجَوَابُ أَيْضًا عَنْ قَوْلِهِمْ الْأُمَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ لَيْسَ كُلَّ الْأُمَّةِ فَلَا يَمْتَنِعُ الْخَطَأُ وَالضَّلَالُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَمَّا كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ، هُوَ الزَّجْرُ عَنْ مُخَالَفَةِ الْجَمَاعَةِ وَالْحَثُّ عَلَى مُتَابَعَتِهِمْ لَا يُتَصَوَّرُ حَمْلُ الْأُمَّةِ عَلَى كُلِّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إذْ لَا زَجْرَ وَلَا حَثَّ فِيهَا. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَكَذَا) وَتَقْرِيرُهُ مَا ذُكِرَ فِي الْمِيزَانِ أَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الْقَطْعِيِّ أَنَّ نَبِيَّنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ وَشَرِيعَتَهُ دَائِمَةٌ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ فَمَتَى وَقَعَتْ حَوَادِثُ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ قَاطِعٌ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى حُكْمِهَا وَلَمْ يَكُنْ إجْمَاعُهُمْ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ وَخَرَجَ الْحَقُّ عَنْهُمْ وَوَقَعُوا فِي الْخَطَأِ أَوْ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهَا وَخَرَجَ الْحَقُّ عَنْ أَقْوَالِهِمْ؛ فَقَدْ انْقَطَعَتْ شَرِيعَتُهُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ فَلَا تَكُونُ شَرِيعَتُهُ كُلُّهَا دَائِمَةً فَيُؤَدِّي إلَى الْخُلْفِ فِي أَخْبَارِ الشَّارِعِ وَذَلِكَ مُحَالٌ يُوجِبُ الْقَوْلَ بِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً قَطْعِيَّةً لِتَدُومَ الشَّرِيعَةُ بِوُجُودِهِ حَتَّى لَا يُؤَدِّيَ إلَى الْمُحَالِ وَلَا يُقَالَ: إنَّ الْإِجْمَاعَ يَكُونُ فِي حَقِّ الْعَمَلِ كَالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى انْقِطَاعِ الشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّمَا يُعْمَلُ بِالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى اعْتِبَارِ إصَابَةِ الْحَقِّ ظَاهِرًا وَعَلَى الْجُمْلَةِ لَا يَخْرُجُ الْحَقُّ عَنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَمَتَى جَوَّزْتُمْ خُرُوجَ الْحَقِّ عَنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَفِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ لَمْ يَجِبْ الْعَمَلُ بِمَا هُوَ بَاطِلٌ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا أَتَوْا بِهِ لَمْ يَكُنْ شَرِيعَةَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَلْ يَكُونُ عَمَلًا بِخِلَافِ شَرِيعَتِهِ فَتَنْقَطِعُ شَرِيعَتُهُ فِي حَقِّ ذَلِكَ الْحُكْمِ أَبَدًا. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ انْقِطَاعُ الشَّرِيعَةِ لِأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي أَجْمَعُوا عَلَيْهِ إنْ كَانَ ثَابِتًا فِي الشَّرْعِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ بِنَصٍّ مِثْلُ وُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَبْقَى بِبَقَاءِ ذَلِكَ النَّصِّ وَلَا أَثَرَ لِلْإِجْمَاعِ فِي إثْبَاتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا لَمْ يَكُنْ النَّصُّ الْمُوجِبُ لِبَقَاءِ الشَّرِيعَةِ مُتَنَاوِلًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْأَحْكَامَ الْمَوْجُودَةَ فِي الشَّرِيعَةِ وَقْتَ وُرُودِهِ لَا مَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ انْقِطَاعِهِ انْقِطَاعُهَا. عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ دَخَلَ تَحْتَ هَذَا النَّصِّ لَا يَلْزَمُ مِنْ انْقِطَاعِهِ انْقِطَاعُ أَصْلِ الشَّرِيعَةِ لِبَقَاءِ أُمَّهَاتِ الْأَحْكَامِ كَمَا لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ عَدَمُ الشَّرِيعَةِ. قُلْنَا: جَمِيعُ الْأَحْكَامِ ثَابِتَةٌ مَشْرُوعَةٌ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ حَقِيقَةً بَعْضُهَا بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ وَبَعْضُهَا بِمَعَانِيهَا الْخَفِيَّةِ إلَّا أَنَّ الْبَعْضَ كَانَ خَفِيًّا يَظْهَرُ بِالِاجْتِهَادِ لَا أَنَّهُ يَثْبُتُ بِالِاجْتِهَادِ؛ فَإِنَّ الْقِيَاسَ مُظْهِرٌ لِلْحُكْمِ لَا مُثْبِتٌ لَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْجَمِيعُ دَاخِلًا تَحْتَ النَّصِّ الْمُوجِبِ بَقَاءَ الشَّرِيعَةِ فَيَلْزَمُ مِنْ انْقِطَاعِ الْبَعْضِ خِلَافُ النَّصِّ، وَقَوْلُهُمْ: لَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ الْبَعْضِ انْتِفَاءُ أَصْلِ الشَّرِيعَةِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ اسْمٌ لِجَمِيعِ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

[إنكار الإجماع]

وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالْأُمَّةِ مَنْ لَا يَتَمَسَّكُ بِالْهَوَى وَالْبِدْعَةِ وَلَوْ جَازَ الْخَطَأُ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ، وَقَدْ انْقَطَعَ الْوَحْيُ بَطَلَ وَعْدُ الثَّبَاتِ عَلَى الْحَقِّ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِأَنَّ إجْمَاعَهُمْ صَوَابٌ بِيَقِينٍ كَرَامَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى صِيَانَةً لِهَذَا الدِّينِ وَهَذَا حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِإِجْمَاعِهِمْ صِيَانَةً لِلدِّينِ وَذَلِكَ جَائِزٌ، مِثْلُ الْقَاضِي يَقْضِي فِي الْمُجْتَهَدِ بِرَأْيِهِ فَيَصِيرُ لَازِمًا لَا يَرِدُ عَلَيْهِ نَقْضٌ وَذَلِكَ فَوْقَ دَلِيلِ الِاجْتِهَادِ صِيَانَةً لِلْقَضَاءِ الَّذِي هِيَ مِنْ أَسْبَابِ الدِّينِ وَلَا يُنْكَرُ فِي الْمَحْسُوسِ وَالْمَشْرُوعِ أَنْ يَحْدُثَ بِاجْتِمَاعِ الْأَفْرَادِ مَا لَا يَقُومُ بِهِ الْأَفْرَادُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَصَارَ الْإِجْمَاعُ كَآيَةٍ مِنْ الْكِتَابِ أَوْ حَدِيثٍ مُتَوَاتِرٍ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ وَالْعِلْمِ بِهِ. فَيَكْفُرُ جَاحِدُهُ فِي الْأَصْلِ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ ثُمَّ هَذَا عَلَى مَرَاتِبَ فَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ مِثْلُ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ وَإِجْمَاعُ مَنْ بَعْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَشْهُورِ مِنْ الْحَدِيثِ، وَإِذَا صَارَ الْإِجْمَاعُ مُجْتَهَدًا فِي السَّلَفِ كَانَ كَالصَّحِيحِ مِنْ الْآحَادِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْكُلُّ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ بَعْضِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرَائِعَ الْمَاضِيَةَ نُسِخَتْ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ بِالِاتِّفَاقِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا نَسْخُ بَعْضِ أَحْكَامِهَا فَكَانَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى انْقِطَاعِ بَعْضِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ بَاطِلًا فَكَانَ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً قَاطِعَةً ضَرُورَةً. قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالْأُمَّةِ مَنْ لَمْ يَتَمَسَّكْ بِالْهَوَى وَالْبِدْعَةِ) احْتِرَازٌ عَمَّا يُقَالُ لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ الطَّائِفَةِ الْمُحِقَّةِ مُنْكِرُو الْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ الْأُمَّةِ فَقَالَ: الْمُرَادُ مِنْ الْأُمَّةِ مَنْ لَمْ يَتَمَسَّكْ بِالْهَوَى وَالْبِدْعَةِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْأُمَّةِ يَتَنَاوَلُ أُمَّةَ الْمُتَابَعَةِ دُونَ أُمَّةِ الْبِدْعَةِ وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ الَّذِينَ مُنْكِرُو الْإِجْمَاعِ مِنْهُمْ مِنْ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ كَالْكُفَّارِ دُونَ أُمَّةِ الْمُتَابَعَةِ وَهَذَا حُكْمٌ أَيْ إصَابَةُ الْحَقِّ بِيَقِينٍ حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِإِجْمَاعِهِمْ فَيَجُوزُ أَنْ لَا يَثْبُتَ حَالَةَ الِانْفِرَادِ وَذَلِكَ جَائِزٌ أَيْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْيَقِينِ فَإِذَا انْضَمَّ إلَيْهِ مَعْنًى آخَرُ يَصِيرُ مُوجِبًا لَهُ مِثْلُ الْحُكْمِ الْمُجْتَهَدِ فِيهِ فَيَكُونُ غَيْرَ لَازِمٍ، فَإِذَا انْضَمَّ إلَيْهِ قَضَاءُ الْقَاضِي يَصِيرُ لَازِمًا بِحَيْثُ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ نَقْضٌ، وَذَلِكَ أَيْ قَضَاءُ الْقَاضِي إنَّمَا جُعِلَ فَوْقَ دَلِيلِ الِاجْتِهَادِ لِأَجْلِ صِيَانَةِ الْقَضَاءِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَسْبَابِ الدِّينِ عَنْ الْبُطْلَانِ فَلَأَنْ يَثْبُتَ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً لِأَجَلِ صِيَانَةِ أَصْلِ الدِّينِ كَانَ أَوْلَى، وَهَذَا بِخِلَافِ الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ فَإِنَّ نَسْخَهَا لَمَّا كَانَ جَائِزًا لَمْ يَقَعْ الْحَاجَةُ فِيهَا إلَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ عَنْ الْخَطَأِ فَأَمَّا شَرِيعَتُنَا هَذِهِ فَلَا يَجُوزُ عَلَيْهَا النَّسْخُ بَلْ هِيَ شَرِيعَةٌ مُؤَبَّدَةٌ فَعُصِمَتْ أُمَّتُهَا مِنْ الْخَطَأِ لِيَبْقَى الشَّرْعُ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مَحْفُوظًا، ثُمَّ أَجَابَ عَنْ كَلَامِهِمْ فَقَالَ وَلَا يُنْكَرُ فِي الْمَحْسُوسِ وَالْمَشْرُوعِ أَنْ يَحْدُثَ بِاجْتِمَاعِ الْأَفْرَادِ مَا لَا يَقُومُ بِهِ الْأَفْرَادُ؛ فَإِنَّ الْأَفْرَادَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى حَمْلِ خَشَبَةٍ ثَقِيلَةٍ، وَإِذَا اجْتَمَعُوا قَدَرُوا عَلَيْهِ. وَاللُّقْمَةُ الْوَاحِدَةُ لَا تَكُونُ مُشْبِعَةً، وَإِذَا اجْتَمَعَتْ اللُّقُمَاتُ تَصِيرُ مُشْبِعَةً وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ وَعِنْدَ اجْتِمَاعِ الْمُخْبِرِينَ عَلَى نَقْلِهِ يَصِيرُ مُوجِبًا لَهُ، وَالْكَلِمَةُ الْوَاحِدَةُ بَلْ الْآيَةُ الْوَاحِدَةُ مِنْ الْقُرْآنِ لَا تَكُونُ مُعْجِزَةً وَإِذْ اجْتَمَعَتْ الْآيَاتُ صَارَتْ مُعْجِزَةً. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ فِي جَوَابِهِمْ: الْمُسْتَحِيلُ أَنْ يُقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُخْطِئًا فِي الْقَوْلِ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَجَمَاعَتُهُمْ غَيْرُ مُخْطِئِينَ فِيهِ وَنَحْنُ لَا نَقُولُ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا نَقُولُ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ خَطَأً إذَا انْفَرَدَ، وَإِذَا اجْتَمَعَ مَعَ كَافَّةِ الْأُمَّةِ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ خَطَأً وَلَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ أَنْ يُفَارِقَ الْوَاحِدُ الْجَمَاعَةَ وَنَظِيرُ مَا ذَكَرْنَا أَنْ يُقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَسْوَدَ فِي الْمَوْضِعِ الْفُلَانِيِّ فَإِذَا اجْتَمَعُوا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَمْ يَكُونُوا سُودًا بَلْ بِيضًا، وَقَدْ مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَى الْجَوَابِ عَنْ بَقِيَّةِ كَلَامِهِمْ فِي أَوَّلِ بَابِ الْإِجْمَاعِ. [إنْكَار الْإِجْمَاع] قَوْلُهُ (فَيَكْفُرُ جَاحِدُهُ فِي الْأَصْلِ) أَيْ يُحْكَمُ بِكُفْرِ مَنْ أَنْكَرَ أَصْلَ الْإِجْمَاعِ بِأَنْ قَالَ: لَيْسَ الْإِجْمَاعُ بِحُجَّةٍ أَمَّا مَنْ أَنْكَرَ تَحَقُّقَ الْإِجْمَاعِ فِي حُكْمٍ بِأَنْ قَالَ: لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ إجْمَاعٌ وَأَنْكَرَ الْإِجْمَاعَ الَّذِي اُخْتُلِفَ فِيهِ فَلَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ بَعْدَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ إنْكَارَ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ الظَّنِّيِّ كَالْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ وَالْمَنْقُولِ بِلِسَانِ الْآحَادِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْكُفْرِ اخْتَلَفُوا فِي إنْكَارِ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ كَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ مَثَلًا فَبَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ لَمْ يَجْعَلْهُ مُوجِبًا لِلْكُفْرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ عِنْدَهُ حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ فَإِنْكَارُ حُكْمِهِ لَا يُوجِبُ الْكُفْرَ كَإِنْكَارِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَوْ الْقِيَاسِ. وَذَكَرَ هَذَا الْقَائِلُ فِي تَصْنِيفٍ لَهُ وَالْعَجَبُ أَنَّ الْفُقَهَاءَ أَثْبَتُوا الْإِجْمَاعَ بِعُمُومَاتِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُنْكِرَ لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْعُمُومَاتُ لَا يَكْفُرُ إذَا كَانَ الْإِنْكَارُ لِتَأْوِيلٍ، ثُمَّ يَقُولُونَ الْحُكْمُ

وَالنَّسْخُ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ بِمِثْلِهِ حَتَّى إذَا ثَبَتَ حُكْمٌ بِإِجْمَاعِ عَصْرِهِ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ أُولَئِكَ عَلَى خِلَافِهِ فَيَنْفَسِخُ بِهِ الْأَوَّلُ وَيَجُوزُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ التَّمَكُّنُ مِنْ الْعَمَلِ عِنْدَنَا عَلَى مَا مَرَّ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي عَصْرَيْنِ أَوْ عَصْرٍ وَاحِدٍ أَعْنِي بِهِ فِي جَوَازِ النَّسْخِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ مَقْطُوعٌ بِهِ وَمُخَالِفُهُ كَافِرٌ فَكَأَنَّهُمْ قَدْ جَعَلُوا الْفَرْعَ أَقْوَى مِنْ الْأَصْلِ وَذَلِكَ غَفْلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَبَعْضُهُمْ جَعَلُوهُ مُوجِبًا لِلْكُفْرِ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ كَآيَةٍ مِنْ الْكِتَابِ قَطْعِيَّةِ الدَّلَالَةِ أَوْ خَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ قَطْعِيِّ الدَّلَالَةِ فَإِنْكَارُهُ يُوجِبُ الْكُفْرَ لَا مَحَالَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ فَقَالَ إنْ كَانَ الْحُكْمُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ مِمَّا يَشْتَرِكُ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ فِي مَعْرِفَتِهِ مِثْلُ أَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ وَرَكَعَاتِهَا وَفَرْضِ الْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَزَمَانِهِمَا وَمِثْلُ تَحْرِيمِ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ وَالرِّبَا كَفَرَ مُنْكِرُهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِإِنْكَارِهِ جَاحِدًا لِمَا هُوَ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ قَطْعًا فَصَارَ كَالْجَاحِدِ لِصِدْقِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَنْفَرِدُ الْخَاصَّةُ بِمَعْرِفَتِهِ كَتَحْرِيمِ تَزَوُّجِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتهَا وَخَالَتِهَا وَفَسَادِ الْحَجِّ بِالْوَطْءِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَتَوْرِيثِ الْجَدَّةِ السُّدُسَ وَحَجْبِ بَنِي الْأُمِّ بِالْجَدِّ وَمَنْعِ تَوْرِيثِ الْقَاتِلِ لَا يَكْفُرُ مُنْكِرُهُ وَلَكِنْ يُحْكَمُ بِضَلَالِهِ وَخَطَئِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْإِجْمَاعَ وَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا أَيْضًا إلَّا أَنَّ الْمُنْكِرَ مُتَأَوِّلٌ حَيْثُ جَعَلَ الْمُرَادَ مِنْ الْأُمَّةِ وَالْمُؤْمِنِينَ جَمِيعَهُمْ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ وَالتَّأْوِيلُ مَانِعٌ مِنْ الْإِكْفَارِ كَتَأْوِيلِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ النُّصُوصَ الْقَاطِعَةَ، وَتَبَيَّنَ بِهَذَا التَّفْصِيلِ أَنَّ تَعَجُّبَ مَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ مِنْ الْفُقَهَاءِ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ؛ فَإِنَّهُمْ مَا حَكَمُوا بِكُفْرِ مُنْكِرِ كُلِّ إجْمَاعٍ وَلَمْ يَجْعَلُوا الْفَرْعَ أَقْوَى مِنْ الْأَصْلِ وَلَمْ يَغْفُلُوا عَنْهُ، ثُمَّ قَوْلُهُ فَيَكْفُرُ جَاحِدُهُ فِي الْأَصْلِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إشَارَةً إلَى الْقَوْلِ الْأَخِيرِ أَيْ يَكْفُرُ جَاحِدُ الْإِجْمَاعِ الَّذِي ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْإِجْمَاعُ الدَّاخِلُ تَحْتَ أَدِلَّةِ الْإِجْمَاعِ بِلَا شُبْهَةٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إشَارَةً إلَى الْقَوْلِ الثَّانِي أَيْ يَكْفُرُ جَاحِدُ الْإِجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ مِنْ الصَّحَابَةِ؛ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ لِكَوْنِهِ مُتَّفَقًا عَلَى صِحَّتِهِ لِاشْتِمَالِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعِتْرَةِ الرَّسُولِ وَيُضَلَّلُ جَاحِدُ إجْمَاعِ مَنْ بَعْدَهُمْ؛ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَشْهُورِ مِنْ الْأَخْبَارِ، وَإِذَا صَارَ الْإِجْمَاعُ مُجْتَهَدًا أَيْ مُخْتَلَفًا فِيهِ كَانَ كَالصَّحِيحِ مِنْ الْآحَادِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا بَلَغَ إلَيْنَا بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ فَأَمَّا إذَا بَلَغَ بِطَرِيقِ الْآحَادِ فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ. قَوْلُهُ (وَالنَّسْخُ فِي ذَلِكَ) أَيْ فِي الْإِجْمَاعِ جَائِزٌ بِمِثْلِهِ حَتَّى جَازَ نَسْخُ الْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ بِالْقَطْعِيِّ وَلَا يَجُوزُ بِالظَّنِّيِّ وَجَازَ نَسْخُ الظَّنِّيِّ بِالظَّنِّيِّ وَالْقَطْعِيِّ جَمِيعًا فَلَوْ أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى حُكْمٍ، ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِهِ بَعْدَ مُدَّةٍ يَجُوزُ وَيَكُونُ الثَّانِي نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ لِكَوْنِهِ مِثْلَهُ، وَلَوْ أَجْمَعَ الْقَرْنُ الثَّانِي عَلَى خِلَافِهِمْ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ لِكَوْنِهِ دُونَهُ وَلَوْ أَجْمَعَ الْقَرْنُ الثَّانِي عَلَى حُكْمٍ، ثُمَّ أَجْمَعُوا بِأَنْفُسِهِمْ أَوْ مَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى خِلَافِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ مِثْلُ الْأَوَّلِ فَيَصْلُحُ نَاسِخًا لَهُ، وَإِنَّمَا جَازَ نَسْخُ الْإِجْمَاعِ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَنْتَهِيَ مُدَّةُ حُكْمٍ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ وَيَظْهَرُ ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى أَهْلَ الِاجْتِهَادِ عَلَى إجْمَاعِهِمْ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ كَمَا إذَا وَرَدَ نَصٌّ بِخِلَافِ النَّصِّ الْأَوَّلِ ظَهَرَ بِهِ أَنَّ مُدَّةَ ذَلِكَ الْحُكْمِ قَدْ انْتَهَتْ وَلَا يُقَالُ زَمَانُ الْوَحْيِ قَدْ انْقَطَعَ بِوَفَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَلَا يَجُوزُ بَعْدَهُ نَسْخُ شَيْءٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: زَمَانُ نَسْخِ مَا ثَبَتَ بِالْوَحْيِ قَدْ انْقَطَعَ بِوَفَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى نُزُولِ الْوَحْيِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ بَعْدُ فَأَمَّا زَمَانُ نَسْخِ مَا ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ فَغَيْرُ مُنْقَطِعٍ لِبَقَاءِ زَمَانِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وَحُدُوثِهِ، وَهَذَا مُخْتَارُ الشَّيْخِ فَأَمَّا جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ

[باب بيان سبب الإجماع]

(بَابُ بَيَانِ سَبَبِهِ) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَهُوَ نَوْعَانِ الدَّاعِي وَالنَّاقِلُ أَمَّا الدَّاعِي فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ أَوْ الْقِيَاسِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا بُدَّ مِنْ جَامِعٍ آخَرَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْغَلَطَ وَهَذَا بَاطِلٌ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْحُكْمِ بِهِ قَطْعًا لَمْ يَثْبُتْ مِنْ قِبَلِ دَلِيلِهِ بَلْ مِنْ قِبَلِ عَيْنِهِ كَرَامَةً لِلْأُمَّةِ وَإِدَامَةً لِلْحُجَّةِ وَصِيَانَةً وَتَقْرِيرًا لَهُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَقَدْ أَنْكَرُوا جَوَازَ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ تَقْسِيمِ النَّاسِخِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ بَيَانِ سَبَب الْإِجْمَاعُ] (بَابُ بَيَانِ سَبَبِهِ) أَيْ سَبَبِ الْإِجْمَاعِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: الدَّاعِي: أَيْ السَّبَبُ الَّذِي يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِجْمَاعِ وَيَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ. وَالنَّاقِلُ: أَيْ السَّبَبُ النَّاقِلُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْخَبَرَ أَيْ الْخَبَرَ الَّذِي يَنْقُلُ الْإِجْمَاعَ إلَيْنَا وَيَكُونُ الْإِسْنَادُ مَجَازِيًّا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ النَّقْلَ وَمِنْ النَّاقِلِ الْمُعَرِّفُ أَيْ النَّقْلُ الَّذِي يُعَرِّفُنَا الْإِجْمَاعَ، وَلِهَذَا سَمَّاهُ سَبَبًا؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ يَثْبُتُ فِي حَقِّنَا بِوَاسِطَتِهِ كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَيَكُونُ النَّقْلُ طَرِيقًا إلَيْهِ وَاعْلَمْ أَنَّ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ لَا يَنْعَقِدُ إجْمَاعٌ إلَّا عَنْ مَأْخَذٍ وَمُسْتَنَدٍ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْآرَاءِ وَالْهِمَمِ يَمْنَعُ عَادَةً مِنْ الِاتِّفَاقِ عَلَى شَيْءٍ إلَّا عَنْ سَبَبٍ يُوجِبُهُ وَلِأَنَّ الْقَوْلَ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ خَطَأٌ إذْ الدَّلِيلُ هُوَ الْمُوصِلُ إلَى الْحَقِّ فَإِذَا فُقِدَ لَا يَتَحَقَّقُ الْوُصُولُ إلَيْهِ فَلَوْ اتَّفَقُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ لَكَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى الْخَطَأِ وَذَلِكَ قَادِحٌ فِي الْإِجْمَاعِ. وَأَجَازَ قَوْمٌ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ لَا عَنْ دَلِيلٍ بِأَنْ يُوَفِّقَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لِاخْتِيَارِ الصَّوَابِ وَيُلْهِمَهُمْ إلَى الرُّشْدِ بِأَنْ يَخْلُقَ فِيهِمْ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِذَلِكَ مُسْتَدِلِّينَ بِأَنَّ خَلْقَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ الْعِلْمَ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ بَلْ هُوَ مِنْ الْجَائِزَاتِ فَيَجُوزُ أَنْ يَصْدُرَ الْإِجْمَاعُ عَنْهُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَصْدُرَ عَنْ دَلِيلٍ وَبِأَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ فِي نَفْسِهِ فَلَوْ لَمْ يَنْعَقِدْ إلَّا عَنْ دَلِيلٍ لَكَانَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ هُوَ الْحُجَّةُ وَلَمْ يَبْقَ فِي كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً فَائِدَةٌ، وَبِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا عَنْ دَلِيلٍ قَدْ وَقَعَ كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى بَيْعِ الْمُرَاضَاةِ أَيْ التَّعَاطِي وَأُجْرَةِ الْحَمَّامِ وَكُلُّ ذَلِكَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ حَالَ الْأُمَّةِ لَا يَكُونُ أَعْلَى مِنْ حَالِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَقُولُ إلَّا عَنْ وَحْيٍ ظَاهِرٍ أَوْ خَفِيٍّ أَوْ عَنْ اسْتِنْبَاطٍ مِنْ النُّصُوصِ عَلَيْهِ فَالْأُمَّةُ أَوْلَى أَنْ لَا يَقُولُوا إلَّا عَنْ دَلِيلٍ وَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَصْدُرُ إلَّا عَنْ الْعُلَمَاءِ، وَأَهْلُ الدِّيَانَةِ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُمْ الِاجْتِمَاعُ عَلَى حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ جُزَافًا بَلْ بِنَاءً عَلَى حَدِيثٍ سَمِعُوهُ وَمَعْنًى مِنْ النُّصُوصِ رَأَوْهُ مُؤَثِّرًا فِي الْحُكْمِ فَأَمَّا الْحُكْمُ جُزَافًا أَوْ بِالْهَوَى وَالطَّبِيعَةِ فَهُوَ عَمَلُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْإِلْحَادِ، وَقَوْلُهُمْ لَوْ انْعَقَدَ عَنْ دَلِيلٍ لَمْ يَبْقَ فِي الْإِجْمَاعِ فَائِدَةٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصْدُرَ الْإِجْمَاعُ عَنْ دَلِيلٍ وَاحِدٍ لَا نَقُولُ بِهِ، إذْ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الدَّلِيلَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لَا أَنَّ عَدَمَ الدَّلِيلِ شَرْطٌ. عَلَى أَنَّ فِيهِ فَوَائِدَ وَهِيَ سُقُوطُ الْبَحْثِ عَنْ ذَلِكَ الدَّلِيلِ وَكَيْفِيَّةُ دَلَالَتِهِ عَلَى الْحُكْمِ وَحُرْمَةُ الْمُخَالَفَةِ بَعْدَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ الْجَائِزَةِ قَبْلَهُ بِالِاتِّفَاقِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرُوا مِنْ بَيْعِ الْمُرَاضَاةِ وَأُجْرَةِ الْحَمَّامِ فَالْإِجْمَاعُ فِيهِمَا مَا وَقَعَ إلَّا عَنْ دَلِيلٍ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا اسْتِغْنَاءً بِالْإِجْمَاعِ عَنْهُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْإِجْمَاعِ مِنْ مُسْتَنِدٍ فَذَلِكَ الْمُسْتَنَدُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا ظَنِّيًّا كَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَا صَلُحَ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا قَطْعِيًّا مِثْلُ نَصِّ الْكِتَابِ وَالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ وَذَهَبَ دَاوُد الظَّاهِرِيُّ وَأَتْبَاعُهُ وَالشِّيعَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ وَالْقَاشَانِيُّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ إلَى أَنَّ مُسْتَنَدَ الْإِجْمَاعِ لَا يَكُونُ إلَّا دَلِيلًا قَطْعِيًّا وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسُ لَا يُوجِبَانِ

وَلَوْ جَمَعَهُمْ دَلِيلٌ مُوجِبٌ يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ لَصَارَ الْإِجْمَاعُ لَغْوًا فَثَبَتَ أَنَّ مَا قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ حَشْوٌ مِنْ الْكَلَامِ. وَأَمَّا السَّبَبُ النَّاقِلُ إلَيْنَا فَعَلَى مِثَالِ نَقْلِ السُّنَّةِ فَقَدْ ثَبَتَ نَقْلُ السُّنَّةِ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِطَرِيقٍ فِيهِ شُبْهَةٌ، فَكَذَا هَذَا إذَا انْتَقَلَ إلَيْنَا إجْمَاعُ السَّلَفِ بِإِجْمَاعِ كُلِّ عَصْرٍ عَلَى نَقْلِهِ كَانَ فِي مَعْنَى نَقْلِ الْحَدِيثِ الْمُتَوَاتِرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعِلْمَ قَطْعًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُمَا مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ قَطْعًا إذْ الْفَرْعُ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الْأَصْلِ، كَذَا ذُكِرَ الِاخْتِلَافُ فِي الْمِيزَانِ وَأُصُولِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ الشَّيْخِ أَيْضًا، وَلَكِنَّ الْمَذْكُورَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ أَنَّهُمْ وَافَقُونَا فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَاخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِهِ عَنْ الْقِيَاسِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ النَّاسَ خُلِقُوا عَلَى هِمَمٍ مُتَفَاوِتَةٍ وَآرَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ إجْمَاعُهُمْ عَلَى شَيْءٍ إلَّا لِجَامِعٍ جَمَعَهُمْ عَلَيْهِ وَكَلَامُ مَنْ الْتَزَمُوا طَاعَتَهُ وَانْقَادُوا لِحُكْمِهِ يَصْلُحُ جَامِعًا، فَأَمَّا الِاجْتِهَادُ بِالرَّأْيِ مَعَ اخْتِلَافِ الدَّوَاعِي فَلَا يَصْلُحُ جَامِعًا وَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى جَوَازِ مُخَالَفَةِ الْمُجْتَهِدِ فِيمَا اجْتَهَدَ فَلَوْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَنْ اجْتِهَادٍ لَحَرُمَتْ الْمُخَالَفَةُ الْجَائِزَةُ بِالِاتِّفَاقِ وَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ إلَّا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعَصْرِ وَلَا عَصْرَ إلَّا، وَفِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْ نُفَاةِ الْقِيَاسِ فَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ مُسْنَدًا إلَى الْقِيَاسِ حُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ عَنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسُ أَمْرٌ لَا يَسْتَحِيلُهُ الْعَقْلُ كَانْعِقَادِهِ عَنْ غَيْرِهِمَا وَالنُّصُوصُ الَّتِي تُوجِبُ كَوْنَ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً لَا تَفْصِلُ وَبَيْنَهُمَا إذَا كَانَ مُسْتَنَدُهُ دَلِيلًا قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ تَقْيِيدًا لَهَا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَهُوَ فَاسِدٌ. كَيْفَ وَقَدْ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ مِثْلُ إجْمَاعِهِمْ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ مُسْنَدًا إلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ وَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى حُرْمَةِ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ الْقَبْضِ مُسْنَدًا إلَى مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِيعُهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ» وَمِثْلُ إجْمَاعِهِمْ عَلَى إمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ مُسْنَدًا إلَى الِاجْتِهَادِ، وَهُوَ الِاعْتِبَارُ بِالْإِمَامَةِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ رَضِيَهُ رَسُولُ اللَّهِ لِدِينِنَا أَفَلَا نَرْضَاهُ لِدُنْيَانَا وَإِجْمَاعِهِمْ فِي زَمَنِ عُمَرَ عَلَى حَدِّ شَارِبِ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ اسْتِدْلَالًا بِحَدِّ الْقَذْفِ حَيْثُ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَذَا حَدٌّ وَأَقَلُّ الْحَدِّ ثَمَانُونَ، وَقَالَ عَلِيٌّ إذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى فَأَرَى أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّ الْمُفْتَرِينَ. ثُمَّ أَجَابَ الشَّيْخُ عَنْ كَلَامِهِمْ فَقَالَ: وَهَذَا أَيْ اشْتِرَاطُ جَامِعٍ لَا يَحْتَمِلُ الْغَلَطَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْحُكْمِ بِالْإِجْمَاعِ بِطَرِيقِ الْقَطْعِ وَكَوْنَهُ حُجَّةً لَمْ يَثْبُتْ مِنْ قِبَلِ دَلِيلِهِ أَيْ مُسْتَنَدِهِ لِيَشْتَرِطَ قَطْعِيَّةً بَلْ ثَبَتَ مِنْ قِبَلِ ذَاتِهِ لِأَجْلِ تَكْرِيمِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلِاسْتِدَامَةِ حُجَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأَحْكَامِ إلَى آخِرِ الدَّهْرِ وَلِأَجْلِ تَقْرِيرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى الْمَحَجَّةِ أَيْ جَادَّةِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ عَلَى مَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي لَا تَفْصِلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهُ قَطْعِيًّا أَوْ غَيْرَ قَطْعِيٍّ. وَقَوْلُهُ (وَلَوْ جَمَعَهُمْ دَلِيلٌ يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ) لَصَارَ الْإِجْمَاعُ لَغْوًا يُوهِمُ بِظَاهِرِهِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عِنْدَ الشَّيْخِ لَا يَنْعَقِدُ عَنْ دَلِيلٍ قَطْعِيٍّ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْبَعْضُ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمِيزَانِ؛ لِأَنَّ الْجَامِعَ لَوْ كَانَ قَطْعِيًّا لَمْ يَبْقَ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فَائِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ وَالْقَطْعَ بِصِحَّتِهِ يَثْبُتَانِ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ فَلَمْ يَبْقَ لِلْإِجْمَاعِ تَأْثِيرٌ فِي إثْبَاتِ شَيْءٍ فَيَكُونُ لَغْوًا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْجَامِعُ دَلِيلًا ظَنِّيًّا؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْحُكْمِ إنْ ثَبَتَ بِهِ لَمْ يَثْبُتْ الْقَطْعُ بِصِحَّتِهِ إلَّا بِالْإِجْمَاعِ فَكَانَ فِيهِ فَائِدَةٌ وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ دَلِيلٍ ظَنِّيٍّ تَأَيَّدَ بِآيَةٍ مِنْ الْكِتَابِ أَوْ بِالْعَرْضِ عَلَى الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالتَّقْرِيرِ مِنْهُ عَلَى مُوجِبِهِ وَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا جُعِلَ حُجَّةً لِلْحَاجَةِ؛ فَإِنَّهُ مَتَى وَقَعَتْ حَادِثَةٌ لَا يَكُونُ فِيهَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ اُضْطُرُّوا إلَى الْعَمَلِ بِدَلِيلٍ مُحْتَمِلٍ لِلْخَطَأِ وَحِينَئِذٍ يَجُوزُ خُرُوجُ الْحَقِّ عَنْ جَمِيعِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ، وَالْحَاجَةُ

وَإِذَا انْتَقَلَ إلَيْنَا بِالْأَفْرَادِ مِثْلُ قَوْلِ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيِّ: مَا اجْتَمَعَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى شَيْءٍ كَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى مُحَافَظَةِ الْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَعَلَى إسْفَارِ الصُّبْحِ وَعَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ الْأُخْتِ. وَسُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَنْ تَكْبِيرَةِ الْجِنَازَةِ فَقَالَ: كُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ إلَّا أَنِّي رَأَيْت أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ يُكَبِّرُونَ أَرْبَعًا وَكَمَا رُوِيَ فِي تَوْكِيدِ الْمَهْرِ بِالْخَلْوَةِ وَكَانَ هَذَا كَنَقْلِ السُّنَّةِ بِالْآحَادِ، وَهُوَ يَقِينٌ بِأَصْلِهِ لَكِنَّهُ لَمَّا انْتَقَلَ إلَيْنَا بِالْآحَادِ أَوْجَبَ الْعَمَلَ دُونَ عِلْمِ الْيَقِينِ وَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَى الْقِيَاسِ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ أَبَى النَّقْلَ بِالْآحَادِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ قَوْلٌ لَا وَجْهَ لَهُ وَمَنْ أَنْكَرَ الْإِجْمَاعَ فَقَدْ أَبْطَلَ دِينَهُ كُلَّهُ؛ لِأَنَّ مَدَارَ أُصُولِ الدِّينِ كُلِّهَا وَمَرْجِعَهَا إلَى إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ أَجْمَعِينَ. ـــــــــــــــــــــــــــــQإنَّمَا يَثْبُتُ فِيمَا إذَا كَانَ دَلِيلُهُ ظَنِّيًّا دُونَ مَا كَانَ دَلِيلُهُ قَطْعِيًّا فَلَا يَنْعَقِدُ فِيمَا لَا حَاجَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَا يَرِدُ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَلَكِنَّ مَذْهَبَ الشَّيْخِ كَمَذْهَبِ الْعَامَّةِ فِي صِحَّةِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَنْ أَيِّ دَلِيلٍ كَانَ ظَنِّيٍّ أَوْ قَطْعِيٍّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا انْعَقَدَ عَلَى مُسْتَنَدٍ ظَنِّيٍّ فَعَنْ مُسْتَنَدٍ قَطْعِيٍّ أَوْلَى أَنْ يَنْعَقِدَ؛ لِأَنَّهُ أَدْعَى إلَى الِاتِّفَاقِ الَّذِي هُوَ رُكْنُهُ وَبَعْدَمَا انْعَقَدَ بِهِ كَانَ مُؤَكِّدًا لِمُوجِبِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وُجِدَ فِي حُكْمٍ نَصَّانِ قَطْعِيَّانِ مِنْ الْكِتَابِ أَوْ نَصٌّ مِنْ الْكِتَابِ وَخَبَرٌ مُتَوَاتِرٌ، فَكَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَلَوْ جَمَعَهُمْ دَلِيلٌ مُوجِبٌ عِلْمِ الْيَقِينِ لَوْ شُرِطَ أَنْ يَكُونَ الْجَامِعُ دَلِيلًا قَطْعِيًّا بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ كَانَ الْإِجْمَاعُ لَغْوًا لِعَدَمِ إفَادَتِهِ أَمْرًا مَقْصُودًا فِي صُورَةٍ، إذْ التَّأْكِيدُ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ أَصْلِيٍّ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُشْتَرَطْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْقَطْعَ إنْ صَدَرَ عَنْ ظَنِّيٍّ وَالتَّأْكِيدَ إنْ صَدَرَ عَنْ قَطْعِيٍّ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَمَنْ يَقُولُ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ صَادِرًا إلَّا عَنْ دَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلْعِلْمِ؛ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْإِجْمَاعَ لَغْوًا وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ فَهُوَ وَمَنْ يُنْكِرُ كَوْنَ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً أَصْلًا سَوَاءٌ. وَقَوْلُهُمْ الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى جَوَازِ مُخَالَفَةِ الْمُجْتَهِدِ مُسَلَّمٌ إذَا لَمْ يُوَافِقْهُ مُجْتَهِدُو عَصْرِهِ أَمَّا إذَا وَافَقُوهُ فَلَا. وَقَوْلُهُمْ وُجُودُ نُفَاةِ الْقِيَاسِ مَانِعٌ مِنْ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي الْقِيَاسِ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ بَلْ هُوَ حَادِثٌ فَإِذَنْ لَا يَمْنَعُ عَنْ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَنْ الْقِيَاسِ مُطْلَقًا بَلْ بَعْدَ وُقُوعِ الْخِلَافِ فِيهِ، وَهُوَ مُسَلَّمٌ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: كَانَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ اتِّفَاقٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ وَكَوْنِهِ حُجَّةً وَإِنَّمَا أَظْهَرَ الْخِلَافَ بَعْضُ أَهْلِ الْكَلَامِ مِمَّنْ لَا بَصَرَ لَهُ فِي الْفِقْهِ وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ لَا عِلْمَ بِحَقِيقَةِ الْأَحْكَامِ وَأُولَئِكَ لَا يُقْتَدَى بِهِمْ وَلَا يُؤْنَسُ بِوِفَاقِهِمْ وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ إذَا انْعَقَدَ بِدَلِيلٍ يَكُونُ مُنْعَقِدًا عَلَى الدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ عِنْدَ بَعْضِ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ يَكُونُ مُنْعَقِدًا عَلَى الْحُكْمِ الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الدَّلِيلِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ هُوَ الْمَطْلُوبُ وَلِأَجْلِهِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ فَيَكُونُ مُنْعَقِدًا عَلَيْهِ وَيُبْتَنَى عَلَيْهِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْمُنْعَقِدَ عَلَى مُوجِبِ خَبَرٍ مِنْ الْأَخْبَارِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْخَبَرِ عِنْدَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ إذَا عُلِمَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا لِأَجْلِهِ وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى صِحَّتِهِ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْحُكْمِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ لِصِحَّةِ الْخَبَرِ طَرِيقًا مَخْصُوصًا فِي الشَّرْعِ، وَهُوَ النَّقْلُ فَيُطْلَبُ صِحَّتُهُ وَعَدَمُ صِحَّتِهِ مِنْ ذَلِكَ الطَّرِيقِ. قَوْلُهُ (وَإِذَا انْتَقَلَ) أَيْ الْإِجْمَاعُ إلَيْنَا بِالْأَفْرَادِ أَيْ بِنَقْلِ الْآحَادِ وَجَوَابُ إذَا قَوْلُهُ كَانَ هَذَا أَيْ انْتِقَالُهُ بِالْأَفْرَادِ كَنَقْلِ السُّنَّةِ بِالْآحَادِ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ فَكَانَ بَالِغًا وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَاخْتُلِفَ فِي الْإِجْمَاعِ الْمَنْقُولِ بِلِسَانِ الْآحَادِ بَعْدَمَا اتَّفَقُوا أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ أَنَّهُ هَلْ يُوجِبُ الْعَمَلَ أَمْ لَا فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ كَقَوْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ إذَا نُقِلَتْ السُّنَّةُ إلَيْنَا بِطَرِيقِ الْآحَادِ كَانَتْ مُوجِبَةً لِلْعَمَلِ مُقَدَّمَةً عَلَى الْقِيَاسِ، فَكَذَا الْإِجْمَاعُ الْمَنْقُولُ بِالْآحَادِ. وَذَكَرَ الضَّمَائِرَ الرَّاجِعَةَ إلَى السُّنَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ يَقِينٌ إلَى آخِرِهِ عَلَى تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ أَوْ قَوْلِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَهَذَا أَيْ الْإِجْمَاعُ أَوْ انْتِقَالُ الْإِجْمَاعِ مِثْلُهُ أَيْ مِثْلُ الْحَدِيثِ أَوْ مِثْلُ انْتِقَالِ الْحَدِيثِ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِنْهُمْ الْغَزَالِيُّ: إنَّهُ لَا يُوجِبُ الْعَمَلَ وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ قَاطِعٌ يُحْكَمُ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَنَقْلُ الْوَاحِدِ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ فَكَيْفَ يَثْبُتُ بِهِ قَاطِعٌ. وَالْجَوَابُ

[باب القياس]

(بَابُ الْقِيَاسِ) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَابِ يَنْقَسِمُ إلَى أَقْسَامٍ: أَوَّلُهَا الْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ الْقِيَاسِ وَالثَّانِي فِي شَرْطِهِ وَالثَّالِثُ فِي رُكْنِهِ وَالرَّابِعُ فِي حُكْمِهِ وَالْخَامِسُ فِي دَفْعِهِ وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِمَعْنَاهُ وَلَا يُوجَدُ إلَّا عِنْدَ شَرْطِهِ وَلَا يَقُومُ إلَّا بِرُكْنِهِ وَلَمْ يُشْرَعْ إلَّا لِحُكْمِهِ ثُمَّ لَا يَبْقَى إلَّا الدَّفْعُ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّا لَا نُثْبِتُ بِنَقْلِ الْوَاحِدِ إجْمَاعًا قَاطِعًا مُوجِبًا لِلْعِلْمِ لِيَمْتَنِعَ ثُبُوتُهُ بِهِ بَلْ نُثْبِتُ بِهِ إجْمَاعًا ظَنِّيًّا مُوجِبًا لِلْعَمَلِ وَثُبُوتُ مِثْلِهِ بِنَقْلِ الْوَاحِدِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: وُجُوبُ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ثَبَتَ بِدَلَائِلَ قَاطِعَةٍ وَهِيَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَدَلَالَاتُ النُّصُوصِ وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا إجْمَاعٌ وَلَا نَصٌّ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ فَلَوْ ثَبَتَ لَكَانَ بِالْقِيَاسِ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي إثْبَاتِ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّهُ نَصِيبٌ شُرِعَ بِالرَّأْيِ وَلَا مَدْفَعَ لِهَذَا إلَّا بِأَنْ يُجْعَلَ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِهِ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ بِأَنْ يُقَالَ: نَقْلُ الْوَاحِدِ لِلدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ مُوجِبٌ لِلْعَمَلِ قَطْعًا كَالْخَبَرِ الَّذِي تَخَلَّلَتْ وَاسِطَةٌ بَيْنَ نَاقِلِهِ وَالرَّسُولِ فَنَقْلُ الْوَاحِدِ لِلدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ، وَهُوَ الْإِجْمَاعُ الَّذِي لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَاقِلِهِ وَاسِطَةٌ أَوْلَى بِأَنْ يُوجِبَ الْعَمَلَ قَطْعًا؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ الضَّرَرِ فِي مُخَالَفَةِ الْمَقْطُوعِ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ احْتِمَالِهِ فِي مُخَالَفَةِ الْمَظْنُونِ بِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَثْبُتُ فِيمَا إذَا تَخَلَّلَ فِي نَقْلِهِ وَاسِطَةٌ أَوْ وَسَائِطُ لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ. قَوْلُهُ (مِثْلُ قَوْلِ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيِّ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الْبَاءِ وَفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ اللَّامِ هُوَ أَبُو مُسْلِمٍ عَبِيدَةُ بْنُ قَيْسِ بْنِ سَلْمٍ أَوْ عَمْرٍو مَنْسُوبٌ إلَى سَلْمَانَ حَيٌّ مِنْ مُرَادٍ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ يَفْتَحُونَ اللَّامَ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَسْلَمَ قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَنَتَيْنِ وَلَمْ يَرَهُ وَسَمِعَ عُمَرَ وَابْنَ الزُّبَيْرِ وَنَزَلَ الْكُوفَةَ فَرَوَى عَنْهُ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَغَيْرُهُمْ وَمَاتَ سَنَةَ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ وَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ تَكْبِيرِ الْجِنَازَةِ يَعْنِي وَسُئِلَ عَنْهُ أَنَّ تَكْبِيرَاتِ الْجِنَازَةِ أَرْبَعٌ أَوْ خَمْسٌ أَوْ سَبْعٌ أَوْ تِسْعٌ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ فَقَالَ: كُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ إلَى آخِرِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَصْلِ الْكَلَامِ، وَهُوَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ فَقَالَ مَنْ أَنْكَرَ الْإِجْمَاعَ أَيْ أَنْكَرَ كَوْنَهُ حُجَّةً فَقَدْ أَبْطَلَ دِينَهُ؛ لِأَنَّ مَدَارَ أُصُولِ الدِّينِ عَلَى الْإِجْمَاعِ إذْ الْمَعْرِفَةُ بِالْقُرْآنِ وَأَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ وَالرَّكَعَاتِ وَأَوْقَاتِ الْعِبَادَاتِ وَمَقَادِيرِ الزَّكَوَاتِ وَغَيْرِهَا حَصَلَتْ لَنَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى نَقْلِهَا فَكَانَ إنْكَارُ الْإِجْمَاعِ مُؤَدِّيًا إلَى إبْطَالِهَا إلَّا أَنَّ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: لَمْ يَثْبُتْ أُصُولُ الدِّينِ بِالْإِجْمَاعِ بَلْ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ، وَالْفَرْقُ ثَابِتٌ بَيْنَ النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَالْإِجْمَاعِ؛ فَإِنَّ النَّقْلَ يُوصِلُ إلَيْنَا مَا كَانَ ثَابِتًا وَالْإِجْمَاعَ يُثْبِتُ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ إنْكَارِهِ إبْطَالُ أُصُولِ الدِّينِ بَلْ يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ ثُبُوتِهَا بِهِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِهَا بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذْ قَدْ فَرَغْنَا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَإِنْعَامِهِ وَتَأْيِيدِهِ وَإِكْرَامِهِ عَنْ بَيَانِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ وَتَحْقِيقِ مَعَانِيهَا وَتَأْسِيسِ قَوَاعِدِهَا وَتَمْهِيدِ مَبَانِيهَا وَتَوْضِيحِ مَسَائِلِهَا الْمُشْكِلَةِ وَتَنْقِيحِ دَلَائِلِهَا الْمُعْضِلَةِ، فَلْنَشْرَعْ فِي شَرْحِ الْأَصْلِ الرَّابِعِ الَّذِي هُوَ مِيزَانُ عُقُولِ أُولِي النُّهَى وَمَيْدَانُ الْفُحُولِ ذَوِي الْحِجَا بِهِ نَعْرِفُ قَدْرَ الْحَذَاقَةِ وَالْفَطَانَةِ وَيُسْبَرُ غَوْرُ الْفَقَاهَةِ وَالرَّزَانَةِ، وَفِيهِ تَحَارُ الْعُقُولُ وَالْأَفْهَامُ وَيَفْرُطُ الْإِغْلَاقُ وَالْأَوْهَامُ كَاشِفِينَ النِّقَابَ عَنْ اللَّهِ وَحَقَائِقِهِ رَافِعِينَ الْحِجَابَ عَنْ أَسْرَارِ لَطَائِفِهِ وَدَقَائِقِهِ حَامِدِينَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى أَفْضَالِهِ وَمُصَلِّينَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ. [بَابُ الْقِيَاسِ] [بَابُ تَفْسِيرِ الْقِيَاسِ] (بَابُ الْقِيَاسِ) (قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْكَلَامَ) لَا يَصِحُّ إلَّا بِمَعْنَاهُ إثْبَاتُ الشَّيْءِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ مَعْنَاهُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلَّفْظِ مَعْنًى

(بَابُ تَفْسِيرِ الْقِيَاسِ) لِلْقِيَاسِ تَفْسِيرٌ هُوَ الْمُرَادُ بِظَاهِرِ صِيغَتِهِ، وَمَعْنًى هُوَ الْمُرَادُ بِدَلَالَةِ صِيغَتِهِ وَمِثَالُهُ الضَّرْبُ هُوَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يُعْرَفُ بِظَاهِرِهِ وَلِمَعْنًى يُعْقَلُ بِدَلَالَتِهِ عَلَى مَا قُلْنَا، أَمَّا الثَّابِتُ بِظَاهِرِ صِيغَتِهِ فَالتَّقْدِيرُ يُقَالُ قِسْ النَّعْلَ بِالنَّعْلِ أَيْ أَحْذِهِ بِهِ وَقَدِّرْهُ بِهِ وَذَلِكَ أَنْ يُلْحَقَ الشَّيْءُ بِغَيْرِهِ فَيُجْعَلَ مِثْلَهُ وَنَظِيرَهُ، وَقَدْ يُسَمَّى مَا يَجْرِي بَيْنَ اثْنَيْنِ مِنْ الْمُنَاظَرَةِ قِيَاسًا، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَايَسْته قِيَاسًا، وَقَدْ يُسَمَّى هَذَا الْقِيَاسُ نَظَرًا مَجَازًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ يُدْرَكُ، وَقَدْ يُسَمَّى اجْتِهَادًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ طَرِيقُهُ فَسُمِّيَ بِهِ مَجَازًا. ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا يَكُونُ مُفِيدًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا كَانَ مُهْمَلًا وَصَارَ كَأَلْحَانِ الطُّيُورِ وَلَا يُوجَدُ أَيْ عَلَى وَجْهٍ يُعْتَبَرُ إلَّا عِنْدَ شَرْطِهِ لِأَنَّ شَرْطَ الشَّيْءِ مَا يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَيْهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ الْمَشْرُوطِ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ إلَّا بَعْدَ تَحْصِيلِ الطَّهَارَةِ وَالنِّكَاحُ لَا يَصِحُّ إلَّا بَعْدَ إحْضَارِ الشُّهُودِ فَلِهَذَا قَدَّمَ ذِكْرَ الشَّرْطِ عَلَى الرُّكْنِ وَلَا يَقُومُ إلَّا بِرُكْنِهِ؛ لِأَنَّ رُكْنَ الشَّيْءِ نَفْسُ ذَلِكَ الشَّيْءِ أَوْ بَعْضُ مَا هُوَ دَاخِلٌ فِي مَاهِيَّتِه فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَلَمْ يُشْرَعْ إلَّا لِحِكْمَةٍ إذْ الشَّيْءُ إنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ حَدِّ السَّفَهِ وَالْعَبَثِ إلَى حَدِّ الْحِكْمَةِ بِكَوْنِهِ مُفِيدًا وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِحِكْمَةٍ، ثُمَّ لَا يَبْقَى إلَّا الدَّفْعُ أَيْ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ تَحَقُّقِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ إلَّا الدَّفْعُ فَكَانَتْ مَعْرِفَتُهُ مُؤَخَّرَةً عَنْ مَعْرِفَةِ الْجَمِيعِ. قَوْلُهُ (لِلْقِيَاسِ تَفْسِيرٌ هُوَ الْمُرَادُ بِظَاهِرِ صِيغَتِهِ) أَيْ لَهُ مَعْنًى لُغَوِيٌّ يَدُلُّ ظَاهِرُ صِيغَتِهِ عَلَيْهِ بِالْوَضْعِ وَمَعْنًى هُوَ الْمُرَادُ بِدَلَالَةِ صِيغَتِهِ أَيْ مَعْنًى يَدُلُّ صِيغَتُهُ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا لَا بِظَاهِرِهَا، وَمِثَالُهُ أَيْ مِثَالُ الْقِيَاسِ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي قُلْنَا الضَّرْبُ؛ فَإِنَّ لَهُ تَفْسِيرًا هُوَ الْمُرَادُ بِظَاهِرِهِ، وَهُوَ إيقَاعُ الْخَشَبَةِ عَلَى جِسْمِ حَيٍّ وَمَعْنًى يُعْقَلُ بِدَلَالَتِهِ، وَهُوَ الْإِيلَامُ فَيَتَنَاوَلُ الْعَضَّ وَالْخَنْقَ وَمَدَّ الشَّعْرِ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ: وَاَللَّهِ لَا أَضْرِبُ فُلَانًا بِمَعْنَاهُ لَا بِظَاهِرِهِ وَصُورَتِهِ كَمَا يَتَنَاوَلُ التَّأْفِيفُ الضَّرْبَ وَالشَّتْمَ بِمَعْنَاهُ، وَهُوَ الْإِيذَاءُ لَا بِصُورَتِهِ. وَمِثَالٌ آخَرُ قَوْله تَعَالَى {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] ؛ فَإِنَّ تَرْكَ الْبَيْعِ يُفْهَمُ مِنْ ظَاهِرِهِ وَتَرْكُ مَا يَشْغَلُهُ عَنْ السَّعْيِ يُفْهَمُ مِنْ مَعْنَاهُ حَتَّى يَحْرُمَ عَلَيْهِ الِاشْتِغَالُ بِالشِّرَاءِ وَسَائِرِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَمْنَعُهُ عَنْ السَّعْيِ. 1 - قَوْلُهُ (أَمَّا الثَّابِتُ بِظَاهِرِ صِيغَتِهِ فَالتَّقْدِيرُ) يُقَالُ قِسْت الْأَرْضَ بِالْقَصَبَةِ إذَا قَدَّرْتهَا بِهَا، وَيُقَالُ قَاسَ الطَّبِيبُ الْجُرْحَ إذَا سَبَرَهُ بِالْمِسْبَارِ لِيَعْرِفَ مِقْدَارَ غَوْرِهِ، ثُمَّ التَّقْدِيرُ لَمَّا اسْتَدْعَى أَمْرَيْنِ يُضَافُ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ بِالْمُسَاوَاةِ اُسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى الْمُسَاوَاةِ أَيْضًا فَقِيلَ قِسْ النَّعْلَ بِالنَّعْلِ أَيْ أَحَدَهُمَا أَيْ سِوَاهَا بِصَاحِبَتِهَا، وَمِنْهُ يُقَالُ يُقَاسُ فُلَانٌ بِفُلَانٍ وَلَا يُقَاسُ بِفُلَانٍ أَيْ يُسَاوِيهِ وَلَا يُسَاوِيهِ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: خَفْ بِإِلْحَاقِ كَرِيمٍ عَلَى عِرْضٍ يُدَنِّسُهُ ... مَقَالُ كُلِّ سَفِيهٍ لَا يُقَاسُ لَكَا وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ وَذَلِكَ أَيْ التَّقْدِيرُ أَنْ يُلْحَقَ الشَّيْءُ بِغَيْرِهِ فَيُجْعَلُ مِثْلَهُ وَنَظِيرَهُ وَكَانَ غَرَضُهُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ التَّقْدِيرَ فِي الْمَعَانِي وَالْأَحْكَامِ بِإِلْحَاقِ الشَّيْءِ بِغَيْرِهِ لِيُجْعَلَ الشَّيْءُ الْمُلْحَقُ نَظِيرَ الْمُلْحَقِ بِهِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى إثْبَاتِهِ وَاسْمُ النَّعْلِ مُؤَنَّثٌ سَمَاعِيٌّ إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ ذَكَّرَ ضَمِيرَهَا نَظَرًا إلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَصِلَةُ الْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ هِيَ الْبَاءُ إلَّا أَنَّ فِي الشَّرْعِ جُعِلَتْ كَلِمَةُ عَلَى فَقِيلَ قَاسَ عَلَيْهِ بِتَضْمِينِ مَعْنَى الْبِنَاءِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ الشَّرْعِيَّ لِلْبِنَاءِ لَا لِلْإِثْبَاتِ ابْتِدَاءً قَوْلُهُ، (وَقَدْ يُسَمَّى مَا يَجْرِي بَيْنَ اثْنَيْنِ مِنْ الْمُنَاظَرَةِ قِيَاسًا) ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَقِيسُ عَلَى أَصْلِهِ وَيَسْعَى فِي أَنْ يَجْعَلَ جَوَابَهُ فِي الْحَادِثَةِ مَثَلًا لِمَا اتَّفَقَا عَلَى كَوْنِهِ أَصْلًا بَيْنَهُمَا كَالْحَنَفِيِّ فِي مُنَاظَرَةِ الشَّافِعِيِّ يَسْعَى فِي إلْحَاقِ الْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ بِالسَّبِيلَيْنِ وَصَاحِبُهُ يَسْعَى فِي إلْحَاقِهِمَا بِالْقَيْءِ الْقَلِيلِ، وَهُوَ أَيْ هَذَا الْقِيَاسُ الَّذِي أُطْلِقَ عَلَى الْمُنَاظَرَةِ مَصْدَرُ قَايَسْته قِيَاسًا لَا مَصْدَرُ قَاسَ يَقِيسُ، وَقَدْ يُسَمَّى هَذَا الْقِيَاسُ أَيْ الْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي يَجْرِي فِي الْمُنَاظَرَةِ نَظَرًا بِطَرِيقِ إطْلَاقِ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ؛ فَإِنَّهُ يُصَابُ بِنَظَرِ الْقَلْبِ عَنْ إنْصَافٍ فَيَكُونُ قَوْلُهُ هَذَا

وَأَمَّا الْمَعْنَى الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ صِيغَتِهِ فَهُوَ أَنَّهُ مُدْرَكٌ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَمُفَصَّلٌ مِنْ مَفَاصِلِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQاحْتِرَازًا عَنْ الْقِيَاسِ اللُّغَوِيِّ أَوْ الْعَقْلِيِّ، وَقَدْ يُسَمَّى أَيْ الْقِيَاسُ اجْتِهَادًا مَجَازًا بِطَرِيقِ إطْلَاقِ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ بِاجْتِهَادِ الْقَلْبِ أَيْ بِبَذْلِهِ مَجْهُودَهُ يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ. وَذَكَرَ فِي الْقَوَاطِعِ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي الِاجْتِهَادِ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: الِاجْتِهَادُ وَالْقِيَاسُ وَاحِدٌ وَنَسَبَهُ إلَى الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ أَشَارَ إلَيْهِ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ. وَأَمَّا الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فَهُوَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ أَعَمُّ مِنْ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَفْتَقِرُ إلَى الِاجْتِهَادِ، وَهُوَ مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ وَلَيْسَ الِاجْتِهَادُ بِمُفْتَقِرٍ إلَى الْقِيَاسِ وَحَدُّهُ هُوَ بَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ بِقِيَاسٍ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ: هُوَ طَلَبُ الصَّوَابِ بِالْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ وَالْقِيَاسُ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ قَالَ: وَلِهَذَا دَخَلَ فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَتَرْتِيبُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا بِقِيَاسٍ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْمَعْنَى الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ صِيغَتِهِ فَهُوَ أَنَّهُ مُدْرَكٌ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ) وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيَّ لَمَّا كَانَ جَعْلُ الشَّيْءِ مِثْلًا لِآخَرَ وَمُسَاوِيًا لَهُ لَزِمَ أَنْ يُعْرَفَ بِهِ حُكْمُ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ إذَا صَارَ مُسَاوِيًا لِلْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي تَرَتَّبَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ يَثْبُتُ ذَلِكَ الْحُكْمُ فِيهِ لَا مَحَالَةَ فَكَانَ مَدْرَكًا مِنْ مَدَارِك أَحْكَامِ الشَّرْعِ أَيْ مَوْضِعَ دَرْكٍ وَالدَّرْكُ هُوَ الْعِلْمُ أَوْ فِي تَسْمِيَتِهِ مَدْرَكًا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ دَلِيلٌ يُوقَفُ بِهِ عَلَى الْحُكْمِ لَا أَنَّهُ مُثْبِتٌ لَهُ كَالدُّخَانِ يُوقَفُ بِهِ عَلَى وُجُودِ النَّارِ لَا أَنْ يَثْبُتَ وُجُودُهَا بِهِ وَمَفْصِلٌ مِنْ مَفَاصِلِهِ أَيْ مَوْضِعُ فَصْلٍ؛ فَإِنَّهُ يُفْصَلُ بِهِ الْخُصُومَةُ بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ أَيْ يُقْطَعُ كَمَا يُفْصَلُ بِغَيْرِهَا بَيْنَ الْحُجَجِ أَوْ يُفْصَلُ بِهِ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْجَوَازِ وَالْفَسَادِ كَمَا يُفْصَلُ بِسَائِرِ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَحْدِيدَ الْقِيَاسِ وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْأُصُولِيِّينَ فِي ذَلِكَ فَقِيلَ هُوَ رَدُّ الْحُكْمِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ إلَى الْمَنْطُوقِ بِهِ، وَهُوَ فَاسِدٌ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَانِعٍ لِدُخُولِ دَلَالَةِ النَّصِّ فِيهِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِقِيَاسٍ وَغَيْرَ جَامِعٍ لِخُرُوجِ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ عَنْهُ وَقِيلَ: هُوَ تَعْدِيَةُ حُكْمِ الْأَصْلِ بِعِلَّتِهِ إلَى فَرْعٍ هُوَ نَظِيرُهُ، وَهُوَ فَاسِدٌ أَيْضًا لِعَدَمِ اشْتِمَالِهِ عَلَى قِيَاسِ الْمَعْدُومِ عَلَى الْمَعْدُومِ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ أَمْرَانِ وُجُودِيَّانِ إذْ الْأَصْلُ اسْمٌ لِمَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَالْفَرْعُ اسْمٌ لِمَا يُبْتَنَى عَلَى غَيْرِهِ وَالْمَعْدُومُ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَلِأَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ وَعِلَّتَهُ مِنْ أَوْصَافِهِ وَالِانْتِقَالُ عَلَى الْأَوْصَافِ لَا يَجُوزُ بَلْ الثَّابِتُ مِثْلُ حُكْمِ الْأَصْلِ بِمِثْلِ عِلَّتِهِ فِي الْفَرْعِ. وَالْمَنْقُولُ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إبَانَةُ مِثْلِ حُكْمِ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ بِمِثْلِ عِلَّتِهِ فِي الْآخَرَ، وَاخْتَارَ لَفْظَ الْإِبَانَةِ دُونَ الْإِثْبَاتِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ مُظْهِرٌ وَلَيْسَ بِمُثْبِتٍ بَلْ الْمُثْبِتُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَذِكْرُ مِثْلِ الْحُكْمِ وَمِثْلِ الْعِلَّةِ احْتِرَازٌ عَنْ لُزُومِ الْقَوْلِ بِانْتِقَالِ الْأَوْصَافِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ لَفْظَ الْمِثْلِ يَلْزَمُ ذَلِكَ وَذِكْرُ لَفْظِ الْمَذْكُورَيْنِ لِيَشْتَمِلَ الْقِيَاسُ بَيْنَ الْمَوْجُودَيْنِ وَبَيْنَ الْمَعْدُومَيْنِ كَقِيَاسِ عَدِيمِ الْعَقْلِ بِسَبَبِ الْجُنُونِ عَلَى عَدِيمِ الْعَقْلِ بِسَبَبِ الصِّغَرِ فِي سُقُوطِ الْخِطَابِ عَنْهُ بِالْعَجْزِ عَنْ فَهْمِ الْخِطَابِ، وَأَدَاءِ الْوَاجِبِ وَمُخْتَارُ الْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيِّ وَالْغَزَالِيِّ وَعَامَّةِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إنَّهُ حَمْلُ مَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ فِي إثْبَاتِ حُكْمٍ لَهُمَا أَوْ نَفْيِهِ عَنْهُمَا بِأَمْرٍ جَامِعٍ بَيْنَهُمَا مِنْ إثْبَاتِ حُكْمٍ أَوْ صِفَةٍ أَوْ نَفْيِهِمَا عَنْهُمَا قَالَ الْغَزَالِيُّ وَإِنَّمَا قِيلَ: حَمْلُ مَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ لِيَشْمَلَ الْقِيَاسَ بَيْنَ الْمَعْدُومَيْنِ

وَهَذِهِ جُمْلَةٌ لَا تُعْقَلُ إلَّا بِالْبَسْطِ وَالْبَيَانِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَلَّفَنَا الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ بِطَرِيقِ وَضْعِهِ عَلَى مِثَالِ الْعَمَلِ بِالْبَيِّنَاتِ فَجَعَلَ الْأُصُولَ شُهُودًا فَهِيَ شُهُودُ اللَّهِ وَمَعْنَى النُّصُوصِ هُوَ شَهَادَتُهَا، وَهُوَ الْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ وَلَا بُدَّ مِنْ صَلَاحِيَّةِ الْأُصُولِ، وَهُوَ كَوْنُهَا صَالِحَةً لِلتَّعْلِيلِ كَصَلَاحِيَّةِ الشُّهُودِ بِالْحُرِّيَّةِ وَالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ وَلَا بُدَّ مِنْ صَلَاحِ الشَّهَادَةِ كَصَلَاحِ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ بِلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ خَاصَّةً وَعَدَالَتِهِ وَاسْتِقَامَتِهِ لِلْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ فَكَذَلِكَ هَذِهِ الشَّهَادَةُ، وَلَا بُدَّ مِنْ طَالِبٍ لِلْحُكْمِ عَلَى مِثَالِ الْمُدَّعِي، وَهُوَ الْقَائِسُ وَلَا بُدَّ مِنْ مَطْلُوبٍ، وَهُوَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ وَلَا بُدَّ مِنْ مُقْتَضَى عَلَيْهِ، وَهُوَ الْقَلْبُ بِالْعَقْدِ ضَرُورَةً وَالْبَدَنُ بِالْعَمَلِ أَصْلًا أَوْ الْخَصْمُ فِي مَجْلِسِ النَّظَرِ وَالْحَاجَةِ وَلَا بُدَّ مِنْ حُكْمٍ هُوَ بِمَعْنَى الْقَاضِي، وَهُوَ الْقَلْبُ. ، ـــــــــــــــــــــــــــــQوَلَوْ قِيلَ: حَمْلُ شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ لَتَنَاوَلَ الْمَوْجُودَ دُونَ الْمَعْدُومِ إذْ الْمَعْدُومُ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَكَذَا لَوْ قِيلَ: حَمْلُ فَرْعٍ عَلَى الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يُنْبِئُ عَنْ الْمَعْدُومِ وَإِنْ كَانَ لَا يَبْعُدُ إطْلَاقُهُ عَلَيْهِ بِتَأْوِيلٍ مَا وَالْحُكْمُ قَدْ يَكُونُ إثْبَاتًا وَنَفْيًا وَكَذَا الْجَامِعُ قَدْ يَكُونُ حُكْمًا وَصِفَةً وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ يَكُونُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا وَالِاعْتِرَاضَاتُ الْوَارِدَةُ عَلَى هَذَا الْحَدِّ مَعَ أَجْوِبَتِهَا مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِهِمْ قُلْت فَلْتُطْلَبْ فِيهَا. 1 - قَوْلُهُ (وَهَذِهِ جُمْلَةٌ) أَيْ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مَدْرَكٌ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَمُفَصَّلٌ أَمْرٌ مُبْهَمٌ لَا يُعْقَلُ إلَّا بِالْبَسْطِ وَعِبَارَةُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ هَذَا أَيْ كَوْنُهُ مَدْرَكًا بِبَسْطِ الْكَلَامِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَيْ بَيَانُ كَوْنِهِ مَدْرَكًا وَمُفَصَّلًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَلَّفَنَا الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ كَمَا نَطَقَتْ بِهِ النُّصُوصُ بِطَرِيقِ وَضْعِهِ يَعْنِي لِلْقِيَاسِ عَلَى مِثَالِ الْعَمَلِ بِالْبَيِّنَاتِ فِي خُصُومَاتِ الْعِبَادِ وَتَعَلُّقُ عَلَى بِقَوْلِهِ كَلَّفَنَا الْعَمَلَ أَوْ بِقَوْلِهِ وَضْعِهِ فَجَعَلَ الْأُصُولَ وَهِيَ النُّصُوصُ شُهُودًا؛ فَإِنَّهَا شُهُودُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى حُقُوقِهِ وَأَحْكَامِهِ بِمَنْزِلَةِ الشُّهُودِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَمَعْنَى النُّصُوصِ هُوَ شَهَادَتُنَا أَيْ مَعْنَاهَا الَّذِي تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ لَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ وَفُسِّرَ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ الْعِلَّةُ الْجَامِعَة دَفْعًا لِتَوَهُّمِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَلَا بُدَّ مِنْ صَلَاحِيَّةِ الْأُصُولِ أَيْ لِلشَّهَادَةِ، وَهُوَ أَيْ الصَّلَاحِيَّةُ عَلَى تَأْوِيلِ الصَّلَاحِ كَوْنُهَا أَيْ الْأُصُولِ صَالِحَةً لِلتَّعْلِيلِ بِأَنْ لَا يَكُونَ النَّصُّ الَّذِي هُوَ أَصْلٌ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ أَوْ مَخْصُوصًا بِحُكْمِهِ بِنَصٍّ آخَرَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَلَا بُدَّ مِنْ صَلَاحِيَّةِ الشَّهَادَةِ أَيْ شَهَادَةِ النَّصِّ بِأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الدَّالُّ عَلَى الْحُكْمِ مُلَائِمًا أَيْ مُوَافِقًا لِتَعْلِيلِ السَّلَفِ غَيْرَ خَارِجٍ عَنْ نَهْجِهِمْ كَمَا لَا بُدَّ مِنْ صَلَاحِيَّةِ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ بِأَنْ يَشْهَدَ بِلَفْظٍ خَاصٍّ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ حَتَّى لَوْ قَالَ أَعْلَمُ أَوْ أَتَيَقَّنُ أَوْ أَحْلِفُ لَا يَكُونُ شَهَادَةً وَعَدَالَتُهُ أَيْ عَدَالَةُ لَفْظِ الشَّهَادَةِ وَهِيَ كَوْنُهُ صِدْقًا. وَاسْتِقَامَتُهُ أَيْ مُطَابَقَتُهُ لِلْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ مِنْ الشَّهَادَةِ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِدَعْوَى الْمُدَّعِي حَتَّى لَوْ ادَّعَى أَلْفَ دِينَارٍ وَشَهِدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَا يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ صِدْقًا لِعَدَمِ الْمُطَابَقَةِ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ الشَّهَادَةُ أَيْ فَمِثْلُ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ هَذِهِ الشَّهَادَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا فَكَمَا لَا بُدَّ مِنْ الصَّلَاحِيَّةِ وَالْعَدَالَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ هُنَاكَ لَا بُدَّ مِنْهَا هَاهُنَا أَيْضًا فَصَلَاحِيَّةُ هَذِهِ الشَّهَادَةِ بِالْمُلَاءَمَةِ كَمَا قُلْنَا وَعَدَالَتُهَا بِالتَّأْثِيرِ وَاسْتِقَامَتُهَا بِمُطَابَقَتِهَا الْحُكْمَ الْمَطْلُوبَ وَخُلُوِّهَا عَنْ فَسَادِ الْوَضْعِ وَنَحْوِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ مُقْتَضًى عَلَيْهِ، وَهُوَ الْقَلْبُ بِالْعَقْدِ ضَرُورَةً وَالْبَدَنُ بِالْعَمَلِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْقِيَاسِ هُوَ الْعَمَلُ بِالْبَدَنِ دُونَ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ فَكَانَ الْبَدَنُ أَصْلًا فِي إيجَابِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّ صِحَّةَ الْعَمَلِ لَمَّا كَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى الِاعْتِقَادِ وَجَبَ عَلَى الْقَلْبِ الْعَقْدُ ضَرُورَةً وَهَذَا إذَا حَاجَّ نَفْسَهُ فَإِنْ حَاجَّ غَيْرَهُ فَالْمُقْتَضَى عَلَيْهِ ذَلِكَ الْغَيْرُ؛ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ الِانْقِيَادُ وَالتَّسْلِيمُ لَهُ وَلَا بُدَّ مِنْ حَكَمٍ هُوَ بِمَعْنَى الْقَاضِي، وَهُوَ الْقَلْبُ يَحْكُمُ بَعْدَ فَهْمِهِ تَأْثِيرَ وَصْفٍ فِي حُكْمٍ بِثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِنَاءً عَلَيْهِ كَالْقَاضِي فِي الْخُصُومَاتِ يَقْضِي بَعْدَ فَهْمِ الشَّهَادَةِ بِثُبُوتِ الْمَشْهُودِ بِهِ بِنَاءً عَلَى الشَّهَادَةِ. (فَإِنْ قِيلَ) قَدْ صَارَ الْقَلْبُ مَحْكُومًا عَلَيْهِ فِيمَا إذَا حَاجَّ نَفْسَهُ فَكَيْفَ يَصْلُحُ حَاكِمًا بَعْدُ وَبَيْنَهُمَا تَبَايُنٌ. (قُلْنَا) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ هُوَ الْبَدَنُ حَقِيقَةً وَقَصْدًا وَالْقَلْبُ صَارَ مُقْتَضَيًا عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الضِّمْنِ وَالضَّرُورَةِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ كَوْنِهِ حَاكِمًا كَالْقَاضِي إذَا قَضَى

[ثبوت القياس وأنواعه]

وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بَقِيَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وِلَايَةُ الدَّفْعِ كَمَا فِي سَائِرِ الشَّهَادَاتِ هَذَا مَذْهَبُ عَامَّةِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ التَّابِعِينَ وَالصَّالِحِينَ وَعُلَمَاءِ الدِّينِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ؛ فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ بِالرَّأْيِ عَلَى الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ لِتَعْدِيَةِ أَحْكَامِهَا إلَى مَا لَا نَصَّ فِيهِ مَدْرَكٌ مِنْ مَدَارِك أَحْكَامِ الشَّرْعِ لَا حُجَّةٌ لِإِثْبَاتِهَا ابْتِدَاءً، وَقَالَ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ: إنَّ الْقِيَاسَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَالْعَمَلُ بِهِ بَاطِلٌ، وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد الْأَصْبَهَانِيُّ وَغَيْرِهِ وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا دَلِيلَ مِنْ قِبَلِ الْعَقْلِ أَصْلًا وَالْقِيَاسُ قِسْمٌ مِنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا عَمَلَ لِدَلِيلِ الْعَقْلِ إلَّا فِي الْأُمُورِ الْعَقْلِيَّةِ دُونَ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ دَلِيلٌ ضَرُورِيٌّ وَلَا ضَرُورَةَ بِنَا إلَيْهِ لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQبِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي بَعْدَ ظُهُورِ الْحُجَّةِ صَارَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ قَصْدًا وَصَارَ هُوَ بِنَفْسِهِ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ ضِمْنًا حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ مِنْ دَعْوَاهُ لِنَفْسِهِ بَعْدَمَا حُكِمَ بِهِ لِلْمُدَّعِي وَكَمَا لَوْ قَضَى بِثُبُوتِ الرَّمَضَانِيَّةِ تَصِيرُ الْعَامَّةُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِمْ قَصْدًا وَنَفْسُهُ مُقْتَضَيًا عَلَيْهَا ضِمْنًا حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مِثْلُ الْعَامَّةِ فِي وُجُوبِ التَّكْلِيفِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ أَيْ الْقِيَاسُ بِشَرَائِطِهِ بَقِيَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وِلَايَةُ الدَّفْعِ كَمَا فِي سَائِرِ الشَّهَادَاتِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْإِلْزَامِ يَتَبَيَّنُ بِالْعَجْزِ عَنْ الدَّفْعِ وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ مَوْلَانَا شَمْسُ الدِّينِ الْكَرْدَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِثَالًا لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ فَقَالَ: الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ نَاقِضٌ لِلطَّهَارَةِ وَالشَّاهِدُ قَوْله تَعَالَى {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] وَصَلَاحِيَّتُهُ لِلشَّهَادَةِ كَوْنُهُ غَيْرَ مَخْصُوصٍ بِنَصٍّ آخَرَ وَشَهَادَتُهُ دَلَالَةُ وَصْفَيْ النَّجَاسَةِ وَالْخُرُوجِ عَلَى الِانْتِقَاضِ وَعَدَالَةُ الْوَصْفَيْنِ ظُهُورُ أَثَرِهِمَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ النَّصِّ بِالِاتِّفَاقِ كَوُجُوبِ غَسْلِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ إذَا تَعَدَّتْ عَنْ الْمَخْرَجِ وَانْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ بِالْخَارِجِ مِنْ السُّرَّةِ وَالطَّالِبُ هُوَ الْقَائِسُ وَالْمَطْلُوبُ انْتِقَاضُ الطَّهَارَةِ وَالْحَكَمُ الْقَلْبُ وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ الْبَدَنُ أَوْ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إلَّا أَنْ يُعَارِضَهُ نَفْسُهُ أَوْ الْخَصْمُ بِأَنَّ هَذَا وَإِنْ دَلَّ عَلَى الِانْتِقَاضِ إلَّا أَنَّ دَلِيلًا آخَرَ يَمْنَعُ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَاءَ فَلَمْ يَتَوَضَّأْ أَوْ احْتَجَمَ فَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَأَمْثَالُهُ. [ثُبُوت الْقِيَاس وَأَنْوَاعه] قَوْلُهُ (هَذَا) أَيْ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِيَاسَ مَدْرَكٌ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ مَذْهَبُ عَامَّةِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَيْ جَمِيعِهِمْ لِتَعْدِيَةِ أَحْكَامِهَا إلَى مَا لَا نَصَّ فِيهِ أَيْ لِإِثْبَاتِ مِثْلِ حُكْمِ النَّصِّ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ وَالْمُرَادُ مِنْ التَّعْدِيَةِ الْإِظْهَارُ وَاعْلَمْ أَنَّ الْقِيَاسَ نَوْعَانِ عَقْلِيٌّ وَشَرْعِيٌّ فَالْعَقْلِيُّ مَا اُسْتُعْمِلَ فِي أُصُولِ الدِّيَانَاتِ. وَقِيلَ فِي حَدِّهِ: هُوَ رَدُّ غَائِبٍ إلَى شَاهِدٍ لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ حُجَّةٌ وَطَرِيقٌ لِمَعْرِفَةِ الْعَقْلِيَّاتِ عِنْدَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ سِوَى طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْإِمَامِيَّةِ مِنْ الرَّوَافِضِ وَالْحَنَابِلَةِ الْمُشَبِّهَةِ وَالْخَوَارِجِ إلَّا النَّجْدَاتِ مِنْهُمْ وَهَؤُلَاءِ أَنْكَرُوا الْقِيَاسَ الشَّرْعِيَّ أَيْضًا سِوَى الْحَنَابِلَةِ؛ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوهُ حُجَّةً فِي الْفُرُوعِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ حُدُوثِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَا يُوجَدُ حُكْمُهَا فِي الْكِتَابِ بِخِلَافِ الْعَقْلِيَّاتِ؛ فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِيهَا لِوُجُودِهَا فِي الْكِتَابِ. وَأَمَّا الشَّرْعِيُّ فَهُوَ الْقِيَاسُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا تَفْسِيرَهُ وَالْخِلَافُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: فِي جَوَازِ التَّعْدِيَةِ عَقْلًا وَفِي وُقُوعِهِ شَرْعًا، فَعِنْدَ جَمِيعِ أَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ هُوَ جَائِزٌ عَقْلًا وَوَاقِعٌ سَمْعًا، وَقَالَتْ الشِّيعَةُ كُلُّهَا وَالْخَوَارِجُ سِوَى النَّجْدَاتِ مِنْهُمْ وَإِبْرَاهِيمَ النَّظَّامُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ مُعْتَزِلَةِ بَغْدَادَ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِهِ مُمْتَنِعٌ عَقْلًا وَهُمْ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَغَيْرِهِمْ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ دَاوُد بْنُ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيُّ وَابْنُهُ مُحَمَّدٌ وَجَمِيعُ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ وَالْقَاشَانِيُّ وَالنَّهْرَوَانِيّ: إنَّهُ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ عَقْلًا؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَوْ قَالَ مَثَلًا تَعَبَّدْتُكُمْ بِالْقِيَاسِ فَمَهْمَا غَلَبَ عَلَى ظُنُونِكُمْ أَنَّ الْحُكْمَ تَعَلَّقَ بِعِلَّةٍ فِي صُورَةٍ وَإِنَّهَا مُتَحَقِّقَةٌ فِي صُورَةٍ أُخْرَى فَقِيسُوهَا عَلَيْهَا لَا يَلْزَمُ مِنْهُ اسْتِحَالَةٌ وَلَكِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِالتَّعَبُّدِ بِهِ بَلْ مَنَعَ مِنْ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ فَكَانَ بَاطِلًا وَاتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِوُرُودِ التَّعَبُّدِ بِهِ سَمْعًا عَلَى أَنَّ الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ بِتَعَبُّدٍ بِهِ قَطْعِيٌّ سِوَى أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: هُوَ ظَنِّيٌّ، وَلِهَذَا عَدَلَ عَنْ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ إلَى دَلِيلِ الْعَقْلِ، وَقَالَ الْعَقْلُ يُوجِبُ

وَاحْتَجَّ مَنْ أَبْطَلَ الْقِيَاسَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] وقَوْله تَعَالَى {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] وَمَنْ جَعَلَ الْقِيَاسَ حُجَّةً لَمْ يَجْعَلْ الْكِتَابَ كَافِيًا. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَمْ يَزَلْ أَمْرُ بَنِي إسْرَائِيلَ مُسْتَقِيمًا حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمْ أَوْلَادُ السَّبَايَا فَقَاسُوا مَا لَمْ يَكُنْ بِمَا قَدْ كَانَ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّعَبُّدَ بِالْأَقْيِسَةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ لَا تَفِي بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ لِتَنَاهِيهَا وَعَدَمِ تَنَاهِي الْأَحْكَامِ فَقَضَى الْعَقْلُ بِوُجُوبِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ تَحَرُّزًا عَنْ خُلُوِّ الْوَقَائِعِ عَنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِلَى وُجُوبِ التَّعَبُّدِ بِالْعَقْلِ ذَهَبَ الْقَفَّالُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا كَذَا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ، ثُمَّ قَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا دَلِيلَ مِنْ قِبَلِ الْعَقْلِ أَصْلًا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِ مَنْ أَنْكَرَ الْقِيَاسَ الْعَقْلِيَّ فِي أُصُولِ الدِّينِ. وَأَنْكَرَ جَوَازَ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ فِي فُرُوعِهِ عَقْلًا، وَهُمْ الْإِمَامِيَّةُ وَالْخَوَارِجُ. وَقَوْلُهُ الْقِيَاسُ قِسْمٌ مِنْهُ أَيْ مِنْ دَلِيلِ الْعَقْلِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي إشَارَةٌ إلَى قَوْلِ مَنْ أَثْبَتَ الْقِيَاسَ الْعَقْلِيَّ وَنَفَى الْقِيَاسَ الشَّرْعِيَّ عَقْلًا، وَهُمْ بَقِيَّةُ الشِّيعَةِ وَالنَّظَّامُ وَمُتَابِعُوهُ، وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إشَارَةً إلَى قَوْلِ مَنْ أَنْكَرَ وُقُوعَهُ سَمْعًا كَدَاوُد وَمُتَابِعِيهِ؛ فَإِنَّ الْقِيَاسَ لَمَّا كَانَ دَلِيلًا ضَرُورِيًّا عِنْدَ هَذَا الْبَعْضِ لَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعًا لَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَرِدْ نَصٌّ يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِهِ مَعَ وُجُودِ الِاسْتِصْحَابِ وَتَرَجُّحِهِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مَعْمُولًا بِهِ بَلْ يَكُونُ سَاقِطًا بِالِاسْتِصْحَابِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إشَارَةً إلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ الْقَائِلِينَ بِامْتِنَاعِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ عَقْلًا؛ فَإِنَّهُمْ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى امْتِنَاعِهِ عَقْلًا اخْتَلَفُوا فِي مَأْخَذِ الِامْتِنَاعِ الْعَقْلِيِّ عَلَى مَا عُرِفَ فَعِنْدَ فَرِيقٍ مِنْهُمْ الِامْتِنَاعُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِالدَّلِيلِ الْأَضْعَفِ الضَّرُورِيِّ عَلَى مُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ الْأَقْوَى الْأَصْلِيِّ مِمَّا يَرُدُّهُ الْعَقْلُ، وَقَدْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلِ الْأَقْوَى فِي مَحَلِّ الْقِيَاسِ، وَهُوَ الْأَصْلُ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ ظَنِّيٌّ عَلَى خِلَافِهِ كَمَا لَوْ وُجِدَ هُنَاكَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ. قَوْلُهُ (وَاحْتَجَّ مَنْ أَبْطَلَ الْقِيَاسَ) إلَى آخِرِهِ تَمَسَّكَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ بِآيَاتٍ مِنْ الْكِتَابِ مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] أَيْ مَا تَرَكْنَا مِنْ شَيْءٍ إلَّا وَقَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ مِمَّا بِكُمْ إلَيْهِ حَاجَةٌ، وقَوْله تَعَالَى {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] ذَكَرَ الرَّطْبَ وَالْيَابِسَ لِلتَّعْمِيمِ كَمَا يُقَالُ مَا تَرَكَ فُلَانٌ مِنْ رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إلَّا جَمَعَهُ وَقَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] مِنْ أُمُورِ الشَّرْعِ إذْ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ كُلِّ الْأَشْيَاءِ فَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ بَيَانَ الْأَحْكَامِ كُلِّهَا فِي الْكِتَابِ إمَّا فِي نَصِّهِ أَوْ إشَارَتِهِ أَوْ دَلَالَتِهِ أَوْ اقْتِضَائِهِ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي شَيْءٍ هَاهُنَا فَالْإِبْقَاءُ عَلَى الْأَصْلِ الثَّابِتِ مِنْ وُجُودٍ أَوْ عَدَمٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] الْآيَةَ فَقَدْ أَمَرَهُ بِالِاحْتِجَاجِ بِعَدَمِ نُزُولِ التَّحْرِيمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لِبَقَاءِ الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَيَصِيرُ عَلَى هَذَا بَيَانُ كُلِّ الْأَحْكَامِ مِنْ رَطْبٍ وَيَابِسٍ مَوْجُودًا فِي الْكِتَابِ كَمَا قِيلَ (ش) : جَمِيعُ الْعِلْمِ فِي الْقُرْآنِ لَكِنْ ... تَقَاصَرَ عَنْهُ أَفْهَامُ الرِّجَالِ فَيَكُونُ الْقِيَاسُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، فَمَنْ جَعَلَهُ حُجَّةً لَمْ يَجْعَلْ الْكِتَابَ كَافِيًا فِي الْإِبَانَةِ وَالتِّبْيَانِ وَتَعَلَّقُوا بِالْأَخْبَارِ أَيْضًا مِثْلِ حَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَمْ يَزَلْ أَمْرُ بَنِي إسْرَائِيلَ مُسْتَقِيمًا حَتَّى حَدَثَ فِيهِمْ أَوْلَادُ السَّبَايَا فَأَفْتَوْا بِرَأْيِهِمْ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «فَقَاسُوا مَا لَمْ يَكُنْ بِمَا قَدْ كَانَ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» السَّبَايَا جَمْعُ سَبِيَّةٍ بِمَعْنَى مَسْبِيَّةٍ وَأَرَادَ بِهَا الْجَوَارِيَ أَيْ اتَّخَذُوا الْجَوَارِيَ سَرِيَّاتٍ فَوَلَدْنَ لَهُمْ أَوْلَادًا لَيْسُوا بِنُجَبَاءَ إذْ النَّجَابَةُ مِنْ قَبِيلِ الْأُمَّهَاتِ فَصَدَرَ مِنْهُمْ مَا يُفْضِي إلَى الضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ وَمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «تَعْمَلُ هَذِهِ الْأُمَّةُ بُرْهَةً بِكِتَابِ اللَّهِ وَبُرْهَةً بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَبُرْهَةً بِالرَّأْيِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَلُّوا» وَمِثْلِ مَا رَوَى

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِمَعْنًى فِي الدَّلِيلِ وَلِمَعْنًى فِي الْمَدْلُولِ أَمَّا الدَّلِيلُ فَشُبْهَةٌ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يَنْطِقْ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَوْصَافِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ وَالْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَصِحُّ إثْبَاتُهُ بِمَا هُوَ شُبْهَةٌ فِي الْأَصْلِ مَعَ كَمَالِ قُدْرَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَأَمَّا الَّذِي فِي الْمَدْلُولِ فَلِأَنَّ الْمَدْلُولَ طَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يُطَاعُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعُقُولِ وَالْآرَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ الشَّرَائِعِ مَا لَا يُدْرَكُ بِالْعُقُولِ مِثْلُ الْمُقَدَّرَاتِ وَمِنْهَا مَا يُخَالِفُ الْمَعْقُولَ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً أَضَرُّهَا عَلَى أُمَّتِي قَوْمٌ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِآرَائِهِمْ فَيُحَلِّلُونَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ» وَمِثْلُ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ النَّاسِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ فَإِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» وَالْفَتْوَى بِالرَّأْيِ فَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ؛ فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءُ الدِّينِ أَعْيَتْهُمْ السُّنَّةُ أَيْ لَمْ يَحْفَظُوهَا فَقَالُوا بِرَأْيِهِمْ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إيَّاكُمْ وَأَرَأَيْت وَأَرَأَيْت؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فِي أَرَأَيْت وَأَرَأَيْت وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إنْ عَمِلْتُمْ فِي دِينِكُمْ بِالْقِيَاسِ أَحْلَلْتُمْ كَثِيرًا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَحَرَّمْتُمْ كَثِيرًا مِمَّا أَحَلَّ اللَّهُ وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إبْلِيسُ وَمَا عُبِدَتْ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إلَّا بِالْمَقَايِيسِ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَا حَدَّثُوك عَنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَدِّثْهُ وَمَا أَخْبَرُوا عَنْ رَأْيِهِمْ فَأَلْقِهِ فِي الْحَشِّ، وَعَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَقِيسُ شَيْئًا إنِّي أَخَافُ أَنْ تَزِلَّ قَدَمِي بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارُ كَثِيرَةٌ. 1 - قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَكَذَا) وَتَمَسَّكُوا بِوُجُوهٍ مِنْ الْمَعْقُولِ مِنْهَا مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِمَعْنًى فِي الدَّلِيلِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ وَلِمَعْنًى فِي الْمَدْلُولِ، وَهُوَ مَا ثَبَتَ بِهِ مِنْ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، أَمَّا الدَّلِيلُ أَيْ الْمَعْنَى الَّذِي فِي الدَّلِيلِ فَشُبْهَةٌ فِي الْأَصْلِ أَيْ أَصْلِ الْقِيَاسِ وَاحْتُرِزَ بِهِ عَنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ كَمَا سَنُقَرِّرُهُ؛ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يَنْطِقْ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَوْصَافِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ يَعْنِي أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ صَرِيحًا وَلَا إشَارَةً وَلَا دَلَالَةً وَلَا اقْتِضَاءً بَلْ امْتَازَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَوْصَافِ بِالرَّأْيِ الَّذِي لَا يَنْفَكُّ عَنْ احْتِمَالِ الْغَلَطِ وَالْخَطَأِ، وَلِهَذَا تَرَى الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي عِلَّةِ نَصٍّ وَاحِدٍ مِثْلُ اخْتِلَافِهِمْ فِي عِلَّةِ الرِّبَا وَالْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ بِالْقِيَاسِ مِنْ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ وَالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِمِثْلِ هَذَا الدَّلِيلِ الَّذِي فِي أَصْلِهِ شُبْهَةٌ؛ لِأَنَّ مَنْ لَهُ الْحَقُّ مَوْصُوفٌ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ يَتَعَالَى عَنْ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ الْعَجْزُ وَالْحَاجَةُ إلَى إثْبَاتِ حَقِّهِ بِمَا فِيهِ شُبْهَةٌ بِخِلَافِ أَخْبَارِ الْآحَادِ؛ فَإِنَّ أَصْلَهَا قَوْلُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ حُجَّةٌ مُوجِبَةٌ لِلْعِلْمِ قَطْعًا، وَإِنَّمَا تَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فِي طَرِيقِ الِانْتِقَالِ إلَيْنَا فَيُؤَثِّرُ تَمَكُّنُ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فِي انْتِفَاءِ الْيَقِينِ وَلَا يَخْرُجُ الْخَبَرُ بِهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً مُوجِبَةً لِلْعَمَلِ كَالنَّصِّ الْمُؤَوَّلِ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً بِالشُّبْهَةِ الْمُتَمَكِّنَةِ فِيهِ بِتَأْوِيلِنَا وَبِخِلَافِ حُقُوقِ الْعِبَادِ؛ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ بِدَلِيلٍ فِي أَصْلِهِ شُبْهَةٌ لِعَجْزِهِمْ عَنْ إثْبَاتِهَا بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ. أَمَّا الَّذِي فِي الْمَدْلُولِ فَهُوَ أَنَّ الْمَدْلُولَ طَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ وَقَبُولُ الدِّينِ بِجَمِيعِ أَحْكَامِهِ مِنْ بَابِ الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ لِلْعُبُودِيَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] وَلَا يُطَاعُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعُقُولِ وَالْآرَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَدَاءُ الطَّاعَةِ إلَّا بِكَمِّيَّةٍ وَكَيْفِيَّةٍ وَلَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي مَعْرِفَةِ كَمِّيَّةِ الطَّاعَةِ وَكَيْفِيَّتِهَا وَلَا لِلْعَقْلِ وُقُوفٌ عَلَى حُسْنِ الْمَشْرُوعِ وَقُبْحِهِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ الْوُقُوفُ عَلَى ذَلِكَ إجْمَالًا لَا كَحُسْنِ شُكْرٍ الْمُنْعِمِ وَقُبْحِ الْكُفْرِ بِهِ بَلْ طَرِيقُ الطَّاعَةِ هُوَ الِابْتِلَاءُ، أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ الشَّرَائِعِ

وَلَا يَلْزَمُ أَمْرُ الْحُرُوبِ وَدَرْكُ الْكَعْبَةِ وَتَقْوِيمُ الْمُتْلَفَاتِ أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ أَمَّا غَيْرُ الْقِبْلَةِ فَلَا يُشْكِلُ، وَأَمَّا الْقِبْلَةُ فَأَصْلُهُ مَعْرِفَةُ أَقَالِيمِ الْأَرْضِ وَذَلِكَ حَقُّ الْعِبَادِ فَبُنِيَ عَلَى وُسْعِهِمْ، وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَلِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ إنَّمَا تُعْقَلُ بِوُجُوهٍ مَحْسُوسَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ قِيَمَ الْمُتْلَفَاتِ وَمُهُورَ النِّسَاءِ وَأُمُورَ الْحَرْبِ تُعْقَلُ بِالْأَسْبَابِ الْحِسِّيَّةِ وَكَذَلِكَ الْقِبْلَةُ وَكَانَ يَقِينًا بِأَصْلِهِ عَلَى مِثَالِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا لَا يُدْرَكُ أَلْبَتَّةَ بِالْعُقُولِ مِثْلُ الْمُقَدَّرَاتِ كَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَمَقَادِيرِ الزَّكَوَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَمِنْهُ أَيْ مِنْ الْمَشْرُوعِ أَوْ مِنْ الْمَذْكُورِ وَهُوَ الشَّرَائِعُ مَا يُخَالِفُ الْمَعْقُولَ أَيْ الْقِيَاسَ الظَّاهِرَ وَالدَّلِيلَ الظَّاهِرَ الَّذِي عُرِفَ أَصْلًا فِي الشَّرْعِ وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ يُخَالِفُ دَلِيلَ الْعَقْلِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْعَقْلَ يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ مِنْ حُجَجِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاقَضَا بِوَجْهٍ وَذَلِكَ مِثْلُ بَقَاءِ الصَّوْمِ مَعَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ نَاسِيًا وَبَقَاءِ الصَّلَاةِ مَعَ السَّلَامِ فِي الْقَعْدَةِ سَاهِيًا وَبَقَاءِ الطَّهَارَةِ مَعَ سَلَسِ الْبَوْلِ وَأَشْبَاهِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ بِالرَّأْيِ فَيَكُونُ الْعَمَلُ فِيهِ بِالرَّأْيِ عَمَلًا بِالْجَهَالَةِ لَا بِالْعِلْمِ فَلَا يُمْكِنُ إعْمَالُ الرَّأْيِ فِيهِ وَبِمِثْلِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ تَعَلَّقَ النَّظَّامُ فَقَالَ: مَدَارُ الشَّرْعِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ فِي الْأَحْكَامِ كَإِيجَابِ الْغُسْلِ بِالْمَنِيِّ دُونَ الْبَوْلِ الَّذِي هُوَ مِثْلُهُ بَلْ أَنْجَسُ مِنْهُ وَكَإِيجَابِ الْقَطْعِ عَلَى سَارِقِ الْقَلِيلِ دُونَ غَاصِبِ الْكَثِيرِ. وَكَإِيجَابِ الْجَلْدِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا دُونَ النِّسْبَةِ إلَى الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ الَّذِي هُوَ أَغْلَظُ مِنْهُ وَكَإِيجَابِ الْقَتْلِ بِشَاهِدَيْنِ دُونَ إيجَابِ حَدِّ الزِّنَا بِهِمَا مَعَ أَنَّ الزِّنَا دُونَ الْقَتْلِ وَكَإِثْبَاتِ الْإِحْصَانِ بِالْحُرَّةِ الشَّيْخَةِ الشَّوْهَاءِ وَعَدَمِ إثْبَاتِهِ بِمِائَةٍ مِنْ الْجَوَارِي الْحِسَانِ وَكَتَحْرِيمِ النَّظَرِ إلَى شَعْرِ الشَّيْخَةِ الشَّوْهَاءِ وَإِبَاحَتِهِ إلَى شَعْرِ الْأَمَةِ الْحَسْنَاءِ، وَكَإِبَاحَةِ النَّظَرِ إلَى وَجْهِ الْحُرَّةِ الْحَسْنَاءِ وَتَحْرِيمِهِ إلَى شَعْرِهَا مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي تَهْيِيجِ الشَّهْوَةِ بَلْ رُبَّمَا يَكُونُ تَهَيُّجُهَا عِنْدَ النَّظَرِ إلَى الْوَجْهِ أَكْثَرَ مِنْهُ عِنْدَ النَّظَرِ إلَى الشَّعْرِ. وَعَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الرِّدَّةِ وَالزِّنَا فِي إيجَابِ الْقَتْلِ وَكَالْجَمْعِ بَيْنَ قَتْلِ الصَّيْدِ عَمْدًا وَخَطَأً فِي إيجَابِ الضَّمَانِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْمُظَاهِرِ وَالْمُفْطِرِ عَمْدًا فِي إيجَابِ الرَّقَبَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اسْتَحْلَلَ وُرُودَ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ مِنْ الشَّارِعِ لِكَوْنِهِ وَارِدًا عَلَى خِلَافِ مَوْضُوعِ الشَّرْعِ؛ فَإِنَّ قَضِيَّةَ الْعَقْلِ وَالْقِيَاسِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ فِي أَحْكَامِهَا وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ فِي أَحْكَامِهَا. 1 - قَوْلُهُ (وَلَا يَلْزَمُ أَمْرُ الْحُرُوبِ) جَوَابٌ عَمَّا يَرِدُ نَقْضًا عَلَى الْوَجْهَيْنِ؛ فَإِنَّ الرَّأْيَ مَعَ احْتِمَالِهِ لِلْخَطَأِ وَالْغَلَطِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْحُرُوبِ بِالِاتِّفَاقِ وَهِيَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَأَرْكَانِهِ. وَكَذَا يُسْتَعْمَلُ فِي دَرْكِ الْكَعْبَةِ عِنْدَ الْبُعْدِ عَنْهَا وَعِنْدَ اشْتِبَاهِ الْقِبْلَةِ وَهُوَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَكَذَا قِيَمُ الْمُتْلَفَاتِ تُعْرَفُ بِالرَّأْيِ عِنْدَ إيجَابِ ضَمَانِهَا، وَهُوَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ فَعَرَفْنَا أَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ يَثْبُتُ بِمَا فِيهِ شُبْهَةٌ فَيُنْتَقَضُ بِهِ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يُطَاعُ بِالرَّأْيِ فَيَفْسُدُ بِهِ الْوَجْهُ الثَّانِي فَقَالُوا: مَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ بِلَازِمٍ عَلَيْنَا. أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ الْمُدَّعَى اسْتِحَالَةُ إثْبَاتِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى بِالرَّأْيِ دُونَ حُقُوقِ الْعِبَادِ؛ فَإِنَّهُ يَلِيقُ بِحَالِهِمْ الْعَجْزُ وَالِاشْتِبَاهُ فِيمَا يَعُودُ إلَى مَصَالِحِهِمْ الْعَاجِلَةِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْوُسْعُ لِيَتَيَسَّرَ عَلَيْهِمْ الْوُصُولُ إلَى مَقَاصِدِهِمْ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِالرَّأْيِ، أَمَّا غَيْرُ الْقِبْلَةِ فَلَا يُشْكِلُ لَأَنْ يَقَعَ تَقْوِيمُ الْمُتْلَفَاتِ رَاجِعٌ إلَيْهِمْ فِي الْعَاجِلَةِ؛ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ الِانْتِصَافِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ مَصَالِحُ الْعِبَادِ فِي الدُّنْيَا. وَكَذَا أَمْرُ الْحُرُوبِ فَإِنَّهُمْ يَدْفَعُونَ بِهِ ضُرًّا عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَوْ يَجُرُّونَ نَفْعًا إلَيْهَا فَيَكُونُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَأَمَّا الْقِبْلَةُ أَيْ دَرْكُهَا فَأَصْلُهُ بِمَعْرِفَةِ أَقَالِيمِ الْأَرْضِ؛ فَإِنَّ جِهَةَ الْقِبْلَةِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ وَالْأَقَالِيمِ، وَذَلِكَ أَيْ عِرْفَانُ

وَحَصَلَ بِمَا قُلْنَا الْمُحَافَظَةُ عَلَى النُّصُوصِ بِمَعَانِيهَا وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْأَصْلِ مَوَاضِعَ الْقِيَاسِ مُمْكِنٌ وَذَلِكَ دَلِيلٌ دُعِينَا إلَى الْعَمَلِ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] الْآيَةَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أُمُورِ الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْأَصْلِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَكَذَلِكَ أَمْرُ الْقِبْلَةِ فَعَمِلْنَا بِالِاجْتِهَادِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الِاعْتِبَارُ بِمَنْ مَضَى مِنْ الْقُرُونِ فِي الْمَثُلَاتِ وَالْكَرَامَاتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ يُعْقَلُ بِالْحِسِّ وَالْعِيَانِ وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ مِنْ الْأَمْرِ بِالِاعْتِبَارِ عَلَى أَمْرِ الْحَرْبِ يُحْمَلُ مُشَاوَرَةُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلِعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّةِ الْهُدَى الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالدَّلِيلُ الْمَعْقُولُ وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى وَأَوْضَحُ مِنْ أَنْ يَخْفَى وَإِنَّمَا نَذْكُرُ طَرَفًا مِنْهُ تَبَرُّكًا وَاقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَقَالِيمِ الْأَرْضِ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ لِاحْتِيَاجِهِمْ إلَى مَعْرِفَتِهَا فِي أَسْفَارِهِمْ لِلتِّجَارَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَصَالِحِ فَبُنِيَ عِرْفَانُهَا عَلَى وُسْعِهِمْ لِحَاجَتِهِمْ فَلِذَلِكَ صَحَّ اسْتِعْمَالُ الرَّأْيِ فِي دَرْكِ الْقِبْلَةِ لِاضْطِرَارِهِمْ وَعَجْزِهِمْ بِخِلَافِ حَقِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ؛ فَإِنَّهُ مَوْصُوفٌ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِمَا فِي أَصْلِهِ شُبْهَةٌ وَأُجِيبَ عَنْهُ أَيْضًا بِأَنَّ التَّنْصِيصَ إنَّمَا يُشْتَرَطُ فِيمَا لَا امْتِنَاعَ فِي التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ كَأَحْكَامِ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ دُونَ مَا يَمْتَنِعُ فِيهِ التَّنْصِيصُ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَوْقَاتِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالِاعْتِبَارَاتِ فَالتَّنْصِيصُ عَلَيْهَا كَالتَّنْصِيصِ عَلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَهُوَ مُحَالٌ فَاعْتُبِرَ فِيهَا الرَّأْيُ ، وَأَمَّا الثَّانِي أَيْ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُدْرَكُ بِالْعُقُولِ فَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرْتُمْ أَيْضًا لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ إنَّمَا تُعْقَلُ بِوُجُوهٍ مَحْسُوسَةٍ؛ فَإِنَّ قِيمَةَ الْمُتْلَفِ تُعْرَفُ بِالنَّظَرِ إلَى مِثْلِهِ فِي الصِّفَاتِ وَكَذَا مَهْرُ الْمَرْأَةِ يُعْرَفُ بِالنَّظَرِ إلَى مِثْلِهَا فِي الْأَوْصَافِ الَّتِي يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا، وَكَذَا الْمَقْصُودُ مِنْ الْحَرْبِ صِيَانَةُ النَّفْسِ عَنْ التَّلَفِ أَوْ قَهْرُ الْخَصْمِ وَأَصْلُ ذَلِكَ مَحْسُوسٌ مِثْلُ التَّوَقِّي عَنْ السُّمِّ وَعَنْ الْوُقُوعِ عَلَى السَّيْفِ وَالسِّكِّينِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ ذَلِكَ مُتْلِفٌ. وَكَذَا جِهَةُ الْكَعْبَةِ مَحْسُوسَةٌ فِي حَقِّ مَنْ عَايَنَهَا وَبَعْدَ الْبُعْدِ مِنْهَا قَدْ يَصِيرُ كَالْمَحْسُوسَةِ بِالنَّظَرِ فِي دَلَائِلِهَا فَكَانَ إعْمَالُ الرَّأْيِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي مَعْنَى الْعَمَلِ بِمَا لَا شُبْهَةَ فِي أَصْلِهِ بِمَنْزِلَةِ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْجَوَابُ لَا يُطَابِقُ وُرُودَ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّ الرَّأْيَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُسْتَنِدٌ إلَى الْحِسِّ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ مُسْتَنِدٌ إلَى قَوْلِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَكِنْ لَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ كَوْنِهِ رَأْيًا مُسْتَعْمَلًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ ذَكَرْتُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُطَاعُ بِالرَّأْيِ، وَإِنَّمَا يُطَابِقُ وُرُودَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا اسْتَنَدَ إلَى الْحِسِّ لَمْ يَبْقَ شُبْهَةٌ فِي أَصْلِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَلَهُمْ أَنْ يُجِيبُوا وَإِنْ كَانَ لَا يَخْلُو عَنْ ضَعْفٍ بِأَنَّ أَصْلَهَا لَمَّا اسْتَنَدَ إلَى الْحِسِّ صَارَ مُلْحَقًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَكَانَ الثَّابِتُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَمْ يَكُنْ طَاعَةً بِالرَّأْيِ بَلْ بِالنَّصِّ تَقْدِيرًا، وَكَأَنَّ الشَّيْخَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ عَلَى مِثَالِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا قُلْنَا وَالْأَوْلَى أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِالْجَوَابِ الْأَوَّلِ فَيَقُولُوا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنْ قِبَلِ الطَّاعَةِ بَلْ هِيَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَمَا قَرَّرْنَا فَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِيهَا الرَّأْيُ. وَحَصَلَ بِمَا قُلْنَا أَيْ بِالْمَنْعِ مِنْ الْقِيَاسِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى النُّصُوصِ بِمَعَانِيهَا أَيْ مَعَ مَعَانِيهَا؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْعَ عَنْ الْقِيَاسِ احْتَاجَ عَنْ التَّأَمُّلِ فِي مَعَانِي النُّصُوصِ لِاسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ قَالُوا: وَفِي الْحَجْرِ عَنْ الْقِيَاسِ أَمْرَانِ أَنَّ بِهِمَا قِوَامُ الدِّينِ وَنَجَاةُ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّا مَتَى حَجَرْنَا عَنْ الْقِيَاسِ لَزِمَنَا الْمُحَافَظَةُ عَلَى النُّصُوصِ وَالتَّبَحُّرُ فِي مَعَانِي اللِّسَانِ، وَفِي مُحَافَظَةِ النُّصُوصِ إظْهَارُ قَالَبِ الشَّرِيعَةِ كَمَا شُرِعَتْ، وَفِي التَّبَحُّرِ فِي مَعَانِي اللِّسَانِ إثْبَاتُ حَيَاةِ الْقَالَبِ فَتَمُوتُ الْبِدَعُ بِظُهُورِ الْقَالِبِ؛ فَإِنَّ عِنْدَ ظُهُورِهِ يَتَبَيَّنُ الزَّيْغُ الَّذِي هُوَ بِدْعَةٌ عَنْ الْحَقِّ وَيَسْقُطُ الْهَوَى بِحَيَاةِ الْقَالِبِ لِأَنَّ الْقَالِبَ لَا يَحْيَى إلَّا بِاسْتِعْمَالِ الرَّأْيِ فِي مَعَانِي النُّصُوصِ وَمَعَانِيهَا غَائِرَةٌ جُمَّةٌ لَنْ تَنْزِفَ بِالرَّأْيِ، وَإِنْ فَنِيَتْ الْأَعْمَارُ فِيهَا فَلَا يَفْضُلُ الرَّأْيُ لِلْهَوَى فَيَتِمُّ أَمْرُ الدِّينِ بِمَوْتِ الْبِدَعِ وَيَسْتَقِيمُ الْعَمَلُ بِسُقُوطِ الْهَوَى وَفِيهَا الْفَوْزُ وَالنَّجَاةُ لِلنَّاسِ، ثُمَّ ذَكَرَ الشَّيْخُ

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وَالِاعْتِبَارُ رَدُّ الشَّيْءِ إلَى نَظِيرِهِ وَالْعِبْرَةُ الْبَيَانُ ـــــــــــــــــــــــــــــQجَوَابًا آخَرَ لَهُمْ عَنْ وُرُودِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَقَالَ: وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْأَصْلِ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ مُمْكِنٌ فِي مَوَاضِعِ الْقِيَاسِ وَذَلِكَ أَيْ الْأَصْلُ دَلِيلٌ دُعِينَا إلَى الْعَمَلِ بِهِ شَرْعًا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] الْآيَةَ فَمَعَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِهِ لَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَى مَا دُونَهُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَيْ لِمَوْضِعِ الْقِيَاسِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَمْرِ الْحُرُوبِ وَغَيْرِهَا مِنْ قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ وَمُهُورِ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْأَصْلِ فِيهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الضَّمَانُ أَوْ الْمَهْرُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَلَا يَجِبُ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ قَدْ ثَبَتَ قَطْعًا، وَكَذَا لَيْسَ فِي الْحَرْبِ وَالْقَتْلِ أَصْلٌ نَسْتَصْحِبُهُ وَنَعْمَلُ بِهِ فَإِذَا لَمْ نَجِدْ طَرِيقًا آخَرَ نَعْمَلُ بِهِ جَوَّزْنَا الْعَمَلَ بِالِاجْتِهَادِ فِيهَا لِلضَّرُورَةِ. ، ثُمَّ أَجَابَ عَنْ سُؤَالٍ آخَرَ يَرِدُ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ عَمَّنْ مَضَى مِنْ الْقُرُونِ وَإِعْمَالَ الرَّأْيِ بِالتَّفَكُّرِ فِي أَحْوَالِهِمْ وَمَا لَحِقَهُمْ مِنْ الْمَثُلَاتِ أَيْ الْعُقُوبَاتِ وَالْكَرَامَاتِ وَاجِبٌ وَذَلِكَ مِنْ بَابِ الدِّينِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الرَّأْيَ مُعْتَبَرٌ فِي الدِّينِ وَأَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ فِي الشَّرْعِ، فَقَالُوا: لَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ - أَيْ عَلَى مَا قُلْنَا - أَنَّ الْقِيَاسَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْ لُحُوقَ الْمَثُلَاثِ وَالْكَرَامَاتِ أَمْرٌ يُعْقَلُ أَيْ يُعْلَمُ بِالْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ هَلَاكُ مِثْلِهِ بِمِثْلِ ذَنْبِهِ بِالسَّمَاعِ أَوْ بِحِسِّ الْعَيْنِ فَكَانَ الِاحْتِرَازُ عَنْ مِثْلِهِ بِسَبَبِهِ مِنْ مَصَالِحِ الدُّنْيَا بِمَنْزِلَةِ الِاحْتِرَازِ عَنْ تَنَاوُلِ مَا يُتْلِفُهُ مِمَّا وُقِفَ عَلَى تَلَفِ مِثْلِهِ بِتَنَاوُلِهِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمَقْصُودُ مِنْ إعْمَالِ الرَّأْيِ فِي أَحْوَالِهِمْ الِامْتِنَاعُ مِمَّا كَانَ مُهْلِكًا لِمَنْ قَبْلَهُمْ حَتَّى لَا يَهْلَكُوا وَمُبَاشَرَةُ مَا كَانَ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ لِمَنْ قَبْلَهُمْ حَتَّى يَنَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ بِمَنْزِلَةِ الْأَكْلِ الَّذِي يَكْتَسِبُ بِهِ الْمَرْءُ سَبَبَ إبْقَاءِ نَفْسِهِ وَإِتْيَانِ الْإِنَاثِ فِي مَحَلِّ الْحَرْثِ بِطَرِيقِهِ لِيَكْتَسِبَ بِهِ سَبَبَ إبْقَاءِ النَّسْلِ، ثُمَّ طَرِيقُ ذَلِكَ الِاعْتِبَارُ بِالتَّأَمُّلِ فِي مَعَانِي اللِّسَانِ؛ فَإِنَّ أَصْلَهُ الْخَبَرُ وَذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ بِحَاسَّةِ السَّمْعِ، ثُمَّ بِالتَّأَمُّلِ فِيهِ يُدْرَكُ الْمَقْصُودُ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِ الشَّرِيعَةِ فِي شَيْءٍ فَقَدْ كَانَ الْوُقُوفُ عَلَى مَعَانِي اللُّغَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ بَاقٍ الْيَوْمَ بَيْنَ الْكَفَرَةِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ حُكْمَ الشَّرِيعَةِ وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ أَيْ عَلَى مَا يُدْرَكُ بِالْحِسِّ وَالْعِيَانِ مِثْلُ الْمَثُلَاتِ وَالْكَرَامَاتِ يُحْمَلُ مَا وَرَدَ مِنْ الْأَمْرِ بِالِاعْتِبَارِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وَعَلَى أَمْرِ الْحُرُوبِ يُحْمَلُ مُشَاوَرَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي يُحْمَلُ مَا وَرَدَ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمُشَاوَرَةِ لِلرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِقَوْلِهِ {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] وَمُشَاوَرَتُهُ أَصْحَابَهُ عَلَى أَمْرِ الْحُرُوبِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَرْوِيَّ أَنَّهُ يُشَاوِرُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يُعْقَلْ أَنَّهُ شَاوَرَهُمْ قَطُّ فِي حَقِيقَةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَلَا فِي مَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذَا أَتَيْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَإِذَا أَتَيْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِدُنْيَاكُمْ» . قَوْلُهُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] أَمَرَنَا بِالِاعْتِبَارِ، وَهُوَ بِرَدِّ الشَّيْءِ إلَى نَظِيرِهِ كَذَا حُكِيَ عَنْ ثَعْلَبٍ وَمِنْهُ يُسَمَّى الْأَصْلُ الَّذِي يُرَدُّ إلَيْهِ النَّظَائِرُ عِبْرَةً وَيُقَالُ: اعْتَبَرْت هَذَا الثَّوْبَ بِهَذَا الثَّوْبِ أَيْ سَوَّيْته بِهِ فِي التَّقْدِيرِ وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ؛ فَإِنَّهُ حَذْوُ الشَّيْءِ بِنَظِيرِهِ فَكَانَ مَأْمُورًا بِهِ بِهَذَا النَّصِّ، وَقِيلَ: الِاعْتِبَارُ التَّبْيِينُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى إخْبَارًا {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] تُبَيِّنُونَ وَالتَّبْيِينُ الَّذِي يَكُونُ مُضَافًا

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] أَيْ تُبَيِّنُونَ وَالْقِيَاسُ مِثْلُهُ سَوَاءٌ فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا يَصِحُّ الِاعْتِبَارُ بِأَمْرٍ ثَابِتٍ بِالنَّصِّ دُونَ الرَّأْيِ، وَهُوَ أَنْ يُذْكَرَ سَبَبُ هَلَاكِ قَوْمٍ أَوْ نَجَاتِهِمْ وَكَذَلِكَ عِنْدِي هَهُنَا إذَا ذُكِرَتْ الْعِلَّةُ نَصًّا مِثْلُ «قَوْلِ النَّبِيِّ فِي الْهِرَّةِ إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافَاتِ» وَالْجَوَابُ مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 3] وَيَعْقِلُونَ وَنَحْوُ ذَلِكَ ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَيْنَا هُوَ إعْمَالُ الرَّأْيِ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ لِيَتَبَيَّنَ بِهِ الْحُكْمُ فِي نَظِيرِهِ، كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فَكَانَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ وَالْقِيَاسُ مِثْلُهُ رَاجِعًا إلَى الِاعْتِبَارِ أَوْ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ لِأَيِّ الْمَعْنَيَيْنِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ أَيْ الْقِيَاسُ مِثْلُ رَدِّ الشَّيْءِ إلَى نَظِيرِهِ فَيَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ الْأَمْرِ أَوْ الْقِيَاسُ مِثْلُ الْمَعْنَيَيْنِ؛ لِأَنَّهُ رَدُّ الشَّيْءِ إلَى نَظِيرِهِ وَبَيَانٌ لِحُكْمِهِ أَيْضًا بِالرَّدِّ إلَى النَّظِيرِ فَكَانَ الْأَمْرُ مُتَنَاوِلًا. وَذَكَرَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ هُوَ الِانْتِقَالُ وَالْمُجَاوَزَةُ عَنْ الشَّيْءِ إلَى غَيْرِهِ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعُبُورِ يُقَالُ عَبَرْت النَّهْرَ أَيْ جَاوَزْته وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يُعْبَرُ عَلَيْهِ وَالْمَعْبَرُ السَّفِينَةُ أَوْ الْقَنْطَرَةُ الَّتِي يُعْبَرُ بِهَا وَالْعَبْرَةُ الدَّمْعَةُ الَّتِي عَبَرَتْ مِنْ الْجَفْنِ وَعَبَرَ الرُّؤْيَا وَعَبَّرَهَا جَاوَزَهَا إلَى مَا يُلَازِمُهَا فَثَبَتَ بِهَذِهِ الِاسْتِعْمَالَاتِ كَوْنُ الِاعْتِبَارِ حَقِيقَةً فِي الِانْتِقَالِ وَالْمُجَاوَزَةِ إلَى الْغَيْرِ وَذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ فِي الْقِيَاسِ؛ فَإِنَّهُ عُبُورٌ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ إلَى حُكْمِ الْفَرْعِ فَكَانَ دَاخِلًا تَحْتَ الْأَمْرِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ حَقِيقَةَ الِاعْتِبَارِ هِيَ الِانْتِقَالُ وَالْمُجَاوَزَةُ بَلْ حَقِيقَةُ الِاعْتِبَارِ الِاتِّعَاظُ لِتَبَادُرِهِ إلَى الْفَهْمِ مِنْ إطْلَاقِ اللَّفْظِ وَلِصِحَّةِ نَفْيِ الِاعْتِبَارِ عَنْ الْقَائِسِ الَّذِي لَا يَتَفَكَّرُ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ وَلَا يَتَّعِظُ بِأَنْ يُقَالَ هُوَ غَيْرُ مُعْتَبِرٍ وَلِتَرَتُّبِهِ فِي هَذَا النَّصِّ عَلَى قَوْلِهِ {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} [الحشر: 2] ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَحْسُنُ تَرَتُّبُهُ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الِاتِّعَاظَ دُونَ الْقِيَاسِ لِرَكَاكَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَقِيسُوا الذُّرَةَ عَلَى الْبُرِّ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا دَلَالَتَهُ عَلَى الْقِيَاسِ فَنَحْمِلُهُ عَلَى الْقِيَاسِ فِي الْأُمُورِ الْعَقْلِيَّةِ دُونَ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ عَلَى مَا كَانَتْ عَنْهُ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا لِعَدَمِ إمْكَانِ حَمْلِهِ عَلَى الْعُمُومِ؛ فَإِنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ فِي أَنَّهُ لَا يُسْتَفَادُ حُكْمُ الْفَرْعِ إلَّا مِنْ النَّصِّ كَمَا أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ كَذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ الِاعْتِبَارِ كَمَا أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ كَذَلِكَ وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ فَإِجْرَاءُ اللَّفْظِ عَلَى عُمُومِهِ يُؤَدِّي إلَى الْأَمْرِ بِالْمُتَنَافِيَيْنِ، وَهُوَ مُحَالٌ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا إمْكَانَ حَمْلِهِ عَلَى الْعُمُومِ فَقَدْ خَصَّ مِنْهُ مَا لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ فِيهِ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَمَا لَمْ يَنْصِبْ عَلَيْهِ أَمَارَةً عَلَى الْحُكْمِ وَالْأَقْيِسَةَ الْمُتَعَارِضَةَ فَلَمْ يَبْقَ حُجَّةً أَوْ صَارَ ظَنِّيًّا وَمَسْأَلَةُ الْقِيَاسِ قَطْعِيَّةٌ فَلَا يَجُوزُ بِنَاؤُهَا عَلَيْهِ قُلْنَا: حَقِيقَةُ الِاعْتِبَارِ هِيَ الْمُجَاوَزَةُ وَالِانْتِقَالُ إلَى الْغَيْرِ كَمَا ذَكَرْنَا لَا الِاتِّعَاظُ؛ فَإِنَّهُ يُقَالُ: اعْتَبَرَ فُلَانٌ فَاتَّعَظَ فَيُجْعَلُ الِاتِّعَاظُ مَعْلُولَ الِاعْتِبَارِ، وَلَوْ كَانَ مَعْنَاهُ الِاتِّعَاظ لَمَا صَحَّ هَذَا الْكَلَامُ إذْ تَرَتُّبُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ مُمْتَنِعٌ وَلِأَنَّ مَعْنَى الْمُجَاوَزَةِ وَالِانْتِقَالِ فِي الِاتِّعَاظِ مُتَحَقِّقٌ وَأَنَّ الْمُتَّعِظَ بِغَيْرِهِ مُنْتَقِلٌ مِنْ الْعِلْمِ بِحَالِ ذَلِكَ الْغَيْرِ إلَى الْعِلْمِ بِحَالِ نَفْسِهِ. فَأَمَّا تَبَادُرُ الْفَهْمِ إلَى الِاتِّعَاظِ دُونَ غَيْرِهِ فَمَمْنُوعٌ بَلْ يُفْهَمُ مِنْهُ غَيْرُهُ كَمَا يُفْهَمُ الِاتِّعَاظُ فَيُجْعَلُ حَقِيقَةً فِي الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ فِي الْكُلِّ، وَهُوَ الِانْتِقَالُ نَفْيًا لِلِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ فَأَمَّا صِحَّةُ نَفْيِهِ عَنْ الْقَائِسِ الَّذِي لَيْسَ بِمُتَّعِظٍ فَبِالنَّظَرِ إلَى إخْلَالِهِ بِأَعْظَمِ الْمَقَاصِدِ إذْ الْمَقْصُودُ الْأَصْلُ مِنْ الِاعْتِبَارِ الْآخِرَةُ فَإِذَا أَخَلَّ بِهِ قِيلَ: هُوَ غَيْرُ مُعْتَبِرٍ مَجَازًا كَمَا قِيلَ لِمَنْ لَا يَتَدَبَّرُ فِي الْآيَاتِ أَعْمَى وَأَصَمُّ لَا بِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ قَائِسًا؛ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ. وَأَمَّا رَكَاكَةُ مَا لَوْ قِيلَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَقِيسُوا الذُّرَةَ عَلَى الْبُرِّ فَمُسَلَّمَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ خُصُوصِ هَذَا الْقِيَاسِ وَبَيْنَ تَخْرِيبِ الْبُيُوتِ وَلَكِنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الْآيَةِ مُطْلَقُ الِاعْتِبَارِ الَّذِي يَكُونُ الْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ أَحَدَ جُزْئِيَّاتِهِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِرَكِيكٍ. مِثَالُهُ لَوْ سُئِلَ وَاحِدٌ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَجَابَ بِمَا لَا يَتَنَاوَلُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةَ كَانَ بَاطِلًا لَكِنْ لَوْ أَجَابَ بِمَا يَتَنَاوَلُهَا وَغَيْرَهَا كَانَ حَسَنًا

وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وَهُوَ إفْنَاءٌ وَإِمَاتَةٌ فِي الظَّاهِرِ لَكِنَّهُ حَيَاةٌ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى بِشَرْعِهِ وَاسْتِيفَائِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ فِي شَرْعِ الْقِصَاصِ صَدَّهُ ذَلِكَ عَنْ مُبَاشَرَةِ سَبَبِهِ فَيَبْقَى حَيًّا وَيَسْلَمُ الْمَقْصُودُ بِالْقَتْلِ عَنْهُ فَيَبْقَى حَيًّا فَيَصِيرُ حَيَاةً لَهُمَا أَيْ بَقَاءً عَلَيْهِمَا. وَأَمَّا فِي اسْتِيفَائِهِ فَلِأَنَّ مَنْ قَتَلَ رَجُلًا صَارَ حَرْبًا عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَصَارُوا كَذَلِكَ عَلَيْهِ فَلَا يَسْلَمُ لَهُمْ حَيَاةٌ إلَّا أَنْ يُقْتَلَ الْقَاتِلُ فَيَسْلَمُ بِهِ حَيَاةُ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ وَالْعَشَائِرِ فَصَارُوا أَحْيَاءً مَعْنًى وَهَذَا لَا يُعْقَلُ إلَّا بِالتَّأَمُّلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQكَمَا لَوْ سُئِلَ عَمَّنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ أَيَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُجِيبَ بِأَنَّ مَنْ جَامَعَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَلَكِنْ يَحْسُنُ أَنْ يَقُولَ: مَنْ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَقَوْلُهُمْ لَا يُمْكِنُ إجْرَاؤُهُ عَلَى الْعُمُومِ لِلُزُومِ التَّنَاقُضِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ إلْحَاقَ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْحُكْمِ لَا يُسَمَّى اعْتِبَارًا وَلَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْهُ بِوَجْهٍ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ الْآيَةِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُحْتَمَلَهَا لَصَارَ مَعْنَاهَا يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَلَا تَحْكُمُوا بِهَذَا الْحُكْمِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ إلَّا بِنَصٍّ وَارِدٍ فِي حَقِّ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَبُطْلَانُهُ ظَاهِرٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ السَّيِّدَ إذَا ضَرَبَ بَعْضَ عَبِيدِهِ عَلَى ذَنْبٍ، ثُمَّ قَالَ الْآخَرُ اعْتَبِرْ بِهِ فُهِمَ مِنْهُ التَّسْوِيَةُ فِي الْحُكْمِ لَا الْمَنْعُ مِنْهُ. وَقَوْلُهُمْ قَدْ خُصَّ مِنْهُ كَذَا فَلَا يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْقَطْعِيَّةِ ضَعِيفٌ أَيْضًا؛ فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ: إنَّ تِلْكَ الصُّوَرَ لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ هَذَا النَّصِّ لِيَثْبُتَ التَّخْصِيصُ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالِاعْتِبَارِ لَا يَتَنَاوَلُ مَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ أَمَارَةٌ عَلَى الْحُكْمِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الِاعْتِبَارِ بِدُونِهَا لَا مَا وُجِدَ فِيهِ نَصٌّ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ رَدِّ الشَّيْءِ إلَى نَظِيرِهِ إثْبَاتُ حُكْمِ النَّظِيرِ لَهُ فَإِذَا كَانَ لَهُ حُكْمٌ لَمْ يَكُنْ فَائِدَةٌ فِي رَدِّهِ إلَى النَّظِيرِ وَلَا الْأَقْيِسَةَ الْمُتَعَارِضَةَ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِهَا لِتَسَاقُطِهَا بِالتَّعَارُضِ، وَإِذَا لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَهُ لَمْ يَصِحَّ تَخْصِيصُهَا مِنْهُ فَبَقِيَ النَّصُّ عَلَى عُمُومِهِ مُوجِبًا لِلْيَقِينِ كَمَا كَانَ، عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ صَارَ ظَنِّيًّا فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ بِطَرِيقِ الظَّنِّ وَأَنْتُمْ أَنْكَرْتُمُوهُ أَصْلًا وَالْجَوَابُ مَا نُبَيِّنُ أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي الْأَصْلِ إلَى آخِرِهِ. 1 - قَوْلُهُ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] فَالْقِصَاصُ إفْنَاءٌ وَتَفْوِيتٌ لِلْحَيَاةِ، وَقَدْ جُعِلَ مَكَانًا وَظَرْفًا لِلْحَيَاةِ فِي هَذَا النَّصِّ وَذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى بِشَرْعِهِ وَاسْتِيفَائِهِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ. أَمَّا الْأَوَّلُ، وَهُوَ كَوْنُهُ حَيَاةً بِاعْتِبَارِ شَرْعِهِ فَلِأَنَّ الْقَاصِدَ لِلْقَتْلِ لَمَّا تَأَمَّلَ فِي شَرْعِ الْقِصَاصِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ قَتَلَ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَصَدَّهُ أَيْ مَنَعَهُ ذَلِكَ التَّأَمُّلُ عَنْ مُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْقِصَاصِ، وَهُوَ الْقَتْلُ فَسَلِمَ هُوَ مِنْ الْقَوَدِ وَسَلِمَ صَاحِبُهُ مِنْ الْقَتْلِ فَيَصِيرُ أَيْ شَرْعُ الْقِصَاصِ يَعْنِي مَشْرُوعِيَّتُهُ حَيَاةً لَهُمَا أَيْ الْقَاصِدِ الْقَتْلَ وَالْمَقْصُودِ قَتْلُهُ بَقَاءً عَلَيْهَا أَيْ بَقَاءَهُمَا عَلَى الْحَيَاةِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عَلَيْهِمَا أَيْ بَقَاءَ حَيَاتِهِمَا عَلَيْهِمَا، وَلَوْ قِيلَ إبْقَاءً لَكَانَ أَحْسَنَ وَإِبْقَاءُ الْحَيَاةِ بِدَفْعِ سَبَبِ الْهَلَاكِ عَنْهُ يُسَمَّى إحْيَاءً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] . وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الْخِطَابُ لِكَافَّةِ النَّاسِ، وَأَمَّا فِي اسْتِيفَائِهِ أَيْ كَوْنُهُ حَيَاةً بِاعْتِبَارِ اسْتِيفَائِهِ فَلِأَنَّ الْقَاتِلَ يَصِيرُ حَرْبًا عَلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُمْ فَيَقْصِدُ قَتْلَهُمْ مُسْتَعِينًا فِي ذَلِكَ بِأَمْثَالِهِ مِنْ السُّفَهَاءِ إزَالَةً لِلْخَوْفِ عَنْ نَفْسِهِ فَإِذَا اسْتَوْفَى الْوَلِيُّ الْقِصَاصَ عَنْهُ انْدَفَعَ شَرُّهُ عَنْهُ وَعَنْ عَشِيرَتِهِ فَصَارَ أَيْ الِاسْتِيفَاءُ إحْيَاءً لَهُمْ مَعْنًى وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْخِطَابُ لِلْأَوْلِيَاءِ وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ إذَا قُتِلَ مُحِيَ أَثَرُ الْقَتْلِ فِي دَارِ الْآخِرَةِ عَنْهُ فَيَبْقَى غَيْرَ مُعَذَّبٍ بِهِ فَيَكُونُ إحْيَاءً لَهُ بِدَفْعِ سَبَبِ الْعَذَابِ عَنْهُ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْخِطَابُ لِلْقَتَلَةِ وَتَنْكِيرُ لَفْظِ الْحَيَاةِ إمَّا لِلتَّعْظِيمِ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ بِالْوَاحِدِ الْجَمَاعَةَ وَبِالْمَقْتُولِ غَيْرَ قَاتِلِهِ فَتَفُورُ الْفِتْنَةُ وَيَقَعُ التَّقَاتُلُ بَيْنَهُمْ فَبِشَرْعِ الْقِصَاصِ انْقَطَعَتْ الْفِتْنَةُ وَانْقَطَعَ التَّقَاتُلُ فَكَانَتْ فِيهِ حَيَاةٌ عَظِيمَةٌ أَوْ لِأَنَّ الْحَاصِلَ بِهِ نَوْعٌ مِنْ الْحَيَاةِ؛ فَإِنَّ بِارْتِدَاعِ الْقَاطِعِ عَنْ الْقَتْلِ تَحْصُلُ حَيَاةٌ لِلْمَقْصُودِ قَتْلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ دُونَ الْمَاضِي فَوَجَبَ التَّنْكِيرُ وَامْتَنَعَ التَّعْرِيفُ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ يَقْتَضِي أَنَّ الْحَيَاةَ كَانَتْ مِنْ الْأَصْلِ بِالْقِصَاصِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَأَكْثَرُ مَنْ أَنْ يُحْصَى مِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ قَالَ: بِمَ تَقْضِي؟ قَالَ: بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: أَقْضِي بِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِيمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي. قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِهِ» وَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQكَذَلِكَ وَمِثْلُهُ تَنْكِيرُ الْحَيَاةِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96] ؛ فَإِنَّ الْحِرْصَ لِمَا يَكُنْ مُتَعَلِّقًا بِالْحَيَاةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ بِهَا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَهِيَ الْحَيَاةُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إذْ الْحِرْصُ لَا يَكُونُ عَلَى الْحَيَاةِ الْمَاضِيَةِ وَالرَّاهِبَةِ حَسُنَ التَّنْكِيرُ. وَلِأَنَّ الْحَيَاةَ الْحَاصِلَةَ بِالِارْتِدَاعِ عَنْ الْقَتْلِ لَا يَكُونُ فِي حَقِّ الْكُلِّ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ قَدْ لَا يَكُونُ لَهُمْ عَدُوٌّ يَقْصِدُ قَتْلَهُمْ حَتَّى يَمْنَعَهُ خَوْفُ الْقِصَاصِ عَنْهُ فَيَحْصُلُ لَهُمْ الْحَيَاةُ بِالِارْتِدَاعِ بَلْ يَكُونُ فِي حَقِّ الْبَعْضِ وَلَمَّا دَخَلَ الْخُصُوصُ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَجَبَ تَنْكِيرُ لَفْظِ الْحَيَاةِ كَمَا وَجَبَ تَنْكِيرُ لَفْظِ الشِّفَاءِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] حَيْثُ لَمْ يَكُنْ شِفَاءً لِلْجَمِيعِ لِيَصِحَّ التَّعْرِيفُ وَهَذَا لَا يُعْقَلُ إلَّا بِالتَّأَمُّلِ أَيْ كَوْنُ الْقِصَاصِ حَيَاةً لَا يُدْرَكُ إلَّا بِالتَّأَمُّلِ وَاسْتِعْمَالِ الرَّأْيِ فَعَرَفْنَا أَنَّ اسْتِعْمَالَ الرَّأْيِ لِاسْتِخْرَاجِ مَعَانٍ النُّصُوصِ أَمْرٌ سَائِغٌ فِي الشَّرْعِ وَالْقِيَاسُ لَيْسَ إلَّا اسْتِعْمَالُ الرَّأْيِ لِاسْتِخْرَاجِ مَعْنَى النَّصِّ فَيَكُونُ مَشْرُوعًا. قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] ، وَفِيهِ هَلَاكٌ حِسًّا وَإِنَّمَا الْحَيَاةُ فِي الِاعْتِبَارِ عَنْ قَتْلٍ فَقُتِلَ لِيَنْزَجِرَ عَنْ الْقَتْلِ ابْتِدَاءً فَلَا يُقْتَلُ جَزَاءً وَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ الرَّأْيِ، فَإِنْ قَالَ الْخَصْمُ: أَنَا لَا أُنْكِرُ اسْتِعْمَالَ الرَّأْيِ لِمِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى إذْ لَا بُدَّ مِنْ فَهْمِ مَعْنَى الْكَلَامِ لُغَةً وَاسْتِعَارَاتِهِ وَإِشَارَاتِهِ وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِهِ إنَّمَا الْكَلَامُ فِي اسْتِعْمَالِهِ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فِي مَحَلٍّ غَيْرِ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ وَلَا دَلَالَةَ لِلْآيَةِ عَلَى جَوَازِهِ فِيهِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ هُوَ الْجَوَابُ عَنْ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ كَمَا سَيَجِيءُ بَيَانُهُ. 1 - قَوْلُهُ (وَأَمَّا السُّنَّةُ فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى) وَاحْتَجَّ مُثْبِتُو الْقِيَاسِ أَيْضًا بِمَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلَيْهِ أُشِيرَ بِقَوْلِهِ فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى مَا يَدُلُّ عَلَى شَرْعِيَّةِ الْقِيَاسِ وَوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ مِثْلُ حَدِيثِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ: أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي؛ ضَرَبَ عَلَى صَدْرِهِ. وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ. فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي، بَلْ مَدَحَهُ وَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ وَأَمَرَ بِهِ أَبَا مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ وَجَّهَهُ إلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: اقْضِ بِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَاجْتَهِدْ رَأْيَك، وَقَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ اقْضِ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ فَقَالَ عَلَى مَاذَا أَقْضِي فَقَالَ: عَلَى أَنَّك إنْ اجْتَهَدْت فَأَصَبْت لَك عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَإِنْ أَخْطَأْت فَلَكَ حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ وَقَوْلُهُ وَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ إشَارَةً إلَى الْجَوَابِ عَمَّا قِيلَ لَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِخَبَرِ مُعَاذٍ؛ فَإِنَّهُ خَبَرٌ مُرْسَلٌ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَخَبَرٌ غَرِيبٌ فِيمَا يَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَلَا يَكُونُ حُجَّةً عِنْدَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فَكَانَ الْإِجْمَاعُ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ مُنْعَقِدًا عَلَى سُقُوطِ الِاحْتِجَاجِ، فَقَالَ هَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ لَيْسَ بِمُرْسَلٍ وَلَا غَرِيبٍ؛ فَإِنَّ أَئِمَّةَ الْحَدِيثِ أَسْنَدُوهُ فِي كُتُبِهِمْ وَتَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ فَيَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا حَدِيثٌ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَلَمْ يُظْهِرْ أَحَدٌ فِيهِ طَعْنًا وَإِنْكَارًا وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِيهِ كَوْنُهُ مُرْسَلًا بَلْ لَا يَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ إسْنَادِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» «وَلَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا» «وَلَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى» وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عَمِلَتْ بِهِ الْأُمَّةُ كَافَّةً وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ مُثْبِتِي الْقِيَاسِ أَبَدًا كَانُوا يَتَمَسَّكُونَ بِهِ فِي إثْبَاتِ

وَقَدْ رَوَيْنَا مَا هُوَ قِيَاسٌ بِنَفْسِهِ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ـــــــــــــــــــــــــــــQالْقِيَاسِ وَنُفَاتُهُ كَانُوا يَشْتَغِلُونَ بِتَأْوِيلِهِ فَكَانَ ذَلِكَ اتِّفَاقًا مِنْهُمْ عَلَى قَوْلِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إنْ سَلَّمْنَا صِحَّتَهُ لَا نُسَلِّمُ كَوْنَهُ دَالًّا عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ إذْ الِاجْتِهَادُ لَيْسَ نَفْسَ الْقِيَاسِ لَا غَيْرَ بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ اسْتِفْرَاغِ الْجَهْدِ فِي الطَّلَبِ فَيَحْمِلُهُ عَلَى طَلَبِ الْحُكْمِ مِنْ النُّصُوصِ الْخَفِيَّةِ أَوْ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالْبَرَاءَةِ أَوْ عَلَى الْقِيَاسِ الَّذِي عِلَّتُهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا أَوْ مُومَأٌ إلَيْهَا أَوْ يَحْمِلُهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ إكْمَالِ الدِّينِ وَاسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ لِوُقُوعِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ إذْ ذَاكَ فَأَمَّا بَعْدَ إكْمَالِ الدِّينِ وَاسْتِقْرَارِهِ فَلَا لِارْتِفَاعِ الْحَاجَةِ بِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، إذْ الْإِكْمَالُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ اشْتِمَالِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى جَمِيعِ مَا لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ قُلْنَا لَا يَجُوزُ حَمْلُ الِاجْتِهَادِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالنُّصُوصِ الْخَفِيَّةِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ النَّصِّ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ جَلِيًّا كَانَ أَوْ خَفِيًّا فَتَخْصِيصُهُ بِالْجَلِيِّ دُونَ الْخَفِيِّ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مُمْتَنِعٌ. وَكَذَا لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ فَلَا حَاجَةَ فِي مَعْرِفَتِهَا إلَى الِاجْتِهَادِ وَلَا عَلَى مَا كَانَتْ عِلَّتُهُ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ إنَّمَا سَكَتَ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَجْتَهِدُ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الِاجْتِهَادَ وَافٍ بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ فَلَوْ حُمِلَ عَلَى الْقِيَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَى عِلَّتِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَافِيًا بِمَعْرِفَةِ عُشْرِ عَشِيرِ الْأَحْكَامِ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يَسْكُتَ عَلَيْهِ كَمَا لَمْ يَسْكُتْ عِنْدَ قَوْلِهِ أَقْضِي بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْإِكْمَالِ؛ فَإِنَّ الْإِكْمَالَ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِبَيَانِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِلَا وَاسِطَةٍ وَبِوَاسِطَةٍ وَالْقِيَاسُ مِنْ الْوَسَائِطِ، ثُمَّ أَتَمَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالسُّنَّةِ بِقَوْلِهِ، وَقَدْ رَوَيْنَا يَعْنِي حَدِيثَ مُعَاذٍ وَغَيْرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَجَازَ قِيَاسَ غَيْرِهِ. وَقَدْ رَوَيْنَا فِي بَابِ تَقْسِيمِ السُّنَّةِ فِي حَقِّهِ مَا هُوَ قِيَاسٌ بِنَفْسِهِ مِثْلُ الْخَثْعَمِيَّةِ وَحَدِيثِ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ وَغَيْرِهِمَا فَيَدُلُّ قَوْلُهُ وَفَعَلَهُ جَمِيعًا عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ وَكَلِمَةُ مَنْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَعَلِّقَةً بِرِوَايَتِنَا وَأَنْ تَكُونَ مُتَعَلِّقَةً بِقِيَاسٍ وَفِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ كَثْرَةٌ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا» حَكَمَ بِتَحْرِيمِ ثَمَنِهَا قِيَاسًا عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِهَا «وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِأُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وَقَدْ سَأَلَتْ عَنْ قُبْلَةِ الصَّائِمِ هَلَّا أَخْبَرْتِيهِ أَنِّي أُقَبِّلُ وَأَنَا صَائِمٌ» تَنْبِيهًا عَلَى قِيَاسِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ. «وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حِينَ سُئِلَ عَنْ جَوَازِ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ أَيَنْقُصُ إذَا جَفَّ فَقِيلَ نَعَمْ فَقَالَ فَلَا إذَنْ» «وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي مُحْرِمٍ وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا تُقْرِبُوهُ طِيبًا؛ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» «وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخَبُ دَمًا» . «وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْهِرَّةُ لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ؛ فَإِنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ وَالطَّوَّافَاتِ عَلَيْكُمْ» «وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حَدِيثِ الْمُسْتَيْقِظِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» «وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الصَّيْدِ فَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ فَلَا يُؤْكَلُ لَعَلَّ الْمَاءَ أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ» إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُخْتَلِفِ لَفْظُهَا الْمُتَّحِدِ مَعْنَاهَا فَنُزِّلَ جُمْلَتُهَا مَنْزِلَةَ الْمُتَوَاتِرِ وَإِنْ كَانَتْ آحَادُهَا آحَادًا. فَإِنْ قِيلَ: لَا تَمَسُّكَ لَكُمْ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ؛ فَإِنَّ فِيهَا بَيَانَ تَعْلِيلِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ لَا بَيَانَ جَوَازِ الْقِيَاسِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ التَّنْصِيصِ عَلَى الْعِلَّةِ جَوَازُ إلْحَاقِ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ بِهِ كَمَا لَوْ قَالَ الرَّجُلُ أَعْتَقْت غَانِمًا لِسَوَادِهِ

وَعَمَلُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي هَذَا الْبَابِ وَمُنَاظَرَتُهُمْ وَمُشَاوَرَتُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ مُمَيِّزٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــQلَمْ يُعْتَقْ جَمِيعُ عَبِيدِهِ السُّودِ. وَكَذَا لَوْ تَمَلَّكَ بِمُؤَثِّرٍ بِأَنْ قَالَ: أَعْتَقْت غَانِمًا لِحُسْنِ خُلُقِهِ لَمْ يَلْزَمْ عِتْقُ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَحْسَنَ خُلُقًا مِنْهُ قُلْنَا بَلْ التَّمَسُّكُ صَحِيحٌ؛ فَإِنَّ فَائِدَةَ التَّعْلِيلِ بَيَانُ كَوْنِ الْعِلَّةِ بَاعِثَةً عَلَى الْحُكْمِ وَمُؤَثِّرَةً فِيهِ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ إلْحَاقُ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ عِنْدَ اشْتِرَاكِهَا فِي الْعِلَّةِ لَأَدَّى إلَى تَخَلُّفِ الْأَثَرِ عَنْ الْمُؤَثِّرِ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ وَلَخَلَا ذِكْرُهُ عَنْ الْفَائِدَةِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَعْتَقْت غَانِمًا لِسَوَادِهِ أَوْ لِحُسْنِ خُلُقِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِذَلِكَ التَّعْلِيلِ فِي الْعِتْقِ فَيَكُونُ ذِكْرُهُ كَعَدَمِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّرْعَ عَلَّقَ أَحْكَامَ الْأَمْلَاكِ حُصُولًا وَزَوَالًا بِالْأَلْفَاظِ دُونَ الْإِرَادَاتِ الْمُجَرَّدَةِ حَتَّى لَوْ قَالَ أَعْتَقْت أَوْ طَلَّقْت غَيْرَ قَاصِدٍ لِلْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ يَثْبُتُ الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ، وَلَوْ نَوَى عِتْقًا أَوْ طَلَاقًا مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ فَأَمَّا أَحْكَامُ الشَّرْعِ فَتَثْبُتُ بِكُلِّ مَا دَلَّ عَلَى رِضَا الشَّارِعِ وَإِرَادَتِهِ مِنْ قَرِينَةٍ وَدَلَالَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَفْظًا. يُوَضِّحُهُ أَنَّ أَحَدًا لَوْ بَاعَ مَالَ التَّاجِرِ بِمَحْضَرٍ مِنْهُ بِضِعْفِ ثَمَنِهِ وَظَهَرَ أَثَرُ الْفَرَحِ عَلَيْهِ لَمْ يَنْفُذْ الْبَيْعُ إلَّا بِتَلَفُّظِهِ بِالْإِجَازَةِ وَلَوْ جَرَى بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعْلٌ فَسَكَتَ دَلَّ سُكُوتُهُ عَلَى رِضَاهُ وَيَثْبُتُ الْحُكْمُ بِهِ. قَوْلُهُ (وَعَمَلُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ فِي هَذَا الْبَابِ) إشَارَةٌ إلَى مُتَمَسَّكٍ آخَرَ عَوَّلَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ الْإِجْمَاعُ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَمِلُوا بِالْقِيَاسِ وَشَاعَ وَذَاعَ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ رَدٍّ وَإِنْكَارٍ مِثْلُ مَا اُشْتُهِرَ مِنْ مُنَاظَرَتِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ وَمَسْأَلَةِ الْعَوْلِ وَالْمُشْتَرَكَةِ وَمِيرَاثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَغَيْرِهَا بِالرَّأْيِ وَاحْتِجَاجِهِمْ فِيهَا بِالْقِيَاسِ وَمِثْلُ مُشَاوَرَتِهِمْ فِي أَمْرِ الْخِلَافَةِ؛ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ تَكَلَّمَ فِيهِ بِرَأْيِهِ إلَى أَنْ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِطَرِيقِ الْمُقَايَسَةِ وَالرَّأْيِ حَيْثُ قَالَ: أَلَا تَرْضَوْنَ لِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ بِمَنْ رَضِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ لِأَمْرِ دِينِكُمْ فَاتَّفَقُوا عَلَى رَأْيِهِ وَأَمْرُ الْخِلَافَةِ مِنْ أَهَمِّ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الشَّرْعِ، وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ فِيهِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ. وَكَذَلِكَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَعَلَ أَمْرَ الْخِلَافَةِ شُورَى بَيْنَ سِتَّةِ نَفَرٍ فَاتَّفَقُوا بِالرَّأْيِ عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا الْأَمْرَ فِي التَّعْيِينِ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَعْدَمَا أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْهَا فَعُرِضَ عَلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى أَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ: أَعْمَلُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، ثُمَّ أَجْتَهِدُ رَأْيِي، وَعُرِضَ عَلَى عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَذَا الشَّرْطُ فَرَضِيَ بِهِ فَقَلَّدَهُ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَمَلًا بِالرَّأْيِ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَحْسَنُوا سِيرَةَ الْعُمَرَيْنِ وَشَاوَرُوا فِي حَدِّ شَارِبِ الْخَمْرِ فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذَا شَرِبَ سَكِرَ، وَإِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى فَحَدُّهُ حَدُّ الْمُفْتَرِينَ قَاسَ حَدَّ الشَّارِبِ عَلَى حَدِّ الْقَاذِفِ فَأَخَذُوا بِرَأْيِهِ وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَلَمَّا وَرَّثَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أُمَّ الْأُمِّ دُونَ أُمِّ الْأَبِ قَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَقَدْ شَهِدَ بَدْرًا لَقَدْ وَرَّثْت امْرَأَةً لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمَيِّتَةُ لَمْ يَرِثْهَا وَتَرَكْت امْرَأَةً لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمَيِّتَةُ وَرِثَهَا فَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ إلَى التَّشْرِيكِ بَيْنَهُمَا فِي السُّدُسِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْكَلَالَةِ: أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي. وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَقْضِي فِي الْجَدِّ بِرَأْيِي. وَلَمَّا سَمِعَ فِي الْجَنِينِ الْحَدِيثَ قَالَ: كِدْنَا أَنْ نَقْضِيَ فِيهِ بِرَأْيِنَا وَقَضَى عُثْمَانُ بِتَوْرِيثِ الْمَبْتُوتَةِ بِالرَّأْيِ وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اجْتَمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ عَلَى حُرْمَةِ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، وَقَدْ رَأَيْت الْآنَ أَنْ أُرِقَّهُنَّ، وَقَالَ

فَإِنْ طَعَنَ طَاعِنٌ فِيهِمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيل وَنَابَذَ الْإِسْلَامَ. ـــــــــــــــــــــــــــــQابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قِصَّةِ بِرْوَعَ أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي وَكَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى فِي رِسَالَتِهِ الْمَشْهُورَةِ اعْرِفْ الْأَشْبَاهَ وَالنَّظَائِرَ، ثُمَّ قِسْ الْأُمُورَ بِرَأْيِك وَرَاجِعْ الْحَقَّ إذَا عَلِمْته؛ فَإِنَّ الرُّجُوعَ إلَى الْحَقِّ أَوْلَى مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْآثَارِ بِحَيْثُ لَا تُحْصَى كَثْرَةً فَلَمَّا ثَبَتَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْعَمَلُ بِالرَّأْيِ وَلَمْ يَظْهَرْ عَنْ غَيْرِهِمْ إنْكَارٌ عَرَفْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى ذَلِكَ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ وَكَفَى بِإِجْمَاعِهِمْ حُجَّةً. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ الْإِنْكَارِ؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْكَلَالَةِ أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إذَا قُلْت فِي كِتَابِ اللَّهِ بِرَأْيِي. وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا وَعَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالْقِيَاسِ لَكَانَ الْمَسْحُ عَلَى بَاطِنِ الْخُفِّ أَوْلَى مِنْ ظَاهِرِهِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] وَلَمْ يَقُلْ بِمَا رَأَيْت وَلَوْ جَعَلَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ بِرَأْيِهِ لَجَعَلَ ذَلِكَ لِرَسُولِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ بَعْضِهَا قُلْنَا: قَدْ اشْتَهَرَ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نُقِلَ الْإِنْكَارُ عَنْهُمْ الْقَوْلُ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ بِحَيْثُ لَا وَجْهَ لِإِنْكَارِهِ فَيُحْمَلُ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ مِنْ الْإِنْكَارِ إنْ ثَبَتَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ صَادِرًا عَمَّنْ لَيْسَ لَهُ رُتْبَةُ الِاجْتِهَادِ وَمَا كَانَ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ أَوْ لِلْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ يَشْهَدُ لَهُ بِالِاعْتِبَارِ أَوْ مُسْتَعْمَلًا فِيمَا تَعَبَّدْنَا اللَّهَ تَعَالَى فِيهِ بِالْعِلْمِ دُونَ الظَّنِّ جَمْعًا بَيْنَ النَّقْلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي جَوَابِ هَذَا السُّؤَالِ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالْقَوَاطِعِ مِنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ الِاجْتِهَادُ وَالْقَوْلُ بِالرَّأْيِ وَالسُّكُوتُ عَنْ الْقَائِلِينَ بِهِ وَثَبَتَ ذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ فِي وَقَائِعَ مَشْهُورَةٍ كَمِيرَاثِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ وَتَعَيُّنِ الْإِمَامِ بِالْبَيْعَةِ وَجَمْعِ الْمُصْحَفِ وَمَا لَمْ يَتَوَاتَرْ كَذَلِكَ فَقَدْ صَحَّ مِنْ آحَادِ الْوَقَائِعِ رِوَايَاتٌ صَحِيحَةٌ وَلَمْ يُنْكِرْهَا أَحَدٌ مِنْ الْأُمَّةِ فَأَوْرَثَ ذَلِكَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِقَوْلِهِمْ بِالرَّأْيِ كَمَا عُرِفَ سَخَاوَةُ حَاتِمٍ وَشَجَاعَةُ عَلِيٍّ بِمِثْلِ هَذَا الدَّلِيلِ وَمَا نَقَلُوهُ بِخِلَافِهِ فَأَكْثَرُهَا مَقَاطِيعُ مَرْوِيَّةٌ مِنْ غَيْرِ ثَبْتٍ، وَهِيَ بِأَعْيَانِهَا مُعَارَضَةٌ بِرِوَايَاتٍ صَحِيحَةٍ عَنْ صَاحِبِهَا بِنَقِيضِهَا فَكَيْفَ يُتْرَكُ الْمَعْلُومُ ضَرُورَةً بِمِثْلِهَا. وَلَوْ تَسَاوَتْ فِي الصِّحَّةِ لَوَجَبَ طَرْحُ جَمِيعِهَا وَالرُّجُوعُ إلَى مَا تَوَاتَرَ مِنْ مُشَاوَرَاتِ الصَّحَابَةِ وَاجْتِهَادَاتِهِمْ، وَلَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ لَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَشْهُورِ مِنْ اجْتِهَادَاتِهِمْ فَيُحْمَلُ مَا أَنْكَرُوهُ عَلَى الرَّأْيِ الْمُخَالِفِ لِلنَّصِّ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا. فَإِنْ قِيلَ سَلَّمْنَا عَدَمَ الْإِنْكَارِ لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ السَّكُوتَيَّ لَيْسَ بِقَاطِعٍ وَالْمَسْأَلَةُ قَطْعِيَّةٌ فَلَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِمِثْلِهِ فِيهَا قُلْنَا: هُوَ إجْمَاعٌ قَاطِعٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ مِنْهُمْ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَآثَرَ الْمُظَفَّرُ السَّمْعَانِيُّ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ وَغَيْرِهِمَا عَلَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إجْمَاعٌ سُكُوتِيٌّ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالْفِقْهِ مِنْ الصَّحَابَةِ شَرَعُوا فِي الْقِيَاسِ وَالْعَمَلِ بِالرَّأْيِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا فِعْلِيًّا مِنْهُمْ وَاَلَّذِينَ سَكَتُوا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَلَا يَقْدَحُ سُكُوتُهُمْ فِي قَطْعِيَّةِ الْإِجْمَاعِ. 1 - قَوْلُهُ (فَإِنْ طَعَنَ طَاعِنٌ فِيهِمْ فَقَدْ ضَلَّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) حَكَى الْجَاحِظُ عَنْ النَّظَّامِ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَخُضْ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي الْقِيَاسِ إلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ مِنْ قُدَمَائِهِمْ كَالْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبْلٍ وَنَفَرٍ يَسِيرٍ مِنْ أَحْدَاثِهِمْ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ مِنْهُمْ

وَمَنْ ادَّعَى خُصُوصَهُمْ فَقَدْ ادَّعَى أَمْرًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بَلْ النَّاسُ سَوَاءٌ فِي تَكْلِيفِ الِاعْتِبَارِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَهَؤُلَاءِ سَلَاطِينُ وَمَعَهُمْ الرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ انْقَادَتْ لَهُمْ الْعَوَامُّ وَجَازَ لِلنَّافِينَ السُّكُوتُ عَلَى التَّقِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ إنْكَارَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولٍ. ، وَقَالَ: وَلَوْ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَزِمُوا الْعَمَلَ بِمَا أُمِرُوا بِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّفُوا مَا كُفُوًا عَنْ الْقَوْلِ فِيهِ مِنْ أَعْمَالِ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ لَارْتَفَعَ بَيْنَهُمْ الْخِلَافُ وَالتَّهَارُجُ وَلَمْ يَسْفِكُوا الدِّمَاءَ لَكِنْ لَمَّا عَدَلُوا عَمَّا كُلِّفُوا وَتَحَبَّرُوا وَتَأَمَّرُوا وَتَكَلَّفُوا الْقَوْلَ بِالرَّأْيِ جَعَلُوا لِلْخِلَافِ طَرِيقًا وَتَوَرَّطُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ وَبِمِثْلِهِ طَعَنَتْ الرَّافِضَةُ فِيهِمْ أَيْضًا فَزَعَمُوا أَنَّ الصَّحَابَةَ تَأَمَّرُوا وَعَدَلُوا عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ الْعَالِمِ بِجَمِيعِ النُّصُوصِ الْمُحِيطَةِ بِالْأَحْكَامِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَتَوَرَّطُوا فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْخِلَافِ، فَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَنْ طَعَنَ فِيهِمْ فَقَدْ ضَلَّ عَلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ؛ لِأَنَّ ثَنَاءَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي آيَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَمَدْحَ رَسُولِهِ إيَّاهُمْ فِي أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ يَدُلَّانِ عَلَى عُلُوِّ مَنْصِبِهِمْ وَارْتِفَاعِ قَدْرِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَكَيْفَ يَعْتَقِدُ الْعَاقِلُ الْقَدْحَ فِيهِمْ بِقَوْلِ مُبْتَدَعٍ، مِثْلِ النَّظَّامِ وَبِقَوْلِ الرَّافِضَةِ الَّذِينَ هُمْ أَعْدَاءُ الدِّينِ، وَنَابَذَ الْإِسْلَامَ أَيْ أَظْهَرَ عَدَاوَتَهُ وَمُحَارَبَتَهُ لِأَنَّ الدِّينَ وَصَلَ إلَيْنَا مِنْ قِبَلِهِمْ فَمَتَى طُعِنَ فِيهِمْ لَمْ يَثْبُتْ بِنَقْلِهِمْ شَيْءٌ فَكَانَ الطَّعْنُ فِيهِمْ عَائِدًا إلَى الْإِسْلَامِ فِي التَّحْقِيقِ. 1 - قَوْلُهُ (وَمَنْ ادَّعَى خُصُوصَهُمْ) إلَى آخِرِهِ زَعَمَ مَنْ عَجَزَ مِنْ نُفَاةِ الْقِيَاسِ عَنْ إنْكَارِ اسْتِعْمَالِ الصَّحَابَةِ الرَّأْيَ فِي الْأَحْكَامِ وَتَحَرَّزَ عَنْ الطَّعْنِ فِيهِمْ فِرَارًا مِنْ الشُّنْعَةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا مَخْصُوصِينَ بِجَوَازِ الْعَمَلِ بِالرَّأْيِ إمَّا بِمُشَاهَدَتِهِمْ الرَّسُولَ وَأَحْوَالَ نُزُولِ الْوَحْيِ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْحُكْمِ الْمُخْتَصِّ بِصُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ رِعَايَةُ الْحِكْمَةِ الْعَامَّةِ وَعَدَمُ ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ أَوْ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَخْصُوصًا بِأَنَّ قَوْلَهُ مُوجِبٌ لِلْعِلْمِ قَطْعًا تَكْرِيمًا لَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ عَمِلُوا بِالرَّأْيِ فِيمَا فِيهِ نَصٌّ بِخِلَافِ النَّصِّ وَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِمْ كَمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ لِصُلْحٍ بَيْنَ الْأَنْصَارِ فَأَذَّنَ بِلَالٌ وَأَقَامَ وَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَأَشَارَ إلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ اُمْكُثْ مَكَانَك فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَدَهُ وَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ» ، وَقَدْ كَانَتْ سُنَّةُ الْإِمَامَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَعْلُومَةً بِالنَّصِّ، ثُمَّ تَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ بِالرَّأْيِ، وَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَثْبُتَ مَكَانَهُ، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ بِالرَّأْيِ. «وَكَتَبَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ هَذَا مَا صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عُمَرَ: لَوْ عَرَفْنَاك رَسُولًا مَا حَارَبْنَاك اُكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يَمْحُوَ لَفْظَ رَسُولِ اللَّهِ فَأَبَى حَتَّى مَحَاهُ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِنَفْسِهِ» وَمَا كَانَ هَذَا الْإِبَاءُ عَمَلًا بِالرَّأْيِ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَاشْتَغَلَ مُعَاذٌ حِينَ سُبِقَ بِنَقْضِ الصَّلَاةِ بِمُتَابَعَةِ الْإِمَامِ بِالرَّأْيِ، وَقَدْ كَانَ الْحُكْمُ لِلْمَسْبُوقِ أَنْ يَبْدَأَ بِقَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ، ثُمَّ يُتَابِعُ الْإِمَامَ وَكَانَ هَذَا عَمَلًا بِالرَّأْيِ فِي مَوْضِعِ النَّصِّ وَفِي نَظَائِرِهَا كَثْرَةٌ وَكَذَلِكَ عَمِلُوا بِالرَّأْيِ فِيمَا لَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ مِنْ الْمَقَادِيرِ نَحْوُ حَدِّ الشُّرْبِ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثَبَتَ بِآرَائِنَا فَيَثْبُتُ أَنَّهُمْ كَانُوا مَخْصُوصِينَ بِالْعَمَلِ بِالرَّأْيِ فَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَنْ ادَّعَى خُصُوصَهُمْ أَيْ تَفَرُّدَهُمْ بِجَوَازِ الْعَمَلِ بِالرَّأْيِ فَقَدْ ادَّعَى أَمْرًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ لِأَنَّ النَّصَّ الْمُوجِبَ لِلِاعْتِبَارِ يَعُمُّ الْجَمِيعَ وَلَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الصَّحَابَةُ خَاصَّةً

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ وَاجِبٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَهُوَ النَّظَرُ وَالتَّأَمُّلُ فِيمَا أَصَابَ مِنْ قَبْلَنَا مِنْ الْمَثُلَاتِ بِأَسْبَابٍ نُقِلَتْ عَنْهُمْ لِنَكُفَّ عَنْهَا احْتِرَازًا عَنْ مِثْلِهِ مِنْ الْجَزَاءِ، وَكَذَلِكَ التَّأَمُّلُ فِي حَقَائِقِ اللُّغَةِ لِاسْتِعَارَةِ غَيْرِهَا لَهَا سَائِغٌ وَالْقِيَاسُ نَظِيرُهُ بِعَيْنِهِ لِأَنَّ الشَّرْعَ شَرَعَ أَحْكَامًا بِمَعَانِي أَشَارَ إلَيْهَا كَمَا أَنْزَلَ مَثُلَاتٍ بِأَسْبَابٍ قَصَّهَا وَدَعَانَا إلَى التَّأَمُّلِ ثُمَّ الِاعْتِبَارِ ـــــــــــــــــــــــــــــQدُونَ غَيْرِهِمْ فَكَانَ ادِّعَاءُ كَوْنِهِمْ مَخْصُوصِينَ بِالْعَمَلِ بِهِ دَعْوَى بِلَا دَلِيلٍ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَمَنْ لَا يَرَى إثْبَاتَ شَيْءٍ بِالْقِيَاسِ مَعَ أَنَّهُ حُجَّةٌ كَيْفَ يَرَى إثْبَاتَ أَمْرٍ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَأَمَّا دَعْوَى الْخُصُوصِ بِنَاءً عَلَى مُشَاهَدَةِ أَحْوَالِ الْوَحْيِ وَمَعْرِفَةِ الْمُرَادِ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ فَفَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا تُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ؛ فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَكَذَا دَعْوَاهُمْ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ أَنَّ الْكَرَامَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْظِيمِ النَّصِّ بِتَرْكِ الرَّأْيِ فِي مُقَابَلَتِهِ لَا بِإِظْهَارِ الْمُخَالَفَةِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِالرَّأْيِ وَإِنَّمَا عَمِلُوا بِخِلَافِ النَّصِّ فِي بَعْضِ الْحَوَادِثِ لِفَهْمِهِمْ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ أَوْ غَيْرِهَا أَنَّ ذَلِكَ تَرَخُّصٌ، وَأَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْعَزِيمَةِ أَوْلَى، فَفِي حَدِيثِ الْإِمَامَةِ عَلَى الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ إشَارَةَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَنْ يَثْبُتَ مَكَانَهُ كَانَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّرَخُّصِ وَالْإِكْرَامِ لَهُ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ تَأَخَّرَ تَمَسُّكًا بِالْعَزِيمَةِ الثَّابِتَةِ بِقَوْلِهِ جَلَّ جَلَالُهُ «لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ مَا كَانَ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ التَّمَسُّكُ بِالْعَزِيمَةِ كَانَ فِي التَّقَدُّمِ لِلْإِمَامَةِ قَبْلَ حُضُورِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُرَاعَاةً لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ الْمَعْهُودِ وَالتَّأَخُّرُ إلَى الْحُضُورِ كَانَ رُخْصَةً. وَكَذَلِكَ عَلِمَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَحْوِ لَمْ يَكُنْ لِلْإِلْزَامِ فَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ إلَّا تَتْمِيمَ الصُّلْحِ فَرَأَى إظْهَارَ الصَّلَابَةِ فِي الدِّينِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ عَزِيمَةً، ثُمَّ الرَّغْبَةُ فِي الصُّلْحِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ لِلْإِمَامِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَتَمَامُ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ فِي أَنْ يُظْهِرَ الْإِمَامُ الْمُسَامَحَةَ وَالْمُسَاهَلَةَ فِيمَا يَطْلُبُونَ وَيُظْهِرَ الْمُسْلِمُونَ الْقُوَّةَ وَالشِّدَّةَ فِي ذَلِكَ لِيَعْلَمَ الْعَدُوُّ أَنَّهُمْ لَا يَرْغَبُونَ فِي الصُّلْحِ لِضَعْفِهِمْ فَلِهَذَا أَبَى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ عَرَفَ مُعَاذٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ فِي الْبِدَايَةِ بِالْفَائِتِ لِلْمَسْبُوقِ مَعْنَى الرُّخْصَةِ لِيَكُونَ الْأَدَاءُ عَلَيْهِ أَيْسَرَ وَإِنَّ الْعَزِيمَةَ مُتَابَعَةُ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَاغْتِنَامُ مَا أَدْرَكَهُ مَعَهُ فَاشْتَغَلَ بِإِحْرَازِ ذَلِكَ أَوَّلًا تَمَسُّكًا بِالْعَزِيمَةِ لَا مُخَالَفَةً لِلنَّصِّ، وَأَمَّا حَدُّ الشُّرْبِ فَثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَنَدُهُ الِاسْتِدْلَالَ بِحَدِّ الْقَذْفِ وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالْإِجْمَاعِ لَا يَكُونُ مُحَالًا بِهِ عَلَى الرَّأْيِ كَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْمَعْقُولُ) ، فَكَذَا اسْتَدَلَّ أَوَّلًا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا} [الحشر: 2] عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ وَاجِبٌ وَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِهِ فَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ أَنَّ النَّصَّ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الِاعْتِبَارَ بِأَمْرٍ ثَابِتٍ بِالنَّصِّ كَالِاعْتِبَارِ بِالْمَثُلَاتِ دُونَ الرَّأْيِ فَقَالَ إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِيمَا ذَكَرْتُمْ فَالْقِيَاسُ فِي مَعْنَاهُ فَيُلْحَقُ بِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَوَّلَ اسْتِدْلَالٌ بِعِبَارَةِ النَّصِّ وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِدَلَالَتِهِ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ إلَّا أَنَّهُ سَمَّاهُ دَلِيلًا مَعْقُولًا لِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَيْهِ يَحْصُلُ بِالتَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ لَا بِظَاهِرِ النَّصِّ وَصِيغَتِهِ وَهَذَا التَّقْدِيرُ إلَى آخِرِهِ هُوَ الْجَوَابُ الْمَوْعُودُ عَنْ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ الْكُفْرُ أَيْ السَّبَبُ الْمَنْقُولُ عَنْهُمْ الْكُفْرُ لِيَكُفَّ عَنْهَا أَيْ يَمْتَنِعَ عَنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ مِثْلِ مَا أَصَابَ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الْجَزَاءِ يَعْنِي وُجُوبُ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ فِيمَا أَصَابَهُمْ بِتِلْكَ الْأَسْبَابِ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِعَيْنِهِ بَلْ لِنَعْتَبِرَ أَحْوَالَنَا بِأَحْوَالِهِمْ فَكَيْفَ عَمَّا أَسْبَقَ جَوَابُهُ مَا لَحِقَهُمْ مِنْ الْعَذَابِ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الِاعْتِبَارِ الِاتِّعَاظُ بِالْغَيْرِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ حُكْمٍ هُوَ هَلَاكٌ فِي مَحَلٍّ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى هُوَ كُفْرٌ وَبَيْنَ

وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي الْأَصْلِ فِي قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر: 2] فَالْإِخْرَاجُ مِنْ الدِّيَارِ عُقُوبَةٌ بِمَعْنَى الْقَتْلِ وَالْكُفْرُ يَصْلُحُ دَاعِيًا إلَيْهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQحُكْمٍ هُوَ تَحْلِيلٌ أَوْ تَحْرِيمٌ فِي مَحَلٍّ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى هُوَ قَدْرٌ وَجِنْسٌ فَالتَّنْصِيصُ عَلَى الْأَمْرِ بِالِاعْتِبَارِ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ يَكُونُ تَنْصِيصًا عَلَى الْأَمْرِ بِهِ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ دَلَالَةً وَاللَّامُ فِي لِيَكُفَّ مُتَعَلِّقَةٌ بِالنَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ وَكَذَلِكَ التَّأَمُّلُ أَيْ كَمَا أَنَّ التَّأَمُّلَ فِي أَحْوَالِ مَنْ قَبْلَنَا وَاجِبٌ لِنَعْتَبِرَ أَحْوَالَنَا بِأَحْوَالِهِمْ، التَّأَمُّلُ فِي حَقَائِقِ اللُّغَةِ أَيْ فِي مَعَانِي الْأَلْفَاظِ لِاسْتِعَارَةِ غَيْرِهَا أَيْ غَيْرِ أَلْفَاظِهَا الدَّالَّةِ عَلَيْهَا بِالْوَضْعِ لَهَا أَيْ لِتِلْكَ الْحَقَائِقِ وَالْمَعَانِي سَائِغٌ أَيْ جَائِزٌ كَالتَّأَمُّلِ فِي مَعْنَى الشُّجَاعِ، وَهُوَ الْإِنْسَانُ الْمَوْصُوفُ بِالشَّجَاعَةِ لِاسْتِعَارَةِ غَيْرِ لَفْظِهِ، وَهُوَ الْأَسَدُ الدَّالُّ عَلَى الْهَيْكَلِ الْمَعْلُومِ لِذَلِكَ الْإِنْسَانِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الشَّجَاعَةَ مِنْ الْأَوْصَافِ الْمَشْهُورَةِ لِذَلِكَ الْهَيْكَلِ سَائِغٌ بِلَا خِلَافٍ، فَكَذَا التَّأَمُّلُ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ لِتَعْرِفَ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ مَنَاطُ الْحُكْمِ وَتَعْدِيَةُ حُكْمِ الْأَصْلِ إلَى الْفَرْعِ يَكُونُ جَائِزًا أَيْضًا وَلَوْ قِيلَ: وَكَذَلِكَ التَّأَمُّلُ فِي حَقَائِقِ اللُّغَةِ لِاسْتِعَارَتِهَا لِغَيْرِ مَوْضُوعَاتِهَا سَائِغٌ لَكَانَ مُوَافِقًا لِمَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ أَنَّ التَّأَمُّلَ فِي مَعْنَى الثَّابِتِ بِإِشَارَةِ صَاحِبِ الشَّرْعِ بِمَنْزِلَةِ التَّأَمُّلِ فِي مَعْنَى اللِّسَانِ الثَّابِتِ بِوَضْعِ وَاضِعِ اللُّغَةِ، ثُمَّ التَّأَمُّلُ فِي ذَلِكَ لِلْوُقُوفِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ حَتَّى نَجْعَلَ ذَلِكَ اللَّفْظَ مُسْتَعَارًا فِي مَحَلٍّ آخَرَ بِطَرِيقِهِ جَائِزٌ مُسْتَقِيمٌ مِنْ عَمَلِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ فَكَذَلِكَ التَّأَمُّلُ فِي مَعَانِي النَّصِّ لِإِثْبَاتِ حُكْمِ النَّصِّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ عُلِمَ أَنَّهُ مِثْلُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ الْمُؤَثِّرَ إلَّا بِالسَّمَاعِ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ كَمَا لَا يُعْرَفُ طَرِيقُ الِاسْتِعَارَةِ إلَّا مِنْ الْعَرَبِ فَكَانَ الْبَابَانِ وَاحِدًا غَيْرَ أَنَّ الْمَصِيرَ إلَى أَحَدِهِمَا بِالسَّمَاعِ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَفِي الْآخَرِ مِنْ الْعَرَبِ. وَقَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَيْضًا إنَّا أَحْيَيْنَا بِالْقِيَاسِ الْحُجَجَ حَتَّى عَمَّتْ بِالتَّعْلِيلِ فَأَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهَا فِي غَيْرِ مَا تَنَاوَلَهُ النَّصُّ لُغَةً كَمَا أَحْيَا هُوَ - وَنَحْنُ مَعَهُ - حَقَائِقَ النُّصُوصِ بِالْوُقُوفِ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ وَالِاسْتِعَارَاتِ فَأَمْكَنَنَا الْعَمَلُ بِهَا فِي غَيْرِ مَا وَضَعَهَا وَاضِعُ اللُّغَةِ فِي الْأَصْلِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ اقْتِرَاحًا عَلَى اللِّسَانِ وَلَا وَضْعًا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ فَكَذَلِكَ هَذَا وَالْقِيَاسُ نَظِيرُهُ أَيْ نَظِيرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الِاعْتِبَارِ الْوَاجِبِ وَالتَّأَمُّلِ فِي حَقَائِقِ اللُّغَةِ، وَدَعَانَا إلَى التَّأَمُّلِ ثُمَّ الِاعْتِبَارِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ يَتَوَقَّفُ عَلَى سَابِقَةِ التَّأَمُّلِ فَكَانَ الدُّعَاءُ إلَى الِاعْتِبَارِ دُعَاءً إلَى التَّأَمُّلِ. 1 - قَوْلُهُ (وَبَيَانُ ذَلِكَ) أَيْ بَيَانُ التَّأَمُّلِ الْمُؤَدِّي إلَى الِاعْتِبَارِ فِي الْأَصْلِ أَيْ فِي النَّصِّ الْمُوجِبِ لِلِاعْتِبَارِ يَتَحَقَّقُ فِي قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الحشر: 2] يَعْنِي يَهُودَ بَنِي النَّضِيرِ مِنْ دِيَارِهِمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ بِالْمَدِينَةِ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ صَالَحُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ عَلَى أَنْ لَا يَكُونُوا عَلَيْهِ وَلَا لَهُ فَنَقَضُوا الْعَهْدَ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ فَخَرَجَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ فِي أَرْبَعِينَ رَاكِبًا إلَى مَكَّةَ فَحَالَفُوا عَلَيْهِ قُرَيْشًا عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَأَمَرَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيَّ بِقَتْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ فَقَتَلَهُ غِيلَةً وَكَانَ أَخَاهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ، ثُمَّ خَرَجَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْكَتَائِبِ وَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْمَدِينَةِ فَاسْتُمْهِلُوا عَشْرَةَ أَيَّامٍ فَدَسَّ الْمُنَافِقُونَ إلَيْهِمْ لَا تَخْرُجُوا مِنْ الْحِصْنِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَنَحْنُ مَعَكُمْ لَا نَخْذُلُكُمْ وَإِنْ خَرَجْتُمْ لَنَجْرُجَنَّ مَعَكُمْ فَلَمَّا آيَسُوا مِنْ نَصْرِهِمْ طَلَبُوا الصُّلْحَ فَأَبَى عَلَيْهِمْ إلَّا الْجَلَاءَ عَلَى أَنْ يَحْمِلَ كُلُّ ثَلَاثِ أَبْيَاتٍ عَلَى بَعِيرٍ مَا شَاءُوا مِنْ مَتَاعِهِمْ فَلَحِقُوا بِالشَّامِ بِأَذْرَعَاتٍ وَأَرِيحَا إلَّا أَهْلُ

وَأَوَّلُ الْحَشْرِ دَلَالَةٌ عَلَى تَكْرَارِ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ. وقَوْله تَعَالَى {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} [الحشر: 2] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إصَابَةَ النُّصْرَةِ جَزَاءُ التَّوَكُّلِ وَقَطْعُ الْحِيَلِ وَأَنَّ الْمَقْتَ وَالْخِذْلَانَ جَزَاءُ النَّظَرِ إلَى الْقُوَّةِ وَالِاغْتِرَارِ بِالشَّوْكَةِ إلَى مَا لَا يُحْصَى مِنْ مَعَانِي النَّصِّ ثُمَّ دَعَانَا إلَى الِاعْتِبَارِ بِالتَّأَمُّلِ فِي مَعَانِي النَّصِّ لِلْعَمَلِ بِهِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبَيْتَيْنِ مِنْهُمْ آلُ أَبِي الْحَقِيقِ وَآلُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ؛ فَإِنَّهُمْ لَحِقُوا بِخَيْبَرَ وَلَحِقَتْ طَائِفَةٌ بِالْحِيرَةِ. وَاللَّامُ فِي " لِأَوَّلِ الْحَشْرِ " مُتَعَلِّقَةٌ بِأَخْرَجَ وَهِيَ مِثْلُ اللَّامِ فِي قَدَّمْت لِحَيَاتِي وَفِي جِئْته لِوَقْتِ كَذَا وَالْمَعْنَى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا عِنْدَ أَوَّلِ الْحَشْرِ مَعْنَى أَوَّلِ الْحَشْرِ أَنَّ هَذَا أَوَّلُ حَشْرِهِمْ إلَى الشَّامِ وَكَانُوا مِنْ سِبْطٍ لَمْ يُصِبْهُمْ جَلَاءٌ قَطُّ وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ أُخْرِجَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ إلَى الشَّامِ، أَوْ هَذَا أَوَّلُ حَشْرِهِمْ وَالْحَشْرُ الثَّانِي إجْلَاءُ عُمَرَ إيَّاهُمْ مِنْ خَيْبَرَ إلَى الشَّامِ وَإِلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْكِتَابِ، وَقِيلَ: الْحَشْرُ الثَّانِي حَشْرُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّ الْمَحْشَرَ يَكُونُ بِالشَّامِّ {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} [الحشر: 2] لِشِدَّةِ بَأْسِهِمْ وَمَنَعَتِهِمْ وَوَثَاقَةِ حُصُونِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَعُدَّتِهِمْ وَظَنُّوا أَنَّ حُصُونَهُمْ تَمْنَعُهُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ أَمْرُ اللَّهِ أَوْ عَذَابُهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا لَمْ يَظُنُّوا وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ مِنْ جِهَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانُوا يَحْسِبُونَ أَنَّهُمْ يَغْلِبُونَهُمْ وَيَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الأحزاب: 26] بِقَتْلِ رَئِيسِهِمْ غِرَّةً عَلَى يَدِ أَخِيهِ وَالرُّعْبُ الْخَوْفُ الَّذِي يُرْعِبُ الصَّدْرَ أَيْ يَمْلَؤُهُ وَقَذْفُهُ إثْبَاتُهُ وَرَكْزُهُ، " يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ " التَّخْرِيبُ الْإِخْرَابُ وَالْإِفْسَادُ بِالنَّقْضِ وَالْهَدْمِ، وَقِيلَ: التَّخْرِيبُ الْهَدْمُ وَالْإِخْرَابُ تَرْكُهُ لَا سَاكِنَ فِيهِ وَالِانْتِقَالُ عَنْهُ كَانُوا يُخْرِبُونَ بَوَاطِنَهَا وَالْمُسْلِمُونَ ظَوَاهِرَهَا لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ اسْتِئْصَالِ شَأْفَتِهِمْ وَأَنْ لَا يَبْقَى لَهُمْ بِالْمَدِينَةِ دَارٌ وَلَا مِنْهُمْ دَيَّارٌ وَاَلَّذِي دَعَاهُمْ إلَى التَّخْرِيبِ حَاجَتُهُمْ إلَى الْخَشَبِ وَالْحِجَارَةِ لِيَسُدُّوا أَفْوَاهَ الْأَزِقَّةِ وَأَنْ لَا يَتَحَسَّرُوا بَعْدَ جَلَائِهِمْ عَلَى بَقَائِهَا مَسَاكِنَ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَنْ يَنْقُلُوا مَعَهُمْ مَا كَانَ فِي أَبْنِيَتِهِمْ مِنْ الْخَشَبِ وَالسَّاجِ الْمَلِيحِ. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَدَاعِيهِمْ إزَالَةُ مُتَحَصَّنِهِمْ وَمُتَمَنَّعِهِمْ وَأَنْ يَتَّسِعَ لَهُمْ مَجَالُ الْحَرْبِ، وَمَعْنَى تَخْرِيبِهِمْ لَهَا بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ لَمَّا عَرَضُوهُمْ لِذَلِكَ وَكَانُوا السَّبَبَ فِيهِ فَكَأَنَّهُمْ أَمَرُوهُمْ بِهِ وَكَلَّفُوهُمْ إيَّاهُمْ " فَاعْتَبِرُوا " فَاتَّعِظُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ يَا ذَوِي الْعُقُولِ وَلَا تَفْعَلُوا فِعْلَ بَنِي النَّضِيرِ فَيَنْزِلَ بِكُمْ مَا نَزَلَ بِهِمْ هَذَا تَفْسِيرُ الْآيَةِ. وَبَيَّنَ الشَّيْخُ طَرِيقَ الْمُتَأَمِّلِ فِيهَا لِلِاعْتِبَارِ فَقَالَ فَالْإِخْرَاجُ مِنْ الدِّيَارِ عُقُوبَةٌ بِمَنْزِلَةِ الْقَتْلِ لِأَنَّهُ عَدِيلُ الْقَتْلِ فِي قَوْله تَعَالَى {اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} [النساء: 66] وَلِكَوْنِهِ مِثْلَ الْقَتْلِ أَوْ أَشَدَّ مِنْهُ اخْتَارَ بَنُو إسْرَائِيلَ الْقَتْلَ عَلَى الْجَلَاءِ، وَالْكُفْرُ يَصْلُحُ دَاعِيًا إلَيْهِ أَيْ إلَى الْإِخْرَاجِ الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ دَاعِيًا إلَى الْقَتْلِ فَيَصْلُحُ دَاعِيًا إلَى الْإِخْرَاجِ أَيْضًا وَأَوَّلُ الْحَشْرِ دَلَالَةٌ عَلَى تَكْرَارِ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَدُلُّ عَلَى ثَانٍ بَعْدَهُ، وَهُوَ إجْلَاءُ عُمَرَ كَمَا بَيَّنَّا وَإِصَابَةُ النُّصْرَةِ جَزَاءُ التَّوَكُّلِ وَقَطْعِ الْحِيَلِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَظُنُّوا خُرُوجَهُمْ رَأَوْا أَنْفُسَهُمْ عَاجِزِينَ عَنْ إخْرَاجِهِمْ وَحِيَلُهُمْ مُنْقَطِعَةٌ عَنْهُ فَتَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ فَجُوزُوا بِالنُّصْرَةِ وَالنَّجَاحِ وَإِنَّ الْمَقْتَ أَيْ السَّخَطَ وَالْبُغْضَ يُقَالُ: مَقَتَهُ أَيْ أَبْغَضَهُ، وَالْخِذْلَانَ أَيْ تَرْكَ الْعَوْنِ وَالنُّصْرَةِ جَزَاءُ النَّظَرِ إلَى الْقُوَّةِ وَالِاغْتِرَارِ بِالشَّوْكَةِ أَيْ شِدَّةِ الْبَأْسِ وَحِدَّةِ السِّلَاحِ؛ فَإِنَّهُمْ لَمَّا نَظَرُوا إلَى قُوَّتِهِمْ وَظَنُّوا أَنَّ حُصُونَهُمْ مَانِعَتُهُمْ مِنْ اللَّهِ جُوزُوا بِذَلِكَ، ثُمَّ دَعَانَا بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ " فَاعْتَبِرُوا " إلَى الِاعْتِبَارِ بِالتَّأَمُّلِ فِي مَعَانِي النَّصِّ لِلْعَمَلِ بِهِ أَيْ لِنَعْمَلَ بِمَا وَضَحَ لَنَا مِنْ الْمَعْنَى فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ فَنَقِيسُ أَحْوَالَنَا بِأَحْوَالِهِمْ فَنَحْتَرِزُ عَنْ مِثْلِ مَا فَعَلُوا تَوَقِّيًا عَنْ مِثْلِ مَا نَزَلَ بِهِمْ فَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ أَيْ كَمَا وَجَبَ لَنَا

وَمِثَالُ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الرِّبَا وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ» أَيْ بِيعُوا الْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ كَلِمَةُ إلْصَاقٍ فَدَلَّ عَلَى إضْمَارِ فِعْلٍ مِثْلِ قَوْلِك: بِسْمِ اللَّهِ فَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ» وَدَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إلَّا سَوَاءً بِالسَّوَاءِ وَالْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ عَيْنًا بِعَيْنٍ فَمَنْ زَادَ أَوْ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى» وَالْحِنْطَةُ اسْمُ عَلَمٍ لِمَكِيلٍ مَعْلُومٍ، وَقَدْ قُوبِلَ بِجِنْسِهِ وَقَوْلُهُ مِثْلًا بِمِثْلٍ حَالٌ لِمَا سَبَقَ، وَالْأَحْوَالُ شُرُوطٌ أَيْ بِيعُوا بِهَذَا الْوَصْفِ وَالْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ يَكُونُ وَالْبَيْعُ مُبَاحٌ فَلَا بُدَّ مِنْ صَرْفِ الْأَمْرِ إلَى الْحَالِ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ. وَالْمُرَادُ بِالْمِثْلِ الْقَدْرُ لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ كَيْلًا بِكَيْلٍ فَثَبَتَ بِصِيغَةِ الْكَلَامِ، وَقَوْلُهُ وَالْفَضْلُ اسْمٌ لِكُلِّ زِيَادَةٍ، وَقَوْلُهُ رِبًا اسْمٌ لِزِيَادَةٍ هِيَ حَرَامٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّأَمُّلُ فِي مَعْنَى هَذَا النَّصِّ لِلْعَمَلِ بِهِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ يَجِبُ التَّأَمُّلُ فِي سَائِرِ النُّصُوصِ لِاسْتِخْرَاجِ الْمَعَانِي الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا الْأَحْكَامُ بِإِشَارَةِ صَاحِبِ الشَّرْعِ لِيُعْمَلَ بِهَا فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ. 1 - قَوْلُهُ (وَبَيَانُ ذَلِكَ) أَيْ بَيَانُ التَّأَمُّلِ لِاسْتِخْرَاجِ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ مَنَاطُ الْحُكْمِ بِإِشَارَةِ الشَّارِعِ يَتَحَقَّقُ فِي مَسْأَلَةِ الرِّبَا وَذَلِكَ أَيْ ذَلِكَ الْبَيَانُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ» الْحَدِيثَ، رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا بُدَّ مِنْ إضْمَارٍ بِدَلَالَةِ كَلِمَةِ الْبَاءِ؛ فَإِنَّهَا يَقْتَضِي فِعْلًا يَلْتَصِقُ بِوَاسِطَتِهَا بِمَا دَخَلَتْ فِيهِ، وَقَدْ ذُكِرَتْ فِي الْمُعَاوَضَاتِ فَيُضْمَرُ فِعْلٌ يُنَاسِبُهَا فَكَانَ مَعْنَى رِوَايَةِ الرَّفْعِ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ بِطَرِيقِ حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إلَيْهِ مَقَامَهُ وَمَعْنَى رِوَايَةِ النَّصْبِ وَهِيَ مُخْتَارَةُ الشَّيْخِ هَاهُنَا بِيعُوا الْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ مِثْلُ قَوْلِك بِسْمِ اللَّهِ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا اقْتَضَى فِعْلًا أُضْمِرَ فِيهِ الْفِعْلُ الَّذِي جُعِلَتْ التَّسْمِيَةُ مَبْدَأً لَهُ وَدَلَّ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى أَنَّ الْمُضْمَرَ مَا ذَكَرْنَا هَذَانِ الْحَدِيثَانِ وَالْحِنْطَةُ اسْمُ عَلَمٍ لِمَكِيلٍ أَيْ اسْمٌ مَوْضُوعٌ غَيْرُ مَعْنَوِيٍّ لِنَوْعٍ مِنْ الطَّعَامِ الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يُكَالَ وَلَمْ يُرِدْ تَحَقُّقَ الْكَيْلِ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُكَلْ أَصْلًا لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مَكِيلًا، وَقَدْ قُوبِلَ هَذَا الْمُسَمَّى بِجِنْسِهِ بِقَوْلِهِ الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ. وَقَوْلُهُ مِثْلًا بِمِثْلٍ حَالٌ لِمَا سَبَقَ، وَهُوَ الْحِنْطَةُ وَيَكُونُ حَالًا عَنْ الْمَفْعُولِ وَالْأَحْوَالُ شُرُوط لِأَنَّهَا صِفَاتٌ وَالصِّفَاتُ مُقَيِّدَةٌ كَالشُّرُوطِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ رَاكِبَةً كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: إنْ رَكِبْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَالْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ يَكُونُ نَظَرًا إلَى الْأَصْلِ، وَلَمْ يَعْمَلْ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بِالْإِجْمَاعِ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْحَالِ الَّتِي هِيَ شَرْطُ الْجَوَازِ وَصَارَ كَأَنَّهُ قِيلَ: إذَا أَقْدَمْتُمْ عَلَى بَيْعِ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ فَبِيعُوا فِي حَالَةِ الْمُسَاوَاةِ دُونَ غَيْرِهَا، وَلِهَذَا اخْتَارَ الشَّيْخُ رِوَايَةَ النَّصْبِ الْمُقْتَضِيَةَ لِإِضْمَارِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرُ فِي إيجَابِ شَرْطِ الْمُمَاثَلَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَصِيرُ مَشْرُوطًا بِشَرَائِطَ يُفْتَرَضُ مُرَاعَاتُهَا عِنْدَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَاتِهِ فَرْضًا كَالنِّكَاحِ لَمَّا شُرِعَ بِشَرْطِ الشُّهُودِ يُفْتَرَضُ إحْضَارُ الشُّهُودِ لِانْعِقَادِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِنَفْسِهِ وَاجِبًا وَكَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ يُفْتَرَضُ مُرَاعَاةُ شُرُوطِهَا مِنْ تَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ عِنْدَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي نَفْسِهَا وَاجِبَةً. وَالْمُرَادُ بِالْمِثْلِ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقَدْرِ أَيْ الْكَيْلِ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْوَزْنِ فِي الْمَوْزُونَاتِ دُونَ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّرْفِ وَذَكَرَ مَكَانَ قَوْلِهِ مِثْلًا بِمِثْلٍ كَيْلًا بِكَيْلٍ وَوَزْنًا بِوَزْنٍ؛ فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُمَاثَلَةُ قَدْرًا لَا وَصْفًا وَكَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا فَثَبَتَ بِصِيغَةِ الْكَلَامِ أَيْ ثَبَتَ هَذَا الْمَجْمُوعُ، وَهُوَ إضْمَارُ الْبَيْعِ وَإِيجَابُ الْمُمَاثَلَةِ وَكَوْنُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْقَدْرِ مُرَادًا مِنْهُ الْمِثْلُ بِإِشَارَةِ صِيغَةِ الْكَلَامِ وَالتَّأَمُّلِ فِي مَعْنَاهَا، وَالْفَضْلُ اسْمٌ لِكُلِّ زِيَادَةٍ أَيْ زِيَادَةٍ تَرْجِعُ إلَى أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ بِأَنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الْبَدَلَيْنِ كَزِيَادَةِ قَفِيزٍ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا كَزِيَادَةِ دِرْهَمٍ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْحَالِ بِأَنْ كَانَ أَحَدُهُمَا نَقْدًا وَالْآخَرُ نَسِيئَةً. وَقَوْلُهُ رِبًا اسْمٌ لِزِيَادَةٍ وَهِيَ حَرَامٌ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] لَا لِكُلِّ زِيَادَةٍ؛ فَإِنَّ الرِّبْحَ فِي التِّجَارَةِ وَالنَّمَاءَ فِي

وَهُوَ فَضْلُ مَالٍ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فِي مُعَاوَضَةِ مَالٍ بِمَالٍ وَالْمُرَادُ بِالْفَضْلِ الْفَضْلُ عَلَى الْقَدْرِ؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِنَاءً عَلَى الْمُمَاثَلَةِ لِيَكُونَ فَضْلًا عَلَيْهَا وَالْمُرَادُ بِالْمُمَاثَلَةِ الْقَدْرُ بِالنَّصِّ فَكَذَلِكَ الْفَضْلُ عَلَيْهَا لَا مَحَالَةَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالزِّرَاعَةِ زِيَادَةٌ وَلَكِنَّهَا لَا تُسَمَّى رِبًا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَرَامٍ، وَهُوَ أَيْ الْفَضْلُ الَّذِي هُوَ رِبَا فَضْلُ مَالٍ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ بِمَالٍ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا كَانَ مُعَاوَضَةً لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَحَقَّ فَضْلٌ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَيَكُونُ أَخْذُهُ ظُلْمًا وَاشْتِرَاطُهُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ، فَيَكُونُ كَمَا لَوْ بَاعَ عَبْدًا بِجَارِيَةٍ وَشَرَطَ أَنْ يُسَلِّمَ إلَيْهِ مَعَ الْعَبْدِ ثَوْبًا أَوْ يَعْمَلَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعٍ عَمَلًا؛ فَإِنَّهُ يَفْسُدُ الْعَقْدُ لِخُلُوِّ هَذِهِ الزِّيَادَةِ عَنْ الْعِوَضِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ التَّمَلُّكَ لَوْ كَانَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ بِأَنْ يَقُولَ مَلَّكْتُك هَذَا الْعَرَضَ بِهِبَةٍ بِلَا مَالٍ يَحِلُّ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عِوَضٍ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْهِبَةِ لَمَّا كَانَ عَقْدَ تَبَرُّعٍ جَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهِ مَا لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَاهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْحُرْمَةَ بِاعْتِبَارِ الْخُلُوِّ عَنْ الْعِوَضِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ. فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ حَرَامًا؛ لِأَنَّهُ فَضْلٌ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ؛ لِأَنَّ مَا يُقَابِلُهُ الْعِوَضُ لَا يَكُونُ رِبْحًا وَلَيْسَ الرِّبْحُ بِحَرَامٍ بِالْإِجْمَاعِ؛ فَإِنَّ الْأَسْوَاقَ مَا وُضِعَتْ إلَّا لِلِاسْتِرْبَاحِ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَيْعَ عَبْدٍ بِعَبْدَيْنِ وَثَوْبٍ بِعَشَرَةِ أَثْوَابٍ جَائِزٌ وَالْفَضْلُ فِيهِ مُتَحَقِّقٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ تَبَرُّعًا فِي عَقْدِ الْمَرِيضِ وَبَيْعِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ فَضْلٌ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ اشْتِرَاطُهُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ لِكَوْنِهِ مُغَيِّرًا لِمُقْتَضَاهُ لَكِنَّ الرِّبْحَ زِيَادَةٌ تَظْهَرُ عِنْدَ الْبَيْعِ لَا عِنْدَ الشِّرَاءِ؛ فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى مَا يُسَاوِي دِرْهَمًا بِعَشَرَةٍ جُعِلَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ مُتَقَوِّمًا بِعَشْرَةٍ لِرَغْبَتِهِ فِي شِرَائِهِ بِعَشْرَةٍ وَلَهَا أَثَرٌ فِي إثْبَاتِ زِيَادَةِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ؛ فَإِنَّ تَغَيُّرَ الْأَسْعَارِ بِرَغَائِبِ النَّاسِ وَلَعَلَّ لَهُ فِيهِ مَنْفَعَةً وَمَصْلَحَةً تُسَاوَى بِعَشَرَةٍ فَكَانَ فِي حَقِّهِ مُتَقَوِّمًا بِعَشْرَةٍ وَرَبِحَ الْآخَرُ عَلَيْهِ تِسْعَةَ أَعْشَارٍ لِأَنَّ فِي السُّوقِ قِيمَتَهَا عَشَرَةٌ وَكَذَا لَوْ بَاعَ مَا يُسَاوِي عَشَرَةً بِدِرْهَمٍ يُجْعَلُ قِيمَتُهُ دِرْهَمًا فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِتَرَاجُعِ رَغْبَتِهِمَا فِيهِ فَلَمْ يَخْلُ فَضْلٌ عَنْ الْعِوَضِ وَلَكِنْ لَمَّا وَجَدَهُ الْمُشْتَرِي عِنْدَ أَهْلِ السُّوقِ يُسَاوَى بِعَشْرَةٍ ظَهَرَ الرِّبْحُ عِنْدَ الْبَيْعِ فَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْجَوْدَةِ وَرَجَعَتْ الْمَالِيَّةُ إلَى الذَّاتِ فَلَا يَثْبُتُ بِرَغْبَةِ الْمُشْتَرِي مَالِيَّةٌ فَيَظْهَرُ الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ وَكَذَا فِي تَصَرُّفِ الْمَرِيضِ وَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ زِيَادَةِ الْمَالِيَّةِ بِرَغْبَةِ الْمُشْتَرِي إنَّمَا تَصِحُّ إذَا كَانَ ذَلِكَ تَصَرُّفًا فِي خَالِصِ مِلْكِهِ وَتَصَرُّفُ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ فِي مَالِ الصَّغِيرِ وَالْيَتِيمِ وَتَصَرُّفُ الْمَرِيضِ فِي مَالٍ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ لَا فِي خَالِصِ مِلْكِهِمْ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى رَغْبَتِهِمْ لِتَأْدِيَتِهَا إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ فَيَظْهَرُ الْفَضْلُ فِي تَصَرُّفَاتِهِمْ أَيْضًا. وَالْمُرَادُ بِالْفَضْلِ الْفَضْلُ عَلَى الْقَدْرِ أَيْ الْقَدْرِ الشَّرْعِيِّ، وَهُوَ الْكَيْلُ لَا مُطْلَقُ الْفَضْلِ؛ لِأَنَّ فَضْلَ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ عَلَى الْآخَرِ يَسْتَلْزِمُ مُسَاوَاةً بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْفَضْلِ لِيُمْكِنَ تَحْقِيقُ فَضْلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ إذْ لَا يُقَالُ لِفُلَانٍ فَضْلٌ عَلَى فُلَانٍ فِي الْعِلْمِ إلَّا إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا نَوْعُ مُسَاوَاةٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعِلْمِ وَامْتَازَ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةٍ فِيهِ وَهَاهُنَا ذُكِرَتْ الْمُمَاثَلَةُ، ثُمَّ ذُكِرَ الْفَضْلُ بَعْدَهَا. وَالْمُرَادُ مِنْ الْمُمَاثَلَةِ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقَدْرِ بِالنَّصِّ، وَهُوَ مَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَيْلًا بِكَيْلٍ وَبِالْإِجْمَاعِ فَكَذَلِكَ الْفَضْلُ عَلَى هَذِهِ الْمُمَاثَلَةِ يَكُونُ فَضْلًا عَلَى الْكَيْلِ مَبْنِيًّا عَلَيْهِ فِي الذِّكْرِ كَمَا لَوْ قِيلَ: زَيْدٌ فَقِيهٌ وَعَمْرٌو فَقِيهٌ إلَّا أَنَّ زَيْدًا أَفْضَلُ مِنْهُ يَنْصَرِفُ قَوْلُهُ أَفْضَلُ إلَى صِفَةِ الْفِقْهِ الْمَذْكُورَةِ لَا إلَى صِفَةٍ لَمْ تُذْكَرْ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْبَدَلَيْنِ لَوْ تَمَاثَلَا مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ

وَصَارَ حُكْمُ النَّصِّ وُجُوبَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْقَدْرِ ثُمَّ الْحُرْمَةَ بِنَاءً عَلَى فَوَاتِ حُكْمِ الْأَمْرِ هَذَا حُكْمُ هَذَا النَّصِّ عَرَفْنَاهُ بِالتَّأَمُّلِ فِي صِيغَةِ النَّصِّ فَوَجَبَ عَلَيْنَا التَّأَمُّلُ فِيمَا هُوَ دَاعٍ إلَى هَذَا الْحُكْمِ مِمَّا هُوَ ثَابِتٌ بِهَذَا النَّصِّ، وَهُوَ إيجَابُ الْمُمَاثَلَةِ عِنْدَ الْبَيْعِ بِجِنْسِهَا، وَإِذَا تَأَمَّلْنَا وَجَدْنَا الدَّاعِيَ إلَى هَذَا الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ؛ لِأَنَّ إيجَابَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَمْوَالِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَةً وَلَنْ تَكُونَ أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَةً إلَّا بِالْجِنْسِ وَالْقَدْرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مِنْ الْمُحْدَثِ مَوْجُودٌ بِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ؛ فَإِنَّمَا تَقُومُ الْمُمَاثَلَةُ بِهِمَا فَالْقَدْرُ عِبَارَةٌ عَنْ امْتِلَاءِ الْمِعْيَارِ بِمَنْزِلَةِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ فَصَارَ بِهِ يَحْصُلُ الْمُمَاثَلَةُ صُورَةً وَالْجِنْسُ عِبَارَةٌ عَنْ مُشَاكَلَةِ الْمَعَانِي فَتَثْبُتُ بِهِ الْمُمَاثَلَةُ مَعْنًى ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْفَضْلُ عَلَى الْكَيْلِ مَوْجُودٌ حَرُمَ وَلَوْ كَانَ عَلَى عَكْسِهِ لَمْ يَحْرُمْ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْفَضْلُ عَلَى الْكَيْلِ. وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ فَكَذَلِكَ الْفَضْلُ عَلَيْهَا لَا مَحَالَةَ اشْتِرَاطُ الْكَيْلِ فِي الْفَضْلِ يَعْنِي كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُمَاثَلَةِ هُوَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْكَيْلِ لَا مُطْلَقُ الْمُمَاثَلَةِ فَكَذَلِكَ الْفَضْلُ عَلَى مِلْكِ الْمُمَاثَلَةِ لَا يَكُونُ حَرَامًا مَا لَمْ يَكُنْ مَكِيلًا لِأَنَّ السَّابِقَ مِثْلٌ بِمِثْلٍ. وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْقَدْرُ أَيْ الْكَيْلُ وَالْفَضْلُ مَعْهُودٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ السَّابِقِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْفَضْلُ قَدْرًا أَيْ كَيْلًا وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ فَإِنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ لَا يُنْبِئُ عَنْهُ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَاتِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ نَصَّ فِي غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ أَنَّ أَدْنَى مَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمَكِيلَةِ نِصْفُ صَاعٍ وَذَلِكَ مُدَّانِ حَتَّى لَوْ بَاعَ مُدَّيْنِ مِنْ الْحِنْطَةِ بِثَلَاثَةِ أَمْنَاءٍ مِنْهَا لَا يَجُوزُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَنَّ الْوَاحِدَ مِمَّا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ قَفِيزًا مِنْ الْحِنْطَةِ بِقَفِيزٍ مِنْهَا وَدِرْهَمٍ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الزِّيَادَةَ حَرَامٌ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ الْكَيْلَ. قَوْلُهُ (فَصَارَ حُكْمُ النَّصِّ وُجُوبَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْقَدْرِ) يَعْنِي ثَبَتَ بِالتَّقْرِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ فِي هَذَا النَّصِّ وُجُوبُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ الْمُتَجَانِسَيْنِ فِي الْقَدْرِ شَرْطًا لِجَوَازِ الْعَقْدِ، ثُمَّ الْحُرْمَةُ أَيْ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ بِنَاءً عَلَى فَوَاتِ حُكْمِ الْأَمْرِ وَهُوَ التَّسْوِيَةُ الْوَاجِبَةُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» أَيْ بِيعُوا الْحِنْطَةَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَحَلُّ الْحُكْمِ مَا يَقْبَلُ الْمُمَاثَلَةَ كَيْلًا فَلَمْ يَكُنْ مَا لَا يَجْرِي فِيهِ الْكَيْلُ مَحَلًّا لِلْحُكْمِ وَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْفَضْلُ الْحَرَامُ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ مَا تُبْتَنَى الْحُرْمَةُ عَلَيْهِ، وَهُوَ فَوَاتُ التَّسْوِيَةِ مَعَ إمْكَانِ رِعَايَتِهَا فَيَجُوزُ بَيْعُ الْحَفْنَةِ بِالْحَفْنَتَيْنِ وَالتُّفَّاحَةَ بِالتُّفَّاحَتَيْنِ عِنْدَ الْبَيْعِ بِجِنْسِهَا أَيْ عِنْدَ بَيْعِ الْحِنْطَةِ بِجِنْسِهَا أَوْ بَيْعِ هَذِهِ الْأَمْوَالِ الْمَذْكُورَةِ فِي النَّصِّ بِجِنْسِهَا، وَإِذَا تَأَمَّلْنَا وَجَدْنَا الدَّاعِيَ إلَى هَذَا الْحُكْمِ، وَهُوَ وُجُوبُ التَّسْوِيَةِ الْقَدْرَ وَالْجِنْسَ قَالَ الْإِمَامُ الْبُرْغَرِيُّ فِي طَرِيقَتِهِ وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ حُكْمَ النَّصِّ وُجُوبُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْكَيْلِ احْتِرَازًا عَنْ الْفَضْلِ الْحَرَامِ، وَهُوَ الْفَضْلُ عَلَى الْكَيْلِ عَلَّلْنَا فَقُلْنَا: إنَّمَا وَجَبَتْ هَذِهِ التَّسْوِيَةُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ أَمْثَالٌ مُتَسَاوِيَةُ الْمَالِيَّةِ وَكَوْنُهَا أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَةَ الْمَالِيَّةِ مُؤَثِّرٌ فِي إيجَابِ التَّسْوِيَةِ دَفْعًا لِلظُّلْمِ؛ فَإِنَّ الْبَدَلَيْنِ لَمَّا تَسَاوَيَا كَانَ الزَّائِدُ فَضْلًا خَالِيًا عَنْ الْعِوَضِ فِي الْبَيْعِ فَيَكُونُ أَخْذُهُ ظُلْمًا. وَإِنَّمَا صَارَتْ أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَةً بِالْكَيْلِ وَالْجِنْسِ؛ لِأَنَّ الْكَيْلَ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا فِي الذَّاتِ وَالْجِنْسَ فِي الْمَعْنَى وَالْمَوْجُودُ لَيْسَ إلَّا الصُّورَةُ وَالْمَعْنَى فَإِذَا اسْتَوَيَا صُورَةً وَمَعْنًى اسْتَوَيَا قَطْعًا فَصَارَ وُجُوبُ التَّسْوِيَةِ مُضَافًا إلَى كَوْنِهَا أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَةً وَكَوْنُهَا أَمْثَالًا ثَابِتٌ بِالْكَيْلِ وَالْجِنْسِ فَيُضَافُ وُجُوبُ التَّسْوِيَةِ إلَى الْكَيْلِ وَالْجِنْسِ بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ إلَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَسْأَلَةِ شِرَاءِ الْقَرِيبِ وَصَارَتْ حُرْمَةُ الْفَضْلِ مُضَافَةً إلَى الْكَيْلِ وَالْجِنْسِ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْفِعْلِ يَقْتَضِي نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ فَإِيجَابُ التَّسْوِيَةِ كَيْلًا بِكَيْلٍ يَكُونُ تَحْرِيمًا لِلْفَضْلِ عَلَى الْكَيْلِ فَالْكَيْلُ وَنَعْنِي بِهِ كَوْنَ الْمَحَلِّ قَابِلًا لِلْكَيْلِ جُعِلَ عَلَمًا عَلَى الْحِلِّ فِي الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَعَلَمًا عَلَى ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ فِي الْمُتَفَاضِلَيْنِ كَالنِّكَاحِ جُعِلَ عَلَمًا لِلْحِلِّ فِي حَقِّ الزَّوْجِ وَلِلْحُرْمَةِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ يَعْنِي فِيمَا لَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ؛ فَإِنَّ ذِرَاعًا مِنْ الثَّوْبِ يُمَاثِلُ ذِرَاعًا مِنْ اللُّبَدِ صُورَةً كَمَا أَنَّ ذِرَاعًا مِنْ الثَّوْبِ يُمَاثِلُ ذِرَاعًا آخَرَ مِنْ الثَّوْبِ

وَسَقَطَتْ قِيمَةُ الْجَوْدَةِ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا سَوَاءٌ. وَبِالْإِجْمَاعِ فِيمَنْ بَاعَ قَفِيزًا جَيِّدًا بِقَفِيزٍ رَدِيءٍ وَزِيَادَةِ فَلْسٍ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَلِمَا عُرِفَ أَنَّ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِهَلَاكِهِ فَمَنْفَعَتُهُ فِي ذَاتِهِ وَلَمَّا صَارَتْ أَمْثَالًا بِالْقَدْرِ وَالْجِنْسِ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ لِلْجَوْدَةِ شَرْطًا لَا عِلَّةً لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً ـــــــــــــــــــــــــــــQصُورَةً وَمَعْنًى. قَوْلُهُ (وَسَقَطَتْ قِيمَةُ الْجَوْدَةِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ تَثْبُتُ حَقِيقَةً بِمَا ذَكَرْتُمْ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَبْقَى تَفَاوُتٌ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ فِي الْوَصْفِ بَعْدَ اسْتِوَائِهِمَا قَدْرًا وَجِنْسًا؛ فَإِنَّ الْمَالِيَّةَ الَّتِي هِيَ الْمَقْصُودَةُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَزْدَادُ بِالْجَوْدَةِ وَتَنْتَقِصُ بِالرَّدَاءَةِ، وَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ الْمُمَاثَلَةُ لَا يَظْهَرُ الْفَضْلُ كَمَا فِي الْعَبِيدِ وَالثِّيَابِ فَقَالَ هَذَا إنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ بَقِيَتْ لِلْجَوْدَةِ قِيمَةٌ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا وَلَكِنَّهَا سَقَطَتْ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ تِبْرُهُ وَعَيْنُهُ سَوَاءٌ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا سَوَاءٌ» وَالْعَيْنُ اسْمٌ لِلْمَضْرُوبِ وَهُوَ أَجْوَدُ مِنْ التِّبْرِ، وَقَدْ جَعَلَهُمَا سَوَاءً وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ فَيَكُونُ نَصًّا عَلَى سُقُوطِ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ. وَبِالْإِجْمَاعِ أَيْ بِدَلَالَتِهِ؛ فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ قَفِيزَ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ بِقَفِيزٍ مِنْ حِنْطَةٍ رَدِيئَةٍ وَزِيَادَةِ فَلْسٍ لَا يَجُوزُ لِوُجُودِ الْفَضْلِ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ إذْ لَوْ بَقِيَتْ الْجَوْدَةُ مُتَقَوِّمَةً لَأَمْكَنَ جَعْلُ الْفَلْسِ فِي مُقَابَلَةِ الْجَوْدَةِ تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ، إذْ الِاعْتِيَاضُ عَنْ الْجَوْدَةِ صَحِيحٌ إذَا كَانَتْ مَعَ الْأَصْلِ كَمَا إذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ وَكَمَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْبَدَلُ أَوْ أَحَدُهُمَا مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا، وَلِمَا عُرِفَ وَهُوَ الْوَجْهُ الْمَعْقُولُ أَنَّ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِهَلَاكِهِ فَمَنْفَعَتُهُ فِي ذَاتِهِ لَا فِي أَوْصَافِهِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الِانْتِفَاعِ بِأَوْصَافِهِ مَعَ بَقَاءِ ذَاتِهِ وَالتَّقْوِيمُ لِلْأَشْيَاءِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ مَنَافِعِهَا فَإِذَا لَمْ تَكُنْ فِي الْأَوْصَافِ نَفْسِهَا مَنْفَعَةٌ لَمْ يَكُنْ لَهَا قِيمَةٌ فَهَدَرٌ وَتَبْقَى الْعِبْرَةُ لِلْعَيْنِ بِخِلَافِ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ بِدُونِ اسْتِهْلَاكِهِ كَالثِّيَابِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا يَتَحَقَّقُ مَعَ بَقَاءِ أَعْيَانِهَا فَتَكُونُ أَوْصَافُهَا مُعْتَبَرَةً وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَا إذَا بَاعَ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ الْجَيِّدَ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ بِمِثْلِهِ رَدِيئًا؛ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ، وَمَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ كُرًّا مِنْ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ بِكُرٍّ مِنْ حِنْطَةٍ رَدِيئَةٍ؛ فَإِنَّهُ يُجْعَلُ تَبَرُّعًا حَتَّى يُعْتَبَرَ مِنْ الثُّلُثِ وَلَوْ كَانَتْ الْجَوْدَةُ سَاقِطَةً عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْجِنْسِ لَجَازَ الْبَيْعُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى وَلَمْ يُجْعَلْ تَبَرُّعًا فِي الثَّانِيَةِ كَمَا لَوْ بَاعُوا فُلُوسًا جَيِّدَةً رَائِجَةً بِفُلُوسٍ رَدِيئَةٍ رَائِجَةٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّ الْجَوْدَةَ مُتَقَوِّمَةٌ مَعَ الْأَصْلِ وَإِنَّمَا تَسْقُطُ قِيمَتُهَا إذَا انْفَرَدَتْ عَنْ الْأَصْلِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْجِنْسِ، وَقَدْ حُجِرَ هَؤُلَاءِ عَنْ الْمُقَابَلَةِ بِالْجِنْسِ لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالتَّصَرُّفِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَنْظَرِ وَالْمُقَابَلَةُ بِالْجِنْسِ طَرِيقٌ لِإِسْقَاطِ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ وَلَيْسَ فِيهِ نَظَرٌ فَأَمَّا الْعَاقِلُ الْبَالِغُ فَمُطْلَقُ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ نَفْسِهِ فَصَحَّ مِنْهُ التَّصَرُّفُ النَّافِعُ وَالضَّارُّ جَمِيعًا، وَلِهَذَا نَقُولُ: إذَا اسْتَهْلَكَ عَلَى رَجُلٍ حِنْطَةً جَيِّدَةً يَضْمَنُ مِثْلَهَا جَيِّدَةً؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ إنَّمَا تَسْقُطُ إذَا قُوبِلَ الْجَيِّدُ بِالرَّدِيءِ، وَلَهُ أَنْ لَا يَرْضَى بِمُقَابَلَتِهِ بِالرَّدِيءِ حَتَّى لَوْ رَضِيَ بِذَلِكَ سَقَطَ حَقُّهُ أَيْضًا. 1 - قَوْلُهُ (وَلَمَّا صَارَتْ) أَيْ الْأَمْوَالُ الْمَذْكُورَةُ أَمْثَالًا بِالْقَدْرِ وَالْجِنْسِ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ شَرْطًا أَيْ لِصَيْرُورَتِهَا أَمْثَالًا يَعْنِي لِتَحَقُّقِ التَّسْوِيَةِ؛ فَإِنَّ الشَّرْعَ لَمَّا أَوْجَبَ التَّسْوِيَةَ كَيْلًا بِكَيْلٍ احْتِرَازًا عَنْ الْفَضْلِ الْحَرَامِ وَلَنْ يَحْصُلَ التَّسْوِيَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إلَّا بِسُقُوطِ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ سَقَطَ اعْتِبَارُهَا بِطَرِيقِ الشَّرْطِ لِتَحَقُّقِ التَّسْوِيَةِ لَا عِلَّةً يَعْنِي لَمْ يَجْعَلْ سُقُوطَ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ مِنْ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ كَالْقَدْرِ وَالْجِنْسِ لِأَنَّ سُقُوطَ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ اعْتِبَارِهَا وَالْعَدَمُ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِأَمْرٍ وُجُودِيٍّ إذْ الْوُجُودُ لَا يَصْلُحُ أَثَرًا لِلْعَدَمِ وَنَتِيجَةً لَهُ فَلَا يَصْلُحُ التَّمَاثُلُ الَّذِي هُوَ وُجُودِيٌّ أَثَرًا لِعَدَمِ

صَارَتْ الْمُمَاثَلَةُ ثَابِتَةً بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ وَصَارَ سَائِرُ الْأَعْيَانِ فَضْلًا عَلَى هَذَيْنِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِالْكَيْلِ وَالْجِنْسِ بِوَاسِطَةِ الْمُمَاثَلَةِ فَصَارَ شَرْطَ شَيْءٍ مِنْهَا فِي الْبَيْعِ بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ الْخَمْرِ فَفَسَدَ بِهِ الْبَيْعُ فَهَذَا أَيْضًا مَعْقُولٌ مِنْ هَذَا النَّصِّ لَيْسَ بِثَابِتٍ بِالرَّأْيِ فَلَمْ يَبْقَ مِنْ بَعْدُ إلَّا الِاعْتِبَارُ، وَهُوَ أَنَّا وَجَدْنَا الْأَرُزَّ وَالْجِصَّ وَالدَّخَنَ وَسَائِرَ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَةً فَكَانَ الْفَضْلُ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ فِيهَا فَضْلًا خَالِيًا عَنْ الْعِوَضِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ مِثْلُ حُكْمِ النَّصِّ بِلَا تَفَاوُتٍ فَلَزِمَنَا إثْبَاتُهُ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ، وَهُوَ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَمْثِلَةِ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ افْتِرَاقٌ وَحَصَلَ بِمَا قُلْنَا إثْبَاتُ الْأَحْكَامِ بِظَوَاهِرِهَا تَصْدِيقًا وَإِثْبَاتُ مَعَانِيهَا طُمَأْنِينَةً ـــــــــــــــــــــــــــــQتَقَوُّمِ الْجَوْدَةِ فَيُجْعَلُ سُقُوطُ التَّقَوُّمِ شَرْطًا لَا عِلَّةً صَارَتْ الْمُمَاثَلَةُ جَوَابُ لَمَّا ثَابِتَةً بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ أَيْ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ بِالْكَيْلِ وَالْجِنْسِ بِوَاسِطَةِ الْمُمَاثَلَةِ، الْبَاءُ الْأُولَى مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمُتَمَاثِلِينَ وَالثَّانِيَةُ بِصَارَ أَيْ صَارَ سَائِرُ الْأَعْيَانِ فَضْلًا بِوَاسِطَةِ ثُبُوتِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ بِالْكَيْلِ وَالْجِنْسِ فَصَارَ شَرْطُ شَيْءٍ مِنْهَا أَيْ مِنْ الْأَعْيَانِ فِي الْبَيْعِ أَيْ فِي بَيْعِ الْمُتَجَانِسَيْنِ بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ الْخَمْرِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ حَرَامٌ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُفَوِّتٌ لِلْمُمَاثَلَةِ الْوَاجِبَةِ بِالْأَمْرِ. فَإِنْ قِيلَ: يَبْطُلُ مَا ذَكَرْتُمْ بِمَا إذَا بَاعَ جَوْزَةً بِجَوْزَتَيْنِ أَوْ بَيْضَةً بِبَيْضَتَيْنِ حَيْثُ يَجُوزُ، وَإِنْ جُعِلَتْ هَذِهِ الْأَمْوَالُ أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَةَ الْمَالِيَّةِ قَطْعًا بِالْعَدَدِ وَالْجِنْسِ كَالْمَكِيلَاتِ بِالْكَيْلِ وَالْجِنْسِ وَالْمَوْزُونَاتِ بِالْوَزْنِ وَالْجِنْسِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تُضْمَنُ بِالْمِثْلِ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا عَدَدًا مَعَ التَّفَاوُتِ قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَدَدَ يَجْعَلُهَا أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَةَ الْمَالِ قَطْعًا بِخِلَافِ الْكَيْلِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْمُسَاوَاةَ قَدْرًا عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى فِيهِ تَفَاوُتٌ فَيَظْهَرُ الْفَضْلُ ضَرُورَةً حَتَّى لَوْ أَوْجَبَ الْعَدَدُ التَّسْوِيَةَ قَطْعًا اُعْتُبِرَ عِلَّةً مُوجِبَةً لِلتَّسْوِيَةِ أَيْضًا كَمَا فِي الْفُلُوسِ الرَّائِجَةِ؛ فَإِنَّهَا لَمَّا صَارَتْ أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَةً قَطْعًا عَلَى وَجْهٍ لَا يَجْرِي فِيهَا الْمُمَاكَسَةُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ فَلْسٍ بِفَلْسَيْنِ وَإِنَّمَا جُعِلَتْ أَمْثَالًا فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ مَعَ قِيَامِ التَّفَاوُتِ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ قَدْ تَحَقَّقَ وَالْخُرُوجُ عَنْ الْعُدْوَانِ وَاجِبٌ وَالتَّفَاوُتُ فِي الْقِيمَةِ أَكْثَرُ فَلَوْ لَمْ نَتَحَمَّلْ هَذَا التَّفَاوُتَ لَوَقَعْنَا فِي تَفَاوُتٍ أَعْظَمَ مِنْهُ، وَهُوَ تَفَاوُتُ الْقِيمَةِ وَالسَّلَمُ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ فَسُوهِلَ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ السَّلَمَ يَصِحُّ فِي الثِّيَابِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَلَا مَحَلًّا لِلرِّبَا، كَذَا فِي الطَّرِيقَةِ الْبُرْغَرِيَّةِ فَهَذَا أَيْ كَوْنُ الدَّاعِي إلَى الْحُكْمِ هُوَ الْقَدْرُ وَالْجِنْسُ مَعْنًى مَعْقُولٌ أَيْ مَفْهُومٌ مِنْ هَذَا النَّصِّ؛ فَإِنَّ. قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ» يُشِيرُ إلَى الْجِنْسِيَّةِ وَقَوْلُهُ مِثْلًا بِمِثْلٍ يُشِيرُ إلَى الْقَدْرِ لَيْسَ بِثَابِتٍ بِالرَّأْيِ يَعْنِي ابْتِدَاءً بَلْ هُوَ مُسْتَنْبَطٌ مِنْ النَّصِّ فَلَمْ يَبْقَ مِنْ بَعْدُ أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ أَنَّ حُكْمَ النَّصِّ وُجُوبُ التَّسْوِيَةِ وَالْمَعْنَى الدَّاعِي إلَيْهِ الْقَدْرُ وَالْجِنْسُ إلَّا الِاعْتِبَارُ، وَهُوَ أَيْ الِاعْتِبَارُ أَيُّ طَرِيقُهُ كَذَا مِثْلُ حُكْمِ النَّصِّ بِلَا تَفَاوُتٍ أَيْ مِثْلُ حُكْمِ النَّصِّ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَغَيْرِهِمَا فَلَزِمَنَا إثْبَاتُهُ أَيْ إثْبَاتُ الْفَضْلِ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ، وَهُوَ كَمَا ذَكَرْنَا أَيْ هَذَا الِاعْتِبَارُ مِثْلُ الِاعْتِبَارِ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ الْأَمْثِلَةِ أَيْ فِي الْأَمْثِلَةِ أَوْ هَذَا الْمِثَالُ الَّذِي فِي صِحَّةِ الِاعْتِبَارِ مِثْلُ الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ الْمَثُلَاتُ وَالِاسْتِعَارَاتُ لَيْسَ بَيْنَ تِلْكَ الْأَمْثِلَةِ وَبَيْنَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَرْقٌ؛ فَإِنَّ التَّأَمُّلَ فِي إشَارَاتِ نُصُوصِ الْمَثُلَاثِ لِتُعْرَفَ الْمَعَانِي الدَّاعِيَةُ إلَى وُقُوعِهَا لِأَجْلِ الِاعْتِبَارِ وَالتَّأَمُّلَ فِي حَقَائِقِ اللُّغَةِ لِاسْتِعَارَتِهَا لِغَيْرِهَا، مِثْلُ التَّأَمُّلِ فِي إشَارَاتِ حَدِيثِ الرِّبَا وَأَمْثَالِهِ لِتُعْرَفَ الْمَعَانِي الدَّاعِيَةُ إلَى الْحُكْمِ لِأَجْلِ الِاعْتِبَارِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ. 1 - قَوْلُهُ (وَحَصَلَ بِمَا قُلْنَا) لَمَّا فَرَغَ مِنْ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ الْقِيَاسِ أَشَارَ إلَى الْجَوَابِ عَنْ كَلِمَاتِ الْخُصُومِ فَقَالَ: حَصَلَ بِمَا قُلْنَا مِنْ جَوَازِ الْقِيَاسِ اعْتِقَادُ حَقِّيَّةَ ثُبُوتِ الْأَحْكَامِ الْمَنْصُوصَةِ بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ أَيْ بِنَفْسِهَا وَنَظْمِهَا. وَطُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ وَشَرْحُ الصَّدْرِ بِإِثْبَاتِ مَعَانِيهَا؛ فَإِنَّ الْقَلْبَ يَطْمَئِنُّ بِالْوُقُوفِ عَلَى

وَشَرْحًا لِلصُّدُورِ وَثَبَتَ بِهِ تَعْمِيمُ أَحْكَامِ النُّصُوصِ وَفِي ذَلِكَ تَعْظِيمُ حُدُودِهَا. وَلَزِمَنَا بِهَذَا الْأَصْلِ مُحَافَظَةُ النُّصُوصِ بِظَوَاهِرِهَا وَمَعَانِيهَا وَمُحَافَظَةُ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِهَا أَحْكَامُهَا جَمْعًا بَيْنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ مَعًا، وَهُوَ الْحَقُّ وَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ وَمَا لِلْخَصْمِ إلَّا التَّمَسُّكُ بِالْجَهْلِ وَصَارَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي ثَابِتًا بِحُجَّةٍ فِيهَا ضَرْبُ شُبْهَةٍ وَفِي التَّعْيِينِ احْتِمَالٌ وَجَائِزٌ وَضْعُ الْأَسْبَابِ لِلْعَمَلِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَعْنَى الَّذِي هُوَ مُتَعَلَّقُ الْحُكْمِ وَإِنْ حَصَلَ لَهُ الْيَقِينُ قَبْلَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه طَلَبَ اطْمِئْنَانَ الْقَلْبِ بِقَوْلِهِ {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة: 260] بَعْدَمَا قَدْ حَصَلَ الْيَقِينُ لَهُ حَتَّى قَالَ {بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] . وَطُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ عِبَارَةٌ عَنْ ثَبَاتِهِ عَلَى مَا اعْتَقَدَهُ مِنْ الْحَقِّ وَسُكُونِهِ إلَيْهِ وَشَرْحُ الصَّدْرِ عِبَارَةٌ عَنْ تَوْسِيعِهِ وَتَفْسِيحِهِ لِقَبُولِ الْحَقِّ وَالشَّرْحُ يُضَافُ إلَى الصَّدْرِ؛ لِأَنَّهُ فِنَاءُ الْقَلْبِ وَالتَّوَسُّعُ يُضَافُ إلَى الْفِنَاءِ يُقَالُ فُلَانٌ رَحْبُ الْفِنَاءِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ نُورًا وَشَرْحًا لِلصَّدْرِ فَقَالَ {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22] ، وَقَالَ {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام: 125] وَالْقَلْبُ يَرَى الْغَائِبَ بِالتَّأَمُّلِ فِيهِ كَالْعَيْنِ تَرَى الْحَاضِرَ بِالنَّظَرِ، ثُمَّ لَا إشْكَالَ أَنَّ بِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ يَحْصُلُ مِنْ الطُّمَأْنِينَةِ فَوْقَ مَا يَحْصُلُ بِالْخَبَرِ إذْ لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ، وَنَعْلَمُ أَنَّ مَنْ ضَلَّ الطَّرِيقَ إذَا أَخْبَرَهُ مُخْبِرٌ بِالطَّرِيقِ وَاعْتَقَدَ الصِّدْقَ فِي خَبَرِهِ يَحْصُلُ لَهُ بَعْضُ الِانْشِرَاحِ وَإِنَّمَا يَتِمُّ انْشِرَاحُهُ إذَا عَايَنَ أَعْلَامَ الطَّرِيقِ فَكَذَلِكَ فِي رُؤْيَةِ الْقَلْبِ؛ فَإِنَّهُ إذَا تَأَمَّلَ فِي مَعْنَى النُّصُوصِ حَتَّى وَقَعَتْ عَلَيْهِ يَتِمُّ بِهِ انْشِرَاحُ الصَّدْرِ وَيَحْصُلُ طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ وَذَلِكَ بِالنُّورِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ فَالْمَنْعُ مِنْ هَذَا التَّأَمُّلِ وَالْأَمْرُ بِالْوُقُوفِ عَلَى مَوَاضِعِ النَّصِّ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ الْمَعْنَى يَكُونُ نَوْعَ حَجْرٍ وَرَفْعًا لِتَحْقِيقِ مَعْنَى انْشِرَاحِ الصَّدْرِ وَطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ الثَّابِتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] . فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا وَالْقِيَاسُ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْمُجْتَهِدُ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ عِنْدَكُمْ؟ قُلْنَا: نَعَمْ وَلَكِنْ يَحْصُلُ لَهُ بِالِاجْتِهَادِ الْعِلْمُ مِنْ طَرِيقِ الظَّاهِرِ عَلَى وَجْهٍ يَطْمَئِنُّ قَلْبُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُدْرِكُ مَا هُوَ الْحَقُّ بِاجْتِهَادِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] بِأَنَّ الْعِلْمَ يَثْبُتُ بِهِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ. وَيَثْبُتُ بِهِ أَيْ بِإِثْبَاتِ الْمَعَانِي تَعْمِيمُ أَحْكَامِ النُّصُوصِ؛ فَإِنَّ حُكْمَ النَّصِّ يَكُونُ مُقْتَصِرًا قَبْلَ التَّعْلِيلِ عَلَى الْمَحَلِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَبَعْدَ اسْتِخْرَاجِ الْوَصْفِ الْمُؤَثِّرِ يَثْبُتُ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ مِمَّا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ كَحُكْمِ نَصِّ الرِّبَا كَانَ مُقْتَصِرًا عَلَى الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ وَبَعْدَ التَّعْلِيلِ عَمَّ سَائِرَ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ، وَفِي ذَلِكَ أَيْ وَفِي تَعْمِيمِ أَحْكَامِهَا تَعْظِيمُ حُدُودِهَا؛ لِأَنَّ فِيهِ عَمَلًا بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ فِيمَا نُصَّ عَلَيْهِ وَبِمَعَانِيهَا فِيمَا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ مِنْ الْفُرُوعِ فَكَانَ أَوْلَى مِمَّا ذَهَبَ إلَيْهِ الْخَصْمُ مِنْ تَخْصِيصِ إعْمَالِ النُّصُوصِ فِيمَا نُصَّ عَلَيْهِ وَإِهْمَالِهَا فِيمَا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ. وَلَزِمَنَا بِهَذَا الْأَصْلِ أَيْ بِسَبَبِ اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ مُحَافَظَةُ النُّصُوصِ بِظَوَاهِرِهَا وَمَعَانِيهَا أَيْ مَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّةِ وَمُحَافَظَةُ مَا تَضَمَّنَتْهُ أَيْ النُّصُوصُ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِهَا أَحْكَامُ النُّصُوصِ وَهِيَ الْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَقِفْ عَلَى النُّصُوصِ وَمَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّةِ لَا يَعْرِفُ أَنَّ هَذِهِ الْحَادِثَةَ لَا نَصَّ فِيهَا وَمَا لَمْ يَقِفْ عَلَى مَعَانِيهَا الشَّرْعِيَّةِ لَا يُمْكِنُهُ رَدُّ الْحَادِثَةِ إلَى مَا يُنَاسِبُهَا مِنْ النُّصُوصِ جَمْعًا أَيْ لِأَجْلِ حُصُولِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ جَمِيعًا، وَهُوَ الْحَقُّ أَيْ حِفْظُ النُّصُوصِ بِظَوَاهِرِهَا وَمَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ هُوَ الْحَقُّ فَكَانَ مَا يُفْضِي إلَيْهِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ حَقًّا وَلَيْسَ بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ فَكَانَ مَا قَالَ الْخَصْمُ أَنَّ فِي الْمَنْعِ عَنْ الْقِيَاسِ مُحَافَظَةَ النُّصُوصِ بِمَعَانِيهَا زَعْمًا بَاطِلًا وَوَهْمًا خَطَأً وَمَا لِلْخَصْمِ، وَهُمْ نُفَاةُ الْقِيَاسِ إلَّا التَّمَسُّكُ

كَالنُّصُوصِ الْمُحْتَمَلَةِ بِصِيغَتِهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَصَارَ الْكِتَابُ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِالْقِيَاسِ يُضَافُ إلَيْهِ فَكَانَ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِالْحَالِ الَّتِي لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فَإِذَا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ صُيِّرَ إلَى الْحَالِ، وَثَبَتَ أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ الْيَقِينِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالْجَهْلِ؛ فَإِنَّهُمْ يَتَمَسَّكُونَ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَمَآلُهُ إلَى الْجَهْلِ؛ فَإِنَّ مَدَارَهُ عَلَى أَنْ لَا دَلِيلَ عَلَى الْحُكْمِ، وَهُوَ الْجَهْلُ بِالدَّلِيلِ الْمُثْبِتِ فَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ الْمَحْضَةِ بِمَنْزِلَةِ تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ، ثُمَّ أَجَابَ عَنْ قَوْلِهِمْ لَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِالْقِيَاسِ لِمَعْنًى فِي الدَّلِيلِ فَقَالَ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي النُّصُوصِ وَإِنْ صَارَ بِهَذَا الطَّرِيقِ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ فِيهِ ضَرْبُ شُبْهَةٍ؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ مَعْنًى عَيَّنَهُ الْقَائِسُ لِتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِهِ احْتِمَالَ أَنْ لَا يَكُونَ مُتَعَلَّقَ الْحُكْمِ، لَكِنَّ وَضْعَ الْأَسْبَابِ أَيْ شَرْعَهَا لِأَجْلِ الْعَمَلِ دُونَ الْعِلْمِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا ضَرْبُ شُبْهَةٍ جَائِزٌ كَالنُّصُوصِ الْمُحْتَمَلَةِ بِصِيَغِهَا مِثْلُ الْآيَةِ الْمُؤَوَّلَةِ وَالْعَامِّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ مِنْ الْكِتَابِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ السُّنَّةِ، وَصَارَ الْكِتَابُ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ اعْتِبَارُ الْمَعْنَى، إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ بِاسْمِهِ الْمَوْضُوعِ لَهُ لُغَةً فَكَانَ بَيَانًا بِمَعْنَاهُ، ثُمَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى جَلِيٌّ يُوقَفُ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ كَحُرْمَةِ الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ بِمَعْنَى الْأَذَى الْمَوْجُودِ فِي التَّأْفِيفِ وَخَفْيٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا بِزِيَادَةِ تَأَمُّلٍ كَتَعَلُّقِ انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ بِوَصْفَيْ النَّجَاسَةِ وَالْخُرُوجِ فِي الْخَارِجِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ فَإِذَا كَانَ إثْبَاتُ الْحُكْمِ بِالْمَعْنَى الظَّاهِرِ إثْبَاتًا لَهُ بِالْكِتَابِ كَانَ إثْبَاتُهُ بِالْمَعْنَى الْخَفِيِّ كَذَلِكَ أَيْضًا فَيَكُونُ الْكِتَابُ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ بِظَاهِرِهِ وَمَعْنَاهُ. ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] وَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْكِتَابِ الْمُبِينِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ فِي عَامَّةِ الْأَقَاوِيلِ لَا الْقُرْآنُ وَكَانَ أَوْلَى أَيْ كَانَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِالْحَالِ لِمَا قُلْنَا، وَثَبَتَ أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ الْيَقِينِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ الْعَمَلُ بِالْآيَةِ الْمُؤَوَّلَةِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ إذَا عُدِمَ النَّصُّ عِنْدَهُمْ أَوْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ عِنْدَنَا عُلِمَ أَنَّهَا لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ الْيَقِينِ. وَقَوْلُهُمْ: لَا يُطَاعُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعُقُولِ وَالْآرَاءِ مُسَلَّمٌ فِيمَا إذَا كَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الِابْتِدَاءِ لَا فِيمَا إذَا تَعَلَّقَ طَاعَةٌ بِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي، ثُمَّ وُجِدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي مَحَلٍّ آخَرَ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ، وَهُوَ حَدِيثُ أَوْلَادِ السَّبَايَا فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْقِيَاسُ الْمَهْجُورُ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقِيسُونَ فِي نَصْبِ الشَّرَائِعِ وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ فَقَاسُوا مَا لَمْ يَكُنْ بِمَا قَدْ كَانَ لَا الْقِيَاسُ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ؛ فَإِنَّهُ فِي التَّحْقِيقِ إظْهَارُ مَا قَدْ كَانَ وَرَدُّ مَشْرُوعٍ إلَى نَظَائِرِهِ. وَكَذَا الْمُرَادُ مِنْ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ فِي سَائِرِ مَا رَوَوْا مِنْ الْأَخْبَارِ الرَّأْيُ الْمُقْتَرَحُ الْمَذْمُومُ الَّذِي هُوَ مَدْرَجَةٌ إلَى الضَّلَالِ أَوْ الرَّأْيُ الَّذِي يَكُونُ الْمَقْصُود مِنْهُ رَدَّ الْمَنْصُوصِ نَحْوُ مَا فَعَلَهُ إبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ لَا الرَّأْيُ الَّذِي قُصِدَ بِهِ إظْهَارُ الْحَقِّ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِهِ فِي إظْهَارِ قِيمَةِ الصَّيْدِ بِقَوْلِهِ جَلَّ جَلَالُهُ {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّمَ أَصْحَابَهُ وَالصَّحَابَةُ عَنْ آخِرِهِمْ أَجْمَعُوا عَلَى اسْتِعْمَالِهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدِهِمْ عَلَى مَنْ اسْتَعْمَلَهُ كَمَا بَيَّنَّا فَكَيْفَ يُظَنُّ الِاتِّفَاقُ عَلَى مَا ذَمَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْ جَعَلَهُ مَدْرَجَةً إلَى الضَّلَالِ هَذَا شَيْءٌ لَا يَظُنُّهُ إلَّا ضَالٌّ. كَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَا قَالَ النَّظَّامُ: إنَّ الْقِيَاسَ عَلَى خِلَافِ مَوْضُوعِ الشَّرْعِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ. قَوْلُهُ: لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ. قُلْنَا: أَمَّا الْفَرْقُ فَلِافْتِرَاقِهَا فِي الْمَعَانِي الَّتِي تَعَلَّقَتْ الْأَحْكَامُ بِهَا

[فصل في تعليل الأصول]

(فَصْلٌ فِي تَعْلِيلِ الْأُصُولِ) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ: وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْأُصُولِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ غَيْرُ شَاهِدَةٍ أَيْ غَيْرُ مَعْلُولَةٍ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ مَعْلُولَةٌ بِكُلِّ وَصْفٍ يُمْكِنُ إلَّا بِمَانِعٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ مَعْلُومَةٌ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ مُمَيَّزٍ وَهَذَا أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ قَوْلُنَا إنَّا نَقُولُ: هِيَ مَعْلُومَةٌ شَاهِدَةٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَانْتِفَاءِ صَلَاحِيَّةِ مَا تَوَهَّمَهُ الْخَصْمُ جَامِعًا أَوْ لِوُجُودِ مُعَارِضٍ فِي الْأَصْلِ أَوْ الْفَرْعِ، وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ فَلِاشْتِرَاكِهَا فِي مَعْنًى جَامِعٍ أَوْ لِاخْتِصَاصِ كُلٍّ مِنْ الْمُخْتَلِفَاتِ بِعِلَّةٍ صَالِحَةٍ لِحُكْمٍ خِلَافِهِ إذْ لَا مَانِعَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الصُّوَرِ، وَإِنْ اتَّحَدَ نَوْعُ الْحُكْمِ أَنْ يُعَلَّلَ بِعِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ. فَإِنْ قَالَ الْخَصْمُ: إنَّ غَرَضِي مِمَّا ذَكَرْته بَيَانُ أَنَّ الشَّرْعَ شَهِدَ بِإِبْطَالِ أَمَارَاتِكُمْ؛ فَإِنَّهُ لَوْ حَرَّمَ النَّظَرَ إلَى شَعْرِ الْحُرَّةِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْأَمَةَ لَعَلِمْتُمْ إنَّمَا حَرُمَ ذَلِكَ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ، وَهُوَ قَائِمٌ فِي شَعْرِ الْأَمَةِ الْحَسْنَاءِ فَيَحْرُمُ النَّظَرُ إلَيْهِ، وَلَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَى مَا تَذْكُرُونَهُ مِنْ أَمَارَاتِكُمْ فِي الْقِيَاسِ فَإِذَا شَهِدَ الشَّرْعُ بِبُطْلَانِهِ فَقَدْ صَحَّ قَوْلِي: إنَّ وَضْعَهُ يَمْنَعُ مِنْ الْقِيَاسِ فَنُجِيبُهُ بِأَنَّ نَفْيَ الشَّرْعِ حُكْمَ أَمَارَةٍ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهَا أَمَارَةً فِي بَعْضِ الصُّوَرِ؛ فَإِنَّ الْغَيْمَ الرَّطْبَ أَمَارَةٌ فِي الشِّتَاءِ عَلَى الْمَطَرِ وَلَا يَنْقُضُ كَوْنَهُ أَمَارَةً وُجُودُ غَيْمٍ أَرْطَبَ فِي صَمِيمِ الشِّتَاءِ مِنْ غَيْرِ مَطَرٍ فَكَذَلِكَ أَمَارَاتُنَا لَا تَخْرُجُ مِنْ كَوْنِهَا أَمَارَاتٍ بِوُجُودِ أَمْثَالِهَا مُتَخَلِّفَةً عَنْهَا أَحْكَامُهَا إذْ الْأَكْثَرُ يُوجَدُ بِدُونِ التَّخَلُّفِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ فِي تَعْلِيلِ الْأُصُولِ] (فَصْلٌ فِي تَعْلِيلِ الْأُصُولِ) لَمَّا بَيَّنَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ أَنَّ الْأُصُولَ - وَهِيَ النُّصُوصُ - شُهُودُ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي حُقُوقِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَشَهَادَتُهَا مَعَانِيهَا الْجَامِعَةُ بَيْنَ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ بَيَّنَ فِي هَذَا الْفَصْلِ اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: وَاخْتَلَفُوا يَعْنِي الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ، وَهِيَ النُّصُوصُ الْمُتَضَمِّنَةُ لِلْأَحْكَامِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ الْأُصُولُ الثَّلَاثَةُ وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ أَيْ بَعْضُ الْقَايِسِينَ: هِيَ غَيْرُ شَاهِدَةٍ أَيْ غَيْرُ مَعْلُولَةٍ فِي الْأَصْلِ إلَّا بِدَلِيلٍ أَيْ إذَا قَامَ دَلِيلٌ فِي الْبَعْضِ عَلَى كَوْنِهِ مَعْلُولًا فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ تَعْلِيلُهُ وَيَصِحُّ اللَّازِمُ بِهِ عَلَى الْخَصْمِ وَاسْتَرْذَلَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ إطْلَاقَ لَفْظِ الْمَعْلُولِ عَلَى النَّصِّ فِي عِبَارَاتِهِمْ فَقَالُوا: الْعِلَّةُ الَّتِي هِيَ الْمَصْدَرُ لَازِمٌ، وَالنَّعْتُ مِنْهُ عَلِيلٌ فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا النَّصُّ مُعَلَّلٌ بِكَذَا وَأُجِيبُ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ عَلَّ فَهُوَ مَعْلُولٌ أَيْ ذُو عِلَّةٍ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُغْرِبِ وَالصِّحَاحِ، وَالْعِلَّةُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمُ النَّصِّ عَلَى مَا عُرِفَ تَفْسِيرُهَا فِي أَوَّلِ التَّقْوِيمِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْعِلَّةِ بِمَعْنَى الْمَرَضِ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا النَّصُّ مَعْلُولٌ أَيْ ذُو عِلَّةٍ بِهَذَا الْمَعْنَى كَمَا يُقَالُ لِلْمَرِيضِ: مَعْلُولٌ أَيْ ذُو عِلَّةٍ بِمَعْنَى الْمَرَضِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ مَعْلُولَةٌ بِكُلِّ وَصْفٍ يُمْكِنُ التَّعْلِيلُ بِهِ، وَيَصْلُحُ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ إلَّا أَنْ يَمْنَعَ مَانِعٌ أَيْ يَقُومَ دَلِيلٌ مِنْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ فِي الْبَعْضِ يَمْنَعُ مِنْ التَّعْلِيلِ بِبَعْضِ الْأَوْصَافِ فَحِينَئِذٍ يَمْنَعُ التَّعْلِيلَ بِالْجَمِيعِ، وَيَقْتَصِرُ عَلَى مَا عُدِمَ فِيهِ الْمَانِعُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَهُمْ عَامَّةُ مُثْبِتِي الْقِيَاسِ هِيَ مَعْلُولَةٌ أَيْ الْأَصْلُ فِيهَا التَّعْلِيلُ، وَلَكِنْ بِوَصْفٍ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى تَمَيُّزِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَوْصَافِ فِي كَوْنِهِ مُتَعَلَّقَ الْحُكْمِ لَا بِكُلِّ وَصْفٍ يَعْنِي لَا حَاجَةَ فِي تَعْلِيلِ كُلِّ نَصٍّ إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ هَذَا النَّصَّ مَعْلُولٌ بَلْ يُكْتَفَى فِيهِ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النُّصُوصِ التَّعْلِيلُ لَكِنْ يَحْتَاجُ فِيهِ إقَامَةَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَوْصَافِ هُوَ الَّذِي تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ وَهَذَا أَيْ هَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَوَّزَ التَّعْلِيلَ بِعِلَّةٍ قَاصِرَةٍ وَلَيْسَ فِيهِ إلْزَامٌ عَلَى الْغَيْرِ جَازَ الِاكْتِفَاءُ بِهَذَا الْقَدْرِ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي النُّصُوصِ كَوْنُهَا مَعْلُولَةً

إلَّا بِمَانِعٍ وَلَا بُدَّ مِنْ دَلَالَةِ التَّمْيِيزِ وَلَا بُدَّ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ لِلْحَالِ شَاهِدٌ، وَعَلَى هَذَا اخْتِلَافُنَا فِي تَعْلِيلِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْوَزْنِ وَأَنْكَرَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - التَّعْلِيلَ فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِأَنَّ النُّصُوصَ فِي الْأَصْلِ مَعْلُومَةٌ إلَّا بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ فِي هَذَا النَّصِّ عَلَى الْخُصُوصِ أَنَّهُ مَعْلُولٌ احْتَجَّ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الْأُولَى بِأَنَّ النَّصَّ مُوجِبٌ بِصِيغَتِهِ وَبِالتَّعْلِيلِ يَنْتَقِلُ حُكْمُهُ إلَى مَعْنَاهُ، وَذَلِكَ كَالْمَجَازِ مِنْ الْحَقِيقَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَلِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الِاسْتِصْحَابَ حُجَّةً مُلْزِمَةً عَلَى الْغَيْرِ مَعَ أَنَّهُ تَمَسَّكَ بِالْأَصْلِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ فِي كُلِّ نَصٍّ أَنَّهُ شَاهِدٌ لِلْحَالِ بَلْ التَّعْلِيلُ يَكُونُ مُلْزِمًا عِنْدَهُ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي النُّصُوصِ التَّعْلِيلُ وَإِنَّمَا قَالَ: وَهَذَا أَشْبَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ الشَّافِعِيِّ نَصًّا بَلْ اُسْتُدِلَّ بِمَسَائِلِهِ عَلَيْهِ، وَأَسْنَدَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ هَذَا الْقَوْلَ إلَى الشَّافِعِيِّ وَإِلَى بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَيْضًا وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: قَوْلُنَا إنَّا نَقُولُ هِيَ مَعْلُولَةٌ شَاهِدَةٌ، أَيْ الْأَصْلُ فِيهَا التَّعْلِيلُ عِنْدَنَا أَيْضًا وَمَعْلُولَةٌ، شَاهِدَةٌ بِمَعْنَى وَاحِدٍ إلَّا بِمَانِعٍ مِثْلَ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ أَيْ فِي جَوَازِ التَّعْلِيلِ مِنْ دَلَالَةِ التَّمْيِيزِ أَيْ دَلِيلٍ يُمَيِّزُ الْوَصْفَ الْمُؤَثِّرَ مِنْ سَائِرِ الْأَوْصَافِ وَلَا بُدَّ قَبْلَ ذَلِكَ أَيْ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي التَّعْلِيلِ وَتَمْيِيزِ الْوَصْفِ الْمُؤَثِّرِ مِنْ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ أَيْ النَّصَّ نُرِيدُ اسْتِخْرَاجَ الْعِلَّةِ مِنْهُ لِلْحَالِ شَاهِدٌ أَيْ مَعْلُولٌ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي النُّصُوصِ التَّعْلِيلُ يَصْلُحُ لِلدَّفْعِ لَا لِلْإِلْزَامِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَذْهَبُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا كَذَا ذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي الْإِمَامُ وَالشَّيْخَانِ ذَكَرُوهُ مَذْهَبًا لِأَصْحَابِنَا عَلَى الْإِطْلَاقِ. 1 - وَاخْتَارَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ الْقَوْلَ الثَّالِثَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْعَامَّةِ، فَقَالَ: إنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ - تَعَالَى - مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحُكْمِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِنَا: النُّصُوصُ مَعْلُولَةٌ أَيْ الْأَحْكَامُ الثَّابِتَةُ بِهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِمَعَانٍ وَمَصَالِحَ وَحِكَمٍ فَإِذَا عُقِلَ ذَلِكَ الْمَعْنَى يَجِبُ الْقَوْلُ بِالتَّعْدِيَةِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ إنْ كَانَ وَاحِدًا وَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ كُلُّ مَنْ خَالَفَ عِلَّةً لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهَا كَانَ الْأَصْلُ مَعْلُولًا بِاتِّفَاقِهِمْ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ اسْتَخْرَجَ مِنْ أَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ فَمَتَى عَلَّلَهُ بِوَصْفٍ مُؤَثِّرٍ، وَوَجَدَ فِيهِ مَا هُوَ حَدُّ الْعِلَّةِ يَكُونُ مَعْلُولًا فَلَا حَاجَةَ إلَى قِيَامِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى كَوْنِهِ مَعْلُولًا وَذَكَرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ زَعَمَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ وَأَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْقِيَاسِ أَنْ يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى كَوْنِ حُكْمِ الْأَصْلِ مُعَلَّلًا، أَوْ يَقُومَ نَصٌّ عَلَيْهِ، وَزَعَمَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَجُوزُ عَلَى أَصْلٍ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ خَاصٌّ عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مَدْرَكَ الِاحْتِجَاجِ بِالْقِيَاسِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَقَدْ عَلِمْنَا مِنْ تَتَبُّعِ أَحْوَالِهِمْ فِي مَجْرَى اجْتِهَادَاتِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقِيسُونَ الْفَرْعَ عَلَى الْأَصْلِ عِنْدَ ظَنِّ وُجُودِ مَا يُظَنُّ أَنَّهُ عِلَّةٌ فِي الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْأَصْلِ مُعَلَّلًا أَوْ دَلِيلٍ خَاصٍّ عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ حَتَّى قَاسَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ عَلَى الطَّلَاقِ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى الظِّهَارِ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى الْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ مِنْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ عَلَى كَوْنِ تِلْكَ الْأُصُولِ مُعَلَّلَةً، وَلَا عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُنْكِرْ الْبَعْضُ عَلَى بَعْضٍ، وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ مَا ذَكَرْت فِي الْأَصْلِ غَيْرُ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ مِمَّا أَدَّى إلَى خِلَافِ إجْمَاعِهِمْ بَاطِلٌ. 1 - قَوْلُهُ (احْتَجَّ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الْأُولَى) وَهُمْ الَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النُّصُوصِ عَدَمُ التَّعْلِيلِ بِأَنَّ النَّصَّ قَبْلَ التَّعْلِيلِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِصِيغَتِهِ عَلَى مُوجِبِ اللُّغَةِ وَلَيْسَ الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ النَّصُّ لُغَةً؛ وَلِهَذَا اخْتَصَّ بِهِ الْفُقَهَاءُ دُونَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَبِالتَّعْلِيلِ يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِانْتِقَالِهِ مِنْ الصِّيغَةِ إلَى الْمَعْنَى؛ إذْ لَوْ لَمْ يَنْتَقِلْ لَا يُمْكِنُ التَّعْدِيَةُ أَلَا تَرَى حُكْمَ النَّصِّ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ وَالْفَضْلُ رِبًا» حُرْمَةُ فَضْلِ الْحِنْطَةِ عَلَى الْحِنْطَةِ فِي الْبَيْعِ وَبِالتَّعْلِيلِ يَصِيرُ حُكْمُهُ بَيْعَ الْمَكِيلِ

فَلَا تُتْرَكُ إلَّا بِدَلِيلٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَوْصَافَ مُتَعَارِضَةٌ. وَالتَّعْلِيلُ بِالْكُلِّ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَبِكُلِّ وَصْفٍ مُحْتَمَلٍ فَكَانَ الْوَقْفُ أَصْلًا، وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الثَّانِيَةِ بِأَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا جَعَلَ الْقِيَاسَ حُجَّةً لَا يَصِيرُ حُجَّةً إلَّا بِأَنْ يَجْعَلَ أَوْصَافَ النَّصِّ عِلَّةً وَشَهَادَةً صَارَتْ الْأَوْصَافُ كُلُّهَا صَالِحَةً فَصَلَحَ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالْمَكِيلِ فِي الْجِنْسِ سَوَاءٌ كَانَ حِنْطَةً أَوْ غَيْرَهَا ثُمَّ الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ مِنْ الصِّيغَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَجَازِ مِنْ الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ صِيغَةِ النَّصِّ تَتَوَقَّفُ عَلَى السَّمَاعِ تَوَقُّفَ مَعْرِفَةِ الْحَقِيقَةِ عَلَيْهِ، وَمَعْرِفَةُ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ مِنْ النَّصِّ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ كَمَعْرِفَةِ الْمَجَازِ فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِالتَّعْلِيلِ تَغْيِيرًا لِحُكْمِ النَّصِّ وَتَرْكًا لِلْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ بَلْ أَبْعَدُ؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْكَلَامِ وَالْمَعْنَى الْمُسْتَنْبَطُ لَيْسَ مِنْ أَنْوَاعِ النَّصِّ، وَلَا مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْأَصْلُ هُوَ الْعِلْمَ بِصِيغَةِ النَّصِّ دُونَ مَعْنَاهُ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ هَذَا الْأَصْلِ وَتَغْيِيرُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ كَمَا لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْحَقِيقَةِ وَتَغْيِيرُ مَعْنَاهَا إلَّا بِدَلِيلٍ وَذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى الْمَعْنَى أَوْ إلَى انْتِقَالِ الْحُكْمِ وَالضَّمِيرُ فِي فَلَا يُتْرَكُ رَاجِعٌ إلَى النَّصِّ. ثُمَّ اسْتَوْضَحَ هَذَا بِذِكْرِ دَلِيلٍ آخَرَ فَقَالَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَوْصَافَ مُتَعَارِضَةٌ يَعْنِي يَقْتَضِي كُلُّ وَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِ النَّصِّ غَيْرَ مَا يَقْتَضِيهِ الْآخَرُ فَإِنَّ وَصْفَ الطَّعْمِ فِي حَدِيثِ الرِّبَا يَقْتَضِي حُرْمَةَ بَيْعِ التُّفَّاحَةِ بِالتُّفَّاحَتَيْنِ وَإِبَاحَةَ بَيْعِ قَفِيزٍ مِنْ الْجِصِّ بِقَفِيزَيْنِ مِنْهُ عَلَى خِلَافِ مَا يَقْتَضِيهِ الْقَدْرُ وَالْجِنْسُ وَالتَّعْلِيلُ بِالْكُلِّ أَيْ بِجَمِيعِ أَوْصَافِ النَّصِّ بِأَنْ يَجْعَلَ الْكُلَّ عِلَّةً وَاحِدَةً غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَالتَّعْلِيلُ يُوجِبُ انْسِدَادَ بَابِ الْقِيَاسِ لِاقْتِضَائِهِ قَصْدَ الْحُكْمِ عَلَى النَّصِّ أَوْ التَّعْلِيلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَوْصَافِ بِأَنْ يَجْعَلَ كُلَّ وَصْفٍ عِلَّةً غَيْرُ مُمْكِنٍ لِإِفْضَائِهِ إلَى التَّنَاقُضِ فَإِنَّ التَّعْلِيلَ بِالْقَدْرِ وَالْجِنْسِ يُوجِبُ خِلَافَ مَا يُوجِبُهُ التَّعْلِيلُ كَمَا قُلْنَا أَوْ التَّعْلِيلُ بِالْقَدْرِ وَالْجِنْسِ يُوجِبُ التَّعْدِيَةَ إلَى الْجِنْسِ وَالنُّورَةِ وَالْحَدِيدِ وَغَيْرِهَا، وَالتَّعْلِيلُ بِالطَّعْمِ وَالثَّمَنِيَّةِ يُوجِبُ قَصْرَ الْحُكْمِ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الطَّعَامُ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ، وَالذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ» فِي حَدِيثِ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ، وَالتَّعْدِيَةُ وَعَدَمُهَا أَمْرَانِ مُتَنَاقِضَانِ فَيَكُونُ التَّعْلِيلُ الْمُؤَدِّي إلَيْهِ بَاطِلًا وَبِكُلِّ وَصْفٍ مُحْتَمَلٍ يَعْنِي بَعْدَمَا تَحَقَّقَتْ الْمُعَارَضَةُ وَلَمْ يُمْكِنْ التَّعْلِيلُ بِالْجَمِيعِ وَبِكُلِّ وَصْفٍ كَمَا قُلْنَا لَا يُمْكِنُ التَّعْلِيلُ بِوَاحِدٍ مِنْهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَصْفٍ عَيَّنَهُ الْمُجْتَهِدُ لِلتَّعْلِيلِ بِهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لِلْحُكْمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ، وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً؛ إذْ الْحُجَّةُ لَا تَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ وَالشَّكِّ فَكَانَ الْوَقْفُ أَيْ الْوُقُوفُ عَنْ التَّعْلِيلِ هُوَ الْأَصْلَ إلَّا إذَا قَامَ دَلِيلٌ يُرَجِّحُ بَعْضَ الْأَوْصَافِ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِالتَّعْلِيلِ فَإِنَّ التَّرْجِيحَ بَعْدَ الْمُعَارَضَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالدَّلِيلِ. وَلِأَنَّ الْحُكْمَ ظَهَرَ عَقِيبَ كُلِّ الْأَوْصَافِ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا النَّصُّ فَالتَّعْلِيلُ بِالْبَعْضِ تَخْصِيصٌ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَحَاصِلُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ التَّعْلِيلَ لَا يَجُوزُ إلَّا فِيمَا يَثْبُتُ عِلَّتُهُ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ قَوْلُهُ: (وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الثَّانِيَةِ) وَهُمْ الَّذِينَ قَالُوا: الْأَصْلُ فِي النُّصُوصِ التَّعْلِيلُ، وَأَنَّ التَّعْلِيلَ يَجُوزُ بِكُلِّ وَصْفٍ يُمْكِنُ وَبِأَنَّ الشَّرْعَ أَيْ الشَّارِعَ لَمَّا جَعَلَ الْقِيَاسَ حُجَّةً بِمَا مَرَّ ذِكْرُهُ مِنْ الدَّلَائِلِ، وَلَا يَتَأَتَّى الْقِيَاسُ إلَّا بِالْوُقُوفِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي صَلَحَ عِلَّةً مِنْ النَّصِّ كَانَ جَوَازُ التَّعْلِيلِ أَصْلًا فِي كُلِّ نَصٍّ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الدَّلَائِلَ لَمْ تَفْصِلْ بَيْنَ نَصٍّ وَنَصٍّ وَلَمَّا صَارَ التَّعْلِيلُ أَصْلًا وَلَا يُمْكِنُ التَّعْلِيلُ بِجَمِيعِ الْأَوْصَافِ لِتَأَدِّيهِ إلَى انْسِدَادِ بَابِ الْقِيَاسِ، وَلَا بِوَاحِدٍ مِنْهَا لِلْجَهَالَةِ وَفَسَادِ تَرْجِيحِ الشَّيْءِ بِلَا مُرَجِّحٍ صَارَتْ الْأَوْصَافُ كُلُّهَا صَالِحَةً أَيْ صَارَ كُلُّ وَصْفٍ صَالِحًا لِلتَّعْلِيلِ بِهِ فَكَانَتْ صَلَاحِيَةُ التَّعْلِيلِ

الْإِثْبَاتُ بِكُلِّ وَصْفٍ إلَّا بِمَانِعٍ مِثْلَ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ لَمَّا كَانَ حُجَّةً، وَالِاجْتِمَاعُ مُتَعَذِّرٌ صَارَتْ رِوَايَةُ كُلِّ عَدْلٍ حُجَّةً لَا يُتْرَكُ إلَّا بِمَانِعٍ فَكَذَلِكَ هَذَا وَلَمَّا صَارَ الْقِيَاسُ دَلِيلًا صَارَ التَّعْلِيلُ وَالشَّهَادَةُ مِنْ النَّصِّ أَصْلًا فَلَا يُتْرَكُ بِالِاحْتِمَالِ، وَإِنَّمَا التَّعْلِيلُ لِإِثْبَاتِ حُكْمِ الْفَرْعِ فَأَمَّا النَّصُّ فَيَبْقَى مُوجِبًا كَمَا كَانَ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ الْقَوْلُ بِالتَّعْلِيلِ وَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا بَطَلَ التَّعْلِيلُ بِكُلِّ الْأَوْصَافِ؛ لِأَنَّهُ مَا شُرِعَ إلَّا لِلْقِيَاسِ مَرَّةً، وَلِلْحَجْرِ أُخْرَى عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَهَذَا يَسُدُّ بَابَ الْقِيَاسِ أَصْلًا فَوَجَبَ التَّعْلِيلُ بِوَاحِدٍ مِنْ الْجُمْلَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ يُوجِبُ التَّمْيِيزَ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْمَجْهُولِ بَاطِلٌ، وَالْوَاحِدُ مِنْ الْجُمْلَةِ هُوَ الْمُتَيَقَّنُ بَعْدَ سُقُوطِ الْجُمْلَةِ لَكِنَّهُ مَجْهُولٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِكُلِّ وَصْفٍ أَصْلًا فَصَلَحَ الْإِثْبَاتُ أَيْ إثْبَاتُ الْحُكْمِ بِكُلِّ وَصْفٍ إلَّا بِمَانِعٍ بِأَنْ يُعَارِضَ بَعْضُ الْأَوْصَافِ بَعْضًا أَوْ يُخَالِفَ نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا مِثْلَ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ فَإِنَّ الْحَدِيثَ لَمَّا كَانَ حُجَّةً، وَالْعَمَلُ بِهِ وَاجِبًا، وَلَا يَثْبُتُ الْحَدِيثُ إلَّا بِنَقْلِ الرُّوَاةِ وَاجْتِمَاعِ الرُّوَاةِ عَلَى رِوَايَةِ كُلِّ حَدِيثٍ مُتَعَذِّرٍ صَارَتْ رِوَايَةُ كُلِّ عَدْلٍ حُجَّةً لَا تُتْرَكُ إلَّا بِمَانِعٍ بِأَنْ يُخَالِفَ دَلِيلًا قَطْعِيًّا مِنْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ يَظْهَرَ فِسْقُ الرَّاوِي فَكَذَلِكَ هَذَا أَيْ فَمِثْلُ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ تَعْلِيلُ النَّصِّ لَمَّا تَعَذَّرَ التَّعْلِيلُ بِالْجَمِيعِ يَجْعَلُ كُلَّ وَصْفٍ عِلَّةً وَظَهَرَ بِهَذَا فَسَادُ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْأَوْصَافَ مُتَعَارِضَةٌ؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ اخْتِلَافِ الْأَوْصَافِ لِمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ الْمُعَارَضَةُ إذَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالْكُلِّ لَا يَثْبُتُ أَيْضًا عِنْدَ كَثْرَةِ أَوْصَافِ النَّصِّ مَعَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِالْكُلِّ إلَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ مَانِعٌ. ثُمَّ أَجَابَ عَنْ قَوْلِهِمْ: التَّعْلِيلُ بِكُلِّ وَصْفٍ مُحْتَمَلٌ بِقَوْلِهِ: وَلَمَّا صَارَ الْقِيَاسُ دَلِيلًا أَيْ فِي الشَّرْعِ صَارَ التَّعْلِيلُ وَالشَّهَادَةُ مِنْ النَّصِّ أَيْ مِنْ كُلِّ نَصٍّ أَصْلًا لِتَعْمِيمِ الْحُكْمِ لَكِنْ يَبْقَى فِي كُلِّ وَصْفٍ احْتِمَالُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ بَعْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً فَلَا يُتْرَكُ أَيْ ذَلِكَ الْأَصْلُ بِالِاحْتِمَالِ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ أَصْلًا بِالدَّلِيلِ لَا يَخْرُجُ بِالِاحْتِمَالِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً كَمَا لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ كَوْنُهُ حُجَّةً وَعَنْ قَوْلِهِمْ التَّعْلِيلُ تَغْيِيرٌ لِلْحُكْمِ وَتَرْكٌ لِلْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ، وَإِنَّمَا التَّعْلِيلُ لِإِثْبَاتِ حُكْمِ الْفَرْعِ يَعْنِي أَثَرَ التَّعْلِيلِ فِي إثْبَاتِ حُكْمِ الْفَرْعِ لَا فِي تَغْيِيرِ حُكْمِ الْأَصْلِ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَنْصُوصِ بَعْدَ التَّعْلِيلِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ لَا بِالْعِلَّةِ كَمَا كَانَ قَبْلَ التَّعْلِيلِ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ تَغْيِيرٌ لِلْحُكْمِ، وَلَا تَرْكٌ لِلْحَقِيقَةِ بَلْ فِيهِ تَقْرِيرُهُ بِإِظْهَارِ الْمَعْنَى الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ وَانْشِرَاحُ الصَّدْرِ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَمَّا يَثْبُتُ الْقَوْلُ بِالتَّعْلِيلِ بِالدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِلْقِيَاسِ وَصَارَ ذَلِكَ أَيْ التَّعْلِيلُ أَصْلًا فِي النُّصُوصِ بَطَلَ التَّعْلِيلُ بِكُلِّ الْأَوْصَافِ أَيْ بِجَمِيعِهَا بِأَنْ يَجْعَلَ الْكُلَّ عِلَّةً؛ لِأَنَّهُ أَيْ التَّعْلِيلَ شُرِعَ لِلْقِيَاسِ مَرَّةً أَيْ لِتَعْدِيَةِ الْحُكْمِ إلَى غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَإِلْحَاقِهِ بِهِ وَلِلْحَجْرِ أُخْرَى عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ جَوَّزَ التَّعْلِيلَ بِعِلَّةٍ قَاصِرَةٍ لَا لِمُجَرَّدِ الْحَجْرِ فَحَسْبُ وَهَذَا أَيْ التَّعْلِيلُ بِجَمِيعِ الْأَوْصَافِ يَسُدُّ بَابَ الْقِيَاسِ أَصْلًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا يُوجَدُ فِيهِ جَمِيعُ الْأَوْصَافِ يَكُونُ فَرْدًا مِنْ جِنْسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ ثَابِتًا فِيهِ بِالنَّصِّ لَا بِالْقِيَاسِ فَيَكُونُ التَّعْلِيلُ حِينَئِذٍ لِلْحَجْرِ لَا غَيْرُ، وَهُوَ خِلَافُ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ، وَلَمَّا انْتَفَى التَّعْلِيلُ بِالْجَمِيعِ وَجَبَ التَّعْلِيلُ بِوَاحِدٍ مِنْ الْجُمْلَةِ وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَالتَّعْلِيلُ بِالْمَجْهُولِ لِتَعْدِيَةِ الْحُكْمِ بَاطِلٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلِ عَيْنٍ وَصْفًا مِنْ سَائِرِ الْأَوْصَافِ لِلتَّعْلِيلِ وَقَوْلُهُ: وَالْوَاحِدُ مِنْ الْجُمْلَةِ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: إنْ لَمْ يَكُنْ التَّعْلِيلُ بِالْجُمْلَةِ فَلِمَ وَجَبَ النَّقْلُ إلَى الْوَاحِدِ مَعَ إمْكَانِ التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفَيْنِ وَالْأَكْثَرِ مِنْهَا فَقَالَ: لِأَنَّ الْوَاحِدَ وَهُوَ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ بَعْدَ سُقُوطِ الْجُمْلَةِ كَمَا فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ لَمَّا تَعَذَّرَ سَبَبِيَّةُ الْجَمِيعِ جَعَلَ الْجُزْءَ الْأَدْنَى سَبَبًا لِلتَّيَقُّنِ بِهِ، وَالتَّعْلِيلُ بِالْوَصْفَيْنِ وَأَكْثَرَ جَائِزٌ لَكِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْوَاحِدِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالدَّلِيلِ أَيْضًا هَذَا تَقْدِيرُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَلَكِنْ لِأَهْلِ الْمَقَالَةِ الثَّانِيَةِ أَنْ يَقُولُوا: لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ التَّعْلِيلِ بِجَمِيعِ الْأَوْصَافِ عَدَمُ صِحَّتِهِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا إذَا أَمْكَنَ التَّعْلِيلُ بِهِ لِعَدَمِ سَدِّ بَابِ الْقِيَاسِ فِيهِ بَلْ فِيهِ فَتْحَةٌ وَزِيَادَةُ تَعْمِيمٍ لِحُكْمِ النَّصِّ فَإِذَا جَازَ التَّعْلِيلُ بِكُلِّ وَصْفٍ لَمْ يَجِبْ النَّقْلُ إلَى الْوَاحِدِ الْمَجْهُولِ الَّذِي

وَقُلْنَا نَحْنُ: إنَّ دَلِيلَ التَّمْيِيزِ شَرْطٌ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - لَكِنَّا نَحْتَاجُ قَبْلَ ذَلِكَ إلَى قِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِ الْأَصْلِ شَاهِدًا لِلْحَالِ لَا نَاقِدًا وَجَدْنَا مِنْ النُّصُوصِ مَا هُوَ غَيْرُ مَعْلُولٍ فَاحْتَمَلَ هَذَا أَنْ يَكُونَ مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ لَكِنَّ هَذَا الْأَصْلَ لَمْ يَسْقُطْ بِالِاحْتِمَالِ، وَلَمْ يَبْقَ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ الْفَرْعُ بِالِاحْتِمَالِ أَيْضًا عَلَى مِثَالِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَاجِبٌ مَعَ قِيَامِ الِاخْتِصَاصِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ؛ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنَّمَا صَارَ وَاجِبًا لِكَوْنِهِ رَسُولًا وَإِمَامًا وَهَذَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ فَلَمْ يَسْقُطْ الْعَمَلُ بِمَا دَخَلَ مِنْ الِاحْتِمَالِ فِي نَفْسِ الْعَمَلِ. فَأَمَّا هُنَا فَإِنَّ النَّصَّ نَوْعَانِ مَعْلُولٌ وَغَيْرُ مَعْلُولٍ فَيَصِيرُ الِاحْتِمَالُ وَاقِعًا فِي نَفْسِ الْحُجَّةِ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ ابْتَلَانَا بِالْمَوْقِفِ مَرَّةً وَبِالِاسْتِنْبَاطِ أُخْرَى كُلُّ ذَلِكَ أَصْلٌ فَلَمَّا اعْتَدَلَا لَمْ يَسْتَقِمْ الِاكْتِفَاءُ بِأَحَدِ الْأَصْلَيْنِ، فَأَمَّا الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنَّمَا بُعِثَ لِلِاقْتِدَاءِ لَا مُعَارِضَ لِذَلِكَ فَلَمْ يَبْطُلْ بِالِاحْتِمَالِ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ مُمَيِّزٍ وَفِي كَلَامِ الْقَاضِي الْإِمَامِ جَوَابٌ عَنْهُ فَإِنَّهُ قَالَ: الدَّلَائِلُ الْمُوجِبَةُ لِلْقِيَاسِ جَعَلَتْ النَّصَّ مَعْلُولًا لِيُمْكِنَ الْقِيَاسُ؛ إذْ لَا قِيَاسَ إلَّا بِكَوْنِ النَّصِّ مُعَلَّلًا، وَإِلَّا لَكَانَ يَثْبُتُ بِوَصْفٍ مِنْ الْجُمْلَةِ فَلَمْ يَجِبْ بِتِلْكَ الدَّلَائِلِ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَصْفٍ عِلَّةً بَلْ صَارَ الْبَعْضُ مِنْ الْجُمْلَةِ عِلَّةً وَاحْتَمَلَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْوَاحِدَةِ فَلَا تَثْبُتُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَاحِدِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الصَّحَابَةَ إنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْفُرُوعِ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ فِي النَّصِّ؛ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ادَّعَى أَنَّ الْعِلَّةَ مَا قَالَهُ فَكَانَ ذَلِكَ اتِّفَاقًا مِنْهُمْ أَنَّ أَحَدَ الْأَوْصَافِ هُوَ الْعِلَّةُ فَلَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِجَمِيعِ الْأَوْصَافِ وَبِكُلِّ وَصْفٍ؛ لِأَنَّهُ عَلَى مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ. قَوْلُهُ (وَقُلْنَا نَحْنُ: إنَّ دَلِيلَ التَّمْيِيزِ شَرْطٌ) . يَعْنِي هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ الْمُخْتَارُ وَدَلِيلُ التَّمْيِيزِ شَرْطٌ عِنْدَنَا أَيْضًا كَمَا هُوَ شَرْطٌ عِنْدَهُمْ إلَّا أَنَّ عِنْدَهُمْ دَلِيلَ التَّمْيِيزِ الْإِخَالَةُ، وَعِنْدَنَا التَّأْثِيرُ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فِي بَابِ رُكْنِ الْقِيَاسِ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَكِنَّا نَحْتَاجُ قَبْلَ ذَلِكَ أَيْ قَبْلَ بَيَانِ التَّمَيُّزِ وَالشُّرُوعِ فِي التَّعْلِيلِ إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى كَوْنِ الْأَصْلِ أَيْ النَّصِّ الَّذِي يُرِيدُ تَعْلِيلَهُ شَاهِدًا أَيْ مُعَلِّلًا فِي الْحَالِ وَلَيْسَ بِمُقْتَصِرٍ عَلَى مَوْرِدِهِ بَلْ يُعَدِّي حُكْمَهُ إلَى غَيْرِهِ كَالْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْخَارِجِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ تَعَدَّى إلَى مَثْقُوبِ السُّرَّةِ بِالْإِجْمَاعِ فَيَجُوزُ تَعْلِيلُهُ بَعْدُ بِوَصْفٍ قَامَ إلَى الدَّلِيلِ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النُّصُوصِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ التَّعْلِيلَ إلَّا أَنَّهُ ثَابِتٌ مِنْ طَرِيقِ الظَّاهِرِ، وَقَدْ وَجَدْنَا مِنْ النُّصُوصِ مَا هُوَ غَيْرُ مَعْلُولٍ بِالِاتِّفَاقِ وَاحْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّصُّ الْمُعَيَّنُ مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ فَلَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِذَلِكَ الْأَصْلِ وَالْإِلْزَامُ بِهِ عَلَى الْغَيْرِ مَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَصْلُحُ حُجَّةً لِلدَّفْعِ لَا لِلْإِلْزَامِ لَكِنَّ هَذَا الْأَصْلَ، وَهُوَ كَوْنُ التَّعْلِيلِ أَصْلًا فِي النُّصُوصِ لَمْ يَسْقُطْ بِالِاحْتِمَالِ أَيْضًا حَتَّى جَازَ التَّعْلِيلُ لِلْعَمَلِ بِهِ قَبْلَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى كَوْنِهِ مَعْلُولًا وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ الْإِلْزَامُ بِهِ عَلَى الْغَيْرِ وَعَلَى مِثَالِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ صَلَحَ حُجَّةً دَافِعَةً لَا مُلْزِمَةً حَتَّى إنَّ حَيَاةَ الْمَفْقُودِ لَمَّا كَانَتْ ثَابِتَةً بِطَرِيقِ الِاسْتِصْحَابِ نَجْعَلُ حُجَّةً لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ حَتَّى لَا يُورَثَ مَالُهُ، وَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلِاسْتِحْقَاقِ حَتَّى لَوْ مَاتَ قَرِيبُهُ لَا يَرِثُهُ الْمَفْقُودُ لِاحْتِمَالِ الْمَوْتِ وَكَذَلِكَ مَجْهُولُ الْحَالِ إذَا شَهِدَ لَا يَرُدُّ شَهَادَتَهُ بِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ عَبْدًا؛ إذْ الْأَصْلُ فِي بَنِي آدَمَ هُوَ الْحُرِّيَّةُ. وَلَكِنْ لَوْ طَعَنَ الْخَصْمُ فِي حُرِّيَّتِهِ لَمْ يَصِرْ حُجَّةً عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ لِاحْتِمَالِ زَوَالِهِ بِعَارِضٍ، وَلَا يُبْطِلُ حُرْمَةً فِي نَفْسِهِ أَيْضًا بِهَذَا الِاحْتِمَالِ فَكَذَلِكَ هَذَا، فَإِذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِ الْأَصْلِ شَاهِدًا لَمْ يَبْقَ الِاحْتِمَالُ فَصَارَ حُجَّةً قَوْلُهُ: (وَلَا يَلْزَمُ) جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ يَرِدُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَتَقْدِيرُهُ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِالرَّسُولِ فِي أَفْعَالِهِ أَصْلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31] كَمَا أَنَّ التَّعْلِيلَ فِي النُّصُوصِ أَصْلٌ بِالدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِلْقِيَاسِ، وَقَدْ ثَبَتَ اخْتِصَاصُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِبَعْضِ الْأَفْعَالِ مِثْلَ إبَاحَةِ صَوْمِ الْوِصَالِ، وَحِلِّ التِّسْعِ وَإِبَاحَةِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ مَهْرٍ، وَأَخَذَ الصَّفِيِّ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَغَيْرِهَا كَمَا ثَبَتَ عَدَمُ التَّعْلِيلِ فِي بَعْضِ النُّصُوصِ ثُمَّ جَازَ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ قِيَامِ دَلِيلٍ عَلَى عَدَمِ الِاخْتِصَاصِ حَتَّى جَازَ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي أَفْعَالِهِ، وَصَحَّ الْإِلْزَامُ بِهِ عَلَى الْغَيْرِ مَا لَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ الْمَانِعُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ الْعَمَلُ بِالْأَصْلِ هَا هُنَا أَيْضًا مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ قِيَامِ دَلِيلٍ عَلَى كَوْنِ هَذَا النَّصِّ الْمُعَيَّنِ

وَمِثَالُ هَذَا الْأَصْلِ قَوْلُنَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ: إنَّ حُكْمَ النَّصِّ فِي ذَلِكَ مَعْلُولٌ فَلَا يُسْمَعُ مِنَّا الِاسْتِدْلَال بِالْأَصْلِ وَهُوَ أَنَّ التَّعْلِيلَ أَصْلٌ فِي النُّصُوصِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا النَّصَّ بِعَيْنِهِ مَعْلُولٌ، وَدَلَالَةُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا النَّصَّ تَضَمَّنَ حُكْمَ التَّعْيِينِ بِقَوْلِهِ يَدًا بِيَدٍ، وَذَلِكَ مِنْ بَابِ الرِّبَا أَيْضًا أَلَا تَرَى أَنَّ تَعْيِينَ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ شَرْطَ جَوَازِ كُلِّ بَيْعٍ احْتِرَازٌ عَنْ الدَّيْنِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمُعَلَّلًا مَا لَمْ يَمْنَعْ عَنْهُ مَانِعٌ فَقَالَ الِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنَّمَا وَجَبَ لِكَوْنِهِ رَسُولًا وَإِمَامًا صَادِقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] وَلَيْسَ فِي كَوْنِهِ رَسُولًا وَإِمَامًا شُبْهَةٌ فَوَجَبَ عَلَيْنَا الِاقْتِدَاءُ بِهِ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لَهُ قَطْعًا وَلَمْ يَسْقُطْ الْعَمَلُ بِهِ بِالِاحْتِمَالِ الدَّاخِلِ فِي نَفْسِ الْعَمَلِ دُونَ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ وَهُوَ احْتِمَالُ الِاخْتِصَاصِ كَمَا لَا يَسْقُطُ الْعَمَلُ بِالْعَامِّ بِاحْتِمَالِ الْخُصُوصِ لَمَّا كَانَ أَصْلُهُ مُوجِبًا مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ. فَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَالِاحْتِمَالُ فِي نَفْسِ الْحُجَّةِ لِلْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْكِتَابِ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ مَعْلُولٌ لِلْحَالِ لِيَصِحَّ الْعَمَلُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُجْمَلِ لَمَّا كَانَ الِاحْتِمَالُ فِي نَفْسِهِ لَمْ يَصِحَّ الْعَمَلُ بِهِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْهُ وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ هَذَا الشَّرْطَ مِنْ أَصْحَابِنَا مُتَمَسِّكًا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَبِأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَشْغَلْ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى كَوْنِ الْأَصْلِ مُعَلَّلًا فِي مُنَاظَرَاتِهِمْ وَمُقَايَسَاتِهِمْ وَلَمْ يَطْلُبْ ذَلِكَ خَصْمُهُ مِنْهُ أَجَابَ عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فَقَالَ بَعْدَمَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي النُّصُوصِ هُوَ التَّعْلِيلُ لَا وَجْهَ إلَى اشْتِرَاطِ دَلِيلٍ آخَرَ لِصِحَّةِ التَّعْلِيلِ؛ إذْ التَّعْلِيلُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِوَصْفٍ مُؤَثِّرٍ، وَالْأَثَرُ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى مَا سَتَعْرِفُهُ فَكَانَ ظُهُورُ الْوَصْفِ الْمُؤَثِّرِ مِنْ هَذَا النَّصِّ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِهِ مَعْلُولًا؛ إذْ لَا مَعْنَى لِكَوْنِهِ مَعْلُولًا إلَّا تَعَلُّقُ حُكْمِهِ بِمَعْنًى مُؤَثِّرٍ يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ فَأَيُّ حَاجَةٍ إلَى إقَامَةِ دَلِيلٍ آخَرَ عَلَى كَوْنِهِ مَعْلُولًا وَلَيْسَ هَذَا كَاسْتِصْحَابِ الْحَالِ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِيهِ لَمْ يَثْبُتْ بِدَلِيلٍ أَلَا تَرَى أَنَّ حَيَاةَ الْمَفْقُودِ وَحُرِّيَّةَ الشَّاهِدِ لَمْ تَثْبُتَا بِدَلِيلٍ بَلْ بِظَاهِرِ الْحَالِ، فَأَمَّا كَوْنُ الْأَصْلِ مَعْلُولًا فَقَدْ ثَبَتَ بِقَبُولِ التَّعْلِيلِ وَظُهُورِ الْوَصْفِ الْمُؤَثِّرِ فَوَضَحَ الْفَرْقُ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَالِاقْتِدَاءِ بِالرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي صِحَّةِ الْعَمَلِ بِهِ فِي هَذَا الْفَرْدِ الْمُعَيَّنِ كَالْعَمَلِ بِالِاقْتِدَاءِ فِي الْفِعْلِ الْمُعَيَّنِ. وَكَمَا أَنَّ النُّصُوصَ نَوْعَانِ مَعْلُولٌ وَغَيْرُ مَعْلُولٍ فَأَفْعَالُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَيْضًا نَوْعَانِ مَا يُقْتَدَى بِهِ وَمَا لَا يُقْتَدَى بِهِ وَكَمَا اُبْتُلِينَا بِالْوَقْفِ فِي غَيْرِ الْمَعْلُولِ وَبِالِاسْتِنْبَاطِ فِي الْمَعْلُولِ فَقَدْ اُبْتُلِينَا بِالِاقْتِدَاءِ فِيمَا يَصْلُحُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ وَبِعَدَمِ الِاقْتِدَاءِ فِيمَا ثَبَتَ الِاخْتِصَاصُ فِيهِ فَكَانَا مِنْ قَبِيلٍ وَاحِدٍ فَهَذَا كَلَامُ الْفَرِيقَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَعَلَيْك بَعْدُ بِالتَّرْجِيحِ قَوْلُهُ: (وَمِثَالُ هَذَا الْأَصْلِ) وَهُوَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي التَّعْلِيلِ مِنْ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى كَوْنِ الْأَصْلِ مَعْلُولًا وَلَا يَكْتَفِي فِيهِ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النُّصُوصِ التَّعْلِيلُ وَقَوْلُنَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إنَّ حُكْمَ النَّصِّ وَهُوَ حُرْمَةُ الْفَضْلِ وَفِي ذَلِكَ أَيْ فِي النُّصُوصِ مَعْلُولٌ بِعِلَّةٍ مُتَعَدِّيَةٍ وَهِيَ الْوَزْنُ وَالْجِنْسُ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْلُولٍ أَوْ مَخْصُوصٍ بِعِلَّةِ الثَّمَنِيَّةِ فَلَا يُسْمَعُ مِنَّا الِاسْتِدْلَال أَيْ التَّمَسُّكُ بِالْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ هَذَا النَّصَّ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ» بِعَيْنِهِ مَعْلُولٌ وَدَلَالَةُ ذَلِكَ أَيْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ هَذَا النَّصَّ بِعَيْنِهِ مَعْلُولٌ أَنَّ هَذَا النَّصَّ تَضَمَّنَ حُكْمَ التَّعَيُّنِ أَيْ حُكْمًا هُوَ التَّعْيِينُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِك: عِلْمُ الطِّبِّ وَحُكْمُ التَّطْهِيرِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «يَدًا بِيَدٍ» إذْ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّعْيِينُ، فَإِنَّ الْيَدَ آلَةُ التَّعْيِينِ كَالْإِحْضَارِ وَالْإِشَارَةِ كَمَا تَضَمَّنَ وُجُوبَ الْمُمَاثَلَةِ بِقَوْلِهِ مِثْلًا بِمِثْلٍ وَذَلِكَ مِنْ بَابِ الرِّبَا أَيْضًا أَيْ وُجُوبُ التَّعْيِينِ مِنْ بَابِ الِاحْتِرَازِ عَنْ الرِّبَا كَوُجُوبِ الْمُمَاثَلَةِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الرِّبَا يَعْنِي كِلَا الْحُكْمَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَلَا تَرَى دَلِيلًا عَلَى أَنَّ وُجُوبَهُ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الرِّبَا يَعْنِي الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ وُجُوبَهُ لِمَا قُلْنَا: إنَّ تَعْيِينَ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ شَرْطُ جَوَازِ كُلِّ بَيْعٍ لِلِاحْتِرَازِ

وَتَعْيِينُ الْآخَرِ وَاجِبٌ طَلَبًا لِلِاسْتِوَاءِ بَيْنَهُمَا احْتِرَازًا عَنْ شُبْهَةِ الْفَضْلِ الَّذِي هُوَ رِبًا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» وَقَدْ وَجَدْنَا هَذَا الْحُكْمَ مُتَعَدِّيًا عَنْهُ حَتَّى ـــــــــــــــــــــــــــــQعَنْ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ الَّذِي هُوَ نَسِيئَةٌ بِنَسِيئَةٍ، وَذَلِكَ مِنْ بَابِ الرِّبَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» . وَتَعْيِينُ الْأُخْرَى أَيْ وُجُوبُ تَعْيِينِ الْبَدَلِ الْآخَرِ فِيمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ، وَهُوَ الصَّرْفُ لِطَلَبِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ فِي الْعَيْنِيَّةِ، فَإِنَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فِي الْقَدْرِ الْعَيْنِيَّةِ شَرْطٌ عِنْدَ اتِّفَاقِ الْجِنْسِ بِقَوْلِهِ: مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَالْمُسَاوَاةُ فِي الْعَيْنِيَّةِ شَرْطٌ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ بِقَوْلِهِ: وَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ وَقَوْلُهُ طَلَبًا لِلتَّسْوِيَةِ مُتَعَلِّقٌ بِوَاجِبٍ وَقَوْلُهُ: احْتِرَازٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَجْمُوعِ، أَوْ بِقَوْلِهِ: طَلَبًا وَهُوَ أَظْهَرُ وَإِنَّمَا وَجَبَ تَحْصِيلُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْعَيْنِيَّةِ احْتِرَازًا عَنْ شُبْهَةِ الْفَضْلِ الَّذِي هُوَ رِبًا فَإِنَّ الْعَيْنَ خَيْرٌ مِنْ الدَّيْنِ وَإِنْ كَانَ حَالًّا؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ أَدَاءُ الزَّكَاةِ الْعَيْنِ مِنْ الدَّيْنِ وَلَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِهِ: إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَعَبْدُهُ حُرٌّ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ عَيْنٌ، وَلَهُ دُيُونٌ عَلَى النَّاسِ كَمَا وَجَبَتْ الْمُسَاوَاةُ فِي الْقَدْرِ احْتِرَازًا عَنْ حَقِيقَةِ الْفَضْلِ فَثَبَتَ أَنَّ وُجُوبَ التَّعَيُّنِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الرِّبَا كَوُجُوبِ الْمُسَاوَاةِ وَقَدْ وَجَدْنَا هَذَا الْحُكْمَ وَهُوَ وُجُوبُ التَّعْيِينِ مُتَعَدِّيًا عَنْ هَذَا الْأَصْلِ إلَى الْفُرُوعِ حَتَّى شَرَطَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - التَّقَابُضَ فِي الْمَجْلِسِ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَاخْتِلَافِهِ لِيَحْصُلَ التَّعْيِينُ كَمَا شَرَطْنَاهُ جَمِيعًا فِي بَدَلَيْ الصَّرْفِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَاخْتِلَافِهِ لِذَلِكَ. وَقُلْنَا جَمِيعًا فِيمَنْ اشْتَرَى حِنْطَةً بِعَيْنِهَا بِشَعِيرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ غَيْرِ مَقْبُوضٍ فِي الْمَجْلِسِ أَنَّهُ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مَوْصُوفًا؛ لِأَنَّ بِتَرْكِ التَّعْيِينِ فِي أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ بِعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْيَدِ كَمَا لَوْ بَاعَ ذَهَبًا بِفِضَّةٍ وَلَمْ يَقْبِضْ أَحَدَهُمَا فِي الْمَجْلِسِ وَإِنَّمَا قَالَ حَالًّا غَيْرَ مُؤَجَّلٍ لِيَكُونَ وَجْهُ الْجَوَازِ ظَهَرَ يَعْنِي مَعَ كَوْنِهِ حَالًّا مَوْصُوفًا لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ لِمَا قُلْنَا مِنْ اشْتِرَاطِ تَعَيُّنِ الْبَدِيلِ طَلَبًا لِلْمُسَاوَاةِ احْتِرَازًا عَنْ شُبْهَةِ الْفَضْلِ وَوَجَبَ تَعْيِينُ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ يَعْنِي بِالْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْأَثْمَانِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ أَبَدًا يَكُونُ دَيْنًا وَرَأْسُ الْمَالِ فِي الْأَغْلَبِ هُوَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ، وَأَنَّهَا لَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِالْقَبْضِ فَشَرَطْنَا الْقَبْضَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّعْيِينُ كَيْ لَا يَكُونَ افْتِرَاقًا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ ثُمَّ لَوْ كَانَ شَيْئًا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ بِدُونِ الْقَبْضِ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ أَيْضًا، وَلَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالتَّعْيِينِ دَفْعًا لِحَرَجِ التَّمْيِيزِ عَنْ الْعَوَامّ وَإِلْحَاقًا لِلْفَرْدِ بِالْأَغْلَبِ فَيَثْبُتُ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ قَدْ تَعَدَّى إلَى الْفُرُوعِ؛ إذْ لَا مَعْنَى لِلتَّعَدِّي إلَّا وُجُودُ حُكْمِ النَّصِّ فِي غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَعَدَمُ اقْتِصَارِهِ عَلَيْهِ إذَا ثَبَتَ التَّعَدِّي فِي ذَلِكَ أَيْ فِي حُكْمِ التَّعْيِينِ ثَبَتَ أَنَّهُ أَيْ النَّصَّ مَعْلُولٌ فَلَا يُعَدَّى بِلَا تَعْلِيلٍ أَيْ الْحُكْمُ لَا يُعَدَّى إلَى الْفَرْعِ بِلَا تَعْلِيلِ الْأَصْلِ بِالْإِجْمَاعِ، وَثَبَتَ أَنَّ التَّعْلِيلَ بِعِلَّةٍ قَاصِرَةٍ لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّعَدِّي بِعِلَّةٍ مُتَعَدِّيَةٍ؛ لِأَنَّ التَّعَدِّيَ قَدْ صَحَّ هَا هُنَا، وَلَمْ يَكُنْ الثَّمَنِيَّةُ مَانِعَةً وَإِذَا ثَبَتَ فِيهِ أَيْ ثَبَتَ لِلتَّعْلِيلِ هَذَا النَّصُّ فِي تَعَدِّي حُكْمِ التَّعْيِينِ إلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الصُّوَرِ، وَلَمْ يَكُنْ الثَّمَنِيَّةُ مَانِعَةً مِنْهُ ثَبَتَ تَعْلِيلُهُ فِي مَسْأَلَتِنَا أَيْ فِيمَا تَنَازَعْنَا فِيهِ وَهُوَ تَعَدِّي وُجُوبِ الْمُمَاثَلَةِ إلَى سَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ لِأَنَّهُ هُوَ بِعَيْنِهِ أَيْ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ لِوُجُوبِ الْمُمَاثَلَةِ عَيْنُ التَّعْلِيلِ لِتَعَدِّي حُكْمِ التَّعْيِينِ فَإِنَّ تَعَدِّيَ وُجُوبِ الْمُمَاثَلَةِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الرِّبَا كَمَا أَنَّ تَعَدِّيَ وُجُوبِ التَّعْيِينِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الرِّبَا أَيْضًا بَلْ رِبَا الْفَضْلِ أَثْبَتُ مِنْهُ أَيْ مِنْ رِبَا النَّسِيئَةِ يَعْنِي رِبَا الْفَضْلِ الَّذِي بُنِيَ تَعَدِّي وُجُوبِ الْمُمَاثَلَةِ عَلَيْهِ أَسْرَعُ ثُبُوتًا مِنْ رِبَا النَّسِيئَةِ الَّذِي بُنِيَ تَعَدِّي التَّعْيِينِ

قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَيْعِ الطَّعَامِ: إنَّ التَّقَابُضَ شَرْطٌ، وَقُلْنَا جَمِيعًا فِيمَنْ اشْتَرَى حِنْطَةً بِعَيْنِهَا بِشَعِيرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ حَالًّا غَيْرَ مُؤَجَّلٍ إنَّهُ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مَوْصُوفًا لِمَا قُلْنَا، وَوَجَبَ تَعْيِينُ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِذَا ثَبَتَ التَّعَدِّي فِي ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ مَعْلُولٌ فَلَا تَعَدِّيَ بِلَا تَعْلِيلٍ بِالْإِجْمَاعِ فَقَدْ صَحَّ التَّعَدِّي وَلَمْ يَكُنْ الثَّمَنِيَّةُ مَانِعَةً، وَإِذَا ثَبَتَ فِيهِ ثَبَتَ فِي مَسْأَلَتِنَا؛ لِأَنَّهُ هُوَ بِعَيْنِهِ بَلْ رِبَا الْفَضْلِ أَثْبَتُ مِنْهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ مَعْلُولٌ فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ النَّصِّ بَلْ الدَّلِيلُ دَلَّ عَلَى خِلَافِهِ، فَإِنَّ النَّصَّ أَوْجَبَ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ لِعَيْنِهَا، وَلَيْسَتْ حُرْمَةُ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ وَنَجَاسَتُهَا مِنْ بَابِ التَّعَدِّي لَكِنَّهُ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةٌ احْتِيَاطًا وَمِثَالُ هَذَا الشَّاهِدِ لَمَّا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ مَعَ صِفَةِ الْجَهْلِ بِحُدُودِ الشَّرْعِ بَطَلَ الطَّعْنُ بِالْجَهْلِ وَصُحِّحَ الطَّعْنُ بِالرِّقِّ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا مَتَى وَجَدْنَا النَّصَّ شَاهِدًا مَعَ مَا ذَكَرَ مِنْ الطَّعْنِ بَطَلَ الطَّعْنُ، وَمَتَى وَقَعَ الطَّعْنُ فِي الشَّاهِدِ بِمَا هُوَ جُرْحٌ وَهُوَ الرِّقُّ لَمْ يَجُزْ الْحُكْمُ بِظَاهِرِ الْحُرِّيَّةِ إلَّا بِحُجَّةٍ فَكَذَلِكَ هُنَا لَا يَصِحُّ الْعَمَلُ بِهِ مَعَ الِاحْتِمَالِ إلَّا بِالْحُجَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ الْفَضْلِ وَرِبَا النَّسِيئَةِ شُبْهَةُ الْفَضْلِ، وَالْحَقِيقَةُ أَوْلَى بِالثُّبُوتِ مِنْ الشُّبْهَةِ. 1 - فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ وُجُودَ التَّعَدِّي فِي هَذَا الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّعَدِّي أَنْ يُوجَدَ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ الَّذِي لَا نَصَّ فِيهِ بِنَاءً عَلَى عِلَّةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَالتَّعْيِينُ فِيمَا ذَكَرْتُمْ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ لَا بِالْعِلَّةِ فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ فِي كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهِ «يَدًا بِيَدٍ قَبْضًا بِقَبْضٍ ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ» بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ فَيَجِبُ الْقَبْضُ الْمُعَيَّنُ عِنْدَ اتِّفَاقِ الْجِنْسِ وَاخْتِلَافِهِ بِهَذَا النَّصِّ فِي رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ «بِنَهْيِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ» فَكَانَ الْقَبْضُ الْمُعَيَّنُ وَاجِبًا فِي هَذَا الْمَسَائِلِ بِالنَّصِّ لَا بِالتَّعْلِيلِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُ هَذَا النَّصِّ مَعْلُولًا يُوَضِّحُهُ أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ التَّعْلِيلِ عَدَمَ النَّصِّ فِي الْفُرُوعِ فَمَعَ وُجُودِ هَذِهِ النُّصُوصِ فِيمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْفُرُوعِ كَيْفَ يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِتَعَدِّي الْحُكْمِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إلَيْهَا قُلْنَا: وُجُودُ النَّصِّ فِي الْفَرْعِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّعَدِّي مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ إلَيْهِ بِالتَّعْلِيلِ إذَا كَانَ التَّعْلِيلُ مُوَافِقًا لِلنَّصِّ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَإِنَّمَا يَمْنَعُ إذَا كَانَ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْفُقَهَاءَ عَنْ آخِرِهِمْ يَقُولُونَ: هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ، وَالْمَعْقُولُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَوْلَا النَّصُّ لَكَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ، فَإِذَا وُجِدَ النَّصُّ كَانَ الْقِيَاسُ مُؤَكِّدًا لَهُ، وَكَانَ النَّصُّ مُقَرِّرًا لِلْقِيَاسِ، وَيَتَعَاضَدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ كَمَا إذَا وُجِدَ نَصَّانِ مِنْ الْكِتَابِ أَوْ مِنْ السُّنَّةِ أَوْ مِنْهُمَا جَمِيعًا فَثَبَتَ أَنَّ وُجُودَ النَّصِّ فِي الْفَرْعِ لَا يَقْدَحُ فِيمَا ذَكَرْنَا بَلْ مُؤَكِّدٌ كَوْنَ الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ مَعْلُولًا قَوْلُهُ: (قَالَ الشَّافِعِيُّ) عَلَّلَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَحْرِيمَ الْخَمْرِ بِوَصْفِ الْإِسْكَارِ. وَقَالَ: هَذَا وَصْفٌ مُؤَثِّرٌ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ شُرْبِ مَا يَسْتُرُ الْعَقْلَ الَّذِي صَارَ بِهِ الْإِنْسَانُ أَهْلًا لِلْخِطَابِ وَالتَّكْلِيفِ وَيَجْعَلُهُ كَالزَّائِلِ، أَمْرٌ مَعْقُولٌ وَلِهَذَا لَمْ يَشْرَبْهَا نَبِيٌّ قَطُّ وَلَمْ يَشْرَبْهَا كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ فَيُلْحَقُ سَائِرُ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ بِهَا بِعِلَّةِ الْإِسْكَارِ فَيَحْرُمُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا، وَيَجِبُ الْحَدُّ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ مِنْهَا كَالْخَمْرِ فَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الدَّلِيلِ أَوَّلًا عَلَى كَوْنِ النَّصِّ الْمُحَرِّمِ لَهَا مَعْلُولًا لِيَصِحَّ تَعْلِيلُهُ بَعْدُ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ النَّصِّ بَلْ الدَّلِيلُ مِنْ النَّصِّ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَعْلُولٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - حَرَّمَ الْخَمْرَ لِعَيْنِهَا قَلِيلَهَا وَكَثِيرَهَا، وَالسُّكْرَ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ» فَلَوْ كَانَتْ الْحُرْمَةُ مُتَعَلِّقَةً بِالسُّكْرِ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْقَلِيلِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَقَوْلُهُ: لَيْسَتْ حُرْمَةُ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ وَنَجَاسَتِهَا جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: قَدْ تَعَدَّى حُكْمُ الْحُرْمَةِ حُكْمَ النَّجَاسَةِ مِنْ الْخَمْرِ إلَى بَعْضِ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ مِثْلَ الْمَطْبُوخِ أَدْنَى طَبْخَةٍ إذَا اشْتَدَّ وَالنِّيءِ مِنْ نَبِيذِ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ إذَا اشْتَدَّ كَمَا تَعَدَّى حُكْمُ التَّعْيِينِ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ إلَى الْفُرُوعِ فَثَبَتَ بِهِ أَنَّ النَّصَّ الْمُحَرِّمَ لِلْخَمْرِ مَعْلُولٌ؛ إذْ لَا تَعَدِّيَ بِلَا تَعْلِيلٍ فَقَالَ: لَيْسَتْ حُرْمَةُ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ أَيْ بَاقِي الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَنَجَاسَتِهَا مِنْ بَابِ التَّعَدِّي أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَمْ يَثْبُتَا عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ثَبَتَا فِي الْخَمْرِ حَتَّى يَكْفُرَ مُسْتَحِلُّ الْخَمْرِ وَلَا يَكْفُرَ مُسْتَحِلُّ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ وَنَجَاسَةُ الْخَمْرِ غَلِيظَةٌ لَا يُعْفَى عَنْهَا أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ، وَنَجَاسَةُ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ خَفِيفَةٌ يُعْفَى عَنْهَا مَا دُونَ رُبُعِ الثَّوْبِ. كَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْخَمْرِ بِالْإِجْمَاعِ وَيَجُوزُ بَيْعُ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ

[باب شروط القياس]

بَابٌ شُرُوطُ الْقِيَاسِ) : قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ: وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ أَنْ لَا يَكُونَ الْأَصْلُ مَخْصُوصًا بِحُكْمِهِ بِنَصٍّ آخَرَ ـــــــــــــــــــــــــــــQ- رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْمَبْسُوطِ لَكِنَّهُ أَيْ لَكِنَّ الْحُكْمَ - وَهُوَ الْحُرْمَةُ - وَالنَّجَاسَةَ فِيهِ أَيْ فِي سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةٌ بِطَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ مُشِيرًا إلَى النَّخْلَةِ وَالْكَرْمَةِ» فَظَاهِرُهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ حُكْمَ الْخَمْرِ؛ إذْ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بُعِثَ مُبَيِّنًا لِلْحُكْمِ لَا لِلُّغَةِ فَكَانَ مَعْنَاهُ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُمَا لَهُ حُكْمُ الْخَمْرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِهِ كَوْنُ النَّصِّ مَعْلُولًا وَمِثَالُ هَذَا أَيْ نَظِيرُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ وَصْفَ الثَّمَنِيَّةِ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَعَدِّي حُكْمِ التَّعْيِينِ لَا يَصِحُّ الطَّعْنُ بِهِ بِأَنْ يُقَالَ: هَذَا النَّصُّ مَعْلُولٌ بِهَذَا الْوَصْفِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا بِوَصْفٍ آخَرَ، وَأَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْأَصْلِ لَمَّا لَمْ يَصْلُحْ حُجَّةً يَلْزَمُهُ صَحَّ الطَّعْنُ بِاحْتِمَالِ كَوْنِ هَذَا النَّصِّ الْمُعَيَّنِ غَيْرَ مَعْلُولٍ وَطَلَبِ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى كَوْنِهِ مَعْلُولًا طَعْنُ الشَّاهِدِ بِالْجَهْلِ وَالرِّقِّ فَإِنَّ الطَّعْنَ بِالْجَهْلِ لَا يَصِحُّ وَبِالرِّقِّ يَصِحُّ عَلَى مَا قُرِّرَ فِي الْكِتَابِ مَتَى وَجَدَ بِالنَّصِّ شَاهِدًا أَيْ مُعَلِّلًا مَعَ مَا ذَكَرَ الْخَصْمُ مِنْ الطَّعْنِ بِأَنَّهُ مَعْلُولٌ بِالثَّمَنِيَّةِ بَطَلَ هَذَا الطَّعْنُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابٌ شُرُوطُ الْقِيَاسِ] ِ قَوْلُهُ: (أَنْ لَا يَكُونَ الْأَصْلُ مَخْصُوصًا بِحُكْمِهِ بِنَصٍّ آخَرَ) اعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ هَا هُنَا لِكَثْرَةِ دَوْرِهِمَا فِي الْمَسَائِلِ فِي هَذَا الْبَابِ فَنَقُولُ: الْأَصْلُ فِي الْقِيَاسِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ هُوَ مَحَلُّ الْحُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ كَمَا إذَا قِيسَ الْأُرْزُ عَلَى الْبُرِّ فِي تَحْرِيمِ بَيْعِهِ بِجِنْسِهِ كَانَ الْأَصْلُ هُوَ الْبُرَّ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَا كَانَ حُكْمُ الْفَرْعِ مُقْتَبَسًا مِنْهُ وَمَرْدُودًا إلَيْهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْبُرُّ فِي هَذَا الْمِثَالِ وَعِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ هُوَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى الْحُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِنْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» فِي هَذَا الْمِثَالِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَالْحُكْمُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مُتَفَرِّعٌ عَلَى النَّصِّ فَكَانَ هُوَ الْأَصْلَ وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْحُكْمُ فِي الْمَحَلِّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَا اُبْتُنِيَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَكَانَ الْمُعْلَمُ بِهِ مُوَصِّلًا إلَى الْعِلْمِ أَوْ الظَّنِّ بِغَيْرِهِ، وَهَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْحُكْمِ لَا فِي الْمَحَلِّ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْفَرْعِ لَا يَتَفَرَّعُ عَلَى الْمَحَلِّ وَلَا فِي النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ؛ إذْ لَوْ تُصُوِّرَ الْعِلْمُ بِالْحُكْمِ فِي الْمَحَلِّ دُونَهُمَا بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ أَوْ ضَرُورَةٍ أَمْكَنَ الْقِيَاسُ فَلَمْ يَكُنْ النَّصُّ أَصْلًا لِلْقِيَاسِ أَيْضًا وَهَذَا النِّزَاعُ لَفْظِيٌّ لِإِمْكَانِ إطْلَاقِ الْأَصْلِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا لِبِنَاءِ حُكْمِ الْفَرْعِ عَلَى الْحُكْمِ فِي الْمَحَلِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمَحَلِّ وَالنَّصِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ أَصْلُهُ، وَأَصْلُ الْأَصْلِ أَصْلٌ، وَلَكِنَّ الْأَشْبَهَ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ هُوَ الْمَحَلَّ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَعَلَى مَا لَا يَفْتَقِرُ إلَى غَيْرِهِ، وَيَسْتَقِيمُ إطْلَاقُهُ عَلَى الْمَحَلِّ بِالْمَعْنَيَيْنِ أَمَّا بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَلِمَا قُلْنَا وَأَمَّا بِالْمَعْنَى الثَّانِي فَلِافْتِقَارِ الْحُكْمِ وَدَلِيلِهِ إلَى الْمَحَلِّ ضَرُورَةً مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلَى الْحُكْمِ، وَلَا إلَى دَلِيلِهِ وَلِأَنَّ الْمَطْلُوبَ بَيَانُ الْأَصْلِ الَّذِي يَقْبَلُ الْفَرْعَ فِي التَّرْكِيبِ الْقِيَاسِيِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ هُوَ الْمَحَلُّ. وَأَمَّا الْفَرْعُ فَهُوَ الْمَحَلُّ الْمُشَبَّهُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ كَالْأُرْزِ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ، وَعِنْدَ الْبَاقِينَ هُوَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ فِيهِ بِالْقِيَاسِ كَتَحْرِيمِ الْبَيْعِ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا، وَهَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَبْتَنِي عَلَى الْغَيْرِ وَيَفْتَقِرُ

وَأَنْ لَا يَكُونَ حُكْمُهُ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ، وَأَنْ يَتَعَدَّى الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ الثَّابِتَ بِالنَّصِّ بِعَيْنِهِ إلَى فَرْعٍ هُوَ نَظِيرُهُ وَلَا نَصَّ فِيهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَيْهِ دُونَ الْمَحَلِّ إلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا سَمَّوْا الْمَحَلَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ أَصْلًا سَمَّوْا الْمَحَلَّ الْآخَرَ فَرْعًا وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ الْأَصْلِ هَا هُنَا النَّصَّ الْمُثْبِتَ لِلْحُكْمِ فَالْمُرَادُ مِنْ الْخُصُوصِ التَّفَرُّدُ كَمَا فِي قَوْلِك: فُلَانٌ مَخْصُوصٌ بِعِلْمِ الطِّبِّ أَيْ مُنْفَرِدٌ بِهِ مِنْ بَيْنِ الْعَامَّةِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ لَا الْمَخْصُوصُ مِنْ صِيغَةٍ عَامَّةٍ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ عَنْ الْقِيَاسِ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَمَّا خُصُّوا عَنْ عُمُومِ نَصِّ الْقِتَالِ أَلْحَقَ بِهِمْ الشُّيُوخَ وَالصِّبْيَانَ وَالرَّهَّابِينَ وَغَيْرَهُمْ بِالْقِيَاسِ وَالْبَاءُ فِي بِحُكْمِهِ بِمَعْنَى مَعَ، وَفِي بِنَصٍّ آخَرَ لِلسَّبَبِيَّةِ وَالْمُخْتَصُّ بِهِ غَيْرُ مَذْكُورٍ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى الْأَصْلِ أَيْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَكُونَ النَّصُّ الْمُثْبِتُ لِلْحُكْمِ فِي الْمَحَلِّ مُخْتَصًّا مَعَ حُكْمِهِ بِذَلِكَ الْمَحَلِّ بِسَبَبِ نَصٍّ آخَرَ يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وَمَنْ شَهِدَ لَهُ خُزَيْمَةُ فَحَسْبُهُ» فَإِنَّهُ مُخْتَصٌّ مَعَ حُكْمِهِ، وَهُوَ قَبُولُ شَهَادَةِ الْفَرْدِ بِمَحَلِّ وُرُودِهِ، وَهُوَ خُزَيْمَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِسَبَبِ نَصٍّ آخَرَ يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] فَإِنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَ عَلَى الْجَمِيعِ مُرَاعَاةَ الْعَدَدِ لَزِمَ مِنْهُ نَفْيُ قَبُولِ شَهَادَةِ الْفَرْدِ فَإِذَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ فِي مَوْضِعٍ كَانَ مُخْتَصًّا بِهِ وَلَا يَعْدُوهُ لِلنَّصِّ النَّافِي فِي غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَحَلَّ الْحُكْمِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ فَالْمُرَادُ مِنْ الْخُصُوصِ التَّفَرُّدُ كَمَا قُلْنَا وَالْبَاءُ فِي بِحُكْمِهِ صِلَةُ الْخُصُوصِ وَفِي بِنَصٍّ آخَرَ لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَكُونَ مَحَلُّ الْحُكْمِ مُخْتَصًّا بِالْحُكْمِ الْمَشْرُوعِ فِيهِ بِسَبَبِ نَصٍّ آخَرَ يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهَذَا الْحُكْمِ مِثْلَ خُزَيْمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ مُخْتَصٌّ أَيْ مُتَفَرِّدٌ بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَعُرِفَ هَذَا الِاخْتِصَاصُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] . وَالْمُرَادُ مِنْ الْخُصُوصِ خُصُوصُ الْعُمُومِ إلَّا أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ خُصُوصٌ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ لَا مُطْلَقُ الْخُصُوصِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْقِيَاسِ وَالْبَاءُ فِي بِنَصٍّ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْخُصُوصِ، وَالنَّصُّ الْآخَرُ الدَّلِيلُ الْمُخَصِّصُ، وَالْمَخْصُوصُ مِنْهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ يَعْنِي يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَكُونَ مَحَلُّ الْحُكْمِ مَخْصُوصًا بِحُكْمِهِ عَنْ قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ بِنَصٍّ آخَرَ يُخَصِّصُهُ مِثْلَ خُزَيْمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِحُكْمِهِ وَهُوَ قَبُولُ شَهَادَتِهِ وَحْدَهُ عَنْ الْعُمُومَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلْعَدَدِ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} [البقرة: 282] {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ شَهِدَ لَهُ خُزَيْمَةُ فَحَسْبُهُ» وَلَكِنْ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ فَيَمْنَعُ مِنْ إلْحَاقِ غَيْرِهِ بِهِ قِيَاسًا سَوَاءٌ كَانَ مِثْلَهُ فِي الْفَضِيلَةِ أَوْ فَوْقَهُ أَوْ دُونَهُ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَوْفَقُ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ. 1 - قَوْلُهُ: (وَأَنْ لَا يَكُونَ حُكْمُهُ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ) . الضَّمِيرُ فِي بِهِ رَاجِعٌ إلَى الْحُكْمِ وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ فَإِنَّ الْعُدُولَ لَازِمٌ وَهُوَ الْمَيْلُ عَنْ الطَّرِيقِ فَلَا يَتَأَتَّى الْمَجْهُولُ عَنْهُ إلَّا بِالْبَاءِ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ مَعَ الْبَاءِ مَعْنَى الْفَاعِلِ أَيْ وَمِنْ شُرُوطِهِ أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ عَادِلًا عَنْ سَنَنِ الْقِيَاسِ أَيْ مَائِلًا عَنْهُ يَعْنِي لَا يَكُونُ عَلَى خِلَافِهِ وَأَنْ يَتَعَدَّى الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ الثَّابِتُ بِالنَّصِّ بِعَيْنِهِ إلَى فَرْعٍ هُوَ نَظِيرٌ وَلَا نَصَّ فِيهِ الضَّمِيرُ فِي بِعَيْنِهِ عَائِدٌ إلَى الْحُكْمِ وَفِي نَظِيرِهِ إلَى الْأَصْلِ وَفِي فِيهِ إلَى الْفَرْعِ وَهَذَا الشَّرْطُ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فِي الْحَقِيقَةِ لِتَضَمُّنِهِ اشْتِرَاطَ التَّعْدِيَةِ وَكَوْنِ الْحُكْمِ شَرْعِيًّا وَعَدَمِ تَغْيِيرِهِ فِي الْفَرْعِ فَإِنَّ قَوْلَهُ بِعَيْنِهِ يُشِيرُ إلَيْهِ وَمُمَاثَلَةِ الْفَرْعِ الْأَصْلَ وَعَدَمِ وُجُودِ النَّصِّ فِي الْفَرْعِ إلَّا أَنَّ الْكُلَّ لَمَّا كَانَ رَاجِعًا إلَى

وَأَنْ يَبْقَى الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ بَعْدَ التَّعْلِيلِ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQتَحَقُّقِ التَّعْدِيَةِ فَإِنَّهَا تَتِمُّ بِالْجَمِيعِ، جَعَلَ الْكُلَّ شَرْطًا وَاحِدًا بِخِلَافِ الشَّرْطَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَإِنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ التَّعْدِيَةِ بَلْ هُمَا مِنْ شُرُوطِ التَّعْدِيَةِ كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ وَأَنْ يَبْقَى الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ أَيْ النَّصِّ الَّذِي فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ بَعْدَ التَّعْلِيلِ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ التَّعْلِيلِ يَعْنِي يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ فِي الْفَرْعِ وَزَادَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ شُرُوطًا لَمْ يَذْكُرْهَا الشَّيْخُ وَمِنْهَا مَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَكُونَ التَّعْلِيلُ مُتَضَمِّنًا إبْطَالَ شَيْءٍ مِنْ أَلْفَاظِ النَّصِّ كَإِلْحَاقِ سَائِرِ السِّبَاعِ بِالْخَمْسِ الْمُؤْذِيَاتِ فِي إبَاحَةِ قَتْلِهَا لِلْمُحْرِمِ بِالتَّعْلِيلِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ إبْطَالَ لَفْظِ الْخَمْسِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «خَمْسٌ مِنْ الْفَوَاسِقِ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ» ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى عَلَى حَالِهِ بَلْ يَصِيرُ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسٍ، فَكَانَ هَذَا التَّعْلِيلُ مُبْطِلًا لَهُ فَيَبْطُلُ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الشَّيْخُ لِدُخُولِهِ فِي الشَّرْطِ الرَّابِعِ وَمِنْهَا مَا ذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا، وَلَا يَكُونُ مَنْسُوخًا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَدَّى مِنْ الْأَصْلِ إلَى الْفَرْعِ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ، وَيُفْهَمُ هَذَا الشَّرْطُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنْ يَتَعَدَّى الْحُكْمُ إذْ التَّعَدِّي يَتَحَقَّقُ فِي الثَّابِتِ لَا فِي الْمَنْسُوخِ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ غَيْرَ مُتَفَرِّعٍ عَنْ أَصْلٍ آخَرَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْحَسَنِ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ؛ لِأَنَّ الْجَامِعَةَ بَيْنَ حُكْمِ الْأَصْلِ وَأَصْلِهِ أَنْ أَتَحَدَّثَ مَعَ الْجَمَاعَةِ بَيْنَ حُكْمِ الْأَصْلِ وَفَرْعِهِ فَذِكْرُ الْوَسَطِ ضَائِعٌ؛ لِأَنَّهُ تَطْوِيلٌ غَيْرُ مُفِيدٍ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي السَّفَرْجَلِ: إنَّهُ مَطْعُومٌ فَيَكُونُ رِبَوِيًّا قِيَاسًا عَلَى التُّفَّاحِ ثُمَّ يَقِيسُ التُّفَّاحَ عَلَى الْبُرِّ بِوَاسِطَةِ الطَّعْمِ فَيَضِيعُ ذِكْرُ الْوَسَطِ وَهُوَ التُّفَّاحُ وَإِنْ لَمْ تَتَّحِدَ الْعِلَّتَانِ فَسَدَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي بَيْنَ الْأَصْلِ وَأَصْلِهِ لَا يُوجَدُ فِي الْفَرْعِ، وَالْعِلَّةُ الَّتِي بَيْنَ الْأَصْلِ وَفَرْعِهِ لَيْسَ بِمُعْتَبَرَةٍ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ بِدُونِهَا كَقَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجُذَامِ: إنَّهُ عَيْبٌ يُفْسَخُ بِهِ الْبَيْعُ فَيُفْسَخُ بِهِ النِّكَاحُ قِيَاسًا عَلَى الرَّتْقِ ثُمَّ قَاسُوا الرَّتْقَ عَلَى الْجُبِّ عِنْدَ تَوَجُّهِ الْمَنْعِ بِجَامِعِ فَوَاتِ غَرَضِ الِاسْتِمْتَاعِ وَفِي قَوْلِهِ: الثَّابِتُ بِالنَّصِّ إشَارَةٌ إلَى هَذَا الشَّرْطِ يَعْنِي يُشْتَرَطُ تَعَدِّي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ لَا بِالْقِيَاسِ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْفَرْعُ مُتَقَدِّمًا عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ؛ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ يَلْزَمُ مِنْهُ ثُبُوتُ حُكْمِ الْفَرْعِ قَبْلَ ثُبُوتِ الْعِلَّةِ لِتَأَخُّرِ الْأَصْلِ. وَذَلِكَ كَقِيَاسِ الشَّافِعِيِّ الْوُضُوءَ عَلَى التَّيَمُّمِ فِي الِانْتِقَالِ إلَى النِّيَّةِ، فَإِنَّ شَرْعِيَّةَ التَّيَمُّمِ ثَابِتَةٌ بَعْدَ شَرْعِيَّةِ الْوُضُوءِ فَلَا يَجُوزُ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ مِنْهُ إلَى الْوُضُوءِ وَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْمِيزَانِ اعْتَرَضَ عَلَى الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ اشْتِرَاطَ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ مِثْلَ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ وَمَنْ وَافَقَهُ فَأَمَّا عِنْدَ مَنْ أَنْكَرَ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ مِثْلَ الشَّيْخَيْنِ وَعَامَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ فَلَا يَسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّ النَّصَّ إذَا وَرَدَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ تَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ الْقِيَاسَ كَانَ بَاطِلًا فَكَانَ اشْتِرَاطُ كَوْنِ حُكْمِ الْأَصْلِ غَيْرَ مَعْدُولٍ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ غَيْرَ مُسْتَقِيمٍ لِيَتَبَيَّنَ بُطْلَانَ ذَلِكَ الْقِيَاسِ بِوُرُودِ النَّصِّ عَلَى خِلَافِهِ بَيَانُهُ أَنَّ الْأَكْلَ لَمَّا جُعِلَ عِلَّةً لِفَسَادِ الصَّوْمِ ثُمَّ وَرَدَ نَصٌّ بِبَقَاءِ الصَّوْمِ مَعَ الْأَكْلِ نَاسِيًا كَانَ ذَلِكَ عَلَى فَسَادِ الْعِلَّةِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ قَوْلُهُمْ: إنَّهُ وَرَدَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ مَعَ تَبَيُّنِ فَسَادِ الْقِيَاسِ وَبُطْلَانِهِ بِوُرُودِهِ وَثَانِيهَا أَنَّهُ ذَكَرَ التَّعَدِّيَ وَهُوَ

أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ مَتَى ثَبَتَ اخْتِصَاصُهُ بِالنَّصِّ صَارَ التَّعْلِيلُ مُبْطِلًا لَهُ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَارِضُهُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ حَاجَتَنَا إلَى إثْبَاتِ الْحُكْمِ بِالْقِيَاسِ، فَإِذَا جَاءَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ لَمْ يَصِحَّ إثْبَاتُهُ بِهِ كَالنَّصِّ النَّافِي لَا يَصْلُحُ لِلْإِثْبَاتِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّجَاوُزُ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْأَوْصَافِ، وَلَوْ ثَبَتَ يَلْزَمُ مِنْهُ خُلُوُّ مَحَلِّ النَّصِّ عَنْ الْحُكْمِ؛ إذْ الشَّيْءُ لَا يَثْبُتُ فِي مَحَلَّيْنِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَثَالِثُهَا أَنَّ اشْتِرَاطَ تَعَدِّي حُكْمِ النَّصِّ بِعَيْنِهِ يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الْقِيَاسِ فَكَيْفَ يَصْلُحُ شَرْطًا؛ لِأَنَّ حُكْمَ النَّصِّ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» حُرْمَةُ الْفَضْلِ عَلَى الْكَيْلِ فِي الْحِنْطَةِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ فِي الْفَرْعِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْفَضْلِ عَلَى الْكَيْلِ فِي الْجِصِّ وَالْأُرْزِ مَثَلًا غَيْرُ حُرْمَةِ الْفَضْلِ فِي الْحِنْطَةِ. وَأُجِيبُ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كَوْنِ حُكْمِ الْأَصْلِ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ عِنْدَ مَنْ أَنْكَرَ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ الِاعْتِبَارُ بِالْقَوَاعِدِ الْمَعْلُومَةِ فِي الشَّرْعِ فِي نَظَائِرِهِ لَوْ لَمْ يَرِدْ النَّصُّ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا وَرَدَ النَّصُّ بِهِ فَكَانَ وُرُودُ النَّصِّ بِهِ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ التَّعَدِّي ثُبُوتُ مِثْلِ الْحُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الْجَوَازُ وَالْفَسَادُ وَالْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ فِي الْفَرْعِ وَعَدَمُ اقْتِصَارِهِ عَلَى الْأَصْلِ لَا التَّعَدِّي الَّذِي يُوجَدُ فِي الْأَجْسَامِ وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ تَعَدِّي عَيْنِ الْحُكْمِ تَعَدِّي مِثْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ فِي نَفْسِ الْحُكْمِ، وَمِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الْمَحَلِّ فَإِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْرِفُ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تَعَدِّيَ الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ إلَى الْفَرْعِ لَمْ يُرِدْ بِهِ عَيْنَ ذَلِكَ الْحُكْمِ مُتَقَيِّدًا بِذَلِكَ الْمَحَلِّ بَلْ أَرَادَ تَعَدِّيَ مِثْلِهِ إلَى الْفَرْعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْدِثَ بِالتَّعْلِيلِ فِيهِ تَغْيِيرًا مِثْلَ تَعْدِيَةِ حُكْمِ نَصِّ الرِّبَا إلَى الْفُرُوعِ، فَإِنَّا قَدْ عَرَفْنَا بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ أَوْ بِدَلِيلٍ اجْتِهَادِيٍّ أَنَّ حُكْمَ النَّصِّ حُرْمَةُ الْفَضْلِ عَلَى الْكَيْلِ مُطْلَقَةً لَا حُرْمَةُ الْفَضْلِ عَلَى الْكَيْلِ فِي الْحِنْطَةِ تَعَدَّيْنَاهُ إلَى الْجِصِّ، وَالْأُرْزِ بِعِلَّةِ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ فَكَانَ هَذَا تَعْدِيَةَ حُكْمِ النَّصِّ بِعَيْنِهِ إلَى فَرْعٍ هُوَ نَظِيرُهُ فَكَانَ صَحِيحًا بِخِلَافِ تَعْدِيَةِ صِحَّةِ ظِهَارِ الْمُسْلِمِ إلَى ظِهَارِ الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُ تَغْيِيرٌ لِلْحُرْمَةِ الْمُتَنَاهِيَةِ فِي الْأَصْلِ إلَى إطْلَاقِهَا فِي الْفَرْعِ فَكَانَ فَاسِدًا قَوْلُهُ: (أَمَّا الْأَوَّلُ) أَيْ اشْتِرَاطُ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ الضَّمِيرَ لِلشَّأْنِ مَتَى ثَبَتَ اخْتِصَاصُهُ أَيْ يُفْرَدُ الْأَصْلُ بِحُكْمِهِ بِالنَّصِّ صَارَ التَّعْلِيلُ لِتَعْدِيَتِهِ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ مُبْطِلًا لَهُ أَيْ لِلِاخْتِصَاصِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ. وَذَلِكَ أَيْ التَّعْلِيلُ الْمُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ حُكْمِ النَّصِّ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ أَيْ التَّعْلِيلَ أَوْ الْقِيَاسَ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ لِدَفْعِ حُكْمِهِ بِوَجْهٍ وَأَمَّا الثَّانِي أَيْ اشْتِرَاطُ الشَّرْطِ الثَّانِي، وَهُوَ كَوْنُهُ غَيْرَ مَعْدُولٍ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ فَلِأَنَّ حَاجَتَنَا إلَى إثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَرُدُّ هَذَا الْحُكْمَ وَيَقْتَضِي عَدَمَهُ فَلَا يَسْتَقِيمُ إثْبَاتُهُ بِهِ كَالنَّصِّ إذَا وَرَدَ نَافِيًا لِحُكْمٍ لَا يَسْتَقِيمُ إثْبَاتُهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ نَافِيًا وَمُثْبِتًا لِشَيْءٍ وَاحِدٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ الْمُحَقِّقِينَ ذَكَرَ فِي تَصْنِيفٍ لَهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّهُ اشْتَهَرَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمَعْدُولَ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَلَكِنَّهُ إلَى تَفْصِيلٍ فَنَقُولُ: الْخَارِجُ مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: مَا اُسْتُثْنِيَ وَخُصِّصَ عَنْ قَاعِدَةٍ وَلَمْ يُعْقَلْ فِيهِ مَعْنَى التَّخْصِيصِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ كَتَخْصِيصِ أَبِي بُرْدَةَ بِجَوَازِ تَضْحِيَةِ الْعَتَاقِ وَتَخْصِيصِ خُزَيْمَةَ بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ وَحْدَهُ. وَثَانِيهَا: مَا شُرِعَ ابْتِدَاءً وَلَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ فَلَا يُقَاسُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ لِتَعَذُّرِ الْعِلَّةِ، وَتَسْمِيَتُهُ مَعْدُولًا عَنْ الْقِيَاسِ وَخَارِجًا عَنْهُ تَجَوُّزٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ عُمُومُ قِيَاسٍ، وَلَا اُسْتُثْنِيَ حَتَّى يُسَمَّى خَارِجًا عَنْ الْقِيَاسِ بَعْدَ دُخُولِهِ فِيهِ بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ مُنْقَاسًا لِعَدَمِ تَعَقُّلِ عِلَّتِهِ وَمِثَالُهُ أَعْدَادُ الرَّكَعَاتِ وَنُصُبُ الزَّكَاةِ، وَمَقَادِيرُ الْحُدُودِ

وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّ الْقِيَاسَ مُحَاذَاةٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَلَا يَنْفَعِلُ إلَّا فِي مَحَلِّهِ، وَهُوَ الْفَرْعُ وَالْأَصْلُ مَعًا، وَإِنَّمَا التَّعْلِيلُ لِإِقَامَةِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ خِلَافٌ، وَأَمَّا الرَّابِعُ فَلِمَا قُلْنَا: إنَّ الْقِيَاسَ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ حُكْمُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْكَفَّارَاتِ، وَجَمِيعُ التَّحَكُّمَاتِ الْمُبْتَدَأَةِ الَّتِي لَا يَعْقِلُ فِيهَا مَعْنًى وَثَالِثُهَا الْقَوَاعِدُ الْمُبْتَدَأَةُ الْعَدِيمَةُ النَّظِيرُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا مَعَ أَنَّهَا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ لَهَا نَظِيرٌ خَارِجُ مَا تَنَاوَلَهُ النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ، وَتَسْمِيَتُهُ خَارِجًا عَنْ الْقِيَاسِ تَجَوُّزٌ أَيْضًا، وَذَلِكَ كَرُخْصِ السَّفَرِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَرُخْصَةِ الْمُضْطَرِّ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ إنَّمَا جُوِّزَ لِعُسْرِ النَّزْعِ وَمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى اسْتِصْحَابِهِ وَلَكِنْ لَا يَقِيسُ عَلَيْهِ الْعِمَامَةَ وَالْقُفَّازَيْنِ وَمَا لَا يَسْتُرُ جَمِيعَ الْقَدَمِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُسَاوِي الْخُفَّ فِي الْحَاجَةِ وَعُسْرِ النَّزْعِ وَعُمُومِ الْوُقُوعِ وَكَذَلِكَ رُخْصَةُ السَّفَرِ لَا يُشَكُّ فِي ثُبُوتِهَا بِالْمَشَقَّةِ، وَلَكِنْ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا مَشَقَّةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ غَيْرَهَا لَا يُشَارِكُهَا فِي جُمْلَةِ مَعَانِيهَا وَمَصَالِحِهَا، فَإِنَّ الْمَرَضَ لَا يُحْوِجُ إلَى قَصْرِ الذَّاتِ، وَإِنَّمَا يُحْوِجُ إلَى قَصْرِ الْحِلِّ بِالرَّدِّ مِنْ الْقِيَامِ إلَى الْقُعُودِ، وَمِنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إلَى الْإِيمَاءِ، وَكَذَا إبَاحَةُ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ لِلْحَاجَةِ بِلَا شَكٍّ وَلَكِنْ لَا يُقَاسُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ لَا يَجْرِي فِيهَا الْقِيَاسُ بِالِاتِّفَاقِ وَرَابِعُهَا مَا اُسْتُثْنِيَ عَنْ قَاعِدَةٍ سَابِقَةٍ تَطَرَّقَ إلَى اسْتِثْنَائِهِ مَعْنَى فَيَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ كُلُّ مَسْأَلَةٍ دَارَتْ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَبْقَى وَشَارَكَتْ الْمُسْتَثْنَى فِي عِلَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ عِنْدَ عَامَّةِ الْأُصُولِيِّينَ خِلَافًا لِبَعْضِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا سَيَأْتِيك بَيَانُهُ فِي آخِرِ هَذَا الْفَصْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْعُدُولِ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ هَا هُنَا أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ أَصْلًا، وَيُخَالِفُ الْقِيَاسَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مُوَافِقًا لَهُ مِنْ وَجْهٍ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الثَّالِثُ) أَيْ اشْتِرَاطُ الشَّرْطِ الثَّالِثِ فَلِأَنَّ الْقِيَاسَ أَيْ الْمُقَايَسَةَ مُحَاذَاةٌ أَيْ مُسَاوَاةٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَلَا يَنْفَعِلُ إلَّا فِي مَحَلِّهِ أَيْ مَحَلِّ الْقِيَاسِ يَعْنِي لَا يَثْبُتُ وُجُودُهُ إلَّا فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لَهُ؛ إذْ مَحَلُّ الِانْفِعَالِ شَرْطٌ فِي كُلِّ فِعْلٍ كَالْحَيَاةِ شَرْطٌ لِيَصِيرَ الصَّدْمُ ضَرْبًا، وَالْقَطْعُ قَتْلًا، وَالْمُحَازَاةُ لَا تُتَصَوَّرُ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَلَا فِي شَيْئَيْنِ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا نَظِيرًا لِلْآخَرِ، فَلَوْ لَمْ يَتَعَدَّ الْحُكْمُ إلَى فَرْعٍ بِالتَّعْلِيلِ كَانَ الْمَحَلُّ شَيْئًا وَاحِدًا فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْمُقَايَسَةُ. وَكَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْفَرْعُ نَظِيرًا لِلْأَصْلِ، لِاسْتِحَالَةِ تَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ؛ فَلِذَلِكَ شَرَطْنَا التَّعَدِّيَ مِنْ الْأَصْلِ إلَى فَرْعٍ هُوَ نَظِيرُهُ، وَإِنَّمَا التَّعْلِيلُ لِإِقَامَةِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ أَيْ لِإِثْبَاتِهِ يَعْنِي إنَّمَا شَرَطْنَا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ شَرْعِيًّا لَا لُغَوِيًّا؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْقِيَاسِ عَلَى أُصُولٍ ثَابِتَةٍ شَرْعًا فَلَا يُعْرَفُ بِالتَّأَمُّلِ فِيهَا إلَّا مَا كَانَ ثَابِتًا شَرْعًا فَإِنَّ الطِّبَّ أَوْ اللُّغَةَ لَا يُعْرَفُ بِالتَّأَمُّلِ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ وَأَمَّا دَلِيلُ اشْتِرَاطِ تَعَدِّي الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ وَخُلُوِّ الْفَرْعِ عَنْ النَّصِّ فَقَدْ دَخَلَ فِيمَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّ الْمُحَاذَاةَ لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ تَغْيِيرِ الْحُكْمِ كَذَا إذَا كَانَ فِي الْفَرْعِ نَصٌّ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمٍ بِالْقِيَاسِ فِي الْفَرْعِ عَلَى خِلَافِهِ وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ خِلَافٌ يَعْنِي فِي بَعْضِ مَا تَضَمَّنَهُ الشَّرْطُ الثَّالِثُ مِنْ الْقُيُودِ خِلَافٌ كَمَا سَيَقْرَعُ سَمْعَك بَيَانُهُ عَنْ قَرِيبٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الشَّرْطُ الرَّابِعُ) أَيْ اشْتِرَاطُهُ فَلِمَا قُلْنَا أَيْ فِي دَلِيلِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ: إنَّ الْقِيَاسَ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ عَلَى وَجْهٍ يَدْفَعُ حُكْمَ النَّصِّ وَيُغَيِّرُهُ فَلَوْ لَمْ يَبْقَ حُكْمُ النَّصِّ بَعْدَ التَّعْلِيلِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ كَانَ هَذَا قِيَاسًا مُغَيِّرًا لِحُكْمِ النَّصِّ فَيَكُونُ بَاطِلًا (فَإِنْ قِيلَ) : تَغْيِيرُ حُكْمِ الْأَصْلِ مِنْ لَوَازِمِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ حُكْمَ النَّصِّ بِالتَّعْلِيلِ مِنْ الْخُصُوصِ إلَى الْعُمُومِ، وَالْعُمُومُ غَيْرُ الْخُصُوصِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَنَّى يَسْتَقِيمُ أَنْ يُجْعَلَ بَقَاؤُهُ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنْ شَرَائِطِ الْقِيَاسِ، وَفِيهِ سَدُّ بَابِ الْقِيَاسِ

مِثَالُ الْأَوَّلِ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - شَرَطَ الْعَدَدَ فِي عَامَّةِ الشَّهَادَاتِ، وَثَبَتَ بِالنَّصِّ قَبُولُ شَهَادَةِ خُزَيْمَةَ وَحْدَهُ لَكِنَّهُ ثَبَتَ كَرَامَةً لَهُ فَلَمْ يَصِحَّ إبْطَالُهُ بِالتَّعْلِيلِ وَحَلَّ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تِسْعُ نِسْوَةٍ إكْرَامًا لَهُ فَلَمْ يَصِحَّ تَعْلِيلُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQقُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْ التَّغَيُّرِ أَنْ يَتَغَيَّرَ بِالتَّعْلِيلِ مَا كَانَ مَفْهُومًا فِيهِ لُغَةً قَبْلَهُ مِثْلَ اشْتِرَاطِ التَّمْلِيكِ فِي طَعَامِ الْكَفَّارَةِ بِالرَّأْيِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ تَغْيِيرُ النَّصِّ الْوَارِدِ فِيهِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] إذْ الْإِطْعَامُ لُغَةً جَعْلُ الْغَيْرِ طَاعِمًا وَيَحْصُلُ الْخُرُوجُ عَنْ عُهْدَتِهِ بِالْإِجَابَةِ بِاشْتِرَاطِ التَّمْلِيكِ بِتَغَيُّرِ هَذَا الْحُكْمِ وَلَا يَحْصُلُ الْخُرُوجُ عَنْ الْعُهْدَةِ إلَّا بِالتَّمْلِيكِ فَأَمَّا تَعْلِيلُ نَصِّ الرِّبَا أَوْ تَعْدِيَةُ حُكْمِهِ إلَى سَائِرِ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ فَلَا يُوجِبُ تَغْيِيرًا فِيهِ إذْ الْحُكْمُ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ بَعْدَ التَّعْلِيلِ بَقِيَ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ قَوْلُهُ: (مِثَالُ الْأَوَّلِ) أَيْ نَظِيرُ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - شَرَطَ الْعَدَدَ فِي عَامَّةِ الشَّهَادَاتِ أَيْ فِي جَمِيعِ الشَّهَادَاتِ الْمُطْلَقَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] ، {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ} [المائدة: 106] {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] وَيَثْبُتُ بِالنَّصِّ قَبُولُ شَهَادَةِ خُزَيْمَةَ وَحْدَهُ وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشْتَرَى نَاقَةً مِنْ أَعْرَابِيٍّ، وَأَوْفَاهُ ثَمَنَهَا ثُمَّ جَحَدَ اسْتِيفَاءً وَجَعَلَ يَقُولُ هَلُمَّ شَهِيدًا فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَنْ يَشْهَدُ لِي فَقَالَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ: أَنَا أَشْهَدُ لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّك أَوْفَيْتَ الْأَعْرَابِيَّ ثَمَنَ النَّاقَةِ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَيْفَ تَشْهَدُ لِي، وَلَمْ تَحْضُرْنَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نُصَدِّقُك فِيمَا تَأْتِينَا بِهِ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ أَفَلَا نُصَدِّقُك فِيمَا تُخْبِرُهُ بِهِ مِنْ أَدَاءِ ثَمَنِ النَّاقَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ شَهِدَ لَهُ خُزَيْمَةُ فَحَسْبُهُ» كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُد سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ السِّجِسْتَانِيُّ فِي سُنَنِهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْتَاعَ فَرَسًا مِنْ أَعْرَابِيٍّ فَاسْتَتْبَعَهُ لِيَقْضِيَهُ ثَمَنَ فَرَسِهِ فَأَسْرَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَشْيَ وَأَبْطَأَ الْأَعْرَابِيُّ فَطَفِقَ رِجَالٌ يَعْتَرِضُونَ الْأَعْرَابِيَّ فَيُسَاوِمُونَهُ بِالْفَرَسِ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْتَاعَهُ حَتَّى زَادَ بَعْضُهُمْ الْأَعْرَابِيَّ فِي السَّوْمِ عَلَى ثَمَنِ الْفَرَسِ فَقَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ كُنْت مُبْتَاعًا هَذَا الْفَرَسَ فَابْتَعْهُ وَإِلَّا بِعْتُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حِينَ سَمِعَ مِنْ الْأَعْرَابِيِّ ذَلِكَ أَوَلَيْسَ قَدْ ابْتَعْتُهُ مِنْك فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ لَا وَاَللَّهِ مَا بِعْتُك فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ ابْتَعْتُهُ مِنْك فَطَفِقَ النَّاسُ يَلُوذُونَ بِالنَّبِيِّ وَالْأَعْرَابِيِّ وَهُمَا يَتَرَاجَعَانِ وَطَفِقَ الْأَعْرَابِيُّ يَقُولُ هَلُمَّ شَهِيدًا يَشْهَدُ أَنِّي قَدْ بَايَعْتُك فَمَنْ جَاءَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ وَيْلَكَ إنَّ النَّبِيَّ لَمْ يَكُنْ لِيَقُولَ إلَّا حَقًّا حَتَّى جَاءَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ فَاسْتَمَعَ بِمُرَاجَعَتِهِمَا، وَطَفِقَ الْأَعْرَابِيُّ يَقُولُ: هَلُمَّ شَهِيدًا يَشْهَدُ أَنِّي قَدْ بَايَعْتُك فَقَالَ خُزَيْمَةُ أَنَا أَشْهَدُ أَنَّك قَدْ بَايَعْته فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى خُزَيْمَةَ فَقَالَ بِمَ تَشْهَدُ قَالَ بِتَصْدِيقِك يَا رَسُولَ اللَّهِ فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ» وَقَوْلُهُ لَكِنَّهُ تَثْبُتُ كَرَامَةً لَهُ إشَارَةٌ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ تَخْصِيصِ الْعَامِّ وَبَيْنَ تَخْصِيصِ خُزَيْمَةَ بِقَوْلِ شَهَادَتِهِ وَحْدَهُ حَيْثُ يَجُوزُ تَعْلِيلُ الدَّلِيلِ الْمُخَصِّصِ فِي الْعَامِّ، وَلَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ هَا هُنَا؛ لِأَنَّ تَخْصِيصَ خُزَيْمَةَ تَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ، وَهِيَ تُوجِبُ انْقِطَاعَ شَرِكَةِ الْغَيْرِ فَتَعْلِيلُهُ لِإِلْحَاقِ غَيْرِهِ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ مِثْلَهُ فِي الْفَضِيلَةِ أَوْ فَوْقَهُ أَوْ دُونَهُ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ فَيَكُونُ بَاطِلًا بِخِلَافِ تَخْصِيصِ الْعَامِّ فَإِنَّ تَعْلِيلَهُ لَا يُوجِبُ إبْطَالَ شَيْءٍ لِبَقَاءِ صِيغَةِ الْعُمُومِ وَالدَّلِيلِ الْمُخَصِّصِ عَلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ قَبْلَهُ فَيَجُوزُ حَتَّى لَوْ أَدَّى إلَى إبْطَالِ الْعُمُومِ بِأَنْ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ التَّعْلِيلِ إلَّا وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ لَا يَجُوزُ أَيْضًا عَلَى مَا مَرَّ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ حِينَئِذٍ إبْطَالًا لِلنَّصِّ بِالْقِيَاسِ قَالَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ مَوْلَانَا حَافِظُ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّمَا اُخْتُصَّ بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ

وَكَذَلِكَ ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّ لِلْبَيْعِ مَحَلًّا مَمْلُوكًا مَقْدُورًا، وَجُوِّزَ السَّلَمُ فِي الدَّيْنِ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» وَمَا ثَبَتَ بِهَذَا النَّصِّ إلَّا مُؤَجَّلًا فَلَمْ يَسْتَقِمْ إبْطَالُ الْخُصُوصِ بِالتَّعْلِيلِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَمَّا صَحَّ نِكَاحُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِلَفْظَةِ الْهِبَةِ عَلَى سَبِيلِ الْخُصُوصِ بِقَوْلِهِ: {خَالِصَةً لَكَ} [الأحزاب: 50] بَطَلَ التَّعْلِيلُ، وَقُلْنَا بَلْ الِاخْتِصَاصُ فِي سَلَامَتِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَفِي اخْتِصَاصِهِ بِأَنْ لَا تَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] ، وَقَالَ {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50] وَهَذَا مِمَّا لَا يَعْقِلُ كَرَامَةً فَأَمَّا الِاخْتِصَاصُ بِاللَّفْظِ فَلَا وَقَدْ أَبْطَلْنَا التَّعْلِيلَ مِنْ حَيْثُ ثَبَتَ كَرَامَةً ـــــــــــــــــــــــــــــQلِاخْتِصَاصِهِ مِنْ بَيْنِ الْحَاضِرِينَ بِفَهْمِ جَوَازِ الشَّهَادَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ كَجَوَازِ الشَّهَادَةِ لِغَيْرِهِ بِنَاءً عَلَى الْعِيَانِ فَإِنَّ قَوْلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي إفَادَةِ الْعِلْمِ بِمَنْزِلَةِ الْعِيَانِ وَالشَّرْعُ قَدْ جَعَلَ التَّسَامُعَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ بِمَنْزِلَةِ الْعِيَانِ فَكَانَ قَوْلُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِذَلِكَ أَوْلَى وَحَلَّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تِسْعُ نِسْوَةٍ إكْرَامًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَصَرَ الْحَالَ فِي النِّسَاءِ عَلَى الْأَرْبَعِ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] ثُمَّ خَصَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِبَاحَةِ التِّسْعِ وَلَا شَكَّ أَنَّ إبَاحَةَ النِّكَاحِ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ الْوِلَايَةِ عَلَى حُرَّةٍ مِثْلِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ إلَّا تَزَوُّجَ امْرَأَتَيْنِ لِنُقْصَانِ حَالِهِ فَكَانَ إبَاحَةُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إكْرَامًا لَهُ فَلَمْ يَجُزْ تَعْلِيلُهُ أَيْ تَعْلِيلُ حِلِّ التِّسْعِ الثَّابِتِ لِرَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِتَعْدِيَتِهِ إلَى غَيْرِهِ كَمَا فَعَلَهُ الرَّافِضَةُ حَيْثُ جَوَّزُوا تَزَوُّجَ تِسْعِ نِسْوَةٍ لِغَيْرِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اعْتِبَارًا بِهِ فَإِنَّهُ أُسْوَةٌ لِأُمَّتِهِ فِي مَا شُرِعَ لَهُ وَعَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ، وَفِي تَعْلِيلِهِ وَتَعْدِيَتِهِ إلَى غَيْرِهِ إبْطَالُ الْكَرَامَةِ كَمَا قُلْنَا. 1 - قَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَكَمَا ثَبَتَ اشْتِرَاطُ الْعَدَدِ فِي عَامَّةِ الشَّهَادَاتِ بِالنَّصِّ ثَبَتَ بِالنَّصِّ، وَهُوَ «قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك» أَيْ فِي مِلْكِك، وَنَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الْآبِقِ وَعَنْ بَيْعِ الْخَمْرِ أَنَّ الْبَيْعَ يَقْتَضِي مَحَلًّا مَمْلُوكًا مَقْدُورًا أَيْ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ حِسًّا وَشَرْعًا حَتَّى لَوْ بَاعَ مَا لَا يَمْلِكُهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ وَسَلَّمَهُ أَوْ بَاعَ الْعَبْدَ الْآبِقَ أَوْ الْخَمْرَ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فِي الْأَوَّلِ، وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ حِسًّا وَشَرْعًا فِي الْبَاقِينَ وَجَوَّزَ السَّلَمَ فِي الدَّيْنِ أَيْ جَوَّزَ السَّلَمَ فِيمَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِ وَلَا فِي يَدِهِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ الْأَصْلِ بِالنَّصِّ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» وَمَا ثَبَتَ أَيْ السَّلَمُ بِهَذَا النَّصِّ إلَّا مُؤَجَّلًا؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ هَذَا النَّصِّ يَقْتَضِي اشْتِرَاطَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ، وَاقْتِصَارَ الْجَوَازِ عَلَيْهَا، كَمَا لَوْ قِيلَ: مَنْ دَخَلَ دَارِي فَلْيَدْخُلْ غَاضَّ الْبَصَرِ، وَمَنْ كَلَّمَنِي فَلْيَتَكَلَّمْ بِالصَّوَابِ كَانَ مُوجَبُهُ حُرْمَةَ الدُّخُولِ وَالتَّكَلُّمَ إلَّا بِصِفَةِ غَضِّ الْبَصَرِ وَالصَّوَابِ، فَكَانَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ فَلَا يُسْلِمْ إلَّا فِي كَذَا فَكَانَ الْجَوَازُ مُخْتَصًّا بِالسَّلَمِ حَالَ وُجُودِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ جَمِيعًا كَاخْتِصَاصِ قَبُولِ شَهَادَةِ الْمُفْرَدِ بِخُزَيْمَةَ وَحِلِّ التِّسْعِ بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَلَمْ يَسْتَقِمْ إبْطَالُ الْخُصُوصِ بِالتَّعْلِيلِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَمَّا جَازَ السَّلَمُ مُؤَجَّلًا يَجُوزُ حَالًّا لِكَوْنِهِ أَبْعَدَ مِنْ الْغَرَرِ، وَلِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ عِوَضُ دَيْنٍ وَجَبَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ فَيَثْبُتُ حَالًّا وَمُؤَجَّلًا كَثَمَنِ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ لَا يَصْلُحُ لِإِبْطَالِ مَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ عَدَّيْتُمْ حُكْمَ هَذَا النَّصِّ مِنْ الْكَيْلِ وَالْمَوْزُونِ إلَى الثِّيَابِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ وَغَيْرِهَا بِالتَّعْلِيلِ فَنَحْنُ نُعَدِّيهِ إلَى السَّلَمِ الْحَالِّ أَيْضًا قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ثَبَتَ بِالتَّعْلِيلِ بَلْ بِإِشَارَةِ النَّصِّ أَوْ دَلَالَتِهِ فَإِنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْجَوَازَ بِاعْتِبَارِ حُصُولِ الْعِلْمِ بِالْقَدْرِ فَكُلُّ مَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِمِقْدَارِهِ بِالِاسْتِيضَافِ يَكُونُ فِي مَعْنَاهُ فَيَلْحَقُ بِهِ بِخِلَافِ السَّلَمِ الْحَالِّ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمُؤَجَّلِ عَلَى مَا سَيَأْتِيك بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ فَرَّعَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى هَذَا الْأَصْلِ عَدَمَ انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ فَقَالَ: قَدْ ثَبَتَ اخْتِصَاصُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {خَالِصَةً لَكَ} [الأحزاب: 50] بَعْدَ قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ

وَكَذَلِكَ ثَبَتَ لِلْمَنَافِعِ حُكْمُ التَّقَوُّمِ وَالْمَالِيَّةِ فِي بَابِ عُقُودِ الْإِجَارَةِ بِالنَّصِّ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ الْمَعْقُولِ؛ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ وَالتَّمَوُّلَ يَعْتَمِدُ الْوُجُودَ لِيَصْلُحَ الْإِحْرَازُ وَالتَّقَوُّمُ عِبَارَةٌ عَنْ اعْتِدَالِ الْمَعَانِي وَبَيْنَ الْعَيْنِ وَالْمَنَافِعِ تَفَاوُتٌ فِي نَفْسِ الْوُجُودِ فَلَا يَصِحُّ إبْطَالُ الْخُصُوصِ بِالتَّعْلِيلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQ {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50] وَالْخَالِصَةُ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ كَ وَعْدَ اللَّهِ وَنَظِيرُهَا الْعَافِيَةُ وَالْكَاذِبَةُ وَالْخَاطِئَةُ أَيْ خَلَصَ لَك انْعِقَادُ النِّكَاحِ بِالْهِبَةِ خُلُوصًا فَلَمْ يَجُزْ إبْطَالُ هَذَا الِاخْتِصَاصِ بِالتَّعْلِيلِ لِتَعْدِيَةِ الْحُكْمِ إلَى نِكَاحِ غَيْرِهِ، (وَقُلْنَا) : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْخُلُوصِ مَا قُلْت بَلْ الْمُرَادُ اخْتِصَاصُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِسَلَامَتِهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ أَيْ مَهْرٍ، وَالْمَعْنَى قَدْ خَلَصَ لَك إحْلَالُ الْمَوْهُوبَةِ بِغَيْرِ بَدَلٍ خُلُوصًا. وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب: 50] أَيْ مُهُورَهُنَّ وَسَاقَ الْكَلَامَ إلَى أَنْ قَالَ {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50] فَكَانَ فِيهِ بَيَانُ الْمِنَّةِ عَلَيْهِ فِي كِلَا النَّوْعَيْنِ مِنْ النِّكَاحِ بِبَدَلٍ وَبِغَيْرِ بَدَلٍ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ - تَعَالَى - قَالَ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50] يَعْنِي فَرَضْنَا الْمَهْرَ عَلَيْهِمْ وَأَحْلَلْنَا لَك بِغَيْرِ مَهْرٍ، وَقَالَ {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} [الأحزاب: 50] اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: خَالِصَةً لَك أَيْ خَالِصَةً لَك مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَيْك بِضِيقٍ فِي أَمْرِ النِّكَاحِ، وَالْحَرَجُ إنَّمَا يَلْحَقُ النَّاسَ فِي لُزُومِ الْمَهْرِ فَأَمَّا فِي الْعُدُولِ مِنْ لَفْظٍ إلَى لَفْظٍ فَلَا حَرَجَ خُصُوصًا فِي حَقِّ مَنْ هُوَ أَفْصَحُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ. وَالْمُرَادُ اخْتِصَاصُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَنْ لَا تَحِلَّ مَنْكُوحَتُهُ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ وَالْمَعْنَى خَلَصَ إحْلَالُ مَا أَحْلَلْنَا لَك مِنْ النِّسَاءِ خُلُوصًا حَتَّى لَا يَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعْدَك فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَتَأَذَّى بِأَنْ يَكُونَ الْغَيْرُ شَرِيكًا لَهُ فِي فِرَاشِهِ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ، وَعَلَيْهِ دَلَّ عَلَى قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53] وَقَوْلُهُ جَلَّ جَلَالُهُ {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] وَهَذَا أَيْ الِاخْتِصَاصُ مِنْ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا مِمَّا يُعْقَلُ كَرَامَةً فَأَمَّا الِاخْتِصَاصُ بِاللَّفْظِ فَلَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِعَارَةَ لَا تَخْتَصُّ بِأَحَدٍ بَلْ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِي الِاسْتِعَارَةِ وَوُجُوهِ الْكَلَامِ سَوَاءٌ، وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَفِي اخْتِصَاصِهِ بِمَعْنَى أَوْ وَلَفْظَةُ فِي أَوْ لَفْظَةُ اخْتِصَاصِهِ فِي قَوْلِهِ وَفِي اخْتِصَاصِهِ زَائِدَةٌ، وَلَوْ قِيلَ وَاخْتِصَاصُهُ بِأَنْ لَا يَحِلَّ أَوْ قِيلَ: وَفِي أَنْ لَا يَحِلَّ أَحَدٌ بَعْدَهُ لَكَانَ أَحْسَنَ قَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ ثَبَتَ لِلْمَنَافِعِ) أَيْ وَكَمَا ثَبَتَ جَوَازُ السَّلَمِ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ مُخْتَصًّا بِهِ ثَبَتَ لِلْمَنَافِعِ الْمَعْدُومَةِ حُكْمُ التَّقَوُّمِ وَالْمَالِيَّةِ فِي بَابِ عُقُودِ الْإِجَارَةِ أَيْ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِهَا صَحِيحِهَا وَفَاسِدِهَا بِالنَّصِّ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 25] فِي حَقِّ الْأَظْآرِ وقَوْله تَعَالَى إخْبَارًا {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] . وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَعْطُوا الْأَجِيرَ حَقَّهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ» وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ» الْحَدِيثَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ الْمَعْقُولِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَحَلَّ الْبَيْعِ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مَمْلُوكٌ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ وَالتَّقَوُّمِ إنَّمَا يَعْتَمِدُ الْوُجُودَ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالْإِحْرَازِ، وَأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ فِي الْمَوْجُودِ دُونَ الْمَعْدُومِ، وَالْمَنَافِعُ لَيْسَتْ بِمَوْجُودَةٍ فَضْلًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مُحْرَزَةً وَبَعْدَ مَا وُجِدَتْ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ التَّقَوُّمِ لَهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ عِبَارَةٌ عَنْ اعْتِدَالِ الْمَعَانِي يُقَالُ: قِيمَةُ هَذَا الثَّوْبِ كَذَا مِنْ الدَّرَاهِمِ أَيْ يُعَادِلُ هَذَا الثَّوْبُ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الدَّرَاهِمِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَهُوَ الْمَالِيَّةُ وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمُسَاوَاةِ فِي نَفْسِ الْوُجُودِ لِيُمْكِنَ بَعْدَهَا إثْبَاتُ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمَعْنَى، وَبَيْنَ الْعَيْنِ وَالْمَنَافِعِ تَفَاوُتٌ فِي نَفْسِ الْوُجُودِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ جَوْهَرٌ يَبْقَى وَيَقُومُ بِهِ الْعَرْضُ، وَالْمَنْفَعَةُ عَرَضٌ لَا يَبْقَى وَيَقُومُ بِالْجَوْهَرِ وَبَيْنَ مَا يَبْقَى وَيَقُومُ بِهِ غَيْرُهُ وَبَيْنَ مَا لَا يَبْقَى وَيَقُومُ بِغَيْرِهِ تَفَاوُتٌ

وَمِثَالُ الثَّانِي مِنْ الشُّرُوطِ أَنَّ أَكْلَ النَّاسِي مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ، وَهُوَ فَوَاتُ الْقِيَاسِ، وَهُوَ فَوَاتُ الْقُرْبَةُ بِمَا يُضَادُّ رُكْنَهَا هُوَ الْقِيَاسُ الْمَحْضُ، وَثَبَتَ حُكْمُ النِّسْيَانِ بِالنَّصِّ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ لَا مَخْصُوصًا مِنْ النَّصِّ فَلَمْ يَصِحَّ التَّعْلِيلُ لِلْقِيَاسِ وَهُوَ مَعْدُولٌ عَنْهُ فَيَصِيرُ التَّعْلِيلُ حِينَئِذٍ لِضِدِّ مَا وُضِعَ لَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَاحِشٌ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْمُعَادَلَةِ بَيْنَهُمَا مَعْنَى كَمَا لَا يُمْكِنُ صُورَةً إلَّا أَنَّهُ تَثْبُتُ تَقَوُّمُهَا بِالنَّصِّ فِي بَابِ الْعُقُودِ غَيْرِ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَيَكُونُ مُخْتَصًّا بِهِ كَاخْتِصَاصِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ بِخُزَيْمَةَ وَجَوَازِ السَّلَمِ فِي الْمُؤَجَّلِ فَلَا يَصِحُّ إبْطَالُ هَذَا الْخُصُوصِ بِالتَّعْلِيلِ وَالتَّعْدِيَةِ إلَى الْإِتْلَافِ وَالْغَصْبِ لِمَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ ثُمَّ إيرَادُ هَذَا الْمِثَالِ. وَإِنْ كَانَ أَلْيَقَ بِالشَّرْطِ الثَّانِي لِكَوْنِهِ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ إلَّا أَنَّ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ لِمَا كَانَ تَأْخِيرًا وَارْتِبَاطًا جَازَ إيرَادُهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فَإِنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى مَخْصُوصٌ بِحُكْمِهِ عَنْ قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ بِنَصٍّ آخَرَ يُخَالِفُهَا؛ فَلِذَلِكَ أَوْرَدَهُ هَا هُنَا. قَوْلُهُ: (وَمِثَالُ الثَّانِي مِنْ الشُّرُوطِ) وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ الْأَصْلُ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ أَنَّ أَكْلَ النَّاسِي أَيْ حُكْمَ أَكْلِ النَّاسِي لِلصَّوْمِ وَهُوَ بَقَاءُ الصَّوْمِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْأَكْلِ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ يُوجِبُ أَنْ يَفْسُدَ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَبْقَى مَعَ مَا يُضَادُّهُ، وَالْأَكْلُ يُضَادُّ الصَّوْمَ؛ لِأَنَّهُ تَرْكٌ لِلْكَفِّ الْوَاجِبِ فَوَجَبَ أَنْ يَفْسُدَ صَوْمُهُ، وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ لَا يُعْدِمَ الْفِعْلَ الْمَوْجُودَ وَلَا يُوجِدَ الْفِعْلَ الْمَعْدُومَ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ نَاسِيًا يَضْمَنُ كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ ذَاكِرًا، وَلَوْ تَرَكَ رُكْنًا مِنْ الصَّلَاةِ نَاسِيًا يُفْسِدُ صَلَاتَهُ كَمَا لَوْ تَرَكَهُ ذَاكِرًا فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلنِّسْيَانِ فِي إعْدَامِ الْمَوْجُودِ وَإِيجَادِ الْمَعْدُومِ فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ أَوْ الْحَجَّ أَوْ الزَّكَاةَ نَاسِيًا لَا يُجْعَلُ مُؤَدِّيًا بِحَالٍ إلَّا أَنَّ حُكْمَ النِّسْيَانِ، وَهُوَ كَوْنُهُ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فِي الْإِفْسَادِ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَهُوَ «قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِذَلِكَ الْأَعْرَابِيِّ تِمَّ عَلَى صَوْمِك فَإِنَّمَا أَطْعَمَك اللَّهُ وَسَقَاك» مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ لَا مَخْصُوصًا مِنْ النَّصِّ. زَعَمَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ قَوْله تَعَالَى {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] يَقْتَضِي بِعُمُومِهِ أَنْ يَفْسُدَ صَوْمُ النَّاسِي؛ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ الْمَأْمُورَ بِهِ فَاتَ عَنْهُ بِالنِّسْيَانِ وَكَذَا عُمُومُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ» يَقْتَضِي ذَلِكَ إلَّا أَنَّ النَّاسِيَ خُصَّ مِنْ هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَالْمَخْصُوصُ مِنْ النَّصِّ يَقْبَلُ التَّعْلِيلَ فَيُعَلَّلُ بِعَدَمِ الْقَصْدِ، وَيَلْحَقُ بِهِ الْمُخْطِئُ وَالْمُكْرَهُ وَالنَّائِمُ الَّذِي صُبَّ الْمَاءُ فِي حَلْقِهِ فَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ التَّخْصِيصِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا كَانَ دَاخِلًا فِي الْعُمُومِ ثُمَّ يَخْرُجُ بِالْمُخَصَّصِ فِي تَعْلِيلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِقَوْلِهِ فَإِنَّ اللَّهَ أَطْعَمَك وَسَقَاك إشَارَةٌ إلَى أَنَّ النَّاسِيَ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ غَيْرُ مُضَافٍ إلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ هُوَ تَارِكًا لِلْكَفِّ بِالْأَكْلِ بَلْ هُوَ كَانَ كَمَا كَانَ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا تَخْصِيصًا بَلْ هُوَ حُكْمٌ ثَابِتٌ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ كَمَا قُلْنَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لَا مَخْصُوصًا مِنْ النَّصِّ رَدًّا لِمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الشَّرْعَ حَكَمَ بِبَقَاءِ صَوْمِ النَّاسِي كَرَامَةً لَهُ مَعَ فَوَاتِ رُكْنِهِ فَكَانَ النَّاسِي مَخْصُوصًا بِهَذَا الْحُكْمِ كَخُزَيْمَةَ بِقَبُولِ الشَّهَادَةِ فَلَمْ يَجُزْ إلْحَاقُ غَيْرِهِ بِهِ فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ التَّخْصِيصِ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ؛ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ إلْحَاقُ الْغَيْرِ بِهِ قِيَاسًا وَلَا دَلَالَةً وَقَدْ أُلْحِقَ غَيْرُ الْأَعْرَابِيِّ بِهِ وَأُلْحِقَ الْجِمَاعُ نَاسِيًا بِالْأَكْلِ بِالِاتِّفَاقِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَخْصِيصٍ بَلْ هُوَ ثَابِتٌ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ التَّعْلِيلُ أَيْ تَعْلِيلُ ذَلِكَ النَّصِّ أَوْ الْحُكْمِ لِيُقَاسَ عَلَيْهِ، وَالْحَالُ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ فَيَصِيرُ التَّعْلِيلُ بِالنَّصْبِ أَيْ يَصِيرُ التَّعْلِيلُ حِينَئِذٍ لِضِدِّ مَا وُضِعَ لَهُ أَيْ وُضِعَ الْحُكْمُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا وُضِعَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ لِيَقْتَصِرَ عَلَى الْمَحَلِّ الَّذِي

وَلَمْ يَثْبُتْ هَذَا الْحُكْمُ فِي مُوَاقَعَةِ النَّاسِي بِالتَّعْلِيلِ بَلْ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي قِيَامِ الرُّكْنِ بِالْكَفِّ عَنْهُمَا أَلَا تَرَى أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ لُغَةً أَنَّ النَّاسِيَ غَيْرُ جَانٍ عَلَى الصَّوْمِ وَلَا عَلَى الطَّعَامِ فَكَانَ الْجِمَاعُ مِثْلَهُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ عَلَى مَا مَرَّ ـــــــــــــــــــــــــــــQثَبَتَ فِيهِ فَلَوْ عُلِّلَ وَعُدِّيَ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ يَكُونُ التَّعْلِيلُ لِضِدِّ مَا وُضِعَ الْحُكْمُ لَهُ؛ إذْ التَّعَدِّي ضِدُّ الِاقْتِصَارِ، أَوْ الضَّمِيرُ فِي وُضِعَ لِلْقِيَاسِ أَيْ يَصِيرُ التَّعْلِيلُ حَالَ كَوْنِهِ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ لِضِدِّ مَا وُضِعَ الْقِيَاسُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْفِطْرِ وَانْتِفَاءَ الصَّوْمِ فِي هَذَا الصُّورَةِ كَمَا قُلْنَا فَالتَّعْلِيلُ لِبَقَاءِ الصَّوْمِ وَتَعْدِيَتِهِ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ يَكُونُ لِضِدِّ مَا وُضِعَ الْقِيَاسُ لَهُ؛ لِأَنَّ انْتِقَاءَ الصَّوْمِ مَعَ بَقَائِهِ ضِدَّانِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ ضِدُّهُ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ بِالنَّصِّ النَّافِي لَهُ فَإِنْ قِيلَ: هَذَا إنَّمَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ هَذَا الْحُكْمُ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ بَقَاءَ صَوْمِ النَّاسِي بِاعْتِبَارِ صَيْرُورَةِ الْأَكْلِ مَعْدُومًا لِعَدَمِ الْقَصْدِ مَعْقُولٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ الْمُخْطِئُ وَالْمُكْرَهُ وَغَيْرُهُمَا. قُلْنَا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِعَدَمِ الْقَصْدِ فِي إيجَادِ الْمَعْدُومِ وَإِعْدَامِ الْمَوْجُودِ كَمَا قُلْنَا فَيَكُونُ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ مَحَلٌّ لِلْقِيَاسِ فَلَا يُمْكِنُ إلْحَاقُ الْمُخْطِئِ وَالْمُكْرَهِ بِهِ لِمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ قَوْلُهُ: (وَلَمْ يَثْبُتْ هَذَا الْحُكْمُ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: إنَّ حُكْمَ هَذَا النَّصِّ قَدْ تَعَدَّى بِالتَّعْلِيلِ إلَى الْجِمَاعِ بِالْإِجْمَاعِ فَلَوْ كَانَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَمَا ثَبَتَ هَذَا الْحُكْمُ فِي غَيْرِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَقَالَ: لَمْ يَثْبُتْ هَذَا الْحُكْمُ وَهُوَ بَقَاءُ الصَّوْمِ فِي مُوَاقَعَةِ النَّاسِي بِالتَّعْلِيلِ بَلْ بِدَلَالَةِ النَّصِّ؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ وَالْجِمَاعَ سَوَاءٌ فِي قِيَامِ الرُّكْنِ وَهُوَ الصَّوْمُ بِالْكَفِّ عَنْهُمَا لِثُبُوتِهِمَا بِخِطَابٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] بَعْدَ قَوْلِهِ {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة: 187] أَيْ أَتِمُّوا الْكَفَّ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ إلَى اللَّيْلِ فَلَمْ يَكُنْ لِلْجِمَاعِ اخْتِصَاصٌ، وَكَانَ النَّصُّ الْوَارِدُ فِي بَعْضِهَا وَارِدًا فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ إذَا ثَبَتَ لَهُ حُكْمٌ يَثْبُتُ لِلْآخَرِ أَيْضًا ضَرُورَةَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا؛ إذْ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ لَاخْتَلَفَا فَيَثْبُتُ عَدَمُ الْمُسَاوَاةِ حَالَةَ الْمُسَاوَاةِ، وَهُوَ فَاسِدٌ. وَلَا يُقَالُ: إنَّ الصَّلَاةَ وَجَبَتْ بِنَصٍّ وَاحِدٍ ثُمَّ التَّفَاوُتُ فِي الْأَرْكَانِ ثَابِتٌ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ كُلُّ رُكْنٍ ثَبَتَ بِنَصٍّ عَلَى حِدَةٍ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] ، {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] فَيَجُوزُ أَنْ يَظْهَرَ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَالْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ ثَبَتَ بِنَصٍّ وَاحِدٍ وَلَمْ يَخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ بِنَصٍّ عَلَى حِدَةٍ وَنَظِيرُهُمَا الِاغْتِسَالُ وَالتَّوَضُّؤُ فَإِنَّ الِاغْتِسَالَ لَمَّا ثَبَتَ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] جُعِلَتْ الْأَعْضَاءُ كُلُّهَا كَعُضْوٍ وَاحِدٍ حَتَّى جَازَ غَسْلُ عُضْوٍ بِبَلَلِ عُضْوٍ آخَرَ وَفِي التَّوَضُّؤِ لَمَّا اخْتَصَّ كُلُّ عُضْوٍ بِأَمْرٍ عَلَى حِدَةٍ جُعِلَ كُلُّ عُضْوٍ مُنْفَرِدًا عَنْ الْآخَرِ حَتَّى لَمْ يَجُزْ غَسْلُ الْيَدِ بِبَلَلِ الْوَجْهِ وَغَسْلُ الرِّجْلِ بِبَلَلِ الْيَدِ ثُمَّ اسْتَوْضَحَ ثُبُوتَهُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ بِقَوْلِهِ: أَلَا تَرَى أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ لُغَةً: أَنَّ النَّاسِيَ غَيْرُ جَانٍ يَعْنِي مَنْ سَمِعَ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَتِمَّ عَلَى صَوْمِك وَمِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ فَقِيهًا كَانَ أَوْ غَيْرَ فَقِيهٍ يَفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ بَقَاءَ الصَّوْمِ وَالْأَمْرَ بِالْإِتْمَامِ بَعْدَ الْأَكْلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ النَّاسِيَ غَيْرُ جَانٍ بِالْأَكْلِ عَلَى الصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ نَاسِيًا لِلصَّوْمِ لَمْ يُتَصَوَّرْ مِنْهُ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ، وَالْقَصْدُ إلَى هَتْكِ حُرْمَتِهِ وَلَا عَلَى الطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْجِنَايَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ ثَابِتٌ فِي الْجِمَاعِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجِنَايَةٍ عَلَى الصَّوْمِ لِلنِّسْيَانِ وَلَا عَلَى الْبُضْعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لَهَا فَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ سِوَى اخْتِلَافِ الِاسْمِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ ثُبُوتِ

وَكَذَلِكَ تَرْكُ التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحِ نَاسِيًا يُجْعَلُ عَفْوًا بِالنَّصِّ مَعْدُولًا عَنْ الْقِيَاسِ فَلَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيلَ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ «الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلْ أَنْتَ وَأَطْعِمْ عِيَالَك» كَانَ الْأَعْرَابِيُّ مَخْصُوصًا بِالنَّصِّ فَلَمْ يَحْتَمِلْ التَّعْلِيلَ فَأَمَّا الْمُسْتَحْسَنَاتُ فَمِنْهَا مَا ثَبَتَ بِقِيَاسٍ خَفِيٍّ لَا مَعْدُولًا، وَأَمَّا الْأَصْلُ إذَا عَارَضَهُ أُصُولٌ فَلَا يُسَمَّى مَعْدُولًا؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ لَا يَقْضِي عَدَدًا مِنْ الْأُصُولِ وَلَكِنَّهُ مِمَّا يَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ عَلَى ـــــــــــــــــــــــــــــQالْحُكْمِ بِالدَّلَالَةِ كَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ يَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ كَالْمُسْتَحَاضَةِ، وَكَانَ الْحُكْمُ فِيهِ ثَابِتًا بِالدَّلَالَةِ لَا بِالْقِيَاسِ فَكَذَا هَا هُنَا عَلَى مَا مَرَّ أَيْ فِي بَابِ الْوُقُوفِ عَلَى أَحْكَامِ النَّظْمِ قَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ تَرْكُ التَّسْمِيَةِ أَيْ وَكَالْأَكْلِ نَسْيًا تَرْكُ التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبْحِ نَاسِيًا جُعِلَ عَفْوًا بِالنَّصِّ، وَهُوَ «قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حِينَ سُئِلَ عَمَّنْ ذَبَحَ فَتَرَكَ التَّسْمِيَةَ نَاسِيًا كُلُوهُ فَإِنَّ تَسْمِيَةَ اللَّهِ فِي فَمِ كُلِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ» وَفِي رِوَايَةٍ «ذِكْرُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ» مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى حِلَّهُ لِعَدَمِ شَرْطِهِ؛ إذْ التَّسْمِيَةُ شَرْطٌ لِلْحِلِّ بِالِاتِّفَاقِ أَمَّا عِنْدَنَا فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَلِأَنَّهُ شَرَطَ الْمِلَّةَ لِتَقُومَ مَقَامَ التَّسْمِيَةِ حَتَّى لَا يَحِلَّ ذَبَائِحُ أَهْلِ الشِّرْكِ لِعَدَمِ الْمِلَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلنِّسْيَانِ فِي إيجَابِ الشَّرْطِ الْمَعْدُومِ كَمَا لَوْ صَلَّى بِغَيْرِ طَهَارَةٍ نَاسِيًا أَوْ تَرَكَ إحْضَارَ الشُّهُودِ فِي النِّكَاحِ نَاسِيًا فَلَمْ يَحْتَمِلْ التَّعْلِيلَ بِأَنْ يُقَالَ: الْمِلَّةُ فِي النَّاسِي قَامَتْ مَقَامَ التَّسْمِيَةِ، وَثَبَتَ بِهِ الْحِلُّ فَيَتَعَدَّى الْحُكْمُ بِهِ إلَى الْعَامِدِ؛ لِأَنَّهُ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ مَعَ أَنَّهُ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ النَّاسِيَ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ قَصْدُ التَّرْكِ وَالْإِعْرَاضِ فَبَقِيَتْ الْحَالَةُ الْأَصْلِيَّةُ مُعْتَبَرَةً لَهُ حُكْمًا، فَأَمَّا الْعَامِدُ فَقَدْ تَعَمَّدَ الْإِعْرَاضَ وَالتَّرْكَ، فَلَا يُمْكِنُ إبْقَاؤُهَا مَعَ تَحَقُّقِ مَا يَرُدُّهَا مِنْهُ كَمَنْ قُدِّمَ إلَيْهِ طَعَامٌ حَلَّ لَهُ أَكْلُهُ بِغَيْرِ إذْنٍ لِدَلَالَةِ الْحَالِ، وَلَوْ قِيلَ لَهُ: لَا تَأْكُلْ لَا يَحِلُّ وَلِأَنَّ حَالَةَ النِّسْيَانِ حَالُ عُذْرٍ وَقِيَامُ الْمِلَّةِ مَقَامَ التَّسْمِيَةِ ضَرْبٌ مِنْ الْخِفَّةِ، وَثُبُوتُ الْخِفَّةِ حَالَةَ الْعُذْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهَا بِلَا عُذْرٍ. وَقَدْ رَوَى الْكَلْبِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي النَّاسِي أَنَّهُ يَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ وَتَسْمِيَةُ مِلَّتِهِ وَإِذَا تَعَمَّدَ لَمْ تَحِلَّ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الْمُسْتَحْسَنَاتُ) جَوَابٌ عَمَّا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إنَّ الْمُسْتَحْسَنَاتِ كُلَّهَا مَعْدُولٌ بِهَا عَنْ الْقِيَاسِ لِمُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ الظَّاهِرِ إيَّاهَا؛ إذْ الِاسْتِحْسَانُ لَا يُذْكَرُ إلَّا فِي مُقَابَلَةِ الْقِيَاسِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالِاسْتِحْسَانِ إلَى غَيْرِهِ لِكَوْنِهِ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ فَقَالَ: مِنْ الْمُسْتَحْسَنَاتِ مَا ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ كَمَا قُلْتُمْ وَمِنْهَا مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ خَفِيٍّ أَيْ بِنَوْعٍ مِنْ الْقِيَاسِ إلَّا أَنَّهُ خَفِيٌّ لَا مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فَيَجُوزُ تَعْلِيلُهُ وَتَعْدِيَتُهُ إلَى غَيْرِهِ قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الْأَصْلُ إذَا عَارَضَهُ أُصُولٌ) يَعْنِي إذَا ثَبَتَ حُكْمٌ بِنَصٍّ، وَفِيهِ مَعْنًى مَعْقُولٌ إلَّا أَنَّهُ يُعَارِضُ ذَلِكَ الْأَصْلَ أُصُولٌ أُخْرَى تُخَالِفُهُ فَلَا يُسَمَّى ذَلِكَ الْأَصْلُ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ أَيْ مُخَالِفًا لَهُ حَتَّى جَازَ تَعْلِيلُهُ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّرْعَ إذَا وَرَدَ بِمَا يُخَالِفُ فِي نَفْسِهِ الْأُصُولَ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ لَهُ مَعْنًى يَتَعَدَّاهُ عِنْدَ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ وَالشَّيْخَانِ وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ إلَيْهِ، وَذَهَبَ عَامَّةُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَعَامَّةُ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْمَعْدُولِ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُمْ لَمْ يُجَوِّزُوا الْقِيَاسَ عَلَيْهِ وَعَنْ الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ مَنَعَ جَوَازَ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ إلَّا إذَا كَانَتْ عِلَّةً مَنْصُوصَةً مِثْلَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَّلَ سُؤْرَ الْهِرَّةِ بِأَنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ عَلَى الْعِلَّةِ تَنْصِيصٌ بِوُجُوبِ الْقِيَاسِ أَوْ كَانَتْ الْأُمَّةُ مُجْمِعَةً عَلَى تَعْلِيلِهِ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ كَالنَّصِّ. أَوْ كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ مُوَافِقًا لِبَعْضِ الْأُصُولِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلْبَعْضِ كَخَبَرِ التَّحَالُفِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا

مِثَالِ مَا قُلْنَا فِي عَدَدِ الرُّوَاةِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَعْظَمُ هَذِهِ الْوُجُوهِ فِقْهًا وَأَعُمُّهَا نَفْعًا ـــــــــــــــــــــــــــــQلِقِيَاسِ الْأُصُولِ مِنْ وَجْهٍ لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ مُوَافِقًا لِبَعْضِ الْأُصُولِ، وَهُوَ أَنَّ مَا يَمْلِكُ عَلَى الْغَيْرِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيهِ قِيسَ عَلَيْهِ الْإِجَارَةُ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُخَالِفَ لِلْقِيَاسِ إنْ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ جَازَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا تَمَسَّكَ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ الْقِيَاسَ عَلَيْهِ بِأَنَّ إثْبَاتَ الشَّيْءِ لَا يَصِحُّ مَعَ وُجُودِ مَا يُنَافِيهِ، فَإِذَا كَانَ الْقِيَاسُ مَانِعًا مِمَّا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ لَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ اسْتِعْمَالًا لِلْقِيَاسِ مَعَ مَا يُنَافِيهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ إذَا جَازَ الْقِيَاسُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا الْأَصْلِ وَبَيْنَ سَائِرِ الْأُصُولِ فَيَخْرُجُ حِينَئِذٍ مِنْ كَوْنِهِ مَخْصُوصًا مِنْ الْقِيَاسِ بِخِلَافِ مَا إذَا نَصَّ عَلَى عِلَّتِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ فَرْدٍ وُجِدَتْ فِيهِ تِلْكَ الْعِلَّةُ يَصِيرُ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَيَصِيرُ كَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَنَا بِأَنْ نَقِيسَ عَلَيْهِ كُلَّ مَا شَارَكَهُ فِي الْعِلَّةِ وَكَذَا إذَا حَصَلَ إجْمَاعٌ عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْدُولِ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ قِيَاسٍ يُعَارِضُهُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ عَلَى سَائِرِ الْأُصُولِ، وَالْقِيَاسُ إذَا لَمْ يَنْفَكَّ عَنْ قِيَاسٍ يُعَارِضُهُ يَكُونُ سَاقِطًا؛ لِأَنَّ مِنْ شُرُوطِهِ انْفِكَاكَهُ عَنْ الْمُعَارِضِ فَإِنَّ مُعَارَضَةَ الدَّلِيلِ بِالدَّلِيلِ يُوجِبُ التَّوَقُّفَ وَاحْتَجَّ مَنْ جَوَّزَ الْقِيَاسَ عَلَيْهِ بِأَنَّ مَا يَثْبُتُ بِخِلَافِ الْأُصُولِ أَصْلٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فَجَازَ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْهُ، وَيُقَاسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ كَمَا إذَا كَانَ مُوَافِقًا لِلْأُصُولِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ بَعْدَمَا صَارَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ كَالْقِيَاسِ عَلَى سَائِرِ الْأُصُولِ. غَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ تَعَارُضُ الْقِيَاسَيْنِ أَعْنِي الْقِيَاسَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَالْقِيَاسَ عَلَى سَائِرِ الْأُصُولِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ عَنْ الْقِيَاسِ بَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ التَّرْجِيحُ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَجَّحَ الْقِيَاسُ عَلَى سَائِرِ الْأُصُولِ عَلَى الْقِيَاسِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ إنْ كَانَ ثُبُوتُهُ بِدَلِيلٍ غَيْرِ مَقْطُوعٍ بِهِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ عَلَى مَا يُفِيدُ الْعِلْمَ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى مَا يُفِيدُ الظَّنَّ فَأَمَّا إذَا كَانَ دَلِيلُهُ مَقْطُوعًا بِهِ فَلَا تَرْجِيحَ بِمَا قُلْنَا؛ لِأَنَّ الْكُلَّ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ يُفِيدُ الْعِلْمَ فَيَطْلُبُ التَّرْجِيحَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَتَبَيَّنَ أَنَّ إثْبَاتَ الْحُكْمِ بِهَذَا الْقِيَاسِ لَمْ يَكُنْ إثْبَاتًا بِمَا يُنَافِيهِ الْقِيَاسُ وَيَمْنَعُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِثَابِتٍ بِالْقِيَاسِ الَّذِي يُنَافِيهِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ عَلَى سَائِرِ الْأُصُولِ بَلْ الْقِيَاسُ الَّذِي يُوَافِقُهُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ عَلَى الْأَصْلِ الثَّابِتِ بِخِلَافِ ذَلِكَ الْقِيَاسِ كَمَا لَوْ كَانَ فِي الْحَادِثَةِ نَصَّانِ أَحَدُهُمَا نَافٍ، وَالْآخَرُ مُثْبِتٌ لَا يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِأَحَدِهِمَا إذَا ظَهَرَ لَهُ نَوْعُ رُجْحَانٍ بِاقْتِضَاءِ الْآخَرِ خِلَافَهُ وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ إضَافَةُ النَّفْيِ إلَى النَّصِّ الْمُثْبَتِ أَوْ عَكْسَهُ فَكَذَا هَا هُنَا يُوَضِّحُهُ أَنَّ الثَّابِتَ بِالِاسْتِحْسَانِ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ الظَّاهِرِ ثُمَّ جَازَ تَعْدِيَتُهُ إلَى غَيْرِهِ إذَا كَانَ مَعْنَاهُ مَعْقُولًا كَمَا بَيَّنَّا وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ الظَّاهِرُ يَقْتَضِي خِلَافَهُ وَكَذَا الدَّلِيلُ الْمُخَصِّصُ لِلْعَامِّ إذَا عُقِلَ مَعْنَاهُ يَجُوزُ تَعْلِيلُهُ وَتَخْصِيصُ عُمُومِ الْكِتَابِ بِهِ فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْ الْعُمُومُ مِنْ قِيَاسٍ يَخُصُّهُ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ الْقِيَاسُ عَلَى الْعُمُومِ مَانِعًا مِنْ قِيَاسٍ يُخَالِفُهُ؛ لِأَنَّ الْعُمُومَ أَقْوَى مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى الْعُمُومِ. وَذَكَرَ فِي الْمَحْصُولِ إذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ قِيَاسِ الْأُصُولِ قَالَ قَوْمٌ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ: يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ مُطْلَقًا ثُمَّ قَالَ: وَالْحَقُّ أَنَّ مَا وَرَدَ بِخِلَافِ قِيَاسِ الْأُصُولِ إنْ كَانَ دَلِيلًا مَقْطُوعًا بِهِ كَانَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ فَكَانَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ كَالْقِيَاسِ عَلَى غَيْرِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُرَجِّحَ الْمُجْتَهِدُ أَحَدَ الْقِيَاسَيْنِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْطُوعٍ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِلَّتُهُ مَنْصُوصَةً فَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْقِيَاسَ عَلَى الْأُصُولِ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ عَلَى مَا طَرِيقُ حُكْمِهِ مَعْلُومٌ أَقْوَى مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى مَا طَرِيقُهُ

وَهَذَا الشَّرْطُ وَاحِدٌ تَسْمِيَةً وَجُمْلَةً تَفْصِيلًا مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الْمَعْلُولُ شَرْعِيًّا لَا لُغَوِيًّا ـــــــــــــــــــــــــــــQغَيْرُ مَعْلُومٍ وَإِنْ كَانَتْ مَنْصُوصَةً فَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ يَسْتَوِي الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ عَلَى الْأُصُولِ طَرِيقُ حُكْمِهِ مَعْلُومٌ وَإِنْ كَانَ طَرِيقُ عِلَّتِهِ غَيْرَ مَعْلُومٍ وَهَذَا الْقِيَاسُ طَرِيقُ حُكْمِهِ مَظْنُونٌ وَطَرِيقُ عِلَّتِهِ مَعْلُومٌ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ اخْتَصَّ بِحَظٍّ مِنْ الْقُوَّةِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ لَا يَقْتَضِي عَدًّا مِنْ الْأُصُولِ أَيْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ التَّعْلِيلِ أَنْ يَكُونَ لِلْفَرْعِ أُصُولٌ حَتَّى تُعَلَّلَ وَيُعَدَّى حُكْمُهَا إلَى الْفَرْعِ وَلَكِنَّهُ أَيْ الْعَدَدَ مِنْ الْأُصُولِ مِمَّا يَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ أَيْ يُمْكِنُ تَرْجِيحُ الْقِيَاسِ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْ الْأُصُولِ عَلَى الْمُسْتَنْبَطِ أَصْلٌ وَاحِدٌ عَلَى مِثَالِ مَا قُلْنَا أَيْ فِي آخِرِ بَابِ الْمُعَارَضَةِ فِي عَدَدِ الرُّوَاةِ فَإِنَّ الْأَصْلَ بِمَنْزِلَةِ الرَّاوِي، وَالْوَصْفُ الَّذِي بِهِ يُعَلَّلُ بِمَنْزِلَةِ الْحَدِيثِ وَفِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ قَدْ يَقَعُ التَّرْجِيحُ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ، وَلَكِنْ لَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ رِوَايَةُ الْوَاحِدَةِ مُعْتَبَرَةً فَكَذَا النَّصُّ إذَا كَانَ مَعْقُولَ الْمَعْنَى يَجُوزُ تَعْلِيلُهُ بِذَلِكَ الْمَعْنَى لِيَتَعَدَّى الْحُكْمَ بِهِ إلَى غَيْرِهِ وَإِنْ عَارَضَهُ أُصُولٌ أُخْرَى. قَوْلُهُ: (مِنْ ذَلِكَ) أَيْ مِمَّا تَضَمَّنَهُ هَذَا الشَّرْطُ كَوْنُ الْحُكْمِ الْمَعْلُولِ شَرْعِيًّا أَيْ الْحُكْمُ الَّذِي يُعَلَّلُ الْأَصْلُ لِتَعْدِيَتِهِ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ شَرْعِيًّا لَا لُغَوِيًّا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ ابْنُ شُرَيْحٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيِّ: لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ شَرْعِيًّا بَلْ يَجْرِي الْقِيَاسُ فِي الْأَسَامِي وَاللُّغَاتِ وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ قَالُوا: إنَّا رَأَيْنَا أَنَّ عَصِيرَ الْعِنَبِ لَا يُسَمَّى خَمْرًا قَبْلَ الشِّدَّةِ الْمُطَرِّبَةِ فَإِذَا حَصَلَتْ تِلْكَ تُسَمَّى خَمْرًا وَإِذَا زَالَتْ مَرَّةً أُخْرَى زَالَ الِاسْمُ، وَالدَّوَرَانُ يُفِيدُ ظَنَّ الْعِلِّيَّةِ فَيَحْصُلُ ظَنُّ أَنَّ الْعِلَّةَ لِذَلِكَ الِاسْمِ هِيَ الشِّدَّةُ ثُمَّ رَأَيْنَا الشِّدَّةَ حَاصِلَةً فِي النَّبِيذِ وَيَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ عِلَّةِ الِاسْمِ ظَنُّ حُصُولِ الِاسْمِ وَإِذَا حَصَلَ ظَنُّ أَنَّهُ مُسَمًّى بِالْخَمْرِ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْخَمْرَ حَرَامٌ حَصَلَ ظَنُّ أَنَّ النَّبِيذَ حَرَامٌ وَالظَّنُّ حُجَّةٌ فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِحُرْمَةِ النَّبِيذِ وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُمْ جَوَّزُوا الْقِيَاسَ فِي اللُّغَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ كُتُبَ النَّحْوِ وَالتَّصْرِيفِ وَالِاشْتِقَاقِ مَمْلُوءَةٌ مِنْ الْأَقْيِسَةِ وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْأَخْذِ بِتِلْكَ الْأَقْيِسَةِ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ وَالْأَخْبَارِ إلَّا بِتِلْكَ الْقَوَانِينِ فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا بِالتَّوَاتُرِ وَتَمَسَّكَ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بِأَسْرِهَا تَوْقِيفِيَّةٌ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَثْبُتَ شَيْءٌ مِنْهَا بِالْقِيَاسِ، وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ، وَتَعْلِيلُ الْأَسْمَاءِ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَبَيْنَ شَيْءٍ مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ التَّعْلِيلُ لَمْ يَصِحَّ الْقِيَاسُ أَلْبَتَّةَ قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّ الْعَرَبَ إنْ عَرَّفَتْنَا بِتَوْقِيفِهَا أَنَّا وَضَعْنَا اسْمَ الْخَمْرِ مَثَلًا لِلْمُسْكِرِ الْمُعْتَصَرِ مِنْ الْعِنَبِ خَاصَّةً فَوَضْعُهُ لِغَيْرِهِ تَقَوُّلٌ عَلَيْهِمْ وَاخْتِرَاعٌ فَلَا يَكُونُ لُغَتَهُمْ بَلْ يَكُونُ وَضْعًا مِنْ جِهَتِنَا وَإِنْ عَرَّفَتْنَا أَنَّهَا وَضَعَتْهُ لِكُلِّ مَا يُخَامِرُ الْعَقْلَ فَاسْمُ الْخَمْرِ ثَابِتٌ لِلنَّبِيذِ بِتَوْقِيفِهِمْ لَا بِقِيَاسِنَا كَمَا أَنَّهُمْ عَرَّفُونَا أَنَّ كُلَّ مَصْدَرٍ لَهُ فَاعِلٌ، فَإِذَا سَمَّيْنَا فَاعِلَ الضَّرْبِ ضَارِبًا كَانَ ذَلِكَ عَنْ تَوْقِيفٍ لَا عَنْ قِيَاسٍ. وَإِنْ سَكَتُوا عَنْ الْأَمْرَيْنِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْخَمْرُ اسْمَ مَا يُعْتَصَرُ مِنْ الْعِنَبِ خَاصَّةً وَاحْتِمَالُ غَيْرِهِ فَلَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ لُغَتَكُمْ هَذِهِ، وَقَدْ رَأَيْنَاهُمْ يَضَعُونَ الِاسْمَ لِمَعَانِيَ وَيُخَصِّصُونَهَا بِالْمَحَلِّ كَمَا يُسَمُّونَ الْفَرَسَ أَدْهَمَ لِسَوَادِهِ وَكُمَيْتًا لِحُمْرَتِهِ وَلَا يُسَمُّونَ الثَّوْبَ الْمُتَلَوِّنَ بِهِ بِذَلِكَ بَلْ الْآدَمِيَّ الْمُتَلَوِّنَ بِهِ بِذَلِكَ الِاسْمِ؛ لِأَنَّهُمْ وَضَعُوا الْأَدْهَمَ وَالْكُمَيْتَ لَا لِلْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ بَلْ لِفَرَسٍ أَسْوَدَ وَأَحْمَرَ وَكَمَا سَمَّوْا الزُّجَاجَ الَّذِي يَقَرُّ فِيهِ

إنَّ مَنْ عَلَّلَ بِالرَّأْيِ لِاسْتِعْمَالِ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ فِي بَابِ الْعَتَاقِ كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الِاسْتِعَارَةَ مِنْ بَابِ اللُّغَةِ لَا تُنَالُ إلَّا بِالتَّأَمُّلِ فِي مَعَانِي اللُّغَةِ فَكَذَلِكَ جَوَازُ النِّكَاحِ بِأَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ، وَاسْتِعَارَةُ كَلِمَةِ النَّسَبِ لِلتَّحْرِيرِ. وَكَذَا التَّعْلِيلُ بِشَرْطِ التَّمْلِيكِ فِي الطَّعَامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بَاطِلٌ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْإِطْعَامَ اسْمٌ لُغَوِيٌّ، وَكَذَلِكَ الْكِسْوَةُ فَلَا يَكُونُ مَا يُعْقَلُ بِالْكِسْوَةِ حُكْمًا شَرْعِيًّا لِيَصِحَّ تَعْدِيَتُهُ بِالتَّعْلِيلِ إلَى غَيْرِهِ بَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ الْإِطْعَامِ، وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الْمَرْءُ طَاعِمًا ثُمَّ يَصِحَّ التَّمْلِيكُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ، فَأَمَّا الْكِسْوَةُ فَاسْمٌ لِمَا يُلْبَسُ لَا لِمَنَافِعِ اللِّبَاسِ فَبَطَلَ التَّعْلِيلُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَكَذَلِكَ التَّعْلِيلُ لِإِثْبَاتِ اسْمِ الزِّنَا لِلِّوَاطَةِ وَاسْمِ الْخَمْرِ لِسَائِرِ الْأَشْرِبَةِ وَاسْمِ السَّارِقِ لِلنَّبَّاشِ بَاطِلٌ لِمَا بَيَّنَّا ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَائِعَاتُ قَارُورَةً أَخْذًا مِنْ الْقَرَارِ وَلَا يُسَمُّونَ الْكُوزَ وَالْحَوْضَ قَارُورَةً وَإِنْ قَرَّ فِيهِ الْمَاءُ، فَإِذَنْ كُلُّ مَا لَيْسَ عَلَى قِيَاسِ التَّصْرِيفِ الَّذِي عُرِفَ مِنْهُمْ بِالتَّوَقُّفِ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهِ وَوَضْعِهِ بِالْقِيَاسِ فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ اللُّغَةَ وَضْعٌ كُلُّهَا تَوْقِيفٌ لَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِيهَا أَصْلًا (فَإِنْ قِيلَ) : سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْأَسَامِي لُغَةً بِالْقِيَاسِ، وَلَكِنَّا نُثْبِتُ الْأَسْمَاءَ الشَّرْعِيَّةَ بِهِ، فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ لَمَّا وَضَعَتْ أَسْمَاءَ لِمَعَانِي مِثْلَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ لِاخْتِصَاصِهَا بِأَحْكَامٍ شَرْعِيَّةٍ جَازَ قِيَاسُ كُلِّ مَحَلٍّ وُجِدَ فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَتَسْمِيَتُهُ بِذَلِكَ الِاسْمِ وَكُلُّ اسْمٍ بُنِيَ عَلَيْهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَهُوَ اسْمٌ شَرْعِيٌّ لَا لُغَوِيٌّ فَعَلَى هَذَا يَثْبُتُ اسْمُ الْخَمْرِ لِلنَّبِيذِ شَرْعًا ثُمَّ يَحْرُمُ بِالْآيَةِ وَيَثْبُتُ اسْمُ الزِّنَا لِلِّوَاطَةِ شَرْعًا ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحَدُّ بِالنَّصِّ، وَكَذَا النَّبَّاشُ. (قُلْنَا) : الْأَسْمَاءُ الثَّابِتَةُ شَرْعًا تَكُونُ ثَابِتَةً بِطَرِيقٍ مَعْلُولٍ شَرْعًا كَالْأَسْمَاءِ الْمَوْضُوعَةِ لُغَةً تَكُونُ ثَابِتَةً بِطَرِيقٍ يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ ثُمَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِعِلْمِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ بَلْ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ أَهْلِ اللُّغَةِ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي طَرِيقِ مَعْرِفَتِهِ فَكَذَلِكَ هَذَا الِاسْمُ يَشْتَرِكُ فِي مَعْرِفَتِهِ جَمِيعُ مَنْ يَعْرِفُ أَحْكَامَ الشَّرْعِ وَمَا يَكُونُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ وَالرَّأْيِ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا الْقَايِسُ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الِاسْمِ بِالْقِيَاسِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ قَالَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَبَيَّنَ أَيْضًا أَنَّ الدَّوَرَانَ إنَّمَا يُفِيدُ ظَنَّ الْعِلِّيَّةِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْغَلَبَةَ وَهَا هُنَا لَمْ يُوجَدْ الِاحْتِمَالُ لِانْتِفَاءِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي أَصْلًا وَحُصُولُ الْعِلْمِ بِأَنَّ شَيْئًا مِنْ الْمَعَانِي لَمْ يَكُنْ دَاعِيًا لِلْوَاضِعِ إلَى تَسْمِيَتِهِ بِذَلِكَ الِاسْمِ وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ احْتِمَالُ الْعِلِّيَّةِ لَمْ يَكُنْ الدَّوَرَانُ مُفِيدًا ظَنَّ الْعِلِّيَّةِ وَتَبَيَّنَ أَيْضًا أَنَّ الْأَقْيِسَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي اللُّغَةِ ثَابِتَةٌ بِالتَّوْقِيفِ فِي التَّحْقِيقِ قَوْلُهُ: (وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ وَلِاشْتِرَاطِ كَوْنِ الْحُكْمِ شَرْعِيًّا قُلْنَا: إنَّ مَنْ عَلَّلَ أَيْ أَرَادَ أَنْ يُثْبِتَ بِالتَّعْلِيلِ جَوَازَ اسْتِعْمَالِ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ لِلْعِتْقِ بِأَنْ يَقُولَ إنَّمَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الطَّلَاقِ فِي الْعَتَاقِ لِحُصُولِ زَوَالِ الْمِلْكِ فِيهِ بِهِ، وَزَوَالُ الْمِلْكِ فِي الْعِتْقِ مَوْجُودٌ فَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ أَيْضًا، أَوْ نَقُولُ: لَمَّا جَازَتْ اسْتِعَارَةُ أَلْفَاظِ الْعِتْقِ لِلطَّلَاقِ جَازَتْ اسْتِعَارَةُ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ لِلْعِتْقِ أَيْضًا بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَالْجَامِعُ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُزِيلَةً لِلْمِلْكِ كَانَ رَأْيُ التَّعْلِيلِ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الِاسْتِعَارَةَ بَابٌ أَيْ نَوْعٌ مِنْ اللُّغَةِ لَا بَيَانَ إلَّا بِالتَّأَمُّلِ فِي مَعَانِي اللُّغَةِ فَإِنَّ الْأَلْفَاظَ نَوْعَانِ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ الْحَقِيقَةُ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالسَّمَاعِ، وَالْمَجَازُ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالتَّأَمُّلِ فِي مَعَانِي اللُّغَةِ وَالْوُقُوفِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ طَرِيقَ الِاسْتِعَارَةِ فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ غَيْرُ طَرِيقِ التَّعْدِيَةِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ فَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ هَذَا النَّوْعِ بِالتَّعْلِيلِ الَّذِي هُوَ لِتَعْدِيَةِ حُكْمِ الشَّرْعِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الِاشْتِغَالُ فِيهِ بِالتَّعْلِيلِ بَاطِلًا وَكَذَلِكَ أَيْ وَمِثْلُ التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ التَّعْلِيلُ لِجَوَازِ النِّكَاحِ بِأَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ مِثْلَ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَاسْتِعَارَةُ كَلِمَةِ النَّسَبِ لِلتَّحْرِيرِ مِثْلُ قَوْلِهِ لِعَبْدِهِ: هَذَا ابْنِي بَاطِلٌ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا: إنَّ طَرِيقَةَ التَّأَمُّلِ فِيمَا هُوَ طَرِيقُ الِاسْتِعَارَةِ عِنْدَهُمْ دُونَ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ فَلَا يُفِيدُ الِاشْتِغَالُ بِهِ شَيْئًا، وَكَذَلِكَ التَّعْلِيلُ لِشَرْطِ التَّمْلِيكِ فِي الطَّعَامِ أَيْ التَّعْلِيلِ لِإِثْبَاتِ اشْتِرَاطِ التَّمْلِيكِ فِي طَعَامِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَنَحْوِهَا بَاطِلٌ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ إمَّا مَعْرِفَةُ الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنْ الْإِطْعَامِ أَوْ تَعْدِيَةُ حُكْمِ الْكِسْوَةِ إلَيْهِ، وَالْإِطْعَامُ اسْمٌ لُغَوِيٌّ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي مَعْرِفَةِ مَعْنَى الِاسْمِ لُغَةً، وَكَذَلِكَ الْكِسْوَةُ اسْمٌ لُغَوِيٌّ فَلَا يَكُونُ مَا يُعْقَلُ أَيْ يُفْهَمُ بِالْكِسْوَةِ حُكْمًا شَرْعِيًّا لِيَصِحَّ تَعْدِيَتُهُ

وَالثَّانِي مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ التَّعْدِيَةُ فَإِنَّ حُكْمَ التَّعْلِيلِ التَّعْدِيَةُ عِنْدَنَا فَبَطَلَ التَّعْلِيلُ بِدُونِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هُوَ صَحِيحٌ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّعْدِيَةِ حَتَّى جَوَّزَ التَّعْلِيلَ بِالثَّمَنِيَّةِ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ هَذَا لَمَّا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْحُجَجِ وَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْإِيجَابُ مِثْلَ سَائِرِ الْحُجَجِ أَلَا يُرَى أَنَّ دَلَالَةَ كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً لَا تَقْتَضِي تَعْدِيَةً بَلْ يُعْرَفُ ذَلِكَ بِمَعْنًى فِي الْوَصْفِ وَوَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ دَلِيلَ الشَّرْعِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُوجِبَ عِلْمًا أَوْ عَمَلًا ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالتَّعْلِيلِ إلَى غَيْرِهِ بَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَالْإِطْعَامُ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ لَازِمُهُ طَعِمَ، فَحَقِيقَةُ جَعْلِ الْغَيْرِ طَاعِمًا، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالتَّمْكِينِ مِنْ الطَّاعِمِ فَيَخْرُجُ بِهِ عَنْ الْعُهْدَةِ ثُمَّ يَصِحُّ التَّمْلِيكُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لِوُجُودِ مَعْنَى الْمَنْصُوصِ فِيهِ وَزِيَادَةً عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ الْوُقُوفِ عَلَى أَحْكَامِ النَّظْمِ وَأَمَّا الْكِسْوَةُ فِي الْحَقِيقَةِ فَاسْمٌ لِمَا يُلْبَسُ أَيْ لِلْمَلْبُوسِ، وَهُوَ الثَّوْبُ لَا لِمَنَافِعِ اللِّبَاسِ، وَفِعْلُ اللُّبْسِ وَعَيْنُ الْمَلْبُوسِ لَا يَصِيرُ كَفَّارَةً إلَّا بِالتَّمْلِيكِ؛ فَلِذَلِكَ شُرِطَ فِيهَا التَّمْلِيكُ فَبَطَلَ التَّعْلِيلُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يَعْنِي لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: شُرِطَ فِي الْكِسْوَةِ فَيُشْتَرَطُ فِي الْإِطْعَامِ قِيَاسًا وَلَا أَنْ يُقَالَ: حَصَلَ الْخُرُوجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِالْإِبَاحَةِ فِي الْإِطْعَامِ فَيَحْصُلُ بِهَا فِي الْكِسْوَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ اسْمٌ لُغَوِيٌّ لَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي مَعْنَاهُ وَكَذَلِكَ التَّعْلِيلُ لِإِثْبَاتِ اسْمِ الزِّنَا لِلِّوَاطَةِ بِأَنْ يُقَالَ: سُمِّيَ الزِّنَا زِنًا؛ لِأَنَّهُ إيلَاجٌ فِي فَرْجٍ بِطَرِيقِ الْحُرْمَةِ، وَفِي اللِّوَاطَةِ هَذَا الْمَعْنَى فَيَثْبُتُ فِيهَا اسْمُ الزِّنَا فَيَدْخُلُ اللَّائِطُ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] الْآيَةَ وَاسْمُ الْخَمْرِ لِسَائِرِ الْأَشْرِبَةِ يَعْنِي الْمُسْكِرَةَ بِأَنْ يُقَالَ: سُمِّيَ الْخَمْرُ خَمْرًا؛ لِأَنَّهَا تُخَمِّرُ الْعَقْلَ فَيُسَمَّى سَائِرُ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ خَمْرًا لِتَحَقُّقِ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِيهِ قِيَاسًا حَتَّى يَدْخُلَ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا» فَيُحَدُّ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْهَا كَالْخَمْرِ. وَاسْمُ السَّارِقِ لِلنَّبَّاشِ بِأَنْ يُقَالَ: سُمِّيَ السَّارِقُ سَارِقًا؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مَالَ الْغَيْرِ فِي خُفْيَةٍ؛ وَلِهَذَا لَا يُسَمَّى الْغَاصِبُ بِهِ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي النَّبَّاشِ فَيَثْبُتُ لَهُ اسْمُ السَّارِقِ قِيَاسًا لِيَدْخُلَ تَحْتَ عُمُومِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] الْآيَةَ بَاطِلٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ تَعْدِيَةَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَهَذِهِ أَسْمَاءٌ لُغَوِيَّةٌ فَلَا يَجْرِي فِيهَا الْقِيَاسُ. قَوْلُهُ: (وَالثَّانِي مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ) الَّتِي تَضَمَّنَهَا الشَّرْطُ الثَّالِثُ التَّعْدِيَةُ فَإِنَّ حُكْمَ التَّعْلِيلِ التَّعْدِيَةُ عِنْدَنَا أَيْ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ مِنْ الْأَصْلِ إلَى الْفَرْعِ بِحَيْثُ يَبْطُلُ التَّعْلِيلُ دُونَهُ أَيْ دُونَ هَذَا الْحُكْمِ، وَهُوَ التَّعْدِيَةُ يَعْنِي لَيْسَ لِلتَّعْلِيلِ حُكْمٌ سِوَى التَّعْدِيَةِ عِنْدَنَا فَمَتَى خَلَا تَعْلِيلٌ عَنْ التَّعْدِيَةِ كَانَ بَاطِلًا فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّعْلِيلُ وَالْقِيَاسُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَرَادِفَيْنِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ هُوَ صَحِيحٌ أَيْ التَّعْلِيلُ صَحِيحٌ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ التَّعْدِيَةِ، وَحُكْمُهُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي الْمَنْصُوصِ بِالْعِلَّةِ ثُمَّ إنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مُتَعَدِّيَةً يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِهَا فِي الْفَرْعِ وَيَكُونُ قِيَاسًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيَةً بَقِيَ الْحُكْمُ مُقْتَصِرًا عَلَى الْأَصْلِ، وَيَكُونُ تَعْلِيلًا مُسْتَقِيمًا بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ الَّذِي هُوَ عَامٌّ، وَاَلَّذِي هُوَ خَاصٌّ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّعْلِيلُ أَعَمَّ مِنْ الْقِيَاسِ، وَالْقِيَاسُ نَوْعًا مِنْهُ وَحَاصِلُ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ تَعْدِيَةَ الْعِلَّةِ شَرْطُ صِحَّةِ الْقِيَاسِ، وَعَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ الثَّابِتَةِ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ الْقَاصِرَةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ كَتَعْلِيلِ حُرْمَةِ الرِّبَا فِي النَّقْدَيْنِ بِعِلَّةِ الثَّمَنِيَّةِ فَذَهَبَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ، وَعَامَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِثْلُ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ وَمُتَابِعِيهِ إلَى فَسَادِهَا، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِثْلُ الشَّافِعِيِّ وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيِّ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ إلَى صِحَّتِهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَشَايِخِ سَمَرْقَنْدَ مِنْ أَصْحَابِنَا رَئِيسُهُمْ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ مُخْتَارُ صَاحِبِ الْمِيزَانِ تَمَسَّكُوا فِي ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا أَيْ الرَّأْيَ الْمُسْتَنْبَطَ

وَهَذَا لَا يُوجِبُ عِلْمًا بِلَا خِلَافٍ وَلَا يُوجِبُ عَمَلًا فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ، وَالنَّصُّ فَوْقَ التَّعْلِيلِ فَلَا يَصِحُّ قَطْعُهُ عَنْهُ بِهِ فَلَمْ يَبْقَ لِلتَّعْلِيلِ حُكْمٌ إلَّا التَّعْدِيَةُ إلَى الْفُرُوعِ، فَإِنْ قَالَ: إنَّ حُكْمَ النَّصِّ ثَابِتٌ بِالْعِلَّةِ كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ لَا يَصْلُحُ لِتَغْيِيرِ حُكْمِ النَّصِّ، فَكَيْفَ لِإِبْطَالِهِ، فَإِنْ قِيلَ: إنَّ التَّعْلِيلَ بِمَا لَا يَتَعَدَّى يُفِيدُ اخْتِصَاصَ النَّصِّ بِهِ قِيلَ لَهُ: هَذَا يَحْصُلُ بِتَرْكِ التَّعْلِيلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ الْكِتَابِ وَالسَّنَةِ مِنْ جِنْسِ الْحُجَجِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا أَحْكَامُ الشَّرْعِ لِمَا مَرَّ مِنْ الدَّلَائِلِ فِي بَابِ الْقِيَاسِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْإِيجَابُ أَيْ إثْبَاتُ الْحُكْمِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ تَعَدَّى إلَى فَرْعٍ، أَوْ لَمْ يَتَعَدَّ كَسَائِرِ الْحُجَجِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِهِ خَاصًّا كَانَ أَوْ عَامًّا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ فِي الْوَصْفِ الَّذِي يُعَلَّلُ الْأَصْلُ بِهِ قِيَامُ دَلَالَةِ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْأَوْصَافِ مِنْ التَّأْثِيرِ أَوْ الْإِخَالَةِ وَالْمُنَاسَبَةِ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي الْوَصْفِ الَّذِي يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَنْصُوصِ كَمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْوَصْفِ الَّذِي يَتَعَدَّى عَنْ الْمَنْصُوصِ إلَى فَرْعٍ آخَرَ وَبَعْدَمَا وُجِدَ فِيهِ شَرْطُ صِحَّةِ التَّعْلِيلِ بِهِ لَا يَثْبُتُ الْحَجْرُ عَنْ التَّعْلِيلِ بِهِ إلَّا بِمَانِعٍ وَكَوْنُهُ غَيْرَ مُتَعَدٍّ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا لِلْإِجْمَاعِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ الْمَنْصُوصَةِ إنَّمَا الْمَانِعُ مَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً كَمَا فِي النَّصِّ وَلَمْ يُوجَدْ وَبِأَنَّ صِحَّةَ الْعِلَّةِ لَوْ كَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى تَعَدِّيهَا لَمَا كَانَ تَعَدِّيهَا مَوْقُوفًا عَلَى صِحَّتِهَا؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَوَقُّفُ الصِّحَّةِ عَلَى التَّعَدِّي، وَتَوَقُّفُ التَّعَدِّي عَلَى الصِّحَّةِ، وَهُوَ دَوْرٌ، وَالتَّعَدِّي مُتَوَقِّفٌ عَلَى الصِّحَّةِ بِالْإِجْمَاعِ فَلَزِمَ مِنْهُ بُطْلَانُ تَوَقُّفِ الصِّحَّةِ عَلَى التَّعَدِّي. وَتَمَسَّكَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ دَلِيلَ الشَّرْعِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُوجِبَ عِلْمًا أَوْ عَمَلًا إذْ لَوْ خَلَا عَنْهُمَا لَكَانَ عَبَثًا وَاشْتِغَالًا بِمَا لَا يُفِيدُ وَهَذَا أَيْ التَّعْلِيلُ لَا يُوجِبُ عِلْمًا أَصْلًا فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ إلَّا غَلَبَةَ الظَّنِّ بِلَا خِلَافٍ وَلَا يُوجِبُ عَمَلًا فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعَمَلِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مُضَافٌ إلَى النَّصِّ لَا إلَى الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ فَوْقُ التَّعْلِيلِ فَلَا يَصِحُّ قَطْعُ الْحُكْمِ، وَهُوَ إيجَابُ الْعَمَلِ عَنْ النَّصِّ بِالتَّعْلِيلِ أَوْ الْعُدُولِ عَنْ أَقْوَى الْحُجَّتَيْنِ مَعَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِهِ إلَى أَضْعَفِهِمَا مِمَّا يَرُدُّهُ الْعَقْلُ فَلَمْ يَبْقَ لِلتَّعْلِيلِ أَثَرٌ إلَّا فِي الْفَرْعِ، وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ إلَّا بِالتَّعَدِّي فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلتَّعْلِيلِ حُكْمٌ سِوَى التَّعْدِيَةِ إلَى الْفُرُوعِ، فَإِذَا خَلَا التَّعْلِيلُ عَنْهُ كَانَ بَاطِلًا (فَإِنْ قِيلَ) : الْحُكْمُ بَعْدَ التَّعْلِيلِ مُضَافٌ إلَى الْعِلَّةِ عِنْدِي فِي الْأَصْلِ كَمَا فِي الْفَرْعِ لَا إلَى النَّصِّ فَكَانَتْ الْعِلَّةُ دَلِيلَ الْحُكْمِ وَالنَّصُّ دَلِيلَ الدَّلِيلِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْ التَّعْدِيَةُ إلَى الْفَرْعِ؛ إذْ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ اشْتِرَاكِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي الْعِلَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُولُ: هَذَا الْحُكْمُ ثَبَتَ فِي الْأَصْلِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْفَرْعِ فَيَتَعَدَّى الْحُكْمُ بِهِ إلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ بِالْعِلَّةِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لَأَدَّى إلَى الْمُنَاقَضَةِ فَإِنَّ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ عَنْ الْعِلَّةِ دَلِيلُ التَّنَاقُضِ وَالْفَسَادِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ إنَّمَا تَكُونُ عِلَّةً لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهَا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ حُكْمُ النَّصِّ مُتَعَلِّقًا بِهَا لَا تَكُونُ عِلَّةً وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ التَّعْلِيلُ مُبَيِّنًا أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْحُكْمِ هُوَ الْعِلَّةُ فَيَكُونُ مُفِيدًا كَمَا إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً (قُلْنَا) : إضَافَةُ الْحُكْمِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إلَى الْعِلَّةِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَبْلَ التَّعْلِيلِ كَانَ مُضَافًا إلَى النَّصِّ فَلَوْ أُضِيفَ بَعْدَ التَّعْلِيلِ إلَى الْعِلَّةِ كَانَ التَّعْلِيلُ مُبْطِلًا لِلنَّصِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى لَهُ حُكْمٌ، وَالتَّعْلِيلُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مُغَيِّرًا لِحُكْمِ النَّصِّ بَاطِلٌ فَكَيْفَ إذَا كَانَ مُبْطِلًا لَهُ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْعِلَّةَ إنَّمَا جُعِلَتْ مُوجِبَةً عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالْمُسْلِمِينَ فَلَوْ جُعِلَتْ مُوجِبَةً فِي مَوْرِدِ النَّصِّ لَجُعِلَتْ عِلَّةً فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا عِلَّةٌ شَرْعِيَّةٌ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ عِلَّةً فِيمَا لَمْ يَجْعَلْهَا الشَّرْعُ عِلَّةً فِيهِ وَقَوْلُهُ: الْعِلَّةُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ فِي الْفَرْعِ لَا فِي الْأَصْلِ وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمْ الْأَصْلَ بِالْفَرْعِ فِي أَنَّ الْحُكْمَ فِيهِ مُضَافٌ إلَى الْعِلَّةِ

عَلَى أَنَّ التَّعْلِيلَ بِمَا لَا يَتَعَدَّى لَا يَمْنَعُ التَّعْلِيلَ بِمَا يَتَعَدَّى فَيُبْطِلُ هَذِهِ الْفَائِدَةَ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَفَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْفَرْعَ يُعْتَبَرُ بِالْأَصْلِ فَأَمَّا الْأَصْلُ فَلَا يُعْتَبَرُ بِالْفَرْعِ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِهِ بِحَالٍ وَأَمَّا صِحَّةُ التَّعْدِيَةِ فَلِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَرْعِ مُضَافٌ إلَى الْعِلَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُضَافًا إلَى النَّصِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِهِ فَيَتَحَقَّقُ شَرْطُ التَّعْدِيَةِ، وَهُوَ اشْتِرَاكُ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي الْعِلَّةِ، وَهَذَا كَتَوَقُّفِ أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَى آخِرِهِ إذَا عُطِفَتْ عَلَيْهِ جُمْلَةٌ نَاقِصَةٌ، فَإِنَّ التَّوَقُّفَ ثَابِتٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّاقِصَةِ لِيَتَحَقَّقَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْخَبَرِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِهِ كَمَا مَرَّ تَحْقِيقُهُ فِي بَابِ أَحْكَامِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ الْمَنْصُوصَةِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمَّا نَصَّ عَلَيْهَا أَفَادَنَا بِذَلِكَ عِلْمًا بِأَنَّهَا هِيَ الْمُؤَثِّرَةُ فِي الْحُكْمِ، وَلَا فَائِدَةَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ تَغْيِيرُ حُكْمِ النَّصِّ بِالرَّأْيِ أَيْضًا بَلْ الْحُكْمُ مُضَافٌ إلَى الْعِلَّةِ ابْتِدَاءً بِالنَّصِّ فَكَانَتْ صَحِيحَةً وَأَمَّا مَا ذَكَرُوا مِنْ لُزُومِ الْمُنَاقَضَةِ فَوَهَمٌ؛ لِأَنَّ الْمُنَاقَضَةَ فِيمَا إذَا وُجِدَتْ الْعِلَّةُ، وَلَا حُكْمَ مَعَهَا لِفَسَادٍ فِيهَا أَمَّا إذَا اُسْتُحِقَّ بِمَا هُوَ فَوْقَهُ فَلَا يَكُونُ مُنَاقَضَةً، وَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَارَ عِنْدَنَا لَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ مَعَ وُجُودِ الشَّرِيكِ فَوْقَهُ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْجَوَازَ لَيْسَ بِسَبَبٍ، وَأَنَّ الْأَخَوَيْنِ يَحْجُبَانِ الْأُمَّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ، وَإِنْ كَانَا مَحْجُوبَيْنِ بِالْأَبِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ نَصِيبِهَا بِالْأُبُوَّةِ لَمْ يُخْرِجْ الْأُخُوَّةَ مِنْ كَوْنِهَا سَبَبًا لِلْحَجْبِ وَالِاسْتِحْقَاقِ كَذَا فِي مُخْتَصَرِ التَّقْوِيمِ وَلَا يُقَالُ يَلْزَمُ مِمَّا ذَكَرْتُمْ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لَوْ قُطِعَ الْحُكْمُ عَنْ الْعِلَّةِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَمْ يُجْعَلْ كَذَلِكَ بَلْ أُضِيفَ الْحُكْمُ إلَى الْعِلَّةِ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَرْعِ كَمَا بَيَّنَّا فَلَا يَكُونُ تَخْصِيصًا إلَيْهِ أَشَارَ أَبُو الْيُسْرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ انْحِصَارَ الْفَائِدَةِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ بَلْ لَهَا فَوَائِدُ إحْدَاهَا: إثْبَاتُ اخْتِصَاصِ النَّصِّ بِالْحُكْمِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فَلَا يَشْتَغِلُ الْمُجْتَهِدُ بِالتَّعْلِيلِ لِلتَّعْدِيَةِ إلَى الْفَرْعِ بَعْدَمَا عَرَفَ اخْتِصَاصَ النَّصِّ بِهِ وَثَانِيَتُهَا: مَعْرِفَةُ الْحِكْمَةِ الْمُمِيلَةِ لِلْقُلُوبِ إلَى الطُّمَأْنِينَةِ وَالْقَبُولِ بِالطَّبْعِ وَالْمُسَارَعَةِ إلَى التَّصْدِيقِ، فَإِنَّ الْقُلُوبَ إلَى قَبُولِ الْأَحْكَامِ الْمَعْقُولَةِ أَمْيَلُ مِنْهَا إلَى قَهْرِ التَّحَكُّمِ وَمَرَارَةِ التَّعَبُّدِ وَثَالِثُهَا الْمَنْعُ مِنْ تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ عِنْدَ ظُهُورِ عِلَّةٍ أُخْرَى مُعْتَدِيَةٍ إلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى اسْتِقْلَالِ الْمُعْتَدِيَةِ بِالْعِلِّيَّةِ، وَعَلَى تَرَجُّحِهَا عَلَى الْقَاصِرَةِ، وَلَوْلَا الْقَاصِرَةُ لَتَعَدَّى الْحُكْمُ بِهَا مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى دَلِيلٍ مُرَجِّحٍ، وَهِيَ مِنْ الْفَوَائِدِ الْجَلِيلَةِ، وَإِذَا ظَهَرَتْ هَذِهِ الْفَوَائِدُ وَجَبَ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهَا قُلْنَا: حُصُولُ هَذِهِ الْفَوَائِدِ بِهَا مَمْنُوعٌ أَمَّا الْأُولَى فَلِأَنَّ الِاخْتِصَاصَ يَحْصُلُ بِتَرْكِ التَّعْلِيلِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ التَّعْلِيلِ؛ إذْ النَّصُّ لَا يَدُلُّ بِصِيغَتِهِ إلَّا عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَتَعَمَّمُ بِالتَّعْلِيلِ فَإِذَا تَرَكَ التَّعْلِيلَ يَبْقَى عَلَى الِاخْتِصَاصِ عَلَى مَا كَانَ ضَرُورَةً فَلَمْ يَحْصُلْ بِهَذَا التَّعْلِيلِ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا عَلَى أَنَّ التَّعْلِيلَ بِمَا لَا يَتَعَدَّى لَا يَمْنَعُ التَّعْلِيلَ بِمَا يَتَعَدَّى؛ لِأَنَّهُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي الْأَصْلِ وَصْفَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَعَدَّى إلَى فُرُوعٍ، وَأَحَدُهُمَا أَكْثَرُ تَعْدِيَةً مِنْ الْآخَرِ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ وَصْفَانِ يَتَعَدَّى أَحَدُهُمَا، وَلَا يَتَعَدَّى الْآخَرُ فَيَجِبُ التَّعْلِيلُ حِينَئِذٍ بِالْوَصْفِ الْمُتَعَدِّي؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الِاعْتِبَارِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ غَيْرِ الْمُتَعَدِّي فَثَبَتَ أَنَّ بِهَذَا التَّعْلِيلِ لَمْ يَثْبُتْ اخْتِصَاصٌ أَصْلًا وَكَيْفَ يَثْبُتُ وَبِالْإِجْمَاعِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ عَدَمُ الْعِلَّةِ لَا يُوجِبُ عَدَمَ الْحُكْمِ لِجَوَازِ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى فَوُجُودُ الْقَاصِرَةِ

وَمِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُتَعَدِّي حُكْمَ النَّصِّ بِعَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ثَمَرَةَ التَّعْلِيلِ التَّعْدِيَةُ لَا غَيْرُ فَأَمَّا التَّغْيِيرُ فَلَا فَإِذَا كَانَ التَّعْلِيلُ مُغَيِّرًا كَانَ بَاطِلًا ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ فِي غَيْرِ الْمَنْصُوصِ لِجَوَازِ ثُبُوتِهِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى أَيْضًا إلَيْهِ أَشَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى الْحِكْمَةِ مِنْ بَابِ الْعِلْمِ لَا مِنْ بَابِ الْعَمَلِ، وَالرَّأْيُ لَا يُوجِبُ عِلْمًا بِالِاتِّفَاقِ فَلَا تَحْصُلُ هَذِهِ الْفَائِدَةُ بِهَذَا التَّعْلِيلِ غَايَتُهُ أَنَّهُ يُفِيدُ ظَنًّا بِحِكْمَةِ الْحُكْمِ، وَلَكِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَعْتَبِرْ الظَّنَّ إلَّا لِضَرُورَةِ الْعَمَلِ بِالْبَدَنِ، وَالْقَاصِرَةُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا عَمَلٌ فَوَجَبَ الْإِعْرَاضُ عَنْهَا بِالنَّظَرِ إلَى مَا يُفِيدُ الْعِلْمَ أَوْ يُوجِبُ الْعَمَلَ وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْقَاصِرَةَ تُعَارِضُ الْمُتَعَدِّيَةَ عَلَى وَجْهٍ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ مُرَجَّحٍ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَدِّيَةَ إذَا ظَهَرَتْ فِي مَوْضِعِ الْقَاصِرَةِ، وَظَهَرَ تَأْثِيرُهَا فَهِيَ الْعِلَّةُ عِنْدَنَا دُونَ الْقَاصِرَةِ وَعِنْدَكُمْ الْمُتَعَدِّيَةُ رَاجِحَةٌ عَلَى الْقَاصِرَةِ لِكَوْنِهَا أَكْثَرَ فَائِدَةً، وَلِكَوْنِهَا مُتَّفَقًا عَلَيْهَا عَلَى مَا نَصَّ فِي الْقَوَاطِعِ وَالْمَحْصُولِ وَغَيْرِهِمَا فَإِذَنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ تَرَجُّحُ الْمُتَعَدِّيَةِ عَلَى دَلِيلٍ آخَرَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ الْقَاصِرَةُ دَافِعَةً لِلْمُتَعَدِّيَةِ بِوَجْهٍ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا فَائِدَةٌ فَكَانَ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا بِمَنْزِلَةٍ وَأَمَّا مَا ذَكَرُوا مِنْ الدَّوْرِ فَلَيْسَ بِلَازِمٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَ تَوَقُّفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الصِّحَّةِ وَالتَّعَدِّيَةِ تَوَقُّفَ تَقَدُّمٍ أَعْنِي مَشْرُوطًا بِتَقَدُّمِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ تَوَقُّفُ مَعِيَّةٍ كَتَوَقُّفِ وُجُودِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَضَايِفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فَلَا يَكُونُ دَوْرًا. قَوْلُهُ: (وَمِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ) أَيْ مِمَّا تَضَمَّنَهُ الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُتَعَدِّي حُكْمَ النَّصِّ بِعَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ أَيْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَثْبُتَ بِالتَّعْلِيلِ مِثْلَ حُكْمِ النَّصِّ فِي الْفَرْعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ تَغَيُّرٌ فِي الْفَرْعِ بِزِيَادَةِ وَصْفٍ أَوْ سُقُوطِ قَيْدٍ، وَنَعْنِي بِهِ الْمِثْلِيَّةَ فِي نَفْسِ الْحُكْمِ مِنْ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ وَالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ وَنَحْوِهَا لَا فِي كَوْنِهِ قَطْعِيًّا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ، وَإِنْ اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَهُ قَالَ الشَّيْخُ فِي مُخْتَصَرِ التَّقْوِيمِ: وَهَذَا فَصْلٌ دَقِيقٌ يَجِبُ تَحَفُّظُهُ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْمُقَايِسِينَ غَيَّرُوا حُكْمَ النَّصِّ وَلَمْ يَعُدُّوهُ إلَى فَرْعِهِ بِعَيْنِهِ مِنْ ذَلِكَ أَيْ مِمَّا اُعْتُبِرَ فِيهِ هَذَا الشَّرْطُ قَوْلُنَا: بُطْلَانُ السَّلَمِ الْحَالِّ فَإِنَّ التَّعْلِيلَ لِتَعْدِيَةِ حُكْمِ النَّصِّ إلَيْهِ لَمَّا أَوْجَبَ تَغْيِيرَهُ فِي الْفَرْعِ لَزِمَ الْقَوْلُ بِبُطْلَانِهِ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ وَهُوَ عَدَمُ التَّغَيُّرِ. وَبَيَانُهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَوَّزَ السَّلَم الْحَالَّ فِي الْمَوْجُودِ دُونَ الْمَعْدُومِ مُتَمَسِّكًا بِأَنَّ «النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ أَجَلٍ» وَكَانَ اشْتِرَاطُهُ زِيَادَةً عَلَيْهِ فَيَكُونُ مَرْدُودًا وَمُعَلَّلًا بِأَنَّ السَّلَمَ الْمُؤَجَّلَ لَمَّا جَازَ مَعَ أَنَّ الْأَجَلَ فِيهِ خِلَافُ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ، وَوُجُوبُ التَّسْلِيمِ فِي الْحَالِّ، وَالْأَجَلُ يُخَالِفُهُ جَازَ السَّلَمُ الْحَالُّ بِالطَّرِيقِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْبَدَلِ حَالًّا تَقْرِيرٌ لِمُوجِبِ الْعَقْدِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ شُرِعَ رُخْصَةً وَمَعْنَى التَّرْخِيصِ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: سُقُوطُ مُؤْنَةِ إحْضَارِ الْمَبِيعِ وإراءته لِلْمُشْتَرِي دَفْعًا لِلْحَرَجِ الَّذِي يَلْحَقُ الْبَاعَةَ بِإِحْضَارِهِ مَكَانَ الْعَقْدِ أَوْ بِتَأَخُّرِ الْعَقْدِ إلَى حُضُورِ الْمَبِيعِ وَالثَّانِي دَفْعُ حَاجَةِ الْإِفْلَاسِ. وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ؛ لِأَنَّ فِي قَوْلِ الرَّاوِي وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ مَبْنِيًّا عَلَى قَوْلِهِ نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ إشَارَةً إلَيْهِ فَإِنَّ عِنْدَ يَدُلُّ عَلَى الْحَضْرَةِ لَا عَلَى الْمِلْكِ وَلِأَنَّ مَنْ لَهُ أَكْرَارٌ مِنْ حِنْطَةٍ لَوْ بَاعَ الْحِنْطَةَ سَلَمًا يَجُوزُ إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا مَعَ عَدَمِ حَاجَتِهِ إلَى بَيْعِ الدَّيْنِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى بَيْعِ الْعَيْنِ، وَلَوْ كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ دَفْعَ حَاجَةِ الْإِفْلَاسِ لَمَا جَازَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ثُمَّ لَمَّا جَازَ مُؤَجَّلًا بِنَاءً عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي؛ لَأَنْ يَجُوزَ حَالًّا بِنَاءً عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ كَانَ أَوْلَى وَيَكُونُ الْتِزَامُهُ حَالًّا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَقْصُودَهُ دَفْعُ حَاجَةِ

وَمِنْ ذَلِكَ مَا قُلْنَا أَنَّ السَّلَمَ الْحَالَّ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ جَوَازِ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَوْجُودًا مَمْلُوكًا مَقْدُورًا، وَالشَّرْعُ رَخَّصَ فِي السَّلَمِ بِصِفَةٍ لِأَجَلٍ، وَتَفْسِيرُهُ نَقْلُ الشَّرْطِ الْأَصْلِيِّ إلَى مَا يَخْلُفُهُ، وَهُوَ الْأَجَلُ؛ لِأَنَّ الزَّمَانَ يَصْلُحُ لِلْكَسْبِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَسْبَابِ الْقُدْرَةِ فَاسْتَقَامَ خَلَفًا عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ النَّصُّ نَاقِلًا لِلشَّرْطِ وَكَانَتْ رُخْصَةَ نَقْلٍ لَمْ يَسْتَقِمْ التَّعْلِيلُ لِلْإِسْقَاطِ وَالْإِبْطَالِ؛ لِأَنَّهُ تَغْيِيرٌ مَحْضٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْإِحْضَارِ، وَالْتِزَامُهُ مُؤَجَّلًا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَقْصُودَهُ دَفْعُ حَاجَةِ الْإِفْلَاسِ فَيَكُونُ كِلَا النَّوْعَيْنِ مَشْرُوعًا وَقُلْنَا: السَّلَمُ الْحَالُّ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِجَوَازِ السَّلَمِ الْمُؤَجَّلِ وَتَعْلِيلِهِ لِتَعْدِيَةِ حُكْمِهِ إلَى الْحَالِّ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِتَأْدِيَتِهِ إلَى تَغْيِيرِ حُكْمِ النَّصِّ فَكَانَ بَاطِلًا وَذَلِكَ أَنَّ مَحَلَّ الْبَيْعِ مَالٌ مَمْلُوكٌ مُتَقَوِّمٌ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى لَوْ بَاعَ الْمَيْتَةَ أَوْ بَاعَ مَا لَا يَمْلِكُهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ وَسَلَّمَهُ أَوْ بَاعَ الْخَمْرَ أَوْ بَاعَ الْآبِقَ أَوْ الْمَغْصُوبَ الْمَجْحُودَ لَمْ يَجُزْ لِفَوَاتِ الْمَالِيَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَعَدَمِ الْمِلْكِ فِي الثَّانِيَةِ وَعَدَمِ التَّقَوُّمِ فِي الثَّالِثَةِ وَالْعَجْزِ عَنْ التَّسْلِيمِ فِي الرَّابِعَةِ، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي السَّلَمِ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ قَبْلَ الْعَقْدِ فَضْلًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا أَوْ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ، وَبِالْعَقْدِ لَا يَصِيرُ مَوْجُودًا حِسًّا وَلَا مَمْلُوكًا؛ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْإِنْسَانُ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِالسَّبَبِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا وَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ مَمْلُوكًا عَلَيْهِ لِلْغَيْرِ لَا لَهُ فَلَوْ مَلَكَهُ لَسَقَطَ عَنْهُ فَكَانَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ فِي السَّلَمِ عَدَمَ الْجَوَازِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ كَمَا جَوَّزَ بَيْعَ الْمَنْفَعَةِ فِي الْإِجَارَةِ قَبْلَ وُجُودِهَا لِلْحَاجَةِ جَوَّزَ هَذَا الْعَقْدَ مَعَ قِيَامِ الْمَانِعِ رُخْصَةً لِلْحَاجَةِ، وَهِيَ أَنَّ الْمُفْلِسَ الْمُعْدَمَ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى مُبَاشَرَتِهِ لِيَحْصُلَ الْبَدَلُ مَعَ عَجْزِهِ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الْحَالِّ وَقُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ بِطَرِيقِ الْعَادَةِ إمَّا بِالِاكْتِسَابِ أَوْ بِإِدْرَاكِ غَلَّاتِهِ بِمَجِيءِ أَوَانِهِ فَجَوَّزَ لَهُ الشَّرْعُ هَذَا الْعَقْدَ مَعَ عَدَمِ الْمِلْكِ وَالْعَجْزِ عَنْ التَّسْلِيمِ وَلَكِنْ عَلَى وَجْهٍ يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ عِنْدَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ. وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا فَإِنَّ الْأَجَلَ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لِلْقُدْرَةِ أُقِيمَ مَقَامَهَا فِي تَصْحِيحِ الْعَقْدِ كَمَا أُقِيمَتْ الْعَيْنُ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي صِحَّةِ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَيْهَا فَصَارَ الْأَجَلُ شَرْطًا لَا لِعَيْنِهِ بَلْ خَلَفًا عَنْ الْقُدْرَةِ الَّتِي هِيَ الشَّرْطُ الْأَصْلِيُّ فِي الْبَيْعِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ رُخْصَةُ نَقْلٍ لِلشَّرْطِ الْأَصْلِيِّ إلَى مَا يَصْلُحُ خَلَفًا عَنْهُ، وَهُوَ الْأَجَلُ؛ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ وَسِيلَةً إلَيْهِ فَإِنَّ تَيَسُّرَ الْأَدَاءِ بَعْدَ مُدَّةٍ بِالتَّكَسُّبِ أَوْ بِمَجِيءِ وَقْتِ الْحَصَادِ ظَاهِرٌ وَإِذَا كَانَ النَّصُّ أَيْ النَّصُّ الْمُرَخِّصُ نَاقِلًا أَيْ لِلشَّرْطِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ الْقُدْرَةُ الْحَقِيقِيَّةُ إلَى خَلَفِهِ، وَهُوَ الْقُدْرَةُ الِاعْتِبَارِيَّةُ بِإِقَامَةِ الْأَصْلِ مَقَامَهَا لَمْ يَسْتَقِمْ التَّعْلِيلُ لِلِاسْتِقَاطِ، اللَّامُ لِلْعَاقِبَةِ أَيْ يَجُزْ تَعْلِيلُهُ عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى إسْقَاطِ هَذَا الشَّرْطِ أَصْلًا وَالْإِبْطَالُ أَيْ إبْطَالُهُ أَوْ إبْطَالُ حُكْمِ النَّصِّ فَإِنَّهُ مَتَى سَقَطَ الْأَجَلُ الَّذِي هُوَ الْقُدْرَةُ الِاعْتِبَارِيَّةُ لَمْ يَكُنْ هَذَا تَعْدِيَةَ حُكْمِ النَّصِّ يَكُونُ إبْطَالًا لَهُ وَإِثْبَاتًا لِحُكْمٍ آخَرَ فِي الْفَرْعِ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ النَّصُّ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا نَقَلَ الطَّهَارَةَ بِالْمَاءِ عِنْدَ الْعَجْزِ إلَى التَّيَمُّمِ لَمْ يَجُزْ تَعْلِيلُهُ عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى إسْقَاطِ الطَّهَارَةِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ تَغْيِيرٌ لِحُكْمِ النَّصِّ فَكَذَا هَذَا وَلَا يُقَالُ: لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْعَقْدِ بِطَرِيقِ الْخَلَفِ عَنْ الْقُدْرَةِ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ تُشْتَرَطُ سَابِقَةً عَلَى الْعَقْدِ، وَالْأَجَلُ يَثْبُتُ بَعْدَ انْعِقَادِ الْعَقْدِ حُكْمًا لَهُ فَكَيْفَ يَقُومُ مَقَامَهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَسْقَطَ الْأَجَلَ عَقِيبَ الْعَقْدِ مِنْ سَاعَتِهِ لَمْ يَفْسُدْ الْعَقْدُ. 1 - وَكَذَا لَوْ مَاتَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ عَقِيبَ الْعَقْدِ مِنْ سَاعَتِهِ يَنْقَلِبُ السَّلَمُ حَالًّا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُثْبِتَ الْقُدْرَةَ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ شَرْطٌ لِتَوَجُّهِ الْخِطَابِ عَلَيْهِ بِالتَّسْلِيمِ فَيُرَاعَى وُجُودُهَا وَقْتَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ، وَوُجُوبُ التَّسْلِيمِ حُكْمُ الْعَقْدِ يَثْبُتُ بَعْدَهُ، وَالْعَقْدُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا وَالْأَجَلُ الْمُقَدَّرُ عَلَى التَّسْلِيمِ يَثْبُتُ بِهِ فَاسْتَوْفَى الْعَقْدُ حُكْمَهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْقُدْرَةِ قَبْلَ الْعَقْدِ وَأَمَّا عَدَمُ فَسَادِ الْعَقْدِ بِسُقُوطِ

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي الْخَاطِئِ: إنْ فَعَلَهُمَا لَا يَكُونُ فِطْرًا لِعَدَمِ الْقَصْدِ كَفِعْلِ النَّاسِي، وَهَذَا تَعْلِيلٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ نَقَاءَ الصَّوْمِ مَعَ النِّسْيَانِ لَيْسَ لِعَدَمِ الْقَصْدِ؛ لِأَنَّ فَوَاتَ الرُّكْنِ يُعْدِمُ الْأَدَاءَ، وَلَيْسَ لِعَدَمِ الْقَصْدِ أَثَرٌ فِي الْوُجُودِ مَعَ قِيَامِ حَقِيقَةِ الْعَدَمِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَنْوِ الصَّوْمَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْعُرْ بِشَهْرِ رَمَضَانَ لَمْ يَكُنْ صَائِمًا، وَالْقَصْدُ لَمْ يُوجَدْ لَكِنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ فِطْرًا بِالنَّصِّ غَيْرُ مَعْلُولٍ عَلَى مَا قُلْنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQالْأَجَلِ فَلِأَنَّ الْعَقْدَ إذَا صَحَّ بِوُجُوبِ الْأَجَلِ الْقَائِمِ مَقَامَ الْقُدْرَةِ لَا يَفْسُدُ بِفَوَاتِهِ بَعْدُ كَمَا إذَا أَبَقَ الْعَبْدُ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الطَّرِيقَةِ الْبَرْغَرِيَّةِ وَأَمَّا بِنَاءُ الرُّخْصَةِ عَلَى سُقُوطِ مُؤْنَةِ الْإِحْضَارِ فَفَاسِدٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الرُّخْصَةِ الْيُسْرُ وَالسُّهُولَةُ، وَالتَّسْلِيمُ إذَا لَزِمَهُ حَالًّا عَقِيبَ الْعَقْدِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُحْضِرَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْعَقْدِ لِيُمْكِنَهُ التَّسْلِيمُ عَقِيبَهُ وَإِذَا أُحْضِرَ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَبِيعَهُ سَلَمًا أَوْ عَيْنًا وَأَيُّ تَفَاوُتٍ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي بَيْنَ أَنْ يَنْتَظِرَ إحْضَارَهُ قَبْلَ الْعَقْدِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْتَظِرَ إحْضَارَهُ عَقِيبَ الْعَقْدِ يُوَضِّحُهُ الرُّخْصَةُ لَوْ بُنِيَتْ عَلَيْهِ يَكُونُ النَّهْيُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ» بَيْعُ مَا غَابَ عَنْ الْمَجْلِسِ وَهُوَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُ لَوْ بَاعَ شَيْئًا غَائِبًا لَهُ قَدْ رَآهُ الْمُشْتَرِي وَأَشَارَ إلَى مَكَانِهِ أَوْ بَيَّنَهُ صَحَّ. وَبَيَانُ الْمَكَانِ وَالْإِشَارَةِ إلَيْهِ غَيْرُ مُتَعَذَّرٍ، وَلَوْ بَاعَ مَا يَحْضُرُ بِهِ قَبْلَ الْمِلْكِ ثُمَّ مَلَكَ وَسَلَّمَ لَمْ يَجُزْ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ النَّهْيِ بَيْعُ مَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِ لَا بَيْعُ مَا لَيْسَ بِحَضْرَتِهِ وَأَنَّ الرُّخْصَةَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَهُ " وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ " وَاقِعَةٌ عَلَى عَدَمِ الْمِلْكِ الَّذِي هُوَ مُفْسِدٌ بِالْإِجْمَاعِ لَا عَلَى الْغَيْبَةِ عَنْ الْمَجْلِسِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَوْ بَاعَ مَا هُوَ مَوْجُودٌ عِنْدَهُ سَلَمًا يَجُوزُ فَلَا يَجِدُ بِهِ نَفْعًا؛ لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى السَّلَمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا عِنْدَهُ مُسْتَحَقٌّ بِحَاجَةٍ أُخْرَى فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْدُومِ كَالْمَاءِ الْمُسْتَحَقِّ بِالشُّرْبِ يُجْعَلُ عَدَمًا فِي حَقِّ جَوَازِ التَّيَمُّمِ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا بَنَى هَذِهِ الرُّخْصَةَ عَلَى الْعَدَمِ، وَهُوَ أَمْرٌ بَاطِنٌ أُقِيمَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ الدَّالُّ عَلَى الْعَدَمِ وَالْعَجْزِ عَنْ الْبَيْعِ الرَّابِحِ وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْبَيْعِ بِأَوْكَسِ الْأَثْمَانِ، مَقَامَهُ كَمَا أُقِيمَ السَّفَرُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْمَشَقَّةِ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ الَّتِي هِيَ أَمْرٌ بَاطِنٌ فِي حَقِّ التَّرَخُّصِ وَقَوْلُهُ: (وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ) أَيْ وَمِنْ التَّعْلِيلِ الَّذِي غُيِّرَ فِيهِ حُكْمُ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي الْخَاطِئِ وَالْمُكْرَهِ يَعْنِي فِي الْإِفْطَارِ بِأَنْ تَمَضْمَضَ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ غَيْرَ مُبَالِغٍ فِيهِ فَسَبَقَ الْمَاءُ حَلْقَهُ أَوْ صَبَّ الْمَاءَ فِي حَلْقِهِ أَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِفْطَارِ إنْ فَعَلَهُمَا لَا يَكُونُ فِطْرًا لِعَدَمِ الْقَصْدِ كَفِعْلِ النَّاسِي فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقْصِدْ الْفِطْرَ لِتَعَذُّرِ الْقَصْدِ إلَى الشَّيْءِ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ لَمْ يُجْعَلْ فِعْلُهُ فِطْرًا، وَإِنْ وُجِدَ مِنْهُ الْقَصْدُ إلَى نَفْسِ الْفِعْلِ فَلَأَنْ لَا يَكُونَ فِعْلُ الْخَاطِئِ فِطْرًا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْفِطْرَ، وَلَا الْفِعْلَ كَانَ أَوْلَى وَكَذَا الْمُكْرَهُ عَلَى الْفِطْرِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ إذَا كَانَ بِغَيْرِ حَقٍّ يَنْقُلُ فِعْلَ الْمُكْرَهِ إلَى الْحَامِلِ عَلَيْهِ، وَإِذَا انْتَقَلَ إلَيْهِ لَمْ يَبْقَ لَهُ فِعْلٌ كَالْأَكْلِ نَاسِيًا لَمَّا أُضِيفَ إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ لَمْ يَبْقَ لِلْأَكْلِ فِعْلٌ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا بَالَغَ فِي الْمَضْمَضَةِ فَسَبَقَ الْمَاءُ حَلْقَهُ حَيْثُ يَفْسُدُ صَوْمُهُ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الْفِطْرَ؛ لِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي الْمَضْمَضَةِ مَحْظُورَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا فِي حَالَةِ الصَّوْمِ فَمَا تَوَلَّدَ مِنْهَا كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَمَنْ حَفَرَ فِي الطَّرِيقِ يَضْمَنُ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ مِنْ تَلَفِ مَالٍ أَوْ إنْسَانٍ. قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَهَذَا تَعْلِيلٌ بَاطِلٌ وَبَيَّنَ فَسَادَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ بَقَاءَ الصَّوْمِ مَعَ النِّسْيَانِ أَيْ مَعَ الْأَكْلِ نَاسِيًا لَيْسَ لِعَدَمِ الْقَصْدِ فَإِنَّ الرُّكْنَ يَفُوتُ بِعَدَمِ الْأَدَاءِ، وَبَعْدَ مَا فَاتَ لَيْسَ لِعَدَمِ الْقَصْدِ إلَى تَفْوِيتِهِ أَثَرٌ فِي وُجُودِهِ؛ لِأَنَّ الْعَدَمَ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَلَا يَصْلُحُ مُؤَثِّرًا فِي الْوُجُودِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ تَسَحَّرَ عَنْ ظَنِّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ وَقَدْ كَانَ طَلَعَ يَفْسُدُ صَوْمُهُ لِفَوَاتِ رُكْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ قَصْدٌ إلَى الْفِطْرِ فَإِنَّ الْقَصْدَ كَمَا يَنْعَدِمُ بِنِسْيَانِ الصَّوْمِ يَنْعَدِمُ بِجَهْلِ الْيَوْمِ وَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَبَقِيَ كَذَلِكَ إلَى آخِرِ الْغَدِ لَا يَكُونُ صَائِمًا، وَإِنْ انْعَدَمَ مِنْهُ الْقَصْدُ إلَى تَرْكِ الصَّوْمِ وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَنْوِ الصَّوْمَ أَصْلًا لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ شَهْرَ رَمَضَانَ وَلَمْ يَأْكُلْ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ صَائِمًا، وَالْقَصْدُ

وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ سَقَطَ فِعْلُ النَّاسِي؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ أَمْرٌ جُبِلَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ فَكَانَ سَمَاوِيًّا مَحْضًا فَنُسِبَ إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ فَلَمْ يَصْلُحْ لِضَمَانِهِ حَقَّهُ فَالتَّعْدِيَةُ إلَى الْخَطَأِ، وَهُوَ تَقْصِيرٌ مِنْ الْخَاطِئِ أَوْ إلَى الْمُكْرَهِ، وَهُوَ مِنْ جِهَةِ غَيْرِ صَاحِبِ الْحَقِّ مِنْ وَجْهٍ يَكُونُ تَغْيِيرًا لَا تَعْدِيَةً، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ النَّصِّ فِي الرِّبَا تَحْرِيمٌ مُتَنَاهٍ، وَقَدْ أَثْبَتَ الْخَصْمُ فِيمَا لَا مِعْيَارَ لَهُ غَيْرَ مُتَنَاهٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَى تَفْوِيتِ الصَّوْمِ لَمْ يُوجَدْ فَإِذًا لَمْ يَكُنْ لِعَدَمِ الْقَصْدِ أَثَرٌ فِي إيجَادِ الصَّوْمِ مَعَ عَدَمِ مَا يُنَافِي الصَّوْمَ مِنْ الْأَكْلِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَثَرٌ فِي وُجُودِ الصَّوْمِ مَعَ وُجُودِ مَا يُنَافِيهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ بَقَاءَ صَوْمِ النَّاسِي لَيْسَ لِعَدَمِ الْقَصْدِ لَكِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: لِعَدَمِ الْقَصْدِ أَيْ لَكِنَّ فِعْلَ النَّاسِي وَهُوَ الْأَكْلُ لَمْ يُجْعَلْ فِطْرًا بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَتِمَّ عَلَى صَوْمِك غَيْرُ مَعْلُولٍ أَيْ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَعَلَى مَا قُلْنَا أَيْ فِي بَيَانِ أَمْثِلَةِ الشَّرْطِ الثَّانِي. وَقَوْلُهُ: وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ بَيَانُ الْوَجْهِ الثَّانِي فِي بُطْلَانِ ذَلِكَ التَّعْلِيلِ يَعْنِي يَخْرُجُ فَسَادُ تَعْلِيلِهِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي نَحْنُ فِي بَيَانِهِ هُوَ أَنَّهُ إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ نَصَّ النَّاسِي مَعْلُولٌ فَإِلْحَاقُ الْخَاطِئِ وَالْمُكْرَهِ بِهِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّهُ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ النَّاسِي وَبَيْنَ الْخَاطِئِ وَالْمُكْرَهِ فِي الْعُذْرِ وَعَدَمِ الْقَصْدِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ أَمْرٌ جُبِلِ أَيْ خُلِقَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ وَلَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بِوَجْهٍ فَكَانَ سَمَاوِيًّا مَحْضًا، فَكَانَ مَنْسُوبًا إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّمَا أَطْعَمَك اللَّهُ وَسَقَاك» فَلَمْ يَصْلُحْ لِضَمَانِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ صَدَرَ مِنْهُ فَاسْتَقَامَ أَنْ يُجْعَلَ الرُّكْنُ بِاعْتِبَارِهِ قَائِمًا حُكْمًا فَأَمَّا الْخَطَأُ وَالْإِكْرَاهُ فَقَدْ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُمَا بِالتَّثَبُّتِ وَالِاحْتِيَاطِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ وَالِالْتِجَاءِ إلَى الْإِمَامِ الْعَادِلِ أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ فَتَعْدِيَةُ الْحُكْمِ مِنْ النَّاسِي إلَيْهِمَا يَكُونُ تَغْيِيرًا؛ لِأَنَّ النَّصَّ لَمَّا أَوْجَبَ الْحُكْمَ فِي الْمَنْصُوصِ بِمَعْنًى فَإِثْبَاتُهُ فِي الْفَرْعِ بِمَعْنًى آخَرَ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ يَكُونُ تَغْيِيرًا لَهُ فِي الْفَرْعِ لَا تَعْدِيَةً؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ ثَابِتٌ بِعِلَّةٍ، وَحُكْمُ الْفَرْعِ ثَابِتٌ بِلَا عِلَّةٍ فَكَانَ غَيْرَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرِيضَ لَمَّا سَقَطَ عَنْهُ الْقِيَامُ بِسَبَبِ الْعُذْرِ الَّذِي جَاءَ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَهُوَ الْمَرَضُ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ قَائِمًا بَعْدَ الْبُرْءِ لَمْ يَجُزْ تَعْدِيَتُهُ إلَى الْمُقَيَّدِ مَعَ تَحَقُّقِ عَجْزِهِ؛ لِأَنَّ عُذْرَهُ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ قَائِمًا بَعْدَ رَفْعِ الْقَيْدِ فَكَذَا هَا هُنَا فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ عَدَمُ ضَمَانِ حَقٍّ أَتْلَفَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ، وَالثَّابِتُ فِي الْفَرْعِ عَدَمُ ضَمَانِ حَقٍّ أَتْلَفَهُ غَيْرُ صَاحِبِ الْحَقِّ بِقَدْرٍ لَهُ مَدْفَعٌ فَكَانَ تَغْيِيرًا لَا مَحَالَةَ. وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ: مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مُضَافٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى خَلْقًا؛ إذْ هُوَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَإِنْ كَانَ مُضَافًا إلَى الْعَبْدِ كَسْبًا؛ فَلِهَذَا قَالَ: وَمَنْ وَجَّهَ قَوْلَهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِمَّا غَيَّرَ حُكْمَ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ بِالتَّعْلِيلِ أَنَّ حُكْمَ النَّصِّ فِي الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَهِيَ الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ وَالْمِلْحُ تَحْرِيمٌ مُتَنَاءٍ بِالتَّسَاوِي فِي الْمِعْيَارِ بِقَوْلِهِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ وَقَدْ أَثْبَتَهُ الْخَصْمُ بِعِلَّةِ الطَّعْمِ فِيمَا لَا مِعْيَارَ لَهُ كَالتُّفَّاحَةِ وَالسَّفَرْجَلِ وَالْحَفْنَةِ غَيْرَ مُتَنَاهٍ فَكَانَ خِلَافَ مَا أَثْبَتَهُ الشَّرْعُ؛ إذْ الْحُرْمَةُ الْمُتَنَاهِيَةُ غَيْرُ الْمُؤَبَّدَةِ كَالْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِالرَّضَاعِ أَوْ الْمُصَاهَرَةِ غَيْرِ الْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِالطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ فَيَكُونُ هَذَا تَعْلِيلًا بَاطِلًا وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ حُرْمَةُ بَيْعِ الْمَقْلِيَّةِ بِغَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ وَالدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ فَإِنَّهَا غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ بِالْكَيْلِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مَا ثَبَتَتْ فِي هَذَا الْمَحَلِّ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ قَبْلَ الْقَلْيِ مُتَنَاهِيَةً بِالْمُسَاوَاةِ كَيْلًا لَكِنَّ الْعَبْدَ أَبْطَلَ الْكَيْلَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَلْيِ وَالطَّحْنِ فَإِنَّ الْأَجْزَاءَ بِالْقَلْيِ تَكْثُرُ؛ إذْ تَنْتَفِخُ الْحِنْطَةُ وَبِالطَّحْنِ تَنْفَرِقُ فَلَا تُعْرَفُ الْمُسَاوَاةُ بَعْدُ بِالْكَيْلِ الَّذِي جُعِلَ مُسَوِّيًا وَمَنْهِيًّا لِلْحُرْمَةِ فَبَقِيَتْ الْحُرْمَةُ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَثْبُتَ الْحُرْمَةُ مُتَنَاهِيَةً، ثُمَّ تَبْطُلَ النِّهَايَةُ بِصُنْعِ الْعِبَادِ فَتَبْقَى غَيْرَ مُتَنَاهِيَةً فَأَمَّا إنْ ثَبَتَتْ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ بِإِثْبَاتِ الشَّرْعِ وَمَا أَثْبَتَهَا الشَّارِعُ إلَّا مُتَنَاهِيَةً فَلَا، كَذَا فِي الطَّرِيقَةِ الْبَرْغَرِيَّةِ. وَلَكِنْ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: نَحْنُ مَا أَثْبَتْنَا الْحُرْمَةَ بِالتَّعْلِيلِ بَلْ بِعُمُومِ النَّصِّ، وَهُوَ

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي تَعْيِينِ النُّقُودِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ: إنَّهُ تَصَرُّفٌ حَصَلَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ مُفِيدًا فِي نَفْسِهِ فَيَصِحُّ كَتَعْيِينِ السِّلَعِ ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ» عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ وَالتَّعْلِيلُ بِالطُّعْمِ لِقَصْرِ الْحُكْمِ عَلَى الْمَنْصُوصِ كَالتَّعْلِيلِ بِالثَّمَنِيَّةِ لَا لِلتَّعْدِيَةِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ تَغْيِيرٌ وَنَحْنُ وَإِنْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّعْلِيلَ بِعِلَّةٍ قَاصِرَةٍ فَاسِدَةٌ لَكِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ فَسَادُ هَذَا التَّعْلِيلِ بِاعْتِبَارِ الْقَصْرِ لَا بِاعْتِبَارِ تَغْيِيرِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْفَصْلِ. قَوْلُهُ: (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِنْ التَّعْلِيلِ الْمُغَيِّرِ لِلْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ قَوْلُ مُخَالِفِنَا فِي تَعْيِينِ النُّقُودِ إلَى آخِرِهِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ وَالْفُلُوسُ الرَّائِجَةُ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ تَتَعَيَّنُ وَثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا هَلَكَتْ الدَّرَاهِمُ الْمُعَيَّنَةُ أَوْ اُسْتُحِقَّتْ لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ يَنْفَسِخُ وَلَوْ أَرَادَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَحْبِسَهَا أَوْ يُعْطِيَ الْبَائِعَ مِثْلَهَا قَدْرًا وَصِفَةً لَهُ، وَذَلِكَ عِنْدَهُمْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَلَوْ مَاتَ الْمُشْتَرِي مُفْلِسًا كَانَ الْبَائِعُ أُسْوَةً لِلْغُرَمَاءِ فِيهَا وَعِنْدَهُمْ كَانَ الْبَائِعُ أَحَقَّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ عَلَّلُوا فِيمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ بِأَنَّ التَّعْيِينَ تَصَرُّفٌ حَصَلَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ مُفِيدًا فِي نَفْسِهِ فَيَصِحُّ كَتَعْيِينِ السِّلَعِ أَمَّا الْأَهْلِيَّةُ فَظَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ بِالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ وَالْمِلْكِ، وَالْجَمِيعُ حَاصِلٌ لَهُ؛ وَلِهَذَا صَحَّ مِنْهُ تَعْيِينُ السِّلْعَةِ لِلْبَيْعِ وَأَمَّا الْمَحَلِّيَّةُ فَلِأَنَّ مَحَلَّ التَّعْيِينِ حَقِيقَةً يَشْغَلُ حَيِّزًا مِنْ الْمَكَانِ لِتَمَكُّنِ الْإِشَارَةِ إلَيْهِ وَالنَّقْدِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَكَانَ مَحَلًّا لِلتَّعْيِينِ؛ وَلِهَذَا يَتَعَيَّنُ فِي الْوَدَائِعِ وَالْمَغْصُوبِ حَتَّى لَوْ أَرَادَ الْمُودِعُ أَوْ الْغَاصِبُ أَنْ يَحْبِسَ الدَّرَاهِمَ الْمُودَعَةَ أَوْ الْمَغْصُوبَةَ وَيَرُدَّ مِثْلَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَا يَتَعَيَّنُ فِي الْهِبَةِ حَتَّى يَكُونَ لِلْوَاهِبِ حَقُّ الرُّجُوعِ فِي عَيْنِهَا لَا فِي مِثْلِهَا. وَيَتَعَيَّنُ فِي الْبَيْعِ أَيْضًا حَتَّى إنَّ الْغَاصِبَ إذَا اشْتَرَى بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ بِعَيْنِهَا طَعَامًا وَنَقَدَهَا لَا يُبَاحُ لَهُ تَنَاوُلُهُ، وَلَوْ لَمْ يَتَعَيَّنْ فَحَلَّ لَهُ ذَلِكَ كَمَا لَوْ اشْتَرَى بِدَرَاهِمَ مُطْلَقَةٍ ثُمَّ نَقَدَ تِلْكَ الدَّرَاهِمَ فَثَبَتَ أَنَّهَا مَحَلٌّ لِلتَّعَيُّنِ وَأَمَّا كَوْنُهُ مُفِيدًا فَفِي حَقِّ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي جَمِيعًا أَمَّا فِي حَقِّ الْبَائِعِ فَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْعَيْنَ، وَالْمِلْكُ فِي الْعَيْنِ أَكْمَلُ مِنْهُ فِي الدَّيْنِ وَلِهَذَا لَوْ أَدَّى زَكَاةَ الْعَيْنِ مِنْ الدَّيْنِ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا مَالَ لَهُ، وَلَهُ عَلَى النَّاسِ دُيُونٌ لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ وَلِأَنَّهُ إذَا مَلَكَ الْعَيْنَ كَانَ أَحَقَّ بِهَا مِنْ سَائِرِ غُرَمَائِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي إبْطَالَ حَقِّهِ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ فَرُبَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ كَسْبٍ حَلَالٍ فَيُرْغَبُ فِيهِ مَا لَا يُرْغَبُ فِي غَيْرِهِ. وَأَمَّا فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي فَلِأَنَّ ذِمَّتَهُ لَا تَصِيرُ مَشْغُولَةً بِالدَّيْنِ، وَلَا يُطَالَبُ بِشَيْءٍ إذَا هَلَكَتْ الدَّرَاهِمُ فِي يَدِهِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ تَتَعَيَّنُ الدَّرَاهِمُ فِي الْوَكَالَةِ حَتَّى لَوْ دَفَعَ دَرَاهِمَ لِيَشْتَرِيَ بِهَا شَيْئًا فَهَلَكَتْ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ وَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ كَتَعْيِينِ السِّلَعِ وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِكَوْنِهِ مُقَيَّدًا فِي نَفْسِهِ احْتِرَازًا عَنْ تَعْيِينِ صَنَجَاتِ الْمِيزَانِ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ مَعَ وُجُودِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فَإِنَّ مَا عَيَّنَ مِنْ الصَّنَجَاتِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ فِي الْوَزْنِ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ يَمْتَنِعُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ، فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى عَبْدَ نَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ لَا يَصِحُّ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ، وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدَهُ وَعَبْدَ غَيْرِهِ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ صَحَّ، وَدَخَلَ عَبْدُهُ فِي الْبَيْعِ لِظُهُورِ الْفَائِدَةِ، وَهُوَ انْقِسَامُ الثَّمَنِ عَلَيْهِمَا بَعْدَ دُخُولِهِمَا فِي الْعَقْدِ وَلَمْ يَدْخُلْ كَانَ بَيْعًا بِالْحِصَّةِ ابْتِدَاءً. قَالُوا: وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِكُمْ: إنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ فِي جَانِبِ الثَّمَنِ إيجَادُهُ فِي الذِّمَّةِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مَا شُرِعَ لِإِيجَادِ الْأَمْوَالِ بَلْ شُرِعَ لِنَقْلِ الْمِلْكِ إلَى الْغَيْرِ وَلِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ فِيهَا وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ

هَذَا تَغْيِيرٌ لِحُكْمِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ فِي الْأَعْيَانِ أَنَّ الْبَيْعَ يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ مِلْكِهَا لَا وُجُودُهَا، وَحُكْمُ الْبَيْعِ فِي جَانِبِ الْأَثْمَانِ وُجُودُهَا وَوُجُوبُهَا مَعًا بِدَلَالَةِ ثُبُوتِهَا فِي الذِّمَّةِ دُيُونًا بِلَا ضَرُورَةٍ وَبِدَلَالَةِ جَوَازِ الِاسْتِبْدَالِ بِهَا وَهِيَ دُيُونٌ، وَلَمْ تُجْعَلْ فِي حُكْمِ الْأَعْيَانِ فِيمَا وَرَاءَ الرُّخْصَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَحَلُّ الْمِلْكِ مَوْجُودًا فِي الْجَانِبَيْنِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الْمُعَارَضَةِ فَكَانَتْ الْعَيْنِيَّةُ فِيهِ أَصْلًا، وَالِانْتِقَالُ إلَى الدَّيْنِ رُخْصَةً، كَمَا فِي جَانِبِ الْبَيْعِ قَوْلُهُ: (هَذَا) أَيْ التَّعْلِيلُ الَّذِي ذَكَرُوهُ تَغْيِيرٌ لِحُكْمِ الْأَصْلِ أَيْ لِلْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ فِي الْفَرْعِ فَيَكُونُ بَاطِلًا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ فِي الْأَعْيَانِ أَنَّ الْبَيْعَ يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ مِلْكِهَا يَعْنِي حُكْمَ الشَّرْعِ فِي الْأَعْيَانِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْبَيْعِ ثُبُوتُ مِلْكِ الْأَعْيَانِ لَا وُجُودُهَا فِي نَفْسِهَا؛ وَلِهَذَا لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا فِي مِلْكِ الْبَائِعِ عِنْدَ الْعَقْدِ لِيَصِحَّ الْعَقْدُ إلَّا فِي مَوْضِعِ الرُّخْصَةِ وَحُكْمُ الْبَيْعِ فِي جَانِبِ الْأَثْمَانِ وُجُودُهَا وَوُجُوبُهَا مَعًا أَيْ حُكْمُ الْبَيْعِ فِي جَانِبِ الثَّمَنِ أَنْ يُوجَدَ الثَّمَنُ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي، وَيَجِبُ عَلَيْهِ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي الذِّمَّةِ قَبْلَ الْبَيْعِ فَيُوجَدُ بَعْدَ الْبَيْعِ بِصِفَةِ الْوُجُوبِ فَكَانَ وُجُودُهُ وَوُجُوبُهُ مِنْ أَحْكَامِهِ ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا ذُكِرَ هُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ فِي جَانِبِ الثَّمَنِ بِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ فَقَالَ بِدَلَالَةِ ثُبُوتِهَا فِي الذِّمَّةِ دُيُونًا بِلَا ضَرُورَةٍ يَعْنِي أَنَّهَا تُثْبِتُ دُيُونًا فِي الذِّمَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْعَيْنِ فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا بِدَرَاهِمَ غَيْرِ عَيْنٍ، وَفِي يَدِهِ أَوْ كِيسِهِ دَرَاهِمُ أَوْ بَيْنَ يَدَيْهِ دَرَاهِمُ مَوْضُوعَةٌ صَحَّ الْبَيْعُ وَيَثْبُتُ الثَّمَنُ فِي الذِّمَّةِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ أَصْلِيًّا، وَكَانَ بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ إلَّا مِنْ عُذْرٍ لَمَا جَازَ الْبَيْعُ عِنْدَ عَدَمِ الْعُذْرِ وَلِنَهْيِ الشَّارِعِ عَنْهُ وَاسْتَثْنَى حَالَةَ الْعُذْرِ لِيُظْهِرَ لَنَا جِهَةَ فَسَادِهِ مِنْ جَوَازِهِ كَمَا فَعَلَ فِي جَانِبِ الْمَبِيعِ بِأَنْ «نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ، وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ» فَعَلِمْنَا أَنَّ ثُبُوتَ الثَّمَنِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ حُكْمٌ أَصْلِيٌّ لَا ضَرُورِيُّ لِثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ لَهُ دَرَاهِمُ أَوْ لَمْ تَكُنْ. فَانْدَرَجَ فِيمَا ذَكَرْنَا الْجَوَابُ عَمَّا يُقَالُ: الْمَبِيعُ يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بِلَا ضَرُورَةٍ أَيْضًا فَإِنَّ مَنْ لَهُ أَكْرَارُ حِنْطَةٍ لَوْ بَاعَ حِنْطَةً سَلَمًا يَجُوزُ ثُمَّ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ حُكْمٌ أَصْلِيٌّ فَكَذَا هَا هُنَا؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لَمَّا وَرَدَ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ، وَثَبَتَ فِي مُقَابَلَتِهِ الرُّخْصَةُ فِي السَّلَمِ عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِأَمْرٍ أَصْلِيٍّ وَأَنَّ الْجَوَازَ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ بِنَاءً عَلَى الْحَاجَةِ تَقْدِيرًا كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ وَهَا هُنَا لَمْ يَرِدْ نَهْيٌ عَنْ الشِّرَاءِ بِثَمَنٍ لَيْسَ فِي مِلْكِهِ بَلْ قَرَّرَ الشَّرْعُ عَلَى الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ فِي الْأَسْوَاقِ فِي الشِّرَاءِ بِدَرَاهِمَ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَمْرٌ أَصْلِيٌّ وَقَوْلُهُ: وَبِدَلَالَةِ جَوَازِ الِاسْتِبْدَالِ بِهَا أَيْ بِالْأَثْمَانِ وَجْهٌ ثَانٍ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّ الدَّيْنِيَّةَ فِي الثَّمَنِ أَصْلٌ يَعْنِي جَوَازَ الِاسْتِبْدَالِ بِالثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ ثُبُوتَهُ فِي الْبَيْعِ أَمْرٌ أَصْلِيٌّ لَا ضَرُورِيٌّ؛ إذْ لَوْ كَانَتْ الْعَيْنِيَّةُ فِيهِ أَصْلًا، وَكَانَ الْعُدُولُ عَنْهَا إلَى الدَّيْنِ رُخْصَةً بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ كَمَا فِي السَّلَمِ لَبَقِيَ فِيمَا وَرَاءَ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ، وَهُوَ الْجَوَازُ بِالثُّبُوتِ فِي الذِّمَّةِ عَلَى حُكْمِ الْعَيْنِيَّةِ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَلَوْ بَقِيَ عَلَى حُكْمِ الْعَيْنِيَّةِ لَمْ يَجُزْ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَمَا لَمْ يَجُزْ الِاسْتِبْدَالُ بِالْمَبِيعِ الْعَيْنَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَيْنِيَّةَ لَمَّا كَانَتْ أَصْلًا فِي الْبَيْعِ، وَكَانَ الْعُدُولُ عَنْهَا إلَى الدَّيْنِ رُخْصَةً بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ لَمْ يُظْهِرْ الدَّيْنِيَّةَ فِيمَا وَرَاءِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَكَانَ لِلْمُسْلَمِ فِيهِ حُكْمُ الْعَيْنِ فِي حُرْمَةِ الِاسْتِبْدَالِ بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَصِحَّةِ الْفَسْخِ عَلَيْهِ وَحْدَهُ بَعْدَ هَلَاكِ رَأْسِ الْمَالِ، وَلَمَّا جَازَ الِاسْتِبْدَالُ بِالثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَمْ يَرِدْ عَلَيْهِ الْفَسْخُ وَحْدَهُ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ عُلِمَ أَنَّ الثَّمَنَ بِخِلَافِ السِّلْعَةِ وَأَنَّ الدَّيْنِيَّةَ فِيهِ أَصْلٌ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْأَسْرَارِ. فَبِهَذَا

وَبِدَلَالَةِ أَنَّهُ لَمْ يَجْبُرْ هَذَا النَّقْصَ بِقَبْضِ مَا يُقَابِلُهُ، فَإِذَا صَحَّ التَّعْيِينُ انْقَلَبَ الْحُكْمُ شَرْطًا وَهَذَا تَغْيِيرٌ مَحْضٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْحُكْمُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ أَنَّهُ تَحْرِيرٌ فِي تَكْفِيرٍ فَكَانَ الْإِيمَانُ مِنْ شَرْطِهِ، وَهَذَا تَغْيِيرٌ بِقَيْدِ الْإِطْلَاقِ مِثْلَ إطْلَاقِ الْمُقَيَّدِ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ تَغْيِيرٌ لِلْحُكْمِ فِي الْفُرُوعِ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَرَفْتَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَهِيَ دُيُونٌ أَيْ حَالَ كَوْنِهَا دُيُونًا إلَى آخِرِهِ لِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّلَمِ بِأَنَّ دِينِيَّتَهُ أَصْلٌ، وَدِينِيَّةُ السَّلَمِ عَارِضٌ وَقَوْلُهُ: وَبِدَلَالَةِ أَنَّهُ لَمْ يَجْبُرْ هَذَا النَّقْصَ بِقَبْضِ مَا يُقَابِلُهُ دَلِيلٌ ثَالِثٌ عَلَى أَصَالَةِ دَيْنِيَّةِ الثَّمَنِ يَعْنِي لَوْ كَانَتْ الْعَيْنِيَّةُ أَصْلًا فِي الثَّمَنِ لَتَمَكَّنَ بِالنَّقْلِ إلَى الدَّيْنِ ضَرْبُ عُذْرٍ فِيهِ لَا مَحَالَةَ فَإِنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ صَاحِبِهِ مِنْ الْعَيْنِ، وَهَذَا نَقْصٌ فِيهِ فَكَانَ يَجِبُ جَبْرُ هَذَا النَّقْصِ بِقَبْضِ مَا يُقَابِلُهُ، وَهُوَ الْمَبِيعُ فِي الْمَجْلِسِ كَمَا وَجَبَ جَبْرُ غَرَرِ الدَّيْنِيَّةِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ بِقَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ دَيْنًا كَانَ أَوْ عَيْنًا، وَلَمَّا لَمْ يَجِبْ جَبْرُ هَذَا النَّقْصِ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ عُلِمَ أَنَّ الدَّيْنِيَّةَ فِيهِ أَصْلٌ فَإِذَا صَحَّ التَّعْيِينُ انْقَلَبَ الْحُكْمُ شَرْطًا يَعْنِي لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ فِي الثَّمَنِ وُجُودُهُ وَوُجُوبُهُ فِي الذِّمَّةِ لَوْ صَحَّ التَّعْيِينُ لَخَرَجَ وُجُودُ الثَّمَنِ عَنْ كَوْنِهِ حُكْمًا لِلْبَيْعِ وَلَصَارَ مَحَلًّا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِيهِ كَمَا فِي جَانِبِ السِّلْعَةِ وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الْمُحَالَ شُرُوطٌ وَكَانَ فِي التَّعْيِينِ انْقِلَابُ مَا هُوَ الْحُكْمُ شَرْطًا، وَهَذَا أَيْ انْقِلَابُ الْمَذْكُورِ تَغْيِيرٌ مَحْضٌ فَكَانَ بَاطِلًا. 1 - قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي الْأَسْرَارِ: حُكْمُ الْعَقْدِ مَا يَجِبُ بِهِ، وَالثَّمَنُ نَفْسُهُ يَجِبُ بِالْعَقْدِ وَالْمَحَلِّ، وَمَا يُشْتَرَطُ وُجُودُهُ لِيَحِلَّهُ حُكْمُهُ وَحُكْمُ الْعَقْدِ غَيْرُ مَحَلِّهِ، فَإِنَّ الْمَحَلَّ شَرْطٌ يُرَاعَى قَبْلَهُ كَشُرُوطِ كُلِّ عَمَلٍ مِنْ عِبَادَةٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ، وَالْحُكْمُ مَا يَثْبُتُ بِالْعَقْدِ فَكَانَا فِي طَرَفَيْ نَقِيضٍ، فَإِذَا جَعَلَ الثَّمَنَ مَحَلًّا لِتَعَيُّنِهِ وَشَرَطَهُ كَانَ شَرْطًا تَغَيَّرَ مُوجِبُهُ بِهِ إلَى ضِدِّهِ، فَكَانَ فَاسِدًا كَمَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ الْمَحَلَّ بِشَرْطِهِ حُكْمًا (فَإِنْ قِيلَ) : إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الدَّيْنِيَّةَ أَصْلٌ فِي الثَّمَنِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَيْنِيَّةَ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ فِيهِ بَلْ الدَّيْنِيَّةُ تَكُونُ أَصْلًا عِنْدَ عَدَمِ التَّعْيِينِ، وَالْعَيْنِيَّةُ تَكُونُ أَصْلًا فِي حَالِ التَّعْيِينِ كَمَا فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ وَالْبَقَرَةِ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثَمَنًا ثُمَّ إذَا عُيِّنَتْ صَحَّ التَّعْيِينُ قُلْنَا لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الدَّيْنِيَّةَ أَصْلٌ فِيهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْعَيْنِيَّةُ مَعَهَا أَصْلًا؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ أَنْفَى لِلْغَرَرِ مِنْ الدَّيْنِ، وَالْمِلْكُ فِي الْعَيْنِ أَكْمَلُ مِنْهُ فِي الدَّيْنِ فَكَيْفَ تَكُونُ الدَّيْنِيَّةُ مُسَاوِيَةً لِلْعَيْنِيَّةِ فَلَمَّا كَانَتْ الدَّيْنِيَّةُ أَصْلًا لَمْ يَكُنْ الْعَيْنِيَّةُ مَشْرُوعَةً مَعَهَا أَصْلًا إلَّا بِتَرَخُّصٍ مِنْ الشَّارِعِ، وَلَمْ يُوجَدْ بِخِلَافِ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ، فَإِنَّ فِيهَا شُبْهَةَ الْأَثْمَانِ وَشِبْهَ السِّلَعِ، فَإِنَّ الثَّمَنَ مَا يُقَوَّمُ بِهِ نَفْسُهُ وَغَيْرُهُ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَإِنَّهَا تُقَيَّمُ أَنْفُسُهَا فِي الْإِتْلَافَاتِ، وَيُقَوَّمُ بِهَا الْأَمْوَالُ أَيْضًا وَالسِّلَعُ مَا يُقَوَّمُ بِالْأَثْمَانِ وَلَا يَقَعُ التَّقْوِيمُ بِهَا فِي الْإِتْلَافِ كَالْأَعْيَانِ وَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ كَانَتْ تُقَيَّمُ أَنْفُسُهَا فِي الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ، وَلَمْ يَجِبْ بِمُقَابَلَتِهَا دَرَاهِمُ، وَلَا يُقَوَّمُ بِهَا غَيْرُهَا عِنْدَ الْإِتْلَافِ كَمَا يُقَوَّمُ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ، فَقِيلَ: إذَا عَقَدَ الْعَقْدَ بِهَا فِي الذِّمَمِ كَمَا يَعْقِدُ بِالدَّرَاهِمِ ثَبَتَتْ أَثْمَانًا لِشَبَهِهَا بِالْأَثْمَانِ، وَإِذَا عُيِّنَتْ أَوْ عُقِدَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا كَمَا يُعْقَدُ عَلَى السِّلَعِ تَثْبُتُ سِلَعًا لِشَبَهِهَا بِالسِّلَعِ فَكَانَ التَّعْيِينُ فِيهَا تَمْيِيزًا لِإِحْدَى الْجِهَتَيْنِ لَا تَغْيِيرًا لِمُوجِبِهَا الْأَصْلِيِّ فَيَصِحُّ وَبِمَا ذَكَرْنَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُغَيِّرًا لِلْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ فِي هَذَا الْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ مُلَاقِيًا مَحَلَّهُ وَأَمَّا تَعَيُّنُهَا فِي الْوَدَائِعِ وَالْمَغْصُوبِ وَالتَّبَرُّعَاتِ فَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَغْيِيرُ مُوجِبِ الْعَقْدِ بَلْ يَتَقَرَّرُ بِهِ مُوجِبُهُ فَإِنَّ الْغَصْبَ أَوْ الْإِيدَاعَ أَوْ الْهِبَةَ لَا يَرِدُ قَطُّ إلَّا عَلَى الْعَيْنِ فَإِنَّ غَصْبَ الدَّيْنِ وَإِيدَاعَهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَكَذَا تَمْلِيكُهُ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ فَكَانَتْ الْعَيْنِيَّةُ

وَقَدْ صَحَّ ظِهَارُ الذِّمِّيِّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَصَارَ تَغْيِيرًا لِلْحُرْمَةِ الْمُتَنَاهِيَةِ بِالْكَفَّارَةِ فِي الْأَصْلِ إلَى إطْلَاقِهَا فِي الْفَرْعِ عَنْ الْغَايَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQشَرْطًا لِتَحَقُّقِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ وَأَمَّا تَعَيُّنُهَا فِي الْوَكَالَةِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ فَإِنَّهُ لَوْ اشْتَرَى الْوَكِيلُ بِمِثْلِ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ فِي ذِمَّتِهِ كَانَ مُشْتَرِيًا لِلْمُوَكِّلِ، وَلَوْ هَلَكَتْ بَعْدَ الشِّرَاءِ رَجَعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِمِثْلِهَا، فَأَمَّا إذَا هَلَكَتْ قَبْلَ الشِّرَاءِ فَإِنَّمَا بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ فِي نَفْسِهَا، وَالْمُوَكِّلُ لَمْ يَرْضَ بِكَوْنِ الثَّمَنِ فِي ذِمَّتِهِ عِنْدَ الشِّرَاءِ فَلَوْ تَعَيَّنَتْ الْوَكَالَةُ لَاسْتَوْجَبَ الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ الدَّيْنَ فِي ذِمَّتِهِ الْمُوَكِّلَ وَهُوَ لَمْ يَرْضَ بِهِ وَكَذَا فِي مَسْأَلَةِ الشِّرَاءِ بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ لَا بِتَعَيُّنِ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ حَتَّى لَوْ أَخَذَهَا الْمَغْصُوبُ مِنْهُ كَانَ عَلَى الْغَاصِبِ مِثْلُهَا دَيْنًا، وَلَكِنَّهُ اسْتَعَانَ فِي الْعَقْدِ وَالنَّقْدِ بِمَا هُوَ حَرَامٌ فَتَمَكَّنَ فِيهِ شَبَهُ الْخُبْثِ فَلَمْ يَحِلَّ لَهُ تَنَاوُلُهُ وَأَمَّا مَا ذَكَرُوا مِنْ الْفَوَائِدِ فَلَيْسَ مِنْ مَقَاصِدِ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا تُطْلَبُ فَائِدَةُ التَّعْيِينِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ، وَفِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ مِلْكُ الْمَالِ الدَّيْنِ أَكْمَلُ مِنْ الْعَيْنِ وَبِالتَّعْيِينِ يُنْتَقَضُ فَإِنَّهُ إذَا اسْتَحَقَّ الْعَيْنَ أَوْ هَلَكَ بَطَلَ مِلْكُهُ وَإِذَا ثَبَتَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ لَا يُتَصَوَّرُ هَلَاكُهُ وَلَا بُطْلَانُ الْمِلْكِ فِيهِ بِالِاسْتِحْقَاقِ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: الْمَقْصُودُ مِنْ الْعَقْدِ نَقْلُ الْمِلْكِ فِي الْمَوْجُودِ لَا الْإِيجَادُ، فَكَذَلِكَ إلَّا أَنَّا حَكَمْنَا بِوُجُودِ الثَّمَنِ بِالْعَقْدِ لِأَجْلِ الْمُشْتَرِي لَا لِأَجْلِ الْبَائِعِ؛ إذْ الْمُشْتَرِي مُحْتَاجٌ إلَى تَحْصِيلِ الْمِلْكِ، وَذَلِكَ بِالثَّمَنِ فَأَوْجَدْنَاهُ بِالْعَقْدِ لِيَثْبُتَ فِيهِ الْمِلْكُ لِلْبَائِعِ، وَيَحْصُلَ مَقْصُودُ الْمُشْتَرِي بِوَاسِطَتِهِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لَهُ فِي الْمَبِيعِ فَثَبَتَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ لَيْسَ إلَّا ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْبَدَلَيْنِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَأَنَّ وُجُودَهُ مِنْ ضَرُورَاتِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ إلَيْهِ أَشَارَ الْإِمَامُ أَبُو الْفَضْلِ الْكَرْمَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: هَذَا الْمِثَالُ لَيْسَ مِنْ فُرُوعِ الْأَصْلِ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ فِي التَّحْقِيقِ، فَإِنَّ بِالتَّعْلِيلِ لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُ الْأَصْلِ، وَهُوَ السِّلَعُ فِي الْفُرُوعِ، وَهُوَ الثَّمَنُ بَلْ تَغَيَّرَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ الَّذِي فِي الثَّمَنِ بِهِ وَكَذَا الْمِثَالُ الَّذِي بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ بِالتَّعْلِيلِ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إنَّهُ تَحْرِيرٌ فِي تَكْفِيرٍ فَكَانَ الْإِيمَانُ مِنْ شَرْطِهِ قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ الْقَتْلِ إنَّمَا يُغَيِّرُ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ الَّذِي فِي الْفَرْعِ، وَهُوَ الْإِطْلَاقُ لَا حُكْمُ الْأَصْلِ، وَهُوَ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ أَوْرَدَهُمَا هَا هُنَا بِاعْتِبَارِ مُجَرَّدِ حُصُولِ التَّغَيُّرِ بِالتَّعْلِيلِ فِي الْفَرْعِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ: قَدْ حَصَلَ تَغْيِيرُ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَهُوَ السِّلَعُ فِي الْفَرْعِ بِالتَّعْلِيلِ فَإِنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ وُجُوبُ التَّعْيِينِ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ اشْتِرَاطِ قِيَامِ السِّلْعَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالتَّعْلِيلِ فِي الْفَرْعِ جَوَازُهُ لَا وُجُوبُهُ بِهِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ اشْتِرَاطُ قِيَامِ الثَّمَنِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَيَكُونُ تَغْيِيرًا. وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي آخِرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا التَّعْلِيلِ تَعْدِيَةُ حُكْمِ الْأَصْلِ بِعَيْنِهِ بِإِثْبَاتِ حُكْمٍ آخَرَ فِي الْفَرْعِ فَأَمَّا الْمِثَالُ الثَّانِي فَلَا تَغْيِيرَ لِحُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ كَمَا قِيلَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِثْلُ الْإِطْلَاقِ فِي الْمُقَيَّدِ فَإِنَّهُ تَغْيِيرٌ حَتَّى لَوْ قِيلَ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ تَحْرِيرٌ فِي تَكْفِيرٍ فَلَمْ يَكُنْ الْإِيمَانُ مِنْ شَرْطِهِ قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ كَانَ بَاطِلًا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ تَغْيِيرٌ لِلْقَيْدِ إلَى الْإِطْلَاقِ فَكَذَا عَكْسُهُ هَذَا أَيْ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَمْثِلَةِ قَوْلُهُ: (وَقَدْ صَحَّ ظِهَارُ الذِّمِّيِّ) ظِهَارُ الذِّمِّيِّ بَاطِلٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الظِّهَارِ الْحُرْمَةُ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْحُرْمَةِ كَالْمُسْلِمِ وَهُوَ أَهْلُ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ وَالْإِعْتَاقِ وَبِأَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلصَّوْمِ لَا يَمْتَنِعُ صِحَّةُ ظِهَارِهِ كَالْعَبْدِ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلتَّكْفِيرِ بِالْمَالِ، وَظِهَارُهُ صَحِيحٌ وَلَئِنْ

وَمِنْ ذَلِكَ مَا قُلْنَا إلَى فَرْعٍ هُوَ نَظِيرُهُ فَأَمَّا إذَا خَالَفَهُ فَلَا، وَذَلِكَ مِثْلُ مَا قُلْنَا فِي تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ مِنْ النَّاسِي فِي الْفِطْرِ إلَى الْخَاطِئِ وَالْمُكْرَهِ: إنَّ ذَلِكَ ثَبَتَ مِنْهُ وَالْعُذْرُ فِي الْخَاطِئِ وَالْمُكْرَهِ دُونَ الْعُذْرِ فِي النَّاسِي فَصَارَ تَعْدِيَةً إلَى مَا لَيْسَ بِنَظِيرِهِ وَعَدَّى حُكْمَ التَّيَمُّمِ إلَى الْوُضُوءِ فِي شَرْطِ النِّيَّةِ، وَلَيْسَ بِنَظِيرِهِ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ تَلْوِيثٌ، وَهَذَا تَطْهِيرٌ وَغُسْلٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلْكَفَّارَةِ فَهُوَ أَهْلٌ لِلْحُرْمَةِ فَيُعْتَبَرُ ظِهَارُهُ فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ كَمَا اعْتَبَرَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إيلَاءَ الذِّمِّيِّ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ وَإِنْ لَمْ يَعْتَبِرْهُ فِي الْكَفَّارَةِ وَقُلْنَا: هَذَا التَّعْلِيلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الظِّهَارِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ حُرْمَةٌ مُتَنَاهِيَةٌ بِالْكَفَّارَةِ، وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ مِثْلِ تِلْكَ الْحُرْمَةِ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْكَفَّارَةِ فَلَوْ صَحَّ ظِهَارُهُ لَثَبَتَتْ بِهِ حُرْمَةٌ مُطْلَقَةٌ فَيَكُونُ تَغْيِيرًا لِحُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ، وَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكَفَّارَةِ التَّطْهِيرُ وَالتَّكْفِيرُ؛ وَلِهَذَا تَرَجَّحَ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ حَتَّى تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ الَّذِي هُوَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ، وَلَا تَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةِ الْعِبَادَةِ وَيُفْتَى بِهَا وَلَا تُقَامُ عَلَيْهِ كُرْهًا، وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلتَّكْفِيرِ وَالتَّطْهِيرِ وَلَا لِأَدَاءِ الْعِبَادَةِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْكَفَّارَةِ إلَّا أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ بِمَنْزِلَةِ الْفَقِيرِ حَتَّى لَوْ عَتَقَ وَأَصَابَ مَالًا كَانَتْ كَفَّارَتُهُ بِالْمَالِ أَيْضًا كَالْفَقِيرِ إذَا اسْتَغْنَى. وَبِخِلَافِ الْإِيلَاءِ؛ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ مُؤَجَّلٌ وَالذِّمِّيُّ مِنْ أَهْلِ الطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالْيَمِينِ مُطْلَقَةٌ لَا مُؤَقَّتَةٌ بِالْكَفَّارَةِ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ التَّكْفِيرُ قَبْلَ الْحِنْثِ بِخِلَافِ الظِّهَارِ فَصَارَ أَيْ تَصْحِيحُ ظِهَارِهِ أَوْ التَّعْلِيلُ لِصِحَّةِ ظِهَارِهِ؛ إذْ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَقَدْ صَحَّ ظِهَارُ الذِّمِّيِّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ بِصِحَّتِهِ بِالتَّعْلِيلِ إلَى إطْلَاقِهَا فِي الْفَرْعِ عَنْ الْغَايَةِ أَيْ إلَى إثْبَاتِهَا فِي الْفَرْعِ مُطْلَقَةً عَنْ الْغَايَةِ غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ بِهَا فَكَانَتْ هَذِهِ الْحُرْمَةُ شَبِيهَةً بِالْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّهَا كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مُؤَبَّدَةً. 1 - قَوْلُهُ: (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِمَّا تَضَمَّنَهُ الشَّرْطُ الثَّالِثُ وَمَا قُلْنَا أَيْ قَوْلُنَا إلَى فَرْعٍ هُوَ نَظِيرُهُ أَيْ نَظِيرُ الْأَصْلِ فِي الْوَصْفِ الَّذِي تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ لَا فِي جَمِيعِ الْأَوْصَافِ فَإِنَّهَا لَا تُوجَدُ إلَّا فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَأَمَّا إذَا خَالَفَهُ أَيْ خَالَفَ الْفَرْعُ الْأَصْلَ فِيمَا قُلْنَا فَلَا أَيْ فَلَا تَعَدِّيَ يَعْنِي لَا يَصِحُّ التَّعَدِّي؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْمَحَلَّيْنِ عَلَى مَا مَرَّ وَذَلِكَ أَيْ خِلَافُ الْفَرْعِ الْأَصْلَ مِثْلُ مَا قُلْنَا فِي تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ أَيْ تَعْدِيَةِ الشَّافِعِيِّ الْحُكْمَ وَهُوَ بَقَاءُ الصَّوْمِ وَمِنْ النَّاسِي فِي الْفِطْرِ أَيْ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ حَالَةَ الصَّوْمِ وَكَلِمَةُ فِي لِبَيَانِ مَحَلِّ النِّسْيَانِ لِأَصْلِهِ لَهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ} [الصافات: 72] وَإِلَى الْخَاطِئِ وَالْمُكْرَهِ فِي الْفِطْرِ أَنَّ ذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِقُلْنَا أَيْ قُلْنَا: إنَّ بَقَاءَ الصَّوْمِ ثَبَتَ بِطَرِيقِ الْمِنَّةِ عَلَى النَّاسِي بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَتِمَّ عَلَى صَوْمِك وَالْعُذْرُ فِي الْخَاطِئِ وَالْمُكْرَهِ دُونَ الْعُذْرِ فِي النَّاسِي فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْحُكْمِ، وَهُوَ التَّفَصِّي عَنْ الْعُهْدَةِ؛ لِأَنَّ عُذْرَ الْخَاطِئِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ تَقْصِيرٍ مِنْ جِهَتِهِ بِتَرْكِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّحَرُّزِ؛ وَلِهَذَا تَجِبُ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ عَلَى الْخَاطِئِ فِي الْقَتْلِ وَكَذَا عُذْرُ الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ حَدَثَ بِصُنْعٍ مُضَافٍ إلَى الْعِبَادِ لَا إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ؛ وَلِهَذَا لَا يَحِلُّ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْفِطْرِ بِالْإِكْرَاهِ فَصَارَ تَعْدِيَةً أَيْ صَارَ التَّعْدِيَةُ مِنْ النَّاسِي إلَيْهِمَا تَعْدِيَةً إلَى مَا لَيْسَ بِنَظِيرِهِ أَيْ نَظِيرِ النَّاسِي أَوْ نَظِيرِ الْأَصْلِ وَعَدَّى حُكْمَ التَّيَمُّمِ إلَى الْوُضُوءِ أَيْ عَدَّى الشَّافِعِيُّ مَا ثَبَتَ فِي التَّيَمُّمِ وَمِنْ اشْتِرَاطٍ إلَى الْوُضُوءِ فَقَالَ: إنَّهُ طَهَارَةٌ فَلَا يَتَأَدَّى إلَّا بِالنِّيَّةِ كَالتَّيَمُّمِ وَلَيْسَ بِنَظِيرِهِ أَيْ لَيْسَ الْفَرْعُ، وَهُوَ الضَّوْءُ بِنَظِيرِ الْأَصْلِ، وَهُوَ التَّيَمُّمُ فِي افْتِقَارِهِ إلَى النِّيَّةِ وَكَوْنُهُ طَهَارَةً؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ تَلْوِيثٌ فِي ذَاتِهِ وَالتَّلْوِيثُ لَا يَكُونُ تَطْهِيرًا حَقِيقَةً لَكِنَّهُ صَارَ مُطَهِّرًا شَرْعًا فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ بِالنِّيَّةِ وَهَذَا أَيْ الْوُضُوءُ

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنْتُمْ عَدَّيْتُمْ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ مِنْ الْحَلَالِ إلَى الْحَرَامِ وَلَيْسَ بِنَظِيرِهِ فِي إثْبَاتِ الْكَرَامَةِ فَقُلْنَا مَا عَدَّيْنَا مِنْ الْحَلَالِ إلَى الْحَرَامِ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَيْسَ بِأَصْلٍ فِي التَّحْرِيمِ حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا، وَإِنَّمَا الْأَصْلُ هُوَ الْوَلَدُ الْمُسْتَحِقُّ لِكَرَامَاتِ الْبَشَرِ فَلَمَّا خُلِقَ مِنْ الْمَاءَيْنِ تَعَدَّى إلَيْهِمَا الْحُرُمَاتُ كَأَنَّهُمَا صَارَا شَخْصًا وَاحِدًا فَصَارَ آبَاؤُهُ وَأَبْنَاؤُهُ كَآبَائِهَا وَأَبْنَائِهَا، وَأُمَّهَاتُهَا وَبَنَاتُهَا مِثْلَ أُمَّهَاتِهِ وَبَنَاتِهِ ثُمَّ تَعَدَّى ذَلِكَ إلَى سَبَبِهِ، وَهُوَ الْوَطْءُ فَصَارَ عَامِلًا بِمَعْنَى الْأَصْلِ فَلَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُهُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ الْحِلُّ وَلَا إبْطَالُ الْحُكْمِ بِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ وَهُوَ الْحُرْمَةُ ـــــــــــــــــــــــــــــQتَطْهِيرٌ فِي نَفْسِهِ، وَغُسْلٌ فِي ذَاتِهِ فَلَا يَدُلُّ افْتِقَارُ مَا هُوَ تَلْوِيثٌ جُعِلَ تَطْهِيرًا ضَرُورَةً إلَى النِّيَّةِ عَلَى افْتِقَارِ مَا هُوَ تَطْهِيرٌ بِنَفْسِهِ إلَيْهَا لِعَدَمِ تَسَاوِيهِمَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ كَافْتِقَارِ إبَاحَةِ الْمَيْتَةِ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ إلَى الِاحْتِرَازِ عَنْ الِادِّخَارِ وَالْأَكْلِ فَوْقَ سَدِّ الرَّمَقِ لَا يَدُلُّ عَلَى افْتِقَارِ إبَاحَةِ الذَّكِيَّةِ إلَى ذَلِكَ لِعَدَمِ تَسَاوِيهِمَا فِي الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا يَرُدُّ عَلَيْنَا نَقْضًا فَقَالَ: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنْتُمْ عَدَّيْتُمْ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ مِنْ الْوَطْءِ الْحَلَالِ، وَهُوَ الْوَطْءُ بِالنِّكَاحِ أَوْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ إلَى الْوَطْءِ الْحَرَامِ، وَهُوَ الزِّنَا وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ تَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ وَالنِّعْمَةِ حَيْثُ تَلْحَقُ الْأَجْنَبِيَّةُ بِالْأُمِّ؛ وَلِهَذَا مَنَّ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَيْنَا بِهَذِهِ الْحُرْمَةِ بِقَوْلِهِ {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54] وَلَيْسَ بِنَظِيرِهِ أَيْ لَيْسَ الْوَطْءُ الْحَرَامُ نَظِيرَ الْحَلَالِ فِي إثْبَاتِ الْكَرَامَةِ وَاسْتِجْلَابِ النِّعْمَةِ؛ لِأَنَّ الْحَرَامَ سَبَبُ الْمَقْتِ وَالْخِذْلَانِ لَا سَبَبُ الْإِكْرَامِ وَالْإِحْسَانِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْحَرَامُ نَظِيرَهُ كَانَتْ التَّعْدِيَةُ فَاسِدَةً وَأَجَابَ بِقَوْلِهِ: فَقُلْنَا: مَا عَدَّيْنَا الْحُكْمَ مِنْ الْحَلَالِ نَفْسِهِ إلَى الْحَرَامِ بَلْ الْأَصْلُ فِي ثُبُوتِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ الْوَلَدُ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ سَائِرَ كَرَامَاتِ الْبَشَرِ مِنْ الْوِلَايَةِ وَالْمِلْكِ وَنَحْوِهِمَا اسْتَحَقَّ هَذِهِ الْكَرَامَةَ، وَهِيَ حُرْمَةُ الْمَحَارِمِ فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمَّهَاتُ أُمِّهِ وَبَنَاتُهَا إنْ كَانَ ذَكَرًا وَآبَاءُ أَبِيهِ وَأَبْنَاؤُهُ إنْ كَانَ أُنْثَى، وَلَمَّا كَانَ الْوَلَدُ مَخْلُوقًا مِنْ مَاءَيْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ تَعَدَّى إلَيْهِمَا الْحُرُمَاتُ الثَّابِتَةُ فِي حَقِّ الْوَلَدِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَاءَيْنِ لَمَّا امْتَزَجَا بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ، وَخُلِقَ مِنْهُمَا الْوَلَدُ، وَنُسِبَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهِ صَارَ مَا هُوَ جُزْءُ الْأُمِّ مِنْهُ مُضَافًا إلَى الْأَبِ بِالْبَعْضِيَّةِ وَمَا هُوَ جُزْءُ الْأَبِ مِنْهُ مُضَافًا إلَى الْأُمِّ بِالْبَعْضِيَّةِ فَثَبَتَ بَيْنَهُمَا بِوَاسِطَتِهِ نَوْعُ بَعْضِيَّةٍ وَاتِّحَادٍ كَمَا يَثْبُتُ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ بِوَاسِطَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُزْءُ أَبِيهِ حَقِيقَةً. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ كَأَنَّهُمَا صَارَا شَخْصًا وَاحِدًا يَعْنِي فِي حُصُولِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ كَزَوْجَيْ بَابٍ وَزَوْجَيْ خُفٍّ هُمَا بَابٌ وَاحِدٌ وَخُفٌّ وَاحِدٌ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِ الْمَقْصُودِ بِهِمَا جَمِيعًا وَإِذَا ثَبَتَ بَيْنَهُمَا هَذَا النَّوْعُ مِنْ الِاتِّحَادِ بِوَاسِطَتِهِ تَعَدَّتْ الْحُرُمَاتُ الثَّابِتَةُ فِي حَقِّهِ إلَيْهِمَا فَيَصِيرُ آبَاءُ الْوَطْءِ وَأَبْنَاؤُهُ فِي الْحُرْمَةِ بِمَنْزِلَةِ آبَاءِ الْمَوْطُوءَةِ وَأَبْنَائِهَا، وَأُمَّهَاتُ الْمَوْطُوءَةِ وَبَنَاتُهَا بِمَنْزِلَةِ أُمَّهَاتِ الْوَاطِئِ وَبَنَاتِهِ ثُمَّ تَعَدَّى ذَلِكَ أَيْ الْحُكْمُ الثَّابِتُ لِلْوَلَدِ، وَهُوَ إثْبَاتُ الْحُرْمَةِ الْمَذْكُورَةِ إلَى سَبَبِهِ وَهُوَ الْوَطْءُ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْعُلُوقِ أَمْرٌ بَاطِنِيٌّ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ، وَلَا يَدْرِي أَنَّ الْوَلَدَ يُخْلَقُ مِنْ مَائِهِ أَوْ مِنْ مَاءِ غَيْرِهِ فَأُقِيمَ مَا هُوَ سَبَبٌ مُفْضٍ إلَيْهِ مَقَامَهُ كَمَا أُقِيمَتْ الْخَلْوَةُ مَقَامَ الدُّخُولِ فِي تَكْمِيلِ الْمَهْرِ وَإِيجَابِ الْعِدَّةِ وَالسَّفَرِ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ فِي تَعَلُّقِ الرُّخْصِ بِهِ فَصَارَ أَيْ الْوَطْءُ عَامِلًا فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ بِمَعْنَى الْأَصْلِ، وَهُوَ الْوَلَدُ أَوْ الْجُزْئِيَّةُ الثَّابِتَةُ بَيْنَ الشَّخْصَيْنِ فَلَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُهُ أَيْ تَخْصِيصُ الْوَطْءِ الْحَلَالِ بِإِثْبَاتِ هَذَا الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى فِي نَفْسِهِ وَهُوَ الْحِلُّ وَلَا إبْطَالُ الْحُكْمِ عَنْ الْوَطْءِ الْحَرَامِ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ الْحُرْمَةُ؛ إذْ لَا أَثَرَ لِصِفَةِ الْحُرْمَةِ فِي مَنْعِ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ أُقِيمَ هَذَا السَّبَبُ مَقَامَ مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ وَلَا لِصِفَةِ الْحِلِّ فِي إثْبَاتِهِ؛ إذْ الْوَلَدُ يُوجَدُ بِالْوَطْءِ بِأَيِّ صِفَةٍ كَانَ، وَوَلَدُ

وَصَارَ هَذَا مِثْلَ قَوْلِنَا فِي الْغَصْبِ: إنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ تَبَعًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لَا أَصْلًا فَثَبَتَ بِشُرُوطِ الْأَصْلِ، فَكَانَ هَذَا الْأَصْلُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ فِي الْحُرُمَاتِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَأَمَّا النَّسَبُ فَمَا بُنِيَ عَلَى مِثْلِهِ مِنْ الِاحْتِيَاطِ فَوَجَبَ قَطْعُهُ عَنْ الِاشْتِبَاهِ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ لَا تَتَعَدَّى إلَى الْأَخَوَاتِ وَالْإِخْوَةِ وَنَحْوِهِمْ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ لَا يَعْمَلُ فِي تَعْبِيرِ الْأُصُولِ وَهُوَ امْتِدَادُ التَّحْرِيمِ وَهَذَا مِمَّا يَكْثُرُ أَمْثِلَتُهُ وَلَا تُحْصَى، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQالرَّشِيدَةِ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ وَلَا يُقَالُ: الِاتِّحَادُ إنَّمَا ثَبَتَ بِوَاسِطَةِ نِسْبَةِ الْوَلَدِ عَلَى مَا قُلْتُمْ، وَذَلِكَ فِي الْوَطْءِ الْحَلَالِ دُونَ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يُنْسَبُ إلَى الزَّانِي بِوَجْهٍ فَلَا يَصِيرُ جُزْءُ الْأُمِّ مُضَافًا إلَيْهِ فَكَيْفَ يَتَعَدَّى حُرْمَةَ أُمَّهَاتِهَا وَبَنَاتِهَا إلَيْهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إنْ لَمْ يُنْسَبْ الْوَلَدُ إلَيْهِ بِالْبُنُوَّةِ فَقَدْ نُسِبَ بِالْجُزْئِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهِ حَقِيقَةً؛ وَلِهَذَا حُرِّمَتْ الْبِنْتُ الْمَخْلُوقَةُ مِنْ الزِّنَا عَلَى الزَّانِي، وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ فِي ثُبُوتِ الِاتِّحَادِ وَتَعَدِّي الْحُرْمَةِ. عَلَى أَنَّهُ لَا فَصْلَ بَيْنَ هَذِهِ الْحُرُمَاتِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا فَمَتَى ثَبَتَ فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ لِعَدَمِ انْقِطَاعِ النِّسْبَةِ عَنْهَا شَرْعًا ثَبَتَ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ أَيْضًا ضَرُورَةَ عَدَمِ الْفَصْلِ كَذَا قِيلَ وَصَارَ هَذَا أَيْ صَيْرُورَةُ الزِّنَا سَبَبًا لِهَذِهِ الْحُرْمَةِ بِاعْتِبَارِ قِيَامِهِ مَقَامَ الْوَلَدِ مِثْلَ قَوْلِنَا فِي الْغَصْبِ: إنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ فِي الْمَغْصُوبِ لِلْغَاصِبِ مَعَ كَوْنِهِ عُدْوَانًا مَحْضًا تَبَعًا لِوُجُوبِ ضَمَانِ الْغَصْبِ الَّذِي هُوَ مَشْرُوعٌ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ بِطَرِيقِ الْجَبْرِ وَأَنَّهُ يَعْتَمِدُ الْفَوَاتَ، وَالْفَوَاتُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِزَوَالِ الْمِلْكِ فَكَانَ زَوَالُ الْمِلْكِ إلَى الْغَاصِبِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْبَدَلَ يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الضَّمَانِ وَشَرْطُ الشَّيْءِ تَبَعٌ لَهُ فَكَانَ سَبَبِيَّةُ الْغَصْبِ لِلْمِلْكِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ كَسَبَبِيَّةِ الزِّنَا لِلْحُرْمَةِ لَا بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ كَسَبَبِيَّةِ الْبَيْعِ لِلْمِلْكِ فَثَبَتَ بِشُرُوطِ الْأَصْلِ أَيْ ثَبَتَ كَوْنُ الْغَصْبِ سَبَبًا لِلْمِلْكِ بِالشَّرَائِطِ الَّتِي ثَبَتَ بِهَا الْأَصْلُ وَهُوَ وُجُوبُ الضَّمَانِ لَا بِشُرُوطِ نَفْسِهِ وَالْأَصْلُ مَشْرُوعٌ لَا عُدْوَانَ فِيهِ كَالْبَيْعِ فَلَمْ يُلْتَفَتْ بَعْدُ إلَى صِفَةِ الْعُدْوَانِ فِي التَّبَعِ كَمَا أَنَّ التَّيَمُّمَ ثَبَتَ بِشُرُوطِ وُجُوبِ التَّوَضُّؤِ خَلَفًا عَنْهُ، وَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَى كَوْنِهِ تَلْوِيثًا فِي نَفْسِهِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّا لَا نُثْبِتُ الْمِلْكَ بِالْغَصْبِ حُكْمًا لَهُ كَمَا نُوجِبُهُ بِالْبَيْعِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ الْمِلْكُ بِهِ شَرْطًا لِلضَّمَانِ الَّذِي هُوَ حُكْمُ الْغَصْبِ وَذَلِكَ الضَّمَانُ حُكْمٌ مَشْرُوعٌ كَالْبَيْعِ، وَكَوْنُ الْأَصْلِ مَشْرُوعًا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ شَرْطُهُ مَشْرُوعًا. وَقَوْلُهُ: وَكَانَ هَذَا الْأَصْلُ إلَى آخِرِهِ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: قَدْ أَقَمْتُمْ الْوَطْءَ الْحَرَامَ مَقَامَ الْوَلَدِ فِي إثْبَاتِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ، وَمَا أَقَمْتُمُوهُ مَقَامَهُ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ حَتَّى لَمْ تُثْبِتُوا النَّسَبَ بِالزِّنَا بِوَجْهٍ مَعَ أَنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهِ كَمَا يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ. فَقَالَ: هَذَا الْأَصْلُ، وَهُوَ إقَامَةُ السَّبَبِ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِيمَا بُنِيَ عَلَى الِاحْتِيَاطِ مِنْ الْحُرُمَاتِ مِثْلَ إقَامَةِ النِّكَاحِ مَقَامَ الْوَطْءِ فِي إثْبَاتِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ وَاسْتِحْدَاثِ الْمِلْكِ مَقَامَ الشَّغْلِ فِي وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ وَالنَّوْمِ مَقَامَ الْحَدَثِ فِي انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ الْمُتَضَمِّنِ لِحُرْمَةِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّارِعَ لَمَّا نَهَى عَنْ الرِّيبَةِ كَمَا نَهَى عَنْ الرِّبَا عَلِمْنَا أَنَّ الشُّبْهَةَ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فِي مَحَلِّ الِاحْتِيَاطِ، وَالسَّبَبُ دَالٌّ عَلَى الْمُسَبَّبِ فَثَبَتَ بِهِ شُبْهَةُ وُجُودِ الْمُسَبَّبِ فَقَامَ مَقَامَ حَقِيقَةِ وُجُودِهِ فِي مَحَلِّ الِاحْتِيَاطِ، فَأَمَّا النَّسَبُ فَمَا بُنِيَ عَلَى مِثْلِهِ مِنْ الِاحْتِيَاطِ؛ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - قَالَ {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَطَعَ النَّسَبَ عَنْ الزَّانِي بِقَوْلِهِ «وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَظِيرِ مَا نَحْنُ فِيهِ فِي الِاحْتِيَاطِ فَوَجَبَ قَطْعُهُ أَيْ قَطْعُ النَّسَبِ عَنْ الْوَطْءِ عِنْدَ لُزُومِ الِاشْتِبَاهِ، وَذَلِكَ فِي الزِّنَا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ رُبَّمَا يَزْنِي بِهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الرِّجَالِ، وَرُبَّمَا كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ مَعَ ذَلِكَ فَلَوْ اُعْتُبِرَ نَفْسُ الْوَطْءِ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ لَاشْتَبَهَتْ الْأَنْسَابُ وَضَاعَ النَّسْلُ وَفِيهِ مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى فَقَطَعَ الشَّرْعُ النَّسَبَ عَنْ الزَّانِي، وَلَمْ يُثْبِتْهُ إلَّا بِالْفِرَاشِ لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِالْوَطْءِ الْحَلَالِ وَهُوَ الْوَطْءُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَكَيْفَ يَثْبُتُ بِالْحَرَامِ الْمَحْضِ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَيْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَطْءَ وَالْمَوْطُوءَةَ يَصِيرَانِ بِمَنْزِلَةِ

وَلَا نَصَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّعْدِيَةَ إلَيْهِ بِمُخَالَفَةِ النَّصِّ مُنَاقِضَةٌ حُكْمَ النَّصِّ بِالتَّعْلِيلِ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَالتَّعْدِيَةُ بِمُوَافَقَةِ النَّصِّ لَغْوٌ مِنْ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ يُغْنِي عَنْ التَّعْلِيلِ وَمِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ وَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ ـــــــــــــــــــــــــــــQشَخْصٍ وَاحِدٍ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ وَتَتَعَدَّى الْحُرُمَاتُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ إلَى الْآخَرِ حَتَّى صَارَ آبَاؤُهُ وَأَبْنَاؤُهُ كَآبَائِهَا وَأَبْنَائِهَا وَعَلَى الْعَكْسِ إنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ أَيْ الْحُرْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالْبَعْضِيَّةِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ لَا تَتَعَدَّى إلَى الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ حَتَّى لَمْ يَصِرْ أَخُو الْوَاطِئِ كَأَخِي الْمَرْأَةِ، وَلَا أُخْتُ الْمَرْأَةِ كَأُخْتِهِ فِي الْحُرْمَةِ وَنَحْوِهِمْ كَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ لَا يَعْمَلُ فِي تَغْيِيرِ الْأُصُولِ، وَهُوَ امْتِدَادُ التَّحْرِيمِ يَعْنِي أَثَرَ التَّعْلِيلِ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ لَا فِي تَغْيِيرِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ فِي الْأَصْلِ وَالنَّصُّ إنَّمَا وَرَدَ بِالْحُرْمَةِ فِي الْأَصْلِ مُقْتَصِرَةً عَلَى الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ فَلَوْ أَثْبَتْنَا الْحُرْمَةَ فِي الْأَصْلِ مُمْتَدَّةً إلَى الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَنَحْوِهِمْ أَوْ فِي الْفَرْعِ مُمْتَدَّةً إلَيْهِمْ لَكَانَ التَّعْلِيلُ مُغَيِّرًا حُكْمَ النَّصِّ فِي الْأَصْلِ أَوْ فِي الْفَرْعِ وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ أَوْ الْمَعْنَى أَنَّ حُرْمَةَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَنَحْوِهِمْ ثَبَتَ فِي الْأَصْلِ مُؤَقَّتَةً بِالنِّكَاحِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا» الْحَدِيثَ فَلَوْ ثَبَتَ بِالْوَطْءِ الْحَرَامِ لَصَارَتْ مُؤَبَّدَةً فِي الْفَرْعِ؛ إذْ لَا نِكَاحَ هَا هُنَا تَتَوَقَّتُ الْحُرْمَةُ بِهِ فَكَانَ هَذَا تَعْلِيلًا مُغَيِّرًا لِحُكْمِ النَّصِّ فِي الْفَرْعِ، وَلَا عَمَلَ لِلتَّعْلِيلِ فِي تَغَيُّرِ الْأُصُولِ أَيْ أَحْكَامِهَا بِوَجْهٍ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ وَهَذَا أَيْ التَّعَدِّي إلَى مَا لَيْسَ بِنَظِيرٍ لِلْأَصْلِ مِمَّا يَكْثُرُ أَمْثِلَتُهُ كَتَعْدِيَةِ الْإِيجَابِ الْكَفَّارَةَ مِنْ جِمَاعِ الْأَهْلِ فِي رَمَضَانَ إلَى جِمَاعِ الْمَيْتَةِ وَالْبَهِيمَةِ وَتَعْدِيَةِ إيجَابِ الْحَدِّ مِنْ الزِّنَا إلَى اللِّوَاطَةِ بِالتَّعْلِيلِ وَتَعْدِيَةِ إيجَابِ الْحَدِّ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ إلَى شُرْبِ النَّبِيذِ بِعِلَّةِ الْمُخَامَرَةِ؛ لِأَنَّ الْبَهِيمَةَ وَالْمَيْتَةَ لَيْسَتْ مِثْلَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي اقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ الَّذِي تَعَلَّقَتْ الْكَفَّارَةُ بِهِ. وَكَذَا اللِّوَاطَةُ لَيْسَتْ مِثْلَ الزِّنَا فِي الْحَاجَةِ إلَى الزَّاجِرِ لِمَا مَرَّ وَكَذَا النَّبِيذُ لَيْسَ نَظِيرَ الْخَمْرِ فِي الِاحْتِيَاجِ إلَى شَرْعِ الْحَدِّ لِعَدَمِ اسْتِدْعَاءِ قَلِيلِهِ إلَى كَثِيرِهِ بِخِلَافِ الْخَمْرِ قَوْلُهُ: (وَلَا نَصَّ فِيهِ) التَّعْلِيلُ لِتَعْدِيَةِ الْحُكْمِ إلَى مَوْضِعٍ فِيهِ نَصٌّ لَا يَجُوزُ عِنْدَ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا سَوَاءٌ كَانَ وِفَاقَ النَّصِّ الَّذِي فِي الْفَرْعِ أَوْ عَلَى خِلَافِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ الَّذِي فِي الْفَرْعِ كَانَ بَاطِلًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى وِفَاقِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُثْبِتَ زِيَادَةً فِيهِ، أَوْ أَثْبَتَ زِيَادَةً لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا النَّصُّ كَانَ صَحِيحًا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُوَافِقًا لَهُ كَانَ مُؤَكِّدًا لِمُوجِبٍ، وَإِنْ كَانَ مُثْبِتًا لِزِيَادَةٍ كَانَ النَّصُّ عَنْهَا سَاكِتًا يَكُونُ بَيَانًا، وَالْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ فَيَجُوزُ التَّعْلِيلُ فَيَحْصُلُ زِيَادَةُ الْبَيَانِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ خِلَافَ مُوجِبِهِ فَيَبْطُلُ التَّعْلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ وَكُنَّا نَقُولُ: التَّعْلِيلُ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي مَحَلٍّ فِيهِ نَصٌّ، وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِلْحُكْمِ الثَّابِتِ فِيهِ بِالنَّصِّ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَمَّا ثَبَتَ بِالنَّصِّ لَا يَجُوزُ إضَافَتُهُ إلَى الْعِلَّةِ، كَمَا لَا يَجُوزُ إضَافَتُهُ فِي النَّصِّ الْمَعْلُولِ إلَى الْعِلَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ لَا يَصْلُحُ مُبْطِلًا لِحُكْمِ النَّصِّ بِالْإِجْمَاعِ. وَإِنْ كَانَ مُثْبِتًا لِزِيَادَةٍ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا النَّصُّ فَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ زِيَادَةٍ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا النَّصُّ بِمَنْزِلَةِ النَّسْخِ وَالرَّفْعِ فَإِنَّ جَمِيعَ الْحُكْمِ فِي مَوْضِعِ النَّصِّ كَانَ مَا أَثْبَتَهُ النَّصُّ وَبَعْدَ الزِّيَادَةِ يَصِيرُ بَعْضَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ نَسْخٌ فَلَا يَجُوزُ بِالرَّأْيِ. 1 - وَاخْتِيَارُ مَشَايِخِ سَمَرْقَنْدَ عَلَى مَا يُشِيرُ إلَيْهِ كَلَامُ صَاحِبِ الْمِيزَانِ أَنْ يَجُوزَ التَّعْلِيلُ عَلَى مُوَافَقَةِ النَّصِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُثْبِتَ فِيهِ زِيَادَةً، وَهُوَ الْأَشْبَهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ

وَشَرْطُ الْإِيمَانِ فِي مَصْرِفِ الصَّدَقَاتِ اعْتِبَارًا بِالزَّكَاةِ، وَمِثْلُ شَرْطِ التَّمْلِيكِ فِي طَعَامِ الْكَفَّارَاتِ وَشَرْطِ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ وَهَذَا كُلُّهُ تَعْدِيَةٌ إلَى مَا فِيهِ نَصٌّ بِتَغْيِيرِهِ بِالتَّقْيِيدِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQتَأْكِيدَ النَّصِّ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَوْلَا النَّصُّ لَكَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِالتَّعْلِيلِ، وَلَا مَانِعَ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ عَنْ تَعَاضُدِ الْأَدِلَّةِ وَتَأْكِيدِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، فَإِنَّ الشَّرْعَ قَدْ وَرَدَ بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ وَأَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةٍ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ مَلَأَ السَّلَفُ كُتُبَهُمْ بِالتَّمَسُّكِ بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُودِ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ فَقَالُوا: هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ وَلَمْ تُنْقَلْ عَنْ وَاحِدٍ فِي ذَلِكَ نَكِيرٌ فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ الْغَرِيبَ يَجِبُ قَبُولُهُ إنْ كَانَ مُوَافَقًا بِالْكِتَابِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذَا رُوِيَ لَكُمْ عَنِّي حَدِيثٌ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَمَا وَافَقَ فَاقْبَلُوهُ، وَمَا خَالَفَ فَرُدُّوهُ» وَمَعَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي قَبُولِهِ إلَّا تَأْكِيدُ دَلِيلِ الْكِتَابِ بِهِ فَكَذَا التَّعْلِيلُ عَلَى مُوَافَقَتِهِ الْكِتَابَ يَجُوزُ لِهَذِهِ الْفَائِدَةِ وَهَذَا بِخِلَافِ التَّعْلِيلِ بِعِلَّةٍ قَاصِرَةٍ حَيْثُ لَا يَجُوزُ لِفَائِدَةِ التَّأْكِيدِ؛ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ لَا يَحْصُلُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ النَّصِّ الَّذِي ثَبَتَ الْحُكْمُ بِهِ وَتَأْكِيدُ الشَّيْءِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِمَا يُسْتَفَادُ مِنْ غَيْرِهِ لَا بِمَا يُسْتَفَادُ مِنْ نَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَعْنَى التَّأْكِيدِ هَا هُنَا أَنَّهُ لَوْلَا النَّصُّ لَثَبَتَ الْحُكْمُ بِهِ، وَفِي الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ لَوْلَا النَّصُّ لَمْ يَثْبُتْ الْحُكْمُ بِهَا أَصْلًا؛ لِأَنَّهَا تُسْتَفَادُ مِنْ النَّصِّ فَتَنْعَدِمُ بِعَدَمِهِ لَا مَحَالَةَ فَثَبَتَ أَنَّ التَّعْلِيلَ بِعِلَّةٍ قَاصِرَةٍ خَالٍ عَنْ الْفَائِدَةِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ. وَمِثَالُ ذَلِكَ أَيْ مِثَالُ تَعَدِّي الْحُكْمِ إلَى مَا فِيهِ نَصٌّ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ إبْطَالَهُ أَوْ تَغَيُّرَهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ أَيْ إيجَابِهِ الْكَفَّارَةَ فِيهِمَا اعْتِبَارًا بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ وَالْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهِمَا مُتَعَلِّقَةٌ بِمَعْنَى الْجِنَايَةِ وَذَلِكَ أَكْمَلُ فِي الْعَمْدِ وَالْغَمُوسِ وَهَذَا تَعْلِيلٌ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ الْوَارِدِ فِيهِمَا وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «خَمْسٌ مِنْ الْكَبَائِرِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِنَّ وَعَدَّ مِنْهَا الْغَمُوسَ وَقَتْلَ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ» وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93] يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ جَهَنَّمُ كُلَّ جَزَائِهِ فَإِيجَابُ الْكَفَّارَةِ كَانَ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ بِالرَّأْيِ وَشَرَطَ الْإِيمَانَ فِي مَصْرِفِ الصَّدَقَاتِ شَرَطَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْإِيمَانَ فِي مَصْرِفِ الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ مِثْلَ الْكَفَّارَاتِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ اعْتِبَارًا بِمَصْرِفِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ فِيهِ شَرْطٌ بِالْإِجْمَاعِ وَقُلْنَا نُصُوصُ الْكَفَّارَاتِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِالْإِيمَانِ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُ إطْلَاقِهَا بِالتَّعْلِيلِ كَمَا لَا يَجُوزُ إبْطَالُ التَّقْيِيدِ بِهِ وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ} [الممتحنة: 8] الْآيَةَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ صَرْفِهَا إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فَكَانَ اشْتِرَاطُ الْإِيمَانِ بِالتَّعْلِيلِ مُخَالِفًا لَهُ وَإِنَّمَا شَرَطَ الْإِيمَانَ فِي مَصْرِفِ الزَّكَاةِ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ الَّذِي يُزَادُ بِمِثْلِهِ عَلَى الْكِتَابِ، وَهُوَ «قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ ثُمَّ أَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ إلَى فُقَرَائِهِمْ» وَمِثْلُ شَرْطِ التَّمْلِيكِ فِي طَعَامِ الْكَفَّارَاتِ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ شَرَطَ التَّمْلِيكَ فِيهِ اعْتِبَارًا بِالْكِسْوَةِ وَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْإِطْعَامَ جَعَلَ الْغَيْرَ طَاعِمًا وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْإِبَاحَةِ فَاشْتِرَاطُ التَّمْلِيكِ فِيهِ يَكُونُ تَقْيِيدًا لِلنَّصِّ الْوَاحِدِ فَيَكُونُ بَاطِلًا. وَشَرْطُ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ أَيْ اشْتِرَاطُ صِفَةِ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ اعْتِبَارًا بِكَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَاسِدٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ النَّصِّ الْوَارِدِ فِي الْفَرْعِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] يَقْتَضِي الْخُرُوجَ عَنْ الْعُهْدَةِ بِإِعْتَاقِ الرَّقَبَةِ الْكَافِرَةِ فَتَقْيِيدُهَا بِالْمُؤْمِنَةِ يَكُونُ تَغْيِيرًا لِمُوجِبِ هَذَا النَّصِّ بِالرَّأْيِ فَإِنَّ تَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ تَغْيِيرٌ كَإِطْلَاقِ الْمُقَيَّدِ هَذَا أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّعْلِيلِ فِي هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ كُلُّهُ أَيْ أَكْثَرُهُ تَعْدِيَةٌ إلَى مَا فِيهِ نَصٌّ بِتَغْيِيرِهِ بِالتَّقْيِيدِ وَفِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ تَعْدِيَةٌ إلَى مَا فِيهِ نَصٌّ

وَأَمَّا الشَّرْطُ الرَّابِعُ وَهُوَ أَنْ يَبْقَى حُكْمُ النَّصِّ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ التَّعْلِيلِ فَلِأَنَّ تَغْيِيرَ حُكْمِ النَّصِّ فِي نَفْسِهِ بِالرَّأْيِ بَاطِلٌ كَمَا أَبْطَلْنَاهُ فِي الْفُرُوعِ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي طَعَامِ الْكَفَّارَةِ بِشَرْطِ التَّمْلِيكِ: إنَّهُ تَغْيِيرٌ لِحُكْمِ النَّصِّ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْإِطْعَامَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يُسَمَّى لَازِمُهُ طَعْمًا، وَهُوَ الْأَكْلُ عَلَى مَا قُلْنَا، وَمِثْلُ قَوْلِهِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ: إنَّهُ لَا يُبْطِلُ الشَّهَادَةَ، وَهَذَا تَغْيِيرٌ؛ لِأَنَّ النَّصَّ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْقَذْفِ إبْطَالَ الشَّهَادَةِ حَدًّا، وَقَدْ أَبْطَلَهُ فَجَعَلَ بَعْضَ الْحَدِّ حَدًّا؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ مِنْ الْأَبَدِ بَعْضُهُ، وَأَثْبَتَ الرَّدَّ بِنَفْسِ الْقَذْفِ دُونَ مُدَّةِ الْعَجْزِ، وَهُوَ تَغْيِيرٌ وَزَادَ النَّفْيَ عَلَى الْجَلْدِ، وَهُوَ تَغْيِيرٌ وَجَعَلَ الْفِسْقَ مُبْطِلًا لِلشَّهَادَةِ وَالْوِلَايَةِ، وَهُوَ تَغْيِيرٌ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْفِسْقِ بِالنَّصِّ التَّثَبُّتُ وَالتَّوَقُّفُ دُونَ الْإِبْطَالِ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالْإِبْطَالِ. قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الشَّرْطُ الرَّابِعُ) أَيْ اشْتِرَاطُ الشَّرْطِ الرَّابِعِ، وَهُوَ أَنْ يَبْقَى حُكْمُ النَّصِّ أَيْ النَّصِّ الْمُعَلَّلِ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ التَّعْلِيلِ فَلِأَنَّ تَغْيِيرَ حُكْمِ النَّصِّ فِي نَفْسِهِ أَيْ فِي ذَاتِهِ بِالرَّأْيِ بَاطِلٌ سَوَاءٌ حَصَلَ التَّغْيِيرُ لِحُكْمِ نَصٍّ فِي الْأَصْلِ أَيْ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ أَوْ حَصَلَ التَّغْيِيرُ لِحُكْمِ نَصٍّ فِي الْفَرْعِ كَالْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا نَصَّ فِيهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ كَمَا أَبْطَلْنَاهُ فِي الْفُرُوعِ وَالضَّمِيرُ فِي نَفْسِهِ وَأَبْطَلْنَاهُ رَاجِعٌ إلَى التَّغْيِيرِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ تَغْيِيرَ حُكْمِ النَّصِّ الْمُعَلَّلِ فِي نَفْسِهِ بَاطِلٌ بِالرَّأْيِ كَمَا أَنَّ تَغْيِيرَ حُكْمِ نَصِّ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ بَاطِلٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي ظِهَارِ الذِّمِّيِّ وَالسَّلَمِ الْحَالِّ وَجَرَيَانِ الرِّبَا فِيمَا لَا مِعْيَارَ لَهُ. وَذَلِكَ أَيْ تَغْيِيرُ حُكْمِ الْأَصْلِ فِيمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى مَا قُلْنَا أَيْ فِي بَابِ الْوَقْفِ عَلَى أَحْكَامِ النَّظْمِ أَوْ فِي بَيَانِ الشَّرْطِ الثَّالِثِ وَمِثْلُ قَوْلِهِ أَيْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي حَدِّ الْقَذْفِ أَنَّهُ لَا يُبْطِلُ الشَّهَادَةَ حَتَّى لَوْ تَابَ كَانَ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ مَحْدُودٌ فِي كَبِيرَةٍ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ قِيَاسًا عَلَى الْمَحْدُودِ وَفِي سَائِرِ الْجَرَائِمِ كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَهَذَا أَيْ قَوْلُهُ: إنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يُبْطِلُ الشَّهَادَةَ تَغْيِيرٌ لِحُكْمِ النَّصِّ؛ لِأَنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْقَذْفِ إبْطَالَ الشَّهَادَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْبِيدِ حَدًّا؛ وَلِهَذَا فُوِّضَ إلَى الْأَئِمَّةِ، وَهُوَ يَصْلُحُ حَدًّا؛ لِأَنَّهُ إيلَامٌ مَعْنَوِيٌّ بِإِخْرَاجِ شَهَادَتِهِ مِنْ الِاعْتِبَارِ كَالْجَلْدِ يَصْلُحُ حَدًّا؛ لِأَنَّهُ إيلَامٌ ظَاهِرًا وَقَدْ أَبْطَلَهُ أَيْ أَبْطَلَ الشَّافِعِيُّ هَذَا الْحُكْمَ فَجَعَلَ بَعْضَ الْحَدِّ حَدًّا؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ مِنْ الْأَبَدِ بَعْضُهُ يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ شَهَادَتَهُ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وَقَبِلَهَا بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَالنَّصُّ يَقْتَضِي رَدَّ شَهَادَتِهِ فِي كِلَا الْحَالَيْنِ، فَيَكُونُ اقْتِصَارُ عَدَمِ الْقَبُولِ عَلَى مَا قَبْلَ التَّوْبَةِ جَعْلَ بَعْضَ الْحَدِّ حَدًّا؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ أَيْ الْوَقْتَ الْمُعَيَّنَ، وَهُوَ الزَّمَانُ الَّذِي قَبْلَ التَّوْبَةِ مِنْ الْأَبَدِ بَعْضُهُ فَيَكُونُ هَذَا تَغْيِيرًا لِمُوجِبِ النَّصِّ وَهَذَا الْكَلَامُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا جَعَلَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَدَّ الشَّهَادَةِ قَبْلَ التَّوْبَةِ بِطَرِيقِ الْحَدِّ، وَلَيْسَ مِنْ مَذْهَبِهِ ذَلِكَ بَلْ الشَّهَادَةُ مَرْدُودَةٌ عِنْدَهُ قَبْلَ التَّوْبَةِ لِلْفِسْقِ. فَالْأَوْلَى مَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّ الْقَاذِفَ سَاقِطُ الشَّهَادَةِ بِالنَّصِّ أَبَدًا عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ ذَلِكَ مُتَمِّمًا لِحَدِّهِ، وَبَعْدَهُ التَّعْلِيلُ يَتَغَيَّرُ هَذَا الْحُكْمُ، فَإِنَّ الْجَلْدَ قَبْلَ هَذَا التَّعْلِيلِ كَانَ بَعْضَ الْحَدِّ فِي حَقِّهِ، وَبَعْدَهُ يَكُونُ تَمَامُ الْحَدِّ فَيَكُونُ تَغْيِيرًا عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا فِي التَّغْرِيبِ: إنَّ الْجَلْدَ إذَا لَمْ يُضَمَّ إلَيْهِ التَّغْرِيبُ يَكُونُ حَدًّا كَامِلًا وَإِذَا ضُمَّ إلَيْهِ يَكُونُ بَعْضَ الْحَدِّ وَأَثْبَتَ الرَّدَّ بِنَفْسِ الْقَذْفِ يَعْنِي أَثْبَتَ الشَّافِعِيُّ رَدَّ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ بِنَفْسِ الْقَذْفِ بِدُونِ اعْتِبَارِ مُدَّةِ الْعَجْزِ عَنْ الْإِتْيَانِ بِالشُّهُودِ حَتَّى لَوْ شَهِدَ قَبْلَ تَحَقُّقِ الْعَجْزِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْجَرَائِمِ لِلشَّهَادَةِ كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنَّهُ إذَا ارْتَكَبَ كَبِيرَةً يَصِيرُ سَاقِطَ الشَّهَادَةِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى مُضِيِّ زَمَانٍ وَهُوَ تَغْيِيرٌ أَيْ إثْبَاتُ الرَّدِّ بِنَفْسِ الْقَذْفِ تَغْيِيرٌ لِمُوجِبِ النَّصِّ فَإِنَّهُ - تَعَالَى - قَالَ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] رَتَّبَ الرَّدَّ عَلَى الْقَذْفِ وَعَدَمِ الْإِتْيَانِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ كَمَا رَتَّبَ الْجَلْدَ عَلَيْهِمَا، وَالْعَجْزُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِمُضِيِّ مُدَّةٍ فَإِثْبَاتُ الرَّدِّ بِدُونِ مُدَّةِ الْعَجْزِ يَكُونُ تَغْيِيرًا لِمُوجِبِ النَّصِّ كَإِثْبَاتِ الْجَلْدِ بِدُونِ اعْتِبَارِ الْعَجْزِ، وَزَادَ النَّفْيَ عَلَى الْجَلْدِ فِي زِنَا الْبِكْرِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ صَالِحٌ لِلْمَنْعِ مِنْ الزِّنَا كَالْجَلْدِ، وَهُوَ تَغْيِيرٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - جَعَلَ الْجَلْدَ كُلَّ الْحَدِّ بِقَوْلِهِ {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ؛ إذْ الْفَاءُ تَدْخُلُ عَلَى الْأَجْزِئَةِ، وَالْجَزَاءُ اسْمٌ لِلْكَافِي فَمَتَى زِيدَ عَلَيْهِ النَّفْيُ لَا يَكُونُ بِنَفْسِهِ كَافِيًا فَيَكُونُ تَغْيِيرًا لِلنَّصِّ ثُمَّ إنَّهُ

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَنْتُمْ غَيَّرْتُمْ حُكْمَ النَّصِّ بِالتَّعْلِيلِ فِي مَسَائِلَ: مِنْهَا أَنَّ نَصَّ الرِّبَا يَعُمُّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ» ـــــــــــــــــــــــــــــQوَإِنْ زَادَ النَّفْيُ فِي الْحَقِيقَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبٌ» لَا بِالْقِيَاسِ إلَّا أَنَّ التَّغْيِيرَ كَمَا لَا يَجُوزُ بِالتَّعْلِيلِ لَا يَجُوزُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِلْكِتَابِ كَالْقِيَاسِ فَأَوْرَدَهُ الشَّيْخُ فِي هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ عَلَى سَبِيلِ اسْتِطْرَادٍ وَجَعَلَ الْفِسْقَ مُبْطِلًا لِلشَّهَادَةِ حَتَّى لَا يَنْعَقِدَ النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ الْفُسَّاقِ وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ عِنْدَهُ اعْتِبَارًا بِالْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ وَالْوِلَايَةِ حَتَّى إنَّهُ لَمْ يَصْلُحْ لِلْقَضَاءِ بِوَجْهٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةُ تَزْوِيجِ بِنْتِهِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْفِسْقَ نَقْصٌ يُؤَثِّرُ فِي الشَّهَادَةِ فَيَمْنَعُ وِلَايَةَ الْإِنْكَاحِ كَالرِّقِّ وَهُوَ تَغْيِيرٌ لِحُكْمِ النَّصِّ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ بِالنَّصِّ فِي حَقِّ الْفَاسِقِ التَّثَبُّتُ وَالتَّوَقُّفُ فِي خَبَرِهِ لَا الْإِبْطَالُ، وَبَعْدَمَا نُعَيَّنُ جِهَةَ الْبُطْلَانِ فِيهِ لَا يَبْقَى التَّوَقُّفُ فَحُكْمُ النَّصِّ بَعْدَ التَّعْلِيلِ لَا يَبْقَى عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ. 1 - وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمْثِلَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذَا الْفَصْلِ لَيْسَتْ بِمُلَائِمَةٍ؛ لِأَنَّ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ تَغْيِيرَ حُكْمِ النَّصِّ الَّذِي فِي الْفَرْعِ لَا يُعْتَبَرُ حُكْمُ النَّصِّ الْمُعَلَّلِ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ فَإِنَّ فِي طَعَامِ الْكَفَّارَةِ لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُ النَّصِّ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْكِسْوَةُ وَفِي قَبُولِ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ أَيْضًا. وَكَذَا الْبَوَاقِي فَالنَّظِيرُ الْمُلَائِمُ مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْحَجِّ فِي بَابِ جَزَاءِ الصَّيْدِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَلْحَقَ السِّبَاعَ الَّتِي لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا بِالْخَمْسِ الْفَوَاسِقِ حَتَّى لَوْ قَتَلَ الْمُحْرِمُ شَيْئًا مِنْهَا ابْتِدَاءً لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنَّمَا اسْتَثْنَى الْخَمْسَ؛ لِأَنَّ مِنْ طَبْعِهِنَّ الْإِيذَاءَ وَكُلُّ مَا يَكُونُ مِنْ طَبْعِهِ الْإِيذَاءُ كَانَ مُسْتَثْنًى مِنْ النَّصِّ بِمَنْزِلَةِ الْخَمْسِ وَقُلْنَا: هَذَا تَعْلِيلٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَا الِاسْتِثْنَاءَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْإِيذَاءِ خَرَجَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحْصُورًا بِعَدَدِ الْخَمْسِ فَكَانَ تَغَيُّرًا لِحُكْمِ النَّصِّ الْمُعَلَّلِ بِالتَّعْلِيلِ. وَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ لِلنَّظَرِ، وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْحَاجَةِ إلَى مُدَّةِ النَّظَرِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُفَوَّضًا إلَى رَأْيِهِمْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا تَعْلِيلٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حُكْمِ النَّصِّ، وَهُوَ التَّقْدِيرُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَمْ يَكُنْ تَعْدِيَةً لِحُكْمِ النَّصِّ مَعَ أَنَّ هَذِهِ مُدَّةٌ تَامَّةٌ صَالِحَةٌ لِاسْتِيفَاءِ النَّظَرِ وَدَفْعِ الْمُعَيَّنِ، فَإِذَا زِيدَتْ الْمُدَّةُ ازْدَادَ الْخَطَرُ مَعَ قِلَّةِ الْحَاجَةِ إلَى النَّظَرِ وَذَكَرَ الشَّيْخُ فِي بُيُوعِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَيْضًا أَنَّ عَبْدًا أَبَقَ فَقَالَ رَجُلٌ: إنَّ عَبْدَك قَدْ أَخَذَهُ فُلَانٌ فَبِعْنِيهِ وَصَدَّقَهُ فُلَانٌ فَبَاعَهُ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ بَيْعِ الْآبِقِ، وَإِنْ كَانَ مُعَلَّلًا بِالْمُعْجِزِ عَنْ التَّسْلِيمِ إلَّا أَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا بَيْعَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ لَكَانَ التَّعْلِيلُ مُبْطِلًا لِلنَّصِّ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَبْدَ آبِقٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَالْحُكْمُ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ لَا بِمَعْنَاهُ وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ تَعْلِيلَ حُرْمَةِ الرِّبَا فِي الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ بِالْقُوتِ كَمَا قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لِاقْتِضَائِهِ عَدَمَ الْحُكْمِ فِي الْمِلْحِ. ثُمَّ ذَكَرَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - النُّقُوضَ الْوَارِدَةَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَعَ أَجْوِبَتِهَا فَقَالَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَنْتُمْ غَيَّرْتُمْ حُكْمَ النَّصِّ بِالتَّعْلِيلِ فِي مَسَائِلَ فَقَدْ وَقَعْتُمْ فِيمَا أَبَيْتُمْ مِنْهَا أَنَّ نَصَّ الرِّبَا يَعُمُّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ» يَعْنِي هَذَا النَّصُّ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَيُوجِبُ الْحُرْمَةَ فِي الْقَلِيلِ الَّذِي لَا يُكَالُ كَمَا يُوجِبُهَا فِي الْكَثِيرِ الَّذِي يُكَالُ وَبَعْدَمَا عَلَّلْتُمُوهُ بِالْكَيْلِ وَالْجِنْسِ وَعَلَّقْتُمْ الْحُرْمَةَ بِصِفَةِ الْكَيْلِ لَمْ يَبْقَ النَّصُّ مُتَنَاوِلًا لِلْقَلِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَكِيلٍ فَكَانَ تَغْيِيرًا

فَخَصَّصْتُمْ مِنْهَا الْقَلِيلَ بِالتَّعْلِيلِ، وَالنَّصُّ أَوْجَبَ الشَّاةَ فِي الزَّكَاةِ بِصُورَتِهَا، وَمَعْنَاهُ فَأَبْطَلْتُمْ الْحَقَّ عَنْ صُورَتِهَا بِالتَّعْلِيلِ، وَالْحَقُّ الْمُسْتَحَقُّ مُرَاعًى بِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهَا، كَمَا فِي حُقُوقِ النَّاسِ، وَأَوْجَبَ النَّصُّ الزَّكَاةَ لِلْأَصْنَافِ الْمُسَمَّيْنَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} [التوبة: 60] وَقَدْ أَبْطَلْتُمُوهُ بِجَوَازِ الصَّرْفِ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ بِطَرِيقِ التَّعْلِيلِ، وَأَوْجَبَ الشَّرْعُ التَّكْبِيرَ لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ وَعَيَّنَ الْمَاءَ لِغَسْلِ الْعَيْنِ النَّجَسِ، وَقَدْ أَبْطَلْتُمْ هَذِهِ الْوَاجِبَ بِالتَّعْلِيلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِمُوجَبِهِ بِالتَّعْلِيلِ لَا تَعْدِيَةً لِحُكْمِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَخَصَّصْتُمْ مِنْهَا أَيْ مِنْ الْحِنْطَةِ؛ إذْ الْمُرَادُ مِنْ الطَّعَامِ الْحِنْطَةُ، وَدَقِيقُهَا فِي الْعُرْفِ الْقَلِيلُ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَدْخُلْ فِي الْكَيْلِ بِالتَّعْلِيلِ وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِكُمْ: إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَأَنَّهُ اسْتَثْنَى الْمَكِيلَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ التَّسَاوِي هُوَ الْمُسَاوَاةُ فِي الْكَيْلِ فَكَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ هُوَ الْمَكِيلَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ وَالْمُسْتَثْنَى الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ أَيْضًا فَكَانَ الْجِنْسُ وَاحِدًا إلَّا أَنَّهُ قِيلَ حَرَامٌ بَيْعُ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ إلَّا أَنْ يُوجَدَ الْمُخَلِّصُ، وَهُوَ التَّسَاوِي بِمِعْيَارِهِ فَكَانَ الْمُسْتَثْنَى بَيْعَ طَعَامٍ بِطَعَامٍ حَالَةَ التَّسَاوِي، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بَيْعُ طَعَامٍ بِطَعَامٍ حَالَةَ عَدَمِ التَّسَاوِي لَا أَنْ يُقَالَ: الْمُسْتَثْنَى مَكِيلٌ، فَإِنَّ بَيْعَ الْمَكِيلِ مِنْهُ بِجِنْسِهَا حَرَامٌ كَذَلِكَ مَا لَمْ يَتَسَاوَيَا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُسْتَثْنَى بَيْعُ طَعَامٍ بِطَعَامٍ إذَا تَسَاوَيَا إلَّا أَنَّ التَّسَاوِيَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالْمِعْيَارِ لَا بِمَا سِوَاهُ مِنْ الْمِقْدَارِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ. وَمِنْهَا أَنَّ النَّصَّ أَوْجَبَ الشَّاةَ فِي الزَّكَاةِ بِصُورَتِهَا وَمَعْنَاهَا لِلْفَقِيرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَوْجَبَ الصَّدَقَةَ لِلْفُقَرَاءِ مُجْمَلَةً، وَفَسَّرَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ وَفِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» وَأَمْثَالُهُمَا فَصَارَ كَأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى قَالَ: إنَّمَا الشَّاةُ لِلْفَقِيرِ فَصَارَتْ الشَّاةُ مُسْتَحَقَّةً بِصُورَتِهَا وَمَعْنَاهَا لَهُ كَالدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ لِلشَّفِيعِ وَأَنْتُمْ أَبْطَلْتُمْ أَيْ أَسْقَطْتُمْ الْحَقَّ عَنْ صُورَةِ الشَّاةِ بِالتَّعْلِيلِ بِالْمَالِيَّةِ وَهُوَ تَغْيِيرٌ لِمُوجِبِ النَّصِّ لَا تَعْدِيَةٌ لِحُكْمِهِ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ كَانَتْ هِيَ الْوَاجِبَةَ عَيْنًا قَبْلَ التَّعْلِيلِ بِحَيْثُ لَا يَسَعُهُ تَرْكُهَا إلَى غَيْرِهَا وَبَعْدَهُ، وَلَمْ تَبْقَ وَاجِبَةً؛ لِأَنَّهُ يَسَعُهُ تَرْكُهَا إلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ الْقِيمَةُ فَكَانَ هَذَا مِثْلَ نَقْلِ حَقِّ الشَّفِيعِ مِنْ الدَّارِ إلَى الثَّوْبِ بِالتَّعْلِيلِ، وَمِثْلَ تَعْلِيلِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بِعِلَّةِ الْخُضُوعِ لِلتَّعْدِيَةِ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ، وَهُوَ إقَامَةُ الْحَدِّ مَقَامَ الْجَبْهَةِ، أَوْ إقَامَةُ الرُّكُوعِ مَقَامَ السُّجُودِ وَالْحَقُّ الْمُسْتَحَقُّ مُرَاعًى بِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ يَعْنِي قَدْ اسْتَحَقَّ الْفَقِيرُ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ الشَّاةَ بِالنَّصِّ، وَالْحَقُّ الْمُسْتَحَقُّ وَاجِبُ الرِّعَايَةِ صُورَةً وَمَعْنًى، كَمَا فِي سَائِرِ حُقُوقِ الْعِبَادِ، فَاسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ لِإِبْطَالِ الْحَقِّ عَنْ الصُّورَةِ أَوْ الْمَعْنَى كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِتَعْدِيَةِ حُكْمِ الشَّرْعِ لَا لِنَقْلِ الْحَقِّ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ. وَمِنْهَا أَنَّ النَّصَّ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ لِلْأَصْنَافِ الْمُسَمَّيْنَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْيَاءِ بِقَوْلِهِ أَيْ فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] وَلَوْ قِيلَ: الشَّرْعُ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ إلَى آخِرِهِ لَكَانَ أَحْسَنَ أُضِيفَتْ الصَّدَقَاتُ إلَيْهِمْ بِاللَّامِ، وَهِيَ لِلتَّمْلِيكِ لُغَةً فَكَانَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ لِلْقِسْمَةِ بِأَنْ جَعَلَهَا حَقًّا لَهُمْ، وَجَعَلَهُمْ مُسْتَحَقِّينَ لِلتَّمَلُّكِ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَلِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَمْ يَرْضَ لِقِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ بِمَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلَا نَبِيٍّ مُرْسَلٍ حَتَّى قَسَمَ بِنَفْسِهِ فَوْقَ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ» فَبَيَّنَ أَنَّ الْإِضَافَةَ لِلْقِسْمَةِ بَيْنَهُمْ ثُبُوتًا أَيْ الْحَقُّ الْوَاجِبُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ وُجُوبًا لَا يَخْتَصُّ بِهِ صِنْفٌ مِنْهُمْ فَثَبَتَ أَنَّ حُكْمَ النَّصِّ جَعَلَهَا مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَنْتُمْ أَبْطَلْتُمْ الشَّرِكَةَ، وَحَقَّ سَائِرِ الْأَصْنَافِ بِتَجْوِيزِ الصَّرْفِ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ بَلْ إلَى فَقِيرٍ وَاحِدٍ بِالتَّعْلِيلِ، وَأَنَّهُ خِلَافُ مُوجِبِ النَّصِّ لَا تَعْدِيَةً لِحُكْمِهِ، وَمِنْهَا أَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ التَّكْبِيرَ لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا

وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا وَهَمٌ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمَخْصُوصَ إنَّمَا ثَبَتَ بِصِيغَةِ النَّصِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ إنَّمَا يَثْبُتُ عَلَى وَفْقِ الْمُسْتَثْنَى فِيمَا اسْتَثْنَى مِنْ النَّفْيِ كَمَا قَالَ فِي الْجَامِعِ إنْ كَانَ فِي الدَّارِ إلَّا زَيْدٌ فَعَبْدِي حُرٌّ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بَنُو آدَمَ وَلَوْ قَالَ: إلَّا حِمَارٌ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْحَيَوَانَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى حَيَوَانٌ، وَلَوْ قَالَ: إلَّا مَتَاعٌ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ وَهُنَا اسْتَثْنَى الْحَالَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ» وَاسْتِثْنَاءُ الْحَالِ مِنْ الْأَعْيَانِ بَاطِلٌ فِي الْحَقِيقَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ عُمُومُ صَدْرِهِ فِي الْأَحْوَالِ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ، وَهُوَ حَالُ التَّسَاوِي وَالتَّفَاضُلِ وَالْمُجَازَفَةِ ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْهُ حَالَ التَّسَاوِي، وَلَنْ يَثْبُتَ اخْتِلَافُ الْأَحْوَالِ إلَّا فِي الْكَثِيرِ فَصَارَ التَّغْيِيرُ بِالنَّصِّ مُصَاحَبًا بِالتَّعْلِيلِ لَا بِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّكْبِيرُ» ، «وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ إذَا أَرَدْت الصَّلَاةَ فَتَطَهَّرْ كَمَا أَمَرَك اللَّهُ - تَعَالَى، ثُمَّ اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ ثُمَّ قُلْ: اللَّهُ أَكْبَرُ» وَأَنْتُمْ بِالتَّعْلِيلِ بِالثَّنَاءِ وَذِكْرِ اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ غَيَّرْتُمْ هَذَا الْحُكْمَ فِي الْمَنْصُوصِ حَيْثُ جَوَّزْتُمْ افْتِتَاحَ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ لَفْظِ التَّكْبِيرِ مِثْلَ قَوْلِهِ: اللَّهُ أَجَلُّ أَوْ الرَّحْمَنُ أَعْظَمُ. وَمِنْهَا أَنَّ الشَّرْعَ عَيَّنَ الْمَاءَ لِغَسْلِ الثَّوْبِ النَّجَسِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ وَقَدْ غَيَّرْتُمْ - بِالتَّعْلِيلِ بِكَوْنِهِ مُزِيلًا لِلْعَيْنِ وَالْأَثَرِ - هَذَا الْحُكْمَ حَيْثُ جَوَّزْتُمْ تَطْهِيرَ الثَّوْبِ النَّجَسِ بِاسْتِعْمَالِ سَائِرِ الْمَائِعَاتِ سِوَى الْمَاءِ مِثْلَ الْخَلِّ وَمَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِمَا. 1 - قَوْلُهُ: (وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا) أَيْ مَا زَعَمْتَ أَنَّا غَيَّرْنَا النَّصَّ بِالتَّعْلِيلِ وَهْمٌ أَيْ شَيْءٌ ذَهَبَ إلَيْهِ قَلْبُك مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ أَمَّا الْأَوَّلُ، وَهُوَ نَصُّ الرِّبَا فَلِأَنَّ الْخُصُوصَ إنَّمَا يَثْبُتُ فِيهِ بِصِيغَةِ النَّصِّ لَا بِالتَّعْلِيلِ وَذَلِكَ أَيْ ثُبُوتُ الْخُصُوصِ بِالصِّيغَةِ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ يَعْنِي إذَا لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ عَلَى وَفْقِ الْمُسْتَثْنَى مِنْ النَّفْيِ أَيْ الْمَنْفِيِّ؛ لِأَنَّ حَذْفَ الْمُسْتَثْنَى فِي النَّفْيِ جَائِزٌ بِعِلَّةِ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى يَدُلُّ عَلَى الْمَحْذُوفِ، وَإِذَا صَحَّ حَذْفُهُ وَجَبَ إثْبَاتُهُ عَلَى وَفْقِ الْمُسْتَثْنَى تَحْقِيقًا لِلِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْجِنْسِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالنَّفْيِ؛ لِأَنَّ حَذْفَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي الْإِثْبَاتِ لَا يَجُوزُ لَا تَقُولُ: جَاءَنِي إلَّا زَيْدًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ كَمَا قُدِّرَ فِي النَّفْيِ يَكُونُ اسْتِثْنَاءُ الْوَاحِدِ مِنْ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ النَّكِرَةَ فِي الْإِثْبَاتِ تَخُصُّ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ بِخِلَافِ النَّفْيِ؛ لِأَنَّ النَّكِرَةَ فِيهِ تَعُمُّ فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءُ الْوَاحِدِ مِنْ الْعَامِّ وَلَوْ أَضْمَرَ فِيهِ الْقَوْمَ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: جَاءَنِي الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا لَا يَصِحُّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ مَجْهُولَةٌ وَلَوْ قُدِّرَ فِيهِ أَعَمُّ الْعَامِّ وَهُوَ جَمِيعُ النَّاسِ لَمْ يَصِحَّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَجِيءَ جَمِيعِ النَّاسِ عِنْدَهُ سِوَى زَيْدٍ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فَثَبَتَ أَنَّ حَذْفَهُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي النَّفْيِ كَمَا قَالَ أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ: إنْ كَانَ فِي الدَّارِ إلَّا زَيْدٌ فَعَبْدِي حُرٌّ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بَنِي آدَمَ أَيْ إنْ كَانَ فِي الدَّارِ أَحَدٌ مِنْ آدَمَ فَكَذَا حَتَّى لَوْ كَانَ فِيهَا صَبِيٌّ أَوْ امْرَأَةٌ يَحْنَثُ وَلَوْ كَانَ فِيهَا دَابَّةٌ، أَوْ مَتَاعٌ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ أَوْ الْعَرَضَ لَا يُجَانِسُ الْمُسْتَثْنَى فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْيَمِينِ. وَلَوْ قَالَ إلَّا حِمَارٌ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْحَيَوَانَ أَيْ الْحَيَوَانَ الَّذِي يُقْصَدُ بِالسُّكْنَى حَتَّى لَوْ كَانَ فِيهَا إنْسَانٌ أَوْ شَاةٌ حَنِثَ، وَلَوْ كَانَ فِيهَا مَتَاعٌ لَمْ يَحْنَثْ وَلَوْ قَالَ: إلَّا مَتَاعٌ أَيْ ثَوْبٌ فَإِنَّ الْمَتَاعَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا يُتَمَتَّعُ بِهِ، وَفِي الْعُرْفِ صَارَ عِبَارَةً عَنْ الثَّوْبِ كَذَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي، وَصَرَّحَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ بِذِكْرِ لَفْظِ الثَّوْبِ فَقَالَ: وَلَوْ كَانَ قَالَ: إلَّا ثَوْبٌ، وَهَكَذَا فِي الْجَامِعِ أَيْضًا كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْ كُلَّ شَيْءٍ يُقْصَدُ بِالسُّكْنَى وَالْإِمْسَاكِ فِي الدُّورِ حَتَّى لَوْ كَانَ فِيهَا إنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ أَوْ شَيْءٌ سِوَى الثَّوْبِ مِمَّا يُقْصَدُ بِالْإِمْسَاكِ فِي الدُّورِ يَحْنَثُ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ سَوَاكِنِ الْبُيُوتِ مِثْلُ الْفَأْرَةِ وَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ لَا يَحْنَثُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْحَالِفَ لَمْ يَقْصِدْ نَفْيَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِيَمِينِهِ عَنْ الدَّارِ فَيَثْبُتُ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا يَقْدِرُ عَلَى وَفْقِ الْمُسْتَثْنَى. وَهَا هُنَا اسْتَثْنَى الْحَالَ بِقَوْلِهِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ إذْ الْمُرَادُ مِنْهُ حَالَ تَسَاوِيهِمَا فِي الْكَيْلِ، وَالْمَذْكُورُ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ هُوَ الْعَيْنُ وَاسْتِثْنَاءُ الْحَالِ مِنْ الْأَعْيَانِ بَاطِلٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ الصِّحَّةَ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ بِأَنْ يَجْعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعًا وَلَكِنَّ الْمَجَازَ خِلَافُ الْأَصْلِ فَدَلَّ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ

وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَلَيْسَ فِيهَا حَقٌّ وَاجِبٌ لِلْفَقِيرِ يَتَغَيَّرُ بِالنَّصِّ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ فَلَا تَجِبُ لِلْعِبَادِ بِوَجْهٍ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا سَقَطَ حَقُّهُ فِي الصُّورَةِ بِإِذْنِهِ بِالنَّصِّ لَا بِالتَّعْلِيلِ؛ لِأَنَّهُ وَعَدَ أَرْزَاقَ الْفُقَرَاءِ ثُمَّ أَوْجَبَ مَالًا مُسَمًّى عَلَى الْأَغْنِيَاءِ لِنَفْسِهِ ثُمَّ أَمَرَ بِإِنْجَازِ الْمَوَاعِيدِ مِنْ ذَلِكَ الْمُسَمَّى، وَذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُهُ مَعَ اخْتِلَافِ الْمَوَاعِيدِ إلَّا بِالِاسْتِبْدَالِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَمْ يَقَعْ عَمَّا تَنَاوَلَهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ؛ إذْ لَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ عَنْهُ لَقِيلَ إلَّا الْحِنْطَةَ أَوْ الشَّعِيرَ أَوْ التُّفَّاحَ أَوْ نَحْوَهَا بَلْ عَمَلٌ يَضْمَنُ اللَّفْظَ مِنْ أَحْوَالِ الْبَيْعِ فَوَجَبَ أَنْ يُثْبِتَ عُمُومَ صَدْرِهِ أَيْ صَدْرِ الْكَلَامِ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ أَيْ بِدَلَالَةِ اسْتِثْنَاءِ الْحَالِ كَمَا فِي قَوْلِك: مَا أَتَانِي زَيْدٌ إلَّا رَاكِبًا أَيْ مَا أَتَانِي فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِ إلَّا عَلَى حَالَةِ الرُّكُوبِ وَكَمَا فِي التَّنْزِيلِ {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى} [التوبة: 54] أَيْ لَا يَأْتُونَهَا فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ إلَّا فِي حَالَةِ الْكَسَلِ {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب: 53] أَيْ لَا تَدْخُلُوهَا فِي الْأَحْوَالِ إلَّا حَالَةَ الْإِذْنِ وَهُوَ أَيْ عُمُومُ الْأَحْوَالِ حَالَ التَّسَاوِي وَالتَّفَاضُلِ وَالْمُجَازَفَةِ؛ إذْ لَا حَالَةَ لِبَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ سِوَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ. وَلَنْ يَثْبُتَ هَذِهِ الْأَحْوَالُ الْمُخْتَلِفَةُ إلَّا فِي الْكَثِيرِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ التَّسَاوِي هُوَ الْمُسَاوَاةُ فِي الْكَيْلِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالتَّفَاضُلُ عِبَارَةٌ عَنْ فَضْلٍ عَلَى أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ كَيْلًا، وَالْمُجَازَفَةُ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْمُسَاوَاةِ وَالْمُفَاضَلَةِ فَكَانَ آخِرُ هَذَا الْكَلَامِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ أَوَّلَهُ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْقَلِيلَ فَصَارَ التَّغْيِيرُ بِالنَّصِّ أَيْ حَاصِلًا بِالنَّصِّ يَعْنِي حَصَلَ تَغْيِيرُ أَوَّلِ الْكَلَامِ عَنْ الْعُمُومِ إلَى الْخُصُوصِ بِالنَّصِّ أَيْ بِدَلَالَتِهِ مُصَاحِبًا لِلتَّعْلِيلِ أَيْ مُوَافِقًا لَهُ وَهُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ صَارَ، وَالتَّقْدِيرُ فَصَارَ التَّغْيِيرُ الْحَاصِلُ بِالنَّصِّ مُصَاحِبًا، أَوْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ يَعْنِي تَعْلِيلُنَا بِالْكُلِّيَّةِ وَافَقَ التَّغْيِيرَ الَّذِي حَصَلَ بِدَلَالَةِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي هَذَا النَّصِّ فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَلِيلَ لَيْسَ بِمُرَادٍ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ وَتَعْلِيلُنَا بِالْكَيْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَلِيلَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلرِّبَا فَتَوَافَقَا أَنَّ التَّغْيِيرَ حَصَلَ بِالتَّعْلِيلِ عَلَى مَا زَعَمْت وَبَاقِي الْكَلَامِ مَذْكُورٌ فِي فَصْلِ الِاسْتِثْنَاءِ. قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَلَيْسَ فِيهَا حَقٌّ وَاجِبٌ لِلْفَقِيرِ يَتَغَيَّرُ بِالتَّعْلِيلِ) أَيْ مَا أَبْطَلْنَا بِالتَّعْلِيلِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا لِلْفَقِيرِ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَيْسَتْ بِحَقٍّ لِلْفَقِيرِ وَاعْلَمْ أَنَّ لِمَشَايِخِنَا فِي جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَيْنِ أَحَدَهُمَا أَنَّا مَا أَبْطَلْنَا الْحَقَّ الْمُسْتَحَقَّ عَنْ عَيْنِ الشَّاةِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْفَقِيرِ فِي صُورَةِ الشَّاةِ، وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي مَالِيَّتِهَا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جَعَلَ الْإِبِلَ ظَرْفًا لِلشَّاةِ بِقَوْلِهِ «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ» وَعَيْنُهَا لَا تُوجَدُ فِي الْإِبِلِ وَإِنَّمَا يُوجَدُ فِيهَا مَالِيَّةُ الشَّاةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ أَرَادَ بِالشَّاةِ مَالِيَّتَهَا إلَّا أَنَّ الْمَالِيَّةَ بَعْضُ الشَّاةِ فَكُنِّيَ بِذِكْرِ الْكُلِّ عَنْ الْبَعْضِ فَلَمْ يَكُنْ فِي تَعْلِيلِنَا إبْطَالُ حَقِّ الْفَقِيرِ عَنْ صُورَةِ الشَّاةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَدَّى وَاحِدًا مِنْهَا جَازَ بِالْإِجْمَاعِ. وَلَوْ كَانَ حَقُّهُ مُتَعَلِّقًا بِالصُّورَةِ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ كَمَا لَوْ أَدَّى عَنْ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ عَلَى أَصْلِ الْخَصْمِ وَالثَّانِي وَإِلَيْهِ مَالَ الشَّيْخُ وَأَكْثَرُ الْمُحِقِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْفَقِيرِ فِي الزَّكَاةِ يَتَغَيَّرُ بِالتَّعْلِيلِ؛ إذْ لَوْ كَانَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ لَمَا حَلَّ وَطْءُ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَاةِ لِتِجَارَةٍ بَعْدَ الْحَوْلِ قَبْلَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ كَالْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَلَمَا حَلَّ أَكْلُ طَعَامٍ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ قَبْلَ أَدَائِهَا، وَلَمَا جَازَ تَصَرُّفُ الْمَالِكِ فِي مَالِ الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا بِدُونِ إذْنِ الْإِمَامِ بَلْ الزَّكَاةُ عِبَادَةٌ خَالِصَةٌ أَصْلِيَّةٌ مِنْ أَرْكَانِ الدَّيْنِ شُرِعَتْ شُكْرًا عَلَى نِعْمَةِ الْمَالِ كَالصَّلَاةِ شُرِعَتْ شُكْرًا عَلَى نِعْمَةِ الْبُدُونِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ» الْحَدِيثَ؛ وَلِهَذَا لَا يَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ لِلْعِبَادِ بِوَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الِاشْتِرَاكِ، وَهُوَ يَنْفِي مَعْنَى الْعِبَادَةِ بَلْ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ هُوَ اللَّهُ - تَعَالَى - لَا غَيْرُ فَيَثْبُتُ أَنَّ الْوَاجِبَ لِلَّهِ - تَعَالَى - عَلَى الْخُلُوصِ ثُمَّ حَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْبَلُ التَّغْيِيرَ بِالتَّعْلِيلِ كَحَقِّ الْعِبَادِ إلَّا أَنَّ حَقَّهُ هَا هُنَا

كَالسُّلْطَانِ يُجِيزُ لِأَوْلِيَائِهِ بِمَوَاعِيدَ كَتَبَهَا بِأَسْمَائِهِمْ ثُمَّ أَمَرَ بَعْضَ وُكَلَائِهِ بِأَنْ يُنْجِزَهَا مِنْ مَالٍ بِعَيْنِهِ كَانَ إذْنًا بِالِاسْتِبْدَالِ فَصَارَ تَغْيِيرًا مُجَامِعًا لِلتَّعْلِيلِ بِالنَّصِّ لَا بِالتَّعْلِيلِ، وَإِنَّمَا التَّعْلِيلُ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَهُوَ كَوْنُ الشَّاةِ صَالِحَةً لِلتَّسْلِيمِ إلَى الْفَقِيرِ وَهَذَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ـــــــــــــــــــــــــــــQسَقَطَ عَنْ الصُّورَةِ بِإِذْنِهِ الثَّابِتِ بِمُقْتَضَى النَّصِّ لَا بِالتَّعْلِيلِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ - تَعَالَى - وَعَدَ إرْزَاقَ الْعِبَادِ بِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] وَأَوْجَبَ لِنَفْسِهِ حَقًّا فِي مَالِ الْأَغْنِيَاءِ بِالنُّصُوصِ الْمُوجِبَةِ لِلزَّكَاةِ ثُمَّ أَمَرَ الْأَغْنِيَاءَ بِصَرْفِ هَذَا الْحَقِّ الْوَاجِبِ لَهُ عَلَيْهِمْ فِي الْفُقَرَاءِ إيفَاءً لِلرِّزْقِ الْمَوْعُودِ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: أُمِرْنَا بِإِنْجَازِ الْمَوَاعِيدِ مِنْ ذَلِكَ الْمُسَمَّى، وَحَقُّ الْفُقَرَاءِ فِي مُطْلَقِ الْمَالِ لَا فِي مَالٍ مُعَيَّنٍ؛ لِأَنَّ حَوَائِجَهُمْ مُخْتَلِفَةٌ كَثِيرَةٌ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِمُطْلَقِ الْمَالِ فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - الْأَغْنِيَاءَ بِالصَّرْفِ إلَى الْفُقَرَاءِ مَعَ أَنَّ حَقَّهُمْ فِي مُطْلَقِ الْمَالِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى إذْنِهِ بِاسْتِبْدَالِ حَقِّهِ ضَرُورَةً كَالسُّلْطَانِ يُجِيزُ أَيْ يُعْطَى مِنْ الْجَائِزَةِ وَهِيَ الْعَطِيَّةُ الرَّاتِبَةُ بِجَوَائِزَ مُخْتَلِفَةٍ ثُمَّ أَمَرَ بَعْضَ وُكَلَائِهِ بِأَنْ يُنَجِّزَ تِلْكَ الْمَوَاعِيدَ مِنْ مَالٍ مُعَيَّنٍ لَهُ فِي يَدِهِ يَكُونُ إذْنًا بِاسْتِبْدَالِ هَذَا الْمَالِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي فِي يَدِ هَذَا الْمَأْمُورِ ضَرُورَةً وَكَمَنْ أَوْدَعَ عَيْنًا عِنْدَ آخَرَ أَمَرَهُ بِقَضَاءِ الدُّيُونِ عَنْهَا يَصِيرُ ذَلِكَ أَمْرًا بِالْبَيْعِ وَقَضَاءِ الدُّيُونِ عَنْ ثَمَنِهَا فَكَذَلِكَ هَا هُنَا فَتَبَيَّنَ أَنَّ سُقُوطَ الْحَقِّ عَنْ صُورَةِ الشَّاةِ ثَبَتَ ضَرُورَةَ الْأَمْرِ بِالصَّرْفِ إلَى الْفَقِيرِ وَالثَّابِتُ بِضَرُورَةِ النَّصِّ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ فَإِنْ قِيلَ: فِيمَا ذَكَرْت مِنْ الْمِثَالِ الِاسْتِبْدَالُ ضَرُورِيٌّ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ إنْجَازُ الْمَوَاعِيدِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْ الْمَالِ الْمُعَيَّنِ، وَلَا قَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْ الْعَيْنِ، فَأَمَّا هَا هُنَا فَلَا ضَرُورَةَ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ إيفَاءُ الرِّزْقِ الْمَوْعُودِ مِنْ عَيْنِ الشَّاةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَدَّاهَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّغْيِيرِ وَإِقَامَةِ الْغَيْرِ مَقَامَهَا قُلْنَا: إنَّمَا نَتَكَلَّمُ فِيمَا إذَا أَدَّى عَيْنَ الشَّاةِ لَا فِيمَا إذَا أَدَّى قِيمَتَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ دَرَجَةٌ أُخْرَى فَيَقُولُ: إذَا أَدَّى عَيْنَ الشَّاةِ أَيَصِيرُ الْفَقِيرُ قَابِضًا حَقَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَالٌ، وَإِنَّ قِيمَتَهَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ مَثَلًا أَوْ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَالٌ مُقَيَّدٌ مُسَمًّى بِأَنَّهَا شَاةٌ أَوْ لَحْمٌ وَلَا إشْكَالَ أَنَّهُ يَقْبِضُهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مُطْلَقٌ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَوْعُودُ وَقَبْضُ حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى - يَحْصُلُ مُقْتَضَى قَبْضِ حَقِّ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَقْبِضُ اللَّهُ - تَعَالَى مَا يَصِيرُ قَابِضًا إيَّاهُ لِنَفْسِهِ بِدَوَامِ الْيَدِ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ الْفَقِيرُ قَابِضًا مَالًا مُقَيَّدًا؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ غَيْرُ الْمُقَيَّدِ فَتَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ إلَى إبْطَالِ قَيْدِ الشَّاةِ، وَيَصِيرُ حَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - مُطْلَقًا لِيُمْكِنَهُ قَبْضُهُ حَقًّا لِنَفْسِهِ؛ إذْ الْأَصْلُ فِي كُلِّ حَقَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ يَتَأَدَّيَانِ بِقَبْضٍ وَاحِدٍ أَنْ يَجْعَلَ الْحَقَّ الْأَوَّلَ عَلَى وَصْفِ الْحَقِّ الثَّانِي لِيَتَأَدَّى الْأَوَّلُ بِقَبْضِ صَاحِبِ الثَّانِي حَقَّهُ كَرَجُلٍ لَهُ عَلَى آخَرَ كُرُّ حِنْطَةٍ، وَعَلَيْهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ لِآخَرَ فَقَالَ لِلَّذِي عَلَيْهِ الْحِنْطَةُ: أَدِّ الدَّرَاهِمَ الَّتِي عَلَيَّ بِمَالِي عِنْدَك مِنْ الْحِنْطَةِ فَأَدَّى الدَّرَاهِمَ إلَى صَاحِبِهَا كَانَ صَاحِبُ الدَّرَاهِمِ قَابِضًا حَقَّ نَفْسِهِ، وَانْتَقَلَ حَقُّ صَاحِبِ الْحِنْطَةِ عَنْهَا إلَى الدَّرَاهِمِ فِي ضِمْنِ الْأَدَاءِ لِيُمْكِنَ جَعْلُهُ قَابِضًا لِلدَّرَاهِمِ بِقَبْضِ صَاحِبِ الدَّرَاهِمِ، فَإِنَّ قَبْضَهُ يَتَضَمَّنُ قَبْضَ صَاحِبِ الْحِنْطَةِ حَقَّ نَفْسِهِ إلَّا أَنَّ الْفَرْقَ أَنَّ هُنَاكَ يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِبْدَالِ بِمَالٍ آخَرَ، وَهَا هُنَا يَحْتَاجُ إلَى إبْطَالِ الْقَيْدِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّاةِ يَصِيرُ مُؤَدِّيًا حَقَّ اللَّهِ - تَعَالَى - بِمَالِيَّتِهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا شَاةٌ كَانَتْ الشَّاةُ وَغَيْرُهَا فِي ذَلِكَ سَوَاءً فَإِذَا أَدَّى يَجُوزُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ، كَذَا فِي الطَّرِيقَةِ الْبَرْغَرِيَّةِ فَصَارَ التَّغْيِيرُ مُجَامِعًا لِلتَّعْلِيلِ بِالنَّصِّ أَيْ اجْتَمَعَ التَّغْيِيرُ بِالنَّصِّ، وَالتَّعْلِيلُ وَاقْتَرَنَا لَا أَنَّ التَّغْيِيرَ حَصَلَ بِالتَّعْلِيلِ. وَإِنَّمَا التَّعْلِيلُ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَمَّا حَصَلَ التَّغْيِيرُ وَجَوَازُ اسْتِبْدَالٍ بِالنَّصِّ لَا فَائِدَةَ فِي التَّعْلِيلِ بَعْدُ؛ إذْ فَائِدَتُهُ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ إلَى مَحَلٍّ لَا نَصَّ فِيهِ وَلَمْ يُوجَدْ هَا هُنَا فَأَجَابَ بِأَنَّ جَوَازَ الِاسْتِبْدَالِ ثَبَتَ مُطْلَقًا فَيَتَنَاوَلُ الِاسْتِبْدَالَ

فَبَيَانُهُ أَنَّ الشَّاةَ يَقَعُ لِلَّهِ - تَعَالَى - بِابْتِدَاءِ قَبْضِ الْفَقِيرِ قُرْبَةً مُطَهَّرَةً فَتَصِيرُ مِنْ الْأَوْسَاخِ كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «يَا بَنِي هَاشِمٍ إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - كَرِهَ لَكُمْ أَوْسَاخَ النَّاسِ وَعَوَّضَكُمْ مِنْهَا بِخُمُسِ الْخُمُسِ» وَقَدْ كَانَتْ النَّارُ تَنْزِلُ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فَتُحْرِقُ الْمُتَقَبَّلَ مِنْ الصَّدَقَاتِ، وَأُحِلَّتْ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ خَبَثُهَا بِشَرْطِ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ كَمَا تَحِلُّ الْمَيْتَةُ بِالضَّرُورَةِ وَحُرِّمَتْ عَلَى الْغَنِيِّ فَصَارَ صَلَاحُ الصَّرْفِ إلَى الْفَقِيرِ بَعْدَ الْوُقُوعِ لِلَّهِ - تَعَالَى - بِابْتِدَاءِ الْيَدِ لِيَصِيرَ مَصْرُوفًا إلَى الْفَقِيرِ بِدَوَامِ يَدِهِ حُكْمًا شَرْعِيًّا فِي الشَّاةِ فَعَلَّلْنَاهُ بِالتَّقْوِيمِ وَعَدَّيْنَاهُ إلَى سَائِرِ الْأَمْوَالِ عَلَى مُوَافَقَةِ سَائِرِ الْعِلَلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِمَا يَصْلُحُ لِدَفْعِ حَاجَةِ الْفَقِيرِ، وَمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ فَالتَّعْلِيلُ لِبَيَانِ أَنَّ الِاسْتِبْدَالَ إنَّمَا يَجُوزُ بِمَا يَصْلُحُ لِدَفْعِ حَاجَةِ الْفَقِيرِ مِنْ الْأَمْوَالِ إلَّا بِمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ لَوْ أَسْكَنَ الْفَقِيرَ دَارِهِ مُدَّةً بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ لَا يَجُوزُ عَنْ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَا يَصْلُحُ بَدَلًا عَنْ الْعَيْنِ فِي هَذَا الْبَابِ لِأَنَّ الْعَيْنَ خَيْرٌ مِنْ الْمَنْفَعَةِ عَلَى مَا عُرِفَ أَوْ هُوَ رَدٌّ لِكَلَامِ الْخَصْمِ فَإِنَّهُ لَمَّا زَعَمَ أَنَّ تَعْلِيلَنَا وَقَعَ لِإِبْطَالِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لِلْفَقِيرِ لَا لِتَعْدِيَةِ حُكْمٍ شَرَعَ إلَى مَوْضِعٍ لَا نَصَّ فِيهِ بَيَّنَ أَوَّلًا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْفَقِيرِ، وَأَنَّ التَّغْيِيرَ إنْ حَصَلَ حَصَلَ بِمُقْتَضَى النَّصِّ وَبَيَّنَ ثَانِيًا أَنَّ التَّعْلِيلَ لَمْ يَقَعْ إلَّا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَإِنَّ لِهَذَا النَّصِّ حُكْمَيْنِ وُجُوبَ الشَّاةِ وَصَلَاحِيَةَ الشَّاةِ لِكِفَايَةِ حَقِّ الْفَقِيرِ فَنَحْنُ نُعَلِّلُ صَلَاحِيَةَ الشَّاةِ وَنُبَيِّنُ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ صَارَتْ الشَّاةُ صَالِحَةً كِفَايَةَ حَقِّ الْفَقِيرِ لِتَعَدِّيهَا بِهِ إلَى مَا لَا نَصَّ فِيهِ. وَبَيَانُهُ أَيْ بَيَانُ أَنَّ كَوْنَ الشَّاةِ صَالِحَةً لِلتَّسْلِيمِ إلَى الْفَقِيرِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ أَنَّ الشَّاةَ يَقَعُ لِلَّهِ - تَعَالَى - بِابْتِدَاءِ قَبْضِ الْفَقِيرِ يَعْنِي يَقَعُ تَسْلِيمُ الشَّاةِ إلَى الْفَقِيرِ لِلَّهِ - تَعَالَى - عَلَى الْخُلُوصِ فِي ابْتِدَاءِ الْقَبْضِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 104] ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الصَّدَقَةُ تَقَعُ فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي كَفِّ الْفَقِيرِ» . ثُمَّ يَصِيرُ لِلْفَقِيرِ بِدَوَامِ يَدِهِ عَلَيْهِ كَمَنْ أَمَرَ لِآخَرَ أَنْ يَهَبَ لِفُلَانٍ عَشَرَةً عَلَى أَنَّهُ ضَامِنٌ فَوَهَبَ يَصِيرُ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَابِضًا لِلْآمِرِ أَوَّلًا ثُمَّ قَابِضًا لِنَفْسِهِ بِدَوَامِ يَدِهِ قُرْبَةً مُطَهِّرَةً يَعْنِي مُطَهِّرَةً لِنَفْسِهِ عَنْ الْآثَامِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] وَلِمَا لَهُ مِنْ الْخَبَثِ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ هَذِهِ الْبِيَاعَاتِ يَحْضُرُهَا اللَّغْوُ وَالْكَذِبُ فَشُوبُوهَا بِالصَّدَقَةِ» أَمَرَ بِالصَّدَقَةِ لِيَرْتَفِعَ الْخَبَثُ الْمُتَمَكِّنُ فِي الْبِيَاعَاتِ بِسَبَبِ اللَّغْوِ وَالْكَذِبِ، وَإِذَا ارْتَفَعَ الْخَبَثُ عَنْ السَّبَبِ، وَهُوَ الْبَيْعُ يَرْتَفِعُ عَنْ الْمُسَبَّبِ، وَهُوَ الْمَالُ وَإِذَا وَقَعَتْ قُرْبَةً مُطَهِّرَةً صَارَتْ مِنْ الْأَوْسَاخِ كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ عَلَى مَا وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ النَّبَوِيَّةُ إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَا مَعْشَرَ بَنِي هَاشِمٍ إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - كَرِهَ لَكُمْ أَوْسَاخَ النَّاسِ وَفِي رِوَايَةٍ غُسَالَةَ النَّاسِ وَعَوَّضَكُمْ مِنْهَا بِخُمُسِ الْخُمُسِ» وَلِهَذَا كَانَتْ النَّارُ يُتْرَكُ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فَيُحْرِقُ الْمُتَقَبَّلَ مِنْ الصَّدَقَاتِ وَالْقَرَابِينِ، وَلَمْ يَكُنْ يَنْتَفِعُ بِهَا أَحَدٌ، وَأُحِلَّتْ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ خَبَثُهَا بِشَرْطِ الْحَاجَةِ كَمَا أُحِلَّتْ الْمَيْتَةُ بِالضَّرُورَةِ وَلِهَذَا لَمْ تَحِلَّ لِلْغَنِيِّ إذَا لَمْ يَكُنْ عَامِلًا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ فَثَبَتَ أَنَّ حُكْمَ النَّصِّ صَلَاحِيَةُ الْمَحَلِّ لِلصَّرْفِ إلَى كِفَايَةِ الْفَقِيرِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ النَّصِّ مَا أَوْجَبَهُ النَّصُّ وَالنَّصُّ الْمُوجِبُ لِلشَّاةِ أَوْجَبَ صَلَاحِيَّتَهَا لِلصَّرْفِ إلَى الْفَقِيرِ فَيَكُونُ ثُبُوتُ الصَّلَاحِيَةِ حُكْمَ النَّصِّ وَلَا يُقَالُ صَلَاحِيَةُ الشَّاةِ لِأَدَاءِ حَقِّ الْفَقِيرِ لَمْ يَثْبُتْ بِالنَّصِّ بَلْ كَانَتْ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ نَحْنُ مَا عَلَّلْنَا تِلْكَ الصَّلَاحِيَةَ بَلْ صَلَاحِيَةٌ حَدَثَتْ بَعْدَمَا قَدْ بَطَلَتْ فِي الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا، وَهِيَ تَثْبُتُ بِالنَّصِّ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فَيَكُونُ حُكْمَ النَّصِّ. فَعَلَّلْنَاهُ بِالتَّقْوِيمِ يَعْنِي قُلْنَا: إنَّمَا حَدَثَتْ صَلَاحِيَةُ الصَّرْفِ لِلشَّاةِ إلَى الْفَقِيرِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا مَالًا مُتَقَوِّمًا؛ لِأَنَّ حَاجَةَ الْفَقِيرِ تَنْدَفِعُ بِاعْتِبَارِ التَّقَوُّمِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الدَّرَاهِمَ الْخَمْسَةَ الْوَاجِبَةَ فِي الْمِائَتَيْنِ مِنْهَا أَوْ نِصْفِ مِثْقَالٍ مِنْ الذَّهَبِ الْوَاجِبِ فِي عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنْهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَقَوِّمَةً لَمْ يَنْدَفِعْ بِهَا حَاجَةُ الْفَقِيرِ أَصْلًا فَعَلَّلْنَا هَذِهِ الصَّلَاحِيَةَ بِعِلَّةِ التَّقَوُّمِ، وَعَدَّيْنَاهَا إلَى سَائِرِ الْأَمْوَالِ لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْعِلَّةِ عَلَى مُوَافَقَةِ سَائِرِ الْعِلَلِ، فَإِنَّ حُكْمَهَا تَعْمِيمُ حُكْمِ النَّصِّ مِنْ بَقَاءِ حُكْمِ النَّصِّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عَلَى قَرَارِهِ، وَهَا هُنَا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، فَإِنَّ صَلَاحِيَةَ الشَّاةِ لِأَدَاءِ حَقِّ الْفَقِيرِ لَمْ تَبْطُلْ بِهَذَا التَّعْلِيلِ بَلْ بَقِيَتْ كَمَا كَانَتْ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي الْأَسْرَارِ: الزَّكَاةُ وَجَبَتْ عِبَادَةً لِلَّهِ - تَعَالَى، وَمَا يَجِبُ لِلَّهِ - تَعَالَى - عِبَادَةً يَجِبُ بِلَا شَرِكَةٍ، وَمَا يَأْخُذُهُ الْفَقِيرُ يَأْخُذُهُ حَقًّا لِنَفْسِهِ لَا شَرِكَةَ لِأَحَدٍ فِيهِ فَعَلِمْت أَنَّ الشَّاةَ يَتَأَدَّى بِهَا حَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - عِبَادَةً ثُمَّ حَقُّ الْفَقِيرِ لَا بُدَّ مِنْ الْقَوْلِ بِهِ ضَرُورَةً، وَالتَّعْلِيلُ لَمْ يَقَعْ لِحَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى، فَإِنَّهُ مُتَعَيَّنٌ فِيمَا عَيَّنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ؛ إذْ الزَّكَاةُ لَا تَشْغَلُ إلَّا النِّصَابَ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ أَدَاءُ حَقِّ الْفَقِيرِ مِنْ غَيْرِ النِّصَابِ، وَالْوُجُوبُ لِلَّهِ - تَعَالَى - لَا يَشْغَلُ إلَّا النِّصَابَ فَعُلِمَ أَنَّهَا غَيْرَانِ. قَالَ: وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا عُلِمَ ضَرُورَةً، قَالَ: الْوَاجِبُ بِالنَّصِّ شَاةٌ وَجَبَ إخْرَاجُهَا إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - حَقًّا لَهُ كَمَا يَخْرُجُ الْمَسْجِدُ وَالْقُرْبَانُ وَهِيَ صَالِحَةٌ لِحَقِّ الْفَقِيرِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْفَقِيرِ لَمَّا كَانَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَحَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى الْغَنِيِّ لَمْ يَتَصَوَّرْ ثُبُوتَ مَا يُصَيِّرُ اللَّهُ - تَعَالَى - حَقَّهُ لِلْفَقِيرِ إلَّا بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى بِرِزْقِهِ عَلَى اللَّهِ فَتَصِيرُ الشَّاةُ قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ لِلَّهِ - تَعَالَى - صَالِحَةً لِحَقِّ الْفَقِيرِ ضَرُورَةً كَرَجُلٍ يَسْتَوْفِي دَرَاهِمَ عَلَى رَجُلٍ ثُمَّ يُوَفِّيهَا غَيْرَهُ فَتَكُونُ صَالِحَةً لِإِيفَاءِ حَقِّ الْغَيْرِ حِينَ اسْتَوْفَاهَا لِنَفْسِهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الشَّاةِ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ - تَعَالَى - فِي حَقِّ الْفَقِيرِ أَنَّهَا صَالِحَةٌ لِإِيفَاءِ حَقٍّ لَا أَنَّهَا حَقٌّ لَهُ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ حَقًّا لَهُ بَعْدَمَا تَصِيرُ لِلَّهِ - تَعَالَى، وَكَوْنُهَا صَالِحَةً لِإِيفَاءِ حَقِّ الْفَقِيرِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَمُحَالٌ التَّصَرُّفَاتُ تُعْرَفُ شَرْعًا كَقَوْلِنَا: الْخَمْرُ لَا تَصْلُحُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ، وَالْخَلُّ يَصْلُحُ لَا بِكَوْنِ الصَّلَاحِيَةِ حَقًّا لِلْعِبَادِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُمْ الْحَقُّ بِالسَّبَبِ، وَلَمَّا كَانَ حُكْمًا شَرْعِيًّا قَبْلَ التَّعْلِيلِ لِيَتَعَدَّى الصَّلَاحِيَةَ إلَى غَيْرِهَا مَعَ الْقَرَارِ عَلَيْهَا كَمَا قَبْلَ التَّعْلِيلِ إنَّمَا كَانَتْ الْحَقِّيَّةُ لِلَّهِ - تَعَالَى، فَلَا جَرَمَ لَمْ يَقْبَلْ التَّعْلِيلَ وَلَمْ يَتَعَدَّ إلَى غَيْرِ النِّصَابِ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنْ قِيلَ: التَّعْلِيلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ الصَّالِحَةَ لِلْفَقِيرِ هِيَ الَّتِي وَجَبَتْ لِلَّهِ - تَعَالَى - بِحَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى، وَالتَّعْلِيلُ لَغْوٌ فِي حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى، فَيَجِبُ إخْرَاجُ عَيْنِ الْمُسَمَّى وَالنِّزَاعُ فِيهِ قُلْنَا: إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَمَّا أَمَرَنَا بِإِيفَاءِ رِزْقِ الْفَقِيرِ مِنْهَا بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ، وَرِزْقُهُ مَالٌ مُطْلَقٌ دَلَّنَا عَلَى إلْغَاءِ الِاسْمِ فِي حَقِّ الْإِيفَاءِ، وَحَقُّهُمْ مَالٌ مُطْلَقٌ، وَدَلَّ أَنَّهُ ذَكَرَ الِاسْمَ تَفْسِيرًا عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ فَيَدُهُ أَوْصَلُ إلَى مَا فِي نِصَابِهِ أَوْ مِنْ جِنْسِهِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ اسْمِ الشَّاةِ بِأَمْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - بِإِيفَاءِ الرِّزْقِ لَا بِالتَّعْلِيلِ فَكَوْنُهَا حَقَّ اللَّهِ - تَعَالَى - مِمَّا لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيلَ عَلَى مَا مَرَّ وَأَنَّهُ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] . لَمَّا قَامَ الدَّلِيلُ أَنَّهُ نَهْيٌ لِإِكْرَامِ الْأَبَوَيْنِ بِكَفِّ الْأَذَى عَنْهُمَا، وَذَلِكَ فِي جِنْسِ الْأَذَى لَا فِي الْأَذَى بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ سَقَطَ اعْتِبَارُ الِاسْمِ، وَبَقِيَتْ الْعِبْرَةُ لِلْأَذَى الْمُطْلَقِ فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ وُجُوبَ الشَّاةِ يَتَضَمَّنُ أَمْرَيْنِ: كَوْنَ الشَّاةِ حَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - عَيْنًا، وَصَلَاحِيَةُ الشَّاةِ لِكِفَايَةِ حَقِّ الْفَقِيرِ، وَالْأَوَّلُ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيلَ، وَالثَّانِي يَقْبَلُهُ، وَلَكِنَّ قَبُولَهُ لِلتَّعْلِيلِ لَا يُفِيدُ الْمَقْصُودَ مَعَ بَقَاءِ الْأَوَّلِ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ التَّغَيُّرَ إنَّمَا يَأْخُذُ حَقَّ اللَّهِ - تَعَالَى مِنْ الْعَبْدِ يَرْزُقُهُ لَا حَقُّ الْعَبْدِ، وَحَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - لَمَّا بَقِيَ فِي الشَّاةِ عَيْنًا كَيْفَ يُمْكِنُهُ أَخْذُ غَيْرِ الشَّاةِ مِنْ الْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ صَالِحٌ لِكِفَايَتِهِ مَعَ أَنَّ حَقَّ اللَّهِ - تَعَالَى - لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ أَنَّ حَقَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ فِي مُطْلَقِ الْمَالِ لَا فِي غَيْرِ الشَّاةِ أَمْكَنَهُ أَخْذُ غَيْرِ الشَّاةِ لِثُبُوتِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ بِالدَّلَالَةِ وَتَعْدِيَةِ الصَّلَاحِيَةِ

وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْوَاجِبَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى - كَانَ اللَّامُ فِي قَوْله تَعَالَى {لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] لَامَ الْعَاقِبَةِ أَيْ يَصِيرُ لَهُمْ لِعَاقِبَتِهِ أَوْ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ لَهُمْ بَعْدَ مَا صَارَ صَدَقَةً، وَذَلِكَ بَعْدَ الْأَدَاءِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَيْهِ بِالتَّعْلِيلِ وَلَوْ ثَبَتَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ أَعْنِي فِي غَيْرِ الشَّاةِ بِدَلِيلٍ وَلَمْ يَتَعَدَّ الصَّلَاحِيَةَ إلَيْهِ لَمْ يَثْبُتْ الْجَوَازُ كَمَا فِي عَكْسِهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ كِلَا الْأَمْرَيْنِ؛ فَلِذَلِكَ ذَكَرَ الشَّيْخُ قَوْلَهُ: وَإِنَّمَا التَّعْلِيلُ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ إلَى آخِرِهِ بَعْدَمَا بَيَّنَ أَنَّ سُقُوطَ حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي الصُّورَةِ حَصَلَ بِإِذْنِهِ. 1 - قَوْلُهُ: (وَلَمَّا ثَبَتَ) إلَى آخِرِهِ بَنَى الْخَصْمُ كَلَامَهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ يَجِبُ حَقًّا لِلْفَقِيرِ ابْتِدَاءً فَجَعَلَ اللَّامَ فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] لَامَ الْمِلْكِ، وَلَمَّا أَبْطَلَ الشَّيْخُ كَلَامَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَفِيهِ جَوَابٌ عَنْ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ فَقَالَ: وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْوَاجِبَ، وَهُوَ الزَّكَاةُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى لِمَا ذَكَرْنَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَحْمِلَ اللَّامَ عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَهِيَ التَّمْلِيكُ كَمَا زَعَمَ الْخَصْمُ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ لَا يَكُونُ حَقًّا لِغَيْرِهِ بَلْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا لَامُ الْعَاقِبَةِ أَيْ يَصِيرُ الْمُؤْذِي لَهُمْ بِعَاقِبَتِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] فَإِنَّ أَخْذَهُمْ مُوسَى لَمْ يَكُنْ لِغَرَضِ الْعَدَاوَةِ وَالْحُزْنِ وَلَكِنْ لَمَّا أَدَّى عَاقِبَتُهُ إلَى الْأَمْرَيْنِ كَأَنَّهُمْ الْتَقَطُوهُ لَهُمَا وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ ... فَكُلُّكُمْ يَصِيرُ إلَى التُّرَابِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوِلَادَةَ وَالْبِنَاءَ لَيْسَا لِغَرَضِ الْمَوْتِ وَالْخَرَابِ وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بُدٌ لِلْمَوْلُودِ مِنْ الْمَوْتِ، وَلِلْبِنَاءِ مِنْ الْخَرَابِ صَارَ كَأَنَّ الْأَمْرَيْنِ وَقَعَا لِهَذَيْنِ الْغَرَضَيْنِ وَذَكَرَ فِي الْمَطْلَعِ أَنَّ اللَّامَ لِقَصْرِ جِنْسِ الصَّدَقَاتِ عَلَى الْأَصْنَافِ الْمَعْدُودَةِ، وَأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِهَا لَا يَتَجَاوَزُهَا إلَى غَيْرِهَا لَا لِاسْتِحْقَاقِهِمْ جَمِيعًا كَمَا يُقَالُ: إنَّمَا الْخِلَافَةُ لِقُرَيْشٍ يُرَادُ لَا تَتَعَدَّاهُمْ، وَلَا تَكُونُ لِغَيْرِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُصْرَفَ الْأَصْنَافُ كُلُّهَا، وَأَنْ تُصْرَفَ إلَى بَعْضِهَا وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَمَيْمُونَ بْنِ مِهْرَانَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَعَلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا أَوْ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لَهُمْ بَعْدَمَا صَارَ صَدَقَةً يَعْنِي وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا لِلتَّمْلِيكِ لَا تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ تَكُونُ مِلْكًا لِلْفَقِيرِ قَبْلَ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَوْجَبَ لَهُمْ أَيْ أَثْبَتَ لَهُمْ الْمِلْكَ فِي الْمَالِ بَعْدَ مَا صَارَ صَدَقَةً حَيْثُ قَالَ {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] وَلَمْ يَقُلْ: إنَّمَا الْأَمْوَالُ لِلْفُقَرَاءِ. وَذَلِكَ أَيْ صَيْرُورَةُ الْمَالِ صَدَقَةً إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْأَدَاءِ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ قَبْلَ قَبْضِ الْفَقِيرِ فَلَا يَكُونُ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ قَبْلَ الْقَبْضِ حَقُّ الْفَقِيرِ فَلَا يَجِبُ صَرْفُهَا إلَى الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ أَوْ هُوَ دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى كَوْنِ اللَّامِ لِلْعَاقِبَةِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى يَعْنِي؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى كَانَتْ اللَّامُ أَوْ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لَهُمْ بَعْدَمَا صَارَ صَدَقَةً وَذَلِكَ بَعْدَ الْأَدَاءِ إلَى اللَّهِ كَانَتْ اللَّامُ لِلْعَاقِبَةِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ صَلَاحِيَةُ أَنْ يَصِيرَ صَدَقَةً فَيَكُونُ مِلْكًا لِلْفَقِيرِ لَا أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْحَالِ لَهُ فَيَكُونُ اللَّامُ لِلْعَاقِبَةِ وَفِي الْوَجْهَيْنِ بُعْدٌ، وَلَا أَعْرِفُ وَجْهَ عَطْفٍ؛ لِأَنَّهُ عَلَى تَقَدُّمٍ وَتَبَيَّنَ أَنَّا مَا أَبْطَلْنَا حَقَّ الْبَاقِينَ بِالصَّرْفِ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمْ فِيهَا فَصَارُوا عَلَى هَذَا التَّحْقِيقِ مَصَارِفَ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ يَعْنِي لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْوَاجِبَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى، وَأَنَّ ذِكْرَ هَذِهِ الْأَصْنَافِ لَيْسَ لِبَيَانِ الِاسْتِحْقَاقِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَصْلُحُونَ لِذَلِكَ لِلْجَهَالَةِ كَانَ ذِكْرُهُمْ لِبَيَانِ الْمَصْرِفِ الَّذِي يَكُونُ الْمَالُ بِقَبْضِهِمْ لِلَّهِ - تَعَالَى - خَالِصًا أَيْ السَّبِيلُ فِي هَذَا الْحَقِّ الْوَاجِبِ لِلَّهِ

فَصَارُوا عَلَى هَذَا التَّحْقِيقِ مَصَارِفَ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ. وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ أَسْبَابُ الْحَاجَةِ وَهُمْ بِجُمْلَتِهِمْ لِلزَّكَاةِ مِثْلَ الْكَعْبَةِ لِلصَّلَاةِ، وَكُلُّ صِنْفٍ مِنْهُمْ مِثْلُ جُزْءٍ مِنْ الْكَعْبَةِ وَاسْتِقْبَالُ جُزْءٍ مِنْ الْكَعْبَةِ جَائِزٌ كَاسْتِقْبَالِ كُلِّهَا فَكَذَلِكَ هَا هُنَا، وَكَانَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَغْيِيرًا بِأَنْ جَعَلَ الزَّكَاةَ حَقًّا لِلْعِبَادَةِ، وَهُوَ خَطَأٌ عَظِيمٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQتَعَالَى الصَّرْفُ إلَى هَؤُلَاءِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ. وَبَيَانُهُ مَا ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ الزَّكَاةِ حَقُّ إخْرَاجٍ إلَى اللَّهِ بِقَطْعِ الْمَالِكِ مِلْكَهُ عَنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ، وَحَقُّ الْفَقِيرِ فِي رِزْقِهِ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - حَالَ حَاجَتِهِ لَا تَعَلُّقَ لِحَقِّهِ بِالنِّصَابِ إلَّا أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَمَّا أَمَرَ بِقَضَاءِ حَقِّ الْفَقِيرِ بِمَالِهِ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ يَصِيرُ كَفُّ الْفَقِيرِ بِالْآيَةِ فِي حَقِّ الزَّكَاةِ شَرْطًا لِتَأَدِّي حَقِّ اللَّهِ بِهِ يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا لِمَا وَجَبَ عَلَى الْغَنِيِّ بِغِنَاهُ. وَإِذَا صَارَ هَكَذَا قُلْنَا: الْأَصْنَافُ السَّبْعَةُ مَا صَارُوا مُسْتَحَقِّينَ بِالْآيَةِ لِلزَّكَاةِ بَلْ صَارُوا مَصَارِفَ صَالِحِينَ لِصَرْفِ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ كَالْكَعْبَةِ صَالِحَةً لِلصَّلَاةِ إلَيْهَا لَا أَنْ تَكُونَ مُسْتَحَقَّةً ثُمَّ إنَّا عَلَّلْنَا فَقُلْنَا: إنَّمَا صَارُوا مَصَارِفَ بِفَقْرِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ وَاسْتِحْقَاقِهِمْ الرِّزْقَ لِذِي الْحَاجَةِ عَلَى مَوْلَاهُمْ، وَهُوَ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ بِوَصْفٍ آخَرَ لَمْ يُعْرَفْ سَبَبًا شَرْعًا مِنْ الْغُرْمِ وَالْغُرْبَةِ وَالرِّزْقِ وَنَحْوِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَارِمَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالْغَازِيَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَمْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ لَا يَحِلُّ لَهُمْ الزَّكَاةُ، وَلَوْ صَارُوا مَصَارِفَ بِالِاسْمِ لَجَازَ الصَّرْفُ إلَيْهِمْ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ الْحَاجَةِ كَمَا فِي الْمَوَارِيثِ. وَكَذَا لَوْ اجْتَمَعَ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ أَسَامٍ مُخْتَلِفَةٌ بِأَنْ كَانَ مُكَاتَبًا وَابْنَ سَبِيلٍ وَمِسْكِينًا وَغَارِمًا لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا سَهْمًا وَاحِدًا، وَلَوْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ بِالِاسْمِ لَا يَسْتَحِقُّ بِكُلِّ اسْمٍ سَهْمًا عَلَى حِدَةٍ، كَمَا فِي الْإِرْثِ إذَا اجْتَمَعَ سَبَبَانِ فِي شَخْصٍ إنْ كَانَ زَوْجًا وَابْنَ عَمٍّ يَسْتَحِقُّ بِهِمَا جَمِيعًا فَعُلِمَ أَنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِالْحَاجَةِ غَيْرَ أَنَّ الْحَاجَةَ تَقَعُ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ فِي الْأَغْلَبِ فَذَكَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - هَذِهِ الْأَسْمَاءَ الَّتِي هِيَ أَسْبَابُ الْحَاجَةِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ يَسْتَحِقُّهُ بِحَاجَتِهِ حَتَّى شَارَكَهُ غَيْرُهُ لَمَّا احْتَاجَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِسَبَبِ الْفَقْرِ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ مَصَارِفُ بِعِلَّةِ الْحَاجَةِ فَصَارُوا جِنْسًا وَاحِدًا كَأَنَّهُ قِيلَ: إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْمُحْتَاجِينَ بِأَيِّ سَبَبٍ احْتَاجُوا ثُمَّ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِأَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجِنْسِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ ثُمَّ هَذَا التَّعْلِيلُ لَا يَرْفَعُ حُكْمَ النَّصِّ؛ لِأَنَّهُمْ بِالنَّصِّ كَانُوا مَصَارِفَ لِلزَّكَاةِ، وَهُمْ مَصَارِفُ أَيْ صَالِحُونَ لِلصَّرْفِ إلَيْهِمْ صُرِفَتْ إلَيْهِمْ أَمْ لَا كَالْكَعْبَةِ، وَصَالِحَةٌ لِصَرْفِ الصَّلَاةِ إلَيْهَا أَدَاءً وَاسْتِقْبَالًا فَعَلَ الْعَبْدُ أَمْ لَا وَتَبَيَّنَ أَنَّ التَّعْلِيلَ وَقَعَ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَهُوَ مَعْرِفَةُ شَرْطِ جَوَازِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ كَالْكَعْبَةِ لِلصَّلَاةِ لَا لِحَقِّ الْعَبْدِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَقْسُومَ بَيْنَهُمْ حُكْمٌ إنْ كَانُوا مَصَارِفَ الزَّكَاةِ وَقَدْ بَيَّنُوا كَذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُنْكِرَ كَوْنَهُمْ مَصَارِفَ إلَّا مَا اُنْتُسِخَ مِنْ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مَصَارِفَ بِعِلَّةٍ أُخْرَى، وَهِيَ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَإِعْزَازُ دِينِهِ بِالْإِحْسَانِ لَا لِحَاجَةِ الْمَصْرُوفِ إلَيْهِ إلَى الرِّزْقِ فَكَانَ ذَلِكَ بَابًا عَلَى حِدَةِ كِتَابِ الْعَامِلِ الْيَوْمَ يُعْطَى لَا رِزْقًا عَلَى الْحَاجَةِ بَلْ جَزَاءً عَلَى حِسْبَتِهِ فِي الْعَمَلِ لِلْفُقَرَاءِ فِي جِبَايَةِ الصَّدَقَاتِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّا إنَّمَا أَلْغَيْنَا الِاسْمَ فِي الْوَاجِبِ عَلَيْهِ صَدَقَةً؛ لِأَنَّ مَا يَجِبُ صَدَقَةً يَجِبُ الْإِخْرَاجُ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى، ثُمَّ الصَّرْفُ إلَى الرِّزْقِ حَتَّى إنَّ رَجُلًا لَوْ نَذَرَ فَقَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمَالِي عَلَى الْأَصْنَافِ السَّبْعَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَهَا إلَى فَقِيرٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِلَفْظِ الصَّدَقَةِ فَأَمَّا الْوَصِيُّ فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ بِحُكْمِ أَنَّهَا صَدَقَةٌ فِي حَقِّ صَرْفِهِ إلَيْهِمْ بَلْ لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ عَلَى الْمُوصِي بِأَمْرِهِ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ بِالصَّرْفِ إلَى حَيْثُ سَمَّاهُ وَإِنَّمَا سَمَّى ثَلَاثَةَ أَسْمَائِهِ فَيَجِبُ الصَّرْفُ عَلَى ذَلِكَ لَمَّا بَلَغَتْ عِبْرَةُ الصَّدَقَةِ فِي حَقِّ الْوَصِيِّ كَمَنْ أُمِرَ

وَأَمَّا التَّكْبِيرُ فَمَا وَجَبَ لِعَيْنِهِ بَلْ الْوَاجِبُ تَعْظِيمُ اللَّهِ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْبَدَنِ، وَاللِّسَانُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ ظَاهِرِ الْبَدَنِ مِنْ وَجْهٍ فَوَجَبَ فِعْلُهَا وَالثَّنَاءُ آلَةُ فِعْلِهَا فَصَارَ حُكْمُ النَّصِّ أَنْ يَجْعَلَ التَّكْبِيرَ آلَةَ فِعْلِهِ لِكَوْنِهِ ثَنَاءً مُطْلَقًا فَعَدَّيْنَاهُ إلَى سَائِرِ الْأَثْنِيَةِ مَعَ بَقَاءِ حُكْمِ النَّصِّ، وَهُوَ كَوْنُ التَّكْبِيرِ ثَنَاءً صَالِحًا لِلتَّعْظِيمِ، وَإِنَّمَا ادَّعَيْنَا هَذَا دُونَ أَنْ يَكُونَ التَّكْبِيرُ بِعَيْنِهِ وَاجِبًا؛ لِأَنَّا وَجَدْنَا سَائِرَ الْأَرْكَانِ أَفْعَالًا لَا تُوجَدُ مِنْ الْبَدَنِ لِيَصِيرَ الْبَدَنُ فَاعِلًا فَكَذَلِكَ اللِّسَانُ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالتَّصَدُّقِ بِشَاةٍ لَا يَحِلُّ لَهُ التَّصَدُّقُ بِغَيْرِهَا. وَفِيمَا أَلْزَمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَلِأَنَّ فِي أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى يُرَاعَى الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ لَا يَعْرَى عَنْ حِكْمَةٍ وَفَائِدَةٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَوَامِرُ الْعِبَادِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْعَبْدَ لَمْ يَقْصِدْ الْفَائِدَةَ بَلْ قَصَدَ الِاسْمَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَفِعْلَهُ قَدْ يَخْلُو عَنْ فَائِدَةٍ؛ فَلِذَلِكَ رُوعِيَ فِي أَمْرِ الْعِبَادِ الِاسْمُ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا. 1 - قَوْلُهُ: (وَأَمَّا التَّكْبِيرُ فَمَا وَجَبَ لِعَيْنِهِ) إلَى آخِرِهِ الِاخْتِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا رَاجِعٌ إلَى أَنَّ الزَّكَاةَ فِي التَّحْرِيمَةِ عَيْنُ التَّكْبِيرِ عِنْدَهُ فَلَمْ يَجُزْ إقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ كَإِقَامَةِ الْخَدِّ مَقَامَ الْجَبْهَةِ، وَعِنْدَنَا الرُّكْنُ فِيهَا عَمَلُ اللِّسَانِ ثَنَاءً عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالتَّكْبِيرُ شُرِعَ لِتَحْصِيلِ عَمَلِ الثَّنَاءِ بِذِكْرِهِ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ لِلْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، وَالْمُسْتَحَقُّ فِيهَا أَفْعَالٌ تَحِلُّ عَلَى أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ تُنْبِئُ عَنْ التَّعْظِيمِ، كَالْقِيَامِ لِلْقَدَمِ وَالرُّكُوعِ لِلظَّهْرِ وَالسُّجُودِ لِلْجَبْهَةِ، وَاللِّسَانُ مِنْ جُمْلَةِ الْبَدَنِ، وَمِنْ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ مِنْ وَجْهٍ فَكَانَ الْمُسْتَحَقُّ اسْتِعْمَالَهُ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ التَّعْظِيمُ مِمَّا هُوَ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - فَعَيَّنَ الشَّرْعُ التَّكْبِيرَ؛ لِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ الثَّنَاءُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحَقُّ فِي نَفْسِهِ كَمَا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ فِي السُّجُودِ أَنْ يُصَيِّرَ الْجَبْهَةَ لَا أَنْ يُصَيِّرَ الْأَرْضَ مَسْجُودًا بِهَا، وَكَمَا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ فِي ذِكْرِ كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ أَذَانًا عَلَى اللِّسَانِ مِنْ عَمَلِ الْإِيمَانِ، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ آلَةٌ بِهَا يَحْصُلُ الْأَدَاءُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الرُّكْنُ أَنْ تَصِيرَ هَذِهِ الْكَلِمَةُ مَذْكُورَةً بِلِسَانِهِ وَلِهَذَا قَامَ مَقَامَهَا سَائِرُ الْكَلِمَاتِ بِالْفَارِسِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَمَلُ اللِّسَانِ صَحَّ التَّعْلِيلُ، وَإِقَامَةُ غَيْرِ التَّكْبِيرِ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّ عَمَلَ اللِّسَانِ لَا يَتَبَدَّلُ بِهِ. وَإِنَّمَا تُبَدَّلُ الْآلَةُ، وَالْآلَةُ فِي تَحْصِيلِ الْعَمَلِ لَا تَجِبُ مَقْصُودَةً بَلْ الضَّرُورَةُ تَحْصِيلُ الْعَمَلِ بِهَا لِصَلَاحِهَا لِذَلِكَ الْعَمَلِ كَالْبَيْعِ لِلْجُمُعَةِ وَاسْتِعْمَالِ الْقَلَمِ لِلْكِتَابَةِ وَالسِّكِّينِ لِلتَّضْحِيَةِ فَلَمْ يَكُنْ لَهَا صِفَةٌ فِي نَفْسِهَا إلَّا الصَّلَاحِيَةُ لِلْعَمَلِ وَبِالتَّعْلِيلِ وَإِقَامَةِ آلَةٍ أُخْرَى مَقَامَهَا لَا يَتَبَدَّلُ حُكْمُهَا فَإِنَّهَا تَبْقَى صَالِحَةً بَعْدَ التَّعْلِيلِ كَمَا كَانَتْ، وَيَبْقَى اسْتِعْمَالُهَا وَاجِبًا إذَا اُضْطُرَّ إلَى تَحْصِيلِ الْعَمَلِ بِأَنْ لَا يَجِدَ آلَةً أُخْرَى، وَهُوَ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ» ، فَإِنَّ تَعْيِينَ الْحَجَرِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ إقَامَةِ الْمَدَرِ مَقَامَهُ بَلْ الْحَجَرُ آلَةٌ بِجَوَازِ أَنْ يَتَعَيَّنَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَخَيَّرَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَا فِي مَعْنَاهَا وَهَذَا بِخِلَافِ الْجَبْهَةِ لِلسُّجُودِ حَيْثُ لَا يُقَامُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا؛ لِأَنَّ الرُّكْنَ الْمُسْتَحَقَّ ضَرُورَةً لِلْجَبْهَةِ سَاجِدَةً بِالْأَرْضِ فَيَصِيرُ الْجَبْهَةُ مُسْتَحَقَّةً حُكْمًا؛ لِأَنَّ وَضْعَهَا لَا يَنْفَصِلُ عَنْهَا فَلَا يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا وَهَذَا كَأَجِيرِ الْوَاحِدِ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِعَمَلِ غَيْرِهِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ مَنَافِعُهُ، وَمَنَافِعُهُ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا مِنْهُ فَصَارَتْ نَفْسُهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَحَقِّ فَلَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ مَقَامَهُ وَالْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِعَمَلِ غَيْرِهِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ يَحْصُلُ صِفَةً فِي الْمَعْمُولِ بِعَمَلِهِ وَعَمَلُهُ آلَةٌ لَا مَقْصُودٌ، وَتِلْكَ الصِّفَةُ تَحْصُلُ بِعَمَلِ غَيْرِهِ لَهُ؛ لِأَنَّ عَمَلَ غَيْرِهِ لَهُ بِأَمْرِهِ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يُمْلَكُ بِالِاسْتِعَارَةِ وَالْإِجَارَةِ، وَإِذَا صَارَ صَارَتْ الصِّفَةُ الْحَاصِلَةُ بِهِ لَهُ كَمَا لَوْ عَمِلَ بِنَفْسِهِ فَاسْتَحَقَّ الْأُجْرَةَ، وَإِنْ تَبَدَّلَتْ الْآلَةُ. وَلَا يَلْزَمُ - عَلَى مَا ذَكَرْنَا - الْقِرَاءَةُ حَيْثُ لَا يَقُومُ ذِكْرٌ آخَرُ مَقَامَهَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَمَلُ اللِّسَانِ عَمَلَ قِرَاءَةٍ، وَلِلْقِرَاءَةِ فَضِيلَةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهَا مِنْ الْأَذْكَارِ، وَهِيَ أَنَّ الْمَقْرُوءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ - تَعَالَى، وَيَحْرُمُ عَلَى الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ قِرَاءَتُهُ فَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ غَيْرِهَا مِنْ الْأَذْكَارِ مَقَامَهَا أَلَا تَرَى أَنَّ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ مِنْ السُّوَرِ لَمَّا سَاوَى الْفَاتِحَةَ فِي الْفَضِيلَةِ

وَكَذَلِكَ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَلْقَى الثَّوْبَ النَّجَسَ سَقَطَ عَنْهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ لَكِنَّ الْوَاجِبَ إزَالَةُ الْعَيْنِ النَّجَسِ، وَالْمَاءُ آلَتُهُ فَإِذَا عَدَّيْنَا حُكْمَهُ إلَى سَائِرِ مَا يَصْلُحُ آلَةً بَقِيَ حُكْمُ النَّصِّ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ كَوْنُ الْمَاءِ آلَةً صَالِحَةً لِلتَّطْهِيرِ، وَهُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ حَالَةَ الِاسْتِعْمَالِ هَذَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فِي الْمُزِيلِ وَالطَّهَارَةِ فِي مَحَلِّ الْعَمَلِ فَعَدَّيْنَاهُ إلَى نَظِيرِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQقَامَ مَقَامَهَا فِي الْجَوَازِ، وَإِنْ تَعَيَّنَتْ الْفَاتِحَةُ بِالْحَدِيثِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الْأَذَانُ أَيْضًا حَيْثُ لَا يَتَأَدَّى بِلُغَةٍ أُخْرَى، وَلَا بِثَنَاءٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ الرُّكْنَ لَيْسَ عَمَلَ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى، فَإِنَّهُ لَوْ تَكَلَّمَ بِهِ، وَأَخْفَاهُ لَمْ يَجُزْ، وَالثَّنَاءُ حَاصِلٌ، وَلَكِنَّ الْوَاجِبَ إعْلَامُ النَّاسِ بِحُضُورِ الصَّلَاةِ، وَالْإِعْلَامُ إنَّمَا يَقَعُ بِصَوْتِ مُقَدَّرٍ بِتِلْكَ الْحُرُوفِ فَمَتَى تَغَيَّرَتْ الْحُرُوفُ تَغَيَّرَ الصَّوْتُ فَلَا يَبْقَى إعْلَامًا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُجَوِّزُ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَالثَّنَاءُ آلَةُ فِعْلِهَا أَيْ فِعْلِ اللِّسَانِ، وَاللِّسَانُ بِمَعْنَى الرِّسَالَةِ يُؤَنَّثُ، وَبِمَعْنَى الْعُضْوِ لَا يُؤَنَّثُ، وَلَعَلَّ الشَّيْخَ أَنَّثَ الضَّمِيرَ عَلَى تَأْوِيلِ اللِّسَانِ بِالْجَارِحَةِ، وَذَكَرَهُ بَعْدَهُ فِي قَوْلِهِ: آلَةُ فِعْلِهِ عَلَى الْأَصْلِ وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: ثَنَاءً مُطْلَقًا أَيْ ثَنَاءً خَالِصًا إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلْحَاقُ مَا لَيْسَ بِثَنَاءٍ مَحْضٍ بِالتَّكْبِيرِ مِثْلَ قَوْلِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي حَتَّى لَا يَصِيرَ شَارِعًا بِهِ وَإِنَّمَا ادَّعَيْنَا هَذَا أَيْ أَنَّ الْوَاجِبَ بِالنَّصِّ هُوَ التَّعْظِيمُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّكْبِيرُ آلَتُهُ. قَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ) أَيْ وَكَمَا أَنَّ التَّكْبِيرَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بِعَيْنِهِ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَلْقَى الثَّوْبَ النَّجَسَ أَوْ قَطَعَ مَوْضِعَ النَّجَاسَةِ بِالْمِقْرَاضِ أَوْ أَحْرَقَهُ بِالنَّارِ سَقَطَ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَلَوْ كَانَ اسْتِعْمَالُهُ وَاجِبًا بِعَيْنِهِ لَمْ يَسْقُطْ بِدُونِ الْعُذْرِ لَكِنَّ الْوَاجِبَ إزَالَةُ الْعَيْنِ النَّجِسَةِ لِئَلَّا يَكُونَ مُسْتَعْمِلًا لَهَا عِنْدَ لُبْسِهِ، وَالْمَاءُ آلَتُهُ أَيْ آلَةُ الْإِزَالَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْإِسْقَاطِ، وَالْأَبْعَادُ. وَالْوَاجِبُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ التَّحْرِيرُ عَنْ النَّجَاسَةِ حَالَةَ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّ التَّحْرِيرَ عَنْهَا إذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ فِي الثَّوْبِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ نَجَاسَةٌ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِإِزَالَتِهَا فَكَانَ الْوَاجِبُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْإِزَالَةَ، وَالْمَاءُ آلَتُهُ فَإِذَا عَدَّيْنَا حُكْمَهُ أَيْ حُكْمَ النَّصِّ أَوْ حُكْمَ الْمَاءِ إلَى سَائِرِ مَا يَصْلُحُ آلَةً كَالْخَلِّ وَمَاءِ الْوَرْدِ، وَكُلِّ مَا يَنْعَصِرُ بِالْعَصْرِ فَقَدْ بَقِيَ حُكْمُ النَّصِّ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ وَهُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ أَيْ كَوْنُ الْمَاءِ آلَةً صَالِحَةً لِلتَّطْهِيرِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ثُمَّ فَسَّرَ صَلَاحَهُ لِلتَّطْهِيرِ، فَقَالَ: وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُنَجَّسُ حَالَةَ الِاسْتِعْمَالِ يَعْنِي إنَّمَا أَرَدْت بِكَوْنِهِ آلَةً صَالِحَةً لِلتَّطْهِيرِ أَنَّهُ لَا يُنَجَّسُ حَالَةَ الِاسْتِعْمَالِ لَا أَنَّهُ مُطَهَّرٌ بِالْقُوَّةِ قَبْلَ الِاسْتِعْمَالِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ حِسِّيٌّ أَوْ طَبْعِيٌّ لَا يَصْلُحُ تَعْلِيلُهُ وَإِنَّمَا التَّعْلِيلُ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ فِي الْمُزِيلِ وَهُوَ عَدَمُ تَنَجُّسِهِ حَالَةَ الِاسْتِعْمَالِ وَالْحُكْمُ فِي الْمَحَلِّ، وَهُوَ ثُبُوتُ الطَّهَارَةِ فِيهِ هَذَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ أَيْ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالنَّصِّ عَدَمُ ثُبُوتِ صِفَةِ النَّجَاسَةِ فِي الْمُزِيلِ وَهُوَ الْمَاءُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَسِ إلَى أَنْ يُزَالَ الثَّوْبُ، وَثُبُوتُ صِفَةِ الطَّهَارَةِ فِي الْمَحَلِّ بِوَاسِطَةِ الْإِزَالَةِ فَعَدَّيْنَا هَذَا الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ إلَى نَظِيرِهِ بِالتَّعْلِيلِ. وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ فِي الْأَصْلِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] وَالطَّهُورُ اسْمٌ لِمَا يُتَطَهَّرُ بِهِ كَالرُّكُوبِ، وَالْمَحْلُوبُ اسْمٌ لِمَا يُرْكَبُ وَيُحْلَبُ وَأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ طَهُورًا؛ لِأَنَّهُ مُزِيلٌ لِلنَّجَاسَةِ عَنْ الْمَحَلِّ لَا أَنَّهُ تَبَدُّلُ حُكْمِ النَّجَاسَةِ إلَى طَهَارَةٍ شَرْعًا بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَحَلَّ لَا يَطْهُرُ مَا لَمْ تَزُلْ عَيْنُ النَّجَاسَةِ عَنْهُ. وَإِذَا كَانَ التَّطْهِيرُ بِحُكْمِ الْإِزَالَةِ، وَغَيْرُ الْمَاءِ يُشَارِكُ الْمَاءَ فِي الْإِزَالَةِ فَيُشَارِكُ فِي حُكْمِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ طَهُورًا مِثْلَهُ، وَإِذَا صَارَ طَهُورًا سَقَطَ تَنَجُّسُهُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَسِ، وَثَبَتَ الطَّهَارَةُ فِي الْمَحَلِّ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْإِزَالَةِ كَمَا فِي الْمَاءِ وَلَا يُقَالُ: الْمَاءُ مَعَ كَوْنِهِ طَهُورًا تَنَجَّسَ بِالْغُسْلِ بِهِ قِيَاسًا وَسَقَطَ حُكْمُ الْقِيَاسِ

وَلَا يَلْزَمُ أَنَّ الْحَدَثَ لَا يَزُولُ بِسَائِرِ الْمَائِعَاتِ لِأَنَّ عَمَلَ الْمَاءِ لَا يَثْبُتُ فِي مَحَلِّ الْحَدَثِ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْمُزَالِ وَذَلِكَ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ ثَبَتَ فِي مَحَلِّ الْغُسْلِ غَيْرُ مَعْقُولٍ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الَّذِي يُوجَدُ مُبَاحًا لَا يُبَالِي بِخَبَثِهِ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ إثْبَاتُهُ فِي أَوَانِ اسْتِعْمَالِ سَائِرِ الْمَائِعَاتِ بِالرَّأْيِ هُوَ مِمَّا لَا يُعْقَلُ مَعَ أَنَّ سَائِرَ الْمَائِعَاتِ يَلْحَقُنَا الْحَرَجُ بِخُبْثِهَا لِأَنَّهَا أَمْوَالٌ لَا تُوجَدُ مُبَاحَةً غَالِبًا ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي حَقِّهِ بِالنَّصِّ ضَرُورَةَ إمْكَانِ التَّطْهِيرِ بِهِ، وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ فِي غَيْرِهِ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ ضَرُورَةً لِانْدِفَاعِهَا بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ لِأَنَّا نَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَاءَ تَنَجَّسَ بِالْغُسْلِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى تَنَجَّسَ لَمْ يَبْقَ طَهُورًا، فَإِنَّ هَذَا الِاسْمَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا حَالَةَ الْغُسْلِ؛ إذْ لَا حَقِيقَةَ لِلطَّهُورِيَّةِ إلَّا حَالَةَ الْغُسْلِ فَكَانَ طَهُورًا حَالَةَ الِاسْتِعْمَالِ بِالنَّصِّ لَا بِحُكْمِ الضَّرُورَةِ كَحِلِّ الْمَيْتَةِ بَلْ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ أَصْلِيَّةٌ لَهُ كَحِلِّ الذَّبِيحَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الضَّرُورَةَ تَرْتَفِعُ بِمِيَاهِ الْأَوْدِيَةِ ثُمَّ جَعَلَ مَاءَ الْبَحْرِ طَهُورًا بِلَا ضَرُورَةٍ فَثَبَتَ أَنَّهُ طَهُورٌ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ أَصْلٌ قَبْلَ التَّعْلِيلِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صَارَ طَهُورًا بِاعْتِبَارِ الْإِزَالَةِ فَصَارَ كُلُّ مُزِيلٍ طَهُورًا مِثْلَهُ حَتَّى إنَّ السَّيْفَ إذَا أَصَابَهُ دَمٌ فَيَبِسَ، وَمُسِحَ بِحَجَرٍ أَوْ خَشَبَةٍ طَهُورٌ، وَكَانَ ذَلِكَ طَهُورًا؛ لِأَنَّهُ أَزَالَ عَيْنَهُ وَأَثَرَهُ كَالْمَاءِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَضْلِ الْكَرْمَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي جَوَابِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ أَنَّ بَعْضَ النَّجَاسَةِ الَّتِي كَانَتْ مُجَاوِرَةً لِلثَّوْبِ جَاوَرَ الْمَاءَ؛ لِأَنَّ نَجَاسَةَ الْمَاءِ بِالْمُلَاقَاةِ مَا كَانَ بِتَبَدُّلِهِ فِي نَفْسِهِ بَلْ بِالْمُجَاوَرَةِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ إثْبَاتِ الْمُجَاوَرَةِ فِي حَقِّ الْمَاءِ عَدَمُ الْمُجَاوَرَةِ فِي الثَّوْبِ بِقَدْرِهِ، وَالنَّجَاسَةُ فِي نَفْسِهَا مُتَنَاهِيَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَنْقَطِعَ الْمُجَاوَرَةُ عَنْ الثَّوْبِ بِتَكَرُّرِ الْغُسْلِ لِتَنَاهِي النَّجَاسَةِ ضَرُورَةً إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ تَصَرَّفَ بِالْحُكْمِ بِتَنَاهِي النَّجَاسَةِ بِإِزَالَةِ الْعَيْنِ وَالْأَثَرِ فِيمَا لَهُ أَثَرٌ وَبِالثُّلُثِ فِيمَا أَثَرَ لَهُ فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِعَدَمِ الزَّوَالِ عَنْ الْمَحَلِّ وَعَدَمِ تَنَاهِي النَّجَاسَةِ مَرْدُودٌ عَقْلًا، وَأَنَّ التَّنَجُّسَ بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ إنْ سُلِّمَ غَيْرُ مَانِعٍ عَنْ ثُبُوتِ الطَّهَارَةِ فِي الْمَحَلِّ. وَكَذَا الطَّهَارَةُ فِي الْمَحَلِّ كَانَتْ ثَابِتَةً بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَلَمْ تَبْقَ بِالْمُجَاوَرَةِ فَإِذَا زَالَ الْمُجَاوِرُ وَظَهَرَتْ الطَّهَارَةُ الْأَصْلِيَّةُ لَا أَنْ تَثْبُتَ طَهَارَةٌ بِالنَّصِّ ابْتِدَاءً. 1 - قَوْلُهُ: (وَلَا يَلْزَمُ أَنَّ الْحَدَثَ لَا يَزُولُ بِسَائِرِ الْمَائِعَاتِ) وَوَجْهُ وُرُودِهِ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ إلْحَاقُ غَيْرِ الْمَاءِ بِهِ فِي كَوْنِهِ طَهُورًا بِعِلَّةِ الْإِزَالَةِ جَازَ فِي النَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ الْإِلْحَاقُ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ طَهُورِيَّةَ الْمَاءِ فِيهَا بِاعْتِبَارِ الْإِزَالَةِ كَمَا فِي النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَقَدْ أَنْكَرْتُمْ ذَلِكَ فَيَكُونُ مُنَاقَضَةً مِنْكُمْ فَقَالَ: لَا يَلْزَمُ عَلَيْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْمَاءِ، وَهُوَ التَّطْهِيرُ لَا يَثْبُتُ فِي مَحَلِّ الْغُسْلِ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْمُزَالِ، وَهُوَ الْمَانِعُ الْحُكْمِيُّ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ الْمُسَمَّى بِالْحَدَثِ لِيَثْبُتَ بِوَاسِطَةِ إزَالَتِهِ الطَّهَارَةُ فِي الْمَحَلِّ، وَذَلِكَ أَيْ الْمُزَالُ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ ثَبَتَ فِي مَحَلِّ الْغُسْلِ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى لِطَهَارَةِ الْمَحَلِّ حَقِيقَةً وَشَرْعًا أَمَّا حَقِيقَةً فَظَاهِرٌ وَأَمَّا شَرْعًا فَلِأَنَّهُ لَوْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ لَا يَغْسِلُ وَكَذَا حَلَّ لَهُ تَنَاوُلُ الطَّعَامِ بِالْيَدِ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَهُ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الَّذِي لَا يُبَالَى بِخَبَثِهِ بِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] فَلَمْ يَسْتَقِمْ إثْبَاتُ هَذَا الْمُزَالِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى عِنْدَ اسْتِعْمَالِ سَائِرِ الْمَائِعَاتِ بِالرَّأْيِ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى لَا يُمْكِنُ تَعْلِيلُهُ لِلتَّعْدِيَةِ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ مَعَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْقُولَ الْمَعْنَى لَا يُمْكِنُ التَّعْدِيَةُ أَيْضًا عَنْ سَائِرِ الْمَائِعَاتِ لَيْسَ بِنَظِيرِهِ لِلْمَاءِ، فَإِنَّ الْمَاءَ يُوجَدُ مُبَاحًا لَا يُبَالَى بِخَبَثِهِ فَلَا يَكُونُ فِي إثْبَاتِ الْمُزَالِ الَّذِي يَلْزَمُ مِنْهُ خَبَثُهُ عِنْدَ الِاسْتِعْمَالِ حَرَجٌ فَيُمْكِنُ إثْبَاتُهُ. فَأَمَّا سَائِرُ الْمَائِعَاتِ فَأَمْوَالٌ لَا تُوجَدُ مُبَاحَةً إلَى الْغَالِبِ فَيَكُونُ فِي إثْبَاتِ الْمُزَالِ الَّذِي يَلْزَمُ مِنْهُ خَبَثُهَا، وَحُرْمَةُ الِانْتِفَاعِ بِهَا حَرَجٌ عَظِيمٌ فَلَا يَدُلُّ إثْبَاتُ

[باب ركن القياس]

وَلَا يَلْزَمُ أَنَّ الْوُضُوءَ صَحَّ مَعَ هَذَا بِغَيْرِ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ التَّغَيُّرَ ثَبَتَ فِي مَحَلِّ الْعَمَلِ بِوَجْهٍ لَا يُعْقَلُ فَبَقِيَ الْمَاءُ عَامِلًا بِطَبْعِهِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يُعْقَلُ، وَهَذِهِ حُدُودٌ لَا يُهْتَدَى لِدَرْكِهَا إلَّا بِالتَّأَمُّلِ وَالْإِنْصَافِ وَتَعْظِيمِ حُدُودِ الشَّرْعِ وَتَوْقِيرِ السَّلَفِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مِنَّةً مِنْ اللَّهِ وَفَضْلًا. (بَابُ الرُّكْنِ) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رُكْنُ الْقِيَاسِ مَا جُعِلَ عَلَمًا عَلَى حُكْمِ النَّصِّ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ النَّصُّ وَجُعِلَ الْفَرْعُ نَظِيرًا لَهُ فِي حُكْمِهِ بِوُجُودِهِ فِيهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُزَالِ فِيمَا لَا حَرَجَ فِي خَبَثِهِ عَلَى إثْبَاتِهِ فِيمَا فِيهِ حَرَجٌ فَيَمْتَنِعُ الْإِلْحَاقُ قِيَاسًا وَدَلَالَةً وَلَا يُقَالُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمُزَالُ فِي الْمَحَلِّ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ الْمَائِعِ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ الصَّلَاةُ بِدُونِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّا لَا نُنْكِرُ وُجُودَ الْمَانِعِ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي الْمَحَلِّ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّهُ لَا يَصِيرُ مُزَالًا بِاسْتِعْمَالِ الْمَائِعِ؛ لِأَنَّ إزَالَتَهُ بِالْمَاءِ تَثْبُتُ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْمَانِعِ أَوْ نَقُولُ: هُوَ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْمَنْعِ عَنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي حَقِّ اسْتِعْمَالِ الْمَائِعِ وَظُهُورِ أَثَرِ طَهُورِيَّتِهِ بِإِزَالَتِهِ وَصَيْرُورَتِهِ خَبِيثًا بِاسْتِعْمَالِهِ فِيهِ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِ بَقِيَ غَيْرَ طَهُورٍ لِتَوَقُّفِ الطَّهُورِيَّةِ عَلَى الْإِزَالَةِ فَكَانَ اسْتِعْمَالُهُ وَعَدَمُ اسْتِعْمَالِهِ سَوَاءً. 1 - قَوْلُهُ: (وَلَا يَلْزَمُ) يَعْنِي عَلَى هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ الْوُضُوءَ صَحَّ مَعَ هَذَا أَيْ مَعَ أَنَّ الْمُزَالَ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى بِغَيْرِ النِّيَّةِ يَعْنِي لِمَا اعْتَبَرَتْ جَانِبَ الْمُزَالِ فِي الْوُضُوءِ وَمَنَعَتْ عَنْ إلْحَاقِ غَيْرِ الْمَاءِ بِهِ لِكَوْنِ الْمُزَالِ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى أَنْ يَنْبَغِيَ أَنْ تُشْتَرَطَ النِّيَّةُ فِي الْوُضُوءِ لِثُبُوتِ الطَّهَارَةِ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى كَمَا فِي التَّيَمُّمِ فَقَالَ: الْمَاءُ مُطَهِّرٌ بِطَبْعِهِ لَمْ يَحْدُثْ فِيهِ مَعْنَى لَا يُعْقَلُ، وَإِنَّمَا حَدَثَ فِي الْمَحَلِّ نَجَاسَةُ غَيْرِ الْمَعْقُولِ حَتَّى صَارَ الْمَاءُ مُطَهِّرًا وَمُزِيلًا لَهُ، وَالنِّيَّةُ مِنْ شَرَائِطِ الْعَمَلِ فَإِذَا بَقِيَ الْمَاءُ طَهُورًا بِطَبْعِهِ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ التَّطْهِيرِ مُطَهِّرًا بِخِلَافِ التُّرَابِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُطَهِّرٍ بِنَفْسِهِ بَلْ فِيهِ تَلْوِيثٌ. وَإِنَّمَا جَعَلَهُ الشَّرْعُ مُطَهِّرًا، وَكَسَاهُ صِفَةَ الطَّهُورِيَّةِ عِنْدَ إرَادَةِ الصَّلَاةِ فَيُشْتَرَطُ لِطَهُورِيَّتِهِ إرَادَةُ الصَّلَاةِ، فَإِذَا وُجِدَتْ حَدَثَتْ لَهُ صِفَةُ الطَّهُورِيَّةِ فَالْتَحَقَ بِالْمَاءِ فَبَعْدَ ذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ كَذَا فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذِهِ الْمَسَائِلُ لَا يَسْتَقِيمُ الْكَلَامُ فِيهَا إلَّا بَعْدَ تَمْيِيزِ الْآلَةِ مِنْ الرُّكْنِ فَالرُّكْنُ بِالْإِجْمَاعِ لَا يَقُومُ مَقَامَ رُكْنٍ، وَالْآلَةُ يَقُومُ مَقَامَ الْآلَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [بَابُ رُكْنُ الْقِيَاسِ] (بَابُ الرُّكْنِ) قَوْلُهُ (رُكْنُ الْقِيَاسِ مَا جُعِلَ عَلَمًا عَلَى حُكْمِ النَّصِّ) رُكْنُ الشَّيْءِ جَانِبُهُ الْأَقْوَى لُغَةً وَفِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ رُكْنُ الشَّيْءِ مَا لَا وُجُودَ لِذَلِكَ الشَّيْءِ إلَّا بِهِ كَالْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لِلصَّلَاةِ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْقِيَاسِ وُجُودٌ إلَّا بِالْمَعْنَى الَّذِي هُوَ مَنَاطُ الْحُكْمِ كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى رُكْنًا فِيهِ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ عَلَمًا؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْعِلَلُ أَمَارَاتٌ عَلَى الْأَحْكَامِ فِي الْحَقِيقَةِ لَا مُوجِبَاتٌ فَكَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مُعَرِّفًا لِحُكْمِ الشَّرْعِ فِي الْمَحَلِّ، وَهُوَ مَعْنَى الْعَلَمِ. ثُمَّ الْحُكْمُ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مُضَافًا إلَى النَّصِّ وَفِي الْفَرْعِ إلَى الْعِلَّةِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ وَالْقَاضِي الْإِمَامِ وَالشَّيْخَيْنِ وَمُتَابَعِيهِمْ بِكَوْنِ ذَلِكَ الْمَعْنَى عَلَمًا عَلَى وُجُودِ حُكْمِ النَّصِّ فِي الْفَرْعِ وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَى الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ جَمِيعًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَشَايِخِ سَمَرْقَنْدَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَجُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ يَكُونُ ذَلِكَ الْمَعْنَى عَلَمًا عَلَى ثُبُوتِ حُكْمِ النَّصِّ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ مَعًا وَذَكَرَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مُشْتَمِلَةً عَلَى حِكْمَةٍ صَالِحَةً لَأَنْ تَكُونَ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ لَا بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ الْمُجَرَّدَةِ، لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ مُجَرَّدَ أَمَارَةٍ وَهِيَ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ لَزِمَ الدَّوْرُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا مُسْتَنْبَطَةً مِنْ

وَهُوَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لَازِمًا مِثْلُ الثَّمَنِيَّةِ جَعَلْنَاهَا عِلَّةً لِلزَّكَاةِ فِي الْحُلِيِّ وَالطَّعْمِ جَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ عِلَّةً لِلرِّبَا، أَوْ وَصْفًا عَارِضًا أَوْ اسْمًا، «كَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُسْتَحَاضَةِ إنَّهُ دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ» ، وَهُوَ اسْمُ عَلَمٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQحُكْمِ الْأَصْلِ تَكُونُ مُتَفَرِّعَةً عَنْهُ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا أَمَارَةٌ مُجَرَّدَةٌ وَلَا فَائِدَةَ لِلْأَمَارَةِ سِوَى تَعْرِيفِ الْحُكْمِ كَانَ الْحُكْمُ مُتَفَرِّعًا عَنْهَا وَهُوَ دَوْرٌ. قَالَ وَمِنْ كَوْنِ الْأَمَارَةِ الْمُجَرَّدَةِ لَا فَائِدَةَ لَهَا سِوَى تَعْرِيفِ الْحُكْمِ يُعْلَمُ بُطْلَانُ التَّعْلِيلِ بِهَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ مُعَرَّفٌ بِالنَّصِّ، أَوْ بِالْإِجْمَاعِ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ النَّصُّ يَعْنِي يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي جُعِلَ عَلَمًا عَلَى حُكْمِ النَّصِّ مِنْ الْأَوْصَافِ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا النَّصُّ إمَّا بِصِيغَتِهِ كَاشْتِمَالِ نَصِّ الرِّبَا عَلَى الْكَيْلِ وَالْجِنْسِ، أَوْ بِغَيْرِ صِيغَتِهِ كَاشْتِمَالِ نَصِّ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْآبِقِ عَلَى الْعَجْزِ عَنْ التَّسْلِيمِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَمَّا كَانَ مُسْتَنْبَطًا مِنْ النَّصِّ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِهِ صِيغَةً أَوْ ضَرُورَةً. وَجُعِلَ الْفَرْعُ نَظِيرًا لَهُ فِي حُكْمِهِ بِوُجُودِ الضَّمِيرِ فِي لَهُ وَحُكْمُهُ رَاجِعٌ إلَى النَّصِّ وَفِي بِوُجُودِهِ رَاجِعٌ إلَى مَا، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ يَعْنِي وَجُعِلَ الْفَرْعُ مُمَاثِلًا لِلنَّصِّ أَيْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي حُكْمِهِ مِنْ الْجَوَازِ وَالْغُسْلِ وَالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ؛ بِسَبَبِ وُجُودِ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي الْفَرْعِ وَقِيلَ هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ وَذَكَرَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ أَرْكَانَ الْقِيَاسِ أَرْبَعَةٌ: الْأَصْلُ وَالْفَرْعُ وَحُكْمُ الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ الْجَامِعِ أَمَّا حُكْمُ الْفَرْعِ فَثَمَرَةُ الْقِيَاسِ لِتَوَقُّفِهِ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ رُكْنًا فِيهِ لَتَوَقَّفَ عَلَى نَفْسِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَهَذَا حَسَنٌ؛ لِأَنَّ انْعِقَادَ الْقِيَاسِ كَمَا تَوَقَّفَ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ الْعِلَّةُ تَوَقَّفَ عَلَى الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ وَذُكِرَ فِي الْمِيزَانِ أَنَّ رُكْنَ الْقِيَاسِ هُوَ الْوَصْفُ الصَّالِحُ الْمُؤَثِّرُ فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ مَتَى وُجِدَ مِثَالُهُ فِي الْفَرْعِ يَثْبُتُ مِثْلُ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِيهِ قِيَاسًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاس لَمَّا كَانَ رَدَّ الْفَرْعِ إلَى أَصْلٍ لِإِثْبَاتِ حُكْمِ الْأَصْلِ فِيهِ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ بِالنَّصِّ لِأَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْفَرْعَ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَصْلِ وَصْفٌ يَجِبُ بِهِ الْحُكْمُ شَرْعًا حَتَّى يَثْبُتَ مِثْلُهُ فِي الْفَرْعِ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْوَصْفِ إذْ لَوْ لَمْ تَكُنْ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ فَدَلَّ أَنَّ الرُّكْنَ مَا قُلْنَا، وَإِنْ كَانَ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِالْقِيَاسِ سِوَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا شَرَائِطَهُ لَكِنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ إلَى الرُّكْنِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرَائِطِ لَا إلَيْهَا كَالنِّكَاحِ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرَائِطِ مِنْ الْأَهْلِيَّةِ وَالشَّهَادَةِ وَنَحْوِهِمَا وَثُبُوتُ الْحُكْمِ يُضَافُ إلَى الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ دُونَ الشَّرَائِطِ فَكَذَا هَذَا، قَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ قَوْلُ مَشَايِخِ سَمَرْقَنْدَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَوْلُهُ. (وَهُوَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لَازِمًا) أَيْ الْمَعْنَى الَّذِي جُعِلَ عَلَمًا عَلَى حُكْمِ النَّصِّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لَازِمًا لِلْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِثْلُ الثَّمَنِيَّةِ جَعَلْنَاهَا عِلَّةً لِلزَّكَاةِ فِي الْحُكْمِ فَقُلْنَا يَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ سَوَاءٌ صِيغَتْ صِيَاغَةً تَحِلُّ أَوْ تَحْرُمُ كَمَا تَجِبُ فِي غَيْرِ الْمَصُوغِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ فِي غَيْرِ الْمَصُوغِ لِوَصْفِ أَنَّهُ ثَمَنٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ وَهَذِهِ الصِّفَةُ لَا تَبْطُلُ بِصَيْرُورَتِهِ حُلِيًّا فَإِنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ خَلْقٌ جَوْهَرِيُّ الْأَثْمَانِ لَا يُعَارِضُهُمَا هَذَا الْوَصْفُ بِحَالٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرِّبَا لَمَّا تَعَلَّقَ عِنْدَهُ هَذَا الْوَصْفُ بَقِيَ الْحُكْمُ بَعْدَمَا صَارَ حُلِيًّا لِبَقَاءِ الْوَصْفِ (فَإِنْ قِيلَ) الزَّكَاةُ لَا تَتَعَلَّقُ بِكَوْنِهِ ثَمَنًا فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ حُلِيًّا لَمْ يَجِبْ فِيهَا شَيْءٌ عِنْدِي بَلْ بِمَعْنَى تَحْتَ الثَّمَنِ، وَهُوَ أَنَّهُ لِلتِّجَارَةِ بِهِ، وَهَذَا وَصْفٌ عَارِضٌ يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ قِبَلِنَا فَإِذَا جُعِلَ حُلِيًّا سَقَطَ هَذَا الْوَصْفُ فَتَسْقُطُ الزَّكَاةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ كَمَا لَوْ جُعِلَتْ السَّائِمَةُ عَلُوفَةً (قُلْنَا) لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِنَا ثَمَنٌ وَبَيْنَ قَوْلِنَا إنَّهُ مَالُ التِّجَارَةِ فَالتِّجَارَةُ تَكُونُ بِالْأَثْمَانِ وَبِالثَّمَنِيَّةِ

وَانْفَجَرَ صِفَةٌ عَارِضَةٌ غَيْرُ لَازِمَةٍ وَعَلَّلْنَا بِالْكَيْلِ، وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ وَيَكُونُ جَلِيًّا وَخَفِيًّا ـــــــــــــــــــــــــــــQيَصِيرُ نِصَابًا لَا بِاسْتِعْمَالِنَا فَثَبَتَ أَنَّ الثَّمَنِيَّةَ الَّتِي بِهَا صَارَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ نِصَابًا صِفَةً لَازِمَةً بِمَنْزِلَةِ صِفَةِ ذَاتِهِ لَا تَزُولُ بِحَالٍ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَالطَّعْمُ جَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ عِلَّةً لِلرِّبَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الطَّعْمَ يُنَبِّئُ عَنْ خَطَرِ الْمَحَلِّ لِتَعَلُّقِ بَقَاءِ الْعِلْمِ بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ إظْهَارِ الشَّرَفِ فِي الْعَقْدِ بِشَرْطٍ زَائِدٍ، وَهُوَ الْمُمَاثَلَةُ كَمَا قَيَّدَ تَمَلُّكَ الْأَبْضَاعِ بِشُرُوطٍ ثُمَّ الطَّعْمُ وَصْفٌ لَازِمٌ لِلْمَطْعُومِ كَالثَّمَنِيَّةِ لِلْجَوْهَرَيْنِ فَثَبَتَ أَنَّ التَّعْلِيلَ بِمِثْلِ هَذَا الْوَصْفِ جَائِزٌ وَوَصْفًا عَارِضًا وَاسْمًا يَعْنِي كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَصْفًا لَازِمًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا عَارِضًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّلَ لِانْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ فِي حَقِّ الْمُسْتَحَاضَةِ بِقَوْلِهِ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ حُبَيْشٍ تَوَضَّئِي وَصَلِّي فَإِنَّمَا هُوَ، أَيْ دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ، وَهُوَ أَيْ الدَّمُ اسْمُ عَلَمٍ أَيْ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لَمْ يُسْبَقْ عَنْ مَعْنًى انْفَجَرَ صِفَةٌ عَارِضَةٌ إذْ الدَّمُ مَوْجُودٌ فِي الْعِرْقِ، وَلَيْسَ بِمُنْفَجِرٍ. فَالتَّعْلِيلُ بِالِاسْمِ يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ صِفَةِ النَّجَاسَةِ وَبِالِانْفِجَارِ يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ صِفَةِ الْخُرُوجِ فَيَتَعَلَّقُ الِانْتِقَاضُ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ (فَإِنْ قِيلَ) لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَعْلِيلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لِانْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ بَلْ لِنَفْيِ وُجُوبِ الِاغْتِسَالِ أَوْ لِنَفْيِ سُقُوطِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ الْإِشْكَالَ كَانَ وَاقِعًا فِيهِمَا لَا فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ يَجِبُ بِالْبَوْلِ الَّذِي هُوَ أَدْنَى مِنْهُ فَكَانَ التَّعْلِيلُ لِبَيَانِ نَفْيِ وُجُوبِ الِاغْتِسَالِ عَنْهَا أَوْ لِسُقُوطِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُتَعَلِّقٌ بِدَمِ الرَّحِمِ لَا بِدَمِ الْعِرْقِ (قُلْنَا) قَدْ أَشْكَلَ وُجُوبُ الْوُضُوءِ عَلَى إمَامٍ مُجْتَهِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ بِأَنَّ دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ حَدِيثٌ فَكَيْفَ لَا يُشْكَلُ عَلَى امْرَأَةٍ حَدِيثٌ عَهْدُهَا بِالْإِسْلَامِ، عَلَى أَنَّا نَجْعَلُ هَذَا التَّعْلِيلَ لِكُلِّ مَا يَصْلُحُ عِلَّةً لَهُ مِنْ الْمَنْظُومِ وَالْمَفْهُومِ جَمِيعًا فَيَكُونُ بِالنَّصِّ دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ عَنْ كُلِّ دَمِ عِرْقٍ يَنْفَجِرُ أَيْ بِسَيْلٍ وَبِالْحَالِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الِاغْتِسَالَ وَسُقُوطَ الصَّلَاةِ لَا يَتَعَلَّقَانِ بِدَمِ الْعِرْقِ بَلْ بِدَمِ الرَّحِمِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ، وَلَا يَذْهَبْنَ بِك الْوَهْمُ فِي قَوْلِهِ وَصْفًا عَارِضًا وَاسْمًا إلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ لِصِحَّةِ التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الْعَارِضِ فَإِنَّ التَّعْلِيلَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا صَحِيحٌ، وَلِهَذَا ذَكَرَ بَعْدَهُ وَصْفَ الْكَيْلِ مُنْفَرِدًا بِدُونِ ذِكْرِ الِاسْمِ وَقَدْ صَرَّحَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ بِذِكْرِ أَوْ مَكَانِ الْوَاوِ فَقَالَ: وَقَدْ يَكُونُ وَصْفًا عَارِضًا أَوْ اسْمًا وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي التَّقْوِيمِ أَيْضًا فَقِيلَ وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لَازِمًا، أَوْ عَارِضًا أَوْ اسْمًا أَوْ حُكْمًا إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ الْوَاوَ. وَلِأَنَّ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ لَا بُدَّ لِانْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ مِنْ الْأَمْرَيْنِ وَذَكَرَ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ تَفْصِيلًا وَاخْتِلَافًا فِي هَذَا الْفَصْلِ فَقَالَ إنَّ الِاسْمَ إذَا جُعِلَ عِلَّةً فَإِنْ كَانَ مُشْتَقًّا مِنْ فِعْلٍ كَالضَّارِبِ وَالْقَاتِلِ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ عِلَّةً؛ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ عِلَلًا فِي الْأَحْكَامِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْتَقًّا بِأَنْ كَانَ عَلَمًا كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَلَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِهِ لِعَدَمِ لُزُومِهِ وَجَوَازِ انْتِقَالِهِ، وَإِنَّمَا يُوضَعُ مَوْضِعَ الْإِشَارَةِ وَلَيْسَتْ الْإِشَارَةُ بِعِلَّةٍ فَكَذَا الِاسْمُ الْقَائِمُ مَقَامَهَا وَإِنْ كَانَ اسْمُ جِنْسٍ كَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالْبَعِيرِ وَالْفَرَسِ فَمِنْ الْأَصْحَابِ مَنْ جَوَّزَ التَّعْلِيلَ بِهِ لِلُزُومِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْأَسَامِي يُشْبِهُ التَّعْلِيلَ بِالطَّرْدِ وَهُوَ فَاسِدٌ بِخِلَافِ الْأَسَامِي الْمُشْتَقَّةِ فَإِنَّ التَّعْلِيلَ فِيهَا لِمَوْضِعِ الِاشْتِقَاقِ لَا بِنَفْسِ الِاسْمِ (فَإِنْ قِيلَ) مَا الْفَرْقُ بَيْنَ التَّعْلِيلِ بِاسْمِ الدَّمِ وَبَيْنَ التَّعْلِيلِ بِاسْمِ الْخَمْرِ حَيْثُ لَمْ يَجُزْ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ؟ قُلْنَا الْفَرْقُ أَنَّ التَّعْلِيلَ هُنَاكَ لِتَعْدِيَةِ اسْمِ الْخَمْرِ إلَى النَّبِيذِ ثُمَّ تَرْتِيبِ الْحُرْمَةِ عَلَى الِاسْمِ فَيَكُونُ قِيَاسًا

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا كَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الَّتِي سَأَلَتْهُ عَنْ الْحَجِّ «أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ» ، وَهَذَا حُكْمٌ وَكَقَوْلِنَا فِي الْمُدَبَّرِ إنَّهُ مَمْلُوكٌ تَعَلَّقَ عِتْقُهُ بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى، وَهَذَا حُكْمٌ أَيْضًا ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي اللُّغَةِ فَلَا يَجُوزُ، وَالتَّعْلِيلُ هَاهُنَا بِمَعْنَى الِاسْمِ لِتَعْدِيَةِ الْحُكْمِ بِهِ إلَى الْفَرْعِ لَا بِمُجَرَّدِ الِاسْمِ فَيَكُونُ تَعْلِيلًا بِالْوَصْفِ حَقِيقَةً فَيَصِحُّ. وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ فِيهِ أَنَّ رُكْنَ الْقِيَاسِ قَدْ يَكُونُ اسْمًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ كَحُرْمَةِ الْخَمْرِ تَثْبُتُ بِاسْمِ الْخَمْرِ هُوَ عِلَّتُهَا حَتَّى لَا تَتَعَدَّى إلَى الثُّلُثِ وَتَثْبُتُ فِي قَلِيلِ الْخَمْرِ لِوُجُودِ الِاسْمِ وَإِنْ لَمْ يُسْكِرْ. وَكَذَا الْحُدُودُ يَتَعَلَّقُ بِاسْمِ الزِّنَا وَالْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ وَنَحْوِهَا قَالَ وَلَكِنَّا نَقُولُ إنْ عُنِيَ بِهِ أَنَّهُ تَعَلَّقَ بِعَيْنِ الِاسْمِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يَثْبُتُ بِوَضْعِ أَرْبَابِ اللُّغَةِ، وَلَهُمْ أَنْ يُسَمُّوا الْخَمْرَ بِاسْمٍ آخَرَ وَإِنْ عُنِيَ بِهِ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالذَّاتِ الَّذِي اسْتَحَقَّ بِهِ الِاسْمُ وَهُوَ كَوْنُ الْمَائِعِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ بَعْدَمَا غَلَى أَوْ اشْتَدَّ فَهَذَا مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ حِينَئِذٍ يَكُونُ هَذَا تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْمَعْنَى لَا بِالِاسْمِ وَعَلَّلْنَا يَعْنِي نَصَّ الرِّبَا بِوَصْفِ الْكَيْلِ، وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَصْفٌ عَارِضٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ عَادَاتِ النَّاسِ فِي الْأَمَاكِنِ وَالْأَوْقَاتِ، وَيَكُونُ جَلِيًّا أَيْ يَكُونُ ذَلِكَ الْمَعْنَى ظَاهِرًا لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى زِيَادَةِ تَأَمُّلٍ مِثْلُ الطَّوْفِ جُعِلَ عِلَّةً لِسُقُوطِ النَّجَاسَةِ فِي الْهِرَّةِ وَسَوَاكِنِ الْبُيُوتِ وَخَفِيًّا مِثْلُ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ، أَوْ الْمُرَادُ مِنْ الْجَلِيِّ الْمَعْنَى الْقِيَاسِيُّ وَمِنْ الْخَفِيِّ الْمَعْنَى الِاسْتِحْسَانَيْ وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْأَوْصَافِ الْخَفِيَّةِ الْبَاطِنَةِ مِثْلُ تَعْلِيلِ ثُبُوتِ حُكْمِ الْبَيْعِ بِرِضَاءِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ الْمُعَلَّلَ بِهِ مُعَرِّفٌ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي هُوَ خَفِيٌّ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ جَلِيًّا؛ لِأَنَّ الْخَفِيَّ لَا يُعْرَفُ بِالْخَفِيِّ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْوَصْفَ وَإِنْ كَانَ خَفِيًّا لَكِنَّهُ بِدَلَالَةِ الصِّيَغِ الظَّاهِرَةِ عَلَيْهِ كَدَلَالَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ عَلَى الرِّضَا، أَوْ بِدَلَالَةِ التَّأْثِيرِ صَارَ مِنْ الْأَوْصَافِ الظَّاهِرَةِ فَيَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِهِ قَوْلُهُ (وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا) أَيْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا جُعِلَ عَلَمًا عَلَى حُكْمِ النَّصِّ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّلَ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْعِبَادِ فِي حَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ، وَهُوَ حُكْمٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ: لَا يَجُوزُ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي فُرِضَ عِلَّةً إنْ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْحُكْمِ الَّذِي جُعِلَ مَعْلُولًا لَزِمَ انْتِقَاضُ الْعِلَّةِ لِتَخَلُّفِ حُكْمِهَا عَنْهَا فَلَا يَصِحُّ عِلَّةً وَكَذَا إنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ لِأَنَّ الْمُتَأَخِّرَ لَا يَكُونُ عِلَّةً لِلْمُتَقَدِّمِ وَكَذَا إنْ قَارَنَهُ إذْ لَيْسَ جَعْلُ أَحَدِهِمَا عِلَّةً لِلْآخَرِ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ هُوَ عِلَّةٌ وَأَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ فَهُوَ إذَنْ عَلَى تَقْدِيرَاتٍ ثَلَاثٍ لَا يَكُونُ عِلَّةً وَعَلَى تَقْدِيرِ وَاحِدٌ يَكُونُ عِلَّةً، وَالْعِبْرَةُ فِي الشَّرْعِ لِلْغَالِبِ لَا لِلنَّادِرِ فَوَجَبَ الْحُكْمُ؛ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ وَلِأَنَّ شَرْطَ الْعِلَّةِ التَّقَدُّمُ عَلَى الْمَعْلُولِ وَتَقَدُّمُ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَكَانَ شَرْطُ الْعِلِّيَّةِ مَجْهُولًا فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالْعِلِّيَّةِ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ إلَى أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْحُكْمِ يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّلَ بِهِ فِي حَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ حَيْثُ قَالَ «أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ» وَالدَّيْنُ عِبَارَةٌ عَنْ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ وَذَلِكَ بِالْوُجُوبِ وَأَنَّهُ حُكْمٌ. وَقَالَ فِي حَدِيثِ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ «أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضَتْ بِمَاءٍ ثُمَّ مَجَجْتَهُ أَكَانَ يَضُرُّكَ» وَفِي حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ «أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضَتْ بِمَاءٍ، ثُمَّ مَجَجْتَهُ أَكُنْت شَارِبَهُ» وَفِي إتْيَانِ الرَّجُلِ أَهْلَهُ «أَرَأَيْت لَوْ وَضَعَهُ فِي حَرَامٍ أَكَانَ يَأْثَمُ» فَهَذَا كُلُّهُ تَعْلِيلٌ بِالْحُكْمِ وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ إنْ جُعِلَتْ بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ الْمُعَرِّفَةِ فَلَا امْتِنَاعَ فِي أَنْ يَجْعَلَ الشَّارِعُ حُكْمًا عَلَمًا لِحُكْمٍ آخَرَ بِأَنْ يَقُولَ إذَا حَرَّمْتُ كَذَا فَاعْلَمُوا أَنِّي

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَرْدًا وَعَدَدًا كَمَا ـــــــــــــــــــــــــــــQحَرَّمْت كَذَا أَوْ إذَا أَوْجَبْتُ كَذَا فَاعْلَمُوا أَنِّي حَكَمْت بِكَذَا وَإِنْ جُعِلَتْ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ فَلَا امْتِنَاعَ أَيْضًا فِي أَنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مُسْتَلْزِمًا حُصُولَ مَصْلَحَةٍ لَا تَحْصُلُ مِنْ أَحَدِهِمَا بِانْفِرَادٍ فَثَبَتَ أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْحُكْمِ جَائِزٌ وَخَرَجَ بِمَا ذَكَرْنَا الْجَوَابُ عَنْ كَلَامِهِمْ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ انْتِقَاضَ الْعِلَّةِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّقْدِيمِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَكُنْ عِلَّةً بِذَاتِهِ بَلْ بِجَعْلِ الشَّارِعِ إيَّاهُ عِلَّةً بِقِرَانِ الْحُكْمِ الْآخَرِ بِهِ وَلَا نُسَلِّمُ أَيْضًا عَدَمَ صَلَاحِيَّتِهِ لِلْعِلِّيَّةِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّأْخِيرِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ بِمَعْنَى الْمُعَرِّفِ، وَالْمُتَأَخِّرُ يَصْلُحُ مُعَرِّفًا لِلْمُتَقَدِّمِ وَلَا عَلَى تَقْدِيرِ الْمُقَارَنَةِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَفْرُوضٌ فِيمَا إذَا كَانَ أَحَدُ الْحُكْمَيْنِ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ وَلَا نُسَلِّمُ أَيْضًا أَنَّ التَّقَدُّمَ شَرْطُ الْعِلِّيَّةِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَوْلُنَا فِي الْمُدَبَّرِ إنَّهُ مَمْلُوكٌ تَعَلَّقَ عِتْقُهُ بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَأُمِّ الْوَلَدِ مِنْ قَبِيلِ التَّعْلِيلِ بِالْحُكْمِ لِأَنَّ التَّعَلُّقَ حُكْمٌ ثَابِتٌ بِالتَّعْلِيقِ وَقَوْلُهُ بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى احْتِرَازٌ عَنْ الْمُدَبَّرِ الْمُقَيَّدِ فَإِنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، أَوْ قَدِمَ غَائِبِي فَأَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي أَوْ قَالَ: إنْ مِتُّ مِنْ مَرَضِي هَذَا أَوْ مِنْ الْمَرَضِ الْفُلَانِيِّ فَأَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي. 1 - قَوْلُهُ (وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ) أَيْ مَا جُعِلَ عَلَمًا عَلَى حُكْمِ النَّصِّ فَرْدًا أَيْ وَصْفًا فَرْدًا، وَهُوَ بِلَا خِلَافٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَدَدًا مِنْ الْأَوْصَافِ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ مِنْ اجْتِمَاعِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ حَتَّى لَوْ كَانَ كُلُّ وَصْفٍ يَعْمَلُ فِي الْحُكْمِ بِانْفِرَادِهِ كَاجْتِمَاعِ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْمَذْيِ وَالرُّعَافِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُسْتَقِلٌّ فِي إثْبَاتِ حُكْمِ الْحَدَثِ وَكَاجْتِمَاعِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ وَالرِّدَّةِ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُسْتَبِدٍّ فِي إيجَابِ الْقَتْلِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مِمَّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ وَفِيهِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ أَهْلِ الْأُصُولِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ ثُمَّ التَّعْلِيلُ بِعَدَدٍ مِنْ الْأَوْصَافِ جَائِزٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِهِ عِلِّيَّةُ الْوَصْفِ الْوَاحِدِ ثَبَتَ بِهِ عِلِّيَّةُ الْأَوْصَافِ الْمُتَعَدِّدَةِ إذْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ الْهَيْئَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ مِنْ الْأَوْصَافِ الْمُتَعَدِّدَةِ عِلَّةً بِمَا يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَى ظَنِّ التَّعْلِيلِ بِهَا مِنْ تَأْثِيرٍ، أَوْ مُنَاسَبَةٍ أَوْ إخَالَةٍ، أَوْ غَيْرِهَا مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ مِنْهُمْ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ إلَى أَنَّ التَّعْلِيلَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِوَصْفٍ وَاحِدٍ لَا تَرْكِيبَ فِيهِ؛ لِأَنَّ تَرْكِيبَ الْعِلَّةِ لَوْ صَحَّ لَكَانَتْ الْعِلِّيَّةُ صِفَةً زَائِدَةً عَلَى مَجْمُوعِ الْأَوْصَافِ؛ لِأَنَّا نَعْقِلُ مَجْمُوعَ الْأَوْصَافِ وَنَجْهَلُ كَوْنَهَا عِلَّةً وَالْمَجْهُولُ غَيْرُ الْمَعْلُومِ بَعْدَمَا ثَبَتَ أَنَّهَا زَائِدَةٌ فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: حَصَلَتْ تِلْكَ الصِّفَةُ بِتَمَامِهَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَوْصَافِ وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَصْفٍ عِلَّةً لَا أَنْ يَكُونَ الْمَجْمُوعُ عِلَّةً وَهُوَ خِلَافُ الْفَرْضِ وَأَمَّا أَنْ يُقَالَ حَصَلَتْ تِلْكَ الصِّفَةُ لِلْمَجْمُوعِ وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ إنْ ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَوْصَافِ جُزْءٌ مِنْ تِلْكَ الصِّفَةِ وَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ انْقِسَامَ الصِّفَةِ الْعَقْلِيَّةِ بِحَيْثُ يَكُونُ لَهَا نِصْفٌ وَثُلُثٌ وَرُبُعٌ مُحَالٌ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ فِي حُصُولِ الصِّفَةِ لِلْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الْأَفْرَادِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ شَيْءٌ وَاحِدٌ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ يَنْتَقِضُ بِالْحُكْمِ عَلَى الْمُتَعَدِّدِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْحُرُوفِ بِأَنَّهُ خَبَرٌ وَاسْتِخْبَارٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ خَبَرًا زَائِدٌ عَلَيْهِ ثُمَّ إمَّا أَنْ يَقُومَ كَوْنُهُ خَبَرًا بِكُلِّ حَرْفٍ أَوْ بِمَجْمُوعِ الْحُرُوفِ وَيَلْزَمُ مِنْهُ انْقِسَامُ الْمَعْنَى

فِي بَابِ الرِّبَا، أَوْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي النَّصِّ وَهَذَا لَا يَشْكُلُ وَيَجُوزُ فِي غَيْرِهِ إذَا كَانَ ثَابِتًا بِهِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي السَّلَمِ، وَهُوَ مَعْلُولٌ بِإِعْدَامِ الْعَاقِدِ وَلَيْسَ فِي النَّصِّ وَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْآبِقِ مَعْلُولٌ بِالْجَهَالَةِ، أَوْ الْعَجْزِ عَنْ التَّسْلِيمِ وَلَيْسَ فِي النَّصِّ وَعَلَّلَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ بِإِرْقَاقِ جُزْءٍ مِنْهُ وَلَيْسَ فِي النَّصِّ لَكِنَّهُ ثَابِتٌ بِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَى آخَرِ مَا ذَكَرْتُمْ وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ مَعْنَى كَوْنِ مَجْمُوعِ الْأَوْصَافِ عِلَّةً هُوَ أَنَّ الشَّارِعَ قَضَى بِالْحُكْمِ عِنْدَهُ رِعَايَةً لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْأَوْصَافُ مِنْ الْحِكْمَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ صِفَةً لَهَا فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ صِفَةً زَائِدَةً لِيَلْزَمَ مَا ذَكَرُوهُ وَقَوْلُهُ كَمَا فِي الرِّبَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ عَدَدًا فَإِنَّ حُرْمَةَ الرِّبَا مُتَعَلِّقَةٌ بِوَصْفَيْنِ وَهُمَا الْقَدْرُ وَالْجِنْسُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِالْجَمِيعِ فَإِنَّ حُرْمَةَ رِبَا النَّسِيئَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِوَصْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْجِنْسُ أَوْ الْقَدْرُ عِنْدَنَا وَحُرْمَةُ رِبَا الْفَضْلِ مُتَعَلِّقَةٌ بِوَصْفَيْنِ كَمَا قُلْنَا فَيَكُونُ الرِّبَا مِثَالًا لِلْفَرْدِ وَالْعَدَدِ جَمِيعًا وَالتَّعْلِيلُ بِالْأَوْصَافِ مِثْلُ تَعْلِيلِنَا فِي نَجَاسَةِ سُؤْرِ السِّبَاعِ بِأَنَّ السِّبَاعَ حَيَوَانٌ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ لَا لِكَرَامَتِهِ وَلَا بَلْوَى فِي سُؤْرِهِ فَيَكُونُ سُؤْرُهُ نَجَسًا كَسُؤْرِ الْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ وَكَتَعْلِيلِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ بِالْقَتْلِ بِالْمُحَدَّدِ مِنْ الْخَشَبِ بِأَنَّهُ قَتْلُ عَمْدٌ عُدْوَانٌ مَحْضٌ فَيَكُونُ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ كَالْقَتْلِ بِالسَّيْفِ، ثُمَّ مَنْ جَوَّزَ التَّعْلِيلَ بِالْأَوْصَافِ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى عَدَدٍ إلَّا مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ أَنَّهُ قَالَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُزِيدَ الْأَوْصَافَ عَلَى سَبْعَةٍ وَجْهُهُ أَنَّ أَقْصَى مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ مَحَلُّهُ وَمَعْنَى يَقْتَضِيهِ إمَّا مُطْلَقًا، أَوْ مَشْرُوطًا بِوُجُودِ شَرْطٍ، أَوْ عَدَمِ مَانِعٍ وَقَدْ يَتَعَلَّقُ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي بِالْفَاعِلِ فَيُعْتَبَرُ أَهْلِيَّتُهُ وَأَقْصَاهَا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ، ثُمَّ قَدْ لَا يَشْتَغِلُ بِهِ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ بِصِيَغِ الْمُعَارَضَاتِ فَيَحْتَاجُ إلَى غَيْرِهِ فَيَكُونُ مَجْمُوعُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ إيجَابًا وَقَبُولًا صُدُورًا مِنْ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ فِي الْمَحَلِّ مَعَ قِرَانِ الشَّرْطِ وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ وَهِيَ سَبْعَةٌ وَكُلُّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ تَفْصِيلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَيُمْكِنُ رَدُّهُ إلَيْهَا وَلَمَّا لَمْ يَخْلُ هَذَا عَنْ تَكَلُّفٍ كَمَا نَرَى أَعْرَضَ عَنْهُ الْعَامَّةُ وَلَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى عَدَدٍ قَوْلُهُ (وَيَجُوزُ فِي النَّصِّ) يَعْنِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مَذْكُورًا فِي النَّصِّ لَوْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى ثَابِتًا فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ كَالتَّعْلِيلِ بِالطَّوَافِ فِي الْهِرَّةِ فَإِنَّهُ مَذْكُورٌ فِي النَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ وَالطَّوَّافَاتِ عَلَيْكُمْ» ، أَوْ هُوَ ثَابِتٌ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْهِرَّةُ، وَكَذَا التَّعْلِيلُ بِالْقَدْرِ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ فَإِنَّهُ مَذْكُورٌ فِي النَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْلًا بِكَيْلٍ وَزْنًا بِوَزْنٍ، أَوْ ثَابِتٌ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْأَشْيَاءُ السِّتَّةُ. وَهَذَا لَا يَشْكُلُ أَيْ جَوَازُ التَّعْلِيلِ بِوَصْفٍ فِي النَّصِّ غَيْرُ مُشْكِلٍ؛ لِأَنَّ النَّصَّ هُوَ الَّذِي يُعَلِّلُ فَالتَّعْلِيلَ بِوَصْفٍ فِيهِ يَكُونُ صَحِيحًا لَا مَحَالَةَ. وَيَجُوزُ فِي غَيْرِهِ إذَا كَانَ ثَابِتًا بِهِ مَعْنًى وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى ثَابِتًا بِصَرِيحِ النَّصِّ، أَوْ لَا يَكُونُ ثَابِتًا فِي الْمَحَلِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بَلْ يَكُونُ فِي غَيْرِهِ وَلَكِنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِهِ مِثْلُ تَعْلِيلِ جَوَازِ السَّلَمِ بِإِعْدَامِ الْعَاقِدِ أَيْ بِفَقْرِهِ وَاحْتِيَاجِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي النَّصِّ؛ لِأَنَّ الْإِعْدَامَ مَعْنًى فِي الْعَاقِدِ لَا فِي السَّلَمِ لَكِنَّهُ ثَابِتٌ بِهِ أَيْ بِالنَّصِّ بِاعْتِبَارِ أَنَّ وُجُودَ السَّلَمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ يَقْتَضِي عَاقِدًا وَالْإِعْدَامُ صِفَتُهُ فَكَانَ ثَابِتًا بِاقْتِضَائِهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ بِعَيْنِ النَّصِّ وَعَلَّلَ الشَّافِعِيُّ عَدَمَ جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ الثَّابِتِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ» بِأَنَّهُ أَيْ نِكَاحَ الْأَمَةِ إرْقَاقُ جُزْءٍ مِنْهُ، وَهُوَ الْوَلَدُ مَعَ الْغُنْيَةِ عَنْهُ فَلَا يَجُوزُ وَعَدَاهُ إلَى نِكَاحِ الْأَمَةِ مَعَ طُولِ الْحُرَّةِ وَلَيْسَ فِي النَّصِّ فَإِنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ» لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بِصَرِيحِهِ وَلَكِنَّهُ ثَابِتٌ بِهِ فَإِنَّ ذِكْرَ النِّكَاحِ يَقْتَضِي نَاكِحًا كَمَا أَنَّ ذِكْرَ السَّلَمِ يَقْتَضِي عَاقِدًا

وَإِنَّمَا اسْتَوَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ إنَّمَا تُعْرَفُ صِحَّتُهَا بِأَثَرِهَا وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ، وَاتَّفَقُوا أَنَّ كُلَّ أَوْصَافِ النَّصِّ بِجُمْلَتِهَا لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً. وَاخْتَلَفُوا فِي دَلَالَةِ كَوْنِهِ عِلَّةً عَلَى قَوْلَيْنِ فَقَالَ أَهْلُ الطَّرْدِ: إنَّهُ يَصِيرُ حُجَّةً بِمُجَرَّدِ الِاطِّرَادِ مِنْ غَيْرِ مَعْنًى يُعْقَلُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْإِرْقَاقُ صِفَتُهُ فَكَانَ ثَابِتًا بِمُقْتَضَى النَّصِّ. وَذُكِرَ فِي الْمِيزَانِ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْوَصْفِ قَائِمًا بِمَحَلِّ الْحُكْمِ فَعِنْدَ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ هُوَ شَرْطٌ اسْتِدْلَالًا بِالْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ كَالْحَرَكَةِ عِلَّةٌ لِصَيْرُورَةِ الذَّاتِ مُتَحَرِّكًا، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْحَرَكَةُ فِي مَحَلِّ عِلَّةٍ لِصَيْرُورَةِ ذَاتِ آخَرَ مُتَحَرِّكًا فَكَذَا فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ وَمَشَايِخُنَا قَالُوا إنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَصْفُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحُكْمِ فَإِنَّ الْبَيْعَ وَالنِّكَاحَ وَالطَّلَاقَ وَنَحْوَهَا عِلَلٌ لِثُبُوتِ الْأَحْكَامِ فِي الْمَحَالِّ بِهَذِهِ الْعِبَارَاتِ قَائِمَةٌ بِالْعَاقِدَيْنِ. وَكَذَا كَوْنُ الشَّخْصِ مُعْدَمًا مُحْتَاجًا، عِلَّةُ جَوَازِ السَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ، وَهَذَا الْوَصْفُ قَائِمٌ بِالْعَاقِدِ لَا بِمَحَلِّ الْحُكْمِ قَالَ: وَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ وُجُودُهُ شَرْطًا فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ أَمَارَاتٌ وَدَلَالَاتٌ عَلَى الْأَحْكَامِ وَقِيَامُ الدَّلِيلِ بِالْمَدْلُولِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الدَّلِيلِ كَالْعَالَمِ دَلِيلُ وُجُودِ الصَّانِعِ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ السِّحْرَ عِلَّةٌ لِتَغَيُّرِ الْمَسْحُورِ. وَكَذَا الْعَيْنُ عِلَّةٌ لِتَغَيُّرِ الشَّيْءِ الَّذِي أَصَابَتْهُ الْعَيْنُ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الِاتِّصَالُ وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ الْعِلَّةُ بِهَذَا الشَّرْطِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَلِهَذَا أَنْكَرُوا السِّحْرَ وَالْعَيْنَ لِعَدَمِ الِاتِّصَالِ بِمَحَلِّ الْحُكْمِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا اسْتَوَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ) يَعْنِي الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرَهَا مِنْ قَوْلِهِ، وَهُوَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لَازِمًا إلَى قَوْلِهِ وَيَجُوزُ فِي غَيْرِهِ إذَا كَانَ ثَابِتًا بِهِ فِي صِحَّةِ التَّعْلِيلِ بِهَا؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ كَوْنُ الْوَصْفِ حُجَّةً وَيُعْرَفُ بِهِ كَوْنُهُ عِلَّةً هُوَ الْأَثَرُ عَلَى مَا نُبَيِّنُ وَذَلِكَ أَيْ الْأَثَرُ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ هَذِهِ الْوُجُوهِ لِجَوَازِ ظُهُورِ التَّأْثِيرِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا فَمَتَى ظَهَرَ لِشَيْءٍ مِنْهَا التَّأْثِيرُ فَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً فَوَجَبَ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَيْهِ. وَاتَّفَقُوا أَنَّ كُلَّ أَوْصَافِ النَّصِّ بِجُمْلَتِهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً؛ لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْأَوْصَافِ فِي الْحُكْمِ فَإِنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ بِوَصْفِ الْأَعْرَابِيِّ الْمَذْكُورِ فِي «قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُجَامِعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ أَعْتِقْ رَقَبَةً» فِي الْحُكْمِ فَإِنَّ التُّرْكِيَّ وَالْهِنْدِيَّ فِيهِ سَوَاءٌ وَلَا لِمَعْنَى الْحُرِّيَّةِ فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ وَلَا لِوِقَاعِ الْأَهْلِ فَإِنَّهَا تَجِبُ بِالزِّنَا وَبِوَطْءِ الْأَمَةِ وَلَا لِلْيَوْمِ الْمُعَيَّنِ مِنْ الشَّهْرِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ فَإِنَّ سَائِرَ الْأَيَّامِ مِنْ ذَلِكَ الشَّهْرِ وَسَائِرِ شُهُورِ رَمَضَانَ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ سَوَاءٌ وَكَذَا الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْحَوَادِثِ فَإِنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَكَانِ كَذَا وَزَمَانِ كَذَا وَلَا دَخْلَ لِمِثْلِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ فِي الْحُكْمِ بِالِاتِّفَاقِ فَعَرَفْنَا أَنَّ التَّعْلِيلَ بِجَمِيعِ الْأَوْصَافِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ؛ وَلِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِجَمِيعِ الْأَوْصَافِ تَعْلِيلٌ بِمَا لَا يَتَعَدَّى؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَوْصَافِ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ فَاسِدٌ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ وَكَمَا اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِالْجَمْعِ اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِكُلِّ وَصْفٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِجَمِيعِ الْأَوْصَافِ فِي الْحُكْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحِنْطَةَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَنَّهَا مَكِيلَةٌ مَطْعُومَةٌ مُقْتَاتَةٌ مُدَّخَرَةٌ جب جثم شَيْءٌ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ كُلَّ وَصْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ عِلَّةٌ لِحُكْمِ الرِّبَا فِيهَا بَلْ الْعِلَّةُ بَعْضُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُعَلِّلِ أَنْ يُعَلِّلَ بِأَيِّ وَصْفٍ شَاءَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ؛ لِأَنَّ ادَّعَاهُ وَصْفًا مِنْ الْأَوْصَافِ أَنَّهُ عِلَّةٌ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَاهُ الْحُكْمَ فَكَمَا لَا يُسْمَعُ مِنْهُ دَعْوَى الْحُكْمِ بِلَا دَلِيلٍ لَا يُسْمَعُ دَعْوَى كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً بِلَا دَلِيلٍ. وَذَكَرَ بَعْضُ

[ما يصلح دليلا على العلة]

وَقَالَ أَئِمَّةُ الْفِقْهِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: إنَّهُ لَا يَصِيرُ حُجَّةً إلَّا بِمَعْنًى يُعْقَلُ وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ صَلَاحُ الْوَصْفِ، ثُمَّ عَدَالَتُهُ وَذَلِكَ عَلَى مِثَالِ الشَّاهِدِ لَا بُدَّ مِنْ صَلَاحِهِ بِمَا يَصِيرُ بِهِ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ ثُمَّ عَدَالَتُهُ لِيَصِحَّ مِنْهُ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ، ثُمَّ لَا يَصِحُّ الْأَدَاءُ إلَّا بِلَفْظٍ خَاصٍّ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْجَدَلِيِّينَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ وَلَكِنْ لِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يُبْطِلَ مَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُعَلِّلُ إنْ كَانَ عِنْدَهُ مُبْطَلٌ فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ لَزِمَهُ الِانْقِيَادُ وَهَذَا فَاسِدٌ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْمُعَلِّلَ مُدَّعٍ فَلَا يَكُونُ لَهُ بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَى دَعْوَاهُ لِئَلَّا يَكُونَ مُتَحَكِّمًا عَلَى شَرْعٍ (فَإِنْ قِيلَ) عَجْزُ السَّائِلِ عَنْ الِاعْتِرَاضِ، أَوْ انْتِفَاءُ الْمُفْسِدِ هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ (قُلْنَا) وَمِنْ أَيْنَ ثَبَتَ أَنَّ الْعَجْزَ عَنْ الِاعْتِرَاضِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ وَالسَّائِلُ مُسْتَرْشِدٌ يَطْلُبُ دَلِيلَ الْعِلَّةِ لِيَنْقَادَ لِقَضِيَّتِهَا فَكَانَ عَلَى الْمُعَلِّلِ إقَامَةُ الدَّلِيلِ وَكَيْفَ يُمْكِنُ جَعْلُ انْتِفَاءِ الْمُفْسِدِ دَلِيلُ الصِّحَّةِ مَعَ إمْكَانِ قَلْبِهِ لِلسَّائِلِ بِأَنْ يَقُولَ لَا بَلْ عَدَمُ الْمُصَحِّحِ دَلِيلُ فَسَادِهِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُدَّعِيَ لَوْ قَالَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَجْزُك عَنْ الِاعْتِرَاضِ عَلَى دَعْوَايَ وَعَنْ نَقْضِهَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّتِهَا فَلَا حَاجَةَ لِي إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، أَوْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْمُدَّعِي عَجْزُك عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنِّي مُحِقٌّ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا وَلَا يَسْقُطُ بِهَذَا إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَنْ الْمُدَّعِي وَلَا الْيَمِينُ عَنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَكَذَا هَاهُنَا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ فَاعْلَمْ أَنَّ الْقِيَاسَ يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُوبِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ كَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِهَا فِي الْفَرْعِ إلَّا أَنَّ وُجُودَهَا فِي الْفَرْعِ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ مِنْ الْحِسِّ وَدَلِيلِ الْعَقْلِ وَالْعُرْفِ وَالشَّرْعِ، وَوُجُودُهَا فِي الْأَصْلِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ لِأَنَّ كَوْنَ الْوَصْفِ عِلَّةَ وَضْعٍ شَرْعِيٍّ كَمَا أَنَّ الْحُكْمَ كَذَلِكَ فَلَمْ يُمْكِنْ إثْبَاتُهُ إلَّا بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ وَالْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ النُّصُوصُ وَالْإِجْمَاعُ وَالِاسْتِنْبَاطُ وَلَا خِلَافَ أَنَّ النَّصَّ يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الْعِلَّةِ سَوَاءٌ دَلَّ عَلَيْهَا بِطَرِيقِ التَّصْرِيحِ بِأَنْ يَذْكُرَ الشَّارِعُ لَفْظًا مِنْ أَلْفَاظِ التَّعْلِيلِ بِأَنْ يَقُولَ لِكَذَا، أَوْ لِعِلَّةِ كَذَا أَوْ لِأَجْلِ كَذَا، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهَا مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 32] {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] " وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيّ» لِأَجْلِ الرَّأْفَةِ عَلَى الْقَافِلَةِ أَوْ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ وَالْإِشَارَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضَتْ بِمَاءٍ» «أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ» «أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذَا جَفَّ» «تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ» «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» وَكَقَوْلِ الرَّاوِي «وَسَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَجَدَ» «زَنَى مَاعِزٌ فَرُجِمَ» وَكَذَا الْإِجْمَاعُ يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَيْهَا بِالْإِجْمَاعِ مِثْلُ وَصْفِ الصِّغَرِ فَإِنَّهُ عِلَّةٌ لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ عَلَى الْمَالِ بِالْإِجْمَاعِ فَأَثْبَتْنَا بِهِ وِلَايَةَ الْإِنْكَاحِ فِي الثَّيِّبِ الصَّغِيرِ وَمِثْلُ تَقْدِيمِ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ عَلَى الْأَخِ لِأَبٍ فِي الْمِيرَاثِ فَإِنَّ امْتِزَاجَ الْأُخُوَّةِ عِلَّةُ التَّقْدِيمِ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ فَيُقَاسَ عَلَيْهِ النِّكَاحُ وَبِعَدَمِ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فِيهِ أَيْضًا بِهَذِهِ الْعِلَّةِ. [مَا يصلح دَلِيلًا عَلَى الْعِلَّة] وَعِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ اخْتَلَفَ الْقَايِسُونَ فِيمَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الْعِلَّةِ كَمَا قَرَّرَهُ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ وَاخْتَلَفُوا فِي دَلَالَةِ كَوْنِهِ عِلَّةً أَيْ فِيمَا يَدُلُّ كَوْنُ الْوَصْفِ عِلَّةً عَلَى قَوْلَيْنِ فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الِاطِّرَادُ، وَهُوَ وُجُودُ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ الْوَصْفِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْقِلَ فِيهِ مَعْنَى مِنْ تَأْثِيرٍ، أَوْ إخَالَةٍ يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الْعِلَّةِ وَيَصِيرُ الْوَصْفُ بِهِ حُجَّةً عَلَى الْغَيْرِ وَهُمْ الْمُسَمَّوْنَ بِأَهْلِ الطَّرْدِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ أَقْوَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِي هَذَا الْبَابَ وَقَالَ عَامَّتُهُمْ لَا يَصِيرُ الْوَصْفُ حُجَّةً بِمُجَرَّدِ الِاطِّرَادِ وَلَا بُدَّ لِصَيْرُورَتِهِ

وَاتَّفَقُوا فِي صَلَاحِهِ أَنَّهُ إنَّمَا يُرَادُ بِهِ مُلَاءَمَتَهُ وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عَلَى مُوَافَقَةِ مَا جَاءَ عَنْ السَّلَفِ مِنْ الْعِلَلِ الْمَنْقُولَةِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ فَتُعْرَفُ مِنْهُ وَلَا يَصِحُّ كَمَا الْعَمَلُ بِهِ قَبْلَ الْمُلَاءَمَةِ لَا يَصِحُّ الْعَمَلُ بِشَهَادَةٍ قَبْلَ الْأَهْلِيَّةِ لَكِنْ لَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ إلَّا بَعْدَ الْعَدَالَةِ وَالْعَدَالَةُ عِنْدَنَا: هِيَ الْأَثَرُ وَإِنَّمَا نَعْنِي بِالْأَثَرِ مَا جُعِلَ لَهُ أَثَرٌ فِي الشَّرْعِ ـــــــــــــــــــــــــــــQعِلَّةً مِنْ مَعْنًى يُعْقَلُ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَيُسَمَّوْنَ أَهْلُ الْفِقْهِ، وَهَذَا أَيْ الْمَعْنَى الْمَعْقُولُ الَّذِي لَا بُدَّ لِصَيْرُورَةِ الْوَصْفِ حُجَّةً مِنْهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِلْحُكْمِ، ثُمَّ يَكُونُ مُعَدَّلًا وَذَلِكَ أَيْ الْوَصْفُ فِي اعْتِبَارِ الصَّلَاحِ وَالْعَدَالَةِ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ صَلَاحِهِ لِلشَّهَادَةِ أَوَّلًا بِوُجُودِ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ إنْ كَانَ شَاهِدًا عَلَى الْمُسْلِمِ فِيهِ ثُمَّ اعْتِبَارُ عَدَالَتِهِ ثَانِيًا بِأَنْ يَكُونَ مُجْتَنِبًا عَنْ مَحْظُورَاتِ دِينِهِ لِيَصِحَّ مِنْهُ الْأَدَاءُ. ثُمَّ لَا يَصِحُّ الْأَدَاءُ إلَّا بِلَفْظٍ خَاصٍّ يُنْبِئُ عَنْ الْوَكَادَةِ وَالتَّحْقِيقِ، وَهُوَ لَفْظُ أَشْهَدُ، أَوْ مَا يُسَاوِيهِ فِي الْمَعْنَى مِنْ سَائِرِ اللُّغَاتِ فَكَذَا هَاهُنَا لَا بُدَّ لِجَعْلِ الْوَصْفِ عِلَّةً مِنْ صَلَاحِهِ لِلْحُكْمِ بِوُجُودِ الْمُلَاءَمَةِ وَمِنْ عَدَالَتِهِ بِوُجُودِ التَّأْثِيرِ وَمِنْ اخْتِصَاصِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَوْصَافِ كَاخْتِصَاصِ الشَّهَادَةِ بِلَفْظِ أَشْهَدُ فَإِنَّ التَّعْلِيلَ بِجَمِيعِ الْأَوْصَافِ، أَوْ بِكُلِّ وَصْفٍ لَا يَصِحُّ عَلَى مَا قُلْنَا ثُمَّ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَعَلَ الْوَصْفَ هَاهُنَا بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ وَجَعَلَهُ فِي أَوَّلِ بَابِ الْقِيَاسِ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ، وَالْأَصْلُ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي مُخْتَصَرِ التَّقْوِيمِ فِي بَيَانِ اشْتِرَاطِ الْمُلَاءَمَةِ فَقَالَ: الْمُلَاءَمَةُ شَرْطٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ شَاهِدٌ وَالْوَصْفَ الْمُسْتَنْبَطُ شَهَادَةٌ وَالشَّهَادَةُ مُخْتَصَّةٌ بِلَفْظٍ، وَهُوَ أَشْهَدُ فَمَتَى أَتَى بِهِ يَجِبُ الْقَبُولُ وَإِذَا أَتَى بِغَيْرِهِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُ يَجِبُ الْقَبُولُ وَإِلَّا فَلَا فَكَذَا الْقَايِسُ إذَا أَتَى بِلَفْظٍ مَنْقُولٍ عَنْ السَّلَفِ يُقْبَلُ وَإِذَا أَتَى بِغَيْرِهِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُ يَجِبُ الْقَبُولُ وَالْعَمَلُ بِهِ وَإِلَّا فَلَا. وَيُوَافِقُهُ مَا ذُكِرَ فِي التَّقْوِيمِ وَهُوَ أَنَّ التَّعْلِيلَ لَمْ يُقْبَلْ مَا لَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ مُلَائِمٌ وَإِذَا صَارَ مُلَائِمًا لَمْ يَجِبْ الْعَمَلُ بِهِ إلَّا بِالْعَدَالَةِ وَذَلِكَ بِكَوْنِهِ مُؤَثِّرًا فِي الْحُكْمِ وَإِنْ عَمِلَ بِهِ قَبْلَ التَّأْثِيرِ صَحَّ فَأَمَّا قَبْلَ الْمُلَاءَمَةِ فَلَا يَصِحُّ الْعَمَلُ بِهِ كَالشَّاهِدِ إذَا شَهِدَ لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَأْتِيَ بِلَفْظِ أَشْهَدُ أَوْ بِمَا يُمَاثِلُهُ بِلُغَةٍ أُخْرَى وَلَا يَصِحُّ الْعَمَلُ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَإِذَا جَاءَ بِلَفْظِ أَشْهَدُ لَمْ يَجِبْ الْعَمَلُ بِهِ حَتَّى يُعَدَّلَ وَإِنْ عَمِلَ بِهِ صَحَّ وَنَفَذَ إذَا كَانَ مَسْتُورًا بِلَا خِلَافٍ فَعَلَى مَا ذُكِرَ هَاهُنَا لَوْ لَمْ يُذْكَرْ قَوْلُهُ، ثُمَّ لَا يَصِحُّ الْأَدَاءُ إلَّا بِلَفْظٍ خَاصٍّ لَتَمَّ التَّمْثِيلُ وَعَلَى مَا ذُكِرَ فِي التَّقْوِيمِ وَمُخْتَصَرِهِ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ لِتَمَامِ التَّمْثِيلِ قَوْلُهُ (وَاتَّفَقُوا) أَيْ الشَّارِطُونَ لِصَلَاحِ الْوَصْفِ وَعَدَالَتِهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِصَلَاحِ الْوَصْفِ مُلَاءَمَتُهُ أَيْ مُوَافَقَتُهُ وَمُنَاسَبَتُهُ لِلْحُكْمِ بِأَنْ يَصِحَّ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَيْهِ وَلَا يَكُونُ نَابِيًا عَنْهُ كَإِضَافَةِ ثُبُوتِ الْفُرْقَةِ فِي إسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ إلَى إبَاءِ الْآخَرِ عَنْ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُ يُنَاسِبُهُ لَا إلَى وَصْفِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ نَابَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ عُرِفَ عَاصِمًا لِلْحُقُوقِ لَا قَاطِعًا لَهَا. وَكَذَا الْمَحْظُورُ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْعُقُوبَةِ وَالْمُبَاحُ سَبَبًا لِلْعِبَادَةِ وَلَا يَجُوزُ عَكْسُهُ لِعَدَمِ الْمُلَاءَمَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ ذَلِكَ أَيْ الْمُلَاءَمَةُ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ عَلَى مُوَافَقَةِ مَا جَاءَ عَنْ السَّلَفِ مِنْ الْعِلَلِ الْمَنْقُولَةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُعَلِّلُونَ بِأَوْصَافٍ مُلَائِمَةٍ لِلْأَحْكَامِ غَيْرِ نَابِيَةٍ عَنْهَا فَمَا كَانَ مُوَافِقًا لَهَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً وَمَا لَا فَلَا قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْمُرَادُ بِالْمُنَاسِبِ مَا هُوَ عَلَى مِنْهَاجِ الْمَصَالِحِ بِحَيْثُ إذَا أُضِيفَ إلَيْهِ الْحُكْمُ انْتَظَمَ كَقَوْلِنَا حُرِّمَتْ الْخَمْرُ؛ لِأَنَّهَا تُزِيلُ الْعَقْلَ الَّذِي هُوَ مِلَاكُ التَّكْلِيفِ، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لَا كَقَوْلِنَا حُرِّمَتْ؛ لِأَنَّهَا تَقْذِفُ بِالزَّبَدِ وَتُحْفَظُ فِي الدَّنِّ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ وَنَقَلَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُنَاسِبَ مَا لَوْ عُرِضَ عَلَى الْعُقُولِ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ، ثُمَّ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِلْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ حَيْثُ يُقَالُ هَذَا الشَّيْءُ مُنَاسِبٌ لِهَذَا الشَّيْءِ أَيْ مُلَائِمٌ لَهُ غَيْرَ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ لِلْمُنَاظِرِ إلَى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQإثْبَاتِ الْمُنَاسِبِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ عَلَى خَصْمِهِ فِي مَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَقُولَ السَّائِلُ هَذَا مِمَّا لَا يَتَلَقَّاهُ عَقْلِي بِالْقَبُولِ، وَلَيْسَ الِاحْتِجَاجُ عَلَى بِمَا يَتَلَقَّاهُ عَقْلُ غَيْرِي بِالْقَبُولِ أَوْلَى مِنْ الِاحْتِجَاجِ عَلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ بِعَدَمِ تَلَقِّي عَقْلِي لَهُ بِالْقَبُولِ. ثُمَّ قَالَ فَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: الْمُنَاسِبُ وَصْفٌ ظَاهِرٌ مُنْضَبِطٌ يَحْصُلُ عَقْلًا مِنْ تَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا مِنْ حُصُولِ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّا لَا نَعْتَبِرُ الْمُلَاءَمَةَ لِلْإِلْزَامِ عَلَى الْخَصْمِ بَلْ لِصِحَّةِ الْعَمَلِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَاَلَّذِي يُنَاظِرُ نَفْسَهُ لَا يُكَابِرُ نَفْسَهُ فِيمَا يَقْتَضِي عَقْلَهُ وَالْمُلَاءَمَةُ بِالْهَمْزِ الْمُوَافَقَةُ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ هَذَا طَعَامٌ لَا يُلَائِمُنِي أَيْ لَا يُوَافِقُنِي، وَلَا يُقَالُ مُلَاوَمَةٌ بِالْوَاوِ فَإِنَّهَا مِنْ اللَّوْمِ وَقَوْلُهُ وَلَكِنْ لَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ أَيْ بِالْوَصْفِ إلَّا بِالْعَدَالَةِ - اسْتِدْرَاكٌ مِنْ مَفْهُومِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَتَقْدِيرُهُ وَلَا يَصِحُّ الْعَمَلُ بِالْوَصْفِ قَبْلَ الْمُلَاءَمَةِ وَيَصِحُّ بَعْدَهَا وَلَكِنْ لَا يَجِبُ إلَّا بَعْدَ الْعَدَالَةِ قَالَ أَبُو الْيُسْرِ إذَا كَانَ الْوَصْفُ مُلَائِمًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً وَيَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ وَلَكِنْ لَا يَجِبُ مَا لَمْ يَكُنْ مُؤَثِّرًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَا لَمْ يَكُنْ مُخَيَّلًا فَإِذَا ظَهَرَ أَثَرُ إخَالَتِهِ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فَالْمُلَاءَمَةُ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْعَمَلِ بِالْعِلَلِ وَالتَّأْثِيرِ، وَالْإِخَالَةِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا قَالَ وَمَعْنَى قَوْلِنَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْعِلَّةِ قَبْلَ ظُهُورِ التَّأْثِيرِ أَنَّهُ لَوْ عَمِلَ بِهَا عَامِلٌ نَفَذَ الْعَمَلُ، وَلَمْ يُقْبَحْ كَمَا لَوْ قَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَةِ شُهُودٍ غَيْرِ ظَاهِرِ الْعَدَالَةِ قَوْلُهُ (وَالْعَدَالَةُ عِنْدَنَا هِيَ الْأَثَرُ) يَعْنِي لَيْسَ الْخِلَافُ فِي تَفْسِيرِ صَلَاحِ الْوَصْفِ إنَّمَا الْخِلَافُ فِي تَفْسِيرِ الْعَدَالَةِ فَعِنْدَنَا عَدَالَةُ الْوَصْفِ تَثْبُتُ بِالتَّأْثِيرِ، ثُمَّ فَسَّرَ الْوَصْفَ الْمُؤَثِّرَ فَقَالَ: وَإِنَّمَا نَعْنِي بِالْأَثَرِ أَيْ بِالْوَصْفِ الْمُؤَثِّرِ مَا جُعِلَ لَهُ أَثَرٌ فِي الشَّرْعِ. وَلَعَلَّهُ إنَّمَا فَسَّرَهُ بِمَا ذُكِرَ رَدًّا لِمَا فَسَّرَهُ الْبَعْضُ بِالدَّوَرَانِ وُجُودًا وَعَدَمًا فَإِنَّ صَاحِبَ الْقَوَاطِعِ رَوَى عَنْ أَبِي الطَّيِّبِ أَنَّ التَّأْثِيرَ عِنْدَهُ أَنْ يُوجَدَ الْحُكْمُ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ وَيَعْدَمُ بِعَدَمِهَا كَالشِّدَّةِ فِي الْخَمْرِ يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ بِوُجُودِهَا وَيَزُولُ بِزَوَالِهَا وَكَالرِّقِّ فِي نُقْصَانِ الْحَدِّ يُوجَدُ النُّقْصَانُ بِوُجُودِهِ، وَيَزُولُ بِزَوَالِهِ وَفَسَّرَ الشَّيْخُ فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ وَنَعْنِي بِالتَّأْثِيرِ أَنْ يَكُونَ لِجِنْسِ ذَلِكَ الْوَصْفِ تَأْثِيرٌ فِي إثْبَاتِ جِنْسِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي مَوْرِدِ الشَّرْعِ إمَّا مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ أَوْ بِالسُّنَّةِ، أَوْ بِالْإِجْمَاعِ أَيْ يَثْبُتُ أَثَرُ هَذَا الْوَصْفِ بِهَذِهِ الْحُجَجِ وَذَكَرَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ أَعْلَى أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ الْمُؤَثِّرِ، وَهُوَ بِاعْتِبَارِ النَّظَرِ إلَى عَيْنِ الْعِلَّةِ وَجِنْسِهَا، وَعَيْنُ الْحُكْمِ وَجِنْسُهُ أَرَبَعَةُ أَقْسَامٍ فَالْأَوَّلُ هُوَ أَنْ يَظْهَرَ تَأْثِيرُ عَيْنِ الْوَصْفِ فِي عَيْنِ ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَهُوَ الْمَقْطُوعُ الَّذِي رُبَّمَا يُقِرُّ بِهِ مُنْكِرُ الْقِيَاسِ إذْ لَا يَبْقَى بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ مُبَايَنَةٌ إلَّا تَعَدُّدُ الْمَحَلِّ فَإِنَّهُ إنْ ثَبَتَ أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِي التَّمْرِ الْكَيْلُ فَالْجِصُّ مُلْحَقٌ بِهِ بِلَا شُبْهَةٍ وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ عِلَّتَهُ الطَّعْمُ فَالزَّبِيبُ مُلْحَقٌ بِهِ قَطْعًا إذْ لَا يَبْقَى إلَّا اخْتِلَافُ عَدَدِ الْأَشْخَاصِ الَّتِي هِيَ مَجَارِي الْمَعْنَى وَيَكُونُ ذَلِكَ كَظُهُورِ أَثَرِ الْوِقَاعِ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْأَعْرَابِيِّ إذْ يَكُونُ التُّرْكِيُّ وَالْهِنْدِيُّ فِي مَعْنَاهُ. وَالثَّانِي أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُ عَيْنِهِ فِي جِنْسِ ذَلِكَ الْحُكْمِ أَيْ جِنْسِهِ الْقَرِيبِ كَتَأْثِيرِ الْأُخُوَّةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فِي التَّقْدِيمِ فِي الْمِيرَاثِ فَيُقَاسُ عَلَيْهِ وِلَايَةُ الْإِنْكَاحِ فَإِنَّ الْوِلَايَةَ لَيْسَتْ هِيَ عَيْنُ الْمِيرَاثِ لَكِنَّ بَيْنَهُمَا مُجَانَسَةً فِي الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ هَذَا حَقٌّ وَذَلِكَ حَقٌّ، وَهَذَا دُونَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمُفَارَقَةَ بَيْنَ جِنْسٍ وَجِنْسٍ غَيْرُ بَعِيدَةٍ بِخِلَافِ الْمُفَارَقَةِ بَيْنَ مَحَلٍّ وَمَحَلٍّ فَإِنَّهُمَا لَا يَفْتَرِقَانِ أَصْلًا فِيمَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ لَهُ مَدْخَلًا فِي التَّأْثِيرِ وَالثَّالِثُ أَنْ يُؤَثِّرَ جِنْسُهُ الْقَرِيبُ فِي عَيْنِ ذَلِكَ الْحُكْمِ كَإِسْقَاطِ قَضَاءِ الصَّلَوَاتِ

وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَدَالَتُهُ بِكَوْنِهِ مُخَيَّلًا ثُمَّ الْعَرْضُ عَلَى الْأُصُولِ احْتِيَاطًا سَلَامَتُهُ عَنْ الْمُنَاقَضَةِ وَالْمُعَارَضَةِ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: بَلْ عَدَالَتُهُ بِالْعَرْضِ عَلَى الْأُصُولِ فَإِنْ لَمْ يَرُدَّهُ أَصْلٌ مُنَاقِضًا وَلَا مُعَارِضًا صَارَ مُعَدَّلًا وَإِنَّمَا يُعْرَضُ عَلَى أَصْلَيْنِ فَصَاعِدًا فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَصِحُّ الْعَمَلُ بِهِ قَبْلَ الْعَرْضِ، وَعَلَى الثَّانِي لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ بِهِ يَصِيرُ حُجَّةً وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ صَارَ حُجَّةً بِكَوْنِهِ مُخَيَّلًا، وَإِنَّمَا النَّقْضُ جَرْحٌ وَالْمُعَارَضَةُ دَفْعٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُتَكَثِّرِ بِعُذْرِ الْإِغْمَاءِ فَإِنَّ تَأْثِيرَ جِنْسِهِ وَهُوَ عُذْرُ الْجُنُونِ وَالْحَيْضِ ظَهَرَ فِي عَيْنِهِ أَيْضًا بِاعْتِبَارِ لُزُومِ الْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ وَالرَّابِعُ - مَا ظَهَرَ أَثَرُ جِنْسِهِ فِي جِنْسِ ذَلِكَ الْحُكْمِ كَإِسْقَاطِ الصَّلَوَاتِ عَنْ الْحَائِضِ بِالْمَشَقَّةِ فَإِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ تَأْثِيرُ جِنْسِهِ، وَهُوَ مَشَقَّةُ السَّفَرِ فَإِنَّ مَشَقَّةَ السَّفَرِ لَيْسَتْ عَيْنُ مَشَقَّةِ الْحَائِضِ فِي جِنْسِ هَذَا الْحُكْمِ، وَهُوَ إسْقَاطُ الرَّكْعَتَيْنِ الزَّائِدَتَيْنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ عَيْنُ الْإِسْقَاطِ عَنْ الْحَائِضِ فَإِنَّ هَذَا إسْقَاطُ أَصْلِ الصَّلَاةِ وَذَلِكَ إسْقَاطُ الْبَعْضِ. وَلَكِنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ الْقَرِيبِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ تَخْفِيفٌ فِي الصَّلَاةِ وَكَتَعْلِيلِ الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ بِجِنَايَةِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ فَإِنَّ جِنْسَ الْجِنَايَةِ الْعَمْدِ مُعْتَبَرٌ فِي جِنْسِ الْقِصَاصِ كَالْأَطْرَافِ مَعَ أَنَّهُ ظَهَرَ تَأْثِيرُ عَيْنِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ فِي عَيْنِ الْخَصْمِ، وَهُوَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ فِي الْمُحَدَّدِ. 1 - ثُمَّ قَالَ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْقَائِسِينَ فِي الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الْأُولَى أَنَّهَا حُجَّةٌ، وَالْقِسْمُ الْأَخِيرُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَهُمْ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ حُجَّةٌ لِكَوْنِهِ مُغَلَّبًا عَلَى الظَّنِّ قَوْلُهُ (وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَدَالَتُهُ بِكَوْنِهِ مُخَيَّلًا) أَيْ مُوقِعًا فِي الْقَلْبِ خَيَالَ الْقَبُولِ وَالصِّحَّةِ فَيَثْبُتُ صِحَّتُهُ بِشَهَادَةِ الْقَلْبِ وَذُكِرَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِمْ أَنَّ الْإِخَالَةَ مِنْ أَخَالَتْ السَّمَاءُ إذَا كَانَتْ تُرْجِي الْمَطَرَ؛ لِأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ تُرْجِي الْعِلِّيَّةَ لِإِشْعَارِهَا بِهَا، ثُمَّ الْعَرْضُ عَلَى الْأُصُولِ احْتِيَاطًا أَيْ بَعْدَ ثُبُوتِ الْإِخَالَةِ يُعْرَضُ الْوَصْفُ عَلَى الْأُصُولِ بِطَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ لَا بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ لِيَتَحَقَّقَ سَلَامَتُهُ عَنْ الْمُنَاقَضَةِ وَالْمُعَارَضَةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مُنَاقَضَةَ الْوَصْفِ إبْطَالُ نَفْسِهِ بِأَثَرٍ، أَوْ نَصٍّ، أَوْ إجْمَاعٍ يَرِدُ عَلَى خِلَافِهِ أَوْ إيرَادِ صُورَةٍ تَخَلَّفَ الْحُكْمُ فِيهَا عَنْ الْوَصْفِ، وَمُعَارَضَةُ الْوَصْفِ إيرَادُ وَصْفٍ آخَرَ يُوجِبُ خِلَافَ مَا أَوْجَبَهُ ذَلِكَ لَهُ بِوَصْفٍ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِنَفْسِ الْوَصْفِ، ثُمَّ مَعْنَى عَرْضِ الْوَصْفِ عَلَى الْأُصُولِ أَنْ يُقَابَلَ بِقَوَانِينِ الشَّرْعِ فَإِنْ طَابَقَهَا وَسَلَّمَ عَنْ الْمُبْطِلَاتِ وَالْعَوَارِضِ فَقَدْ شَهِدَتْ الْأُصُولُ بِصِحَّتِهِ وَصَارَ حُجَّةً. وَقَالَ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ نَاقِلًا عَنْ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ: مِثَالُ شَهَادَةِ الْأُصُولِ قَوْلُنَا لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي إنَاثِ الْخَيْلِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ فِي ذُكُورِهَا فَالْأُصُولُ شَاهِدَةٌ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَسُقُوطِهَا قَالَ وَهَذَا طَرِيقٌ يَقْضِي إلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا عَلِمَ أَنَّ فُلَانًا إذَا أَعْطَى بَنَاتِهِ شَيْئًا يُعْطِي بَنِيهِ مِثْلَهُ فَإِذَا سَمِعَ أَنَّهُ أَعْطَى الْبَنَاتَ شَيْئًا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ إعْطَاءُ الْبَنِينَ مِثْلَهُ فَثَبَتَ أَنَّ شَهَادَةَ الْأُصُولِ دَلِيلُ الصِّحَّةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَالَ وَمِنْ نَظِيرِهِ قَوْلُ الْمُعَلِّلِ مَنْ صَحَّ طَلَاقُهُ صَحَّ ظِهَارُهُ وَقَوْلُهُ مَنْ لَزِمَهُ الْعُشْرُ لَزِمَهُ رُبُعُ الْعُشْرِ حَتَّى يَجِبَ الزَّكَاةُ عَلَى الصَّبِيِّ. وَقَوْلُهُ مَا حَرُمَ فِيهِ النَّسَاءُ حَرُمَ فِيهِ التَّفَرُّقُ قَبْلَ التَّقَابُضِ، قَالَ وَأَمْثَالُ هَذَا تَكْثُرُ، فَالْأُصُولُ تَشْهَدُ بِصِحَّةِ هَذَا التَّعْلِيلِ، وَإِنَّمَا تَعَرَّضَ عَلَى أَصْلَيْنِ فَصَاعِدًا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَدْنَى مَا يَكْفِي لِذَلِكَ أَيْ لِلْعَرْضِ أَصْلَانِ بِمَنْزِلَةِ عَدَالَةِ الشَّاهِدِ فَإِنَّ مَعْرِفَتَهَا بِعَرْضِ حَالِهِمْ عَلَى الْمُزَكِّينَ وَأَدْنَى مَا يَكْفِي لِذَلِكَ عِنْدَهُ اثْنَانِ يَصِحُّ الْعَمَلُ بِهِ أَيْ بِالْوَصْفِ الْمُخَيَّلِ لِأَنَّهُ أَيْ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ بِالْعَرْضِ يَصِيرُ حُجَّةً وَإِنَّمَا النَّقْضُ جَرْحٌ أَيْ النَّقْضُ يَجْرَحُ الْوَصْفَ بَعْدَ صِحَّتِهِ فَيُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً كَجَرْحِ الشَّاهِدِ بِالرِّقِّ يُخْرِجُ كَلَامَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ شَهَادَةً بَعْدَمَا صَحَّ ظَاهِرًا

وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الْأُولَى أَنَّ الْأَثَرَ مَعْنًى لَا يُعْقَلُ فَنُقِلَ عَنْهُ إلَى شَهَادَةِ الْقَلْبِ، وَهُوَ الْخَيَالُ، وَهُوَ كَالتَّحَرِّي جَعْلُ حُجَّةٍ بِشَهَادَةِ الْقَلْبِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِسَائِرِ الْأَدِلَّةِ، ثُمَّ الْعَرْضُ بَعْدَ ذَلِكَ لِلِاحْتِيَاطِ بِخِلَافِ الشَّاهِدِ؛ لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَعْتَرِضَ فِيهِ بَعْدَ أَصْلِ الْأَهْلِيَّةِ مَا يُبْطِلُ الشَّهَادَةَ مِنْ فِسْقٍ أَوْ غَيْرِهِ فَأَمَّا الْوَصْفُ فَلَا يُحْتَمَلُ مِثْلُهُ فَإِذَا كَانَ مُلَائِمًا غَيْرَ نَابٍ صَارَ صَالِحًا وَإِذَا كَانَ مُخَيَّلًا كَانَ مُعَدَّلًا وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَى مِثَالِ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ كَانَ صَالِحًا كَالشَّاهِدِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْمُعَارَضَةُ دَفْعٌ أَيْ أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ الْوَصْفَ عَنْ الْعِلِّيَّةِ وَلَكِنْ تَدْفَعُ الْحُكْمَ كَإِقَامَةِ الشُّهُودِ عَلَى الْإِلْغَاءِ، أَوْ الْإِبْرَاءِ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُ شَهَادَةَ شُهُودِ الْمُدَّعِي وَلَكِنْ تَدْفَعُ حُكْمَهَا، وَهُوَ الْإِلْزَامُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتَوَقَّفُ صَيْرُورَةُ الْوَصْفِ حُجَّةً عَلَى انْقِطَاعِ احْتِمَالِهِمَا كَمَا لَا يَتَوَقَّفُ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ عَلَى انْقِطَاعِ احْتِمَالِ الْجَرْحِ وَالدَّفْعِ احْتَجَّ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الْأُولَى وَهُمْ الَّذِينَ أَثْبَتُوا الْعَدَالَةَ بِالْإِخَالَةِ وَلَمْ يَشْتَرِطُوا التَّأْثِيرَ بِأَنَّ الْأَثَرَ مَعْنًى مِنْ الْوَصْفِ لَا يُحَسُّ لِيُعْلَمَ بِالْحِسِّ وَلَكِنَّهُ مِمَّا يُعْقَلُ أَيْ يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ فَكَانَ طَرِيقُ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ تَحْكِيمُ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْأَدِلَّةِ الْمَحْسُوسَةِ فَإِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ خَيَالُ الْقَبُولِ وَأَثَرُ الْحُجَّةِ صَارَ حُجَّةً لِلْعَمَلِ بِهِ كَذَا ذُكِرَ فِي أُصُولِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَالتَّقْوِيمِ وَغَيْرِهِمَا. وَذَكَرَ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْأَثَرَ مَعْنًى لَا يُعْقَلُ وَأَرَادَ بِهِ أَنَّ الْأَثَرَ مِنْ الْوَصْفِ لَيْسَ بِمَعْنَى يُوجِبُهُ الْعَقْلُ وَيَقْتَضِيهِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْوَصْفِ عِلَّةٌ بِالشَّرْعِ لَا بِالْعَقْلِ إذْ الْعَقْلُ لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّ أَثَرَهُ إذَا ثَبَتَ شَرْعًا لَا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ أَنَّهُ أَثَرُهُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ مَحْسُوسٍ وَلَا مَعْقُولٍ وَجَبَ النَّقْلُ عَنْهُ إلَى شَهَادَةِ الْقَلْبِ الَّتِي هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْأَدِلَّةِ، وَهُوَ كَالتَّحَرِّي أَيْ جَعْلُ الْوَصْفِ حُجَّةَ شَهَادَةِ الْقَلْبِ: مِثْلُ جَعْلِ التَّحَرِّي حُجَّةً فِي بَابِ الْقِبْلَةِ بِشَهَادَةِ الْقَلْبِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِسَائِرِ الْأَدِلَّةِ الْمَحْسُوسَةِ وَيُؤَيِّدُهُ «قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِوَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ ضَعْ يَدَك عَلَى صَدْرِك وَاسْتَفْتِ قَلْبَك فَمَا حَاكَ فِي صَدْرِك فَدَعْهُ وَإِنْ أَفْتَاك النَّاسُ بِهِ» فَثَبَتَ أَنَّ الْعَدَالَةَ تَحْصُلُ بِالْإِخَالَةِ. ثُمَّ الْعَرْضُ أَيْ عَرْضُ الْوَصْفِ عَلَى الْأُصُولِ بَعْدَ ثُبُوتِ إخَالَتِهِ لِلِاحْتِيَاطِ لَا لِلْوُجُوبِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الشَّاهِدُ مَعْلُومَ الْعَدَالَةِ عِنْدَ الْقَاضِي فَإِنَّ الْعَمَلَ بِشَهَادَتِهِ جَائِزٌ لَهُ وَالْعَرْضُ عَلَى الْمُزَكِّينَ بَعْدَ ذَلِكَ نَوْعُ احْتِيَاطٍ لِجَوَازِ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ بِالْعَرْضِ عَلَيْهِمْ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهُ بِخِلَافِ الشَّاهِدِ الْمَسْتُورِ الْحَالِ حَيْثُ يَجِبُ الْعَرْضُ عَلَى الْمُزَكِّينَ لِتُعْرَفَ حَالُهُ وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ هُوَ الْعَدَالَةَ؛ لِأَنَّهُ أَيْ الشَّاهِدَ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَعْتَرِضَ فِيهِ بَعْدَ وُجُودِ أَصْلِ الْأَهْلِيَّةِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ وَالْإِسْلَامِ مَا يُبْطِلُ شَهَادَتَهُ مِنْ فِسْقٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ رِدَّةٍ وَحُدُوثِ زَوْجِيَّةٍ وَإِقَامَةِ حَدٍّ فِي قَذْفٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ حَالُهُ مَعْلُومًا لِلْقَاضِي لَا يَثْبُتُ عَدَالَتُهُ عِنْدَهُ مَعَ احْتِمَالِ هَذِهِ الْعَوَارِضِ مَا لَمْ يَعْرِضْ عَلَى الْمُزَكِّينَ، فَأَمَّا الْوَصْفُ الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ بَعْدَمَا ثَبَتَ صِفَةُ الصَّلَاحِيَّةِ فِيهِ فَلَا يُحْتَمَلُ مِثْلُهُ أَيْ مِثْلُ مَا احْتَمَلَ الشَّاهِدُ مِنْ اعْتِرَاضِ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ عِلَّةً بَعْدَمَا ثَبَتَتْ صَلَاحِيَّتُهُ بِالْمُلَاءَمَةِ وَعَدَالَتُهُ بِالْإِحَالَةِ فَكَانَ الْعَرْضُ عَلَى الْأُصُولِ هَاهُنَا احْتِيَاطًا، فَإِنْ سَلِمَ عَمَّا يُنَاقِضُهُ وَيُعَارِضُهُ بِكَوْنِهِ مُطَرِّدًا فِي الْأُصُولِ فَحُكْمُ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ يَزْدَادُ وَكَادَةً وَإِنْ وَرَدَ عَلَيْهِ نَقْصٌ فَذَلِكَ يَكُونُ جَرْحًا بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ الَّذِي هُوَ مَعْلُومُ الْعَدَالَةِ إذْ ظَهَرَ فِيهِ طَعْنٌ مِنْ بَعْضِ الْمُزَكِّينَ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ جَرْحًا فِي عَدَالَتِهِ لَا أَنْ يَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ مُعَارِضٌ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ دَفْعًا بِمَنْزِلَةِ شَاهِدٍ آخَرَ يَشْهَدُ بِخِلَافِ مَا شَهِدَ بِهِ الْأَوَّلُ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. 1 - وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ: وَهُوَ إثْبَاتُ عَدَالَةِ الْوَصْفِ بِالْعَرْضِ عَلَى الْأُصُولِ أَنَّهُ أَيْ الْوَصْفَ إذَا كَانَ صَالِحًا عَلَى مِثَالِ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ غَيْرَ نَابٍ عَنْ الْحُكْمِ كَانَ صَالِحًا لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ

ثُمَّ قَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَجْرُوحًا فَلَا بُدَّ مِنْ الْعَرْضِ عَلَى الْمُزَكِّينَ وَهُمْ الْأُصُولُ هُنَا وَأَدْنَى ذَلِكَ أَصْلَانِ وَلَا يُعْتَبَرُ وَرَاءَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّزْكِيَةَ بِالِاحْتِمَالِ لَا يَرِدُ وَوَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّا احْتَجْنَا إلَى إثْبَاتِ مَا لَا يَحْسُنُ وَلَا يُعَايَنُ وَهُوَ الْوَصْفُ الَّذِي جُعِلَ عَلَمًا عَلَى الْحُكْمِ فِي النَّصِّ، وَمَا لَا يَحْسُنُ فَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِأَثَرِهِ الَّذِي ظَهَرَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ، أَلَا تَرَى أَنَّا نَتَعَرَّفُ صِدْقَ الشَّهَادَةِ بِاحْتِرَازِهِ عَنْ مَحْظُورِ دِينِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQكَالشَّاهِدِ إذَا كَانَ حُرًّا عَاقِلًا بَالِغًا مُسْلِمًا وَقَدْ أَتَى بِلَفْظِ أَشْهَدُ وَمَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ كَانَ صَالِحًا لَأَنْ يُعْمَلَ بِشَهَادَتِهِ، ثُمَّ قَدْ يَحْتَمِلُ أَيْ الْوَصْفُ أَنْ يَكُونَ مَجْرُوحًا بِأَنْ يَكُونَ مُنْتَقَضًا كَالشَّاهِدِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَجْرُوحًا بِالْفِسْقِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْعَرْضِ أَيْ عَرْضِ الْوَصْفِ عَلَى الْمُزَكِّينَ، وَهُوَ الْأُصُولُ هَاهُنَا دَفْعًا لِلِاحْتِمَالِ كَمَا لَا بُدَّ مِنْ عَرْضِ الشَّاهِدِ عَلَى الْمُزَكِّينَ هُنَاكَ لِذَلِكَ فَإِذَا سَلِمَ عَنْ النَّقْضِ وَالْمُعَارَضَاتِ ثَبَتَ عَدَالَتُهُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأُصُولَ شُهَدَاءُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَحْكَامِهِ كَمَا كَانَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَالِ حَيَاتِهِ فَيَكُونُ الْعَرْضُ عَلَى الْأُصُولِ، وَامْتِنَاعُ الْأُصُولِ مِنْ رَدِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْعَرْضِ عَلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَيَاتِهِ وَسُكُوتِهِ عَنْ الرَّدِّ وَأَدْنَى ذَلِكَ أَصْلَانِ، وَذَهَبَ بَعْضُ مَنْ أَوْجَبَ الْعَرْضَ إلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْعَرْضِ عَلَى كُلِّ الْأُصُولِ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ النَّقْضِ وَالْمُعَارَضَةِ لَا يَنْقَطِعُ إلَّا بِالْعَرْضِ عَلَى جَمِيعِ فَرْدِ ذَلِكَ وَقَالَ أَدْنَى ذَلِكَ أَيْ أَقَلُّ مَا يَجِبُ الْعَرْضُ عَلَيْهِ أَصْلَانِ. وَلَا يُعْتَبَرُ وَرَاءُ ذَلِكَ أَيْ وَرَاءُ الْأَصْلَيْنِ فِي وُجُوبِ الْعَرْضِ؛ لِأَنَّ التَّزْكِيَةَ بِالِاحْتِمَالِ لَا تَرُدُّ يَعْنِي الْعَرْضَ بِمَنْزِلَةِ التَّزْكِيَةِ، وَالتَّزْكِيَةُ وَإِنْ كَانَتْ أَمْرًا مُحْتَمَلًا لِكَوْنِهَا إخْبَارًا عَنْ عَدَمِ الْعِلْمِ بِمَا يُوجِبُ الْجَرْحَ لَا عَنْ الْعِلْمِ بِعَدَمِ مَا يُوجِبُهُ وَرُبَّمَا وَقَفَ غَيْرُ الْمُزَكِّي عَلَى بَعْضِ أَسْبَابِ الْجَرْحِ وَرُبَّمَا يَكُونُ الْمُزَكِّي كَاذِبًا فِي التَّعْدِيلِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْعَرْضُ عَلَى جَمِيعِ الْمُزَكِّينَ قَطْعًا لِلِاحْتِمَالِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ إلَّا أَنَّهَا لَا تُرَدُّ بِالِاحْتِمَالِ؛ لِأَنَّ فِي الْوُجُوبِ إلَى جَمِيعِ الْمُزَكِّينَ لِقَطْعِ الِاحْتِمَالِ جَرْحًا بَيِّنًا وَقَدْ أَسْقَطَ الشَّرْعُ ذَلِكَ عَنَّا بِقَوْلِهِ {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] فَكَذَلِكَ هَاهُنَا الْعَرْضُ عَلَى كُلِّ الْأُصُولِ مُتَعَذَّرٌ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَحْصُورٍ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ وَوَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْأُولَى، وَهُوَ أَصْلَانِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَنْ شَرَطَ الْعَرْضَ عَلَى كُلِّ الْأُصُولِ لَمْ يَجِد بُدًّا مِنْ الْعَمَلِ بِلَا دَلِيلٍ لِأَنَّهُ وَإِنْ اسْتَقْصَى فِي الْعَرْضِ فَالْخَصْمُ يَقُولُ: وَرَاءَ هَذَا أَصْلٌ آخَرُ هُوَ مُعَارِضٌ، أَوْ نَاقِضٌ لِمَا تَدَّعِيهِ فَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ أَنْ يَقُولَ لَمْ يَقُمْ عِنْدِي دَلِيلُ النَّقْضِ وَالْمُعَارَضَةِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِإِلْزَامِ الْخَصْمِ قَوْلُهُ (وَجَدَ قَوْلُنَا) ، وَهُوَ أَنَّ عَدَالَةَ الْوَصْفِ تَثْبُتُ بِالتَّأْثِيرِ إذْ حَاجَتُنَا إلَى إثْبَاتِ كَوْنِ الْوَصْفِ الَّذِي لَا يُحَسُّ وَلَا يُعَايَنُ حُجَّةً، وَتَرْجِيحُ احْتِمَالِ الصَّوَابِ عَلَى احْتِمَالِ الْغَلَطِ وَمَا لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْحِسِّ فَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الِاسْتِدْلَالَ بِأَثَرِهِ الَّذِي ظَهَرَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ، أَلَا تَرَى أَنَّا تَعَرَّفْنَا أَيْ طَلَبْنَا مَعْرِفَةَ صِدْقِ الشَّاهِدِ بِاحْتِرَازِهِ عَنْ مَحْظُورِ دِينِهِ فَإِنَّ أَثَرَ دِينِهِ لَمَّا ظَهَرَ فِي مَنْعِهِ عَنْ ارْتِكَابِ سَائِرِ مَحْظُورَاتِ دِينِهِ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى مَنْعِهِ عَنْ الْكَذِبِ الَّذِي هُوَ مَحْظُورُ دِينِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ كُلَّ الْمَحْظُورَاتِ مِنْ حَيْثُ يَمِيلُ الطَّبْعُ إلَيْهَا سَوَاءٌ، وَذَلِكَ أَيْ صِدْقُ الشَّاهِدِ مِمَّا يُعْرَفُ وُجُودُهُ بِأَثَرِهِ أَيْ أَثَرِ دِينِهِ كَمَا بَيَّنَّا لَا بِالْحِسِّ فَثَبَتَ أَنَّ طَرِيقَ مَعْرِفَةِ مَا لَا يُحَسُّ الِاسْتِدْلَال بِالْأَثَرِ. أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّ صِدْقَ الشَّاهِدِ مِمَّا يُعْرَفُ وُجُودُهُ بِظُهُورِ أَثَرِ نَفْسِ الصِّدْقِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِأَنْ احْتَرَزَ عَنْ الْكَذِبِ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى احْتِرَازٍ عَنْهُ فِي الشَّهَادَةِ أَيْضًا كَمَا يُعْرَفُ بِالِاحْتِرَازِ عَنْ سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ فَكَانَ الِاسْتِدْلَال بِالِاحْتِرَازِ عَنْ سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ اسْتِدْلَالًا بِظُهُورِ أَثَرٍ عَلَى أَثَرٍ آخَرَ وَالْمُؤَثِّرُ هُوَ الدِّينُ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالِاحْتِرَازِ عَنْ الْكَذِبِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ قَرِيبًا مِنْ الِاسْتِدْلَالِ

وَذَلِكَ مِمَّا يُعْرَفُ بِالْبَيَانِ، وَالْوَصْفُ يُوَجَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ كَالْأَثَرِ الدَّالِّ عَلَى غَيْرِ الْمَحْسُوسِ، وَأَمَّا الْخَيَالُ فَأَمْرٌ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ ظَنٌّ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَلِأَنَّهُ بَاطِنٌ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الْخَصْمِ ـــــــــــــــــــــــــــــQهُوَ الصِّدْقُ، وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَمَا نَعْرِفُ صِدْقَ الشَّاهِدِ بِمَا ذَكَرْنَا نَعْرِفُ الصَّانِعَ جَلَّ جَلَالُهُ بِالِاسْتِدْلَالِ بِآثَارِ صُنْعِهِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ تَعَالَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [البقرة: 164] وَإِلَى قَوْلِهِ {لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164] وَقَوْلُهُ عَزَّ اسْمُهُ {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الروم: 20] إلَى قَوْلِهِ {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25] وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الجاثية: 3] إلَى آخَرِ الْآيَاتِ وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْبَعْرَةُ تَدُلُّ عَلَى الْبَعِيرِ وَآثَارُ الْمَشْيِ تَدُلُّ عَلَى الْمَسِيرِ، وَهَذَا الْهَيْكَلُ الْعُلْوِيُّ وَالْمَرْكَزُ السُّفْلِيُّ أَمَا تَدُلَّانِ عَلَى الصَّانِعِ الْعَلِيمِ الْخَبِيرِ، وَاسْتِدْلَالًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْتَصِبًا عَلَى الْحَالِ إذْ الْمَصْدَرُ يَقَعُ حَالًا يُعْرَفُ الصَّانِعُ مُسْتَدِلِّينَ بِإِثَارِ صُنْعِهِ. وَذَلِكَ أَيْ مَعْرِفَةُ الصَّانِعِ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالْوَصْفِ وَالْبَيَانِ يَعْنِي أَنَّا إنَّمَا نَعْرِفُ حُصُولَ الْمَعْرِفَةِ لِلْمُسْتَدِلِّ إذَا قَدَرَ عَلَى الْوَصْفِ وَالْبَيَانِ بِوَجْهٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ بِأَنْ يَقُولَ: الْأَشْيَاءُ الْمُحْكَمَةُ الْمُتْقَنَةُ مَوْجُودَةٌ عَلَى وَجْهٍ تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ فَعَرَفْنَا أَنَّ لَهَا مُوجِدًا وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا حَيًّا قَدِيمًا عَالِمًا قَادِرًا حَكِيمًا وَبَيْنَ سَائِرِ الْأَوْصَافِ الَّذِي يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ لَا أَنْ يَقُولَ عَرَفْت بِالِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ، أَوْ ذُو جِهَةٍ، أَوْ ذُو صُورَةٍ؛ لِأَنَّا لَا نَرَى فِي الشَّاهِدِ مَوْجُودًا إلَّا مُتَحَيِّزًا أَوْ ذَا جِهَةٍ، أَوْ ذَا صُورَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِاسْتِدْلَالٍ بَلْ هُوَ ضَلَالٌ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ بِوَجْهٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ يَعْنِي فِي بَابِ الْعَقْلِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِمْ: الْأَثَرُ لَيْسَ بِمَحْسُوسٍ فَوَجَبَ النَّقْلُ إلَى تَحْكِيمِ الْقَلْبِ وَإِنَّ ذَلِكَ إشَارَةً إلَى الْأَثَرِ يَعْنِي أَثَرَ الْوَصْفِ إنْ لَمْ يَكُنْ مَحْسُوسًا فَهُوَ مِمَّا يُعْرَفُ بِالْبَيَانِ وَالْوَصْفِ بِوَجْهٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ أَيْ بِأَنْ تَبَيَّنَ ظُهُورُ أَثَرِهِ فِي مَحَلٍّ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَوْ بَيَّنَهُ فِي مَحَلٍّ مُخْتَلِفٍ فِيهِ لَمْ يَصْلُحْ لِلْإِلْزَامِ عَلَى الْخَصْمِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ أَيْ فِي هَذَا الْبَابِ. وَإِذَا كَانَ الْأَثَرُ مِمَّا يُعْلَمُ بِالْوَصْفِ وَالْبَيَانِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ لِمَعْرِفَةِ صِحَّةِ الْوَصْفِ كَمَا يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَى الْأَثَرِ الْمَحْسُوسِ الدَّالِّ عَلَى غَيْرِ الْمَحْسُوسِ، مِثْلُ الْبِنَاءِ الدَّالِّ عَلَى الْبَانِي وَالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ عَزَّ وَجَلَّ وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي مُخْتَصَرِ التَّقْوِيمِ أَمَّا قَوْلُهُمْ الْأَثَرُ غَيْرُ مَحْسُوسٍ فَمُسَلَّمٌ لَكِنَّهُ مَعْقُولٌ، وَلَيْسَ كُلُّ مَعْلُومٍ يَكُونُ مَعْلُومًا بِالْحِسِّ بَلْ يَكُونُ مَعْلُومًا بِالْعَقْلِ أَيْضًا وَمَا كَانَ مَعْقُولًا فَوْقَ الَّذِي كَانَ مَحْسُوسًا. أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّاهِدَ يَتَعَرَّفُ صِدْقُهُ بِمُجَانَبَتِهِ عَنْ مَحْظُورَاتِ دِينِهِ وَفِي الْحَقِيقَةِ الِاجْتِنَابُ عَنْ الْمَعَاصِي تَرْكٌ وَذَلِكَ غَيْرُ مَحْسُوسٍ. وَلَمَّا فَرَغَ عَنْ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى مُدَّعَاهُ شَرَعَ فِي الْجَوَابِ عَنْ كَلِمَاتِ الْخُصُومِ فَقَالَ: وَأَمَّا الْخَيَالُ الَّذِي اعْتَبَرَهُ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ فَأَمْرٌ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ مُجَرَّدِ الظَّنِّ؛ لِأَنَّ الْخَيَالَ وَالظَّنَّ وَاحِدٌ وَالظَّنُّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا وَلَا يُقَالُ: الظَّنُّ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الظَّنُّ الَّذِي قَامَ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ عَلَى اعْتِبَارِهِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ، لَا مُطْلَقُ الظَّنِّ وَلَمْ يَقُمْ هَاهُنَا دَلِيلٌ عَلَى اعْتِبَارِهِ شَرْعًا فَوَجَبَ إهْدَارُهُ؛ وَلِأَنَّهُ أَيْ الْخَيَالُ أَمْرٌ بَاطِنٌ أَيْ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ فَلَا يَصِحُّ دَلِيلًا مُلْزِمًا عَلَى الْغَيْرِ لِأَنَّ الْحُجَّةَ عَلَى الْغَيْرِ مَا يُقِرُّ الْغَيْرُ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّحَرِّيَ لَمَّا كَانَ أَمْرًا بَاطِنًا لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً عَلَى الْغَيْرِ حَتَّى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْمَلُ بِتَحَرِّيهِ دُونَ صَاحِبِهِ

وَلَا دَلِيلًا شَرْعِيًّا؛ وَلِأَنَّهُ دَعْوًى لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْمُعَارَضَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ خَصْمٍ يَحْتَجْ بِمِثْلِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ عَلَى خَصْمِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ يَقُولُ: عِنْدِي كَذَا فَالْخَصْمُ يُعَارِضُهُ بِمِثْلِهِ فَيَقُولُ عِنْدِي كَذَا وَدَلَائِلُ الشَّرْعِ لَا يَحْتَمِلُ لُزُومَ الْمُعَارَضَةِ كَمَا لَا يَحْتَمِلُ لُزُومَ الْمُنَاقَضَةِ وَأَمَّا الْعَرْضُ عَلَى الْأُصُولِ فَلَا يَقَعُ بِهِ التَّعْدِيلُ؛ لِأَنَّ الْأُصُولَ شُهُودُ لَا مُزَكُّونَ وَأَنَّى لَهَا التَّزْكِيَةُ مِنْ غَيْرِ دَرْكٍ الْأَحْوَالِ الشَّاهِدِ وَمُعَايَنَتِهِ وَهَلْ يَصِحُّ التَّزْكِيَةُ مِمَّنْ لَا خَبَرَ لَهُ وَلَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِالشُّهُودِ فَأَمَّا فَرْقُهُمْ بِأَنَّ الشَّاهِدَ مُبْتَلًى بِالطَّاعَةِ مَنْهِيٌّ عَنْ الْمَعْصِيَةِ فَيُتَوَهَّمُ سُقُوطُ شَهَادَتِهِ بِخِلَافِ الْوَصْفِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ مَعَ كَوْنِهِ مُلَائِمًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عِلَّةٍ بِذَاتِهِ بَلْ يَجْعَلُ الشَّرْعَ إيَّاهُ عِلَّةً فَكَانَ الِاحْتِمَالُ فِي الْمُعْتَرَضِ عَلَى أَصْلِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَكَلَامُنَا فِيمَا يَصْلُحُ حُجَّةً عَلَى الْغَيْرِ وَلَا دَلِيلًا شَرْعِيًّا يَعْنِي أَنَّهُ إذَا لَمْ يَصْلُحْ دَلِيلًا عَلَى الْخَصْمِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا لِأَنَّ مَا جُعِلَ دَلِيلًا فِي الشَّرْعِ يَصْلُحُ لِلْإِلْزَامِ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى الْجَمِيعِ، أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَمَا لَا يَصْلُحُ لِلْإِلْزَامِ عَلَى الْغَيْرِ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا يَصِحُّ الْعَمَلُ بِهِ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ بَابِ الْإِلْهَامِ وَالْإِلْهَامُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ أَصْلًا، أَوْ أَنَّهُ كَمَا لَا يَصْلُحُ لِلْإِلْزَامِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ مَبْنَى أَدِلَّةِ الشَّرْعِ عَلَى الظُّهُورِ يَقِفُ عَلَيْهَا كُلُّ وَاحِدٍ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَقِفُ عَلَيْهِ غَيْرُ صَاحِبِهِ وَلِأَنَّهُ دَعْوَى لَا تَنْفَكُّ عَنْ الْمُعَارَضَةِ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ وَقَعَ فِي قَلْبِي خَيَالٌ أَنَّ هَذَا حَقٌّ يَتَمَكَّنُ الْخَصْم مِنْ أَنْ يَقُولَ: وَقَعَ فِي قَلْبِي خَيَالٌ أَنَّهُ فَاسِدٌ، أَوْ وَقَعَ فِي قَلْبِي خَيَالٌ أَنَّ عِلَّتِي صَحِيحَةٌ فَيَصِيرُ بِهِ مُعَارِضًا وَهَذِهِ مُعَارَضَةٌ لَازِمَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْدَفِعُ بِوَجْهٍ. وَالْحُجَّةُ إذَا لَمْ تَنْفَكُّ عَنْ الْمُعَارَضَةِ لَمْ تَكُنْ حُجَّةً؛ لِأَنَّ حُجَجَ الشَّرْعِ لَا تَحْتَمِلُ لُزُومَ الْمُعَارَضَةِ كَمَا لَا تَحْتَمِلُ لُزُومَ الْمُنَاقَضَةِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَمَارَاتِ الْعَجْزِ وَالْجَهْلِ وَالسَّفَهِ، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ مُنَزَّهٌ عَنْهَا وَأَمَّا الْعَرْضُ عَلَى الْأُصُولِ فَلَا يَقَعُ بِهِ التَّعْدِيلُ؛ لِأَنَّ الْأُصُولَ شُهُودٌ لَا مُزَكُّونَ عَلَى مَا زَعَمُوا فَإِنَّ كُلَّ أَصْلٍ شَاهِدٌ مِثْلُ الْأَصْلِ الْمُعَلِّلِ، وَأَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ النُّصُوصُ مُوَافِقَةً لِلْوَصْفِ فَيَحْصُلُ بِهِ كَثْرَةُ النَّظَائِرِ وَبِكَثْرَةِ النَّظِيرِ لَا يَحْدُثُ قُوَّةٌ فِي الْوَصْفِ كَالشَّاهِدِ إذْ الْخَصْمُ إلَيْهِ أَمْثَالُهُ لَا يَظْهَرُ بِهِ عَدَالَتُهُ هَذَا إنْ جَعَلَ الْوَصْفَ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ وَإِنْ جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ فَكَذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ بِكَثْرَةِ الشُّهُودِ لَا تَطْهُرُ صِحَّةُ الشَّهَادَةِ وَقَوْلُهُمْ فَائِدَةُ الْعَرْضِ مَعْرِفَةُ عَدَمِ مَا يَنْقُضُ الْوَصْفَ أَوْ يُعَارِضُهُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا يَحْصُلُ إذَا كَانَتْ الْأُصُولُ مَحْصُورَةً وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ فَأَمَّا فَرْقُهُمْ أَيْ فَرْقُ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بَيْنَ الشَّاهِدِ وَالْوَصْفِ بِأَنَّ الشَّاهِدَ مُبْتَلًى بِالطَّاعَةِ مَنْهِيٌّ عَنْ الْمَعْصِيَةِ فَبَعْدَ صَلَاحِهِ لِلشَّهَادَةِ يُتَوَهَّمُ مِنْهُ مَا يُوجِبُ سُقُوطَ شَهَادَتِهِ لِبَقَاءِ اخْتِبَارِهِ فَيَجِبُ عَرْضُ حَالِهِ عَلَى الْمُزَكِّينَ بِخِلَافِ الْوَصْفِ فَإِنَّهُ بَعْدَ مُلَاءَمَتِهِ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَحْدُثُ فِيهِ مَا يُبْطِلُ صَلَاحِيَّتَهُ فَيَكُونُ الْعَرْضُ فِيهِ احْتِيَاطًا لَا حَتْمًا فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ بَعْدَ وُجُودِ الْمُلَاءَمَةِ فِيهِ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ عِلَّةً كَالْأَكْلِ نَاسِيًا مَعَ صَلَاحِهِ عِلَّةً لِلْإِفْطَارِ لَمْ يُجْعَلْ عِلَّةً لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِذَاتِهِ بَلْ بِجَعْلِ الشَّرْعِ إيَّاهُ عِلَّةً فَتَمَكَّنَ فِي أَصْلِهِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْمُلَاءَمَةِ احْتِمَالُ أَنَّهُ عِلَّةٌ أَمْ لَا فَإِنْ وَرَدَ عَلَيْهِ مُعَارِضٌ، أَوْ مُنَاقِضٌ ظَهَرَ أَنَّ الشَّرْعَ مَا جَعَلَهُ عِلَّةً؛ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ وَالْمُنَاقَضَةَ اللَّازِمَتَيْنِ لَا تَكُونَانِ فِي حُجَجِ الشَّرْعِ. وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ بَقِيَ مُحْتَمَلًا فَكَانَ الِاحْتِمَالُ فِي أَصْلِهِ أَيْ فَكَانَ اعْتِبَارُ الِاحْتِمَالِ الْمُتَمَكِّنِ فِي أَصْلِ الْوَصْفِ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ الِاحْتِمَالِ الْمُتَمَكِّنِ فِي الْمُعْتَرِضِ عَلَى الْأَصْلِ وَهُوَ الْفِسْقُ الْمُعْتَرِضُ عَلَى الْعَدَالَةِ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّاهِدِ هُوَ الْعَدَالَةُ وَفِي كَلَامِهِ الصِّدْقُ نَظَرًا إلَى الْعَقْلِ وَالدِّينِ الزَّاجِرَيْنِ عَنْ الْقَبِيحِ، ثُمَّ لَوْ ثَبَتَ الْمُحْتَمَلُ فِي الْوَصْفِ الْمُلَائِمِ، وَهُوَ عَدَمُ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ إيَّاهُ لَمْ يَبْقَ عِلَّةٌ أَصْلًا مَعَ مُلَاءَمَتِهِ وَلَوْ ثَبَتَ الْمُحْتَمَلُ فِي الشَّاهِدِ وَهُوَ الْفِسْقُ بَقِيَ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ فِيهِ لِبَقَاءِ الْحُرِّيَّةِ وَالْعَقْلِ وَالْإِسْلَامِ فَكَانَ الِاحْتِمَالُ فِي الْوَصْفِ أَقْوَى مِنْ الِاحْتِمَالِ فِي الشَّاهِدِ فَلَمَّا مُنِعَ الِاحْتِمَالُ فِي الْعَارِضِ عَنْ الْعَمَلِ بِشَهَادَةِ الْمَسْتُورِ فَلَأَنْ يُمْنَعَ الِاحْتِمَالُ فِي الْأَصْلِ عَنْ الْعَمَلِ بِالْوَصْفِ كَانَ أَوْلَى

أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَصْفَ لَا يَبْقَى عِلَّةً مَعَ الرَّدِّ مَعَ قِيَامِ الْمَلَامَةِ، وَالْجَوَابُ عَنْ كَلَامِهِ أَنَّ الْأَثَرَ مَعْقُولٌ مِنْ كُلِّ مَحْسُوسٍ لُغَةً وَعِيَانًا وَمِنْ كُلِّ مَشْرُوعٍ مَعْقُولٌ دَلَالَةً عَلَى مَا بَيَّنَّا وَإِنَّمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ بِأَمْثِلَتِهِ، وَذَلِكَ مِثْلُ «قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْهِرَّةِ إنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ» تَعْلِيلٌ لِلطَّهَارَةِ بِمَا ظَهَرَ أَثَرُهُ، وَهُوَ الضَّرُورَةُ فَإِنَّهَا مِنْ أَسْبَابِ التَّخْفِيفِ وَسُقُوطُ الْحَضَرِ بِالْكِتَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] وَالطَّوْفُ مِنْ أَسْبَابِ الضَّرُورَةِ فَصَحَّ التَّعْلِيلُ بِهِ لِمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ الضَّرُورَةِ وَمِثْلُ قَوْلِهِ لِلْمُسْتَحَاضَةِ إنَّهُ دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ، أَوْجَبَ بِهَذَا النَّصِّ الطَّهَارَةَ بِالدَّمِ بِمَعْنَى النَّجَاسَةِ؛ وَلِقِيَامِ النَّجَاسَةِ أَثَرٌ فِي التَّطْهِيرِ وَعَلَّقَهُ بِالِانْفِجَارِ وَلَهُ أَثَرٌ فِي الْخُرُوجِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَالِانْفِجَارُ آفَةٌ وَمَرَضٌ لَازِمٌ فَكَانَ لَهُ أَثَرٌ فِي التَّخْفِيفِ فِي قِيَامِ الطَّهَارَةِ مَعَ وُجُودِهِ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَأَحْرَى، أَلَا تَرَى تَوْضِيحٌ لِقَوْلِهِ لَكَانَ الِاحْتِمَالُ فِي أَصْلِهِ. وَالْجَوَابُ عَنْ كَلَامِهِ أَيْ كَلَامِ الْخَصْمِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَثَرَ مَعْنًى لَا يُحَسُّ أَوْ لَا يُعْقَلُ أَنَّ الْأَثَرَ مَعْقُولٌ أَيْ مَعْلُومٌ مِنْ كُلِّ مَحْسُوسٍ لُغَةً أَيْ بِطَرِيقِ اللُّغَةِ، فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يَقُولُونَ سَقَاهُ فَأَرْوَاهُ وَضَرَبَهُ فَأَوْجَعَهُ وَكَسَرَهُ فَانْكَسَرَ وَهَدَمَهُ فَانْهَدَمَ، فَهَذِهِ وَأَمْثَالُهَا لُغَاتٌ وُضِعَتْ لِآثَارِ أَفْعَالٍ مُؤَثِّرَةٍ وَعِيَانًا أَيْ بِطَرِيقِ الْمُعَايَنَةِ فَإِنَّ أَثَرَ الدَّوَاءِ الْمُسَهِّلِ فِي الْإِسْهَالِ وَأَثَرَ الْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ وَأَثَرَ فِعْلِ الْبَانِي فِي الْبِنَاءِ يُعْرَفُ بِالْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ. وَمِنْ كُلِّ مَشْرُوعٍ مَعْقُولٍ أَيْ مَفْهُومٍ دَلَالَةً أَيْ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ تَعَرُّفِ صِدْقِ الشَّاهِدِ بِالِاحْتِرَازِ عَنْ مَحْظُورِ دِينِهِ قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ) أَيْ كَوْنُ الْأَثَرِ مَعْقُولًا فِي الْمَشْرُوعَاتِ أَيْ مَعْلُومًا بِأَمْثِلَةٍ نَذْكُرُهَا وَذَلِكَ أَيْ ظُهُورُ الْأَثَرِ بِالْأَمْثِلَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ تَعْلِيلٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هَذَا تَعْلِيلٌ لِلطَّهَارَةِ أَيْ طَهَارَةِ الْهِرَّةِ فَإِنَّهَا لَمَّا لَمْ تَكُنْ نَجِسَةً كَانَتْ طَاهِرَةً بِمَا ظَهَرَ أَثَرُهُ، وَهُوَ الضَّرُورَةُ، كِلَا الضَّمِيرَيْنِ رَاجِعٌ إلَى مَا فَصَحَّ التَّعْلِيلُ بِهِ أَيْ بِالطَّوْفِ لِمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ الضَّرُورَةِ أَيْ لِاتِّصَالِ الضَّرُورَةِ بِالطَّوْفِ بِالتَّعْلِيلِ بِهِ لِدَفْعِ نَجَاسَةِ سُؤْرِ الْهِرَّةِ، أَوْ لِإِثْبَاتِ حُكْمِ التَّخْفِيفِ فِي سُؤْرِهِ يَكُونُ اسْتِدْلَالًا بِعِلَّةٍ مُؤَثِّرَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ فَيَتَنَاوَلُ الْمَيْتَةَ أَوْ الدَّمَ فَإِنَّهُ سَقَطَ اعْتِبَارُ النَّجَاسَةِ حَتَّى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ الْفَمِ وَلَا غَسْلُ الْيَدِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ كَذَا رَأَيْت فِي بَعْضِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَذَكَرَ الشَّيْخُ فِي مُخْتَصَرِ التَّقْوِيمِ أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا هِيَ مِنْ الطَّوَّافِينَ وَالطَّوَّافَاتِ عَلَيْكُمْ» إشَارَةٌ إلَى وَصْفٍ مُؤَثِّرٍ؛ لِأَنَّ الْهِرَّةَ لَمَّا كَانَتْ مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْنَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْ سُؤْرِهَا إلَّا بِحَرَجٍ عَظِيمٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى مَا جَعَلَ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ النَّجَاسَةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ وَالْحَرَجِ وَهَذَا وَصْفٌ ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ شَرْعًا فَإِنَّ النَّجَاسَةَ يَسْقُطُ حُكْمًا لِمَكَانِ الْعَجْزِ وَالضَّرُورَةِ فَإِنَّ الْمَيْتَةَ نَجِسَةٌ بِالْإِجْمَاعِ خَبِيثَةٌ ثُمَّ سَقَطَ اعْتِبَارُ النَّجَاسَةِ حَتَّى حَلَّتْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَكَذَا طَهَارَةُ الْبَدَنِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا قِيَامٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا ثُمَّ إذَا كَانَ نَجَسًا وَلَيْسَ مَعَهُ مَا يَغْسِلُهَا يُصَلِّي مَعَ النَّجَاسَةِ، وَإِنَّمَا سَقَطَتْ النَّجَاسَةُ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، وَكَذَا الْحَدَثُ يُسْقِطُ الْعِبَادَةَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ فَثَبَتَ أَنَّهُ أَشَارَ إلَى وَصْفٍ مُؤَثِّرٍ شَرْعًا وَعَقْلًا. أَوْجَبَ أَيْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا النَّصِّ وَهُوَ حَدِيثُ الْمُسْتَحَاضَةِ الطَّهَارَةَ بِالدَّمِ أَيْ بِسَبَبِهِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّجَاسَةِ الَّذِي لَهُ أَثَرٌ فِي إيجَابِ التَّطْهِيرِ لَا بِاعْتِبَارِ مَعَانٍ أُخْرَى مِنْ كَوْنِهِ جِسْمًا وَمَائِعًا وَنَحْوِهِمَا، أَوْ لَمْ يُوجَدْ لَهَا أَثَرٌ فِي إيجَابِ الطَّهَارَةِ وَعَقْلُهُ أَيْ إيجَابُ الطَّهَارَةِ بِالِانْفِجَارِ الَّذِي لَهُ أَثَرٌ فِي الْخُرُوجِ؛ لِأَنَّهُ أَيْ؛ لِأَنَّ انْفِجَارَ دَمِ الْعِرْقِ غَيْرُ مُعْتَادٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَنْفِيَ مَعَهُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَالتَّوَضُّؤِ بِخِلَافِ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعْتَادُهُ مُسْتَدَامٌ فَيَجُوزُ أَنْ يُسْقِطَ بِهِ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَالتَّوَضُّؤِ لِلْحَرَجِ، ثُمَّ أَشَارَ الشَّيْخُ إلَى أَنَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إشَارَةً إلَى التَّعْلِيلِ لِحُكْمٍ آخَرَ بِوَصْفٍ مُؤَثِّرٍ فَقَالَ: وَالِانْفِجَارُ آفَةٌ وَمَرَضٌ لَازِمٌ لَيْسَ فِي وُسْعِهَا رَدُّهُ وَإِمْسَاكُهُ وَلِهَذَا تُرَدُّ الْمَبِيعَةُ بِهِ فَكَانَ لَهُ أَيْ لِلِانْفِجَارِ اللَّازِمِ أَثَرٌ فِي التَّخْفِيفِ وَذَلِكَ التَّخْفِيفُ قِيَامُ الطَّهَارَةِ مَعَ وُجُودِهِ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَهُوَ وَقْتُ الصَّلَاةِ لِلضَّرُورَةِ قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ أَنَّ «قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِفَاطِمَةَ بِنْتِ حُبَيْشٍ حِينَ سَأَلَتْ عَنْ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ إنَّهَا دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ تَوَضَّئِي وَصَلِّي لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ» إشَارَةٌ

وَمِثْلُ «قَوْلِهِ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ فَقَالَ أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضَتْ بِمَاءٍ فَمَجَجْتَهُ أَكَانَ يَضُرُّكَ» تَعْلِيلٌ بِمَعْنًى مُؤَثِّرٍ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ نَقِيضُ الصَّوْمِ وَالصَّوْمَ كَفٌّ عَنْ شَهْوَةِ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ وَلَيْسَ فِي الْقُبْلَةِ قَضَاؤُهَا لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى مِثْلُ الْمَضْمَضَةِ «وَقَالَ فِي تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضَتْ بِمَاءٍ، ثُمَّ مَجَجْته أَكُنْت شَارِبَهُ» فَعَلَّلَ بِمَعْنًى مُؤَثِّرٍ، وَهُوَ أَنَّ الصَّدَقَةَ مَطْهَرَةٌ لِلْأَوْزَارِ فَكَانَتْ وَسَخًا كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِّ فَضَرَبُوا بِالْأَمْثَالِ مِثْلَ فُرُوعِ الشَّجَرِ وَشُعُوبِ الْوَادِي وَالْأَنْهَارِ وَالْجَدَاوِلِ وَاحْتَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِيهِ بِقُرْبِ أَحَدِ طَرْفَيْ الْقَرَابَةِ وَهَذِهِ أُمُورٌ مَعْقُولَةٌ بِآثَارِهَا ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَى أَحْكَامٍ ثَلَاثَةٍ وَتَعْلِيلٌ لَهَا بِأَوْصَافٍ مُؤَثِّرَةٍ: أَحَدُهَا وُجُوبُ الصَّلَاةِ وَالثَّانِي وُجُوبُ التَّوَضُّؤِ. وَالثَّالِثُ الِاكْتِفَاءُ بِطَهَارَةٍ وَاحِدَةٍ لِوَقْتِ الصَّلَاةِ أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلِأَنَّ دَمَ الْحَيْضِ إنَّمَا أَوْجَبَ سُقُوطَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا عَادَةٌ رَاتِبَةٌ فِي بَنَاتِ آدَمَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ لَا يُمْكِنُهُنَّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَلَوْ أَوْجَبْنَا الصَّلَاةَ عَلَيْهِنَّ لَأَدَّى إلَى الْحَرَجِ وَمَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ فَسَقَطَتْ الصَّلَاةُ عَنْهُنَّ بِتِلْكَ الدَّمِ فَأَمَّا دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ فَدَمُ عِرْقٍ يُوجَدُ بِعَارِضِ عِلَّةِ لَا يَكُونُ عَادَةً رَاتِبَةً فِيهِنَّ فَإِيجَابُ الصَّلَاةِ مَعَهُ لَا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ فَلَمْ يَصِرْ عُذْرًا فِي سُقُوطِ الصَّلَاةِ. وَالثَّانِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّلَ لِوُجُوبِ التَّوَضُّؤِ بِانْفِجَارِ الدَّمِ، وَهُوَ تَعْلِيلٌ بِمَعْنًى مُؤَثِّرٍ لِأَنَّ انْفِجَارَ الدَّمِ مُؤَثِّرٌ فِي إثْبَاتِ النَّجَاسَةِ إذْ الدَّمُ بِالِانْفِجَارِ يَصِلُ إلَى مَوْضِعٍ يَجِبُ تَطْهِيرُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْهُ وَلِلنَّجَاسَةِ أَثَرٌ فِي إيجَابِ الطَّهَارَةِ إذْ الْعَبْدُ يَقُومُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَكُونُ أَهْلًا لِذَلِكَ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ طَاهِرًا وَالثَّالِثُ قَالَ تَوَضَّئِي لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ وَأَشَارَ إلَى وَصْفٍ مُؤَثِّرٍ فَقَالَ إنَّهَا دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ وَالِانْفِجَارُ عِبَارَةٌ عَنْ السَّيَلَانِ الدَّائِمِ وَمَعَ السَّيَلَانِ لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الطَّهَارَةُ لِكُلِّ حَدَثٍ لَبَقِيَتْ مَشْغُولَةً بِالطَّهَارَةِ أَبَدًا لَا تَجِدُ فَرَاغًا عَنْهَا فَلَا يُمْكِنُهَا إذًا الصَّلَاةُ فَأَوْجَبَ التَّوَضُّؤَ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ مَرَّةً وَاحِدَةً لِيُمْكِنَهَا أَدَاءُ الصَّلَاةِ وَأَسْقَطَ اعْتِبَارَ الْحَدَثِ بَعْدَهُ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ لِلْعَجْزِ تَأْثِيرٌ فِي إسْقَاطِ النَّجَاسَةِ لِمَا قُلْنَا قَوْلُهُ (وَمِثْلُ قَوْلِهِ) أَيْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْهِرَّةِ وَكَلِمَةُ فَقَالَ وَقَعَتْ زَائِدَةً لَا حَاجَةَ إلَيْهَا وَقَوْلُهُ تَعْلِيلٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هَذَا تَعْلِيلٌ بِمَعْنًى مُؤَثِّرٍ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ نَقِيضُ الصَّوْمِ أَيْ ضِدُّهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى النَّاقِضِ أَيْ الْفِطْرُ هُوَ النَّاقِضُ لِلصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي رُكْنَهُ، وَهُوَ الْكَفُّ عَنْ اقْتِضَاءِ الشَّهْوَتَيْنِ وَلَيْسَ فِي الْقُبْلَةِ قَضَاءُ شَهْوَةِ الْفَرْجِ لَا صُورَةً لِعَدَمِ إيلَاجِ فَرْجٍ فِي فَرْجٍ. وَلَا مَعْنًى لِعَدَمِ الْإِنْزَالِ مِثْلُ الْمَضْمَضَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا قَضَاءُ شَهْوَةِ الْبَطْنِ لَا صُورَةً لِعَدَمِ وُصُولِ شَيْءٍ إلَى الْبَاطِنِ وَلَا مَعْنًى لِعَدَمِ حُصُولِ صَلَاحِ الْبَدَنِ بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقَدِّمَةٌ لِقَضَاءِ شَهْوَةٍ فَكَمَا أَنَّ الْمَضْمَضَةَ لَا تُفْسِدُ الصَّوْمَ لِعَدَمِ مَعْنَى الْفِطْرِ فِيهَا فَكَذَلِكَ الْقُبْلَةُ فَعَلَّلَ بِمَعْنًى مُؤَثِّرٍ، وَهُوَ أَنَّ الصَّدَقَةَ مُطَهِّرَةٌ لِلْأَوْزَارِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] وَالْوِزْرُ الْحِمْلُ الثَّقِيلُ. وَالْمُرَادُ الْإِثْمُ هَاهُنَا فَكَانَتْ وَسَخًا كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَكَمَا أَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ أَخْذٌ بِمَعَالِي الْأُمُورِ وَكَذَلِكَ حُرْمَةُ الصَّدَقَةِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ تَعْظِيمٌ وَإِكْرَامٌ لَهُمْ لِيَكُونَ لَهُمْ خُصُوصِيَّةٌ بِمَا هُوَ مِنْ مَعَالِي الْأُمُورِ. فَهَذَا بَيَانُ تَعْلِيلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَوْصَافٍ مُؤَثِّرَةٍ. 1 - ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ تَعْلِيلِ الصَّحَابَةِ بِهَا فَقَالَ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُمْ فِي الْجَدِّ يَعْنِي مَعَ الْإِخْوَةِ فِي الْمِيرَاثِ فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إلَى تَفْضِيلِ الْجَدِّ عَلَى الْإِخْوَةِ وَذَهَبَ عَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَجَمَاعَةٌ أُخْرَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إلَى تَوْرِيثِ الْإِخْوَةِ مَعَ الْجَدِّ فَضَرَبُوا فِيهِ أَيْ فِي الْجَدِّ، أَوْ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ بِأَمْثَالٍ فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّمَا مَثَلُ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ مَثَلُ شَجَرٍ أَنْبَتَ غُصْنًا ثُمَّ تَفَرَّعَ مِنْ الْغُصْنِ فَرْعَانِ فَالْقُرْبُ بَيْنَ الْغُصْنَيْنِ أَقْوَى مِنْ الْقُرْبِ بَيْنَ الْفَرْعَيْنِ وَالْأَصْلُ؛ لِأَنَّ الْغُصْنَ بَيْنَ الْفَرْعَيْنِ وَالْأَصْلُ وَاسِطَةٌ وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْفَرْعَيْنِ فَهَذَا يَقْتَضِي رُجْحَانَ الْأَخِ عَلَى الْجَدِّ إلَّا أَنَّ بَيْنَ الْفَرْعَيْنِ وَالْأَصْلِ جُزْئِيَّةً وَبَعْضِيَّةً لَيْسَتْ

وَقَدْ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ حِينَ قَالَ مَا أَرَى النَّارَ تُحِلُّ شَيْئًا أَلَيْسَ يَكُونُ خَمْرًا ثُمَّ يَصِيرُ خَلًّا فَنَأْكُلَهُ فَعَلَّلَ بِمَعْنًى مُؤَثِّرٍ وَهُوَ تَغَيُّرُ الطِّبَاعِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي اثْنَيْنِ اشْتَرَيَا عَبْدًا، وَهُوَ قَرِيبُ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ بِرِضَاهُ وَلِلرِّضَاءِ أَثَرٌ فِي سُقُوطِ الْعُدْوَانِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبَيْنَ الْفَرْعَيْنِ نَفْسِهِمَا فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَرْجِيحٌ فَاسْتَوَيَا وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَثَلُ الْجَدِّ مَعَ الْحَافِدِ كَمَثَلِ نَهْرَيْنِ يَنْشَعِبَانِ مِنْ وَادٍ ثُمَّ يَنْشَعِبُ مِنْ هَذَا النَّهْرِ جَدْوَلٌ وَمَثَلُ الْأَخَوَيْنِ كَمَثَلِ نَهْرَيْنِ يَنْشَعِبَانِ مِنْ وَادٍ فَالْقُرْبُ بَيْنَ النَّهْرَيْنِ الْمُنْشَعِبَيْنِ مِنْ الْوَادِي أَكْثَرُ مِنْ الْقُرْبِ بَيْنَ الْوَادِي، وَالْجَدْوَلُ بِوَاسِطَةِ النَّهْرِ. وَالشُّعُوبُ جَمْعُ شَعْبٍ، وَهُوَ مَا تَشَعَّبَ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَكَأَنَّهُ مُسْتَعَارٌ هَاهُنَا لَمَّا تَشَعَّبَ مِنْ الْوَادِي، وَالْجَدْوَلُ النَّهْرُ الصَّغِيرُ وَاحْتَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِيهِ أَيْ فِي تَرْجِيحِ الْجَدِّ بِقُرْبِ أَحَدِ طَرَفَيْ الْقَرَابَةِ فَقَالَ، أَلَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ ابْنًا وَلَا يَجْعَلُ أَبَا الْأَبِ أَبًا اعْتَبَرَ أَحَدَ طَرَفَيْ الْقَرَابَةِ وَهُوَ طَرَفُ الْأَصَالَةِ بِالطَّرَفِ الْآخِرِ، وَهُوَ الْجُزْئِيَّةُ فِي الْقُرْبِ. وَهَذِهِ أُمُورٌ مَعْقُولَةٌ بِآثَارِهَا أَيْ مَا ذَكَرُوا مِنْ التَّمْثِيلِ وَالِاحْتِجَاجِ بِأَحَدِ طَرَفَيْ الْقَرَابَةِ عَلَى الْآخَرِ تَعْلِيلَاتٌ بِأَوْصَافٍ مُؤَثِّرَةٍ فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ بِالْقَرَابَةِ، وَالتَّمْثِيلُ بِفُرُوعِ الشَّجَرِ وَشُعُوبِ الْوَادِي لِبَيَانِ تَفَاوُتِ الْقُرْبِ بِطَرِيقٍ مَحْسُوسٍ إلَّا أَنَّ الْعَبَّاسَ رَجَّحَ الْجَدَّ؛ لِأَنَّ قُرْبَهُ مُنْشَعِبٌ عَنْ الْجُزْئِيَّةِ كَقُرْبِ الْحَافِدِ إذْ الْحَافِدُ مُتَّصِلٌ بِالْبِنْتِ بِوَاسِطَةِ أَبِيهِ اتِّصَالَ جُزْئِيَّةٍ، وَالْجَدُّ مُتَّصِلٌ بِهِ بِوَاسِطَةِ ابْنِهِ اتِّصَالَ جُزْئِيَّةٍ أَيْضًا ثُمَّ الْحَافِدُ وَإِنْ سَفَلَ بِاعْتِبَارِ الْجُزْئِيَّةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَخِ فَكَذَا الْجَدُّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقُرْبَ بِاعْتِبَارِ الْجُزْئِيَّةِ مَعْنًى يَرْجِعُ إلَى ذَاتِ الْقَرَابَةِ وَالْقُرْبُ بِاعْتِبَارِ الْمُجَاوَرَةِ مَعْنًى يَرْجِعُ إلَى حَالِ الْقَرَابَةِ وَالتَّرْجِيحُ بِالذَّاتِ أَوْلَى مِنْ التَّرْجِيحِ بِالْحَالِ قَوْلُهُ (وَقَدْ قَالَ عُمَرُ لِعُبَادَةَ) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ اسْتَشَارَ النَّاسُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي شَرَابٍ يُرْزَقُهُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ النَّصَارَى إنَّا نَصْنَعُ شَرَابًا فِي صَوْمِنَا فَقَالَ عُمَرُ ائْتِنِي بِشَيْءٍ مِنْهُ فَأَتَاهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ قَالَ مَا أَشْبَهَ هَذَا بِطِلَاءِ الْإِبِلِ كَيْفَ تَصْنَعُونَهُ قَالَ: نَطْبُخُ الْعَصِيرَ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ وَيَبْقَى ثُلُثُهُ فَصَبَّ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَيْهِ مَاءً وَشَرِبَ مِنْهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ وَهُوَ عَنْ يَمِينِهِ فَقَالَ عُبَادَةُ مَا أَرَى النَّارَ تُحِلُّ شَيْئًا فَقَالَ لَهُ عُمَرُ يَا أَحْمَقُ أَلَيْسَ يَكُونُ خَمْرًا، ثُمَّ يَصِيرُ خَلًّا، ثُمَّ تَأْكُلُهُ. وَفِي هَذَا دَلِيلُ إبَاحَةِ شُرْبِ الْمُثَلَّثِ وَإِنْ كَانَ مُشْتَدًّا فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّمَا اسْتَشَارَهُمْ فِي الْمُشْتَدِّ دُونَ الْحُلْوِ، وَهُوَ مَا يَكُونُ مُمْرِئًا لِطَعَامٍ مُقَوِّيًا عَلَى الطَّاعَةِ فِي لَيَالِيِ الصِّيَامِ وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى عُبَادَةَ فَقَالَ مَا أَرَى النَّارَ تُحِلُّ شَيْئًا يَعْنِي أَنَّ الْمُشْتَدَّ مِنْ هَذَا الشَّرَابِ قَبْلَ أَنْ يُطْبَخَ بِالنَّارِ حَرَامٌ فَبَعْدَ الطَّبْخِ كَذَلِكَ إذْ النَّارُ لَا تُحِلُّ الْحَرَامَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ يَا أَحْمَقُ أَيْ يَا قَلِيلَ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ أَلَيْسَ يَكُونُ خَمْرًا، ثُمَّ يَكُونُ خَلًّا فَتَأْكُلُهُ يَعْنِي أَنَّ صِفَةَ الْخَمْرِيَّةِ بِالتَّخَلُّلِ تَزُولُ فَكَذَلِكَ صِفَةُ الْخَمْرِيَّةِ بِالطَّبْخِ إلَى أَنْ ذَهَبَ مِنْهُ الثُّلُثَانِ تَزُولُ. وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ النَّارَ لَا تُحِلُّ وَلَكِنْ بِالطَّبْخِ تَنْعَدِمُ صِفَةُ الْخَمْرِيَّةِ كَالذَّبْحِ فِي الشَّاةِ عَيْنُهُ لَا يَكُونُ مُحَلِّلًا، وَلَكِنَّهُ مُنْهِرٌ لِلدَّمِ وَالْمُحَرَّمُ هُوَ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ يَكُونُ مُحَلِّلًا لِانْعِدَامِ مَا لِأَجْلِهِ كَانَ مُحَرَّمًا كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فَعَلَّلَ بِمَعْنًى مُؤَثِّرٍ، وَهُوَ تَغَيُّرُ الطِّبَاعِ يَعْنِي الطَّبْخَ بِغَيْرِ طَبْعِهِ وَلِلتَّغَيُّرِ أَثَرٌ فِي تَبَدُّلِ الْحُكْمِ كَالْمَنِيِّ إذَا صَارَ حَيَوَانًا صَارَ طَاهِرًا وَكَذَا الْحِمَارُ إذَا وَقَعَ فِي الْمَمْلَحَةِ وَصَارَ مِلْحًا وَالسِّرْقِينُ إذَا صَارَ رَمَادًا قَوْلُهُ (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي اثْنَيْنِ اشْتَرَيَا عَبْدًا) إذَا مَلَكَ الرَّجُلُ مَعَ آخَرَ قَرِيبَهُ بِشِرَاءٍ، أَوْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ وَصِيَّةٍ عَتَقَ نَصِيبَهُ مِنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَيَسْعَى الْعَبْدُ لِشَرِيكِهِ فِي نَصِيبِهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الَّذِي عَتَقَ مِنْ قِبَلِهِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ قِيمَةَ نَصِيبِهِ إنْ كَانَ

وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي إيدَاعِ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَى اسْتِهْلَاكِهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الزِّنَا لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ رُجِمَتْ عَلَيْهِ وَالنِّكَاحُ أَمْرٌ حُمِدَتْ عَلَيْهِ وَهَذِهِ أَوْصَافٌ ظَاهِرَةُ الْآثَارِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي النِّكَاحِ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَلِذَلِكَ أَثَّرَ فِي هَذَا الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَالَ هُوَ الْمُبْتَذَلُ فَاحْتِيجَ فِيهِ إلَى الْحُجَّةِ الضَّرُورِيَّةِ وَأَمَّا مَا لَيْسَ بِمَالٍ فَغَيْرُهُ مُبْتَذَلٌ فَيَجِبُ إثْبَاتُهُ بِالْحُجَّةِ الْأَصْلِيَّةِ وَلِيَزْدَادَ خَطَرُهُ عَلَى مَا هُوَ مُبْتَذَلٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQمُوسِرًا وَيَسْعَى الْعَبْدُ لِشَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُعْسِرًا؛ لِأَنَّ الْقَرِيبَ بِالشِّرَاءِ صَارَ مُعْتِقًا لِنَصِيبِهِ فَإِنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ؛ وَلِهَذَا تُؤَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ وَالْمُعْتِقُ ضَامِنٌ لِنَصِيبِ شَرِيكِهِ إذَا كَانَ مُوسِرًا كَمَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَاشْتَرَى قَرِيبُ الْعَبْدِ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا مِنْهُ يَضْمَنُ نَصِيبَ الْآخَرِ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ أَعْتَقَهُ بِرِضَاهُ أَيْ بِرِضَا الشَّرِيكِ فَلَا يَضْمَنُ لَهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ لِلرِّضَاءِ أَثَرًا فِي سُقُوطِ ضَمَانِ الْعُدْوَانِ. وَهَذَا؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْعِتْقِ يَجِبُ بِالْإِفْسَادِ، أَوْ الْإِتْلَافِ لِمِلْكِ الشَّرِيكِ فَيَكُونُ وَاجِبًا بِطَرِيقِ الْجُبْرَانِ وَرِضَاهُ بِالسَّبَبِ يُغْنِي عَنْ الْحَاجَةِ إلَى الْجُبْرَانِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى ذَلِكَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ وَقَدْ انْدَفَعَ ذَلِكَ حُكْمًا حِينَ رَضِيَ بِهِ كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ نَصًّا أَنْ يُعْتِقَهُ، وَكَمَا لَوْ أَتْلَفَ مَالَ الْغَيْرِ بِإِذْنِهِ وَإِثْبَاتُ الرِّضَاءِ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمَّا سَاعَدَ شَرِيكَهُ عَلَى الْقَبُولِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ قَبُولَ شَرِيكِهِ مُوجِبٌ لِلْعِتْقِ صَارَ رَاضِيًا بِعِتْقِهِ عَلَى شَرِيكِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَأْذَنَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ صَاحِبَهُ فِي أَنْ يَعْتِقَ نَصِيبَهُ فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ. وَالثَّانِي أَنَّ الْمُشْتَرِيَيْنِ صَارَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ لِاتِّحَادِ الْإِيجَابِ مِنْ الْبَائِعِ؛ وَلِهَذَا لَوْ قِيلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَصِحَّ قَبُولُهُ وَلَمْ يَمْلِكْ نَصِيبَهُ بِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَاضٍ بِالتَّمَلُّكِ فِي نَصِيبِهِ فَيَكُونُ رَاضِيًا بِالتَّمَلُّكِ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ أَيْضًا لَمَّا سَاعَدَهُ عَلَى الْقَبُولِ بَلْ يَصِيرُ مُشَارِكًا لَهُ فِي السَّبَبِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَالْمُشَارَكَةُ فِي السَّبَبِ فَوْقَ الرِّضَاءِ بِهِ إلَّا أَنَّ بِهَذَا السَّبَبِ يَتِمُّ عِلَّةُ الْعِتْقِ فِي حَقِّ الْقَرِيبِ، وَهُوَ الْمِلْكُ وَلَا يَتِمُّ بِهِ عِلَّةُ الْعِتْقِ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ فَكَانَ الْقَرِيبُ مُعْتِقًا دُونَ الْأَجْنَبِيِّ وَلَكِنْ بِمُعَاوَنَتِهِ فَيَسْقُطُ حَقُّهُ فِي تَضْمِينِهِ لَمَّا عَاوَنَهُ عَلَى السَّبَبِ. وَهَذَا الْكَلَامُ يَتَّضِحُ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الشِّرَاءِ، وَلِهَذَا عَيَّنَ فِي الْكِتَابِ الشِّرَاءَ فَقَالَ فِي اثْنَيْنِ اشْتَرَيَا عَبْدًا فَأَمَّا فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ فَكَلَامُهُمَا أَوْضَحُ؛ لِأَنَّهُ قَبُولُ أَحَدِهِمَا فِي نَصِيبِهِ صَحِيحٌ بِدُونِ قَبُولِ الْآخَرِ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ هُمَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ أَيْضًا لَكِنْ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ قَبُولُ الشَّخْصِ فِي النِّصْفِ دُونَ النِّصْفِ صَحِيحٌ ثُمَّ لَا فَصْلَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الشَّرِيكُ عَالِمًا بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَعَهُ قَرِيبُ الْعَبْدِ، أَوْ لَا يَكُونُ عَالِمًا بِهِ. وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الرِّضَاءِ يَتَحَقَّقُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ فَهُوَ كَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ كُلْ هَذَا الطَّعَامِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ طَعَامُهُ فَأَكَلَهُ الْمُخَاطَبُ فَلَيْسَ لِلْآذِنِ أَنْ يُضَمِّنَهُ شَيْئًا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِشَرِيكِهِ أَعْتِقْ هَذَا الْعَبْدَ، وَهُوَ لَا يَعْلَمْ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَقَدْ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ رِضَاهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ عَالِمًا بِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ شَرِيكَهُ وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ نَصِيبَهُ بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ رِضَاهُ وَقَبُولُهُ حِينَ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِأَنَّ شَرِيكَهُ مُعْتِقٌ وَبِدُونِ تَمَامِ الْقَبُولِ لَا يُعْتَقُ نَصِيبُ الشَّرِيكِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ فِي نَصِيبِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ وَلَوْ كَانَ عَالِمًا بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي إيدَاعِ الصَّبِيِّ أَيْ فِي مَسْأَلَةِ إيدَاعِ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَيْ الْمُودِعُ سَلَّطَهُ أَيْ الصَّبِيُّ عَلَى اسْتِهْلَاكِهِ أَيْ اسْتِهْلَاكِ الشَّيْءِ الْمُودَعِ. وَهَذَا إشَارَةٌ مِنْهُ إلَى الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَكَّنَهُ مِنْ الْمَالِ قَدْ سَلَّطَهُ عَلَى إتْلَافِهِ حِسًّا وَالتَّسْلِيطُ يُخْرِجُ فِعْلَ الْمُسَلِّطِ مِنْ أَنْ يَكُونَ جِنَايَةً فِي حَقِّ الْمُسَلِّطِ بَلْ يَكُونُ رِضًا بِالِاسْتِهْلَاكِ، وَالرِّضَاءُ بِالِاسْتِهْلَاكِ يُسْقِطُ الضَّمَانَ عَلَى الْمُسَلِّطِ لِلْمُسَلَّطِ، ثُمَّ إنَّهُ بِقَوْلِهِ احْفَظْ يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَ التَّسْلِيطَ مَقْصُورًا عَلَى الْحِفْظِ بِطَرِيقِ الْعَقْدِ، وَهَذَا فِي حَقِّ الْبَالِغِ صَحِيحٌ وَفِي حَقِّ الصَّبِيِّ لَا يَصِحُّ أَصْلًا، وَفِي حَقِّ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ لَا يَصِحُّ فِي حَالَةِ الرِّقِّ وَخَصَّ

وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ جَرَيْنَا فِي الْفُرُوعِ فَقُلْنَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ إنَّهُ مَسْحٌ فَلَا يُسَنُّ تَثْلِيثُهُ كَمَسْحِ الْخُفِّ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْمَسْحِ مَعْنًى مُؤَثِّرٌ فِي التَّخْفِيفِ فِي فَرْضِهِ حَتَّى لَمْ يَسْتَوْعِبْ مَحَلَّهُ فَفِي سُنَنِهِ أَوْلَى فَأَمَّا قَوْلُ الْخَصْمِ إنَّهُ رُكْنٌ فِي الْوُضُوءِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي إبْطَالِ التَّخْفِيفِ وَعَلَّلْنَا فِي وِلَايَةِ الْمُنَاكِحِ بِالصِّغَرِ وَالْبُلُوغِ، وَهُوَ الْمُؤَثِّرُ؛ لِأَنَّهَا مَا شُرِعَتْ إلَّا حَقًّا لِلْعَاجِزِ كَالنَّفَقَةِ فَصَحَّ التَّعْلِيلُ بِالْعَجْزِ وَالْقُدْرَةِ لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْبَكَارَةِ وَالثِّيَابَةِ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ، وَقُلْنَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إنَّهُ عَيْنٌ وَهَذَا مُؤَثِّرٌ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ فِي الْأَصْلِ لِلتَّعْيِينِ وَالتَّمْيِيزِ وَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ دُونَ الِانْفِرَادِ وَعَلَّلَ بِأَنَّهُ فَرْضٌ وَلَا أَثَرَ لِلْفَرْضِيَّةِ إلَّا فِي إصَابَةِ الْمَأْمُورِ وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى ـــــــــــــــــــــــــــــQمُحَمَّدًا بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مِثْلُ قَوْلِهِ بِاعْتِبَارِ التَّصْنِيفِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الزِّنَا لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ رُجِمَتْ عَلَيْهِ أَيْ هُوَ أَمْرٌ يُفْضِي إلَى أَشَدِّ الْعُقُوبَاتِ وَأَقْبَحِهَا، وَهُوَ الرَّجْمُ وَالنِّكَاحُ أَمْرٌ حُمِدَتْ عَلَيْهِ لِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ الْفَضَائِلِ فَأَنَّى يَتَشَابَهَانِ؟ وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ مِنْهُ فِي الْفَرْقِ بِوَصْفٍ مُؤَثِّرٍ فَإِنَّ ثُبُوتَ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بِطَرِيقِ النِّعْمَةِ وَالْكَرَامَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهَا مَا يُحْمَدُ الْمَرْءُ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهَا مَا يُعَاقَبُ الْمَرْءُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الزِّنَا الْمُوجِبُ لِلرَّجْمِ وَأَشَارَ أَيْضًا إلَى أَنَّ الزِّنَا لَمَّا كَانَ أَمْرًا يُرْجَمُ عَلَيْهِ كَانَ وَاجِبَ الْإِعْدَامِ بِأَحْكَامِهِ وَلِذَلِكَ وَجَبَ دَرْؤُهُ بِالشُّبُهَاتِ لِيَنْعَدِمَ وَلَا يَظْهَرَ فَثَبَتَ أَنَّ السَّبِيلَ فِيهِ الْإِعْدَامُ بِآثَارِهِ فِي إثْبَاتِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ تَقْرِيرُهُ وَإِبْقَاؤُهُ وَمَا يَجِبُ إعْدَامُهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَقَاؤُهُ، وَهَذِهِ أَيْ الْأَوْصَافُ الَّتِي ذَكَرَهَا السَّلَفُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَوْصَافٌ ظَاهِرَةُ الْآثَارِ كَمَا بَيَّنَّا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي النِّكَاحِ إنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّهُ أَيْ النِّكَاحَ لَيْسَ بِمَالٍ وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ أَثَّرَ فِي هَذَا الْحُكْمِ. وَهُوَ عَدَمُ اعْتِبَارِ شَهَادَتِهِنَّ فِي النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ هُوَ الْمُبْتَذَلُ أَيْ الْمُسْتَهَانُ تَجْرِي الْمُسَاهَلَةُ فِيهِ وَكَثِيرُ الْمُعَامَلَةِ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ فَاحْتِيجَ فِيهِ إلَى الْحُجَّةِ الضَّرُورِيَّةِ وَهِيَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ الَّتِي فِيهَا شُبْهَةٌ دَفْعًا لِلْحَرَجِ فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُنَّ شَهَادَةٌ لِبِنَاءِ أَمْرِهِنَّ عَلَى التَّسَتُّرِ وَعَلَى الْغَفْلَةِ وَالضَّلَالَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة: 282] فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِمَالٍ مِثْلُ النِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ وَنَحْوِهِمَا فَغَيْرُ مُبْتَذَلٍ وَلَا يَكْثُرُ فِيهِ الْبَلْوَى وَالْمُعَامَلَةُ وَيَكُونُ فِي مَحَافِلِ الرِّجَالِ فَيَجِبُ إثْبَاتُهُ بِالْحُجَّةِ الْأَصْلِيَّةِ وَهِيَ شَهَادَةُ الرِّجَالِ وَحْدَهُمْ لِعَدَمِ تَأْدِيَتِهِ إلَى الْحَرَجِ قَوْلُهُ (وَلِيَزْدَادَ خَطَرُهُ عَطْفٌ) عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَتَقْدِيرُهُ وَأَمَّا مَا لَيْسَ بِمَالٍ فَيَجِبُ إثْبَاتُهُ بِالْحُجَّةِ الْأَصْلِيَّةِ لِعَدَمِ ابْتِذَالِهِ وَلِازْدِيَادِ خَطَرِهِ عَلَى مَا هُوَ مُبْتَذَلٌ فَإِنْ احْتَاجَ النِّكَاحُ إلَى الْمُقَدِّمَاتِ مِثْلُ الْخُطْبَةِ وَالْمُشَاوَرَةِ فِي الْعَادَاتِ وَالِاسْتِشْفَاعِ بِالْعُظَمَاءِ وَإِحْضَارِ الشُّهُودِ، وَالْوَلِيُّ دَلَّ عَلَى خَطَرِهِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ أَصْلِيَّةٍ خَالِيَةٍ عَنْ الشُّبْهَةِ فَثَبَتَ بِمَا قُلْنَا أَنَّ طَرِيقَ تَعْلِيلِ السَّلَفِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - هُوَ التَّعْلِيلُ بِالْوَصْفِ الْمُؤَثِّرِ قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ) ، وَهُوَ أَنَّ اعْتِبَارَ الْمُلَاءَمَةِ وَالتَّأْثِيرِ وَاجِبٌ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ جَرَيْنَا فِي الْفُرُوعِ الَّتِي اخْتَلَفْنَا فِيهَا مَعَ الْفُقَهَاءِ فَقُلْنَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ يَعْنِي فِي أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّكْرَارُ لِإِكْمَالِ السُّنَّةِ أَنَّهُ مَسْحٌ فَلَا يُسَنُّ تَثْلِيثُهُ كَمَسْحِ الْخُفِّ. وَهُوَ مُؤَثِّرٌ لِأَنَّ مَعْنَى الْمَسْحِ مُؤَثِّرٌ فِي التَّخْفِيفِ فَإِنَّ الْمَسْحَ أَيْسَرُ مِنْ الْغُسْلِ وَتَأَدِّي الْفَرْضِ بِهِ دَلِيلُ التَّخْفِيفِ، وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ التَّخْفِيفِ فِي فَرْضِهِ حَتَّى لَمْ يُشْتَرَطْ اسْتِيعَابُ الْمَحَلِّ بِالْمَسْحِ بِخِلَافِ الْمَغْسُولَاتِ فَلَأَنْ يَظْهَرَ فِي سُنَّتِهِ بِأَنْ لَمْ يَبْقَ التَّكْرَارُ سُنَّةً فِيهِ كَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ تَبَعُ الْفَرْضِ وَأَضْعَفُ مِنْهُ فَكَانَتْ أَوْلَى بِظُهُورِ أَثَرِ التَّخْفِيفِ فِيهَا مِنْ الْفَرْضِ فَأَمَّا قَوْلُ الْخَصْمِ: إنَّهُ رُكْنٌ فِي وُضُوءٍ فَغَيْرُ مُؤَثِّرٌ فِي إبْطَالِ التَّخْفِيفِ أَيْ لَا يَنْفِي مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَعْنَى التَّخْفِيفِ؛ لِأَنَّ مَسْحَ الْخُفِّ رُكْنٌ وَلَا يُسَنُّ تَثْلِيثُهُ. وَكَذَا الْمَسْحُ فِي التَّيَمُّمِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلرُّكْنِيَّةِ فِي إبْطَالِ التَّخْفِيفِ وَإِثْبَاتِ التَّكْرَارِ، وَعَلَّلْنَا فِي وِلَايَةِ الْمَنَاكِحِ أَيْ فِي إثْبَاتِ وِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ بِالصِّغَرِ وَفِي انْتِفَائِهَا بِالْبُلُوغِ حَتَّى كَانَ لِلْأَبِ أَنْ يُزَوِّجَ الثَّيِّبَ الصَّغِيرَةَ كَالْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ الْبِكْرَ الْبَالِغَةَ إلَّا بِرِضَاهَا كَالثَّيِّبِ الْبَالِغَةِ عِنْدَنَا. وَالْمَنَاكِحُ جَمْعُ مَنْكَحٍ اسْمُ الْمَكَانِ، أَوْ الزَّمَانِ

فَإِنْ قِيلَ: التَّعْلِيلُ بِالْأَثَرِ لَا يَكُونُ قِيَاسًا لِأَنَّهُ لَا قِيَاسَ إلَّا بِالْأَصْلِ. قُلْنَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مِثْلُ قَوْلِنَا فِي إيدَاعِ الصَّبِيِّ إنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَى اسْتِهْلَاكِهِ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ إبَاحَةُ الطَّعَامِ عَلَى أَنَّا نُسَمِّي مَا لَا أَصْلَ لَهُ عِلَّةً شَرْعِيَّةً لَا قِيَاسًا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ قِيَاسٌ عَلَى مَا قُلْنَا لَكِنَّهُ مَسْكُوتٌ لِوُضُوحِهِ - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -. ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ النِّكَاحِ أَيْ وِلَايَةٌ تَثْبُتُ وَقْتَ النِّكَاحِ، أَوْ فِي مَكَانِ النِّكَاحِ، أَوْ جَمْعُ مَنْكَحٍ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ مِنْ الْإِنْكَاحِ وَمَجِيءُ الْمَصْدَرِ عَلَى وَزْنِ الْمَفْعُولِ قِيَاسٌ فِي الْمَزِيدِ، وَهُوَ أَيْ الصِّغَرُ وَصْفٌ مُؤَثِّرٌ؛ لِأَنَّهَا أَيْ وِلَايَةَ الْإِنْكَاحِ مَا شُرِعَتْ إلَّا عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ عَجْزِهِ عَنْ مُبَاشَرَةِ النِّكَاحِ بِنَفْسِهِ مَعَ حَاجَتِهِ إلَى مَقْصُودِهِ كَالنَّفَقَةِ تَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ حَقًّا لِلْعَاجِزِ عَنْهَا، وَالْمُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ الصِّغَرُ وَالْبُلُوغُ دُونَ الثِّيَابَةِ وَالْبَكَارَةِ بِدَلِيلِ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ وَانْتِفَائِهَا فِي الْمَالِ بِالصِّغَرِ وَالْبُلُوغِ. وَكَذَا الْوِلَايَةُ عَلَى الذَّكَرِ وَانْتِفَاؤُهَا بِالصِّغَرِ وَالْبُلُوغِ فَصَحَّ التَّعْلِيلُ بِالْعَجْزِ، وَهُوَ الصِّغَرُ وَالْقُدْرَةُ، وَهُوَ الْبُلُوغُ لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ أَيْ لِوُجُودِ الْوِلَايَةِ وَعَدَمِهَا وَلَمْ يَكُنْ لِلْبَكَارَةِ وَالثِّيَابَةِ فِي ذَلِكَ أَيْ فِي إثْبَاتِ الْوِلَايَةِ وَإِعْدَامِهَا أَثَرٌ وَقُلْنَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ: إنَّهُ صَوْمُ عَيْنٍ فَيَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَهَذَا أَيْ وَصْفُ الْعَيْنِيَّةِ مُؤَثِّرٌ فِي إسْقَاطِ وُجُوبِ التَّعْيِينِ؛ لِأَنَّ إيجَابَ النِّيَّةِ فِي أَصْلِ وَضْعِهَا لِلتَّمَيُّزِ بَيْنَ الْمُحْتَمِلَيْنِ فَإِيجَابُ أَصْلِ النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْعَادَةِ وَالْعِبَادَةِ وَإِيجَابُ تَعْيِينِ الْجِهَةِ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ تِلْكَ الْجِهَةِ وَغَيْرِهَا وَذَلِكَ أَيْ التَّمْيِيزُ إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهَا أَيْ ذِكْرِ التَّمْيِيزِ عَلَى تَأْوِيلِ النِّيَّةِ عِنْدَ مُزَاحَمَةِ الْغَيْرِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَشْرُوعُ عَيْنًا لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ فَقَدْ ارْتَفَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى تَمْيِيزِ الْجِهَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ التَّعْيِينُ وَعَلَّلَ أَيْ الشَّافِعِيُّ فِي اشْتِرَاطِ التَّعْيِينِ بِأَنَّهُ صَوْمُ فَرْضٍ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ جِهَةِ الْفَرْضِ كَصَوْمِ الْقَضَاءِ وَكَالصَّلَاةِ وَلَا أَثَرَ لِلْفَرْضِيَّةِ إلَّا فِي إصَابَةِ الْمَأْمُورِ أَيْ فِي الْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ يَعْنِي لَا أَثَرَ لِهَذَا الْوَصْفِ فِي إيجَابِ التَّعْيِينِ وَإِسْقَاطِهِ إنَّمَا أَثَرُهُ فِيمَا ذُكِرَ لَا غَيْرَ فَثَبَتَ أَنَّا سَلَكْنَا طَرِيقَ السَّلَفِ فِي اعْتِبَارِ الْوَصْفِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْقِيَاسِ. وَهَذَا أَيْ اعْتِبَارُنَا الْوَصْفَ الْمُؤَثِّرَ فِي الْفُرُوعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى قَوْلُهُ (فَإِنْ قِيلَ التَّعْلِيلُ بِالْأَثَرِ) إلَى آخِرِهِ قَالَ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَقْرِيرِ هَذَا السُّؤَالِ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا أَيْ التَّعْلِيلُ بِالْمُؤَثِّرِ وَالْقِيَاسُ لَا يَكُونُ إلَّا لِفَرْعٍ وَأَصْلٍ فَإِنَّ الْمُقَايَسَةَ تَقْدِيرُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ وَبِمُجَرَّدِ ذِكْرِ الْوَصْفِ بِدُونِ الرَّدِّ إلَى أَصْلٍ لَا يَكُونُ قِيَاسًا، ثُمَّ أَجَابَ فَقَالَ قَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا هَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّعْلِيلِ عِنْدَ ذِكْرِ الْأَصْلِ يَكُونُ مُقَايَسَةً وَبِدُونِ ذِكْرِ الْأَصْلِ يَكُونُ اسْتِدْلَالًا بِعِلَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ بِالرَّأْيِ بِمَنْزِلَةِ مَا قَالَهُ الْخَصْمُ إنَّ تَعْلِيلَ النَّصِّ بِعِلَّةٍ تَتَعَدَّى إلَى الْفَرْعِ يَكُونُ مُقَايَسَةً وَبِعِلَّةٍ لَا تَتَعَدَّى لَا يَكُونُ مُقَايَسَةً لَكِنْ يَكُونُ بَيَانَ عِلَّةٍ شَرْعِيَّةٍ لِلْحُكْمِ ثُمَّ قَالَ وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ هُوَ قِيَاسٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْوَصْفِ يَكُونُ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ لَا مَحَالَةَ وَلَكِنْ يُسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ لِوُضُوحِهِ وَرُبَّمَا لَا يَقَعُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ فَذَكَرَ مِمَّا يَقَعُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ ذِكْرِهِ مَا قُلْنَا فِي إيدَاعِ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ لِهَذَا الْوَصْفِ يَكُونُ مَقِيسًا عَلَى أَصْلٍ وَاضِحٍ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ أَبَاحَ الصَّبِيَّ طَعَامًا فَتَنَاوَلَهُ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّهُ بِالْإِبَاحَةِ سَلَّطَهُ عَلَى تَنَاوُلِهِ وَتَرَكْنَا ذِكْرَ هَذَا الْأَصْلِ لِوُضُوحِهِ. وَمِمَّا يُذْكَرُ فِيهِ الْأَصْلُ مَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي طَوْلِ الْحَرَّةِ إنَّهُ لَا يَمْنَعُ نِكَاحَ الْأَمَةِ أَنَّ كُلَّ نِكَاحٍ يَصِحُّ مِنْ الْعَبْدِ بِإِذْنِ الْمَوْلَى فَهُوَ صَحِيحٌ مِنْ الْحُرِّ كَنِكَاحِ حُرَّةٍ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى مَعْنًى مُؤَثِّرٍ وَهُوَ أَنَّ الرِّقَّ يُنَصِّفُ الْحِلَّ الَّذِي يَبْتَنِي عَلَيْهِ عَقْدُ النِّكَاحِ شَرْعًا وَلَا يُبَدِّلُهُ بِحِلٍّ آخَرَ فَيَكُونُ الرَّقِيقُ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ

[باب الاحتجاج بالطرد]

{بَابُ بَيَانِ الْمَقَالَةِ الثَّانِيَةِ وَتَقْسِيمِ وُجُوهِهِ، وَهُوَ الطَّرْدُ} اعْلَمْ بِأَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِالطَّرْدِ احْتِجَاجٌ بِمَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ وَلَا حُجَّةٍ وَمَنْ عَدَلَ عَنْ طَرِيقِ الْفِقْهِ إلَى الصُّورَةِ أَفْضَى بِهِ تَقْصِيرُهُ إلَى أَنْ قَالَ لَا دَلِيلَ عَلَى الْحُكْمِ يَصْلُحُ دَلِيلًا وَكَفَى بِهِ فَسَادًا، وَالْكَلَامُ فِي الْبَابِ قِسْمَانِ:. قِسْمٌ فِي بَيَانِ الْحُجَّةِ وَالثَّانِي فِي تَقْسِيمِ الْجُمْلَةِ، وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَنَّ الِاطِّرَادَ دَلِيلُ الصِّحَّةِ لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ الْوُجُودُ عِنْدَ الْوُجُودِ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ وَزَادَ بَعْضُهُمْ الْعَدَمُ مَعَ الْعَدَمِ أَيْضًا وَزَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ النَّصُّ قَائِمًا فِي الْحَالَيْنِ وَلَا حُكْمَ لَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQذَلِكَ الْحَالُ بِعَيْنِهِ وَلَكِنَّ فِي هَذَا الْمَعْنَى نَوْعَ غُمُوضٍ فَيَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى ذِكْرِ الْأَصْلِ فَيَثْبُتُ أَنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرْنَا اسْتِدْلَالٌ بِالْقِيَاسِ فِي الْحَقِيقَةِ وَأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِطَرِيقِ السَّلَفِ فِي تَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ يُسَمَّى مَا لَا أَصْلَ لَهُ عِلَّةً شَرْعِيَّةً أَيْ ثَابِتَةً بِالشَّرْعِ جَعَلَهَا الشَّرْعُ عِلَّةً فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ نَصٍّ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَصْلٍ آخَرَ مِثْلُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ وَالطَّوَّافَاتِ عَلَيْكُمْ» عَلَى مَا قُلْنَا يَعْنِي فِي أَوَّلِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْأَثَرَ لَا يَكُونُ إلَّا بِأَصْلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ أَيْ الْأَصْلَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ لِوُضُوحِهِ أَيْ لِظُهُورِهِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الِاحْتِجَاجَ بِالطَّرْدِ] (بَابُ بَيَانِ الْمَقَالَةِ الثَّانِيَةِ) وَتَقْسِيمُ وُجُوهِهِ وَهُوَ الطَّرْدُ، ذُكِرَ فِي الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّ الْقَائِسِينَ اخْتَلَفُوا فِي دَلَالَةِ كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً عَلَى قَوْلَيْنِ وَذُكِرَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ الْبَابِ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْفِقْهِ فَكَانَ الْقَوْلُ الْآخَرُ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الطَّرْدِ ثَانِيًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ فَعُقِدَ هَذَا الْبَابُ لِبَيَانِهِ وَذُكِرَ الضَّمِيرُ الرَّاجِعُ إلَى الْمَقَالَةِ فِي وُجُوهِهِ بِتَأْوِيلِ الْقَوْلِ أَوْ الطَّرْدِ قِسْمٌ فِي بَيَانِ الْحُجَّةِ أَيْ فِي بَيَانِ كَوْنِ الطَّرْدِ حُجَّةً وَغَيْرَ حُجَّةٍ، أَوْ فِي بَيَانِ الْحُجَّةِ لِأَصْحَابِ الطَّرْدِ وَالْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ. وَالثَّانِي فِي تَقْسِيمِ الْجُمْلَةِ أَيْ جُمْلَةِ مَا هُوَ عَمَلٌ بِلَا دَلِيلٍ مِنْ أَقْسَامِ الطَّرْدِ وَمَا يُشَابِهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَيْ أَهْلُ الطَّرْدِ عَلَى أَنَّ الِاطِّرَادَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ مُلَاءَمَةٍ، أَوْ تَأْثِيرٍ لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الِاطِّرَادِ الَّذِي هُوَ دَلِيلٌ عَلَى الصِّحَّةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ الْوُجُودُ عِنْدَ الْوُجُودِ أَيْ الْمُرَادُ مِنْ الطَّرْدِ وُجُودُ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ الْوَصْفِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطٍ مُلَاءَمَةٍ أَوْ تَأْثِيرٍ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ أَيْ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ وَزَادَ بَعْضُهُمْ يَعْنِي عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ الْعَدَمَ مَعَ الْعَدَمِ يَعْنِي جَعْلَ هَؤُلَاءِ الطَّرْدَ مَعَ الْعَكْسِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالدَّوَرَانِ وُجُودًا وَعَدَمًا - دَلِيلَ صِحَّةِ الْعِلَّةِ دُونَ مُجَرَّدِ الطَّرْدِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهَا قَطْعًا وَهُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهَا ظَنًّا، وَهُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ وَأَكْثَرُ أَبْنَاءِ الزَّمَانِ مِنْ أَهْلِ الْجَدَلِ وَزَادَ بَعْضُهُمْ أَيْ عَلَى الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ أَنْ يَكُونَ النَّصُّ قَائِمًا فِي الْحَالَيْنِ وَلَا حُكْمَ لَهُ يَعْنِي شَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ قَائِمًا فِي حَالِ وُجُودِ الْوَصْفِ وَحَالِ عَدَمِهِ وَلَا يَكُونُ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَيْهِ بَلْ إلَى الْوَصْفِ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» مُعَلَّلٌ بِشُغْلِ الْقَلْبِ لِدَوَرَانِ الْحُكْمِ مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَلَا حُكْمَ لِلْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْغَضَبُ، أَوْ لِنَفْسِ النَّصِّ فِي الْحَالَيْنِ فَإِنَّ الْغَضَبَ إذَا وُجِدَ وَلَمْ يُوجَدْ شُغْلُ الْقَلْبِ لَا يُثْبِتُ حُرْمَةَ الْقَضَاءِ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ النَّصِّ يَقْتَضِي حُرْمَتَهُ لِوُجُودِ الْغَضَبِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَإِذَا وُجِدَ الشُّغْلُ بِدُونِ غَضَبٍ بِالْجُوعِ أَوْ بِالْعَطَشِ، أَوْ نَحْوِهِمَا نُثْبِتُ الْحُرْمَةَ مَعَ أَنَّ النَّصَّ لَا يَقْتَضِي حُرْمَتَهُ لِعَدَمِ الْغَضَبِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالشُّغْلِ وُجُودًا وَعَدَمًا وَانْقِطَاعُهُ عَنْ الْغَضَبِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ حَتَّى لَمْ يُؤَثِّرْ وُجُودُهُ فِي وُجُودِهِ وَلَا عَدَمُهُ فِي عَدَمِهِ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِ الشَّغْلِ عِلَّةً. وَقِيلَ: اشْتِرَاطُ قِيَامِ النَّصِّ وَلَا حُكْمَ لَهُ فِي الْحَالَيْنِ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْمَفْهُومَ حُجَّةً فَأَمَّا عِنْدَ مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ حُجَّةً فَلَا؛ لِأَنَّ

وَاحْتَجُّوا جَمِيعًا بِأَنَّ دَلَائِلَ صِحَّةِ الْقِيَاسِ لَا تَخُصُّ وَصْفًا دُونَ وَصْفٍ وَكُلُّ وَصْفٍ بِمَنْزِلَةِ نَصٍّ مِنْ النُّصُوصِ؛ وَلِأَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ أَمَارَاتٌ غَيْرُ مُوجِبَةٍ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى مَعْنًى يُعْقَلُ وَالْجَوَابُ أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْأَصْلَ شَاهِدًا، وَذَلِكَ لَا تَقْتَضِي الشَّهَادَةَ بِكُلٍّ كَمَا جُعِلَ كَامِلُ الْحَالِ مِنْ النَّاسِ شَاهِدًا، ثُمَّ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ لَفْظَةٍ شَهَادَةٌ إلَّا بِمَعْنًى مَعْقُولٍ يُوجِبُ تَمْيِيزًا ـــــــــــــــــــــــــــــQقِيَامَ النَّصِّ وَعَدَمَ حُكْمِهِ إنْ تُصُوِّرَ فِي حَالِ عَدَمِ الْوَصْفِ كَمَا قُلْنَا لَا يُتَصَوَّرُ فِي حَالِ وُجُودِ الْوَصْفِ فَإِنَّ شُغْلَ الْقَلْبِ إنْ وُجِدَ بِالْغَضَبِ يَكُونُ النَّصُّ قَائِمًا مَعَ حُكْمِهِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ وَإِنْ وَجَدَهُ بِغَيْرِهِ لَا يَكُونُ النَّصُّ قَائِمًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى قِيَامِ النَّصِّ وَلَا حُكْمَ لَهُ قِيَامُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَتَنَاوُلُهُ لَهَا مَعَ عَدَمِ حُكْمِهِ فِيهَا لَا قِيَامُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَفْهُومُ حُجَّةً لَا يَكُونُ لِلنَّصِّ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْفِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مُوجِبٌ فِي نَفْيِ الْحُكْمِ وَلَا فِي إثْبَاتِهِ فَلَا يَكُونُ النَّصُّ قَائِمًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَكِنْ إذَا جُعِلَ الْمَفْهُومُ حُجَّةً يَكُونُ عَدَمُ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْفِ مِنْ مُوجِبِ النَّصِّ فَيَكُونُ النَّصُّ قَائِمًا وَلَا حُكْمَ لَهُ قَوْلُهُ (وَاحْتَجُّوا) أَيْ أَهْلُ الطَّرْدِ جَمِيعًا عَلَى كَوْنِ الطَّرْدِ دَلِيلُ صِحَّةِ الْعِلَّةِ بِأَنَّ الدَّلَائِلَ الَّتِي جَعَلَتْ الْقِيَاسَ حُجَّةً لَمْ تَخُصَّ وَصْفًا دُونَ وَصْفٍ فَظَوَاهِرُهَا يَقْتَضِي جَوَازَ التَّعْلِيلِ لِكُلِّ وَصْفٍ إلَّا مَا قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ يَمْنَعُ عَنْ التَّعْلِيلِ بِهِ فَكَانَ كُلُّ وَصْفٍ بِمَنْزِلَةِ نَصٍّ مِنْ الْمَنْصُوصِ فِي جَوَازِ التَّعْلِيلِ وَالْعَمَلِ بِهِ فَيَجُوزُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْعَلَ فِيهِ مَعْنًى إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُطَّرَدًا دَلَّ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ إيَّاهُ؛ لِأَنَّ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ عَنْ الْعِلَّةِ أَمَارَةُ النَّقْضِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ. وَلِأَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ أَمَارَاتٌ أَيْ عَلَامَاتٌ عَلَى ثُبُوتِ الْأَحْكَامِ فَإِنَّهَا غَيْرُ مُثْبِتَةٍ بِذَوَاتِهَا إذْ الْمُثْبِتُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ وَإِذَا كَانَتْ أَمَارَاتٌ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا أَنْ يَكُونَ مَعْقُولَةَ الْمَعَانِي؛ لِأَنَّ أَمَارَةَ الشَّيْءِ مَا يَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ مَوْجُودًا عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهَا مَعْنًى مَعْقُولٌ يُضَافُ وُجُودُ ذَلِكَ الشَّيْءِ إلَيْهِ كَالْمَنَارَةِ لِلْمَسْجِدِ وَالْمِيلِ لِلطَّرِيقِ وَلِأَنَّ الدَّوَرَانَ مَهْمَا حَصَلَ وَلَمْ يَكُنْ مَانِعٌ مِنْ الْحُكْمِ بِالْعِلِّيَّةِ حَصَلَ الْعِلْمُ، أَوْ الظَّنُّ عَادَةً بِكَوْنِ الْمَدَارِ، وَهُوَ الْوَصْفُ عِلَّةً لِلدَّائِرِ وَهُوَ الْحُكْمُ كَمَا إذَا دُعِيَ إنْسَانٌ بِاسْمٍ يُغْضِبُ ثُمَّ تُرِكَ دُعَاؤُهُ بِهِ فَلَمْ يَغْضَبْ وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ مِرَارًا عُلِمَ أَنَّ دُعَاءَهُ بِذَلِكَ هُوَ سَبَبُ الْغَضَبِ حَتَّى إنَّ الْأَطْفَالَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ مِنْهُ وَيَتْبَعُونَ لَهُ دَاعِينَ بِذَلِكَ الِاسْمِ الْمُغْضِبِ لَهُ؛ وَلِأَنَّ عَدَمَ الِاطِّرَادِ لَمَّا كَانَ دَلِيلَ فَسَادِ الْعِلَّةِ يَكُونُ الِاطِّرَادُ دَلِيلَ صِحَّتِهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ وَاسِطَةٌ. 1 - قَوْلُهُ (وَالْجَوَابُ) أَيْ عَنْ كَلَامِ أَهْلِ الطَّرْدِ أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْأَصْلَ شَاهِدًا يَعْنِي النُّصُوصَ الَّتِي جَعَلَتْ الْقِيَاسَ حُجَّةً جَعَلَتْ الْأَصْلَ شَاهِدًا وَالْوَصْفَ مِنْهُ شَهَادَةً عَلَى مَا مَرَّ وَذَلِكَ أَيْ صَيْرُورَتُهُ شَاهِدًا لَا يَقْتَضِي الشَّهَادَةَ بِكُلِّ وَصْفٍ أَيْ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَصْفٍ مِنْهُ شَهَادَةً؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ مُتَحَقِّقٌ بِبَعْضِ الْأَوْصَافِ بَلْ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ شَهَادَتُهُ بِوَصْفٍ خَاصٍّ مُتَمَيِّزٍ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَوْصَافِ بِدَلِيلٍ كَمَا جَعَلَ الشَّرْعُ كَامِلَ الْحَالِ مِنْ النَّاسِ، وَهُوَ الْحُرُّ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ الْعَدْلُ شَاهِدًا. ثُمَّ لَمْ يَجِبْ أَيْ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لَفْظَةً مِنْهُ شَهَادَةً بَلْ بَعْضُ الْأَلْفَاظِ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ مَعْنًى مَعْقُولٍ يُمَيِّزُهُ عَنْ سَائِرِ الْأَلْفَاظِ مِثْلُ قَوْلِهِ أَشْهَدُ فَإِنَّهُ تَمَيَّزَ مِنْ بَيْنِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَصْلُحُ لِلْإِخْبَارِ عَنْ الْمَشْهُودِ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ أَعْلَمُ، أَوْ أَتَيَقَّنُ أَوْ أُخْبِرُ، أَوْ أَعْلَمُ بِالْوَكَادَةِ الَّتِي فِيهِ فَإِنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ الْمُشَاهَدَةِ الَّتِي هِيَ السَّبَبُ الْمُطْلَقُ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ «إذَا رَأَيْت مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ» وَلِهَذَا كَانَ أَشْهَدُ مِنْ أَلْفَاظِ الْيَمِينِ فَكَذَا هَاهُنَا لَا بُدَّ مِنْ

فَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّهَا أَمَارَاتٌ وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ فَأَمَّا فِي حَقِّ الْعِبَادِ فَإِنَّهُمْ مُبْتَلُونَ بِنِسْبَةِ الْأَحْكَامِ إلَى الْعِلَلِ كَمَا نُسِبَتْ الْأَجْزِئَةُ إلَى أَفْعَالِهِمْ وَنُسِبَ الْمِلْكُ إلَى الْبَيْعِ وَالْقِصَاصُ إلَى الْقَتْلِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فَكَانَتْ غَيْرَ مُوجِبَةٍ فِي الْأَصْلِ، وَلَكِنَّهَا جُعِلَتْ مُوجِبَةً شَرْعًا فِي حَقِّنَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِهَا، وَهِيَ النِّسْبَةُ أَلَيْسَ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِلِ وَقَدْ مَاتَ الْقَتِيلُ بِأَجَلِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْعِلَلِ وَالشُّرُوطِ، وَمُجَرَّدُ الِاطِّرَادِ لَا يُمَيِّزُ وَكَذَلِكَ الْعَدَمُ عِنْدَ عَدَمِهِ؛ لِأَنَّهُ يُزَاحِمُهُ الشَّرْطُ فِيهِ وَلِأَنَّ نِهَايَةَ الطَّرْدِ الْجَهْلُ لِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: وَمَا يُدْرِيك أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ أَصْلٌ مُنَاقِضٌ، أَوْ مُعَارِضٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ مُتَمَيِّزًا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَوْصَافِ بِدَلِيلٍ مَعْقُولٍ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ وَصْفٍ لَوْ صَلَحَ عِلَّةً وَالْأَوْصَافُ مَحْسُوسَةٌ مَسْمُوعَةٌ لَشَارَكَ السَّامِعُونَ وَأَهْلُ اللُّغَةِ كُلُّهُمْ الْفُقَهَاءَ فِي الْمُقَايَسَاتِ، وَلَمَّا اخْتَصَّ بِهَا الْفُقَهَاءُ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُقَايَسَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَعَانٍ تُفْقَهُ لَا أَوْصَافٍ تُسْمَعُ كَذَا فِي التَّقْوِيمِ وَلَا أَعْرِفُ وَجْهَ تَعَلُّقِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ إلَّا بِمَعْنًى مَعْقُولٍ وَكَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ، ثُمَّ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ لَفْظَةٍ شَهَادَةً بَلْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْأَلْفَاظِ شَهَادَةً وَذَلِكَ الْبَعْضُ لَا يَتَمَيَّزُ إلَّا بِمَعْنًى مَعْقُولٍ يُوجِبُ تَمَيُّزًا وَأَمَّا قَوْلُهُ أَيْ قَوْلُ الْخَصْمِ إنَّهَا أَيْ الْعِلَلَ أَمَارَاتٌ فَكَذَلِكَ أَيْ فِيمَا ذُكِرَ لَكِنْ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ هُوَ الشَّارِعُ لِلْأَحْكَامِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمُوجِبُ لَهَا فَأَمَّا فِي حَقِّ الْعِبَادِ فَلَا؛ لِأَنَّهُمْ مُبْتَلُونَ بِنِسْبَةِ الْأَحْكَامِ إلَى الْعِلَلِ وَإِنْ كَانَتْ الْأَحْكَامُ ثَابِتَةً بِشَرْعِهِ جَلَّ جَلَالُهُ كَمَا نُسِبَتْ الْأَجْزِئَةُ إلَى أَفْعَالِهِمْ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] مَعَ أَنَّ الْأَجْزِئَةَ فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ، أَوْ عَدْلٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْعُقُوبَاتِ الْمَشْرُوعَةَ أَجْزِئَةٌ مِثْلُ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ وَالْقَطْعِ مَنْسُوبَةٌ إلَى أَفْعَالِهِمْ مِنْ الزِّنَا وَالْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ أَيْ مَجْرَى مَا ذَكَرْنَا مِثْلُ نِسْبَةِ الْحِلِّ إلَى النِّكَاحِ وَالْحُرْمَةِ إلَى الطَّلَاقِ فَكَانَتْ أَيْ الْعِلَلُ غَيْرَ مُوجِبَةٍ فِي الْأَصْلِ بِذَوَاتِهَا وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ مُوجِبَةً قَبْلَ الشَّرْعِ. وَلَكِنَّهَا أَيْ الْعِلَلَ جُعِلَتْ مُوجِبَةً شَرْعًا فِي حَقِّنَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِهَا، وَهُوَ النِّسْبَةُ يَعْنِي كَوْنَهَا مُوجِبَةً ثَبَتَ فِي حَقِّنَا بِالطَّرِيقِ الَّذِي يَلِيقُ بِهَا، وَهُوَ أَنْ يُنْسَبَ الْأَحْكَامُ إلَيْهَا بِأَنْ يُقَالَ الْقِصَاصُ حُكْمُ الْقَتْلِ، وَالْمِلْكُ حُكْمُ الْبَيْعِ وَالْحِلُّ حُكْمُ النِّكَاحِ فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ النِّسْبَةِ يَلِيقُ بِهَا فَأَمَّا نِسْبَةُ حَقِيقَةِ الْإِيجَابِ إلَيْهَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي عِلْمِنَا أَيْضًا فَلَا، وَهَذَا كَإِيجَابِ الْقِصَاصِ عَلَى الْقَاتِلِ فَإِنَّهُ مُضَافٌ إلَى الْقَتْلِ وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ مَيِّتًا بِأَجَلِهِ فِي حَقِّ عِلْمِنَا فَثَبَتَ أَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ لَيْسَتْ أَمَارَاتٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قُلْنَا، وَهُوَ أَنَّ الْعِلَلَ صَارَتْ مُوجِبَةً شَرْعًا فِي حَقِّنَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْعِلَلِ وَالشُّرُوطِ أَيْ مِنْ دَلِيلٍ يُمَيِّزُ بَيْنَهُمَا وَمُجَرَّدُ الِاطِّرَادِ لَا يُمَيِّزُ؛ لِأَنَّهُ يُوجَدُ مَعَ الشَّرْطِ أَيْضًا. وَكَذَلِكَ الْعَدَمُ عِنْدَ عَدَمِهِ هَذَا جَوَابٌ عَمَّا قَالَ الْفَرِيقُ الثَّانِي أَنَّ وُجُودَ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ الْوَصْفِ قَدْ يَكُونُ اتِّفَاقًا وَقَدْ يَكُونُ عِلَّةً فَلَا يَتَعَيَّنُ جِهَةُ كَوْنِهِ عِلَّةً إلَّا بِعَدَمِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِهِ فَيَصْلُحُ الْعَدَمُ عَنْ الْعَدَمِ دَلِيلًا مُمَيِّزًا لِلْعِلَّةِ عَنْ غَيْرِهَا فَقَالَ وَكَذَلِكَ الْعَدَمُ عِنْدَ عَدَمِهِ أَيْ كَمَا لَا يَصْلُحُ الِاطِّرَادُ دَلِيلًا مُمَيِّزًا لَا يَصْلُحُ عَدَمُ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْفِ دَلِيلًا مُمَيِّزًا أَيْضًا. لِأَنَّهُ أَيْ الْوَصْفَ يُزَاحِمُهُ الشَّرْطُ فِيهِ أَيْ فِي عَدَمِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِهِ فَإِنَّ دَوَرَانَ الْحُكْمِ كَمَا يُوجَدُ مَعَ الْعِلَّةِ وُجُودًا وَعَدَمًا يُوجَدُ مَعَ الشَّرْطِ كَذَلِكَ أَيْضًا فَإِنَّ وُجُوبَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ وَوُجُوبَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَوُجُوبَ الطَّهَارَةِ كَمَا يَدُورُ مَعَ النِّصَابِ وَالرَّأْسِ وَإِرَادَةِ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ أَسْبَابُهَا وُجُودًا وَعَدَمًا يَدُورُ مَعَ الْحَوْلِ وَيَوْمِ الْفِطْرِ وَالْحَدَثِ الَّتِي هِيَ شُرُوطُهَا وُجُودًا وَعَدَمًا أَيْضًا وَكَذَا الْعِتْقُ كَمَا يَدُورُ مَعَ الْإِعْتَاقِ يَدُورُ مَعَ الدُّخُولِ فِي قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَدُورُ مَعَ الْأَسْبَابِ إلَّا بِوُجُودِ الشُّرُوطِ فَتَدُورُ الْأَحْكَامُ مَعَ الشُّرُوطِ وُجُودًا بِوُجُودِ الْأَسْبَابِ وَتَنْعَدِمُ عِنْدَ عَدَمِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ قَالَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ

وَهَلْ ثَبَتَ ذَلِكَ لَك إلَّا بِأَنْ وَقَفْت عَنْ الطَّلَبِ وَقَدْ كَانَ يَتَأَدَّى لَك ذَلِكَ قَبْلَ الطَّرْدِ وَأَمَّا الْعَدَمُ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا وَكَيْفَ يَصْلُحُ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَثْبُتَ بِعِلَّةٍ أُخْرَى فَلَا يَصِحُّ شَرْطُ عَدَمِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُوجَدُ فِي عِلَلِ السَّلَفِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَمَّا قَوْلُهُمْ الْعَدَمُ عِنْدَ الْعَدَمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوُجُودَ لَمْ يَكُنْ اتِّفَاقًا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْوُجُودَ عِنْدَ الْوُجُودِ كَمَا يَكُونُ اتِّفَاقًا يَكُونُ الْعَدَمُ عِنْدَ الْعَدَمِ اتِّفَاقًا أَيْضًا فَلَا يَصْلُحُ حُجَّةً وَلِأَنَّ نِهَايَةَ الطَّرْدِ الْجَهْلُ أَيْ الْجَهْلُ بِوُجُودِ الْمُعَارِضِ وَالْمُنَاقِضِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ لَيْسَ لِهَذَا الْوَصْفِ مُنَاقِضٌ وَلَا مُعَارِضٌ أَصْلًا بَلْ غَايَةُ أَمْرِهِ أَنْ يَقُولَ إلَى مَا وَجَدَتْ لَهُ مُعَارِضًا وَلَا مُنَاقِضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الطَّرْدُ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ وَهَلْ ثَبَتَ ذَلِكَ أَيْ وَمَا ثَبَتَ عَدَمُ الْمُعَارِضِ وَالْمُنَاقِضِ عِنْدَك إلَّا بِالْوُقُوفِ عَنْ طَلَبِهِمَا وَقَدْ كَانَ يَتَأَدَّى أَيْ يَتَهَيَّأُ لَك ذَلِكَ أَيْ الْوُقُوفُ عَنْ طَلَبٍ وَالْحُكْمُ بِانْتِفَاءِ الْمُعَارِضِ وَالْمُنَاقِضِ قَبْلَ الطَّرْدِ وَأَمَّا الْعَدَمُ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا أَيْ لَا يَصْلُحُ فِي نَفْسِهِ دَلِيلًا عَلَى شَيْءٍ لِأَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى الشَّيْءِ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ وَكَيْفَ يَصْلُحُ أَيْ عَدَمُ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْفِ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى يَعْنِي وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَصْلُحُ دَلِيلًا فِي نَفْسِهِ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ الْوَصْفِ لَامْتَنَعَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ عِلَّةٍ بِعِلَّةٍ أُخْرَى وَلَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ لَا تَكُونَ لِحُكْمٍ وَاحِدٍ إلَّا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ لِحُكْمٍ وَاحِدٍ عِلَلٌ مُتَعَدِّدَةٌ كَالنَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ وَخُرُوجِ النَّجَاسَةِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ وَمِنْ غَيْرِهِمْ لِانْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ وَكَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْمِيرَاثِ وَالِاسْتِيلَاءِ لِلْمِلْكِ وَكَالرِّدَّةِ وَالْكُفْرِ الْمُفْضِي إلَى الْمُحَارَبَةِ وَالْبَغْيِ وَالزِّنَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ لِإِبَاحَةِ الْقَتْلِ. فَلَا يَصْلُحُ شَرْطُ عَدَمِهِ - بِرَفْعِ الطَّاءِ - وَالشَّرْطُ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إلَى الْمَفْعُولِ وَالضَّمِيرُ لِلْحُكْمِ أَيْ لَا يَصْلُحُ اشْتِرَاطُ عَدَمِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْفِ لِصِحَّةِ كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً. وَصَحَّحَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ بِنَصْبِ الطَّاءِ فَقِيلَ مَعْنَاهُ فَلَا يَصْلُحُ عَدَمُ الْعِلَّةِ شَرْطُ عَدَمِ الْحُكْمِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى وَإِذَا لَمْ يَصْلُحْ شَرْطًا لَهُ كَيْفَ يُسْتَدَلُّ بِعَدَمِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْفِ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الْوَصْفِ وَلِهَذَا إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ مُنْحَصِرَةً يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِعَدَمِ الْحُكْمِ عَلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ وَبِالْعَكْسِ وَالْوَجْهُ هُوَ الْأَوَّلُ وَعِبَارَةُ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ وَلَوْ كَانَ الْعَدَمُ عِنْدَ الْعَدَمِ دَلِيلَ الصِّحَّةِ لَكَانَ الْوُجُودُ عِنْدَ الْعَدَمِ دَلِيلَ الْفَسَادِ؛ لِأَنَّ بِالْوُجُودِ عِنْدَ الْعَدَمِ لَا يَبْقَى دَلِيلُ الصِّحَّةِ، وَهُوَ الْعَدَمُ عِنْدَ الْعَدَمِ كَالْوُجُودِ عِنْدَ الْوُجُودِ عِنْدَكُمْ لَمَّا كَانَ دَلِيلُ الصِّحَّةِ كَانَ الْعَدَمُ عِنْدَ الْوُجُودِ دَلِيلَ الْفَسَادِ لِزَوَالِ دَلِيلِ الصِّحَّةِ بِهِ وَاتِّفَاقُ الْكُلِّ هَاهُنَا عَلَى جَوَازِ الْحُكْمِ فِي مَحَلٍّ بِعِلَلٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوُجُودَ عِنْدَ الْعَدَمِ لَيْسَ دَلِيلَ الْفَسَادِ فَلَا يَصْلُحُ الْعَدَمُ عِنْدَ الْعَدَمِ دَلِيلَ الصِّحَّةِ ضَرُورَةً وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِحُصُولِ الظَّنِّ، أَوْ الْعِلْمِ بِالدُّعَاءِ بِاسْمٍ مُغْضِبٍ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ حُصُولَ الْعِلْمِ أَوْ الظَّنِّ بِكَوْنِ ذَلِكَ الِاسْمِ سَبَبَ الْغَضَبِ بِمُجَرَّدِ الدَّوَرَانِ فَإِنَّهُ لَوْلَا ظُهُورُ انْتِفَاءِ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْصَافِ بِبَحْثٍ أَوْ بِأَنَّهُ الْأَصْلُ لَمْ يَظُنَّ وَالْبَحْثُ طَرِيقٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ وَيَقْوَى بِالدَّوَرَانِ. وَذَكَرَ فِي الْقَوَاطِعِ أَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ مُرْتَبِطَةٌ بِطَرِيقٍ عِلْمِيٍّ، أَوْ ظَنِّيٍّ يَسْتَنِدُ إلَى سَبَبٍ وَإِذَا خَلَا عَنْ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ يَكُونُ مُجَرَّدَ احْتِكَامٍ عَلَى الشَّرْعِ، وَالطَّرْدُ لَا يُفِيدُ عِلْمًا وَلَا ظَنًّا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي رَبَطَهُ بِهِ إثْبَاتًا لَوْ رَبَطَهُ بِهِ نَفْيًا لَمْ يَتَرَجَّحْ فِي مَسْلَكِ الظَّنِّ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَبَطَلَ التَّعَلُّقُ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقِيَاسَ الْفَاسِدَ قَدْ يَطَّرِدُ كَمَا سَيَجِيءُ بَيَانُهُ وَلَوْ كَانَ الِاطِّرَادُ دَلِيلَ صِحَّةِ الْعِلَّةِ لَمْ يَقُمْ هَذَا الدَّلِيلُ

وَأَمَّا مَنْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ النَّصُّ قَائِمًا فِي الْحَالَيْنِ وَلَا حُكْمَ لَهُ فَقَدْ احْتَجَّ بِآيَةِ الْوُضُوءِ وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» أَنَّهُ مَعْلُولٌ بِشُغْلِ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الْقَضَاءُ وَهُوَ غَضْبَانُ عِنْدَ فَرَاغِ الْقَلْبِ وَلَا يَحِلُّ الْقَضَاءُ عِنْدَ شُغْلِهِ بِغَيْرِ الْغَضَبِ إلَّا أَنَّ هَذَا شَرْطٌ لَا يَكَادُ يُوجَدُ إلَّا نَادِرًا فِي بَعْضِ الْأُصُولِ ظَاهِرًا فَكَيْفَ يُجْعَلُ أَصْلًا وَذَلِكَ غَيْرُ مُسَلَّمٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ لَمْ يَثْبُتْ فِي بَابِ الْوُضُوءِ بِالتَّعْلِيلِ بَلْ بِدَلَالَةِ النَّصِّ وَصِيغَتِهِ أَمَّا الصِّيغَةُ، فَلِأَنَّهُ ذَكَرَ التَّيَمُّمَ بِالتُّرَابِ الَّذِي هُوَ بَدَلٌ عَنْ الْمَاءِ مُعَلَّقًا بِالْحَدَثِ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى الْأَقْيِسَةِ الْفَاسِدَةِ وَكَذَا اسْتِدْلَالُهُمْ بِدَلَالَةِ عَدَمِ الِاطِّرَادِ عَلَى الْفَسَادِ عَلَى دَلَالَةِ الِاطِّرَادِ عَلَى الصِّحَّةِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الِاطِّرَادِ دَلِيلُ النَّقْضِ، وَالنَّقْضُ بَاطِلٌ فَأَمَّا الِاطِّرَادُ فَغَايَتُهُ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ النَّقْضِ أَوْ لَا يَدُلُّ عَلَى النَّقْضِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُهُ عِلَّةً فَإِنْ قِيلَ قَدْ اتَّفَقْنَا أَنَّ الطَّرْدَ وَالْعَكْسَ يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الْعِلَّةِ فِي الْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ فَكَذَا فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ مَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ وَالْمُثْبِتُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَقَائِقِ وَالْحُكْمِيَّاتِ جَمِيعًا فَإِنَّ الْجَاعِلَ لِلذَّاتِ مُتَحَرِّكًا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَكِنْ بِوَاسِطَةِ الْحَرَكَةِ كَمَا أَنَّ الْمُثْبِتَ لِلْمِلْكِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَكِنْ بِسَبَبِ الْبَيْعِ، ثُمَّ الْعِلَّةُ فِي الْحَقَائِقِ تَثْبُتُ بِالطَّرْدِ وَالْعَكْسِ فَكَذَا فِي الشَّرْعِيَّاتِ قُلْنَا: الْحَقَائِقُ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْ يَكُونَ الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ فِيهَا دَلِيلًا عَلَى الْعِلَّةِ فَأَمَّا الْعِلَلُ الشَّرْعِيَّةُ فَمَبْنِيَّةٌ عَلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ وَأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ وَأَحْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَصْلُحُ الدَّوَرَانُ دَلِيلًا عَلَيْهَا بَلْ تُعْرَفُ عِلَلُ الشَّرْعِ بِالشَّرْعِ وَالشَّرْعُ هُوَ النَّصُّ وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ، إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْمِيزَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا أَيْ مِثْلَ التَّمَسُّكِ بِالطَّرْدِ لَا يُوجَدُ فِي عِلَلِ السَّلَفِ فَإِنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ تَمَسَّكَ بِطَرْدٍ لَا يُنَاسِبُ الْحُكْمَ وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ وَأَقْوَى دَلِيلٍ فِي صِحَّةِ الْقِيَاسِ إجْمَاعُهُمْ، وَإِنَّمَا نَظَرُوا فِي الْأَقْيِسَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعَانِي وَسَلَكُوا طَرِيقَ الْمَرَاشِدِ وَالْمَصَالِحِ الَّتِي تُشِيرُ إلَى مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَلَوْ كَانَ الطَّرْدُ صَحِيحًا لَمَا عَطَّلُوهُ وَلَا أَهْمَلُوهُ وَلَا تَرَكُوا التَّعْلِيلَ بِهِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأُمَّةِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ. قَالَ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ وَإِذَا انْتَهَى التَّصَرُّفُ فِي الشَّرْعِ إلَى هَذَا الْمُنْتَهَى كَانَ ذَلِكَ اسْتِهْزَاءً بِقَوَاعِدِ الدِّينِ وَاسْتِهَانَةً بِضَبْطِهَا وَتَطْرِيقًا لِكُلِّ قَائِلٍ أَنْ يَقُولَ مَا أَرَادَ وَيَحْكُمَ بِمَا شَاءَ؛ وَلِهَذَا صَرَفَ عُلَمَاءُ الشَّرْعِ سَعْيَهُمْ إلَى الْبَحْثِ عَنْ الْمَعَانِي الْمُخَيِّلَةِ الْمُؤَثِّرَةِ. 1 - قَوْلُهُ (وَأَمَّا مَنْ شَرَطَ قِيَامَ النَّصِّ) إنَّمَا شَرَطَ الْفَرِيقُ الثَّالِثِ مَعَ الدَّوَرَانِ قِيَامَ النَّصِّ وَعَدَمَ حُكْمِهِ فِي الْحَالَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إذْ وُجِدَ مَعَ وُجُودِ الِاسْمِ وَالْمَعْنَى وَعُدِمَ بِعَدَمِهِمَا لَمْ يَكُنْ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى الْمَعْنَى بِأَوْلَى عَنْ إضَافَتِهِ إلَى الِاسْمِ كَتَحْرِيمِ الْعَصِيرِ إذَا اشْتَدَّ وَسُمِّيَ خَمْرًا وَزَوَالُ الْحُرْمَةِ عِنْدَ زَوَالِ الشِّدَّةِ وَالِاسْمِ أَمَّا إذَا كَانَ الِاسْمُ قَائِمًا فِي الْحَالَيْنِ وَالْحُكْمُ دَائِرٌ مَعَ الْمَعْنَى وُجُودًا وَعَدَمًا زَالَتْ شُبْهَةُ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ فَيَتَعَيَّنُ الْمَعْنَى لِكَوْنِهِ عِلَّةً وَصَارَ كَمَا إذَا تَعَيَّنَ جِهَةَ الْمَجَازِ فِي النَّصِّ لَا يَبْقَى لِلْحَقِيقَةِ حُكْمٌ بِوَجْهٍ وَاحْتَجَّ بِآيَةِ الْوُضُوءِ فَإِنَّ وُجُوبَ الْوُضُوءِ فِيهَا رُتِّبَ عَلَى الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ وَلَمَّا عُلِّلَتْ بِالْحَدَثِ دَارَ الْحُكْمُ مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا حَتَّى لَمْ يَجِبْ الْوُضُوءُ عِنْدَ الْقِيَامِ بِدُونِ الْحَدَثِ وَوَجَبَ عِنْدَ الْحَدَثِ بِدُونِ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْقِيَامُ إلَى الصَّلَاةِ أَوْ النَّصِّ قَائِمٌ فِي الْحَالَيْنِ وَلَا حُكْمَ لَهُ وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَقْضِي الْقَاضِي، وَهُوَ غَضْبَانُ» فَإِنَّ حُرْمَةَ الْقَضَاءِ فِيهِ رُتِّبَ عَلَى الْغَضَبِ وَلَمَّا عَلَّلَ بِشُغْلِ الْقَلْبِ دَارَ الْحُكْمُ وُجُودًا وَعَدَمًا حَتَّى حَلَّ الْقَضَاءُ مَعَ وُجُودِ الْغَضَبِ عِنْدَ فَرَاغِ الْقَلْبِ، وَلَا يَحِلُّ عِنْدَ شُغْلِهِ مَعَ عَدَمِ الْغَضَبِ وَالنَّصُّ قَائِمٌ فِي الْحَالَيْنِ وَلَا حُكْمَ لَهُ، إلَّا أَنَّ هَذَا أَيْ مَا ذَكَرَ الْفَرِيقُ الثَّالِثُ مِنْ اشْتِرَاطِ قِيَامِ النَّصِّ وَعَدَمِ كَلِمَةِ شَرْطٍ لَا يَكَادُ يُوجَدُ إلَّا

وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْغُسْلَ، وَهُوَ أَعْظَمُ الطُّهْرَيْنِ فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] وَقَالَ {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] وَالنَّصُّ فِي الْبَدَلِ نَصٌّ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ يُفَارِقُهُ بِحَالِهِ لَا بِسَبَبِهِ وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] أَيْ مِنْ مَضَاجِعِكُمْ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ النَّوْمِ وَالنَّوْمُ دَلِيلُ الْحَدَثِ 4 ـــــــــــــــــــــــــــــQنَادِرًا. وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ أَيْضًا لَا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةِ فَكَيْفَ فَكَيْفَ يُجْعَلُ أَصْلًا أَيْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ أَصْلًا لِأَنَّ النَّادِرَ لَا حُكْمَ لَهُ عَلَى أَنَّ مَنْ شَرَطَ صِحَّةَ التَّعْلِيلِ أَيْ يَبْقَى الْحُكْمُ فِي الْمَنْصُوصِ بَعْدَ التَّعْلِيلِ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ فَإِذَا عَلَّلَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى لِلنَّصِّ حُكْمٌ بَعْدَهُ يَكُونُ ذَلِكَ أَنَّهُ فَسَادُ الْقِيَاسِ لَا دَلِيلَ صِحَّتِهِ وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ لَا يَبْقَى لِلنَّصِّ حُكْمٌ بَعْدَ التَّعْلِيلِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِالتَّعْلِيلِ إلَّا تَعْدِيَةَ حُكْمِ النَّصِّ إلَى مَحَلٍّ لَا نَصَّ فِيهِ فَإِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ حُكْمٌ فَأَيُّ شَيْءٍ يَتَعَدَّى إلَى الْفَرْعِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ أَيْ قِيَامُ النَّصِّ وَلَا حُكْمَ لَهُ بِنَاءً عَلَى دَوَرَانِ الْحُكْمِ مَعَ الْوَصْفِ الْمُعَلَّلِ بِهِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ فِيمَا ذَكَرْت مِنْ النَّصَّيْنِ أَيْضًا وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَيْضًا أَنَّهُ مَعَ نُدْرَتِهِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ لَا بِالتَّعْلِيلِ قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي نُسْخَةِ أُخْرَى الْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِلْوُضُوءِ إرَادَةُ الصَّلَاةِ عَلَى مَا مَرَّ فَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْحَدَثَ سَبَبٌ فَنَقُولُ: ذَلِكَ حَدَثٌ بِالِاسْتِدْلَالِ بِالنَّصِّ بِمَا ذُكِرَ وَكَذَلِكَ ذُكِرَ الْغُسْلُ أَيْ وَكَمَا ذُكِرَ التَّيَمُّمُ مُعَلَّقًا بِالْحَدَثِ ذُكِرَ الْغُسْلُ مُعَلَّقًا بِهِ أَيْضًا وَالنَّصُّ فِي الْبَدَلِ النَّصُّ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ أَيْ الْبَدَلَ يُفَارِقُ الْأَصْلَ بِحَالِهِ لَا بِسَبَبِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَجِبُ فِي حَالٍ لَا يَجِبُ فِيهِ الْأَصْلُ فَكَانَ ذِكْرُ السَّبَبِ فِي الْبَدَلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] بَيَانًا أَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ لِلْأَصْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْغُسْلَ بِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] ، أَوْ لَمْ يَذْكُرْ مَا يُغْسَلُ بِهِ وَذَكَرَ الْمَاءَ فِي الْبَدَلِ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] كَانَ ذَلِكَ بَيَانًا أَنَّ الْغُسْلَ وَاجِبٌ بِالْمَاءِ فَكَذَا هَذَا. فَإِنْ قِيلَ هَذَا إثْبَاتٌ لِلْحَدَثِ فِي الْوُضُوءِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ لَا بِالصِّيغَةِ فَإِنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِذِكْرِهِ فِي الْبَدَلِ عَلَى ثُبُوتِهِ فِي الْمُبَدَّلِ، وَهُوَ فِي بَيَانِ ثُبُوتِهِ بِالصِّيغَةِ. قُلْنَا أَرَادَ بِالثُّبُوتِ بِالصِّيغَةِ هَاهُنَا أَنَّ لَفْظًا مِنْ أَلْفَاظِ النَّصِّ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْأَحْدَاثَ، ثُمَّ ذَكَرَ عَدَمَ الْمَاءِ بِقَوْلِهِ {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] ثُمَّ رَتَّبَ الْحُكْمَ عَلَى وُجُودِ الْحَدَثِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، عُرِفَ بِصِيغَةِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّوَضُّؤِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ مُرَتَّبٌ عَلَى الْحَدَثِ وَأَرَادَ بِثُبُوتِهِ بِالدَّلَالَةِ عَلَى الثُّبُوتِ بِمُضْمَرٍ فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] لَمَّا دَلَّ عَلَى إضْمَارٍ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِظَاهِرِهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِاقْتِضَائِهِ وُجُوبَ الْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ قِيَامٍ بَلْ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ الصَّلَاةِ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ أَضْمَرَ فِيهِ مِنْ مَضَاجِعِكُمْ أَيْ إذَا قُمْتُمْ مِنْ مَضَاجِعِكُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ يُقْرَأُ هَكَذَا وَالْقِيَامُ مِنْ الْمَضَاجِعِ كِنَايَةٌ عَنْ النَّوْمِ أَيْ عَنْ التَّنَبُّهِ عَنْ النَّوْمِ وَالنَّوْمُ دَلِيلُ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُهُ بِوَاسِطَةِ اسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْحَدَثِ لِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا بِالتَّعْلِيلِ لَا يَكُونُ النَّصُّ سَاقِطًا بَلْ هُوَ قَائِمٌ مَعَ حُكْمِهِ فِي الْحَالِ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْحَدَثُ شَرْطٌ زِيدَ فِي الْآيَةِ لَا بِالرَّأْيِ وَلَكِنْ بِدَلَالَةِ النَّصِّ فَإِنَّهُ قَالَ {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] وَقَالَ فِي الِاغْتِسَالِ {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] وَقَالَ فِي بَدَلِ الْوُضُوءِ {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ وُجُوبُ التَّيَمُّمِ الَّذِي هُوَ بَدَلٌ بِمَا يَجِبُ بِهِ الْأَصْلُ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِصَدْرِ الْآيَةِ إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ وَلَكِنْ سَقَطَ ذِكْرُ الْحَدَثِ اخْتِصَارًا لِمَا فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَنَحْنُ لَمْ نُنْكِرْ الِاخْتِصَارَ وَالزِّيَادَةَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ، وَإِنَّمَا أَنْكَرْنَا الزِّيَادَةَ

وَهَذَا النَّظْمُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّ الْوُضُوءَ مُطَهِّرٌ فَدَلَّ عَلَى قِيَامِ النَّجَاسَةِ فَاسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ، وَالْوُضُوءُ مُتَعَلِّقٌ بِالصَّلَاةِ وَالْحَدَثُ شَرْطُهُ. فَلَمْ يَذْكُرْ الْحَدَثَ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ سُنَّةٌ وَفَرْضٌ فَكَانَ الْحَدَثُ شَرْطٌ لِكَوْنِهِ فَرْضًا لَا لِكَوْنِهِ سُنَّةً فَأَمَّا الْغُسْلُ فَلَا يُسَنُّ لِكُلِّ صَلَاةٍ بَلْ هُوَ فَرْضٌ خَالِصٌ فَلَمْ يُشْرَعْ إلَّا مَقْرُونًا بِالْحَدِيثِ وَكَذَلِكَ الْغَضَبُ مَعْلُولٌ بِشُغْلِ الْقَلْبِ وَقَطُّ لَا يُوجَدُ الْغَضَبُ بِلَا شُغْلٍ وَلَا يَحِلُّ الْقَضَاءُ إلَّا بَعْدَ سُكُونِهِ، وَإِنَّمَا التَّعْلِيلُ لِلتَّعْدِيَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالرَّأْيِ فَإِنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى النَّسْخِ فَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مِنْ بَابِ الدَّلَالَةِ. وَإِلَيْهِ يُشِيرُ تَقْرِيرُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ أَيْضًا قَوْلُهُ (وَهَذَا النَّظْمُ) أَيْ اُخْتِيرَ هَذَا النَّظْمُ، وَهُوَ أَنَّ الْحَدَثَ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْوُضُوءِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ وَذُكِرَ فِي الْبَدَلِ، وَهُوَ التَّيَمُّمُ لِأَنَّ الْوُضُوءَ مُطَهِّرٌ بِنَفْسِهِ وَحَقِيقَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] فَدَلَّ كَوْنُهُ مُطَهِّرًا عَلَى قِيَامِ النَّجَاسَةِ؛ لِأَنَّ الْمُطَهِّرَ مَا يُثْبِتُ الطَّهَارَةَ وَيَقْتَضِي ذَلِكَ ثُبُوتُ النَّجَاسَةِ لِيَصِحَّ إثْبَاتُ الطَّهَارَةِ فَإِنَّ إثْبَاتَ الثَّابِتِ مُسْتَحِيلٌ فَاسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الْحَدَثِ بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُطَهِّرٍ بِنَفْسِهِ بَلْ هُوَ تَلْوِيثٌ حَقِيقَةً فَلَمْ يَدُلَّ ذِكْرُهُ عَلَى قِيَامِ نَجَاسَةٍ فَلَوْ لَمْ يُذْكَرْ الْحَدَثُ فِيهِ صَرِيحًا لَتُوُهِّمَ أَنَّ الْحَدَثَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهِ بَلْ يَجِبُ التَّيَمُّمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ تَعَبُّدًا وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّ الْحَدَثَ قَدْ ذُكِرَ فِي الْغُسْلِ بِقَوْلِهِ {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] مَعَ أَنَّهُ تَطْهِيرٌ حَقِيقَةً كَالْوُضُوءِ فَأَشَارَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوُضُوءِ فَقَالَ، وَالْوُضُوءُ مُتَعَلِّقٌ بِالصَّلَاةِ أَيْ شَرْعُهُ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ وَسَبَبُ وُجُوبِهِ إرَادَةُ الصَّلَاةِ. وَالْحَدَثُ شَرْطُهُ أَيْ شَرْطُ وُجُوبِهِ عُرِفَ ذَلِكَ بِذِكْرِهِ فِي الْبَدَلِ كَمَا بَيَّنَّا فَلَمْ يَذْكُرْ الْحَدَثَ فِي الْوُضُوءِ صَرِيحًا لِيُعْلَمَ بِظَاهِرِ النَّصِّ أَنَّ الْوُضُوءَ مَشْرُوعٌ لِكُلِّ صَلَاةٍ إمَّا بِطَرِيقِ الْفَرْضِ أَوْ النَّدْبِ فَإِذَا كَانَ مُحْدِثًا كَانَ الْأَمْرُ فِي حَقِّهِ لِلْإِيجَابِ فَيَكُونُ الْوُضُوءُ فَرْضًا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا كَانَ الْأَمْرُ فِي حَقِّهِ لِلنَّدَبِ فَيَكُونُ الْوُضُوءُ سُنَّةً عِنْدَ إرَادَةِ الصَّلَاةِ فَأَمَّا الْغُسْلُ فَلَيْسَ بِمَسْنُونٍ لِكُلِّ صَلَاةٍ بَلْ هُوَ فَرْضٌ خَالِصٌ أَيْ الْغُسْلُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الصَّلَاةُ نَوْعٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْفَرْضُ فَلَمْ يُشْرَعْ إلَّا مَقْرُونًا بِالْحَدَثِ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى أَنَّ الْغُسْلَ لِكُلِّ صَلَاةٍ لَيْسَ بِمَسْنُونٍ وَبِشَرْعِيَّةِ الْغُسْلِ لِلْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ لَا يَثْبُتُ كَوْنُ الْغُسْلِ سُنَّةً لِكُلِّ صَلَاةٍ عَلَى أَنَّ كَلَامَنَا فِيمَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَبِإِشَارَتِهِ وَذَلِكَ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ. وَذَكَرَ فِي الْكَشَّافِ فَإِنْ قُلْت ظَاهِرُ الْآيَةِ يُوجِبُ الْوُضُوءَ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ إلَى الصَّلَاةِ مُحْدِثٍ وَغَيْرِ مُحْدِثٍ فَمَا وَجْهُهُ؟ قُلْت يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِلْمُحْدِثِينَ خَاصَّةً وَأَنْ يَكُونَ لِلنَّدَبِ وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ لِكُلِّ صَلَاةٍ فَإِنْ قُلْت هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ شَامِلًا لِلْمُحْدِثِينَ وَغَيْرِهِمْ، لِهَؤُلَاءِ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ وَلِهَؤُلَاءِ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ؟ قُلْت لَا؛ لِأَنَّ تَنَاوُلَ الْكَلِمَةِ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مِنْ بَابِ الْإِلْغَازِ وَالتَّعْمِيَةِ وَقِيلَ كَانَ الْوُضُوءُ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَوَّلَ مَا فُرِضَ ثُمَّ نُسِخَ قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ الْغَضَبُ أَيْ وَكَمَا أَنَّ الْحَدَثَ ثَابِتٌ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لَا بِالرَّأْيِ الْغَضَبُ مَعْلُولٌ بِشُغْلِ الْقَلْبِ أَيْ الْمُرَادُ مِنْهُ شُغْلُ الْقَلْبِ لِأَنَّ الْغَضَبَ سَبَبُهُ وَقَدْ يُسَمَّى الشَّيْءُ بِاسْمِ سَبَبِهِ كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ وَقَطُّ لَا يُوجَدُ غَضَبٌ بِلَا شُغْلٍ فَلَا يَسْتَقِيمُ قَوْلُ الْخَصْمِ النَّصُّ قَائِمٌ وَلَا حُكْمَ لَهُ لِإِبَاحَةِ الْقَضَاءِ مَعَ وُجُودِ الْغَضَبِ عِنْدَ فَرَاغِ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ بَلْ لَا يَحِلُّ الْقَضَاءُ إلَّا عِنْدَ سُكُونِ الْغَضَبِ وَإِنْ قَلَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ شُغْلٍ أَلْبَتَّةَ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ لَا بِالْعِلَّةِ مَعَ قِيَامِ النَّصِّ وَلَا حُكْمَ لَهُ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَقْضِي الْقَاضِي

وَأَمَّا تَقْسِيمُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَإِنَّ أَوَّلَ أَقْسَامِهِ الِاطِّرَادُ وُجُودًا أَوْ وُجُودًا وَعَدَمًا وَاَلَّذِي يَلِيهِ الِاحْتِجَاجُ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَاَلَّذِي يَلِيهِ الِاحْتِجَاجُ بِالنَّفْيِ وَالْعَدَمِ وَاَلَّذِي يَلِيهِ الِاحْتِجَاجُ بِتَعَارُضِ الْأَشْبَاهِ وَاَلَّذِي يَلِيهِ الِاحْتِجَاجُ بِمَا لَا يَسْتَقِلُّ إلَّا بِوَصْفٍ يَقَعُ بِهِ الْفَرْقُ وَاَلَّذِي يَلِيهِ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ مُخْتَلِفًا ظَاهِرَ الِاخْتِلَافِ وَاَلَّذِي يَلِيهِ مَا لَا يُشَكُّ فِي فَسَادِهِ وَاَلَّذِي يَلِيهِ الِاحْتِجَاجُ بِأَنْ لَا دَلِيلَ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الِاطِّرَادَ لَا يَثْبُتُ بِهِ إلَّا كَثْرَةُ الشُّهُودِ أَوْ كَثْرَةُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَصِحَّةُ الشَّهَادَةِ لَا تُعْرَفُ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ وَلَا بِتَكْرِيرِ الْعِبَارَةِ بَلْ بِأَهْلِيَّةِ الشَّاهِدِ وَعَدَالَتِهِ وَاخْتِصَاصِ أَدَائِهِ؛ وَلِأَنَّ الْوُجُودَ قَدْ يَكُونُ اتِّفَاقًا وَالْعَدَمَ قَدْ يَقَعُ؛ لِأَنَّهُ شَرْطُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِبَقَائِهِ فَكَيْفَ يَصْلُحُ عِلَّةً لِلْوُجُودِ فِي غَيْرِهِ بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ وُجُودُ الْحُكْمِ وَلَا عِلَّةَ، لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا لِجَوَازِ وُجُودِهِ بِغَيْرِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQحِينَ يَقْضِي، وَهُوَ غَضْبَانُ» كِنَايَةٌ عَنْ الْقَضَاءِ وَهُوَ مَشْغُولُ الْقَلْبِ عُرِفَ ذَلِكَ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ كَمَا صَارَ قَوْله تَعَالَى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] كِنَايَةٌ عَنْ الْإِيذَاءِ حَتَّى صَارَ الشَّتْمُ بِمَنْزِلَتِهِ عُقِلَ ذَلِكَ بِدَلَالَةِ مَحَلِّ الْخِطَابِ مَا هُوَ مِنْ التَّعْلِيلِ بِالرَّأْيِ لِلْقِيَاسِ فِي شَيْءٍ. وَإِنَّمَا التَّعْلِيلُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ التَّعْلِيلُ إبْدَاءٌ لِتَعْدِيَةِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ إلَى مَحَلٍّ لَا نَصَّ فِيهِ فَاشْتِرَاطُ وُجُودِ النَّصِّ وَلَا حُكْمَ لَهُ يَمْنَعُ التَّعْلِيلَ فَيَكُونُ فَاسِدًا. قَوْلُهُ (وَأَمَّا تَقْسِيمُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ) أَيْ جُمْلَةِ مَا هُوَ احْتِجَاجٌ بِلَا دَلِيلٍ مِنْ الِاطِّرَادِ وَنَحْوِهِ فَأَوَّلُ أَقْسَامِهِ الِاطِّرَادُ؛ لِأَنَّهُ عَلَى نَهْجِ الْعِلَلِ فَإِنَّ الْوَصْفَ الْمُطَّرِدَ مِنْ أَوْصَافِ النَّصِّ قَدْ يَكُونُ مُلَائِمًا وَقَدْ يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الطَّارِدُ تَأْثِيرَهُ فَيَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى سَائِرِ الْأَقْسَامِ. وَاَلَّذِي يَلِيهِ الِاحْتِجَاجُ بِالنَّفْيِ وَالْعَدَمِ؛ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ حُجَّةً لِلدَّفْعِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَاَلَّذِي يَلِيهِ الِاسْتِصْحَابُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ، وَلَكِنَّهُ حُجَّةٌ لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ وَاَلَّذِي يَلِيهِ تَعَارُضُ الْأَشْبَاهِ؛ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ عِنْدَ الْبَعْضِ وَاَلَّذِي يَلِيهِ مَا لَا يَسْتَقِلُّ إلَّا بِوَصْفٍ يَقَعُ بِهِ الْفَرْقُ إلَّا أَنَّهُ وَصْفٌ مَجْمَعٌ عَلَيْهِ فَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَى وَصْفٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ ثُمَّ الْوَصْفُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا لَا يَشُكُّ فِي فَسَادِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ حُجَّةٌ عِنْدَ الْخَصْمِ ثُمَّ هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِأَنْ لَا دَلِيلَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَقَلِّ مِنْ الْعَدَمِ كَذَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَمَّا الْأَوَّلُ أَيْ عَدَمُ صِحَّةِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَلِأَنَّ الِاطِّرَادَ لَا يَثْبُتُ بِهِ إلَّا كَثْرَةُ الشُّهُودِ أَيْ بِالنَّظَرِ إلَى الْأُصُولِ الَّتِي يُوجَدُ فِيهَا هَذَا الْوَصْفُ، أَوْ كَثْرَةُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ يَعْنِي بِالنَّظَرِ إلَى نَفْسِ الْوَصْفِ وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ فِي الْمَسْحِ رُكْنٌ فِي الْوُضُوءِ فَيُسَنُّ تَثْلِيثُهُ فَوَصْفُ الرُّكْنِيَّةِ مَوْجُودٌ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ وَغَسْلِ الْيَدَيْنِ وَغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَصْلٌ بِنَفْسِهِ فَكَانَ فِيهِ كَثْرَةُ الشُّهُودِ إلَّا أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ لَمَّا كَانَ وَاحِدًا كَانَ فِيهِ تَكْثِيرُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: الِاطِّرَادُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِكَوْنِ الْوَصْفِ شَاهِدًا أَيْنَمَا وُجِدَ فِي كُلِّ أَصْلٍ عَلَى الْعُمُومِ فَلَا يَكُونُ عُمُومُ شَهَادَتِهِ دَلِيلًا عَلَى عَدَالَتِهِ بِمَنْزِلَةِ شَاهِدٍ كَرَّرَ شَهَادَتَهُ فِي كُلِّ مَجْلِسِ قَضَاءٍ فَلَا يَصِيرُ التَّكْرَارُ وَالثَّبَاتُ عَلَى الْأَدَاءِ تَعْدِيلًا، أَوْ نَقُولُ: كُلُّ أَصْلٍ شَاهِدٌ بِنَفْسِهِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ فِيهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ شُهُودٍ وَرُوَاةٍ كَثِيرَةٍ فَلَا تَصِيرُ الْكَثِيرَةُ تَعْدِيلًا لِمَنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا قَبْلَ الْكَثْرَةِ وَلِأَنَّ الْوُجُودَ قَدْ يَكُونُ اتِّفَاقًا أَيْ وُجُودَ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ وَصْفٍ قَدْ يَقَعُ بِطَرِيقِ الِاتِّفَاقِ وَالْعَدَمُ قَدْ يَقَعُ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ أَيْ الْعَدَمُ عِنْدَ الْعَدَمِ قَدْ يَقَعُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ شَرْطٌ فَإِنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ وُجُودِهِ فَلَا يَصْلُحُ الْوُجُودُ عِنْدَ الْوُجُودِ وَلَا الْعَدَمُ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ، ثُمَّ اسْتَوْضَحَ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ الِاطِّرَادَ لَا يَصْلُحُ دَلِيلَ الصِّحَّةِ بِقَوْلِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ أَيْ مُجَرَّدُ وُجُودِ شَيْءٍ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِبَقَاءِ ذَلِكَ الشَّيْءِ فَإِنَّ الْوُجُودَ لَوْ كَانَ عِلَّةً لِلْبَقَاءِ لَمَا فَنَى شَيْءٌ فِي الدُّنْيَا. وَلِهَذَا صَحَّ أَنْ يُقَالَ وُجِدَ وَلَمْ يَبْقَ فَكَيْفَ يَصْلُحُ عِلَّةً لِلْوُجُودِ فِي غَيْرِهِ بِنَفْسِهِ أَيْ يَصْلُحُ الْوُجُودُ بِنَفْسِهِ عِلَّةً لِوُجُودِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى مَعْنًى آخَرَ مِنْ تَأْثِيرٍ، أَوْ إخَالَةٍ؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ فَلَمَّا لَمْ يَصْلُحْ نَفْسُ الْمَوْجُودِ سَبَبًا لِلْبَقَاءِ فَلَأَنْ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْإِيجَادِ ابْتِدَاءً، وَهُوَ اتِّحَادُ الْحُكْمِ كَانَ أَوْلَى. وَهَذَا بِخِلَافِ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرِ فَإِنَّهَا عِلَّةُ الْوُجُودِ فِي غَيْرِهَا وَلَمْ تَكُنْ عِلَّةً لِلْبَقَاءِ فِي نَفْسِهَا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ عِلَّةً

وَوُجُودُ الْعِلَّةِ وَلَا حُكْمَ بِنَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ مُنَاقِضًا لِجَوَازِ أَنْ يَقِفَ الْحُكْمُ لِفَوْتِ وَصْفٍ مِنْ الْعِلَّةِ لَيْسَ بِعِلَّةٍ بِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ مُنَاقَضَةً وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ التَّعْلِيلُ تَخْصِيصًا عَلَى مَا تَبَيَّنَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا أَنَّ هَذَا نَهْجُ الْعِلَلِ ظَاهِرًا فَكَانَ مُقَدَّمًا فِي أَقْسَامِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQبِاعْتِبَارِ الْأَثَرِ لَا بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ وَأَثَرُهَا يَظْهَرُ فِي الْغَيْرِ لَا فِي نَفْسِهَا أَمَّا الْوُجُودُ فَثَابِتٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِهِ وَغَيْرُهُ فَلَوْ صَلَحَ عِلَّةً فِي غَيْرِهِ بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ لَكِنْ عِلَّةً فِي نَفْسِهِ بِالطَّرِيقِ الْأُولَى وَأَمَّا مَا يُقَالُ الْوُجُودُ عِلَّةُ الرُّؤْيَةِ فَالْمُرَادُ أَنَّ الْوُجُودَ هُوَ الَّذِي قَبْلَ الرُّؤْيَةِ لَا أَنَّهُ مُؤَثِّرٌ فِي الرُّؤْيَةِ. وَكَذَلِكَ وُجُودُ الْحُكْمِ أَيْ كَمَا أَنَّ الْوُجُودَ عِنْدَ الْوُجُودِ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ لَا يَصْلُحُ الْعَدَمُ عِنْدَ الْعَدَمِ دَلِيلًا عَلَى الْفَسَادِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعِلَّةِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِهَا لَا أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ بِهَا وَلَا يَثْبُتُ بِغَيْرِهَا بَلْ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِهَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِغَيْرِهَا فَلَا يَدُلُّ عَدَمُهَا عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ وَلَا وُجُودُ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْعِلَّةِ عَلَى فَسَادِ الْعِلَّةِ لِجَوَازِ وُجُودِهِ أَيْ وُجُودِ الْحُكْمِ بِغَيْرِهِ أَيْ بِغَيْرِ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ قَوْلِهِ (وَوُجُودُ الْعِلَّةِ وَلَا حُكْمَ بِنَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ مُنَاقِضًا) أَهْلُ الطَّرْدِ لَا يَزُولُ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ فَتَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْ الْوَصْفِ الَّذِي جُعِلَ عِلَّةً يَدُلُّ عَلَى انْتِقَاضِهِ عِنْدَهُمْ، وَأَهْلُ التَّأْثِيرِ لَا يَجْعَلُونَ عَدَمَ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ الْعِلَّةِ صُورَةَ دَلِيلِ الْمُنَاقَضَةِ لَكِنَّ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ التَّخْصِيصِ مِنْهُمْ مِثْلُ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ وَعِنْدَهُ يَقُولُونَ لَا يَتَخَلَّفُ الْحُكْمُ عَنْ الْعِلَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ إلَّا لِمَانِعٍ فَوُجُودُ الْمَانِعِ يَكُونُ تَخْصِيصًا لِلْعِلَّةِ وَمَنْ أَنْكَرَ جَوَازَ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ مِنْهُمْ يَقُولُونَ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْ الْعِلَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ إنَّمَا يَكُونُ لِفَوَاتِ وَصْفٍ مِنْ الْعِلَّةِ فَيَنْعَدِمُ بِهِ الْعِلَّةُ بِمَنْزِلَةِ عِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ إذَا عُدِمَ أَحَدُهُمَا فَيَكُونُ عَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ لَا لِمَانِعِ تَخْصِيصِهَا مَعَ وُجُودِهَا. فَالشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَدَّ الْمَذْهَبَ الْأَوَّلَ بِقَوْلِهِ: وَوُجُودُ الْعِلَّةِ أَيْ وُجُودُ صُورَةِ الْعِلَّةِ وَلَا حُكْمَ بِنَفْسِهِ أَيْ لَا يَثْبُتُ حُكْمٌ بِنَفْسِ ذَلِكَ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ لَا يَصْلُحُ مُنَاقِضًا أَيْ لَا يَكُونُ نَقْضًا لِجَوَازِ أَنْ يَقِفَ الْحُكْمُ أَيْ يَمْتَنِعَ لِفَوْتِ وَصْفٍ مِنْ الْعِلَّةِ ذَلِكَ الْوَصْفُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ بِنَفْسِهِ فَكَانَ عَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ عِلَّتِهِ، كَالنِّصَابِ عِلَّةٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَلَكِنْ بِصِفَةِ النَّمَاءِ فَبِدُونِهِ لَا يَعْمَلُ فِي الْإِيجَابِ لِعَدَمِ تَمَامِ الْعِلَّةِ بِفَوَاتِ وَصْفِهَا فَلَا يَكُونُ مُنَاقَضَةً وَرَدَّ الْمَذْهَبَ الثَّانِيَ بِقَوْلِهِ وَلَا ذِكْرِهِ وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ التَّعْلِيلُ تَخْصِيصًا وَيَحْتَمِلُ هَذَا الْكَلَامُ وُجُوهًا أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرَانِ فِي ذِكْرِهِ وَعَلَيْهِ لِلْعِلَّةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْوَصْفِ وَالْوَاوُ لِلْحَالِ هُوَ الْمَعْنَى لَا يَكُونُ ذِكْرُ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ بِدُونِ الْحُكْمِ تَخْصِيصًا لِلْعِلَّةِ مَعَ أَنَّ التَّعْلِيلَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْوَصْفِ عِلَّةً بَلْ يَكُونُ عَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ بِنَاءً عَلَى فَوَاتِ وَصْفٍ مِنْ الْعِلَّةِ أَوْ الْمَعْنَى لَا يَكُونُ ذِكْرُ الْوَصْفِ بِأَنَّهُ عِلَّةٌ لِهَذَا الْحُكْمِ وَالْحَالُ أَنَّ التَّعْلِيلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ عِلَّةٌ لَهُ تَخْصِيصًا لِلْحُكْمِ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْحُكْمِ عِلَّةٌ أُخْرَى ثَبَتَ الْحُكْمُ بِهَا عِنْدَ عَدَمِ هَذَا الْوَصْفِ لِمَا بَيَّنَّا. وَأَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ الْأَوَّلُ لِلْمُعَلَّلِ بِطَرِيقِ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى الْفَاعِلِ، وَالثَّانِي لِلْعِلَّةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْوَصْفِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ التَّعْلِيلُ مَفْعُولُ الذِّكْرِ أَيْ وَلَا يَكُونُ ذِكْرُ الْمُعَلَّلِ هَذَا الْكَلَامَ وَهُوَ قَوْلُهُ قَدْ دَلَّ التَّعْلِيلُ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ عِلَّةً لَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ لِمَانِعٍ تَخْصِيصًا لِلْعِلَّةِ بَلْ هُوَ امْتِنَاعُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ بِفَوْتِ وَصْفٍ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ صُورَتُهَا مَوْجُودَةً وَأَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ الْأَوَّلُ إلَى فَوْتِ الْوَصْفِ مِنْ الْعِلَّةِ. وَالثَّانِي إلَى الْوَصْفِ الْغَائِبِ مِنْهَا وَالْوَاوُ لِلْحَالِ أَيْ لَا يَكُونُ

[التعليل بالنفي]

ثُمَّ التَّعْلِيلُ بِالنَّفْيِ مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي النِّكَاحِ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ وَفِي الْأَخِ لَا يُعْتَقُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا بَعْضِيَّةٌ وَلَا يَلْحَقُ الْمَبْتُوتَةَ طَلَاقٌ؛ لِأَنَّهُ نِكَاحٌ بَيْنَهُمَا وَيَجُوزُ الْإِسْلَامُ الْمَرْوِيُّ فِي الْمَرْوِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا مَالَانِ لَمْ يَجْمَعْهُمَا طَعْمٌ وَلَا ثَمَنِيَّةَ، وَهَذَا فِي الظَّاهِرِ جَرْحٌ عَلَى مِثَالِ الْعِلَلِ لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ عَدَمًا لَمْ يَكُنْ شَيْئًا فَلَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلْإِثْبَاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اسْتِقْصَاءَ الْعَدَمِ لَا يَمْنَعُ الْوُجُودَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ـــــــــــــــــــــــــــــQذِكْرُ فَوْتِ الْوَصْفِ مِنْ الْعِلَّةِ مَعَ أَنَّ التَّعْلِيلَ يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ ذَلِكَ الْوَصْفِ لِتَمَامِ الْعِلَّةِ تَخْصِيصًا لِلْعِلَّةِ يَعْنِي إذَا فَاتَ وَصْفٌ مِنْ الْعِلَّةِ وَامْتَنَعَ الْحُكْمُ عَنْهَا بِفَوَاتِهِ يُسَمِّيهِ مَنْ جَوَّزَ التَّخْصِيصَ مَانِعًا مُخَصَّصًا، وَيَقُولُ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ مُوجِبَةٌ لِلْحُكْمِ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ حُكْمٌ لِهَذَا الْمَانِعِ، وَهُوَ فَوَاتُ الْوَصْفِ فَخُصَّتْ بِهِ فَقَالَ الشَّيْخُ لَا يَصْلُحُ ذِكْرُ فَوَاتِ ذَلِكَ الْوَصْفِ تَخْصِيصًا أَيْ مُخَصَّصًا لِلْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا وُجِدَتْ الْعِلَّةُ بِتَمَامِهَا أَصْلًا وَوَصْفًا، ثُمَّ لَا يَثْبُتُ حُكْمُهَا بِالْمَانِعِ وَلَمْ يُوجَدْ الْعِلَّةُ هَاهُنَا بِتَمَامِهَا؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْوَصْفِ الْفَائِتِ لِتَمَامِ الْعِلَّةِ فَلَا يَكُونُ فَوَاتُ ذَلِكَ الْوَصْفِ مَانِعًا مُخَصَّصًا بَلْ يَنْعَدِمُ الْعِلَّةُ بِفَوَاتِهِ فَيَنْعَدِمُ الْحُكْمُ لِانْعِدَامِهَا، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ وُجُودَ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْعِلَّةِ لَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهَا وَأَنَّ وُجُودَ صُورَةِ الْعِلَّةِ بِدُونِ حُكْمِهَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُنَاقَضَةِ، وَالتَّخْصِيصُ لَا يَدُلُّ الْوُجُودُ عِنْدَ الْوُجُودِ وَلَا الْعَدَمُ عِنْدَ الْعَدَمِ عَلَى الصِّحَّةِ اعْتِبَارًا لِحَالَةِ الْمُوَافَقَةُ بِحَالِ الْمُخَالَفَةِ فِي الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ عَلَى مَا تَبَيَّنَّ أَيْ فِي بَابِ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا أَنَّ هَذَا أَيْ الِاحْتِجَاجَ بِالِاطِّرَادِ عَلَى نَهْجِ الْعِلَلِ بِسُكُونِ الْهَاءِ أَيْ طَرِيقِهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ وَصْفٌ مِنْ أَوْصَافِ النَّصِّ يَدُورُ الْحُكْمُ مَعَهُ كَمَا يَدُورُ مَعَ الْوَصْفِ الْمُؤَثِّرِ، وَتَحْرِيكُ الْهَاءِ لَحْنٌ؛ لِأَنَّ النَّهَجَ بِالتَّحْرِيكِ الْبُهْرُ وَتَتَابُعُ النَّفَسِ وَلَا مَعْنًى لَهُ هَاهُنَا. [التَّعْلِيلُ بِالنَّفْيِ] قَوْلُهُ (التَّعْلِيلُ بِالنَّفْيِ) يَعْنِي بَعْدَ الِاحْتِجَاجِ بِالِاطِّرَادِ فِي الرُّتْبَةِ التَّعْلِيلُ بِعَدَمِ الْوَصْفِ لِعَدَمِ الْحُكْمِ، وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْعَدَمَ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَمَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِلْأَحْكَامِ وَلِأَنَّ عَدَم وَصْفٍ لَا يُنَافِي وُجُودَ وَصْفٍ آخَرَ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِهِ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْحُكْمَ يَجُوزُ يَرَى أَنْ يَثْبُتَ بِعِلَلٍ شَتَّى لَا يَرَى أَنَّ الْعَدَم لَيْسَ بِأَعْلَى حَالًا وَصْفٌ مِنْ الْوُجُودِ وَوُجُودُ وَصْفٍ لَا يَمْنَعُ وُجُودَ آخَرَ فَكَيْفَ يَمْنَعُ الْعَدَمُ وَكَذَلِكَ الْوُجُودُ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِلْبَقَاءِ وَلَا لِوُجُودِ شَيْءٍ آخَرَ فَكَيْفَ يَصْلُحُ الْعَدَمُ عِلَّةً لِوُجُودِ الْأَحْكَامِ مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي النِّكَاحِ إنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَأَشْبَهَ الْحُدُودَ وَفِي الْأَخِ إذَا مَلَكَ أَخَاهُ لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا بَعْضِيَّةٌ فَأَشْبَهَ ابْنَ الْعَمِّ وَلَا يَلْحَقُ الْمَبْتُوتَةَ طَلَاقٌ يُقَالُ بَتَّ طَلَاقَ الْمَرْأَةِ وَأَبَتَّهُ أَيْ طَلَّقَهَا طَلَاقًا لَا رَجْعَةَ فِيهِ، وَالْمَبْتُوتَةُ الْمَرْأَةُ وَأَصْلُهَا الْمَبْتُوتُ طَلَاقُهَا يَعْنِي لَا يَلْحَقُهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ فِي الْعِدَّةِ كَمَا لَا يَلْحَقُهَا الْبَائِنُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ لَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا فَصَارَ كَمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَيَجُوزُ إسْلَامُ الْمَرْوِيِّ فِي الْمَرْوِيِّ أَيْ الثُّبُوتِ الْمَرْوِيِّ فِي جِنْسِهِ وَهَذِهِ النِّسْبَةُ إلَى بَلَدٍ بِالْعِرَاقِ عَلَى شَطِّ الْفُرَاتِ؛ لِأَنَّهُمَا أَيْ الْبَدَلَيْنِ مَالَانِ لَمْ يَجْمَعْهُمَا طَعْمٌ وَلَا ثَمِينَةٌ يَعْنِي الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لِحُرْمَةِ النَّسِيئَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّبَا الطَّعْمُ أَوْ الثَّمَنِيَّةُ وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَلَا يَثْبُتُ حُرْمَةُ النَّسِيئَةِ كَمَا إذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ، وَهَذَا فِي الظَّاهِرِ أَيْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ التَّعْلِيلِ، وَهُوَ التَّعْلِيلُ بِالنَّفْيِ جَرْحٌ فِي الظَّاهِرِ عَلَى مِثَالِ الْعِلَلِ أَيْ الْعِلَلِ الصَّحِيحَةِ؛ لِأَنَّهُ تَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَى عِلَّةٍ يُتَوَهَّمُ أَنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ إذْ عَدَمُ الْوَصْفِ يَصْلُحُ دَلِيلًا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ لَكِنَّهُ أَيْ التَّعْلِيلُ بِالنَّفْيِ لَمَّا كَانَ عَدَمًا أَيْ اسْتِدْلَالًا بِعَدَمِ وَصْفٍ عَلَى عَدَمِ حُكْمٍ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا إذْ الْعَدَمُ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَلَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلْإِثْبَاتِ أَيْ لِإِثْبَاتِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَلَا يُقَالُ مَا ذَكَرْتُمْ مُسَلَّمٌ إذَا كَانَ الْحُكْمُ ثُبُوتِيًّا فَأَمَّا إذَا

إلَّا أَنْ يَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي حُكْمِ سَبَبٍ مُعَيَّنٍ وَفِي حُكْمٍ ثَبَتَ دَلِيلُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَاحِدًا لَا ثَانِيَ لَهُ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي وَلَدِ الْغَصْبِ لِأَنَّهُ لَمْ يُغْصَبْ الْوَلَدُ وَمِثْلُ قَوْلِهِ فِيمَا لَا خُمُسَ فِيهِ مِنْ اللُّؤْلُؤِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ بِغَيْرِهِ فَأَمَّا قَوْلُهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَمْنَعُ قِيَامَ وَصْفٍ لَهُ أَثَرٌ فِي صِحَّةِ الْإِثْبَاتِ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ، وَهُوَ أَنَّ النِّكَاحَ مِنْ جِنْسِ مَا لَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا يَثْبُتُ بِهَا فَصَارَ فَوْقَ الْأَمْوَالِ فِي هَذَا بِدَرَجَةٍ وَكَذَلِكَ فِي أَخَوَاتِهَا عَلَى مَا عُرِفَ. ـــــــــــــــــــــــــــــQكَانَ عَدَمِيًّا فَلَا؛ لِأَنَّ الْعَدَمَ يَصْلُحُ عِلَّةً لِلْعَدَمِ. وَهَذِهِ أَحْكَامٌ عَدَمِيَّةٌ عُلِّلَتْ بِالْعَدَمِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ؛ لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا عَيْنُ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ بَلْ الْعَدَمُ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً أَصْلًا وَعَدَمُ الْحُكْمِ لَا يَحْتَاجُ إلَى عِلَّةٍ أَيْضًا لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِالْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ. أَلَا تَرَى أَنَّ اسْتِقْصَاءَ الْعَدَمِ أَيْ عَدَمِ الْعِلَّةِ لَا يَمْنَعُ الْوُجُودَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَيْ لَا يَمْنَعُ وُجُودَ الْحُكْمِ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ فَإِنَّك لَوْ قُلْت: زَيْدٌ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَكَانِ كَذَا وَلَا فِي بَلَدِ كَذَا. وَكَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَكَان لَا تَعْلَمُهُ قَوْلُهُ (إلَّا أَنْ يَقَعَ الِاخْتِلَافُ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ فَلَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلْإِثْبَاتِ، وَهُوَ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّكُمْ قَدْ عَلَّلْتُمْ بِالنَّفْيِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِثْلَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي وَلَدِ الْغَصْبِ أَيْ الْمَغْصُوبِ: إنَّهُ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ لِأَنَّهُ أَيْ الْغَاصِبَ لَمْ يَغْصِبْ الْوَلَدَ وَمِثْلُ قَوْلِهِ فِيمَا لَا خُمُسَ فِيهِ مِنْ اللُّؤْلُؤِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَأَشَارَ إلَى الْجَوَابِ وَقَالَ إلَّا أَنْ يَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي حُكْمٍ سَبَبُهُ مُعَيَّنٌ كَمَا فِي وَلَدِ الْغَصْبِ فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ وَاقِعٌ فِي أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ هَلْ يَجِبُ فِي زَوَائِدَ الْمَغْصُوبِ أَمْ لَا لَا فِي مُطْلَقِ الضَّمَانِ فَإِنَّ الضَّمَانَ كَمَا يَجِبُ بِالْغَصْبِ يَجِبُ بِالْإِتْلَافِ وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَغَيْرِهِمَا وَفِي حُكْمِ الْوَاوِ بِمَعْنَى أَوْ يَعْنِي أَوْ أَنْ يَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي حُكْمٍ ثَبَتَ دَلِيلُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَاحِدًا لَا ثَانِيَ لَهُ مِثْلُ وُجُوبِ الْخُمُسِ فَإِنَّ سَبَبَهُ فِي الشَّرْعِ وَاحِدٌ بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ الْإِيجَافُ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِعَدَمِ الْعِلَّةِ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْ حُكْمَ سَبَبٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ حُكْمَ سَبَبٍ لَا ثَانِيَ لَهُ لَا يُوجَدُ بِغَيْرِ ذَلِكَ السَّبَبِ، فَانْتِفَاءُ ذَلِكَ السَّبَبِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ ضَرُورَةً. وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَمْثِلَةً مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، ثُمَّ قَالَ إنَّمَا قَالَهَا مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ دُونَ التَّعْلِيلِ وَالْمُقَايَسَةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعِلَّةِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَنْعَدِمَ إذَا عُدِمَتْ الْعِلَّةُ كَمَا كَانَ مَعْدُومًا قَبْلَ الْعِلَّةِ، وَإِنَّمَا أَتَيْنَا إضَافَةَ الْعَدَمِ إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ وَاجِبًا بِهِ وَإِذَا بَطَلَتْ الْإِضَافَةُ لَمْ يَكُنْ عِلَّةً، وَإِنَّمَا يَبْقَى الْحُكْمُ مَعَ عَدَمِ الْعِلَّةِ لِعِلَّةٍ أُخْرَى فَتَكُونُ مِثْلَ الْأُولَى لَا عَيْنِهَا فِي الْوُجُوبِ وَالتَّعَلُّقِ بِهَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ الِاسْتِدْلَال بِعَدَمِ الْعِلَّةِ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي حُكْمِ عِلَّةٍ بِعَيْنِهَا فَأَمَّا قَوْلُهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَكَذَا يَعْنِي مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَإِنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ النِّكَاحُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ تَعْلِيلٌ بِعَدَمِ الْوَصْفِ لَا اسْتِدْلَالٌ؛ لِأَنَّ قَبُولَ شَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ لَمْ يَثْبُتْ اخْتِصَاصُهُ بِالْأَمْوَالِ فِي الشَّرْعِ لِيَصِحَّ الِاسْتِدْلَال بِعَدَمِ الْمَالِ عَلَى عَدَمِ الْقَبُولِ وَإِذَا كَانَ تَعْلِيلًا لَا يَمْنَعُ كَوْنُهُ غَيْرَ مَالِ قِيَامَ وَصْفٍ لَهُ أَثَرٌ فِي صِحَّةِ إثْبَاتِهِ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ. وَهُوَ أَيْ ذَلِكَ الْوَصْفُ أَنَّ النِّكَاحَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا فَهُوَ مِنْ جِنْسِ مَا لَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ يَعْنِي إذَا طَرَأَتْ عَلَيْهِ شُبْهَةٌ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يَسْقُطُ بِهَا بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ يَعْنِي إذَا كَانَتْ مُقَارِنَةً لَهُ لَا تَمْنَعُهُ مِنْ الِانْعِقَادِ نَحْوَ نِكَاحِ الْهَازِلِ وَنِكَاحِ الْمُكْرَهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَبِكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي مَعَ أَنَّ فِيهَا زِيَادَةَ شُبْهَةٍ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا؛ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ بِهِمَا الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ فَصَارَ فَوْقَ الْأَمْوَالِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِدَرَجَةٍ يَعْنِي صَارَ النِّكَاحُ فَوْقَ الْأَمْوَالِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِدَرَجَةٍ وَهِيَ أَنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَالْمَالُ لَا يَثْبُتُ بِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَثْبُتُ مَعَ الْهَزْلِ وَأَنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ فِي الْبَيْعِ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ حَتَّى لَوْ قَبِلَ الْبَيْعَ فِي أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ فِيمَا إذَا قَالَ الْبَائِعُ بِعْت مِنْك هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ بِكَذَا لَا يَصِحُّ، وَلَوْ قَبِلَ نِكَاحَ إحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ صَحَّ، وَكَذَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَقِنٍّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQوَبَاعَهُمَا لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ أَصْلًا وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ مَنْ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا وَبَيْنَ مَنْ لَا يَحِلُّ وَتَزَوَّجَهُمَا صَحَّ الْعَقْدُ فِي حَقِّ مَنْ يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهُ فَيَثْبُتُ أَنَّ النِّكَاحَ فَوْقَ الْأَمْوَالِ فِي ثُبُوتِهِ مَعَ الشُّبْهَةِ دُونَهَا وَلَمَّا ثَبَتَ الْمَالُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ وَإِنْ لَمْ يَسْقُطْ بِهَا فَلَأَنْ يَثْبُتَ النِّكَاحُ الَّذِي لَا يُؤَثِّرُ الشُّبْهَةُ فِي ثُبُوتِهِ وَسُقُوطِهِ كَانَ أَوْلَى وَذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ فِي بَيَانِ ثُبُوتِ النِّكَاحِ مَعَ الشُّبْهَةِ وَعَدَمِ سُقُوطِهِ بِهَا أَنَّ النِّكَاحَ يَثْبُتُ مَعَ شَرْطِ أَنْ لَا مَهْرَ، وَمَهْرٌ فَاسِدٌ وَالْبَيْعُ لَا يَصِحُّ مَعَهُمَا فَكَانَ أَسْهَلَ جَوَازًا. وَكَذَا النِّكَاحُ الْفَاسِدُ يُوجِبُ بِشُبْهَةِ النِّكَاحِ حَتَّى لَوْ دَخَلَ بِهَا النَّاكِحُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمَا الْحَدُّ، ثُمَّ لَوْ تَزَوَّجَهَا رَجُلٌ صَحَّ وَلَمْ يَجْعَلْ شُبْهَةَ نِكَاحِ الَّذِي تَزَوَّجَ فَاسِدًا مَانِعَةً مِنْ صِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ. وَكَذَا النِّكَاحُ الثَّابِتُ لَا يَبْطُلُ بِنِكَاحٍ آخَرَ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا، وَيُثْبِتُ لَهُ شُبْهَةَ النِّكَاحِ حَتَّى وَجَبَتْ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا وَلَمْ يَجِبْ الْحَدُّ، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ مَنْكُوحَةَ مَوْلَاهُ لَمْ يَبْطُلْ النِّكَاحُ وَقَدْ ثَبَتَ لِلْمَوْلَى شُبْهَةَ مِلْكٍ فِي مَالِ مُكَاتَبِهِ بَلْ حَقُّ الْمِلْكِ حَتَّى اسْتَوْلَدَ أَمَةَ مُكَاتَبَةِ النَّسَبِ وَلَمْ يُوجِبْ الْحَدَّ وَلَوْ تَزَوَّجَهَا ابْتِدَاءً لَمْ يَصِحَّ لِحَقِّ الْمِلْكِ فَلَمَّا لَمْ يَبْطُلْ النِّكَاحُ بِحَقِّ الْمِلْكِ فَبِالشُّبْهَةِ أَوْلَى وَكَذَا رُجُوعُ الشَّاهِدِ بَعْدَ الْقَضَاءِ لَا يُبْطِلُ الْقَضَاءَ وَلَوْ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ لَبَطَلَ الْقَضَاءُ بِهِ كَمَا فِي الْحُدُودِ فَثَبَتَ أَنَّ النِّكَاحَ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ، وَلَا يَسْقُطُ بِهَا. وَكَذَلِكَ فِي أَخَوَاتِهَا يَعْنِي كَمَا أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْعَدَمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ قِيَامِ وَصْفٍ آخَرَ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِهِ لَا يَمْنَعُ التَّعْلِيلُ بِالْعَدَمِ فِي أَخَوَاتِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ عِتْقِ الْأَخِ وَطَلَاقِ الْمَبْتُوتَةِ وَإِسْلَامِ الْمَرْوِيِّ فِي الْمَرْوِيِّ مِنْ قِيَامِ أَوْصَافِ آخَرَ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِهَا فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ فَفِي مَسْأَلَةِ عِتْقِ الْأَخِ إنْ لَمْ يُوجَدْ الْبَعْضِيَّةُ فَقَدْ وُجِدَتْ الْقَرَابَةُ الَّتِي صِينَتْ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِأَدْنَى الذُّلَّيْنِ، وَهُوَ ذُلُّ مِلْكِ النِّكَاحِ فَيُصَانُ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِأَعْلَى الذُّلَّيْنِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى. وَفِي الْمَبْتُوتَةِ إنْ لَمْ يُوجَدْ النِّكَاحُ فَقَدْ وُجِدَتْ الْعِدَّةُ الَّتِي هِيَ مِنْ آثَارِهِ وَصِحَّةِ الطَّلَاقِ تَسْتَغْنِي عَنْ زَوَالِ مِلْكِ النِّكَاحِ حُكْمًا لَهُ فَإِنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ بَعْدَ صَرِيحِ الطَّلَاقِ مُنْعَقِدٌ وَلَا أَثَرَ لَهُ فِي إزَالَةِ الْمِلْكِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ قَدْ انْعَقَدَ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ فَلَا حَاجَةَ إلَى انْعِقَادِ الثَّانِي لَهَا. وَكَذَا لَوْ طَلَّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا يَبْقَى النِّكَاحُ مُنْعَقِدًا وَلَا يُزِيلُ الْمِلْكَ بِحَالٍ فَثَبَتَ أَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ لَيْسَ بِحُكْمٍ لَازِمٍ مِنْ الطَّلَاقِ بَلْ حُكْمُهُ اللَّازِمُ إبْطَالُ حِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ إذَا تَمَّ ثُلُثًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَمْكَنَ إعْمَالَهُ فِي تَفْوِيتِ الْحِلِّ وَإِبْطَالِهِ بَعْدَ الْإِبَانَةِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهِ إلَّا أَنَّا شَرَطْنَا قِيَامَ الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ضَرْبِ مِلْكِ لِنَفَاذِ تَصَرُّفِهِ عَلَيْهَا وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْعِدَّةِ تَارَةً وَبِقِيَامِ النِّكَاحِ أُخْرَى فَأَيُّهُمَا وُجِدَ يَنْفُذُ تَصَرُّفَهُ عَلَيْهَا، إلَيْهِ أُشِيرُ فِي الْأَسْرَارِ وَالطَّرِيقَةِ الْبُرْغَرِيَّةِ وَفِي إسْلَامِ الْمَرْوِيِّ فِي الْمَرْوِيِّ إنْ لَمْ يُوجَدْ الطَّعْمُ أَوْ الثَّمَنِيَّةُ فَقَدْ وُجِدَتْ الْجِنْسِيَّةُ الَّتِي هِيَ أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ وَأَنَّهَا تَصْلُحُ بِانْفِرَادِهَا عِلَّةً لِرِبَا النَّسِيئَةِ كَالْوَصْفِ الْآخَرِ وَهُوَ الطَّعْمُ عِنْدَهُ وَالْكَيْلُ عِنْدَنَا فَإِنَّ مَنْ بَاعَ قَفِيزَ حِنْطَةٍ بِقَفِيزِ شَعِيرٍ نَسِيئَةً لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَوْلُ الْخَصْمِ الْجِنْسِيَّةُ شَرْطٌ وَلَيْسَتْ بِأَحَدِ وَصْفَيْ الْعِلَّةِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ تَتَمَيَّزُ مِنْ الشَّرْطِ بِالتَّأْثِيرِ وَقَدْ ظَهَرَ تَأْثِيرُ الْجِنْسِيَّةِ فِي إثْبَاتِ التَّسْوِيَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَيَكُونُ مِنْ الْعِلَّةِ. وَكَذَا قَوْلُهُ الْجِنْسِيَّةُ بَعْضُ الْعِلَّةِ فَلَا نُثْبِتُ بِهِ الْحُكْمَ فَاسِدٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا بَعْضُ الْعِلَّةِ فِي رِبَا الْفَضْلِ فَأَمَّا فِي الرِّبَا النَّسِيئَةِ فَهِيَ جَمِيعُ الْعِلَّةِ اسْتِدْلَالًا

[الاحتجاج باستصحاب الحال]

وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ فَصَحِيحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالْوَصْفِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ كَانَ بَعْضَ الْعِلَّةِ فِي رِبَا الْفَضْلِ وَصَارَ جَمِيعَ الْعِلَّةِ فِي رِبَا النَّسِيئَةِ فَإِنْ قِيلَ فَسَادُ الْبَيْعِ لِفَوَاتِ الْقَبْضِ لَا لِرِبَا النَّسِيئَةِ. قُلْنَا هَذَا الْكَلَامُ يَهْدِمُ قَاعِدَةَ الشَّرِيعَةِ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إلَى إنْكَارِ رِبَا النَّسِيئَةِ وَأَنَّهُ ثَابِتٌ بِالنُّصُوصِ الْمَشْهُورَةِ حَتَّى كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَقُولُ: لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ بَلْ رِبَا النَّسِيئَةِ أَثْبَتُ مِنْ رِبَا الْفَضْلِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ فَكَانَ مَا يُؤَدِّي إلَى إنْكَارِهِ بَاطِلًا فَصَارَ حَاصِلُ هَذَا الْفَصْلِ مَا أُشِيرَ إلَيْهِ فِي الْمِيزَانِ أَوْ التَّعْلِيلُ بِالنَّفْيِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُعَلِّلَ لِنَفْيِ الْحُكْمِ بِنَفْيِ وَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِوَصْفٍ آخَرَ غَيْرِهِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَعْلِيلٌ بِعِلَّةٍ قَاصِرَةٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِعِلَلٍ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِعِلَّةٍ مُعَيَّنَةٍ لَيْسَتْ لَهُ عِلَّةٌ أُخْرَى كَضَمَانِ الْغَصْبِ لَا يَجِبُ بِدُونِ الْغَصْبِ وَحَدِّ السَّرِقَةِ لَا يَجِبُ بِدُونِ السَّرِقَةِ فَكَانَ نَفْيُ الْحُكْمِ بِنَفْيِ الْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ نَفْيًا صَحِيحًا أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] الْآيَةَ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ لِمَا كَانَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْوَحْيِ انْعَدَمَ عِنْدَ عَدَمِهِ. [الِاحْتِجَاجُ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ] قَوْلُهُ (وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ) إلَى آخِرِهِ الِاسْتِصْحَابُ فِي اللُّغَةِ طَلَبُ الصُّحْبَةِ وَيُقَالُ اسْتَصْحَبَ الْكِتَابَ وَغَيْرَهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ لَازِمَ شَيْئًا فَقَدْ اسْتَصْحَبَهُ وَسُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ اسْتِصْحَابَ الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ يَجْعَلُ الْحُكْمَ الثَّابِتَ فِي الْمَاضِي مُصَاحِبًا لِلْحَالِ، أَوْ يَجْعَلُ الْحَالَ مُصَاحِبًا لِذَلِكَ الْحُكْمِ وَفِي الشَّرِيعَةِ هُوَ الْحُكْمُ بِثُبُوتِ أَمْرٍ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَانَ ثَابِتًا فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ وَقِيلَ هُوَ التَّمَسُّكُ بِالْحُكْمِ الثَّابِتِ فِي حَالِ الْبَقَاءِ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الْمُغَيِّرِ، وَعِبَارَةُ بَعْضِهِمْ هُوَ الْحُكْمُ بِبَقَاءِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ لِلْجَهْلِ بِالدَّلِيلِ الْمُغَيِّرِ لَا لِلْعِلْمِ بِالدَّلِيلِ الْمُتَّقِي وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْحُكْمِ بِبَقَاءِ حُكْمٍ ثَابِتٍ بِدَلِيلٍ غَيْرِ مُتَعَرِّضٍ لِبَقَائِهِ وَلَا لِزَوَالِهِ مُحْتَمَلٌ لِلزَّوَالِ بِدَلِيلِهِ لَكِنَّهُ الْتَبَسَ عَلَيْك حَالُهُ، وَهَذِهِ الْعِبَارَاتُ تُؤَدِّي مَعْنًى وَاحِدًا فِي التَّحْقِيقِ، ثُمَّ لَا خِلَافَ أَنَّ اسْتِصْحَابَ حُكْمٍ عَقْلِيٍّ، وَهُوَ كُلُّ حُكْمٍ عُرِفَ وُجُوبُهُ وَامْتِنَاعُهُ وَحُسْنُهُ وَقُبْحُهُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ، أَوْ اسْتِصْحَابُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ ثَبَتَ تَأْبِيدُهُ، أَوْ تَوْقِيتُهُ نَصًّا، أَوْ ثَبَتَ مُطْلَقًا وَبَقِيَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَاجِبٌ الْعَمَلُ بِهِ لِقِيَامِ دَلِيلِ الْبَقَاءِ وَعَدَمِ الدَّلِيلِ الْمُزِيلِ قَطْعًا وَلَا خِلَافَ أَنَّ اسْتِصْحَابَ حُكْمٍ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مُطْلَقٍ غَيْرَ مُعْتَرِضٍ لِلزَّوَالِ، وَالْبَقَاءُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِ الدَّلِيلِ الْمُزِيلِ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَلَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ جَهْلَهُ بِالدَّلِيلِ الْمُزِيلِ بِسَبَبِ تَقْصِيرٍ مِنْهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ وَلَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَيْضًا إذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الطَّلَبِ إلَّا أَنْ لَا يَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ. فَأَمَّا إذَا كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ مُطْلَقٍ غَيْرَ مُعْتَرِضٍ لِلزَّوَالِ، وَقَدْ طَلَبَ الْمُجْتَهِدُ الدَّلِيلَ الْمُزِيلَ بِقَدْرِ وُسْعِهِ وَلَمْ يَظْهَرْ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِثْلُ الْمُزَنِيّ وَالصَّيْرَفِيِّ وَابْنِ شُرَيْحٍ وَابْنُ خَيْرَانَ إنَّهُ حُجَّةٌ مُلْزِمَةٌ مُتَّبَعَةٌ فِي الشَّرْعِيَّاتِ، وَإِلَيْهِ مَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي مَأْخَذِ الشَّرَائِعِ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ يَصْلُحُ حُجَّةً عَلَى الْخَصْمِ فِي مَوْضِعِ النَّظَرِ وَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ إذَا لَمْ يَجِدْ دَلِيلًا فَوْقَهُ مِنْ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ وَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِالْقِيَاسِ قَبْلَ التَّرْجِيحِ وَتَابَعَهُ فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ مَشَايِخِ سَمَرْقَنْدَ

وَذَلِكَ فِي كُلِّ حُكْمٍ عُرِفَ وُجُوبُهُ بِدَلِيلِهِ، ثُمَّ وَقَعَ الشَّكُّ فِي زَوَالِهِ كَانَ اسْتِصْحَابُ حَالِ الْبَقَاءِ عَلَى ذَلِكَ مُوجِبًا بَعْدَ الِاحْتِجَاجِ بِهِ عَلَى الْخَصْمِ وَعِنْدَنَا هَذَا لَا يَكُونُ حُجَّةً لِلْإِيجَابِ لَكِنَّهَا حُجَّةٌ دَافِعَةٌ عَلَى ذَلِكَ دَلَّتْ مَسَائِلُهُمْ فَقَدْ قُلْنَا فِي الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ إنَّهُ جَائِزٌ وَلَمْ نَجْعَلْ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ وَهِيَ أَصْلٌ حُجَّةً عَلَى الْمُدَّعِي بَلْ صَارَ قَوْلُ الْمُدَّعِي مُعَارِضًا لِقَوْلِهِ عَلَى السَّوَاءِ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَعَلَهُ مُوجِبًا حَتَّى تَعَدَّى إلَى الْمُدَّعِي فَأَبْطَلَ دَعْوَاهُ وَأَبْطَلَ الصُّلْحَ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ الْمِيزَانِ وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ: إنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ أَصْلًا لَا لِإِثْبَاتِ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ وَلَا لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا مِثْلُ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ وَالشَّيْخَيْنِ وَصَدْرِ الْإِسْلَامِ أَبِي الْيُسْرِ وَمُتَابِعِيهِمْ إنَّهُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِإِثْبَاتِ حُكْمِ مُبْتَدَأٍ وَلَا لِلْإِلْزَامِ عَلَى الْخَصْمِ بِوَجْهٍ وَلَكِنَّهُ يَصْلُحُ لِإِبْلَاءِ الْعُذْرِ وَلِلدَّفْعِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَلَا يَصِحُّ لَهُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ قَوْلُهُ. (وَذَلِكَ فِي كُلِّ حُكْمٍ) بَيَانُ الِاسْتِصْحَابِ أَيْ الِاسْتِصْحَابِ، أَوْ الِاحْتِجَاجِ بِالِاسْتِصْحَابِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي كُلِّ حُكْمٍ عُرِفَ وُجُوبُهُ أَيْ ثُبُوتُهُ بِدَلِيلٍ، ثُمَّ وَقَعَ الشَّكُّ فِي زَوَالِهِ كَانَ اسْتِصْحَابُ حَالِ الْبَقَاءِ عَلَى ذَلِكَ أَيْ عَلَى ذَلِكَ الْوُجُوبِ يَعْنِي كَأَنْ جَعَلَ حَالَ الْبَقَاءِ مُصَاحِبًا لِلْوُجُوبِ دَلِيلًا مُوجِبًا أَيْ مُلْزِمًا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى الْخَصْمِ وَعِنْدَنَا هَذَا أَيْ الِاسْتِصْحَابُ لَا يَكُونُ لِلْإِيجَابِ أَيْ لَا يَصْلُحُ لِلْإِلْزَامِ، لَكِنَّهَا حُجَّةً دَافِعَةً أَيْ يَدْفَعُ إلْزَامَ الْغَيْرِ وَاسْتِحْقَاقَهُ، وَالضَّمِيرُ لِلِاسْتِصْحَابِ وَتَأْنِيثُهُ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} أَوْ تَأْوِيلُ الْحَالِ أَيْ لَكِنَّ الْحَالَ حُجَّةٌ دَافِعَةٌ عَلَى ذَلِكَ دَلَّتْ مَسَائِلُهُمْ أَيْ عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ كَوْنِ الِاسْتِصْحَابِ مُوجِبًا عِنْدَهُ دَافِعًا عِنْدَنَا دَلَّتْ مَسَائِلُ الْفَرِيقَيْنِ: مِنْهَا مَسْأَلَةُ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَيَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَمَّا ادَّعَاهُ وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الذِّمَّةِ هُوَ الْبَرَاءَةُ عَنْ الْحُقُوقِ؛ لِأَنَّهَا خُلِقَتْ فَارِغَةً، وَالشَّغْلُ بِعَارِضٍ وَالتَّمَسُّكُ بِالْأَصْلِ حُجَّةٌ لِلدَّفْعِ وَالْإِلْزَامِ عِنْدَهُ وَكَمَا يَدْفَعُ التَّمَسُّكُ بِهَذَا الْأَصْلِ الدَّعْوَى عَنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَتَعَدَّى إلَى الْمُدَّعِي فِي إبْطَالِ دَعْوَاهُ وَصَارَ كَأَنَّهُ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى أَنَّ ذِمَّتَهُ فَارِغَةٌ عَنْ حَقِّ الْغَيْرِ وَنَحْنُ جَعَلْنَا الْبَرَاءَةَ دَافِعَةً لِلدَّعْوَى وَلَمْ نَجْعَلْهَا حُجَّةً عَلَى الْمُدَّعِي بَلْ صَارَ دَعْوَى الْمُدَّعِي إلَى أَنَّ الْمُدَّعَى حَقِّي وَمِلْكِي مُعَارِضًا لِإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ عَلَى السَّوَاءِ فَإِنَّهُ خَبَرٌ مُحْتَمَلٌ أَيْضًا فَكَمَا لَا يَكُونُ خَبَرُ الْمُدَّعِي حُجَّةً عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي إلْزَامِ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ مُحْتَمَلًا فَكَذَلِكَ خَبَرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُدَّعِي فِي إبْطَالِ دَعْوَاهُ وَفَسَادِ الِاعْتِيَاضِ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ وَلِهَذَا لَوْ صَالَحَهُ أَجْنَبِيٌّ عَلَى مَالٍ جَازَ بِالِاتِّفَاقِ وَلَوْ ثَبَتَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي بِدَلِيلٍ كَمَا ذَكَرَهُ الْخَصْمُ لَمْ يَجُزْ صُلْحُهُ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ كَمَا لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ مُبْطِلٌ فِي دَعْوَاهُ، ثُمَّ صَالَحَ مَعَ أَجْنَبِيٍّ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَتَقْرِيرٌ آخَرُ أَنَّ قَوْلَ الْمُدَّعِي مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِ دُونَ خَصْمِهِ، وَإِنْكَارُ خَصْمِهِ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي فَكَانَا سَوَاءً فِي أَنَّهُمَا لَيْسَا بِحُجَّتَيْنِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَجَوَّزْنَا الصُّلْحَ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي اعْتِيَاضًا عَنْ حَقِّهِ، وَفِي حَقِّ الْمُنْكَرِ افْتِدَاءً بِالْيَمِينِ وَقَطْعًا لِخُصُومَةٍ عَنْهُ؛ لِأَنَّ خَبَرَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُجَّةٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ الصُّلْحُ لَكَانَ قَوْلُ الْمُنْكَرِ حُجَّةً عَلَى الْمُدَّعِي، وَلَا يُقَالُ لَوْ جَازَ الصُّلْحُ لَجُعِلَ قَوْلُ الْمُدَّعِي حُجَّةً فِي حَقِّ الْخَصْمِ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ فِي جَانِبِهِ بِجِهَةِ افْتِدَاءِ الْيَمِينِ لَا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ ثَبَتَ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا مَسْأَلَةُ الشُّفْعَةِ مَا هِيَ مَا إذَا بِيعَ مِنْ الدَّارِ شِقْصٌ وَطَلَبَ الشَّرِيكُ الشُّفْعَةَ مِنْ الْمُشْتَرِي فَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَكُونَ مَا فِي يَدِ الشَّفِيعِ مِنْ الدَّارِ مِلْكُ الشَّفِيعِ بِأَنْ قَالَ يَدُكَ لَيْسَتْ بِيَدِ مِلْكٍ بَلْ كَانَتْ يَدَ إجَارَةٍ وَإِعَادَةٍ وَأَنْكَرَ الطَّالِبُ أَنْ يَكُونَ يَدُهُ يَدَ إجَارَةٍ أَوْ إعَارَةٍ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي حَتَّى أَنَّ الشَّفِيعَ مَا لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً عَلَى أَنَّ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الدَّارِ مِلْكُهُ لَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ يَتَمَسَّكُ بِالْأَصْلِ فَإِنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِ فِي الظَّاهِرِ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ حُجَّةً لِلْإِلْزَامِ

وَقُلْنَا فِي الشِّقْصِ: إذَا بَاعَ مِنْ الدَّارِ فَطَلَبَ الشَّرِيكُ الشُّفْعَةَ فَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي مِلْكَ الطَّالِبِ فِيمَا يَدُهُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ فَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ وَكَذَلِكَ رَجُلٌ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ لَمْ تَدْخُلْ الدَّارَ الْيَوْمَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَمَضَى الْيَوْمُ ثُمَّ اخْتَلَفَا وَلَا يَدْرِي أَدَخَلَ أَمْ لَا فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَوْلَى عِنْدَنَا لِمَا ذَكَرْنَا وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ بِدَلِيلِهِ بَقِيَ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ أَيْضًا، أَلَا يَرَى أَنَّ حُكْمَ النَّصِّ يَبْقَى بِهِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى تَعَذَّرَ نَسْخُهُ وَاحْتَجَّ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ مَنْ تَيَقَّنَ بِالْوُضُوءِ لَمْ يَلْزَمْهُ وُضُوءٌ آخَرُ وَلَزِمَهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ بِمَا عَلِمَهُ وَإِنْ شَكَّ فِي الْحَدَثِ وَإِذَا عَلِمَ بِالْحَدَثِ، ثُمَّ شَكَّ فِي الْوُضُوءِ يَبْقَى الْحَدَثُ وَلَوْ ثَبَتَ مِلْكُ الشَّفِيعِ بِإِقْرَارِ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ كَانَ لَهُ وَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانٌ كَانَ يَمْلِكُهُ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ وَإِنَّمَا يَبْقَى مِلْكُهُ لِعَدَمِ مَا يُزِيلُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ قَدْ صَلُحَ حُجَّةً مُوجِبَةً وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ شُهُودُ الْمُدَّعِي أَنَّ هَذَا الشَّيْءَ كَانَ مِلْكًا لَهُ صَارَ حُجَّةً مُوجِبَةً ـــــــــــــــــــــــــــــQوَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ يَعْنِي إنْ أَقَامَ بَيِّنَةَ مِلْكِهِ وَأَنَّ يَدَهُ يَدُ مِلْكٍ؛ لِأَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْأَصْلِ يَصْلُحُ حُجَّةً لِلدَّفْعِ وَالْإِلْزَامِ جَمِيعًا عِنْدَهُ. وَإِنَّمَا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الشِّقْصِ احْتِرَازًا عَنْ مَوْضِعِ الْخِلَافِ فَإِنَّ الشُّفْعَةَ بِالْجَوَازِ لَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ عِنْدَهُ وَالشِّقْصُ الْجُزْءُ مِنْ الشَّيْءِ وَالنَّصِيبُ، وَمِنْهَا مَسْأَلَةُ تَعْلِيقِ عِتْقِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ لَمْ تَدْخُلْ الدَّارَ الْيَوْمَ فَأَنْتَ حُرٌّ، ثُمَّ اخْتَلَفَ بَعْدَ مُضِيِّ الْيَوْمِ فَقَالَ الْمَوْلَى: قَدْ دَخَلْت وَقَالَ الْعَبْدُ: لَمْ أَدْخُلْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَوْلَى عِنْدَنَا حَتَّى لَا يُعْتَقُ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ، وَهُوَ عَدَمُ الْوُجُودِ وَالتَّمَسُّكُ بِهِ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلْإِلْزَامِ عَلَى الْغَيْرِ فَلَا يَبْطُلُ بِهِ إنْكَارُ الْمَوْلَى عَدَمَ الدُّخُولِ فَيَجْعَلُ كَأَنَّ الْعَبْدَ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ فَيُعْتَقُ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْتِصْحَابَ حُجَّةٌ دَافِعَةٌ لَا مُلْزِمَةٌ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ مَنْ جَعَلَهُ حُجَّةً عَلَى الْإِطْلَاقِ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ أَحْدَثْت أَحْدَثْت فَلَا يَنْصَرِفَنَّ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا» حَكَمَ بِاسْتِدَامَةِ الْوُضُوءِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ، وَهُوَ عَيْنُ الِاسْتِصْحَابِ وَبِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا تَيَقَّنَ بِالْوُضُوءِ، ثُمَّ شَكَّ فِي الْحَدَثِ جَازَ لَهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَكُنْ الْوُضُوءُ وَلَوْ تَيَقَّنَ بِالْحَدَثِ، ثُمَّ شَكَّ فِي الْوُضُوءِ يَبْقَى الْحَدَثُ وَكَذَا إذَا تَيَقَّنَ بِالنِّكَاحِ، ثُمَّ شَكَّ فِي الطَّلَاقِ لَا يَزُولُ النِّكَاحُ بِمَا حَدَثَ مِنْ الشَّكِّ وَهَذَا كُلُّهُ اسْتِصْحَابٌ. وَبِالدَّلِيلِ الْمَعْقُولِ، وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ مُعَارِضٌ قَطْعًا وَلَا ظَنًّا يَبْقَى بِذَلِكَ الدَّلِيلِ أَيْضًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ بِالنَّصِّ يَبْقَى بِهِ أَيْ بِذَلِكَ بِالنَّصِّ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى تَعَذَّرَ نَسْخُهُ أَيْ نَسْخُ ذَلِكَ الْحُكْمِ لِبَقَاءِ النَّصِّ الْمُوجِبِ لَهُ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَاسْتَدَلَّ صَاحِبُ الْمِيزَانِ لِلشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بِأَنَّ الْحُكْمَ حَتَّى ثَبَتَ شَرْعًا فَالظَّاهِرُ دَوَامُهُ لِمَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَلَا يَتَغَيَّرُ الْمَصْلَحَةُ فِي زَمَانٍ قَرِيبٍ، وَإِنَّمَا تَحْتَمِلُ التَّغَيُّرَ عِنْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ فَمَتَى طَلَبَ الْمُجْتَهِدُ الدَّلِيلَ الْمُزِيلَ وَلَمْ يَظْفَرْ بِهِ فَالظَّاهِرُ عَدَمُهُ وَهَذَا نَوْعُ اجْتِهَادٍ، وَإِذَا كَانَ الْبَقَاءُ ثَابِتًا بِالِاجْتِهَادِ لَا يُتْرَكُ بِاجْتِهَادٍ مِثْلِهِ بِلَا تَرْجِيحٍ وَيَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْخَصْمِ كَمَنْ تَعَلَّقَ بِقِيَاسٍ صَحِيحٍ فَأَنْكَرَ خَصْمُهُ وَعَارَضَهُ بِقِيَاسٍ لَا رُجْحَانَ لَهُ عَلَى الْأَوَّلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُنْكِرُ مَحْجُوجًا بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ قَدْ ثَبَتَ بَقَاؤُهُ بِالِاجْتِهَادِ فَلَا يَزُولُ إلَّا بِدَلِيلٍ يَتَرَجَّحُ عَلَى الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ أَوْجَبَ شُبْهَةً فِي الْأَوَّلِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ مَا أَمْضَى بِالِاجْتِهَادِ لَا يَنْتَقِضُ بِاجْتِهَادِ مِثْلِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُكْمَ الْمُطْلَقَ فِي حَالِ حَيَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ مُحْتَمِلًا لِلنَّسْخِ ثُمَّ هُوَ ثَابِتٌ فِي حَقِّ مِنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْهُ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ وَالْإِلْزَامِ عَلَى الْغَيْرِ وَدَعْوَةِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ فَعَرَفْنَا أَنَّ الِاسْتِصْحَابَ حُجَّةٌ مُلْزِمَةٌ كَذَا فِي الْمِيزَانِ وَتَمَسَّكَ مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ حُجَّةً أَصْلًا بِالْمُسْتَصْحِبِ لَيْسَ لَهُ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ وَلَا شَرْعِيٌّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا يَدُلُّ عَلَى تَغَايُرِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بَعْدَ ثُبُوتِهِ. وَكَذَا دَلَائِلُ الشَّرْعِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ وَلَمْ يَدُلَّ شَيْءٌ مِنْهَا بَقَاءُ الْحُكْمِ بَعْدَ الثُّبُوتِ فَكَانَ الْعَمَلُ بِالِاسْتِصْحَابِ عَمَلًا بِلَا دَلِيلٍ وَكَيْفَ يُجْعَلُ حُجَّةً لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ وَالْبَقَاءُ لَا يُضَافُ إلَى الدَّلِيلِ الْمُوجِبِ بَلْ حُكْمُهُ الثُّبُوتُ لَا غَيْرَ وَلِأَنَّ التَّمَسُّكَ بِالِاسْتِصْحَابِ يُؤَدِّي إلَى التَّعَارُضِ فِي الْأَدِلَّةِ فَإِنَّ مَنْ اسْتَصْحَبَ حُكْمًا مِنْ صِحَّةِ فِعْلِ لَهُ وَسُقُوطِ فَرْضٍ كَانَ لِخَصْمِهِ أَنْ يَسْتَصْحِبَ خِلَافَهُ فِي مُقَابَلَتِهِ كَمَا لَوْ قِيلَ

وَلَنَا أَنَّ الدَّلِيلَ الْمُوجِبَ لِحُكْمٍ لَا يُوجِبُ بَقَاءَهُ كَالْإِيجَادِ لَا يُوجِبُ الْبَقَاءَ حَتَّى صَحَّ الْإِفْنَاءُ. وَهَذَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَعْرَاضٍ تَحْدُثُ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ شَيْءٍ عِلَّةً لِوُجُودِ غَيْرِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQإنَّ الْمُتَيَمِّمَ إذَا رَأَى الْمَاءَ قَبْلَ صَلَاتِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّوَضُّؤُ فَكَذَلِكَ إذَا رَآهُ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ بِاسْتِصْحَابِ ذَلِكَ الْوُجُوبِ أَمْكَنَ أَنْ يُعَارَضَ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ قَدْ انْعَقَدَ عَلَى صِحَّةِ شُرُوعِهِ فِي الصَّلَاةِ وَانْعِقَادِ الْإِحْرَامِ وَقَدْ وَقَعَ الِاشْتِبَاهُ فِي بَقَائِهِ بَعْدَ رُؤْيَةِ الْمَاءِ فِي الصَّلَاةِ فَيَحْكُمُ بِبَقَائِهِ بِطَرِيقِ الِاسْتِصْحَابِ وَمَا ادَّعَى إلَى مِثْلِ هَذَا كَانَ بَاطِلًا. وَلَنَا أَنَّ الدَّلِيلَ الْمُوجِبَ أَيْ الْمُثْبِتَ لِحُكْمٍ فِي الشَّرْعِ لَا يُوجِبُ بَقَاءَهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ الْإِثْبَاتُ وَالْبَقَاءُ غَيْرُ الثُّبُوتِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْبَقَاءُ كَالْإِيجَادِ لَا يُوجِبُ الْبَقَاءَ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ الْوُجُودُ لَا غَيْرَ يَعْنِي لَمَّا كَانَ الْإِيجَادُ عِلَّةً لِلْوُجُودِ لَا لِلْبَقَاءِ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الْبَقَاءُ حَتَّى صَحَّ الْإِفْنَاءُ بَعْدَ الْإِيجَادِ وَلَوْ كَانَ الْإِيجَادُ مُوجِبًا لِلْبَقَاءِ كَمَا كَانَ مُوجِبًا لِلْوُجُوبِ لَمَا تَصَوَّرَ الْإِفْنَاءَ بَعْدَ الْإِيجَادِ لِاسْتِحَالَةِ الْفَنَاءِ مَعَ الْمُبْقِي كَمَا لَمْ يُتَصَوَّرْ الزَّوَالُ حَالَةَ الثُّبُوتِ لِاسْتِحَالَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَلَمَّا صَحَّ الْإِفْنَاءُ عُلِمَ أَنَّ الْإِيجَادَ لَا يُوجِبُ الْبَقَاءَ فَكَذَا الْحُكْمُ لَمَّا احْتَمَلَ النَّسْخَ بَعْدَ الثُّبُوتِ عُلِمَ أَنَّ دَلِيلَهُ لَا يُوجِبُ الْبَقَاءَ لِاسْتِحَالَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُزِيلِ وَالْمُثْبِتِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُوجِبًا لَمْ يَجُزْ نَسْخُ الْحُكْمِ فِي حَالِ ثُبُوتِهِ لِأَنَّ رَفْعَ الشَّيْءِ فِي حَالِ ثُبُوتِهِ مُحَالٌ. وَهَذَا أَيْ مَا قُلْنَا إنَّ الدَّلِيلَ الْمُوجِبَ لِشَيْءٍ لَا يُوجِبُ بَقَاءَهُ ثَابِتٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْ الْبَقَاءَ، وَيُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْكَوْنِ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي بَعْدَ الْكَوْنِ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ بِمَنْزِلَةِ أَعْرَاضٍ تَحْدُثُ فَإِنَّ الْبَقَاءَ مَعْنًى وَرَاءَ الْبَاقِي بِدَلِيلِ أَنَّ الشَّيْءَ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِهِ يُوصَفُ بِالْوُجُودِ وَلَا يُوصَفُ بِالْبَقَاءِ فَإِنَّهُ صَحَّ أَنْ يُقَالَ وُجِدَ وَلَمْ يَبْقَ فَلَوْ كَانَ بَقَاؤُهُ نَفْسَ وُجُودِهِ لَمَّا انْفَكَّ وُجُودُهُ عَنْ الْبَقَاءِ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ وَلَصَحَّ اتِّصَافُهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بِالْبَقَاءِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَعْنًى آخَرُ وَرَاءَ الْوُجُودِ وَلَا قِيَامًا لَهُ بِنَفْسِهِ حَقِيقَةً كَسَائِرِ الصِّفَاتِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْرَاضِ الَّتِي تَحْدُثُ فِي الشَّيْءِ بَعْدَ وُجُودِهِ مِنْ الْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ فَلَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ شَيْءٍ عِلَّةً لِوُجُودِ غَيْرِهِ أَيْ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ نَفْسُ وُجُودِ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ انْضِمَامِ دَلِيلٍ آخَرَ إلَيْهِ عِلَّةً لِوُجُودِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْرَاضِ الَّتِي تَقُومُ بِهِ فَلَا يَصْلُحُ نَفْسُ وُجُودِ الْحُكْمِ عِلَّةً لِبَقَائِهِ الَّذِي هُوَ غَيْرُهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَرَضِ الْقَائِمِ بِهِ فَثَبَتَ أَنَّ الدَّلِيلَ الْمُوجِبَ لِلْحُكْمِ لَا يُوجِبُ بَقَاءً فَلَا يَكُونُ الْبَقَاءُ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ بَلْ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ الْعِلْمِ بِالدَّلِيلِ الْمُزِيلِ مَعَ الِاحْتِمَالِ وُجُودُهُ فَلَا يَصْلُحُ حُجَّةً عَلَى الْغَيْرِ لَكِنَّهُ لَمَّا بَذَلَ جَهْدَهُ فِي طَلَبِ الْمُزِيلِ وَلَمْ يَظْفَرْ بِهِ جَازَ لَهُ الْعَمَلُ بِهِ إذْ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ وَرَاءَ ذَلِكَ جَازَ لَهُ الْعَمَلُ بِالتَّحَرِّي عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ وَرَأَيْت بِخَطِّ شَيْخِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتِصْحَابُ حُكْمٍ ثَبَتَ بِدَلِيلِهِ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي لَمْ يَكُنْ قَوْلًا بِدَلِيلٍ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْوُجُودِ، أَوْ الْعَدَمِ أَوْجَبَ الْبَقَاءَ. وَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ مِمَّا يُوصَفُ بِالْبَقَاءِ عَدَمِيًّا كَانَ أَوْ وُجُودِيًّا فَيَبْقَى مَوْصُوفًا بِالْوَصْفِ الَّذِي ثَبَتَ بِدَلِيلِهِ إلَى أَنْ يُوجَدَ الْمُغَيِّرُ بِخِلَافِ الْأَعْرَاضِ الَّتِي لَا تُوصَفُ بِالْبَقَاءِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَغْنِي عَنْ الْعِلَّةِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَلَحْظَةٍ لِحُدُوثِهَا جُزْءًا فَجُزْءًا فَيَحْتَاجُ إلَى عِلَّةٍ حَسَبَ حَاجَةِ الْأَوَّلِ إلَيْهَا. فَالشَّيْخُ تَعَرَّضَ لِإِبْطَالِ هَذَا الْكَلَامِ وَقَالَ الْبَقَاءُ بِمَنْزِلَةِ أَعْرَاضٍ تَحْدُثُ بِالتَّرَادُفِ وَالتَّوَالِي فَلَا يُسْتَغْنَى عَنْ الدَّلِيلِ وَقَدْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي الدَّلِيلِ الْمُبْقِي فَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْغَيْرِ مَعَ الشَّكِّ (فَإِنْ قِيلَ) لَمَّا كَانَ الْبَقَاءُ أَمْرًا حَادِثًا سِوَى الثُّبُوتِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ وَسَبَبٍ كَالثُّبُوتِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ فَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يُقَالَ الْبَقَاءُ ثَابِتٌ بِلَا دَلِيلٍ، أَوْ يُضَافُ إلَى عَدَمِ الْمُزِيلِ؟ (قُلْنَا) بَقَاءُ الْمَوْجُودِ فِي الْحَقِيقَةِ ثَابِتٌ بِإِبْقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ إلَى زَمَانِ وُجُودِ الْمُزِيلِ كَمَا أَنَّ الْوُجُودَ ثَابِتٌ بِإِيجَادِهِ إلَّا أَنَّ لِلْوُجُودِ سَبَبًا ظَاهِرًا يُضَافُ إلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْبَقَاءِ سَبَبٌ ظَاهِرٌ فَقِيلَ الْبَقَاءُ ثَابِتٌ بِلَا دَلِيلٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي الظَّاهِرِ إلَى سَبَبٍ

أَلَا يَرَى أَنَّ عَدَمَ الْمِلْكِ لَا يَمْنَعُ الْمِلْكَ وَعَدَمَ الشِّرَاءِ لَا يَمْنَعُ حُدُوثَ الشِّرَاءِ وَوُجُودَ الْمِلْكِ لَا يَمْنَعُ الزَّوَالَ، وَهَذَا لَا يَشْكُلُ، أَلَا يَرَى أَنَّ النَّسْخَ فِي دَلَائِلِ الشَّرْعِ إنَّمَا صَحَّ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَمَّا صَارَتْ الدَّلَائِلُ مُوجِبَةً قَطْعًا بِوَفَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى تَقْرِيرِهَا لَمْ تَحْتَمِلْ النَّسْخَ لِبَقَائِهَا بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ وَأَمَّا فَصْلُ الطَّهَارَةِ وَالْمِلْكِ بِالشِّرَاءِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْبَابَ وَذَلِكَ مِنْ جِنْسِ مَا يَفِي بِدَلِيلِهِ، لِأَنَّ حُكْمَ الشِّرَاءِ الْمِلْكُ الْمُؤَبَّدُ وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْوُضُوءِ وَالْحَدَثِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَوْقِيتُهُ صَرِيحًا لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِالْمُعَارَضَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمُنَاقَضَةِ فَقَبِلَ الْمُعَارِضُ لَهُ حُكْمَ التَّأْبِيدِ فَكَانَ الْبَقَاءُ بِدَلِيلِهِ، وَكَلَامُنَا فِيمَا ثَبَتَ بَقَاؤُهُ بِلَا دَلِيلٍ كَحَيَاةِ الْمَفْقُودَةِ وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنَّمَا يَتَنَاوَلُ حُكْمًا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ فَيَصِيرُ فِي الْبَقَاءِ احْتِمَالٌ فَأَمَّا حُكْمُ الطَّهَارَةِ وَحُكْمُ الْحَدَثِ فَلَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ ـــــــــــــــــــــــــــــQيُضَافُ إلَيْهِ لَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى مُبْقٍ أَصْلًا وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ مَوْتُ إنْسَانٍ، أَوْ بِنَاءِ دَارٍ كَانَ ابْتِدَاؤُهُ مُفْتَقِرًا إلَى سَبَبٍ ظَاهِرٍ بَعْدَمَا عَلِمْنَا يَقِينًا أَنَّهُ ثَابِتٌ بِإِيجَادِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُتَوَلِّدَاتِ فَأَمَّا بَقَاؤُهُ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى سَبَبٍ ظَاهِرٍ بَلْ يَبْقَى بِإِبْقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى أَنْ يُوجَدَ الْقَاطِعُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يُضَافُ إلَيْهِ فَكَذَا الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ يَفْتَقِرُ فِي ابْتِدَاءِ ثُبُوتِهِ إلَى دَلِيلٍ وَلَمَّا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ يَبْقَى بِإِبْقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى أَنْ يُوجَدَ الْمُزِيلُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ظَاهِرٍ يَدُلُّ عَلَى بَقَائِهِ وَلَمَّا لَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ بِعَدَمِ الْمُزِيلِ لَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ بِالْبَقَاءِ فَكَانَ الْبَقَاءُ ثَابِتًا لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْمُزِيلِ لَا لِلْعِلْمِ بِعَدَمِ الْمُزِيلِ فَلَمْ يَصْلُحْ حُجَّةً عَلَى الْغَيْرِ. (فَإِنْ قِيلَ) إنْ لَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ بِالْبَقَاءِ فَقَدْ حَصَلَ الظَّنُّ الْغَالِبُ بِهِ فَالِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِ الْمُزِيلِ وَعَدَمِ الظَّفَرِ بِهِ، وَالدَّلِيلُ الظَّنِّيُّ حُجَّةٌ فِي الشَّرْعِ كَالْيَقِينِيِّ فَيَصِحُّ الْإِلْزَامُ بِهِ عَلَى الْغَيْرِ كَمَا يَصِحُّ بِالْقِيَاسِ (قُلْنَا) لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ ظَنٍّ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ بَلْ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الدَّلِيلُ الظَّنِّيُّ الَّذِي قَامَ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ عَلَى اعْتِبَارِهِ مِثْلَ الْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَمْ يَقُمْ هَاهُنَا دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ وَلَا ظَنِّيٌّ عَلَى اعْتِبَارِهِ فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى الْغَيْرِ كَمَا لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِالظَّنِّ الْحَاصِلِ بِالتَّحَرِّي عَلَى الْغَيْرِ قَوْلُهُ (أَلَا تَرَى) تَوْضِيحٌ لِقَوْلِهِ الدَّلِيلُ الْمُوجِبُ لِحُكْمٍ لَا يُوجِبُ بَقَاءَهُ وَإِشَارَةٌ إلَى أَنَّ اسْتِصْحَابَ الْعَدَمِ مِثْلُ اسْتِصْحَابِ الْوُجُودِ وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِالِاسْتِصْحَابِ عَمَلٌ بِلَا دَلِيلٍ وَذَكَرَ مِثَالَ الِاسْتِصْحَابِ فِي الْمَعْدُومِ وَالْمَوْجُودِ ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْعَدَمِ لَا يُوجِبُ بَقَاءً وَلَا يَنْفِي حُدُوثَ عِلَّةٍ مَوْجُودَةٍ وَلَا ثُبُوتُ الْوُجُودِ بَعْدَهُ يُوجِبُ بَقَاءَهُ وَلَا يَنْفِي قِيَامَ مَا تَقَدَّمَ، أَلَا تَرَى أَنَّ عَدَمَ الشِّرَاءِ مِنْك لَا يَمْنَعُك عَنْ الشِّرَاءِ وَلَا يُوجِبُ أَيْضًا دَوَامَ الْعَدَمِ بَلْ يَدُومُ لِعَدَمِ الشِّرَاءِ مِنْك لِلْحَالِ لَا بِحُكْمِ الْعَدَمِ فِيمَا مَضَى وَإِذَا اشْتَرَيْت فَهَذَا الشِّرَاءُ مِنْك أَوْجَبَ الْمِلْكَ وَلَا يُوجِبُ بَقَاءَهُ، وَإِنَّمَا يَبْقَى بِعَدَمِ مَا يُزِيلُهُ وَلَا يَمْنَعُ حُدُوثَ مَا يُزِيلُهُ، وَحَيَاةُ الْإِنْسَانِ بِعِلَّتِهَا لَا يُوجِبُ الْبَقَاءَ وَلَا تَمْنَعُ طَرَيَان الْمَوْتِ وَمَا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ إشْكَالٌ فَإِذَا أَرَادَ إثْبَاتَ دَوَامِ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِكَوْنِهِ ثَابِتًا، وَهُوَ لَا يُوجِبُهُ بَلْ يَبْقَى لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ الدَّلِيلِ فِي بَقَائِهِ كَانَ مُحْتَجًّا بِلَا دَلِيلٍ. وَقَوْلُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْفَسْخَ تَوْضِيحٌ لِقَوْلِهِ وَهَذَا لَا يَشْكُلُ لِمَا ذَكَرْنَا إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ الدَّلِيلُ الْمُوجِبُ لَا يُوجِبُ الْبَقَاءَ، ثُمَّ أَجَابَ عَمَّا اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ فَقَالَ وَأَمَّا فَصْلُ الطَّهَارَةِ وَالْمِلْكِ بِالشِّرَاءِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الشَّهَادَةِ فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ بَلْ هِيَ مِنْ قَبِيلِ مَا ثَبَتَ بَقَاؤُهُ بِدَلِيلٍ كَدَلَائِل الشَّرْعِ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الشِّرَاءِ مِلْكٌ مُؤَبَّدٌ. وَكَذَا حُكْمُ أَخَوَاتِهِ مِنْ النِّكَاحِ وَالْوُضُوءِ وَالْحَدَثِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَوْقِيتُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ صَرِيحًا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ اشْتَرَيْت إلَى كَذَا، أَوْ تَوَضَّأْت إلَى كَذَا، أَوْ قَالَ اشْتَرَيْت عَلَى أَنْ يَثْبُتَ الْمِلْكُ فِي سَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ، أَوْ تَوَضَّأْت عَلَى أَنْ يَثْبُتَ الطَّهَارَةُ إلَى وَقْتِ كَذَا، أَوْ تَزَوَّجْت عَلَى أَنْ يَثْبُتَ الْحِلُّ إلَى مُدَّةِ كَذَا لَا يَصِحُّ بَلْ يَفْسُدُ الْعَقْدُ، أَوْ الشَّرْطُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ مُؤَبَّدَةً وَكَانَ بَقَاؤُهَا بِالِاسْتِصْحَابِ لَجَازَ تَوْقِيتُهَا كَالْحُكْمِ الثَّابِتِ ابْتِدَاءً بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَكَسَائِرِ مَا ثَبَتَ بَقَاؤُهُ بِالِاسْتِصْحَابِ أَلَا إنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ مَعَ كَوْنِهَا مُؤَبَّدَةً تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِالْمُعَارِضِ عَلَى سَبِيلِ الْمُنَاقَضَةِ يَعْنِي بِمُعَارِضٍ يُنَاقِضُ الْأَوَّلَ وَيُضَادُّهُ كَالْفَسْخِ لِلْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ

وَلِذَلِكَ قُلْنَا جَمِيعًا فِي رَجُلٍ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عَبْدٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ أَنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ أَمَّا عِنْدَنَا فَلِمَا أَنَّ قَوْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ لَا يَعْدُو قَائِلَهُ وَلَوْ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ لَعَدَا قَائِلَهُ وَعَلَى قَوْلِهِ قَوْلُ الْبَائِعِ رَجَعَ إلَى مَا عَرَفَهُ بِدَلِيلِهِ، وَهُوَ الْمِلْكُ فَصَارَ حُجَّةً عَلَى خَصْمِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْمُشْتَرِي إنَّهُ حُرٌّ فَلَيْسَ يَرْجِعُ إلَى أَصْلٍ عُرِفَ بِدَلِيلِهِ فَلَمْ يَكُنْ حُجَّةً عَلَى خَصْمِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْبَاتِّ النِّكَاحِ وَالْحَدَثِ لِلطَّهَارَةِ فَقَبْلَ وُجُودِ الْمُعَارِضِ كَانَ لَهَا حُكْمُ التَّأْبِيدِ فَكَانَ بَقَاؤُهَا بِالدَّلِيلِ لَا بِالِاسْتِصْحَابِ فَيَصْلُحُ حُجَّةً عَلَى الْغَيْرِ، ثُمَّ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ فِي مَحَلِّ النَّسْخِ أَنَّ الشِّرَاءَ يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ دُونَ الْبَقَاءِ. وَذَكَرَ هَاهُنَا أَنَّ الثَّابِتَ بِالشِّرَاءِ مِلْكٌ مُؤَبَّدٌ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الشِّرَاءَ يُوجِبُ الْبَقَاءَ كَمَا يُثْبِتُ أَصْلُ الْمِلْكِ، وَهَذَا يَتَرَاءَى تَنَاقُضًا وَالتَّقَصِّي عَنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: الشِّرَاءُ يُوجِبُ الْمِلْكَ دُونَ الْبَقَاءِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْمِلْكَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ لَكِنَّهُ يُوجِبُ الْبَقَاءَ عَلَى وَجْهٍ يَحْتَمِلُ طُرُوءَ انْقِطَاعٍ عَلَيْهِ فَثُبُوتُ بَقَاءِ الْمِلْكِ بِالشِّرَاءِ لَيْسَ كَثُبُوتِ الْمِلْكِ بِهِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الِانْتِقَاضَ، وَثُبُوتُ الْمِلْكِ لَا يَحْتَمِلُهُ. ثُمَّ بَيَّنَ الشَّيْخُ مَسْأَلَةً تُخَرَّجُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فَقَالَ وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِأَنَّ الِاسْتِصْحَابَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُلْزِمَةٍ عِنْدَنَا، وَهُوَ مُلْزِمَةٌ عِنْدَهُ قُلْنَا فِي رَجُلٍ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عَبْدٍ يَعْنِي عَبْدَ الْغَيْرِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ أَنَّهُ أَيْ الْعَقْدَ صَحِيحٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَائِعِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ حَتَّى كَانَ لَهُ وِلَايَةُ مُطَالَبَةِ الثَّمَنِ بِالِاتِّفَاقِ أَمَّا عِنْدَنَا فَلِمَا قُلْنَا يَعْنِي فِي مَوْضِعِهِ، أَوْ بَيَّنَّا فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ قَوْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ لَا يَعْدُو قَائِلَهُ أَيْ لَا يَتَجَاوَزُهُ أَمَّا الْبَائِعُ فَلِأَنَّهُ فِي قَوْلِهِ بِعْت هَذَا الْعَبْدَ مُسْتَصْحِبٌ لِلْمِلْكِ السَّابِقِ الثَّابِتِ لَهُ بِدَلِيلِهِ فَلَا يَصْلُحُ مُبْطِلًا لِزَعْمِ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ حُرٌّ. وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَلِأَنَّ قَوْلَهُ هُوَ حُرٌّ لَيْسَ بِمَبْنِيٍّ عَلَى دَلِيلٍ كَالِاسْتِصْحَابِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْبَائِعِ وَلَا يَصْلُحُ مُبْطِلًا لِكَلَامِهِ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ لَكَانَ قَوْلُهُ مُتَعَدِّيًا إلَى الْبَائِعِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَلَا يُقَالُ لَوْ جَازَ الْبَيْعُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْبَائِعِ أَنَّهُ عَبْدٌ مُتَعَدِّيًا إلَى الْمُشْتَرِي حَيْثُ نَفَذَ الْبَيْعُ فِي حَقِّهِ وَوَجَبَ الثَّمَنُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لَوْ جُعِلَ الْبَيْعُ مُنْعَقِدًا فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي، وَصَارَ الْعَبْدُ مِلْكًا لَهُ بِهَذَا الْعَقْدِ وَلَمْ يَجْعَلْ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْعَقْدَ لَيْسَ بِمُنْعَقِدٍ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي بَلْ هُوَ فِي حَقِّهِ فِدَاءٌ وَتَخْلِيصٌ لِلْعَبْدِ لِأَنَّ قَوْلَهُ حُجَّةً فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا إلَى الْبَائِعِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ فَإِنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ فِدَاءٌ عَنْ الْيَمِينِ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَعِوَضٌ عَنْ الْحَقِّ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي. ثُمَّ الْوَلَاءُ لَا يَثْبُتُ لِأَحَدٍ إنْ كَانَ فِي زَعْمِهِ أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ وَإِنْ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ حُرٌّ بِإِعْتَاقِ الْبَائِعِ فَالْوَلَاءُ مَوْقُوفٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْفِيهِ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ الْبَائِعَ يَقُولُ أَنَا مَا أَعْتَقْتُهُ بَلْ عَتَقَ بِإِقْرَارِ الْمُشْتَرِي فَلَهُ وَلَاؤُهُ وَالْمُشْتَرِي يَقُولُ بَلْ أَعْتَقَهُ الْبَائِعُ فَالْوَلَاءُ لَهُ فَيَتَوَقَّفُ وَلَاؤُهُ إلَى أَنْ يَرْجِعَ أَحَدُهُمَا إلَى تَصْدِيقِ صَاحِبِهِ فَيَكُونُ الْوَلَاءُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَا يَحْتَمِلُ الْقَبْضَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَلَا يَبْطُلُ بِالتَّكْذِيبِ أَصْلًا، وَلَكِنَّهُ يَبْقَى مَوْقُوفًا فَإِذَا صَدَّقَهُ ثَبَتَ مِنْهُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَعَلَى قَوْلِهِ أَيْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ قَوْلُ الْبَائِعِ يَعْنِي قَوْلُهُ بِعْت يَرْجِعُ إلَى مَا عُرِفَ بِدَلِيلِهِ، وَهُوَ الْمِلْكُ فَإِنَّ الْمِلْكَ لَمَّا ثَبَتَ بِدَلِيلِهِ مِنْ الشِّرَاءِ أَوْ الْهِبَةِ، أَوْ الْإِرْثِ أَوْ نَحْوِهَا يَبْقَى بِذَلِكَ الدَّلِيلِ فَيَصْلُحُ حُجَّةً عَلَى خَصْمِهِ، وَهُوَ الْمُشْتَرِي فَأَمَّا قَوْلُ الْمُشْتَرِي هُوَ حُرٌّ فَلَيْسَ يَرْجِعُ إلَى أَصْلٍ عُرِفَ بِدَلِيلِهِ إذْ لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ لِيَسْتَصْحِبَهُ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ فَلَمْ يَكُنْ حُجَّةً عَلَى خَصْمِهِ، وَهُوَ الْبَائِعُ وَذَكَرَ فِي الْوَسِيطِ لِلْغَزَالِيِّ لَوْ شَهِدَ بِحُرِّيَّةِ عَبْدِ غَيْرِهِ وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ، أَوْ لَمْ يَشْهَدْ مَعَهُ ثَانٍ فَلَمْ يَحْكُمْ بِهِ، ثُمَّ جَاءَ وَاشْتَرَاهُ صَحَّتْ الْمُعَامَلَةُ وَاخْتَلَفُوا فِي حَقِيقَتِهِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ بَيْعٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمَّا قَالَ اشْتَرَيْته مِنْك كَانَ مُقِرًّا لَهُ بِالْمِلْكِ، وَهُوَ

[الاحتجاج بتعارض الأشباه]

وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِتَعَارُضِ الْأَشْبَاهِ فَمِثْلُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ غَسْلَ الْمَرَافِقِ فِي الْوُضُوءِ لَيْسَ بِفَرْضٍ؛ لِأَنَّ مِنْ الْغَايَاتِ مَا يَدْخُلُ وَمِنْهَا مَا لَا يَدْخُلُ فَلَا يَدْخُلُ بِالشَّكِّ وَهَذَا عَمَلٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ لِأَنَّهُ أَمْرٌ حَادِثٌ فَلَا يَثْبُتُ بِغَيْرِ عِلَّةٍ وَلِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: أَتَعْلَمُ أَنَّ هَذَا مِنْ أَيِّ الْقِسْمَيْنِ؟ فَإِنْ قَالَ لَا أَدْرِي فَقَدْ جَهِلَ وَإِنْ قَالَ نَعَمْ لَزِمَهُ التَّأَمُّلُ وَالْعَمَلُ بِالدَّلِيلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQرُجُوعٌ عَنْ الشَّهَادَةِ السَّابِقَةِ فَقَدْ تَوَافَقَ الْمُتَعَاقِدَانِ عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ. وَلَا يَظْهَرُ حُكْمُ الشَّهَادَةِ فِي مُؤَاخَذَةِ الْمُشْتَرِي بِهِ بَعْدَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إنَّهُ مُفَادَاةٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَإِنَّ الْبَائِعَ لَمَّا عَرَفَ أَنَّ الْعَبْدَ حُرٌّ بَعْدَ الشِّرَاءِ كَانَ مَا يَأْخُذُهُ مَالُ فِدَاءٍ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ بَيْعٌ فِي حَقِّ الْبَائِعِ، وَفِدَاءٌ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي، وَهُوَ الصَّحِيحُ نَظَرًا فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ إلَى قَوْلِهِ فَلَا يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الْمَجْلِسِ وَالشَّرْطِ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ لَا يَشْتَرِيهِ لِيَمْلِكَهُ بَلْ لِيُخَلِّصَهُ عَنْ الرِّقِّ فَأَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ فَيُبْنَى عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ إنْ قُلْنَا هُوَ فِدَاءٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَلَا خِيَارَ لَهُ أَيْضًا وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ بَيْعٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، أَوْ مِنْ جَانِبِ الْبَائِعِ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ. [الِاحْتِجَاجُ بِتَعَارُضِ الْأَشْبَاهِ] قَوْلُهُ (وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِتَعَارُضِ الْأَشْبَاهِ) فَكَذَا الِاسْتِدْلَال بِتَعَارُضِ الِاشْتِبَاهِ، وَهُوَ إبْقَاءُ الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ بِنَاءً عَلَى تَعَارُضِ الْأَصْلَيْنِ اللَّذَيْنِ يُمْكِنُ إلْحَاقُهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ احْتِجَاجٌ بِلَا دَلِيلٍ وَذَلِكَ مِثْلُ زُفَرَ فِي غَسْلِ الْمَرَافِقِ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ فِي الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمَرَافِقَ غَايَةً لِغَسْلِ الْأَيْدِي بِقَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] وَمِنْ الْغَايَاتِ مَا يَدْخُلُ فِي الْمُغَيَّا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء: 1] فَإِنَّ الْمَسْجِدَ دَاخِلٌ فِي الْإِسْرَاءِ وَكَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَيْسَ فِيمَا زَادٌ عَلَى الْخُمُسِ شَيْءٌ إلَى التُّسْعِ» وَكَمَا يُقَالُ حَفِظْت الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ وَمِنْهَا مَا لَا يَدْخُلُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] . وَلِهَذِهِ الْغَايَةِ شَبَهٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقِسْمَيْنِ بِدُخُولِ حَرْفِ الْغَايَةِ عَلَيْهَا فَلِشَبَهِهَا بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ يَدْخُلُ فِي الْمُغَيَّا وَيَجِبُ الْغُسْلُ وَلِشَبَهِهَا بِالْقِسْمِ الثَّانِي لَا يَجِبُ وَلَيْسَ أَحَدُ الشَّبَهَيْنِ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ وَلَمْ يَكُنْ الْغُسْلُ وَاجِبًا فَلَا يَجِبُ بِالشَّكِّ وَهَذَا أَيْ الِاحْتِجَاجُ بِهَذَا الطَّرِيقِ عَمَلٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ لِأَنَّ مَا ادَّعَى مِنْ ثُبُوتِ الشَّكِّ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لَهُ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ حَادِثٌ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ وَلَمْ يُوجَدْ فَإِنْ قَالَ دَلِيلُهُ تَعَارُضُ الْأَشْبَاهِ قُلْنَا إنَّهُ أَمْرٌ حَادِثٌ أَيْضًا فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ فَإِنْ قَالَ دَلِيلُهُ دُخُولُ بَعْضِ الْغَايَاتِ فِي الْمُغَيَّا وَعَدَمُ دُخُولِ بَعْضِهَا فِيهِ كَمَا بَيَّنَّا فَحِينَئِذٍ نَقُولُ لَهُ: أَتَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْمُتَنَازَعَ فِيهِ مِنْ أَيِّ الْقِسْمَيْنِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قَالَ: أَعْلَمُ ذَلِكَ قُلْنَا إذًا لَا يَكُونُ فِيهِ شَكٌّ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ مَعَ الشَّكِّ لَا يَجْتَمِعَانِ لِتَنَافِيهِمَا بَلْ يَلْحَقُ بِمَا هُوَ مِنْ نَوْعِهِ بِدَلِيلِهِ وَإِنْ قَالَ لَا أَعْلَمُ فَقَدْ أَقَرَّ بِالْجَهْلِ وَأَنَّهُ لَا دَلِيلَ مَعَهُ، ثُمَّ إنْ كَانَ هَذَا مِمَّا يُمْكِنُ الْوُقُوفَ عَلَيْهِ بَعْدَ الطَّلَبِ كَانَ مَعْذُورًا فِي الْوُقُوفِ لَكِنَّ عُذْرَهُ لَا يَصِيرُ حُجَّةً لَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ عِنْدَهُ دَلِيلُ إلْحَاقِهِ بِأَحَدِ النَّوْعَيْنِ فَعَرَفْنَا أَنَّ حَاصِلَهُ احْتِجَاجٌ بِلَا دَلِيلٍ، وَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْأَشْبَاهَ مُتَعَارِضَةٌ وَأَنَّ تَعَارُضَهَا يُحْدِثُ الشَّكَّ لَكِنَّ أَثَرَ الشَّكِّ فِي التَّوَقُّفِ وَتَرْكَ الْمَيْلِ إلَى أَحَدِهِمَا مَا لَمْ يَقُلْ دَلِيلُ التَّرْجِيحِ لِأَحَدِهِمَا. أَمَّا الْحُكْمُ بِنَفْيِ وُجُوبِ الْغُسْلِ فَلَا هَذَا هُوَ التَّرْتِيبُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي التَّقْوِيمِ وَالْمِيزَانِ وَغَيْرِهِمَا إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ لَمْ يَذْكُرْ بَعْضَ الْمُقَدِّمَاتِ وَجَعَلَ الِاسْتِفْسَارَ دَلِيلًا آخَرَ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الشَّكَّ أَمْرٌ حَادِثٌ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ لَمْ يُوجَدْ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ ثَابِتٌ بِدَلِيلٍ، وَأَنَّ دَلِيلَهُ انْقِسَامُ الْغَايَاتِ إلَى قِسْمَيْنِ كَمَا أُشِيرَ إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ مِنْ الْغَايَاتِ مَا يَدْخُلُ وَمِنْهَا مَا لَا يَدْخُلُ فَلَا يَدْخُلُ بِالشَّكِّ يُقَالُ لَهُ الْقَلَمُ إلَى آخِرِهِ وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ فِي قَوْلِهِ الشَّكُّ أَمْرٌ حَادِثٌ فَلَا يَثْبُتُ بِغَيْرِ عِلَّةٍ أَنَّ كُلَّ حَادِثٍ يَفْتَقِرُ

وَأَمَّا الَّذِي لَا يَسْتَقِلُّ إلَّا بِوَصْفٍ يَقَعُ بِهِ الْفَرْقُ فَبَاطِلٌ مِثْلُ قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي مَسِّ الذَّكَرِ إنَّهُ حَدَثٌ لِأَنَّهُ مَسُّ الْفَرْجِ فَكَانَ حَدَثًا كَمَا إذَا مَسَّهُ، وَهُوَ يَبُولُ وَلَيْسَ هَذَا بِتَعْلِيلٍ لَا ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا وَلَا رُجُوعًا إلَى أَصْلٍ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ هَذَا مُكَاتَبٌ فَلَا يَصِحُّ التَّكْفِيرُ بِإِعْتَاقِهِ كَمَا إذَا أَدَّى بَعْضَ الْبَدَلِ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ بَعْضَ الْبَدَلِ عِوَضٌ مَانِعٌ عِنْدَنَا فَلَا يَبْقَى إلَّا الدَّعْوَى. وَأَمَّا الَّذِي يَكُونُ مُخْتَلِفًا فَمِثْلُ قَوْلِهِمْ فِيمَنْ مَلَكَ أَخَاهُ أَنَّهُ شَخْصٌ يَصِحُّ التَّكْفِيرُ بِإِعْتَاقِهِ فَلَا يُعْتَقُ فِي الْمِلْكِ كَابْنِ الْعَمِّ وَقَوْلُهُمْ فِي الْكِتَابَةِ الْحَالَّةِ إنَّهُ عَقْدُ كِتَابَةٍ لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّكْفِيرِ فَكَانَ فَاسِدًا كَالْكِتَابَةِ بِالْخَمْرِ وَهَذَا فِي نِهَايَةِ الْفَسَادِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ ظَاهِرٌ فَلَا يَبْقَى وَصْفٌ أَصْلًا. ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَى السَّبَبِ وَمَا قَالَهُ زُفَرُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلشَّكِّ؛ لِأَنَّ مَا دَخَلَ مِنْ الْغَايَاتِ فِي الْمُغَيَّا دَخَلَ بِدَلِيلٍ وَمَا لَمْ يَدْخُلْ لَمْ يَدْخُلْ بِدَلِيلٍ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَعَارُضًا فِي الْمُرْفَقِ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعْ دَلِيلُ الدُّخُولِ وَعَدَمُ الدُّخُولِ فِي نَفْسِ الْمُرْفَقِ وَمِنْ شَرْطِ التَّعَارُضِ اتِّحَادُ الْمَحَلِّ فَلَا يَكُونُ الدُّخُولُ فِي مَحَلٍّ وَعَدَمُ الدُّخُولِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ تَعَارُضًا فِيهِ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلشَّكِّ بِخِلَافِ سُؤْرِ الْحِمَارِ لِأَنَّ التَّعَارُضَ فِي الدَّلِيلَيْنِ ثَبَتَ فِي نَفْسِ السُّؤْرِ أَحَدُهُمَا يُوجِبُ نَجَاسَتَهُ وَالْآخَرُ يُوجِبُ طَهَارَتَهُ فَيَصْلُحُ سَبَبًا لِلشَّكِّ عِنْدَ تَعَذُّرِ التَّرْجِيحِ كَذَلِكَ هَاهُنَا. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الَّذِي لَا يَسْتَقِلُّ أَيْ الِاحْتِجَاجُ) بِالْوَصْفِ الَّذِي لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ بَلْ يَنْضَمُّ إلَيْهِ وَصْفٌ آخَرُ يَقَعُ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَقِيسِ وَالْمَقِيسِ عَلَيْهِ بَاطِلٌ مِثْلُ قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِمَّنْ لَمْ يَشَمَّ رَائِحَةَ الْفِقْهِ فِي مَسْأَلَةِ مَسِّ الذَّكَرِ: إنَّهُ حَدَثٌ؛ لِأَنَّهُ مَسُّ الْفَرْجَ فَكَانَ حَدَثًا كَمَا إذَا مَسَّهُ، وَهُوَ يَبُولُ فَهَذَا الْقِيَاسُ لَا يَسْتَقِيمُ إلَّا بِزِيَادَةِ وَصْفٍ فِي الْأَصْلِ بِهِ يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ وَبِهِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ وَقَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مَسَّ الْفَرْجَ مُتَعَلِّقٌ بِالْبَوْلِ وَمَعْمُولُهُ وَهَذَا أَيْ التَّعْلِيلُ بِمِثْلِ هَذَا الْوَصْفِ لَيْسَ بِتَعْلِيلٍ لَا ظَاهِرًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى مُوَافَقَةِ تَعْلِيلَاتِ السَّلَفِ وَلَا بَاطِنًا لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِمَسِّ الْفَرْجِ فِي انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِقَوْلِهِ لَا أُبَالِي أَمَسِسْت ذَكَرِي أَمْ أَنْفِي. وَقِيلَ لَا ظَاهِرًا أَيْ لَا قِيَاسًا جَلِيًّا وَلَا بَاطِنًا أَيْ لَا قِيَاسًا خَفِيًّا يَعْنِي لَيْسَ هَذَا بِقِيَاسٍ وَلَا اسْتِحْسَانٍ وَلَا رُجُوعًا إلَى أَصْلٍ أَيْ مَقِيسٍ عَلَيْهِ يَعْنِي هَذَا قِيَاسٌ بِلَا مَقِيسٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ مَسَّ الذَّكَرِ مَقِيسًا وَجَعَلَ مَسَّهُ مَعَ وَصْفٍ آخَرَ مَقِيسًا عَلَيْهِ مَعَ أَنَّ الْفَرْقَ بِهَذَا الْوَصْفِ يَقَعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ لِلِانْتِقَاضِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْفَرْعِ لَمْ يُعْتَبَرْ انْضِمَامُهُ إلَيْهِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا قِيَاسُ مَسِّ الذَّكَرِ عَلَى مَسِّ الذَّكَرِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِعَدَمِ الْأَصْلِ الَّذِي يُلْحِقُ الْفَرْعَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ أَيْ وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ فِي مَسِّ الذَّكَرِ قَوْلُهُمْ فِي عَدَمِ جَوَازِ إعْتَاقِ الْمُكَاتَبِ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا مِنْ بَدَلِ كِتَابَتِهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ هَذَا مُكَاتَبٌ فَلَا يَصِحُّ التَّكْفِيرُ بِإِعْتَاقِهِ كَمَا لَوْ أَدَّى بَعْضَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ثُمَّ أَعْتَقَهُ عَنْهَا؛ لِأَنَّ بِهَذَا الْوَصْفِ، وَهُوَ أَدَاءُ بَعْضِ الْبَدَلِ يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى مِنْ الْبَدَلِ يَكُونُ عِوَضًا، وَالْعِوَضُ فِي الْإِعْتَاقِ مَانِعٌ مِنْ جَوَازِ التَّكْفِيرِ وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَانِعُ فِي الْفَرْعِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا قَوْلُهُ لَا يَجُوزُ التَّكْفِيرُ بِتَحْرِيرِ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ مُكَاتَبٌ وَهُوَ دَعْوًى بِلَا دَلِيلٍ فَيَكُونُ بَاطِلًا. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الَّذِي يَكُونُ مُخْتَلِفًا) أَيْ الِاحْتِجَاجُ بِالْوَصْفِ الَّذِي يَكُونُ مُخْتَلِفًا فِيهِ فَكَذَلِكَ إذَا مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كَانَتْ الْقَرَابَةُ قَرَابَةَ وِلَادٍ أَوَلَمْ تَكُنْ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَخْتَصُّ هَذَا الْحُكْمُ بِقَرَابَةِ الْوِلَادِ فَلَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ فِي بَنِي الْأَعْمَامِ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ بِالْإِجْمَاعِ لِعَدَمِ الْوِلَادِ وَالْمَحْرَمِيَّةِ وَيَثْبُتُ فِي الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ بِالْإِجْمَاعِ لِوُجُودِ الْمَعْنَيَيْنِ وَتَثْبُتُ فِي الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ عِنْدَنَا لِوُجُودِ الْقَرَابَةِ الْمُحَرِّمَةِ لِلنِّكَاحِ وَلَا يَثْبُتُ عِنْدَهُ لِعَدَمِ الْوِلَادِ، ثُمَّ إنَّهُ إذَا اشْتَرَى قَرِيبَهُ الَّذِي يَعْتِقُ عَلَيْهِ مِثْلُ الْأَبِ وَالِابْنِ نَاوِيًا عَنْ الْكَفَّارَةِ يَصِحُّ وَيَخْرُجُ بِهِ عَنْ عُهْدَةِ الْكَفَّارَةِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا يَصِحُّ التَّكَفُّرُ بِهِ لِمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ فَإِذَا عَلَّلَ فِي أَنَّ الْأَخَ لَا يَعْتِقُ عَلَى أَخِيهِ بِالْمِلْكِ بِأَنَّهُ شَخْصٌ يَصِحُّ التَّكْفِيرُ بِإِعْتَاقِهِ فَلَا يَعْتِقُ بِالْمِلْكِ كَابْنِ الْعَمِّ وَعَكْسُهُ الْأَبُ كَانَ هَذَا تَعْلِيلًا بِوَصْفٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ اخْتِلَافًا ظَاهِرًا؛ لِأَنَّ عِتْقَ الْقَرِيبِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا عِنْدَ وُجُودِ الْمِلْكِ تَتَأَدَّى بِهِ

وَأَمَّا الَّذِي لَا يَشْكُلُ فَسَادُهُ فَمِثْلُ قَوْلِ بَعْضِهِمْ أَنَّ السَّبْعَ أَحَدُ عَدَدَيْ صَوْمِ الْمُتْعَةِ فَكَانَ شَرْطًا لِجَوَازِ الصَّلَاةِ كَالثَّلَاثِ يُرِيدُ بِهِ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ وَلِأَنَّ الثَّلَاثَ أَحَدُ عَدَدَيْ مُدَّةِ الْمَسْحِ فَلَا يَصِحُّ بِهِ الصَّلَاةُ كَالْوَاحِدِ وَلِأَنَّ الثَّلَاثَ أَوْ الْآيَةَ نَاقِصُ الْعَدَدِ عَنْ السَّبْعِ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الصَّلَاةُ كَالْوَاحِدِ وَلِأَنَّ الثَّلَاثَ، أَوْ الْآيَةَ نَاقِصُ الْعَدَدِ عَنْ السَّبْعِ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الصَّلَاةُ كَمَا دُونَ الْآيَةِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ لَهَا تَحْلِيلٌ وَتَحْرِيمٌ فَكَانَ مِنْ أَرْكَانِهَا مَا لَهُ عَدَدُ سَبْعَةٍ كَالْحَجِّ وَكَمَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّ فَرْضَ الْوُضُوءِ فِعْلٌ يُقَامُ فِي أَعْضَائِهِ فَلَمْ تَكُنْ النِّيَّةُ شَرْطًا فِي أَدَائِهِ قِيَاسًا عَلَى الْقَطْعِ قِصَاصًا أَوْ سَرِقَةً، وَهَذَا مِمَّا لَا يَخْفَى فَسَادُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا كَمَا إذَا اشْتَرَى أَبَاهُ بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْعِتْقِ فِي الْمِلْكِ صِلَةٌ لِلْقَرِيبِ يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّرْفِ إلَى الْكَفَّارَةِ لِيُمْكِنَهُ الِاسْتِدْلَال بِجَوَازِ الصَّرْفِ إلَى الْكَفَّارَةِ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الْعِتْقِ فِي الْمِلْكِ فَقَبْلَ إقَامَةِ الدَّلِيلِ وَمُسَاعِدَةِ الْخَصْمِ إيَّاهُ فِي ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْوَصْفُ مُعْتَبَرًا فَكَانَ هَذَا تَعْلِيلًا بِلَا وَصْفٍ فِي الْحَقِيقَةِ فَكَانَ بَاطِلًا. وَكَذَا تَعْلِيلُهُمْ لِبُطْلَانِ الْكِتَابَةِ الْحَالَّةِ بِأَنَّهُ أَيْ هَذَا الْعَقْدَ عَقْدُ كِتَابَةٍ لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّكْفِيرِ فَكَانَ فَاسِدًا كَالْكِتَابَةِ بِالْخَمْرِ تَعْلِيلٌ بِوَصْفٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ اخْتِلَافًا ظَاهِرًا؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْإِعْتَاقِ عَنْ الْكَفَّارَةِ عِنْدَنَا حَالَّةً كَانَتْ، أَوْ مُؤَجَّلَةً فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ الصَّحِيحَةَ يَمْنَعُ جَوَازَ الْإِعْتَاقِ عَنْ الْكَفَّارَةِ لِيَصِحَّ لَهُ الِاسْتِدْلَال بِجَوَازِ الْإِعْتَاقِ عَنْ الْكَفَّارَةِ عَلَى فَسَادِ الْكِتَابَةِ فَقَبْلَ إقَامَةِ الدَّلِيلِ وَإِلْزَامِ الْخَصْمِ كَانَ الِاسْتِدْلَال بِهِ فَاسِدًا وَذُكِرَ وَجْهٌ آخَرُ فِي أَنَّ التَّكْفِيرَ بِإِعْتَاقِ الْأَخِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَهُوَ أَنَّ صِحَّةَ التَّكْفِيرِ بِإِعْتَاقِ الْأَخِ عِنْدَنَا لَيْسَ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فَإِنَّ عِنْدَهُ إنَّمَا يَصِحُّ التَّكْفِيرُ بِإِعْتَاقٍ قَصْدِيٍّ يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الْمِلْكِ كَمَا فِي الْعَبْدِ الْأَجْنَبِيِّ إذْ الْأَخُ لَا يُعْتَقُ بِالْمِلْكِ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا يَصِحُّ التَّكْفِيرُ بِإِعْتَاقٍ مُقَارِنٍ لِلْمِلْكِ يَثْبُتُ فِي ضِمْنِ الشِّرَاءِ بِنِيَّةِ التَّكْفِيرِ وَلَا مَدْخَلَ لِلْإِعْتَاقِ الْقَصْدِ فِي حَقِّهِ فَكَانَ هَذَا وَصْفًا مُخْتَلَفًا فِيهِ فَلَمْ يَصِحَّ التَّعْلِيلُ بِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الَّذِي لَا يَشْكُلُ فَسَادُهُ، أَوْ لَا يَشُكُّ فِي فَسَادِهِ فَمِثْلُ قَوْلِهِمْ إنَّ السَّبْعَ) إلَى آخَرِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَمِثْلُ قَوْلِهِ مَنْ قَالَ فِي مَنْعِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِغَيْرِ الْمَاءِ: مَائِعٌ لَا يُبْنَى عَلَى جِنْسِهِ الْقَنْطَرَةُ وَلَا يُصْطَادُ فِيهِ السَّمَكُ فَأَشْبَهَ الدُّهْنَ وَالْمَرَقَ وَمِثْلُ قَوْلِ مَنْ قَالَ فِي الْقَهْقَهَةِ اصْطِكَاكُ أَجْرَامٌ عُلْوِيَّةٌ فَلَا يُنْتَقَضُ بِهِ الطَّهَارَةُ كَالرَّعْدِ وَمِثْلُ قَوْلِهِ مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي مَسِّ الذَّكَرِ: إنَّهُ مَسُّ آلَةِ الْحَرْثِ فَأَشْبَهَ مَسَّ الْفَدَّانِ، وَقَالَ طَوِيلٌ مَشْقُوقٌ فَمَسُّهُ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ كَمَسِّ الْقَلَمِ. وَفِي قَوْلِهِمْ إنَّ السَّبْعَ كَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رِعَايَةِ هَذَا الْعَدَدِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ حَتَّى قَالُوا: قِرَاءَةُ فَاتِحَةٍ رُكْنٌ لِلْمُنْفَرِدِ وَلِلْإِمَامِ وَلِلْقَوْمِ وَعَلَى الْعَاجِزِ عَنْ الْفَاتِحَةِ أَنْ يَقْرَأَ سَبْعَ آيَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ مُتَوَالِيَةٍ فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ سَبَّحَ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ بِقَدْرِ الْفَاتِحَةِ كَذَا فِي الْمَخْضِ، وَهَذَا أَيْ هَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّعْلِيلِ مِمَّا لَا يَخْفَى فَسَادُهُ عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى فَطَانَةٍ فَإِنَّهُ لَا مُشَابَهَةَ وَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ غَسْلِ أَعْضَاءٍ فِي الطَّهَارَةِ وَالْقَطْعِ فِي الْقِصَاصِ أَوْ السَّرِقَةِ وَلَا بَيْنَ مُدَّةِ الْمَسْحِ وَالْقِرَاءَةِ وَلَا بَيْنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَكَذَا الْبَوَاقِي فَضْلًا مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَعْنًى مُؤَثِّرٌ وَلَمْ يُنْقَلُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ عَنْ السَّلَفِ، وَإِنَّمَا أَحْدَثَهُ بَعْضُ الْجُهَّالِ مُمْكِنٌ بَعِيدًا عَنْ طَرِيقِ الْفُقَهَاءِ فَالِاشْتِغَالُ بِأَمْثَالِهِ هَزْلُ لَعِبٍ بِالدِّينِ قَالَ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا النَّوْعِ: سَائِرُ أَنْوَاعِ الْأَقْيِسَةِ الطَّرْدِيَّةِ الْفَاسِدَةِ وَعِنْدِي أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِأَمْثَالِ هَذَا تَضْيِيعُ الْوَقْتِ الْعَزِيزِ وَإِهْمَالُ الْعُمُرِ النَّفِيسِ، وَمِثْلُ هَذِهِ التَّعْلِيلَاتِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُعْتَصِمَ الْعِبَادِ وَالْأَحْكَامِ وَلَا مَنَاطَ شَرَائِعِ هَذَا الدِّينِ الرَّفِيعِ بَلْ هِيَ صَدٌّ لِلْمُبْتَدِئِينَ عَنْ سَبِيلِ الرُّشْدِ وَمَسَالِكِ الْحَقِّ وَقَدْ كَانَتْ هَذَا الْأَنْوَاعُ مَسْلُوكًا طَرِيقَهَا مِنْ قَبْلُ يَجْرِي النُّظَّارُ عَلَى سُنَّتِهَا وَيُنَاطِحُونَ عَلَيْهَا غَيْرَ أَنَّ زَمَانَنَا هَذَا قَدْ غَلَبَ فِيهِ مَعَانِي الْفِقْهِ قَدْ جَرَى الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى مَسْلَكٍ وَاحِدٍ يَطْلُبُونَ الْفِقْهَ الْمَحْضَ وَالْحَقَّ الصَّرِيحَ وَقَدْ تَنَاهَتْ مَعَانِي الْفِقْهِ إلَى نِهَايَةٍ قَارَبَتْ فِي الْوُضُوحِ الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي يُورِدُهَا الْمُتَكَلِّمُونَ

[الاحتجاج بلا دليل]

وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِلَا دَلِيلٍ فَقَدْ جَعَلَهُ بَعْضُهُمْ حُجَّةً لِلنَّافِي، وَهَذَا بَاطِلٌ بِلَا شُبْهَةٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي أُصُولِ الدِّينِ فَالنُّزُولُ عَنْ تِلْكَ الْمَعَانِي إلَى مِثْلِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ زَلَّةٌ فِي الدِّينِ وَضَلَّةٌ فِي الْعَقْلِ وَاَللَّهُ الْعَاصِمُ بِمَنِّهِ. [الِاحْتِجَاجُ بِلَا دَلِيلٍ] قَوْلُهُ (وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِلَا دَلِيلٍ) آخِرُهُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُطْلَبُ الدَّلِيلُ مِمَّنْ قَالَ لَا أَعْلَمُ أَنَّ لِلَّهِ حُكْمًا فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ؛ لِأَنَّ مَنْ جَهِلَ أَمْرًا كَانَ جَاهِلًا بِدَلِيلِهِ فَإِذَا أَقَرَّ بِهِ كَانَ طَلَبُ الدَّلِيلِ مِنْهُ سَفَهًا فَأَمَّا إذَا اعْتَقَدَ وَقَالَ أَعْلَمُ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ مِنْ وُجُوبِ فِعْلٍ، أَوْ تَرْكِهِ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ لَيْسَ عَلَى الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ زَكَاةٌ وَيَدَّعِي ذَلِكَ مَذْهَبًا وَيَدْعُو غَيْرَهُ إلَيْهِ فَهَلْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ إذَا طَالَبَ الْخَصْمَ فِي الْمُنَاظَرَةِ بِدَلِيلِ النَّفْيِ، أَوْ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْتَقِدَ نَفْيَ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِلَا دَلِيلٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْمُنَاظَرَةِ قَالَ أَصْحَابُ الظَّاهِرِ لَا دَلِيلَ عَلَى مُعْتَقِدِ النَّفْيِ لَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَا عِنْدَ مُطَالَبَةِ الْخَصْمِ فِي الْمُنَاظَرَةِ بَلْ يَكْفِيهِ التَّمَسُّكُ بِلَا دَلِيلٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فَقَدْ جَعَلَهُ بَعْضُهُمْ حُجَّةً لِلنَّافِي يَعْنِي لَيْسَ عَلَيْهِ إقَامَةُ دَلِيلٍ بَلْ تَمَسُّكُهُ بِلَا دَلِيلٍ حُجَّةٌ لَهُ عَلَى خَصْمِهِ وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: يَجِبُ عَلَى النَّافِي إقَامَةُ الدَّلِيلِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ دُونَ الشَّرْعِيَّاتِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا دَلِيلَ حُجَّةٍ دَافِعَةٍ لَا مُوجِبَةٍ. وَاَلَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ مَسَائِلُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ حُجَّةٌ لِإِبْقَاءِ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلِهِ لَا لِإِثْبَاتِ مَا لَمْ يُعْلَمْ ثُبُوتُهُ بِدَلِيلِهِ هَكَذَا ذُكِرَ فِي التَّقْوِيمِ وَأُصُولِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَأَنْكَرَ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ هَذَا مَذْهَبًا لِلشَّافِعِيِّ فَقَالَ: وَاَلَّذِي ادَّعَاهُ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ عَلَى الشَّافِعِيِّ مِنْ مَذْهَبِهِ فِيمَا قَالَهُ لَا نَدْرِي كَيْفَ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ؟ وَالْمَنْقُولُ مِنْ الْأَصْحَابِ مَا بَيَّنَّا أَنَّ النَّافِيَ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ مِثْلُ الْمُثْبِتِ وَعِنْدَنَا لَا دَلِيلَ لَا يَكُونُ حُجَّةً لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فِي الدَّفْعِ وَلَا فِي الْإِيجَابِ لَا فِي الْإِبْقَاءِ فِي الْإِثْبَاتِ ابْتِدَاءً وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى النَّافِي - الدَّلِيلُ عِنْدَ الْعَامَّةِ كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُثْبِتِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَقِدَ الْإِنْسَانُ نَفْيَ حُكْمٍ وَلَا أَنْ يُنَاظِرَ غَيْرَهُ فِيهِ وَيَدْعُوهُ إلَى مُعْتَقَدِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ تَمَسَّكَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ} [الأنعام: 145] الْآيَةَ فَإِنَّهُ تَعَالَى عَلَّمَ نَبِيَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الِاحْتِجَاجَ بِلَا دَلِيلٍ لِانْتِفَاءِ الْحُرْمَةِ عَنْ غَيْرِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَبِالْمَعْقُولِ، وَهُوَ أَنَّ النَّافِيَ مُتَمَسِّكٌ بِالظَّاهِرِ إذْ الْأَصْلُ عَدَمُ ثُبُوتِ الْأَحْكَامِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ لِأَنَّ الْمُعْتَادَ الْمَعْرُوفَ مِنْ أَحْوَالِ الشَّرْعِ أَنَّ إقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ يَدَّعِي أَمْرًا عَارِضًا لَا عَلَى مَنْ تَمَسَّكَ بِالظَّاهِرِ فَإِنَّ مَنْ تَمَسَّكَ بِعَامٍّ أَوْ بِحَقِيقَةٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ عَلَى عُمُومِهِ أَوْ حَقِيقَتِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي صِيغَةِ الْعَامِّ هُوَ الْعُمُومُ وَفِي الْكَلَامِ هُوَ الْحَقِيقَةُ بَلْ الدَّلِيلُ عَلَى مَنْ يَدَّعِي الْخُصُوصَ أَوْ الْمَجَازَ. وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الدَّعْوَى قَوْلُ الْمُنْكِرِ وَإِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي لِأَنَّ الْمُنْكِرَ، وَهُوَ الْمُتَمَسِّكُ بِالْأَصْلِ بِالظَّاهِرِ وَالْمُدَّعِيَ يَدَّعِي أَمْرًا عَارِضًا فَكَذَا النَّافِي مُتَمَسِّكٌ بِالظَّاهِرِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ بِخِلَافِ الْمُثْبِتِ فَإِنَّهُ يَدَّعِي أَمْرًا عَارِضًا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ إقَامِهِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ أَقْوَى الْخُصُومَاتِ الْخُصُومَةُ فِي النُّبُوَّةِ، وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ مُثْبِتًا وَالْقَوْمُ نُفَاةِ وَكَانُوا لَا يُطَالِبُونَ بِحُجَّةٍ سِوَى أَنْ لَا دَلِيلَ عَلَى النُّبُوَّةِ. وَلَا مَعْنًى قَوْلِنَا لَا دَلِيلَ عَلَى النَّافِي لَا دَلِيلَ عَلَى الْمُتَمَسِّكِ بِالْعَدَمِ؛ لِأَنَّ الْعَدَمَ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَالدَّلِيلُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِشَيْءِ، وَهُوَ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْعَدَمُ شَيْئًا لَمْ يَحْتَجْ الْمُتَمَسِّكُ بِهِ إلَى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَتَمَسَّكَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْعَقْلِيَّاتِ وَالشَّرْعِيَّاتِ بِأَنَّ مُدَّعِيَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ يَدَّعِي حَقِيقَةَ الْوُجُودِ أَوْ الْعَدَمِ فَيُطَالَبُ بِالدَّلِيلِ فَأَمَّا فِي الشَّرْعِيَّاتِ فَمُدَّعِي الْإِثْبَاتِ يَدَّعِي حُكْمًا شَرْعِيًّا مِنْ الْوُجُوبِ أَوْ الْإِبَاحَةِ، أَوْ النَّدْبِ أَوْ نَحْوَهَا فَيُطَالَبُ بِالدَّلِيلِ

لِأَنَّ لَا دَلِيلَ بِمَنْزِلَةِ لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ، وَهَذَا لَا يَحْتَمِلُ وُجُودَهُ فَلَا دَلِيلَ كَيْفَ اُحْتُمِلَ وُجُودٌ وَكَيْف صَارَ دَلِيلًا ـــــــــــــــــــــــــــــQلَكِنَّ النَّافِيَ يُنْكِرُ وُجُودَهُ وَيَدَّعِي انْتِفَاءَهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَلَا يُطَالَبُ بِالدَّلِيلِ وَاحْتَجَّ الْفَرِيقُ الثَّالِثُ بِأَنَّ الْعَدَمَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ دَلِيلُ الْوُجُودِ وَالْخَصْمُ إذَا ادَّعَى دَلِيلَ الْوُجُودِ لَا يَكُونُ الْعَدَمُ حُجَّةً عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعَدَمَ احْتِمَالُ التَّغْيِيرِ بِدَلِيلِهِ، وَهُوَ مُدَّعِيهِ، وَقَوْلُ الْآخَرِ عِنْدِي دَلِيلُهُ مُحْتَمِلٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْخَصْمِ فَبَقِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْتَمِلًا فَجُعِلَ حُجَّةً فِي حَقِّ نَفْسِهِ دُونَ صَاحِبِهِ وَوَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنْ لَا دَلِيلَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ إلَّا أَنَّ الْعَدَمَ إذَا كَانَ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ يَبْقَى إلَى أَنْ يُوجَدُ الْمُغَيِّرُ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْعَدَمِ يُوجِبُ بَقَاءَ الْعَدَمِ إلَى أَنْ يَعْتَرِيَهُ الزَّوَالُ فَكَانَ قَوْلُهُ لَا دَلِيلَ احْتِجَاجًا بِذَلِكَ الدَّلِيلِ وَذَلِكَ الدَّلِيلُ حُجَّةٌ عَلَى خَصْمِهِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَسْتَنِدْ إلَى دَلِيلٍ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ لَا دَلِيلَ. وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ النَّصُّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [البقرة: 111] أَخْبَرَ عَنْ الْيَهُودِ الَّذِينَ نَفَوْا دُخُولَ الْمُسْلِمِينَ الْجَنَّةَ وَأَثْبَتُوا دُخُولَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِيهَا ثُمَّ أَمَرَ نَبِيَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِطَلَبِ الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ جَمِيعًا فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلنَّفْيِ مِنْ الْحُجَّةِ وَبِالْمَعْقُولِ، وَهُوَ أَنَّ نَفْيَ كَوْنِ الشَّيْءِ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا، أَوْ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ كَالْإِثْبَاتِ فَإِنَّ انْتِفَاءَ وُجُوبِ صَوْمِ شَوَّالٍ وَصَلَاةِ الضُّحَى مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ كَوُجُوبِ رَمَضَانَ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ وَانْتِفَاءِ الْحِلِّ عَنْ الْخَمْرِ حُكْمُ الشَّرْعِ كَثُبُوتِ الْحِلِّ فِي الْخَلِّ، وَالْأَحْكَامُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِأَدِلَّتِهَا فَمَنْ ادَّعَى فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ حُكْمًا مِنْ إثْبَاتٍ، أَوْ نَفْيٍ فَعَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلِيلِ وَلَا دَلِيلَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا؛ لِأَنَّهُ نَفْيٌ لِلدَّلِيلِ وَنَفْيُ الشَّيْءِ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ إثْبَاتَ ذَلِكَ الشَّيْءِ كَقَوْلِ الْإِنْسَانِ لَا بَيْعَ لَيْسَ بِبَيْعٍ وَلَا زَيْدَ لَيْسَ بِزَيْدٍ فَكَانَ التَّمَسُّكُ بِالنَّفْيِ تَمَسُّكًا بِعَدَمِ الدَّلِيلِ، وَعَدَمُ الدَّلِيلِ لَا يَكُونُ دَلِيلًا فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ لَا دَلِيلَ نَفْيٍ لِلدَّلِيلِ الْمُثْبِتِ فَيَكُونُ انْتِفَاؤُهُ دَلِيلًا عَلَى النَّفْيِ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ قُلْنَا: إنَّمَا يَكُونُ دَلِيلًا إذَا كَانَ النَّافِي مِمَّنْ لَهُ عِلْمٌ بِجَمِيعِ الْأَدِلَّةِ فَأَمَّا مِمَّنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِذَلِكَ فَهُوَ جَهْلٌ بِالدَّلِيلِ لَا عِلْمَ بِانْتِفَاءِ الدَّلِيلِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْغَيْرِ وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّهُ يُقَالُ لِلنَّافِي مَا ادَّعَيْت نَفْيَهُ عَرَفْت انْتِفَاهُ بِيَقِينٍ، أَوْ أَنْتَ شَاكٌّ فِيهِ فَإِنْ أَقَرَّ بِالشَّكِّ فَلَا تُطَالِبُ بِالدَّلِيلِ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِالْجَهْلِ عَلَى مَا قُلْنَا. وَإِنْ قَالَ أَتَيَقَّنُ بِالنَّفْيِ فَيُقَالُ بِعَيْنِك هَذَا حَصَلَ عَنْ ضَرُورَةٍ، أَوْ غَيْرِهَا وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ عَنْ ضَرُورَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَنْ ضَرُورَةٍ لَشَارَكَهُ جَمِيعُ الْعُقَلَاءِ فِيهِ لِعَدَمِ اخْتِصَاصِ الضَّرُورِيَّاتِ بِأَحَدٍ وَلَمْ يَحْصُلْ لَنَا الْعِلْمُ بِانْتِفَائِهِ ضَرُورَةً وَلَمَّا لَمْ يَعْرِفْهُ عَنْ ضَرُورَةٍ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَدَّعِيَ الْمَعْرِفَةَ عَنْ تَقْلِيدٍ، أَوْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ وَالتَّعْلِيلُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ فَإِنَّ الْخَطَأَ جَائِزٌ عَلَى الْمُقَلِّدِ وَالْمُقَلِّدُ مُعْتَرِفٌ بِعَمَى نَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَدَّعِي الْبَصِيرَةَ لِغَيْرِهِ وَإِنْ ادَّعَى الْمَعْرِفَةَ عَنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ نَفْيُ الْحُكْمِ بِدَلِيلٍ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيَلْزَمُ عَلَى إسْقَاطِ الدَّلِيلِ عَنْ النَّافِي أَمْرَانِ شَنِيعَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يَجِبَ الدَّلِيلُ عَلَى نَافِي حَدَثِ الْعَالَمِ وَنَافِي الصَّانِعِ وَنَافِي النُّبُوَّاتِ وَنَافِي تَحْرِيمِ الزِّنَا وَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَنِكَاحِ الْمَحَارِمِ، وَهُوَ مُحَالٌ وَالثَّانِي أَنَّ الدَّلِيلَ إذَا سَقَطَ عَنْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَعْجِزْ أَنْ يُعَبِّرَ الْمُثْبِتُ عَنْ مَقْصُودِ إثْبَاتِهِ بِالنَّفْيِ فَيَقُولُ بَدَلَ قَوْلِهِ مُحْدَثٌ إنَّهُ لَيْسَ بِقَدِيمٍ وَبَدَلَ قَوْلِهِ قَادِرٌ إنَّهُ

وَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْعَنْبَرِ أَنَّهُ لَا خُمُسَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ الْأَثَرُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ السَّمَكِ وَالسَّمَكُ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ وَلَا خُمُسَ فِي الْمَاءِ يَعْنِي أَنَّ الْقِيَاسَ يَنْفِيهِ وَلَمْ يَرِدْ أَثَرٌ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ أَيْضًا فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ الْخُمُسُ إلَّا فِي الْغَنِيمَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ وَلِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِلَا شُبْهَةٍ فَقَوْلُ الْقَائِلِ لَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ مَعَ احْتِمَالِ قُصُورِهِ عَنْ غَيْرِهِ فِي دَرْكِ الدَّلِيلِ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً، وَلِهَذَا صَحَّ هَذَا النَّوْعُ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الشَّارِعُ فَشَهَادَتُهُ بِالْعَدَمِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى عَدَمِهِ إذَا لَا يَجْرِي عَلَيْهِ السَّهْوُ وَلَا يُوصَفُ بِالْعَجْزِ فَأَمَّا الْبَشَرُ فَإِنَّ صِفَةَ الْعَجْزِ يُلَازِمُهُمْ، وَالسَّهْوُ يَعْتَرِيهِمْ وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهُ يَعْرِفُ كُلَّ شَيْءٍ نُسِبَ إلَى السَّفَهِ أَوْ الْعَتَهِ فَلَمْ يُنَاظَرْ وَمَنْ شَرَعَ فِي الْعَمَلِ بِلَا دَلِيلٍ اُضْطُرَّ إلَى التَّقْلِيدِ الَّذِي هُوَ بَاطِلٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQلَيْسَ بِعَاجِزٍ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ قَوْلَهُ. (وَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ يَعْنِي) لَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ بُطْلَانِ الِاحْتِجَاجِ بِلَا دَلِيلٍ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ حَاكِيًا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا خُمُسَ فِي الْعَنْبَرِ؛ لِأَنَّ الْأَثَرَ لَمْ يَرِدْ بِهِ فَإِنَّهُ تَمَسَّكَ بِلَا دَلِيلٍ لِنَفْيِ الْخُمُسِ وَقَوْلُهُ لِأَنَّهُ ذَكَرَ جَوَابَ السُّؤَالِ أَيْ لَمْ يَكْتَفِ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ بَلْ ذَكَرَ أَيْضًا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ السَّمَكِ حَيْثُ قَالَ حَاكِيًا عَنْهُ: لَا خُمُسَ فِي الْعَنْبَرِ قُلْت لِمَ قَالَ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ السَّمَكِ قُلْت وَمَا بَالُ السَّمَكِ لَا يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ قَالَ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ. وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى قِيَاسٍ مُؤَثِّرٍ لِأَنَّا أَخَذْنَا خُمُسَ الْمَعَادِنِ مِنْ خُمُسِ الْغَنَائِمِ، وَإِنَّمَا نُوجِبُ الْخُمُسَ فِيمَا يُصَابُ مِنْ الْمَعَادِنِ إذَا كَانَ أَصْلُهُ فِي يَدِ الْعَدُوِّ، ثُمَّ وَقَعَ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْغَنِيمَةِ وَالْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْبَحْرِ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ الْعَدُوِّ لِأَنَّ قَهْرَ الْمَاءِ يَمْنَعُ قَهْرَ آخَرَ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَكَانَ الْقِيَاسُ نَافِيًا وُجُوبَ الْخُمُسِ فِيهِ وَلَمْ يَرِدْ أَثَرٌ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ يَعْمَلُ بِهِ وَيَتْرُكُ بِهِ الْقِيَاسَ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ فَكَانَ مَا ذَكَرَهُ إشَارَةٌ إلَى الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ لَا احْتِجَاجًا بِلَا دَلِيلٍ ثُمَّ أَقَامَ الشَّيْخُ دَلِيلًا آخَرَ وَأَجَابَ عَنْ تَمَسُّكِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ بِالنَّصِّ فَقَالَ: وَلِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْعِلْمِ بِالْأَدِلَّةِ وَمَعْرِفَةِ الْحِجَجِ تَفَاوُتًا لَا سَبِيلَ إلَى إنْكَارِهِ؛ لِأَنَّهُ شَبَهُ الْمَحْسُوسِ لِمَنْ يَرْجِعُ إلَى أَحْوَالٍ فَإِنَّ بَعْضَهُمْ يَقِفُ عَلَى مَا لَا يَقِفُ عَلَيْهِ الْبَعْضُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْلِهِ {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] فَمَعَ هَذَا التَّفَاوُتِ وَاحْتِمَالِ قُصُورِ النَّافِي عَنْ غَيْرِهِ فِي دَرْكِ الدَّلِيلِ لَا يَكُونُ تَمَسُّكُهُ بِلَا دَلِيلٍ حُجَّةً عَلَى الْغَيْرِ؛ وَلِهَذَا أَيْ وَلِأَنَّ فَسَادَ الِاحْتِجَاجِ بِلَا دَلِيلٍ لِاحْتِمَالِ الْقُصُورِ عَنْ الْغَيْرِ فِي دَرْكِ الْأَدِلَّةِ صَحَّ هَذَا النَّوْعُ أَيْ الِاحْتِجَاجُ بِلَا دَلِيلٍ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ لِأَنَّهُ هُوَ الشَّارِعُ لِلْأَحْكَامِ وَالْوَاضِعُ لِلدَّلَائِلِ فَكَانَتْ شَهَادَتُهُ بِالْعَدَمِ دَلِيلًا قَاطِعًا عَلَى الْعَدَمِ وَمَنْ شَرَعَ فِي الْعَمَلِ أَيْ احْتَجَّ بِلَا دَلِيلٍ وَفَتَحَ بَابَهُ اُضْطُرَّ إلَى التَّقْلِيدِ الَّذِي هُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَحْتَجُّ بِهِ لِعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِالْمُوجِبِ لَا لِحُصُولِ الْمَعْرِفَةِ بِالنَّفْيِ عَنْ سَبَبٍ وَلَمَّا لَمْ يَحْصُلْ مَعْرِفَتِهِ بِالنَّفْيِ عَنْ صُورَةٍ وَلَا عَنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ لِمَا بَيَّنَّا كَانَتْ حَاصِلَةً بِالتَّقْلِيدِ، أَوْ لَيْسَ بَعْدَ الِاسْتِدْلَالِ شَيْءٌ سِوَى التَّقْلِيدِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ وَمَنْ شَرَعَ أَيْ جَوَّزَ الْعَمَلَ بِلَا دَلِيلٍ. اُضْطُرَّ إلَى التَّقْلِيدِ أَيْ إلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ التَّقْلِيدِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَقْسَامِ الْعَمَلِ بِلَا دَلِيلٍ، وَالتَّقْلِيدُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ اتِّبَاعُ الرَّجُلِ غَيْرَهُ عَلَى مَا يَسْمَعُهُ وَيَرَاهُ بِفِعْلِهِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ مُحِقٌّ بِلَا نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ وَتَأَمُّلٍ وَتَمْيِيزٍ بَيْنَ كَوْنِهِ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا عَلَى احْتِمَالِ كَوْنِهِ حَقًّا وَبَاطِلًا كَذَا فِي التَّقْوِيمِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ بَاطِلٌ، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ لِأَنَّهُ فِعْلُ غَيْرِهِ وَقَوْلُهُ مُحْتَمَلٌ لِلصَّوَابِ وَالْخَطَأِ وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا وَحُجَّةً وَلِهَذَا رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْكَفَرَةِ احْتِجَاجَهُمْ بِاتِّبَاعِ الْآبَاءِ بِنَفْسِ الرُّؤْيَةِ وَالسَّمَاعِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ وَلَيْسَ اتِّبَاعُ الْأُمَّةِ صَاحِبَ الْوَحْيِ وَلَا رُجُوعَ الْعَامِّيِّ إلَى قَوْلِ الْمُفْتِي وَلَا الْقَاضِي إلَى قَوْلِ الْعُدُولِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ؛ لِأَنَّ التَّمْيِيزَ بَيْنَ النَّبِيِّ وَغَيْرِهِ لَا يَقَعُ إلَّا بِالِاسْتِدْلَالِ وَقِيَامِ الْمُعْجِزَةِ فَوَجَبَ تَصْدِيقُهُ. وَكَذَا وَجَبَ قَبُولُ الْإِجْمَاعِ بِقَوْلِ الرَّسُولِ وَوَجَبَ قَبُولُ الْمُفْتِي وَالشَّاهِدَيْنِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا تَقْلِيدًا؛ لِأَنَّ شَرْطَهُ عَدَمُ الْحُجَّةِ وَقَدْ قَامَتْ الْحُجَّةُ وَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ تَمَسُّكَهُمْ بِأَنْ لَا دَلِيلَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نَافٍ، وَإِنَّمَا الدَّلِيلُ عَلَى الْمُدَّعِي

[باب حكم العلة]

بَابُ حُكْمِ الْعِلَّةِ) : فَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِتَعْلِيلِ النُّصُوصِ فَتَعْدِيَةُ حُكْمِ النَّصِّ إلَى مَا لَا نَصَّ فِيهِ لِيَثْبُتَ بِغَالِبِ الرَّأْيِ عَلَى احْتِمَالِ الْخَطَأِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ التَّعْدِيَةَ حُكْمٌ لَازِمٌ عِنْدَنَا جَائِزٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِأَنَّهُ مُثْبَتٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ الْيَمِينَ عَلَى الْمُنْكِرِ كَمَا أَوْجَبَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي إلَّا أَنَّهُ جَعَلَ الْبَيِّنَةَ حُجَّةَ الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ حُجَّةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى النَّفْيِ بَلْ يَسْتَحِيلُ فَلَمْ يُكَلِّفْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَى مَا يَسْتَحِيلُ إقَامَتُهَا عَلَيْهِ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعَضِّدَ جَانِبَهُ بِالْيَمِينِ كَمَا أَلْزَمَ الْمُدَّعِي أَنْ يُنَوِّرَ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ وَقَوْلُهُمْ النَّفْيُ لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَلَا يُطْلَبُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ فَاسِدٌ أَيْضًا لِأَنَّ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ لَا حُكْمَ فِي حَقِّنَا نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا وَلَكِنْ بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ يَثْبُتُ الْوُجُوبُ فِي حَقِّ الْبَعْضِ وَالِانْتِفَاءُ فِي حَقِّ الْبَعْضِ وَالْإِبَاحَةُ فِي حَقِّ الْبَعْضِ وَالْحُرْمَةُ فِي حَقِّ الْبَعْضِ. وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالنَّفْيِ نَصًّا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِثْلُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» «لَا زَكَاةَ فِي الْعَلُوفَةِ» «لَيْسَ فِي النُّخَّةِ وَلَا فِي الْجَبْهَةِ وَلَا فِي الْكَسْعَةِ صَدَقَةٌ» وَإِذَا كَانَ النَّفْيُ حُكْمَ الشَّرْعِ لَا يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ كَذَا فِي الْمِيزَانِ وَأَمَّا نَفْيُ الْكُفَّارِ نُبُوَّةَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَوْلُهُمْ لَا دَلِيلَ عَلَى ثُبُوتِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حُجَّةٌ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ وَلَكِنْ كَانَ ذَلِكَ إظْهَارًا مِنْهُمْ لِجَهْلِهِمْ وَكَانَ عَلَى الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إزَالَةُ ذَلِكَ الْجَهْلِ عَنْهُمْ بِإِظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ثُبُوتِهِ. [بَابُ حُكْمِ الْعِلَّةِ] [جُمْلَةَ مَا يُعَلَّلُ لَهُ] وَإِذَا عُرِفَ مَعْنَى الْقِيَاسِ وَشَرْطُهُ وَرُكْنُهُ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ حُكْمِهِ فَشَرَعَ فِي بَيَانِهِ وَقَالَ. (بَابُ) (حُكْمِ الْعِلَّةِ) أَيْ الْقِيَاسِ وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ فَأَمَّا إلَى تَعَلُّقِهِ بِمَا تَقَدَّمَ، يَعْنِي قَدْ مَرَّ بَيَانُ الشَّرْطِ وَالرُّكْنِ فَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِتَعْلِيلِ النُّصُوصِ يَعْنِي بِالْقِيَاسِ فَتَعْدِيَةُ حُكْمِ النَّصِّ إلَى مَا لَا نَصَّ فِيهِ وَزَادَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: وَلَا إجْمَاعَ وَلَا دَلِيلَ فَوْقَ الرَّأْيِ، وَإِنَّمَا قَالَ: الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالتَّعْلِيلِ كَذَا وَلَمْ يَقُلْ حُكْمُ الْقِيَاسِ كَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ حُكْمَ الْقِيَاسِ التَّعْدِيَةُ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي التَّعْلِيلِ فَعِنْدَنَا الْقِيَاسُ وَالتَّعْلِيلُ وَاحِدٌ وَعِنْدَهُ التَّعْلِيلُ أَعَمُّ مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ (فَإِنْ قِيلَ) إنَّهُ قَدْ جَعَلَ التَّعْدِيَةَ مِنْ شُرُوطِ الْقِيَاسِ بِقَوْلِهِ وَأَنْ يَتَعَدَّى الْحُكْمُ الثَّابِتُ إلَى آخِرِهِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَتَوَقَّفَ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا، وَأَنْ تَكُونَ مُقَدَّمَةً عَلَى الْقِيَاسِ وَجَعَلَهَا هَاهُنَا حُكْمَ الْقِيَاسِ وَذَلِكَ يُوجِبُ تَأَخُّرَهُ عَنْهُ وَوُجُودُهَا بِهِ. وَبَيْنَ الْأَمْرَيْنِ تَنَافٍ إذْ يَسْتَحِيلُ ثُبُوتُهَا بِالْقِيَاسِ وَتَوَقُّفِ الْقِيَاسِ عَلَيْهَا (قُلْنَا) الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ التَّعْدِيَةِ شَرْطَ الْقِيَاسِ اشْتِرَاطُ كَوْنِهَا حُكْمًا لَهُ يَعْنِي يُشْتَرَط أَنْ يَكُونَ التَّعْدِيَةُ حُكْمَهُ لَا غَيْرُ؛ لِيَكُونَ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ لَا أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةُ وُجُودِ التَّعْدِيَةِ شَرْطًا لَهُ بِمَنْزِلَةِ الشُّهُودِ لِلنِّكَاحِ وَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ إذْ لَا تَصَوُّرَ لِوُجُودِ التَّعْدِيَةِ قَبْلَ الْقِيَاسِ وَلَوْ وُجِدَتْ التَّعْدِيَةُ قَبْلَهُ لَمَا اُحْتِيجَ إلَى الْقِيَاسِ؛ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِدُونِهِ فَكَانَ تَصَوُّرُ وُقُوعِ الْقِيَاسِ مُوجِبًا لِلتَّعْدِيَةِ شَرْطَ صِحَّتِهِ وَهُوَ مَوْجُودٌ قَبْلَ الْقِيَاسِ فَيَصْلُحُ شَرْطُنَا. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كَوْنِ التَّعْدِيَةِ شَرْطَ الْقِيَاسِ أَنَّهَا شَرْطٌ لِلْعِلْمِ لِصِحَّةِ الْقِيَاسِ لَا شَرْطُ نَفْسِ الْقِيَاسِ وَالْعِلْمُ بِصِحَّتِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى وُجُودِهَا بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهَا شَرْطٌ لِوُجُودِ النِّكَاحِ شَرْعًا. وَكَذَا الطَّهَارَةُ لِلصَّلَاةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا يَعْنِي فِي بَابِ شُرُوطِ الْقِيَاسِ أَنَّ التَّعْدِيَةَ حُكْمٌ لَازِمٌ لِلتَّعْلِيلِ عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ لَمْ يُفِدْ التَّعْلِيلُ تَعْدِيَةً كَانَ فَاسِدًا فَيَكُونُ التَّعْلِيلُ وَالْقِيَاسُ عِبَارَتَيْنِ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ، جَائِزٌ عِنْدَ

وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ قُلْنَا إنَّ جُمْلَةَ مَا يُعَلَّلُ لَهُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ إثْبَاتُ الْمُوجِبِ أَوْ وَصْفُهُ وَإِثْبَاتُ الشَّرْطِ أَوْ وَصْفُهُ وَإِثْبَاتُ الْحُكْمِ أَوْ وَصْفُهُ وَالرَّابِعُ هُوَ تَعْدِيَةُ حُكْمٍ مَعْلُومٍ بِسَبَبِهِ وَشَرْطِهِ بِأَوْصَافٍ مَعْلُومَةٍ وَالتَّعْلِيلُ لِلْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ شَرْعًا مُدْرِكًا لِأَحْكَامِ الشَّرْعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَفِي إثْبَاتِ الْمُوجِبِ وَصِفَتِهِ إثْبَاتُ الشَّرْعِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالشَّافِعِيِّ يَعْنِي يَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يُفِيدَ التَّعْلِيلُ التَّعْدِيَةَ إلَى الْفَرْعِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ قِيَاسًا وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُفِيدَ تَعْدِيَةً وَيَكُونُ مُقْتَصِرًا عَلَى مَحَلِّ النَّصِّ فَكَانَ حُكْمُ التَّعْلِيلِ عِنْدَهُ تَعَلُّقَ حُكْمِ النَّصِّ بِالْوَصْفِ الَّذِي تَبَيَّنَ عِلَّةً وَالتَّعْدِيَةُ مِنْ ثَمَرَاتِهِ. وَهَذَا بِنَاءً عَنْ أَنَّ الْحُكْمَ فِي مَحَلِّ النَّصِّ ثَابِتٌ بِالْعِلَّةِ عِنْدَهُ كَمَا فِي الْفَرْعِ وَالنَّصَّ مُعَرِّفٌ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ بِهَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُضَافًا إلَى الْعِلَّةِ فِي مَحَلِّ النَّصِّ لَمْ يُمْكِنْ إثْبَاتُهُ فِي الْفَرْعِ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ التَّعْلِيلُ بِدُونِ التَّعْدِيَةِ صَحِيحًا لِإِفَادَتِهِ ظُهُورَ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ الَّذِي جُعِلَ عِلَّةً كَمَا فِي الْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ فَإِنَّ الْأَسْبَابَ الْمُوجِبَةَ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ جُعِلَتْ أَسْبَابًا شَرْعًا لِيَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهَا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ تَعْدِيَةٍ، وَعِنْدَنَا: الْحُكْمُ فِي مَحَلِّ النَّصِّ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ دُونَ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ فِي إضَافَتِهِ إلَى الْعِلَّةِ فِي مَحَلِّ النَّصِّ إبْطَالَ عَمَلِ النَّصِّ بِالتَّعْلِيلِ وَإِسْنَادِ الْحُكْمِ إلَى الدَّلِيلِ الْأَضْعَفِ مَعَ وُجُودِ الدَّلِيلِ الْأَقْوَى وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُفِدْ التَّعْلِيلُ بِدُونِ التَّعْدِيَةِ، وَكَانَ لَغْوًا عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ قَوْلُهُ (وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ) أَيْ أَنَّ حُكْمَ التَّعْلِيلِ التَّعْدِيَةُ قُلْنَا إنَّ جُمْلَةَ مَا يُعَلِّلُ لَهُ أَيْ جَمِيعُ مَا يَقَعُ التَّعْلِيلُ لِأَجْلِهِ وَيَتَكَلَّمُ الْقَائِسُونَ فِيهِ بِالتَّعْلِيلِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ.: الْأَوَّلُ - إثْبَاتُ الْمُوجِبِ أَوْ وَصْفُهُ وَالثَّانِي - إثْبَاتُ الشُّرُوطِ وَوَصْفُهُ وَالثَّالِثُ - إثْبَاتُ الْحُكْمِ أَوْ وَصْفُهُ وَالرَّابِعُ - هُوَ تَعْدِيَةُ حُكْمٍ مَعْلُومٍ بِسَبَبِهِ وَشَرْطُهُ بِأَوْصَافٍ مَعْلُومَةٍ الْبَاءُ الْأُولَى يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ وَالثَّانِيَةُ بِمَعْلُومٍ، أَيْ تَعْدِيَةُ حُكْمٍ ثَابِتٍ بِسَبَبِهِ، وَشَرْطُهُ مَعْلُومٌ بِأَوْصَافِهِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ الثَّانِيَةُ مَعَ مَعْمُولِهَا فِي مَحَلِّ الْحَالِ وَيُصْلِحُ الْحُكْمُ ذَا الْحَالَ بِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ، أَيْ تَعْدِيَةُ حُكْمٍ مَعْلُومٍ ثَابِتٍ بِسَبَبِهِ وَشَرْطِهِ مُلْتَبِسًا بِأَوْصَافٍ مَعْلُومَةٍ. وَعِبَارَةُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ فِي بَيَانِ الْقِسْمِ الرَّابِعِ: وَالْحُكْمِ الْمُتَّفَقِ عَلَى كَوْنِهِ مَشْرُوعًا مَعْلُومًا بِصِفَتِهِ أَهُوَ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَحَلِّ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ أَمْ تَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمَحَالِّ الَّذِي يُمَاثِلُهُ بِالتَّعْلِيلِ؟ وَالتَّعْلِيلُ لِلْأَقْسَامِ الْأُوَلِ بَاطِلٌ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ إثْبَاتَ سَبَبٍ أَوْ شَرْطٍ أَوْ حُكْمٍ بِالرَّأْيِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَصْلٌ يُرَدُّ إلَيْهِ بَاطِلٌ وَلَا خِلَافَ أَنَّ إثْبَاتَ الْحُكْمِ بِطَرِيقِ التَّعْدِيَةِ مِنْ أَصْلِ فَرْعٍ بِالشَّرَائِطِ الْمَعْرُوفَةِ صَحِيحٌ وَاخْتَلَفُوا فِي إثْبَاتِ الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ بِطَرِيقِ التَّعْدِيَةِ بِأَنْ ثَبَتَ سَبَبٌ أَوْ شَرْطٌ لِحُكْمٍ بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّى السَّبَبِيَّةَ أَوْ الشَّرْطِيَّةَ إلَى شَيْءٍ آخَرَ بِمَعْنًى جَامِعٍ لِيَصِيرَ ذَلِكَ الشَّيْءُ سَبَبًا أَوْ شَرْطًا لِذَلِكَ الْحُكْمِ فَذَهَبَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَأَظُنُّهُ مَذْهَبًا لِعَامَّةِ أَصْحَابِنَا وَذَهَبَ عَامَّةُ الْأُصُولِيِّينَ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ وَهُوَ مُخْتَارُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ صَاحِبُ الْمِيزَانِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّيْخِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي آخِرِ الْبَابِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرْنَا هَذِهِ الْجُمْلَةَ إذَا لَمْ يُوجَدْ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ أَصْلٌ يَصِحُّ تَعْلِيلُهُ فَأَمَّا إذَا وُجِدَ فَلَا بَأْسَ بِهِ فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ وَالتَّعْلِيلُ لِلْأَقْسَامِ الْأُوَلِ بَاطِلُ التَّعْلِيلِ لِإِثْبَاتِهَا ابْتِدَاءً لَا التَّعْلِيلُ بِطَرِيقِ التَّعْدِيَةِ، وَإِنَّمَا بَطَلَ التَّعْلِيلُ لِإِثْبَاتِهَا ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ حُكْمَ التَّعْلِيلِ إمَّا التَّعْدِيَةُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا أَوْ تَعَلُّقُ حُكْمِ النَّصِّ بِالْعِلَّةِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَنْ خَالَفَنَا وَلَا تَصَوُّرَ لِلتَّعْدِيَةِ فِي إثْبَاتِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ بِالرَّأْيِ ابْتِدَاءً وَلَا لِتَعَلُّقِ حُكْمِ النَّصِّ بِالْعِلَّةِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ فَبَطَلَ التَّعْلِيلُ

وَفِي إثْبَاتِ الشَّرْطِ وَصِفَتِهِ إبْطَالُ الْحُكْمِ وَرَفْعُهُ وَهَذَا نَسْخٌ وَنَصْبُ أَحْكَامِ الشَّرْعِ بِالرَّأْيِ بَاطِلٌ وَكَذَلِكَ رَفْعُهَا وَمَا الْقِيَاسُ إلَّا اعْتِبَارٌ بِأَمْرٍ مَشْرُوعٍ فَيَبْطُلُ التَّعْلِيلُ لِهَذِهِ الْأَقْسَامِ جُمْلَةً وَبَطَلَ التَّعْلِيلُ لِنَفْيِهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ نَفْيَهَا لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَبَطَلَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الرَّابِعُ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِفَوَاتِ حُكْمِهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ أَنَّ التَّعْلِيلَ شُرِعَ مُدْرِكًا لِأَحْكَامِ الشَّرْعِ عَلَى مَا قُلْنَا يَعْنِي فِي أَوَّلِ بَابِ الْقِيَاسِ لَا لِلْإِثْبَاتِ ابْتِدَاءً وَفِي إثْبَاتِ الْمُوجِبِ وَصِفَتِهِ أَيْ أَوْ صِفَتِهِ ابْتِدَاءً إثْبَاتُ الشَّرْعِ بِالرَّأْيِ أَمَّا فِي إثْبَاتِ الْمُوجِبِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا فِي إثْبَاتِ صِفَتِهِ فَلِأَنَّ الْمُوجِبَ لَمَّا لَمْ يُعْلَمْ بِدُونِ صِفَتِهِ كَانَ إثْبَاتُهَا بِالتَّعْلِيلِ بِمَنْزِلَةِ إثْبَاتِ أَصْلِ السَّبَبِ بِهِ فَكَانَ ذَلِكَ نَصْبَ شَرْعٍ بِالرَّأْيِ أَيْضًا، وَلَيْسَ إلَى الْعِبَادِ نَصْبُ الشَّرْعِ بَلْ لَهُمْ مُبَاشَرَةُ الْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ وَفِي إثْبَاتِ الشَّرْطِ وَصِفَتِهِ ابْتِدَاءً إبْطَالُ الْحُكْمِ وَرَفْعُهُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الشَّرْطِ وَبَعْدَمَا شُرِطَ لَهُ شَرْطٌ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِهِ وَمَعْدُومًا قَبْلَ وُجُودِهِ فَكَانَ إثْبَاتُ الشَّرْطِ بِالتَّعْلِيلِ ابْتِدَاءً رَفْعًا لِلْحُكْمِ الثَّابِتِ وَنَسْخًا لَهُ. وَكَذَا التَّعْلِيلُ لِإِثْبَاتِ وَصْفِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ يَتَوَقَّفُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ كَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّرْطِ فَيَكُونُ إثْبَاتُ الْوَصْفِ رَفْعًا لِلْحُكْمِ كَإِثْبَاتِ أَصْلِ الشَّرْطِ وَقَوْلُهُ وَنَصْبُ أَحْكَامِ الشَّرْعِ بِالرَّأْيِ بَاطِلٌ وَكَذَلِكَ رَفْعُهَا دَلِيلُ الْقِسْمِ الثَّالِثِ أَيْ التَّعْلِيلُ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ أَوْ وَصْفِهِ ابْتِدَاءً بَاطِلٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ نَصْبُ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَى الْعِبَادِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَتِمَّةِ الْكَلَامِ السَّابِقِ يَعْنِي إثْبَاتُ الْأَسْبَابِ نَصْبٌ لِأَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَإِثْبَاتُ الشُّرُوطِ رَفْعٌ لَهَا وَلَا يَجُوزُ نَصْبُ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَلَا رَفْعُهَا بِالرَّأْيِ بِالْإِجْمَاعِ فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ بِهِ أَيْضًا. وَقَدْ انْدَرَجَ فِيهِ دَلِيلُ الْقِسْمِ الثَّالِثِ وَبُطْلَانُ التَّعْلِيلِ لِنَفْيِهَا أَيْ لِنَفْيِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ أَيْضًا كَمَا بَطَلَ لِإِثْبَاتِهَا؛ لِأَنَّ مَنْ نَفَاهَا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُنْكِرَ ثُبُوتَهَا أَصْلًا أَوْ أَنْ يَدَّعِيَ رَفْعَهَا بَعْدَ الثُّبُوتِ فَإِنْ أَنْكَرَ ثُبُوتَهَا بِأَنْ قَالَ هِيَ لَمْ تُشْرَعْ أَصْلًا فَلَا يُمْكِنُهُ إثْبَاتُهُ بِالتَّعْلِيلِ؛ لِأَنَّ مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ وَإِنْ ادَّعَى رَفْعَهَا بَعْدَ الثُّبُوتِ وَكَذَلِكَ النَّسْخُ بِالتَّعْلِيلِ لَا يَجُوزُ أَيْضًا. وَلَمْ يَذْكُرْ الشَّيْخُ هَذَا الشِّقَّ؛ لِأَنَّهُ مُنْدَرِجٌ فِي قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ رَفْعُهَا وَوَجْهُ قَوْلِ مَنْ جَوَّزَ إثْبَاتَ الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ بِطَرِيقِ التَّعْدِيَةِ أَعْنِي بِالْقِيَاسِ أَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا نَفْسُ الْحُكْمِ وَالثَّانِي، نَصْبُ أَسْبَابِ الْحُكْمِ فَإِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي إيجَابِ الرَّجْمِ وَالْقَطْعِ عَلَى الزَّانِي وَالسَّارِقِ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا إيجَابُ الرَّجْمِ وَالْقَطْعِ وَالْآخَرُ نَصْبُ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الرَّجْمِ وَالْقَطْعِ، فَيَجُوزُ لَنَا إذَا عَلَّقْنَا الْمَعْنَى فِي السَّبَبِ وَوَجَدْنَاهُ مَوْجُودًا فِي غَيْرِهِ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ الْغَيْرُ سَبَبًا أَيْضًا كَمَا جَازَ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْحُكْمِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ إنَّمَا نَصَبَ الزِّنَا سَبَبًا لِوُجُوبِ الرَّجْمِ لِعِلَّةِ كَذَا وَتِلْكَ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي اللِّوَاطَةِ فَنَجْعَلُهَا سَبَبًا وَإِنْ كَانَ لَا يُسَمَّى زِنًا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَيْسَ إلَّا إثْبَاتَ مَا ثَبَتَ فِي الْأَصْلِ بِالْمَعْنَى الَّذِي ثَبَتَ فِي الْأَصْلِ فِي فَرْعٍ هُوَ نَظِيرُهُ وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِي الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ كَمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَتْ السَّبَبِيَّةُ أَوْ الشَّرْطِيَّةُ بِهِ يُمَكِّنُ مَعْرِفَةً كَالْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ فَيَجْرِي الْقِيَاسُ فِي الْجَمِيعِ قَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ فِي الْفَصْلِ الْأَخِيرِ دُونَ الْفُصُولِ الْأُخَرِ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِهِ مَعْرِفَةَ عِلَّةِ الْحُكْمِ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ فَذَلِكَ جَائِزٌ فِي الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا تَخْتَلِفُ. وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي الْفَصْلِ الْأَخِيرِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ فِي جَمِيعِ الْفُصُولِ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ فَهُوَ مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ فِي الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ لَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ كَمَا فِي الْفَصْلِ

فَأَمَّا تَفْسِيرُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَمِثْلُ قَوْلِهِمْ فِي الْجِنْسِ بِانْفِرَادِهِ إنَّهُ يَحْرُمُ النَّسِيئَةُ فَهَذَا خِلَافٌ وَقَعَ فِي الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ فَلَمْ يَصِحَّ إثْبَاتُهُ بِالرَّأْيِ وَلَا نَفْيُهُ بِهِ إنَّمَا يَجِبُ الْكَلَامُ فِيهِ بِإِشَارَةِ النَّصِّ أَوْ دَلَالَتِهِ أَوْ اقْتِضَائِهِ وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِي السَّفَرِ أَنَّهُ مُسْقِطٌ لِشَطْرِ الصَّلَاةِ أَمْ لَا لَا يَصِحُّ التَّكَلُّمُ فِيهِ بِالْقِيَاسِ بَلْ بِمَا ذَكَرْنَا فَقُلْنَا فِي مَسْأَلَةِ الْجِنْسِ إنَّا وَجَدْنَا الْفَضْلَ الَّذِي لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ مُحَرَّمًا بِمَا ذُكِرَ مِنْ الْعِلَّةِ، وَوَجَدْنَا هَذَا حُكْمًا يَسْتَوِي شُبْهَتُهُ بِحَقِيقَتِهِ حَتَّى لَا يَجُوزَ الْبَيْعُ مُجَازَفَةً لِاحْتِمَالِ الرِّبَا وَقَدْ وَجَدْنَا فِي النَّسِيئَةِ شُبْهَةَ الْفَضْلِ وَحُلُولَ الْفَضْلِ وَحُلُولَ الْمُضَافِ إلَى صُنْعِ الْعِبَادِ وَقَدْ وَجَدْنَا شُبْهَةَ الْعِلَّةِ وَهُوَ أَحَدُ وَصْفَيْ الْعِلَّةِ فَأَثْبَتْنَاهُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْأَخِيرِ بَلْ يُعْرَفُ بِهِ الْحُكْمُ وَتَمَسَّكَ مَنْ أَنْكَرَ جَرَيَانَ الْقِيَاسِ فِي الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ أَصْلًا بِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْقِيَاسِ مِنْ مَعْنًى جَامِعٍ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَإِذَا قِسْنَا اللِّوَاطَةَ عَلَى الزِّنَا مَثَلًا فِي كَوْنِهَا سَبَبًا لِلْحَدِّ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَقُولَ: الزِّنَا سَبَبٌ لِلْحَدِّ بِوَصْفٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللِّوَاطَةِ لِيُمْكِنَ جَعْلُ اللِّوَاطَةِ سَبَبًا أَيْضًا وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ وَيَخْرُجُ الزِّنَا وَاللُّوَاطَةُ عَنْ كَوْنِهِمَا مُوجِبَيْنِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَمَّا اسْتَنَدَا أَنَّ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكَ اسْتَحَالَ مَعَ ذَلِكَ اسْتِنَادُهُ إلَى خُصُوصِيَّةٍ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَلْزَمُ مِنْهُ بُطْلَانُ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْقِيَاسِ بَقَاءُ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَالْقِيَاسُ فِي الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ يُنَافِي فِي بَقَاءِ حُكْمِ الْأَصْلِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فِي الْأَحْكَامِ فَثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ مُعَلَّلًا بِالْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَرْعِ (فَإِنْ قِيلَ) : الْجَامِعُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ لَا يَكُونُ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي حُكْمٍ بَلْ تَأْثِيرُهُ فِي عِلِّيَّةِ الْوَصْفَيْنِ، وَأَمَّا الْحُكْمُ فَإِنَّمَا يَحْصُلُ مِنْ الْوَصْفَيْنِ (قُلْنَا) هَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ مَا يَصْلُحُ لِعِلِّيَّةِ الْعِلَّةِ كَانَ صَالِحًا لِعِلِّيَّةِ الْحُكْمِ فَلَا حَاجَةَ حِينَئِذٍ إلَى الْوَاسِطَةِ. قَوْلُهُ (فَأَمَّا تَفْسِيرُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ) أَيْ بَيَانُ مِثَالِهِ فَمِثْلُ قَوْلِهِمْ أَيْ اخْتِلَافُهُمْ يَعْنِي اخْتِلَافَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ هَلْ يُحَرِّمُ النَّسِيئَةَ أَوْ لَا؟ هَذَا خِلَافٌ أَيْ اخْتِلَافٌ وَقَعَ فِي الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ فَلَمْ يَصِحَّ إثْبَاتُهُ أَيْ إثْبَاتُ كَوْنِ الْجِنْسِ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ بِالرَّأْيِ؛ لِأَنَّا لَا نَجِدُ أَصْلًا نَقِيسُهُ عَلَيْهِ وَلَا نَفْيُهُ بِالرَّأْيِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَنْ يَنْفِي إنَّمَا يَتَمَسَّكُ بِالْعَدَمِ الَّذِي هُوَ أَصْلٌ فَعَلَيْهِ الِاشْتِغَالُ بِإِفْسَادِ دَلِيلِ خَصْمِهِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى ثَبَتَ أَنَّ مَا ادَّعَاهُ الْخَصْمُ دَلِيلٌ صَحِيحٌ لَا يَبْقَى لَهُ حَقُّ التَّمَسُّكِ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ أَمَّا الِاشْتِغَالُ بِالتَّعْلِيلِ لِيَثْبُتَ الْعَدَمُ بِهِ فَظَاهِرُ الْفَسَادِ إنَّمَا يَجِبُ الْكَلَامُ فِيهِ أَيْ فِي الْمُوجِبِ أَوْ فِي أَنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسِيئَةَ بِإِشَارَةِ النَّصِّ أَوْ دَلَالَتِهِ أَوْ اقْتِضَائِهِ؛ لِأَنَّهُ الثَّابِتُ بِالنَّصِّ فَقُلْنَا فِي مَسْأَلَةِ الْجِنْسِ كَذَا يَعْنِي أَثْبَتْنَا سَبَبَهُ الْجِنْسَ بِالِاسْتِدْلَالِ لَا بِالتَّعْلِيلِ فَإِنَّا وَجَدْنَا الْفَضْلَ الَّذِي لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ مُحَرَّمًا بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْعِلَّةِ وَهِيَ الْقَدْرُ وَالْجِنْسُ يَعْنِي ثَبَتَ حُرْمَةُ الْفَضْلِ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وَالْفَضْلُ رِبًا» وَبِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّ مَنْ بَاعَ عَبْدًا بِجَارِيَةٍ بِشَرْطِ أَنْ يُسْلِمَ الْمُشْتَرِي إلَيْهِ ثَوَابًا لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الْعِوَضِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ فَضْلُ مَالٍ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ وَثَبَتَ بِإِشَارَةِ النَّصِّ أَنَّ عِلَّةَ حُرْمَةِ هَذَا الْفَضْلِ الْقَدْرُ وَالْجِنْسُ عَلَى مَا هُوَ بَيَانُهُ فِي بَابِ الْقِيَاسِ وَوَجَدْنَا أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ أَيْ تَحْرِيمَ الْفَضْلِ حُكْمًا يَسْتَوِي شُبْهَتُهُ بِحَقِيقَتِهِ بِالْخَبَرِ وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَهَى عَنْ الرِّبَا أَوْ الرِّيبَةِ أَيْ عَنْ الْفَضْلِ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ وَشُبْهَتِهِ. وَبِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ بَاعَ صُبْرَةَ حِنْطَةٍ بِصُبْرَةِ حِنْطَةٍ وَغَالِبُ رَأْيِهِمَا أَنَّهُمَا شَيْئَانِ لَا يَجُوزُ لِاحْتِمَالِ الْفَضْلِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الشُّبْهَةُ مُلْحَقَةً بِالْحَقِيقَةِ لَجَازَ الْبَيْعُ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْفَضْلِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ الْمَانِعُ مِنْ الصِّحَّةِ وَقَدْ وَجَدْنَا فِي النَّسِيئَةِ شُبْهَةَ الْفَضْلِ وَهِيَ الْحُلُولُ فَإِنَّ النَّقْدَ خَيْرٌ مِنْ النَّسِيئَةِ وَهُوَ يُشْبِهُ الْمَالَ؛ لِأَنَّهُ صِفَةٌ مَرْغُوبٌ فِيهَا؛ وَلِهَذَا يَنْقُصُ الثَّمَنُ إذَا كَانَ حَالًّا وَيُزَادُ إذَا كَانَ نَسِيئَةً بِمَنْزِلَةِ الْجَوْدَةِ فَإِنَّ الثَّمَنَ يَنْقُصُ عِنْدَ وُجُودِ الْجَوْدَةِ وَيُزَادُ عِنْدَ فَوَاتِهَا. وَلَا يُقَالُ هَذَا فَضْلٌ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ عَفْوًا كَالْفَضْلِ مِنْ حَيْثُ الْجَوْدَةُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّمَا سَقَطَ فِي الشَّرْعِ اعْتِبَارُ التَّفَاوُتِ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ فِيمَا ثَبَتَ بِصُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى دَفْعًا لِلْحَرَجِ فَإِنَّ الِاحْتِرَازَ يَتَعَذَّرُ عَنْهُ فَأَمَّا مَا حَصَلَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQبِصُنْعِ الْعِبَادِ فَمُعْتَبَرٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ حَرَجٌ؛ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْهُ مُمْكِنٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ مِائَةَ حَجَّةٍ لَزِمَتْهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ حَرَجٌ وَالشَّرْعُ مَا أَوْجَبَ إلَّا حَجَّةً تَيْسِيرًا وَأَقْرَبُ مِمَّا ذَكَرْنَا الْحِنْطَةُ الْمَقْلِيَّةُ بِغَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ فَإِنَّ فِيهِمَا تَفَاوُتًا مِنْ حَيْثُ الصِّفَةُ لَكِنْ لَمَّا كَانَ بِصُنْعِ الْعِبَادِ كَانَ مُعْتَبَرًا حَتَّى لَمْ يَجُزْ بَيْعُ أَحَدَيْهِمَا بِالْأُخْرَى وَالْحِنْطَةُ الْعِلْكَةُ بِغَيْرِ الْعِلْكَةِ فَإِنَّ فِيهِمَا تَفَاوُتًا أَيْضًا لَكِنْ لَمَّا كَانَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى جُعِلَ عَفْوًا حَتَّى جَازَ أَحَدَيْهِمَا بِالْأُخْرَى وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَهُوَ الْحُلُولُ الْمُضَافُ إلَى صُنْعِ الْعِبَادِ. وَقَدْ وَجَدْنَا شُبْهَةَ الْعِلَّةِ يَعْنِي لَمَّا وَجَدْنَا شُبْهَةَ الْفَضْلِ مُعْتَبَرَةً لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تُضَافَ إلَى سَبَبٍ فَوَجَدْنَا شُبْهَةَ الْعِلَّةِ أَيْ عِلَّةِ حُرْمَةِ حَقِيقَةِ الْفَضْلِ وَهِيَ أَحَدُ وَصْفَيْ الْعِلَّةِ فَإِنَّ الْعِلَّةَ التَّامَّةَ هِيَ الْقَدْرُ وَالْجِنْسُ وَالْجِنْسُ شَطْرُ الْعِلَّةِ، وَشَطْرُ الْعِلَّةِ لَهُ حُكْمُ الْوُجُودِ فِي نَفْسِهِ وَحُكْمُ الْعَدَمِ مِنْ حَيْثُ الشَّطْرُ الْآخَرُ فَدَارَ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فَيَثْبُتُ لَهُ شُبْهَةُ الْوُجُودِ فَانْعَقَدَ عِلَّةً لِثُبُوتِ شُبْهَةِ الْحُكْمِ احْتِيَاطًا لِبَابِ الرِّبَا؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِيمَا يَحْتَاطُ فِيهِ الْعَمَلُ عَمَلُ الْحَقِيقَةِ فَأَثْبَتْنَاهُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ أَيْ أَثْبَتْنَا هَذَا الْحُكْمَ وَهُوَ حُرْمَةُ النَّسِيئَةِ عِنْدَ وُجُودِ الْجِنْسِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ الرِّبَا بِدَلَالَةِ النَّصِّ أَوْ أَثْبَتْنَا كَوْنَ الْجِنْسِ بِانْفِرَادِهِ سَبَبًا لِثُبُوتِ حُرْمَةِ النَّسِيئَةِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ فَإِنَّ النَّصَّ الَّذِي يُوجِبُ سَبَبِيَّةَ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ لِحُرْمَةِ حَقِيقَةِ الْفَضْلِ يَدُلُّ عَلَى سَبَبِيَّةِ الْجِنْسِ لِحُرْمَةِ النَّسِيئَةِ وَتَحْقِيقُهُ مَا ذَكَرَ الْإِمَامُ الْبُرْغَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ فِقْهَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُبْنَى عَلَى أَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ فِي بَيْعِ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ التَّسْوِيَةَ كَيْلًا بِكَيْلٍ وَيَدًا بِيَدٍ وَتَفْسِيرُ الْيَدِ بِالْيَدِ النَّقْدُ وَحَرُمَ الْفَضْلُ بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ وَهُوَ الْفَضْلُ عَلَى الْكَيْلِ، وَالْفَضْلُ مِنْ حَيْثُ النَّقْدِيَّةُ؛ لِأَنَّ النَّقْدَ خَيْرٌ مِنْ النَّسِيئَةِ فَأَوْجَبَ التَّسْوِيَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ احْتِرَازًا عَنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنْ الْفَضْلِ، وَعِلَّةُ هَذَا الْحُكْمِ الْكَيْلُ مَعَ الْجِنْسِ ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ «وَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ وَلَا خَيْرَ فِيهِ نَسِيئَةً» فَأَسْقَطَ أَحَدَ الْحُكْمَيْنِ وَهُوَ التَّسْوِيَةُ كَيْلًا عِنْدَ زَوَالِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ وَهُوَ الْجِنْسُ وَحَكَمَ بِبَقَاءِ الْحُكْمِ الْآخَرِ وَهُوَ التَّسْوِيَةُ مِنْ حَيْثُ النَّقْدِيَّةُ عِنْدَ بَقَاءِ الْوَصْفِ الْآخَرِ وَهُوَ الْكَيْلُ فَعَرَفْنَا أَنَّ حُكْمَ هَذَا النَّصِّ أَعْنِي قَوْلَهُ إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ إلَى آخِرِهِ وُجُوبُ التَّسْوِيَةِ مِنْ وَجْهٍ احْتِرَازًا عَنْ الْفَضْلِ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ فَضْلُ النَّقْدِ عَلَى النَّسِيئَةِ، وَأَنَّ عِلَّةَ هَذَا الْحُكْمِ كَوْنُ هَذِهِ الْأَمْثَالِ مُتَسَاوِيَةَ الْمَالِيَّةِ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ لَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَالْكَيْلُ الْمُسَوَّى مِنْ وَجْهٍ لَمَّا أَوْجَبَ هَذَا الْحُكْمَ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْجِنْسِ الْمُسَوِّي بَيْنَ الْأَمْوَالِ مِنْ وَجْهِ أَنْ يُوجِبَ الْحُكْمَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ فِي إثْبَاتِ التَّسْوِيَةِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْكَيْلَ يُؤَثِّرُ فِي إثْبَاتِ التَّسْوِيَةِ صُورَةً لَا مَعْنًى وَالْجِنْسُ يُؤَثِّرُ فِي إثْبَاتِهَا مَعْنًى. وَفَضْلُ النَّقْدِ عَلَى النَّسِيئَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ فَلَمَّا أَوْجَبَ الْكَيْلَ الْمُسَوِّي لِلْأَمْوَالِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ تَسْوِيَةً مَعْنَوِيَّةً، وَحَرَّمَ فَضْلًا مَعْنَوِيًّا فَالْجِنْسُ الْمُسَوِّي مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَأَنْ يَحْرُمُ الْفَضْلُ الْمَعْنَوِيُّ كَانَ أَوْلَى وَهَذَا كُلُّهُ؛ لِأَنَّ بَابَ الرِّبَا مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَتَبَيَّنَ بِآخِرِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ يَدٌ بِيَدٍ» مُتَعَلِّقٌ بِالْوَصْفَيْنِ حَيْثُ عُدِمَ بِعَدَمِ أَحَدِهِمَا فَكَانَا عِلَّةً وَاحِدَةً

وَكَذَلِكَ فَعَلْنَا فِي السَّفَرِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» وَذَلِكَ إسْقَاطٌ مَحْضٌ فَلَا يَصِحُّ رَدُّهُ، وَلِأَنَّ الْقَصْرَ تَعَيَّنَ تَخْفِيفًا بِخِلَافِ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ، وَلِأَنَّ التَّخَيُّرَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَضَمَّنُ رِفْقًا بِالْعَبْدِ وَنَفْعًا مِنْ صِفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ دُونَ الْعُبُودِيَّةِ عَلَى مَا عُرِفَ فَهَذِهِ دَلَالَاتُ النُّصُوصِ وَأَمَّا صِفَةُ السَّبَبِ فَمِثْلُ صِفَةِ السَّوْمِ فِي الْأَنْعَامِ أَيُشْتَرَطُ لِلزَّكَاةِ أَمْ لَا وَمِثْلُ صِفَةِ الْحِلِّ فِي الْوَطْءِ لِإِثْبَاتِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ وَمِثْلُ اخْتِلَافِهِمْ فِي صِفَةِ الْقَتْلِ الْمُوجِبِ لِلْكَفَّارَةِ وَفِي صِفَةِ الْيَمِينِ الْمُوجِبَةِ لِلْكَفَّارَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْحُكْمُ الثَّانِي مُتَعَلِّقٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَصْفَيْنِ حَيْثُ لَمْ يَنْعَدِمْ الْحُكْمُ بِعَدَمِ أَحَدِهِمَا فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِلَّةً كَامِلَةً يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِهِ. 1 - قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ فَعَلْنَا فِي السَّفَرِ) أَيْ كَمَا حَكَمْنَا بِسَبَبِيَّةِ الْجِنْسِ بِالدَّلَالَةِ لَا بِالْقِيَاسِ حَكَمْنَا بِكَوْنِ السَّفَرِ مُسْقِطًا لِشَطْرِ الصَّلَاةِ بِالدَّلَالَةِ أَيْضًا لَا بِالتَّعْلِيلِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» ذَلِكَ إسْقَاطٌ مَحْضٌ أَيْ التَّصَدُّقُ بِشَطْرِ الصَّلَاةِ إسْقَاطٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّهُ تَصَدُّقٌ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ فَكَانَ إسْقَاطًا كَالتَّصَدُّقِ بِمِلْكِ الْقِصَاصِ، وَإِذَا كَانَ إسْقَاطًا لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ خُصُوصًا إذَا صَدَرَ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَقَوْلُهُ مَحْضٌ، احْتِرَازٌ عَنْ التَّصَدُّقِ بِمَا فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ كَإِبْرَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى الْقَبُولِ لِوُجُودِ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ لِوُجُودِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَلِأَنَّ الْقَصْرَ تَعَيَّنَ تَخْفِيفًا يَعْنِي السَّفَرُ مِنْ أَسْبَابِ التَّخْفِيفِ كَرَامَةً مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَجِهَةُ التَّخْفِيفِ مُتَعَيِّنَةٌ فِي الْقَصْرِ فَإِنَّهُ لَا تَخْفِيفَ فِي الْإِكْمَالِ فِي مُقَابَلَةِ الْقَصْرِ بِوَجْهٍ فَيَكُونُ الْقَصْرُ هُوَ الْمَشْرُوعُ دُونَ غَيْرِهِ بِخِلَافِ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ؛ لِأَنَّ جِهَةَ التَّخْفِيفِ غَيْرُ مُتَعَيِّنَةٍ فِي الْإِفْطَارِ؛ لِأَنَّ فِي الصَّوْمِ ضَرْبَ يُسْرٍ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فَيَخْتَارُ أَيَّ الْيُسْرَيْنِ شَاءَ وَلِأَنَّ التَّخْيِيرَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَضَمَّنُ رِفْقًا أَيْ يُسْرًا وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ دَفْعًا أَيْ دَفْعًا لِمَضَرَّةٍ وَنَفْعًا مِنْ صِفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَعُودُ إلَيْهِ دُونَ الْعُبُودِيَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ إلَّا اخْتِيَارُ مَا كَانَ لَهُ فِيهِ رِفْقٌ وَنَفْعٌ وَفِي اخْتِيَارِ إكْمَالِ الصَّلَاةِ لَا رِفْقَ لَهُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ثَوَابٌ لَيْسَ فِي الْقَصْرِ فَكَانَ اخْتِيَارًا مُطْلَقًا فَلَا يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ عَلَى مَا عُرِفَ يَعْنِي فِي بَابِ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ فَهَذِهِ أَيْ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَأَثْبَتْنَا كَوْنَ السَّفَرِ مُسْقِطًا لِشَطْرِ الصَّلَاةِ بِهَا دَلَالَاتُ النُّصُوصِ وَلَيْسَتْ بِأَقْيِسَةٍ. وَفِي هَذَا الْكَلَامِ نَوْعُ تَسَامُحٍ فَإِنَّ الدَّلِيلَ الْأَوَّلَ مِنْ قَبِيلِ الْإِشَارَةِ دُونَ الدَّلَالَةِ وَأَمَّا صِفَةُ السَّبَبِ أَيْ إثْبَاتُ صِفَةِ الْمُوجِبِ ابْتِدَاءً فَمِثْلُ صِفَةِ السَّوْمِ فِي الْأَنْعَامِ أَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ أَمْ لَا يَعْنِي هَلْ يُشْتَرَطُ صِفَةُ النُّمُوِّ فِي مَالِ الزَّكَاةِ نَاطِقًا كَانَ أَوْ صَامِتًا فَعِنْدَ الْعَامَّةِ تُشْتَرَطُ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ إلَّا فِي الْمَالِ الْمُعَدِّ لِلتِّجَارَةِ أَوْ السَّائِمَةِ وَعِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تُشْتَرَطُ فَيَجِبُ الزَّكَاةُ فِي أَمْوَالِ الْقِنْيَةِ وَالْإِبِلِ الْمَعْلُوفَةِ فَلَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ بِالْقِيَاسِ بَلْ يَسْتَدِلُّ بِالنَّصِّ عَلَى اشْتِرَاطِهِ أَوْ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ فَيَتَمَسَّكُ لِعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ بِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِمُعَاذٍ «خُذْ مِنْ الْإِبِلِ فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةً وَفِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةً» إلَى أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِوَصْفٍ وَيُحْتَجُّ لِاشْتِرَاطِهِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَيْسَ فِي الْإِبِلِ الْحَوَامِلِ صَدَقَةٌ» «لَيْسَ فِي الْبَقَرَةِ الْمُثِيرَةِ صَدَقَةٌ» «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ» فَصَارَ النَّمَاءُ شَرْطًا بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ وَمِثْلُ صِفَةِ الْحِلِّ فِي الْوَطْءِ لِإِثْبَاتِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ فَعِنْدَنَا صِفَةُ الْحِلِّ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ بَلْ تَثْبُتُ بِمُطْلَقِ الْوَطْءِ حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِ لَا بُدَّ مِنْ صِفَةِ الْحِلِّ حَتَّى لَا تَثْبُتَ بِالزِّنَا فَلَا وَجْهَ لِلتَّمَسُّكِ فِيهِ بِالرَّأْيِ بَلْ يَرْجِعُ فِيهِ إلَى النَّصِّ وَالِاسْتِدْلَالِ فَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَثْبَتَ صِفَةَ الْحِلِّ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] الْآيَةَ وَنَحْنُ جَعَلْنَا الزِّنَا سَبَبًا بِالنَّصِّ

وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الشَّرْطِ فَمِثْلُ اخْتِلَافِهِمْ فِي شَرْطِ التَّسْمِيَةِ فِي الذَّبِيحَةِ وَمِثْلُ صَوْمِ الِاعْتِكَافِ وَمِثْلُ الشُّهُودِ فِي النِّكَاحِ وَمِثْلُ شَرْطِ النِّكَاحِ لِصِحَّةِ الطَّلَاقِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالِاخْتِلَافُ فِي صِفَتِهِ مِثْلُ صِفَةِ الشُّهُودِ فِي النِّكَاحِ رِجَالٌ أَمْ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُدُولٌ لَا مَحَالَةَ أَمْ شُهُودٌ مَوْصُوفُونَ بِكُلِّ وَصْفٍ وَكَقَوْلِنَا: إنَّ الْوُضُوءَ شَرْطٌ بِغَيْرِ نِيَّةٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] الْآيَةَ. وَبِالِاسْتِدْلَالِ فَإِنَّ الزِّنَا سَبَبٌ لِلْوَلَدِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِي اسْتِحْقَاقِ هَذِهِ الْحُرْمَةِ مِثْلُ الْوَطْءِ الْحَلَالِ فَيَلْحَقُ بِهِ الدَّلَالَةُ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي آخِرِ بَابِ النَّهْيِ وَمِثْلُ اخْتِلَافِهِمْ فِي صِفَةِ الْقَتْلِ الْمُوجِبِ لِلْكَفَّارَةِ أَنَّهُ سَبَبٌ بِصِفَةِ أَنَّهُ حَرَامٌ أَمْ بِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْوَصْفَيْنِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ سَبَبٌ بِصِفَةِ أَنَّهُ حَرَامٌ فَيَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي الْعَمْدِ كَمَا يَجِبُ فِي الْخَطَأِ وَعِنْدَنَا هُوَ سَبَبٌ بِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْوَصْفَيْنِ فَلَا تَجِبُ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ فَيَتَكَلَّمُ فِيهِ بِالدَّلَالَةِ لَا بِالْقِيَاسِ وَفِي صِفَةِ الْيَمِينِ الْمُوجِبَةِ لِكَفَّارَةٍ أَنَّهَا سَبَبٌ بِصِفَةِ الْعَقْدِ أَمْ بِصِفَةِ الْقَصْدِ فَعِنْدَهُ هِيَ سَبَبٌ بِصِفَةِ الْقَصْدِ فَيَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي الْغَمُوسِ كَمَا فِي الْمَعْقُودَةِ، وَعِنْدَنَا هِيَ سَبَبٌ بِصِفَةِ أَنَّهَا مَعْقُودَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى وَصْفَيْ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فَلَا تَجِبُ فِي الْغَمُوسِ؛ لِأَنَّهَا حَرَامٌ مَحْضٌ فَيَتَكَلَّمُ فِي ذَلِكَ بِالِاسْتِدْلَالِ لَا بِالْقِيَاسِ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ فَإِنَّهُ مَحْظُورٌ مَحْضٌ وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ مَا حَرُمَ الْفِطْرُ لِمَعْنًى فِي عَيْنِهِ بَلْ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ لَيْسَ إلَّا تَرْكَ الْإِمْسَاكِ وَالْإِمْسَاكُ فِعْلُهُ فَكَانَ تَرْكُهُ وَإِبْطَالُهُ مَمْلُوكًا لَهُ لَكِنَّ الْحُرْمَةَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ مُتَعَلِّقٌ بِالْإِمْسَاكِ هُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَصَارَ التَّرْكُ وَالْإِبْطَالُ حَرَامًا لِغَيْرِهِ لَا لِعَيْنِهِ فَكَانَ نَظِيرَ إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ فَلَمْ يَكُنْ عُدْوَانًا مَحْضًا بَلْ هُوَ دَائِرٌ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فَيَصْلُحُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي بَابِ الْوُقُوفِ عَلَى أَحْكَامِ النَّظْمِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الشَّرْطِ فَمِثْلُ اخْتِلَافِهِمْ فِي) (شَرْطِ التَّسْمِيَةِ) أَيْ اشْتِرَاطِهَا لِحِلِّ الذَّبِيحَةِ فَعِنْدَنَا هِيَ شَرْطٌ فَلَمْ يَحِلَّ مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا وَعِنْدَهُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ بَلْ الشَّرْطُ الْمِلَّةُ لَا غَيْرُ، وَمِثْلُ صَوْمِ الِاعْتِكَافِ فَإِنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ عِنْدَنَا، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَهُ وَمِثْلُ الشُّهُودِ فِي النِّكَاحِ شَرْطٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَعِنْدَ مَالِكٍ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ بَلْ الشَّرْطُ هُوَ الْإِعْلَامُ وَمِثْلُ شَرْطِ النِّكَاحِ لِصِحَّةِ الطَّلَاقِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّ عِنْدَهُ قِيَامُ مِلْكِ النِّكَاحِ شَرْطٌ لِنُفُوذِ الطَّلَاقِ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْعِدَّةِ حَتَّى لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ فِي الْعِدَّةِ إذَا انْقَطَعَ الْمِلْكُ بِالْبَيْنُونَةِ وَعِنْدَنَا شَرْطُ النُّفُوذِ إمَّا النِّكَاحُ أَوْ الْعِدَّةُ فَتَبْقَى الْمَرْأَةُ مَحَلًّا لِصَرِيحِ الطَّلَاقِ فِي الْعِدَّةِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ مَا دَامَتْ تَحِلُّ لَهُ عَقَدَ أَوْ لَمْ تَصِرْ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ كَمَا كَانَتْ مَحَلًّا عِنْدَ قِيَامِ النِّكَاحِ وَفِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ تَبْقَى مَحَلًّا بِالِاتِّفَاقِ لِبَقَاءِ الْحِلِّ عِنْدَنَا وَلِبَقَاءِ أَصْلِ الْمِلْكِ عِنْدَهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَدْرِكَ مَا فَاتَهُ مِنْ الْحِلِّ بِالرَّجْعَةِ بِغَيْرِ رِضَاهَا وَرِضَاءِ وَلِيِّهَا وَبِغَيْرِ مَهْرٍ. وَكَذَا بِغَيْرِ شُهُودٍ فِي قَوْلٍ وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ النِّكَاحَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ فَإِنَّ التَّعْلِيقَ بِالْمِلْكِ بَاطِلٌ عِنْدَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَكَذَلِكَ عَلَّلَ الشَّافِعِيُّ لِإِثْبَاتِ مِلْكِ النِّكَاحِ شَرْطًا لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ بِالْإِطْلَاقِ وَلَكِنْ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي التَّقْوِيمِ وَالْأَسْرَارِ فَهَذِهِ شُرُوطٌ لَا طَرِيقَ إلَى نَفْيِهَا وَإِثْبَاتِهَا ابْتِدَاءً بِالتَّعْلِيلِ بَلْ السَّبِيلُ فِيهَا الرُّجُوعُ إلَى النُّصُوصِ وَإِشَارَتِهَا وَدَلَالَاتِهَا فَفِي اشْتِرَاطِ التَّسْمِيَةِ يُتَمَسَّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] وَفِي اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ لِلِاعْتِكَافِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْ بِقَوْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِالصَّوْمِ. وَفِي اشْتِرَاطِ الشُّهُودِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي الْحُكْمِ فَمِثْلُ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْحُكْمِ فَمِثْلُ اخْتِلَافِهِمْ فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ وَفِي صَوْمِ بَعْضِ الْيَوْمِ وَفِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ وَمِثْلُ إشْعَارِ الْبُدْنِ ـــــــــــــــــــــــــــــQ «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» وَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى الْمَبْتُوتَةِ فِي الْعِدَّةِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْمُخْتَلِعَةُ تَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ» وَبِاسْتِدْلَالَاتٍ قَوِيَّةٍ عُرِفَتْ فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ الْأَسْرَارِ وَالْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِمَا لَا بِالْقِيَاسِ وَالِاخْتِلَافُ فِي صِفَتِهِ أَيْ صِفَةِ الشَّرْطِ مِثْلُ صِفَةِ الشُّهُودِ أَيْ مِثْلُ اخْتِلَافِهِمْ فِي صِفَةِ الشُّهُودِ فَيُشْتَرَطُ صِفَةُ الذُّكُورَةِ وَالْعَدَالَةِ فِيهِمْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَتَّى لَا يَنْعَقِدَ النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَلَا بِشَهَادَةِ الْفُسَّاقِ وَعِنْدَنَا لَا يُشْتَرَطُ صِفَةُ الذُّكُورَةِ فِي الْجَمِيعِ وَلَا صِفَةُ الْعَدَالَةِ فَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَيَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ الْفُسَّاقِ كَمَا يَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ الْعُدُولِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ أَمْ شُهُودٌ مَوْصُوفُونَ بِكُلِّ وَصْفٍ، فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ ابْتِدَاءً وَلَا نَفْيُهُمَا بِالرَّأْيِ بَلْ يَتَمَسَّكُ فِي إثْبَاتِهِمَا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وَلَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» فَإِنَّ عِبَارَتَهُ تَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ وَيُشِيرُ لَفْظُ التَّثْنِيَةِ إلَى نَفْيِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ فَإِنَّ عَدَدَ الِاثْنَيْنِ لَا يَكْفِي إلَّا مِنْ الرِّجَالِ وَيَتَمَسَّكُ فِي نَفْيِهِمَا بِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] وَبِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» وَكَقَوْلِنَا: الْوُضُوءُ شَرْطٌ بِغَيْرِ نِيَّةٍ يَعْنِي شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ لَكِنْ بِدُونِ صِفَةِ الْقُرْبَةِ حَتَّى صَحَّ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ شَرْطٌ بِصِفَةِ الْقُرْبَةِ فَلَا يَصِحُّ بِدُونِ النِّيَّةِ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ هَذَا الصِّفَةِ، وَلَا نَفْيُهَا بِالْقِيَاسِ ابْتِدَاءً بَلْ يَتَمَسَّكُ مَنْ يُثْبِتُهَا بِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَيَحْتَجُّ مَنْ نَفَاهَا بِدَلَالَةِ مَحَلِّ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّا أَجْمَعْنَا أَنَّهُ لَوْ صَلَّى صَلَوَاتٍ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ جَازَتْ الصَّلَوَاتُ فَلَوْ كَانَ يُشْتَرَطُ صِفَةُ الْقُرْبَةِ فِي الْوُضُوءِ لَكَانَ يُشْتَرَطُ نِيَّةُ كُلِّ صَلَاةٍ وَإِرَادَتُهَا فِي الْوُضُوءِ وَلَمَّا لَمْ تُشْتَرَطْ عُلِمَ أَنَّ صِفَةَ الْقُرْبَةِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ بَلْ الشَّرْطُ كَوْنُهُ طَاهِرًا إذَا أَرَادَ الْقِيَامَ إلَى الصَّلَاةِ لِيَكُونَ أَهْلًا لِخِدْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْقِيَامِ بِحَضْرَتِهِ قَوْلُهُ (وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي الْحُكْمِ) الرَّكْعَةُ الْوَاحِدَةُ لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ مَشْرُوعَةٍ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هِيَ مَشْرُوعَةٌ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ شَرْعِيَّتِهَا بِالْقِيَاسِ فَمَنْ أَثْبَتَ شَرْعِيَّتَهَا يَتَمَسَّكُ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيت الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِرَكْعَةٍ» وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِرَكْعَةٍ فَعَلَ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَعَلَ» وَمَنْ أَنْكَرَ شَرْعِيَّتَهَا يَتَمَسَّكُ بِمَا اُشْتُهِرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ لَا يُسَلِّمُ إلَّا فِي الْآخِرَةِ» وَبِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَهَى عَنْ الْبَتْرَاءِ» أَوْ بِمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا أَجْزَتْ رَكْعَةٌ قَطُّ وَبِنَوْعٍ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ فَإِنَّ السَّفَرَ سَبَبٌ لِسُقُوطِ شَطْرِ الصَّلَاةِ كَمَا فِي الْأَرْبَعِ فَلَوْ كَانَتْ الرَّكْعَةُ صَلَاةً لَسَقَطَ الشَّطْرُ أَيْضًا فِي الْفَجْرِ فَلَمَّا لَمْ يَسْقُطْ مَعَ قِيَامِ الْعِلَّةِ عُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا امْتَنَعَ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ لَا يَبْقَى صَلَاةً فَيَكُونُ إسْقَاطًا لِلْكُلِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ شَطْرَ الْمَغْرِبِ لَمْ يَسْقُطْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ رَكْعَةً وَنِصْفَ صَلَاةٍ وَفِي صَوْمِ بَعْضِ الْيَوْمِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِنْهُمْ أَبُو زَيْدٍ الْقَاشَانِيُّ مَشْرُوعٌ حَتَّى لَوْ أَكَلَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَصُومَ بَاقِيَهُ جَازَ عِنْدَهُمْ، وَاعْتَبَرُوهُ بِيَوْمِ الْأَضْحَى فَإِنَّ إمْسَاكَ بَعْضِ الْيَوْمِ قُرْبَةٌ فِيهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَيَّامِ وَقَاسُوهُ بِالصَّدَقَةِ فَإِنَّ الْقَلِيلَ مِنْهَا مَشْرُوعٌ كَالْكَثِيرِ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ إنَّمَا صَارَتْ قُرْبَةً مَشْرُوعَةً لِمَا فِيهَا مِنْ صِلَةِ الْفَقِيرِ وَفِي الْقَلِيلِ صِلَةُ الْفَقِيرِ كَمَا فِي الْكَثِيرِ أَمَّا الصَّوْمُ

وَأَمَّا صِفَتُهُ فَمِثْلُ الِاخْتِلَافِ فِي صِفَةِ الْوِتْرِ وَفِي صِفَةِ الْأُضْحِيَّةِ وَفِي صِفَةِ الْعُمْرَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَإِنَّمَا شُرِعَ قُرْبَةً لِمَا فِيهِ مِنْ قَهْرِ النَّفْسِ بِكَفِّهَا عَنْ اقْتِضَاءِ الشَّهْوَتَيْنِ فِي وَقْتٍ مُمْتَدٍّ وَهُوَ النَّهَارُ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ صِفَةِ الْقُرْبَةِ فِيمَا دُونَهُ وَجَعْلُهُ مَشْرُوعًا بِالْقِيَاسِ، وَالْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ يَوْمِ الْأَضْحَى لَيْسَ بِصَوْمٍ بَلْ شُرِعَ لِيَكُونَ أَوَّلَ التَّنَاوُلِ مِنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ بِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ صَوْمَ بَعْضِ الْيَوْمِ مَشْرُوعٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَكِنْ بِشَرْطِ عَدَمِ الْأَكْلِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ حَتَّى لَوْ نَوَى النَّفَلَ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ أَوْ بَعْدَهُ فِي قَوْلٍ وَلَمْ يَأْكُلْ فِيمَا مَضَى مِنْ النَّهَارِ يَجُوزُ وَيَصِيرُ صَائِمًا مِنْ حِينِ نَوَى، وَعِنْدَنَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ وَيَصِيرُ صَائِمًا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ تَقْسِيمِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي حَقِّ الْوَقْتِ. وَفِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ لَا حَرَمَ لِلْمَدِينَةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَهَا حَرَمٌ مِثْلُ حَرَمِ مَكَّةَ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ وَلَا نَفْيُهُ بِالتَّعْلِيلِ بَلْ يُرْجَعُ فِيهِ إلَى النُّصُوصِ فَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي حَرَّمْت الْمَدِينَةَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْ الْمَدِينَةِ أَنْ يُقْطَعَ عِضَاهُهَا أَوْ يُقْتَلَ صَيْدُهَا» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ قَتَلَ صَيْدًا بِالْمَدِينَةِ يُؤْخَذُ مِثْلُهُ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهَا حَرَمًا مِثْلُ حَرَمِ مَكَّةَ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ لِآلِ مُحَمَّدٍ وُحُوشٌ يُمْسِكُونَهَا وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِأَبِي عُمَيْرٍ «يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ وَكَانَ طَيْرًا يُمْسِكُهُ» وَانْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ دُخُولِهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا حَرَمَ لَهَا كَمَا قُلْنَا وَإِنَّ الْأَحَادِيثَ الْمَرْوِيَّةَ فِي الْبَابِ مَحْمُولَةٌ عَلَى إثْبَاتِ الِاحْتِرَامِ لَا عَلَى إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ وَمِثْلُ إشْعَارِ الْبُدْنِ الْإِشْعَارُ أَنْ يَضْرِبَ بِالْمِبْضَعِ فِي أَحَدِ جَانِبَيْ سَنَامِ الْبُدْنِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ الدَّمُ ثُمَّ يُلَطِّخُ بِذَلِكَ سَنَامَهَا سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا أَعْلَمَ بِهِ أَنَّهَا هَدْيٌ وَالْإِشْعَارُ الْإِعْلَامُ لُغَةً وَالْبُدْنُ بِضَمِّ الْبَاءِ جَمْعُ بَدَنَةٍ وَهِيَ نَاقَةٌ أَوْ بَقَرَةٌ تُنْحَرُ بِمَكَّةَ وَيَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ثُمَّ الْإِشْعَارُ مَكْرُوهٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ هُوَ حَسَنٌ فِي الْبَدَنَةِ وَإِنْ تَرَكَهُ لَمْ يَضُرَّهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ سُنَّةٌ فَلَا يُحْكَمُ فِيهِ بِالرَّأْيِ بَلْ الْمَفْزَعُ فِيهِ الْأَخْبَارُ وَفِعْلُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَمَا رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشْعَرَ الْبَدَنَةَ بِيَدِهِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ سُنَّةً. وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ إنْ شِئْت فَأَشْعِرْ وَإِنْ شِئْت فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَسَنٌ وَأَنَّ تَرْكَهُ لَا يَضُرُّ، وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ الْإِشْعَارَ لَيْسَ بِسُنَّةٍ، وَإِنَّمَا أَشْعَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْ لَا تَنَالَهَا أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِسُنَّةٍ وَلَا مُسْتَحَبٍّ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مُثْلَةُ وَتَعْذِيبُ الْحَيَوَانِ فَيَكُونُ مَكْرُوهًا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ؛ لِأَنَّ الْآثَارَ فِيهِ مَشْهُورَةٌ، وَإِنَّمَا كَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إشْعَارَ أَهْلِ زَمَانِهِ؛ لِأَنَّهُ رَآهُمْ يَسْتَقْصُونَ فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ يَخَافُ مِنْهُ هَلَاكَ الْبَدَنَةِ بِسِرَايَتِهِ خُصُوصًا فِي حَرِّ الْحِجَازِ فَرَأَى الصَّوَابَ فِي سَدِّ هَذَا عَلَى الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَقِفُونَ عَلَى الْحَدِّ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ. 1 - قَوْلُهُ (وَأَمَّا صِفَتُهُ أَيْ) الِاخْتِلَافُ فِي صِفَةِ الْحُكْمِ فَمِثْلُ اخْتِلَافٍ فِي صِفَةِ الْوِتْرِ أَنَّهُ سُنَّةٌ أَمْ وَاجِبٌ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مَشْرُوعٌ وَلَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي مَعْرِفَتِهِ فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ مُتَمَسِّكًا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَادَكُمْ صَلَاةً إلَى صَلَوَاتِكُمْ الْخَمْسِ، أَلَا وَهِيَ الْوِتْرُ فَحَافِظُوا عَلَيْهَا» وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوِتْرُ حَقٌّ وَاجِبٌ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ

وَفِي صِفَةِ حُكْمِ الرَّهْنِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّهُ وَثِيقَةٌ لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنَّا» وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ مُعْتَصِمِينَ بِالسُّنَّةِ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «ثَلَاثٌ كُتِبَ عَلَيَّ وَهِيَ لَكُمْ سُنَّةٌ الْوِتْرُ وَالضُّحَى وَالْأَضْحَى» أَيْ الْأُضْحِيَّةُ. وَفِي صِفَةِ الْأُضْحِيَّةِ أَيْ وَمِثْلُ اخْتِلَافِهِمْ فِي صِفَةِ الْأُضْحِيَّةِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ أَمْ سُنَّةٌ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى شَرْعِيَّتِهَا فَعِنْدَنَا هِيَ وَاجِبَةٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سُنَّةٌ وَمَفْزَعُ الْفَرِيقَيْنِ السُّنَّةُ دُونَ الرَّأْيِ فَنَحْنُ نَتَمَسَّكُ فِي الْإِيجَابِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «ضَحُّوا فَإِنَّهَا سُنَّةُ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ مَنْ وَجَدَ سَعَةً وَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا» وَهُوَ يَتَعَلَّقُ فِي نَفْيِ الْإِيجَابِ بِمَا رَوَيْنَا وَفِي صِفَةِ الْعُمْرَةِ فَعِنْدَنَا هِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ كَصَلَاةِ الْعِيدِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هِيَ فَرِيضَةٌ كَالْحَجِّ وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالرَّأْيِ فَأَوْجَبَهَا الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة: 3] فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ الْحَجِّ مَا هُوَ أَصْغَرُ وَبِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ» وَقُلْنَا إنَّهَا سُنَّةٌ بِمَا رَوَى جَابِرٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «سُئِلَ عَنْ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ فَقَالَ: لَا، وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَك» . وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ» وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَحَادِيثِ، وَحَمَلْنَا أَلْفَاظَ الْوُجُوبِ عَلَى التَّأْكِيدِ قَوْلُهُ (وَفِي صِفَةِ حُكْمِ الرَّهْنِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّهُ وَثِيقَةٌ لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ) لَا خِلَافَ أَنَّ الرَّهْنَ عَقْدُ وَثِيقَةٍ لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ حَتَّى لَا يَصِحَّ رَهْنُ مَا لَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِيفَاءِ كَالْخَمْرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ كَمَا أَنَّ الْكَفَالَةَ وَثِيقَةٌ لِجَانِبِ الْوُجُوبِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَسْلِيمِ الرَّهْنِ إلَى الْمُرْتَهِنِ وَأَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ بِهِ لِلْمُرْتَهِنِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ حَقُّ الْحَبْسِ وَثُبُوتُ الْيَدِ لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ الْحُكْمِ فَعِنْدَنَا الْيَدُ الثَّابِتَةُ لَهُ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ وَالْحَبْسُ ثَابِتٌ بِصِفَةِ الدَّوَامِ حُكْمًا أَصْلِيًّا لِلرَّهْنِ فَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ يَتِمُّ الِاسْتِيفَاءُ وَيَسْقُطُ مِنْ الدَّيْنِ بِقَدْرِهِ وَلَا يَكُونُ لِلرَّاهِنِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لِلِانْتِفَاعِ كَمَا فِي حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَتْ هَذِهِ يَدَ اسْتِيفَاءٍ بَلْ ثُبُوتُ الْيَدِ وَالْحَبْسِ لِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ بِإِيفَائِهِ مِنْ مَالِيَّتِهِ بِالْبَيْعِ فَإِذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ هَلَكَ أَمَانَةً لَا مَضْمُونًا وَكَانَ لِلرَّاهِنِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لِلِانْتِفَاعِ ثُمَّ الرَّدِّ إلَى الْمُرْتَهِنِ بَعْدَ الْفَرَاغِ. وَذَكَرَ فِي الْوَسِيطِ: حَقِيقَةُ الرَّهْنِ تَوْثِيقُ الدَّيْنِ بِتَعْلِيقِهِ بِالْعَيْنِ لِيَسْلَمَ الْمُرْتَهِنُ بِهِ عَنْ مُزَاحَمَةِ الْغُرَمَاءِ عِنْدَ الْإِفْلَاسِ وَيَتِمُّ ذَلِكَ بِالْقَبْضِ لِيَحْفَظَ مَحَلَّ حَقِّهِ لِيَوْمِ حَاجَتِهِ وَيَثْبُتُ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الْحَالِ اسْتِحْقَاقُ الْيَدِ عَلَى الْمَرْهُونِ وَفِي ثَانِي الْحَالِ اسْتِحْقَاقُ الْبَيْعِ فِي قَضَاءِ حَقِّهِ إذَا لَمْ يُوَفِّهِ الرَّاهِنُ مِنْ مَالٍ آخَرَ ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّا لَا نَجِدُ حُكْمَ الرَّهْنِ فِي عَقْدٍ آخَرَ لِتَعَدِّيهِ إلَيْهِ بِالْقِيَاسِ، وَلَكِنْ يَرْجِعُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ الرَّهْنُ وَثِيقَةٌ لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ بِالْإِجْمَاعِ وَمَعْنَى التَّوَثُّقِ إنَّمَا يَظْهَرُ بِمَا قُلْت فَإِنَّهُ مِنْ قَبْلُ كَانَ مُطَالَبًا بِالْإِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مَحَلٍّ وَبَعْدَ الرَّهْنِ بَقِيَ مَا كَانَ وَازْدَادَ بِهِ شَيْءٌ آخَرُ وَهُوَ مُطَالَبَتُهُ بِالْإِيفَاءِ مِنْ هَذَا الْمَحَلِّ بِعَيْنِهِ تَبَعًا، وَإِيفَاءً لِلدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ وَإِنَّهُ عَلَى مِثَالِ الْكَفَالَةِ عَلَى أَصْلِهِ فَإِنَّ مُوجِبَهَا ثُبُوتُ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ الثَّانِيَةِ مَعَ بَقَائِهِ فِي الذِّمَّةِ الْأُولَى فَحَصَلَ مَعْنَى التَّوَثُّقِ فِي جَانِبِ الْوُجُوبِ بِضَمِّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ وَهَاهُنَا حَصَلَ مَعْنَى التَّوَثُّقِ بِتَعْيِينِ مَحَلٍّ مَعَ بَقَائِهِ مُطْلَقًا فِي غَيْرِهِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالرَّهْنِ؛ لِأَنَّ انْتِفَاعَ الْمَالِكِ بِهِ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الْبَيْعِ بِالدَّيْنِ فَلَا يَحْجُرُ الْمَالِكُ عَنْهُ لِحَقِّهِ كَمَا لَا يَحْجُرُ الْمَوْلَى عَنْ اسْتِخْدَامِ الْأَمَةِ الْمَنْكُوحَةِ لِحَقِّ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ فِي مِلْكِ الْوَطْءِ وَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِاسْتِخْدَامِهَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الرَّهْنُ مَجْلُوبٌ

وَكَاخْتِلَافِهِمْ فِي كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ الْمَهْرِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَمَرْكُوبٌ» وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْلُوبٍ وَلَا مَرْكُوبٍ لِلْمُرْتَهِنِ فَيَثْبُتُ أَنَّهُ لِلرَّاهِنِ، وَنَحْنُ نَقُولُ أَحْكَامُ الْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ تُقْتَبَسُ مِنْ أَلْفَاظِهَا الدَّالَّةِ عَلَيْهَا فَإِنَّ التَّعْرِيفَ وَقَعَ بِهَذَا الِاسْمِ فَلَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ مَعْنَى الِاسْمِ فِيهِ لِيَكُونَ التَّعْرِيفُ بِهِ صَحِيحًا وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الرَّهْنِ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ مُنْبِئٌ عَنْ الْحَبْسِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] أَيْ مُحْتَبَسَةٌ فَجَعَلْنَا مُوجِبَهُ احْتِبَاسَ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ وَهَذَا الِاحْتِبَاسُ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا حَقِيقِيًّا اتَّصَفَ بِكَوْنِهِ حُكْمًا شَرْعِيًّا لِاتِّصَافِهِ بِكَوْنِهِ مُطْلَقًا شَرْعًا وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِنَظِيرِهِ مِنْ عَقْدِ الْكَفَالَةِ فَظَاهِرٌ عَلَى مَا عَلَيْهِ مَذْهَبُنَا فَإِنَّ مُوجِبَهُ صَيْرُورَةُ ذِمَّةِ الْكَفِيلِ مَضْمُونَةً إلَى ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فِي الْمُطَالَبَةِ دُونَ أَصْلِ الدَّيْنِ حَتَّى يَكُونَ الثَّابِتُ بِهِ وَثِيقَةً فَإِنَّ الْوَثِيقَةَ إثْبَاتُ شَيْءٍ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا ثَبَتَ بِالْحَقِيقَةِ حَتَّى يَزْدَادَ وُثُوقًا وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ أَصْلِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ الثَّابِتُ بِهِ حَقِيقَةً ثُمَّ مَا هُوَ الْفَرْعُ فِي الدَّيْنِ وَهُوَ الْمُطَالَبَةُ جُعِلَ أَصْلًا فِي عَقْدِ الْكَفَالَةِ لِتَكُونَ مُوَصِّلَةً إلَى الْحَقِيقَةِ فَكَذَا الْيَدُ عَلَى الْمَحَلِّ فَرْعُ حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ فَجُعِلَتْ أَصْلًا فِي عَقْدِ الرَّهْنِ وَإِبْدَاءِ مَا هُوَ الِاتِّبَاعُ وَالْفُرُوعُ فِي الْأُصُولِ يُجْعَلُ أُصُولًا فِي التَّوَثُّقَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى الْوَثِيقَةِ فِي هَذِهِ الْيَدِ وَمِنْ أَيِّ وَجْهٍ جُعِلَتْ وَثِيقَةً؟ (قُلْنَا) مَعْنَى الْوَثِيقَةِ فِي إثْبَاتِ شَيْءٍ زَائِدٍ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْأَصْلِ مَعَ بَقَاءِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا كَانَ فَإِذَا احْتَبَسَ عِنْدَهُ حَقِيقَةً يَصِيرُ هَذَا الِاحْتِبَاسُ وَسِيلَةً إلَى النَّقْدِ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ وَهَذَا هُوَ الْمُتَعَاهَدُ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ مِلْكَ الْإِنْسَانِ مَتَى صَارَ مَحْبُوسًا عَنْهُ بِدَيْنٍ يَتَسَارَعُ إلَى فِكَاكِهِ بِإِيفَاءِ الدَّيْنِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الْمَحَلِّ مِنْ جِنْسِ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ، وَالدَّيْنُ بِالِاسْتِيفَاءِ يَصِيرُ مُحَصَّنًا فَإِذَا بَقِيَتْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ عَلَى مَا كَانَتْ مِنْ قَبْلُ وَازْدَادَتْ يَدٌ هِيَ مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ ازْدَادَ الْأَوَّلُ تَوَثُّقًا بِهِ فَهَذَا تَفْسِيرُ مَعْنَى الْوَثِيقَةِ فِي حَقِيقَةِ الِاحْتِبَاسِ وَالْيَدِ الثَّابِتَةِ عَلَى الْمَحَلِّ فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْخَصْمُ فَلَا يُنْبِئُ عَنْهُ اللَّفْظُ وَلَا يَسْتَدْعِي أَنْ يَكُونَ وَثِيقَةً؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي الدَّيْنِ حُكْمٌ يَأْتِي بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ. وَكَذَا تَعَيُّنُهُ لِلْبَيْعِ غَيْرُ ثَابِتٍ؛ لِأَنَّ الْإِيفَاءَ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ يَكُونُ فِي الْعَادَاتِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَرْهَنُ الشَّيْءَ لِيُوَفِّيَ الدَّيْنَ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ لَا لِيَبِيعَهُ فِي الدَّيْنِ وَكَيْفَ يَكُونُ الْبَيْعُ فِي الدَّيْنِ مُوجِبَ عَقْدِ الرَّهْنِ وَلَا يَمْلِكُ الْمُرْتَهِنُ ذَلِكَ بَعْدَ تَمَامِ الرَّهْنِ إلَّا بِتَسْلِيطِ الرَّاهِنِ إيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ وَكَمْ مِنْ رَهْنٍ يَنْفَكُّ عَنْ الْبَيْعِ فِي الدَّيْنِ مُوجِبِ الْعَقْدِ مَا لَا يَخْلُو الْعَقْدُ عَنْهُ بَعْدَ تَمَامِهِ قَوْلُهُ (وَفِي كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ الْمَهْرِ) مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ بِالْإِجْمَاعِ لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي صِفَتِهِ فَعِنْدَنَا هُوَ وَاجِبٌ عِوَضًا عَنْ مِلْكِ الْبُضْعِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الصِّلَةِ وَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الشَّرْعِ بِوُجُوبِهِ فِي الِابْتِدَاءِ وَفِي الْبَقَاءِ تَمَحَّضَ حَقًّا لِلْمَرْأَةِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَعْنَى الْعِوَضِ وَالصِّلَةِ وَقَدْ تَمَحَّضَ حَقًّا لِلْمَرْأَةِ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ وَيَتَفَرَّعُ مِنْهُ أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَهَا وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا يَجِبُ الْمَهْرُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ تَأَكَّدَ الْمَهْرُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ حَتَّى لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يَجِبُ لَهَا شَيْءٌ وَلَوْ دَخَلَ بِهَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لَا يَجِبُ الْمَهْرُ كَمَا لَا يَجِبُ بِالْعَقْدِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجِبُ الْمَهْرُ بِالدُّخُولِ وَبِالِاتِّفَاقِ كَانَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بَعْدَ الْعَقْدِ بِأَنْ يَفْرِضَ لَهَا مَهْرًا وَيُبْتَنَى عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ الْمَهْرَ مُقَدَّرٌ شَرْعًا حَتَّى لَمْ يَجُزْ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةٍ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الشَّرْعِ تَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبًا فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ إلَيْهِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ

وَفِي كَيْفِيَّةِ حُكْمِ الْبَيْعِ أَنَّهُ ثَابِتٌ بِنَفْسِهِ أَمْ مُتَرَاخٍ إلَى قَطْعِ الْمَجْلِسِ وَلَا يَلْزَمُ اخْتِلَافُ النَّاسِ بِالرَّأْيِ فِي صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ الصَّوْمَ مَشْرُوعٌ فِي الْأَيَّامِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ حُكْمِ النَّهْيِ وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِالرَّأْيِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرْنَا هَذِهِ الْجُمْلَةَ إذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الشَّرِيعَةِ أَصْلٌ يَصِحُّ تَعْلِيلُهُ فَأَمَّا إذَا وُجِدَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي التَّقَابُضِ ـــــــــــــــــــــــــــــQ- رَحِمَهُ اللَّهُ - التَّقْدِيرُ إلَى الْمُتَعَاقِدَيْنِ؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ سَائِرِ الْأَعْرَاضِ وَلَا مَجَالَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ أَصْلٌ تَعَدَّى الْحُكْمُ مِنْهُ إلَى الْمُتَنَازَعِ فِيهِ فَيَتَكَلَّمُ فِيهِ بِالِاسْتِدْلَالِ مِنْ النَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمَهْرُ زَائِدٌ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ النِّكَاحُ فَإِنَّ الْمُنَاكَحَةَ تَقُومُ بِبَدَنِ الْمُتَنَاكِحَيْنِ فَكَانَ الرُّكْنُ فِي الْعَقْدِ ذِكْرَهُمَا لِيَتَحَقَّقَ مُوجِبُ اللَّفْظِ أَمَّا الْمَالُ فَأَمْرٌ زَائِدٌ، وَبِهَذَا صَحَّ الْعَقْدُ بِدُونِ التَّسْمِيَةِ وَمَعَ نَفْيِهَا فَكَانَ فِيهِ مَعْنَى الصِّلَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَثْبُتُ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا ضَرْبُ مِلْكٍ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي جَانِبِهَا كَانَ فِيهِ مَعْنَى الْعِوَضِ فَلِكَوْنِهِ عِوَضًا إذَا شَرَطَ فِي الْعَقْدِ تَمَلُّكَ مِلْكِ الْأَعْوَاضِ وَإِذَا نَفَى أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَا يَجِبُ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ وَلِكَوْنِهِ صِلَةً تَسْتَحِقُّ الْمَرْأَةُ مُطَالَبَةَ الْفَرْضِ كَالنَّفَقَةِ أَوْ يُقَالُ إذَا تَحَقَّقَ فِيهِ مَعْنَى الْعِوَضِ وَالصِّلَةِ فَلِكَوْنِهِ صِلَةً يَنْعَقِدُ أَصْلُ الْعَقْدِ بِدُونِ الْمَهْرِ وَلِكَوْنِهِ عِوَضًا لَا يَخْلُو عَنْهُ مِلْكُ الْبُضْعِ فَيَتَأَخَّرُ وُجُوبُهُ إلَى حِينِ الدُّخُولِ وَتَسْتَحِقُّ الْفَرْضَ لِئَلَّا يَخْلُوَ الْبُضْعُ عَنْهُ قَالَ وَهُوَ خَالِصُ حَقِّهَا؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ مُقَابِلًا بِالْبُضْعِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَهُ حُكْمُ الْإِجْزَاءِ أَوْ حُكْمُ الْمَنَافِعِ فَكَيْفَ مَا كَانَ هُوَ حَقُّهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَدَلَهُ خَالِصُ حَقِّهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا تَمْلِكُ الِاسْتِيفَاءَ وَالْإِبْرَاءَ وَلَوْ كَانَ فِيهِ حَقٌّ لِصَاحِبِ الشَّرْعِ لَمَا صَحَّ إسْقَاطُهَا أَصْلًا. ، وَنَحْنُ نَقُولُ حُكْمُ النِّكَاحِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالِازْدِوَاجُ وَالسَّكَنُ مِنْ ثَمَرَاتِهِ وَهَذَا الْمِلْكُ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا بِمَالٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] فَكَانَ وُجُوبُهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَاوَضَةِ دُونَ الصِّلَةِ ثُمَّ هَذَا الْمَالُ مَعَ كَوْنِهِ عِوَضًا يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ عَلَى خِلَافِ سَائِرِ الْأَعْوَاضِ فَإِنَّ الْأَبَ يُزَوِّجُ ابْنَتَهُ مِنْ غَيْرِ مَهْرٍ وَيَجِبُ الْعِوَضُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ وُجُوبَ هَذَا الْمَالِ لِتَحْصِيلِ الْمِلْكِ الْمَشْرُوعِ فَإِذَا شَرَعَ فِي الْعَقْدِ وَحَصَلَ الْمِلْكُ وَجَبَ الْمَالُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ وَصَارَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْعَقْدِ تَحْصِيلًا لِلْمِلْكِ بِمَالٍ وَفِيهِ حَقُّ الشَّرْعِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ الَّذِي وَرَدَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ مَحَلُّ النَّسْلِ وَلِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ حَقٌّ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِعْبَادُ فَظَهَرَ حَقُّ الشَّرْعِ فِي الْعَقْدِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ تَحْصِيلِ النَّسْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجْرِي فِيهِ الْبَذْلُ، وَالْإِبَاحَةُ وَلَا يَخْلُو التَّصَرُّفُ فِي هَذَا الْمَحَلِّ عَنْ حَدٍّ وَعَقْدٍ، وَإِنْ رَضِيَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ وَلَوْ كَانَ الْبُضْعُ مَحْضَ حَقِّ الْمَرْأَةِ لِعَمَلِ رِضَاهَا فِي إسْقَاطِ الْوَاجِبِ إنْ لَمْ يَعْمَلْ فِي إبَاحَةِ الْفِعْلِ كَمَا فِي قَطْعِ الْأَطْرَافِ وَقَتْلِ النَّفْسِ لَا يَحِلُّ الْفِعْلُ بِالْإِبَاحَةِ وَلَكِنْ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ فِي الْأَطْرَافِ وَلَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ. وَكَذَا إبَاحَةُ الْمَالِ إنْ كَانَتْ بِطَرِيقٍ مَشْرُوعٍ تَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَا تَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ فَعَرَفْنَا أَنَّ حَقَّ الشَّرْعِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَحَلِّ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ رِعَايَةِ حَقِّ الشَّرْعِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّبَبِ مِنْ اعْتِبَارِ الْمَهْرِ وَالشُّهُودِ، وَإِنَّمَا شُرِعَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إبَانَةً لِحَظْرِ الْمَحَلِّ وَصَوْنًا لَهُ عَنْ الْهَوَانِ فَأَمَّا الْبَقَاءُ فَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالسَّبَبِ فَعَمِلَ رِضَاهَا فِي الْإِسْقَاطِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهَا عَلَى التَّمَحُّضِ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا ظَهَرَ حَقُّ الشَّرْعِ فِيهِ وُجُوبًا وَالْبَقَاءُ حَقُّ الْمَرْأَةِ عَلَى التَّمَحُّضِ. قَوْلُهُ (وَفِي كَيْفِيَّةِ حُكْمِ الْبَيْعِ) اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ حُكْمِ الْبَيْعِ وَهُوَ الْمِلْكُ أَنَّهُ ثَابِتٌ بِنَفْسِ الْبَيْعِ عَلَى صِفَةِ اللُّزُومِ أَمْ بِتَرَاخٍ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ فَعِنْدَنَا يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْبَيْعِ لَازِمًا فَلَا يَكُونُ لِوَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَتَرَاخَى ثُبُوتُ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ فِي قَوْلٍ وَإِلَيْهِ

فِي بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ وَتَكَلَّمُوا فِيهِ بِالرَّأْيِ؛ لِأَنَّا وَجَدْنَا لِإِثْبَاتِهِ أَصْلًا وَهُوَ الصَّرْفُ وَوَجَدْنَا لِجَوَازِهِ بِدُونِهِ أَصْلًا وَهُوَ بَيْعُ سَائِرِ السِّلَعِ. فَإِذَا وُجِدَ مِثْلُهُ فِي غَيْرِهِ صَحَّتْ التَّعْدِيَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ ادَّعَى إيجَابَ التَّسْمِيَةِ فِي الذَّبِيحَةِ شَرْطًا بِالْقِيَاسِ لَمْ يَجِدْ لَهُ أَصْلًا وَمَنْ أَرَادَ إيجَابَ الصَّوْمِ فِي الِاعْتِكَافِ شَرْطًا بِالْقِيَاسِ لَمْ يَجِدْ لَهُ أَصْلًا أَيْضًا ـــــــــــــــــــــــــــــQأُشِيرَ فِي الْكِتَابِ، وَفِي قَوْلِهِ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْبَيْعِ وَلَكِنْ يَتَرَاخَى اللُّزُومُ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ فَيَثْبُتُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا يَتَعَرَّفُ إثْبَاتَهُ وَلَا نَفْيَهُ بِالْقِيَاسِ فَرَجَعَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي إثْبَاتِهِ إلَى الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» وَنَحْنُ أَثْبَتْنَا اللُّزُومَ بِنَفْسِ الْبَيْعِ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» وَقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْبَيْعُ صَفْقَةٌ أَوْ خِيَارٌ وَالصِّفَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ عِبَارَةٌ عَنْ النَّافِذَةِ اللَّازِمَةِ وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ لَمْ تَجْرِ الْمُحَاجَّةُ بِهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ بَعْدَمَا اخْتَلَفُوا فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ فَدَلَّ عَلَى زِيَافَتِهِ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى خِيَارِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فَإِنَّهُ سَمَّاهُمَا مُتَبَايِعَيْنِ، وَذَلِكَ فِي حَالِ إقْدَامِهِمَا عَلَى الْبَيْعِ وَبَعْدَ الْفَرَاغِ يُسَمَّيَانِ بِهِ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً وَلَا يَلْزَمُ اخْتِلَافُ النَّاسِ يَعْنِي لَا يَلْزَمُ عَلَى مَا قُلْنَا: إنَّ إثْبَاتَ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً بِالرَّأْيِ لَا يَجُوزُ اخْتِلَافُ النَّاسِ فِي صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ وَتَكَلُّمُهُمْ فِيهِ بِالرَّأْيِ وَهُوَ حُكْمٌ لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِيهِ. وَقَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا جَوَابَ السُّؤَالِ يَعْنِي أَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ الْأَيَّامَ مَحَالٌّ لِلصَّوْمِ بَلْ مَحَلِّيَّةُ الْأَيَّامِ لِلصَّوْمِ ثَابِتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ مِنْ جُمْلَتِهَا فَيَكُونُ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ بِالنَّظَرِ إلَى أَنَّهُ يَوْمٌ إنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ حُكْمِ النَّهْيِ أَيْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ النَّهْيَ يُوجِبُ الِانْتِهَاءَ عَلَى وَجْهٍ يَبْقَى فِيهِ اخْتِيَارٌ لِلْمَنْهِيِّ فَيَلْزَمُ مِنْهُ بَقَاءُ مَشْرُوعِيَّةِ الصَّوْمِ فِي هَذَا الْيَوْمِ أَمْ يُوجِبُهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى لَهُ فِيهِ اخْتِيَارٌ بِأَنْ صَارَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مَنْسُوخًا بِالنَّهْيِ، وَلَمْ يَبْقَ مَشْرُوعًا أَصْلًا وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِالرَّأْيِ أَيْ حُكْمُ النَّهْيِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا لَيْسَ بِثَابِتٍ بِالرَّأْيِ بَلْ بِالنَّصِّ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وَقَالَ {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [هود: 7] فَمُقْتَضَى هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ أَنْ يَكُونَ مَا كُلِّفَ الْعَبْدُ وَابْتُلِيَ بِهِ دَاخِلًا تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ وَالنَّهْيُ مِنْ بَابِ التَّكْلِيفِ فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الِانْتِهَاءُ الْوَاجِبُ بِهِ أَمْرًا اخْتِيَارِيًّا لِيَكُونَ الْعَبْدُ بَيْنَ أَنْ يَنْتَهِيَ فَيُثَابَ وَبَيْنَ أَنْ يُبَاشِرَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فَيُعَاقَبَ وَيَلْزَمُ مِنْهُ بَقَاءُ مَشْرُوعِيَّةِ الصَّوْمِ عَلَى مَا مَرَّ فِي بَابِ النَّهْيِ قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا أَنْكَرْنَا هَذِهِ الْجُمْلَةَ) أَيْ إنَّمَا لَمْ نُجَوِّزْ اسْتِعْمَالَ الرَّأْيِ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ أَوْ فِي هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ إذَا لَمْ يُوجَدْ لَهُ أَيْ لِمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ فِي الشَّرِيعَةِ أَصْلٌ يَصِحُّ تَعْلِيلُ ذَلِكَ الْأَصْلِ وَتَعْدِيَةُ حُكْمِهِ إلَيْهِ فَأَمَّا إذَا وُجِدَ فَلَا بَأْسَ بِهِ أَيْ بِاسْتِعْمَالِ الرَّأْيِ فِيهِ وَإِثْبَاتِهِ بِالْقِيَاسِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي التَّقَابُضِ أَيْ فِي اشْتِرَاطِ قَبْضِ الْبَدَلَيْنِ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ أَيْ بَيْعِ طَعَامٍ بِعَيْنِهِ بِطَعَامٍ بِعَيْنِهِ وَتَكَلَّمُوا فِيهِ بِالرَّأْيِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ فِيهِ اتَّحَدَ الْجِنْسُ بِأَنْ بَاعَ قَفِيزَ حِنْطَةٍ بِقَفِيزِ حِنْطَةٍ أَوْ اخْتَلَفَ بِأَنْ بَاعَ كُرَّ حِنْطَةٍ بِكُرِّ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ؛ لِأَنَّهُمَا مَالَانِ يَجْرِي بَيْنَهُمَا رِبَا الْفَضْلِ فَيُشْتَرَطُ قَبْضُهُمَا فِي الْمَجْلِسِ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَقُلْنَا لَا يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ اتَّحَدَ الْجِنْسُ أَوْ اخْتَلَفَ؛ لِأَنَّهُمَا مَالَانِ عَيْنَانِ فَلَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُمَا فِي الْمَجْلِسِ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ كَمَا فِي بَيْعِ الثَّوْبِ بِالثَّوْبِ أَوْ بِالدَّرَاهِمِ، وَإِنَّمَا صَحَّ الْكَلَامُ فِيهِ بِالرَّأْيِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ لِإِثْبَاتِ اشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ أَصْلٌ وَهُوَ عَقْدُ الصَّرْفِ وَوُجِدَ لِلْجَوَازِ بِدُونِ الْقَبْضِ أَصْلٌ أَيْضًا وَهُوَ بَيْعُ سَائِرِ السِّلَعِ فَاسْتَقَامَ تَعْلِيلُ كُلِّ أَصْلٍ لِتَعْدِيَةِ الْحُكْمِ بِهِ إلَى الْفَرْعِ. فَإِذَا وُجِدَ مِثْلُهُ فِي غَيْرِهِ أَيْ

وَهَذَا بَابٌ لَا يُحْصَى عَدَدُ فُرُوعِهِ فَاقْتَصَرْنَا فِيهِ عَلَى الْإِشَارَةِ إلَى الْجُمَلِ. وَأَمَّا النَّوْعُ الرَّابِعُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ: وَهُمَا الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQوُجِدَ أَصْلٌ يُمْكِنُ تَعْلِيلُهُ فِي غَيْرِ التَّقَابُضِ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَمْثِلَةِ صَحَّتْ التَّعْدِيَةُ أَيْضًا (فَإِنْ قِيلَ) قَدْ وُجِدَ فِي جَوَازِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ أَصْلٌ وَهُوَ عُقُودُ الْمُعَامَلَاتِ فَإِنَّ النِّكَاحَ مِنْهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ وَلَمْ يُشْتَرَطْ الشُّهُودُ لِصِحَّةِ الْمُعَامَلَاتِ شَرْعًا وَإِنْ تَرَتَّبَ عَلَى بَعْضِهَا حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ كَبَيْعِ الْأَمَةِ فَيُعَلَّلُ ذَلِكَ الْأَصْلُ لِتَعْدِيَةِ الْحُكْمِ بِهِ إلَى الْفَرْعِ، وَكَذَلِكَ وُجِدَ لِسُقُوطِ اشْتِرَاطِ التَّسْمِيَةِ لِحِلِّ الذَّبِيحَةِ أَصْلٌ وَهُوَ النَّاسِي فَيُعَلَّلُ لِتَعْدِيَةِ الْحُكْمِ بِهِ إلَى الْفَرْعِ (قُلْنَا) لَمْ يُشْتَرَطْ الشُّهُودُ فِي النِّكَاحِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُعَامَلَةٌ وَلَكِنَّ اشْتِرَاطَ الشُّهُودِ فِيهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ لِلتَّنَاسُلِ وَإِنَّهُ يَرِدُ عَلَى مَحَلٍّ لَهُ خَطَرٌ وَهُوَ مَصُونٌ عَنْ الِابْتِذَالِ فَلِإِظْهَارِ خَطَرِهِ يَخْتَصُّ بِشَرْطِ الشُّهُودِ وَلَا يُوجَدُ أَصْلٌ فِي الْمَشْرُوعَاتِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِيُعَلَّلَ ذَلِكَ الْأَصْلُ فَيُعَدَّى الْحُكْمُ بِهِ إلَى الْفَرْعِ. وَأَمَّا النَّاسِي فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ شَرْطُ التَّسْمِيَةِ وَلَكِنَّهُ جَعَلَهُ كَالْمُسَمَّى حُكْمًا لِلْعُذْرِ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «تَسْمِيَةُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ» كَمَا جَعَلَ النَّاسِيَ فِي الصَّوْمِ كَالْمُبَاشِرِ لِرُكْنِ الصَّوْمِ حُكْمًا بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «تِمَّ عَلَى صَوْمِك فَإِنَّمَا أَطْعَمَك اللَّهُ وَسَقَاك» وَهَذَا حُكْمٌ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ وَتَعْلِيلُ مِثْلِهِ لِتَعْدِيَةِ الْحُكْمِ بَاطِلٌ مَعَ أَنَّ الْعَامِدَ لَيْسَ كَالنَّاسِي لِانْعِدَامِ الْعُذْرِ فِي حَقِّهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ قِيَاسَ الْعَامِدِ عَلَى النَّاسِي فِي الصَّوْمِ لَا يَجُوزُ فَكَذَا هَاهُنَا، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ ادَّعَى مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ إذَا لَمْ يُوجَدْ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ أَصْلٌ يَصِحُّ تَعْلِيلُهُ فَصَارَ حَاصِلُ الْبَابِ أَنَّ إثْبَاتَ السَّبَبِ أَوْ الشَّرْطِ أَوْ الْحُكْمِ بِالتَّعْلِيلِ ابْتِدَاءً لَا يَجُوزُ فَأَمَّا بِطَرِيقِ التَّعْدِيَةِ فَجَائِزٌ عِنْدَ وُجُودِ شَرَائِطِ التَّعْدِيَةِ وَفِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ النَّظَائِرِ إنَّمَا حَكَمْنَا بِفَسَادِ التَّعْلِيلِ لِعَدَمِ أُصُولٍ تُقَاسُ هَذِهِ الْأَمْثِلَةُ عَلَيْهَا لَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِلْقِيَاسِ وَأَمَّا النَّوْعُ الرَّابِعُ وَهُوَ تَعْدِيَةُ حُكْمٍ مَعْلُومٍ إلَى آخِرِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ يَعْنِي الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ، الثَّابِتُ بِالتَّعْلِيلِ وَاحِدٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَبْنِيٌّ عَلَى الرَّأْيِ مُسْتَنْبَطٌ بِالْعِلَّةِ إلَّا أَنَّهُمَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ نَوْعَانِ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا يُثْبِتُ مَا يَنْفِيهِ الْآخَرُ ثُمَّ الْحُكْمُ إذَا تَعَلَّقَ بِالْمَعْنَى فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى جَلِيًّا أَوْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ كَانَ جَلِيًّا سَمَّيْنَاهُ قِيَاسًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَمَّيْنَاهُ اسْتِحْسَانًا

[باب الاستحسان]

(بَابُ الْقِيَاسِ) (وَالِاسْتِحْسَانِ) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ أَمَّا أَحَدُ نَوْعَيْ الْقِيَاسِ فَمَا ضَعُفَ أَثَرُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQ [بَابُ الِاسْتِحْسَانِ] (بَابُ بَيَانِ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ) : الِاسْتِحْسَانُ فِي اللُّغَةِ اسْتِفْعَالٌ مِنْ الْحُسْنِ، وَهُوَ عَدُّ الشَّيْءِ وَاعْتِقَادُهُ حَسَنًا تَقُولُ اسْتَحْسَنْت كَذَا أَيْ اعْتَقَدْته حَسَنًا، وَفِي الِاصْطِلَاحِ مَا سَنُبَيِّنُهُ. قَوْلُهُ: (وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نَوْعَيْنِ) وَلَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ حُجَّةً بِاعْتِبَارِ الْأَثَرِ، وَالْأَثَرُ قَدْ يَكُونُ قَوِيًّا وَغَيْرَ قَوِيٍّ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى وَجْهَيْنِ بِاعْتِبَارِ ضَعْفِ الْأَثَرِ، وَقُوَّتِهِ. وَهَذِهِ تَقْسِيمُ الْقِيَاسِ الَّذِي قَابَلَهُ اسْتِحْسَانٌ مَعْنَوِيٌّ وَتَقْسِيمُ هَذَا الِاسْتِحْسَانِ الْمُعَارِضِ لَا تَقْسِيمُ نَفْسِ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِمَا فَإِنَّ الْقِيَاسَ الْخَالِيَ عَنْ مُعَارَضَةِ الِاسْتِحْسَانِ خَارِجٌ عَنْ هَذَا التَّقْسِيمِ. وَكَذَا الِاسْتِحْسَانُ الثَّابِتُ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالضَّرُورَةِ خَارِجٌ عَنْهُ أَيْضًا فَكَانَ مَعْنَاهُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مُقَابَلَةِ الْآخَرِ عَلَى وَجْهَيْنِ فَمَا ضَعُفَ أَثَرُهُ أَيْ بِالنِّسْبَةِ إلَى قُوَّةِ أَثَرِ مُقَابِلِهِ، وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ. وَالثَّانِي مَا ظَهَرَ فَسَادُهُ أَيْ ضَعْفُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا ضَعُفَ بِمُقَابَلَةِ الْآخَرِ فَسَدَ. وَالْمُرَادُ فِي الضَّعْفِ وَالْفَسَادِ هَاهُنَا وَاحِدٌ. وَاسْتَتَرَتْ صِحَّتُهُ، وَأَثَرُهُ أَيْ انْضَمَّ إلَيْهِ مَعْنًى خَفِيٌّ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ فِي التَّحْقِيقِ فَانْدَفَعَ بِهِ فَسَادُ ظَاهِرِهِ وَصَارَ رَاجِحًا عَلَى مُقَابِلِهِ، وَنَوْعَا الِاسْتِحْسَانِ عَلَى عَكْسِ نَوْعَيْ الْقِيَاسِ كَمَا ذَكَرَ. فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْقِيَاسِ اسْتِحْسَانًا لِخَفَاءِ أَثَرِهِ وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الِاسْتِحْسَانِ قِيَاسًا لِظُهُورِ أَثَرِهِ فَإِنَّ الِاسْتِحْسَانَ هُوَ الْقِيَاسُ الْخَفِيُّ لَا الظَّاهِرُ قُلْنَا ظُهُورُ أَثَرِ الِاسْتِحْسَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى خَفَاءِ فَسَادِهِ، وَلَكِنَّهُ خَفِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَجْهِ الْقِيَاسِ الَّذِي ظَهَرَ فَسَادُهُ كَمَا فِي سَائِرِ صُوَرِ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ أَلَا تَرَى أَنَّ وَجْهَ الِاسْتِحْسَانِ فِي مَسْأَلَةِ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ أَخْفَى، وَأَقْوَى مِنْ وَجْهِ الْقِيَاسِ بِالنَّظَرِ إلَى نَفْسِهِمَا إلَّا أَنَّهُ انْضَمَّ إلَى وَجْهِ الْقِيَاسِ مَعْنًى أَدَقُّ مِنْ وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ فَقَوِيَ بِهِ

وَالنَّوْعُ الثَّانِي مَا ظَهَرَ فَسَادُهُ وَاسْتَتَرَتْ صِحَّتُهُ وَأَثَرُهُ وَأَحَدُ نَوْعَيْ الِاسْتِحْسَانِ مَا قَوِيَ أَثَرُهُ، وَإِنْ كَانَ خَفِيًّا، وَالثَّانِي مَا ظَهَرَ أَثَرُهُ وَخَفِيَ فَسَادُهُ، وَإِنَّمَا الِاسْتِحْسَانُ عِنْدَنَا أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ لَكِنَّهُ يُسَمَّى بِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَجْهُ الْقِيَاسِ وَضَعُفَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ وَفَسَدَ. فَبِالنَّظَرِ إلَى وَجْهَيْ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ أَوَّلًا كَانَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَخْفَى، وَأَقْوَى مِنْ وَجْهِ الْقِيَاسِ فَصَحَّ تَسْمِيَتُهُ اسْتِحْسَانًا كَمَا فِي سَائِرِ صُوَرِ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَعْنَى الْخَفِيِّ اللَّاحِقِ بِالْقِيَاسِ ثَانِيًا كَانَ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَقْوَى فَتَرَجَّحَ وَجْهُ الْقِيَاسِ وَضَعُفَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ فَهَذَا مَعْنًى دَقِيقٌ يَنْدَفِعُ بِهِ سُؤَالَاتُ الْخُصُومِ فَافْهَمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ الْقَادِحِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ طَعَنَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي تَرْكِهِمْ الْقِيَاسَ بِالِاسْتِحْسَانِ، وَقَالَ: حُجَجُ الشَّرْعِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، وَالِاسْتِحْسَانُ قِسْمٌ خَامِسٌ لَمْ يَعْرِفْ أَحَدٌ مِنْ حَمَلَةِ الشَّرْعِ سِوَى أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُ مِنْ دَلَائِلِ الشَّرْعِ، وَلَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ بَلْ هُوَ قَوْلٌ بِالتَّشَهِّي فَكَانَ تَرْكُ الْقِيَاسِ بِهِ تَرْكًا لِلْحُجَّةِ لِاتِّبَاعِ هِيَ أَوْ شَهْوَةِ نَفْسٍ فَكَانَ بَاطِلًا ثُمَّ قَالَ إنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي تَرَكُوهُ بِالِاسْتِحْسَانِ إنْ كَانَ حُجَّةً شَرْعِيَّةً فَالْحُجَّةُ الشَّرْعِيَّةُ حَقٌّ، وَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فَالْبَاطِلُ وَاجِبُ التَّرْكِ، وَمِمَّا لَا يُشْتَغَلُ بِذِكْرِهِ، وَإِنَّهُمْ قَدْ ذَكَرُوا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَنَّا نَأْخُذُ بِالْقِيَاسِ وَنَتْرُكُ الِاسْتِحْسَانَ بِهِ فَكَيْفَ يُجَوِّزُونَ الْأَخْذَ بِالْبَاطِلِ وَالْعَمَلَ بِهِ، وَذَكَرَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مَا يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ الْوَرَعِ، وَكَثْرَةِ التَّحَيُّزِ وَالْعَدَاوَةِ. وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا أَنَّهُ بَالَغَ فِي إنْكَارِ الِاسْتِحْسَانِ، وَقَالَ مَنْ اسْتَحْسَنَ فَقَدْ شَرَّعَ وَكُلُّ ذَلِكَ طَعْنٌ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ، وَقَدْحٌ مِنْ غَيْرِ وُقُوفٍ عَلَى الْمُرَادِ فَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَجَلُّ قَدْرًا، وَأَشَدُّ وَرَعًا مِنْ أَنْ يَقُولَ فِي الدِّينِ بِالتَّشَهِّي أَوْ عَمِلَ بِمَا اسْتَحْسَنَهُ مِنْ دَلِيلٍ قَامَ عَلَيْهِ شَرْعًا فَالشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَقَدَ الْبَابَ لِبَيَانِ الْمُرَادِ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ وَالْكَشْفِ عَنْ حَقِيقَتِهِ دَفْعًا لِهَذَا الطَّعْنِ فَقَالَ: بَعْدَمَا قَسَّمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ عَلَى نَوْعَيْنِ، وَإِنَّمَا الِاسْتِحْسَانُ عِنْدَنَا أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ وَاخْتَلَفَ عِبَارَاتُ أَصْحَابِنَا فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي قَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ الْعُدُولُ عَنْ مُوجِبِ قِيَاسٍ إلَى قِيَاسٍ أَقْوَى مِنْهُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ، وَلَكِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي هَذَا التَّعْرِيفِ الِاسْتِحْسَانُ الثَّابِتُ بِدَلِيلٍ آخَرَ غَيْرِ الْقِيَاسِ مِثْلُ مَا ثَبَتَ بِالْأَثَرِ أَوْ الْإِجْمَاعِ وَالضَّرُورَةِ إلَّا أَنَّ مَقْصُودَ الشَّيْخِ مَا سَنَذْكُرُهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ تَخْصِيصُ قِيَاسٍ بِدَلِيلٍ أَقْوَى مِنْهُ، وَهَذَا اللَّفْظُ، وَإِنْ عَمَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ، وَلَكِنَّهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ، وَإِنَّهُ لَيْسَ بِتَخْصِيصٍ وَعَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ هُوَ أَنْ يَعْدِلَ الْإِنْسَانُ عَنْ أَنْ يَحْكُمَ فِي الْمَسْأَلَةِ بِمِثْلِ مَا حَكَمَ بِهِ فِي نَظَائِرِهَا إلَى خِلَافِهِ لِوَجْهٍ أَقْوَى يَقْتَضِي الْعُدُولَ عَنْ الْأَوَّلِ وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْعُدُولُ عَنْ الْعُمُومِ إلَى التَّخْصِيصِ وَعَنْ الْمَنْسُوخِ إلَى النَّاسِخِ اسْتِحْسَانًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَيَلْزَمُ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ تَرَكْت الِاسْتِحْسَانَ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ حِينَئِذٍ كَأَنَّهُ، قَالَ تَرَكْت الْقِيَاسَ الْأَقْوَى أَوْ الدَّلِيلَ الْأَقْوَى بِالْأَضْعَفِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَتْرُوكَ سُمِّيَ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنْ الْقِيَاسِ وَحْدَهُ، وَلَكِنْ اتَّصَلَ بِالْقِيَاسِ مَعْنًى آخَرُ صَارَ ذَلِكَ الْمَجْمُوعُ أَقْوَى مِنْ الِاسْتِحْسَانِ فَلِذَلِكَ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ، وَأَخَذَ بِالْقِيَاسِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الِاسْتِحْسَانُ هُوَ الْقِيَاسُ الْخَفِيُّ، وَإِنَّمَا سَمِعَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَكْثَرِ الْأَغْلَبِ يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الْقِيَاسِ الظَّاهِرِ فَيَكُونُ الْآخِذُ بِهِ مُسْتَحْسِنًا، وَلَمَّا صَارَ اسْمًا لِهَذَا النَّوْعِ

إشَارَةً إلَى أَنَّهُ الْوَجْهُ الْأَوْلَى فِي الْعَمَلِ بِهِ، وَأَنَّ الْعَمَلَ بِالْآخَرِ جَائِزٌ كَمَا جَازَ الْعَمَلُ بِالطَّرْدِ، وَإِنْ كَانَ الْأَثَرُ أَوْلَى مِنْهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ الْقِيَاسِ، وَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ ضَعِيفًا أَيْضًا بَقِيَ الِاسْمُ، وَإِنْ صَارَ مَرْجُوحًا فَإِذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَرَكْت الِاسْتِحْسَانَ أَرَادَ بِذَلِكَ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ فِيهِ عِلَّةً سِوَى عِلَّةِ الْأَصْلِ أَوْ مَعْنًى آخَرَ يُوجِبُ ذَلِكَ الْحُكْمَ، وَأَنَّ الْأَحَبَّ أَنْ يَذْهَبَ إلَيْهِ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَتَرَجَّحْ عِنْدِي مَا أَخَذْت بِهِ وَذَكَرَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ إذَا كَانَ أَكْثَرَ تَأْثِيرًا كَانَ اسْتِحْسَانًا تَسْمِيَةً وَمَعْنًى، وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ أَكْثَرَ تَأْثِيرًا كَانَ الِاسْتِحْسَانُ اسْتِحْسَانًا تَسْمِيَةً لَا مَعْنًى، وَالِاسْتِحْسَانُ مَعْنًى هُوَ الْقِيَاسُ. وَاعْلَمْ أَيْضًا أَنَّ الْمُخَالِفِينَ لَمْ يُنْكِرُوا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاسْتِحْسَانَ بِالْأَثَرِ وَالْإِجْمَاعِ أَوْ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْقِيَاسِ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ مُسْتَحْسَنٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ الِاسْتِحْسَانَ بِالرَّأْيِ فَإِنَّ تَرْكَ الْقِيَاسِ بِالتَّشَهِّي عَلَى زَعْمٍ فَأَشَارَ الشَّيْخُ إلَى دَفْعِ طَعْنِهِمْ بِقَوْلِهِ إنَّمَا الِاسْتِحْسَانُ أَيْ الِاسْتِحْسَانُ الَّذِي وَقَعَ التَّنَازُعُ فِيهِ عِنْدَنَا أَيْ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ لَا أَنْ يَكُونَ قِسْمًا آخَرَ اخْتَرَعُوهُ بِالتَّشَهِّي مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقِيَاسَيْنِ إذَا تَعَارَضَا فِي حَادِثَةٍ وَجَبَ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ لِيُعْمَلَ بِهِ إذَا أَمْكَنَ لَكِنَّهُ سُمِّيَ بِهِ أَيْ لَكِنَّ أَحَدَ الْقِيَاسَيْنِ سُمِّيَ بِالِاسْتِحْسَانِ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ الْوَجْهُ الْأَوْلَى فِي الْعَمَلِ بِهِ لِتَرَجُّحِهِ عَلَى الْآخَرِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَمَّوْهُ اسْتِحْسَانًا لِلتَّمَيُّزِ بَيْنَ الْقِيَاسِ الظَّاهِرِ الَّذِي تَذْهَبُ إلَيْهِ الْأَوْهَامُ، وَبَيْنَ الدَّلِيلِ الْمُعَارِضِ لَهُ، وَهُوَ نَظِيرُ عِبَارَاتِ أَهْلِ الصِّنَاعَاتِ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الطُّرُقِ لِمَعْرِفَةِ الْمُرَادِ فَإِنَّ أَهْلَ النَّحْوِ يَقُولُونَ هَذَا نَصْبٌ عَلَى التَّفْسِيرِ، وَهَذَا نَصْبٌ عَلَى الظَّرْفِ، وَهَذَا نَصْبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمَعَانِي النَّاصِبَةِ، وَأَهْلُ الْعَرُوضِ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ الْبَحْرِ الطَّوِيلِ، وَهَذَا مِنْ الْبَحْرِ الْمُتَقَارِبِ، وَهَذَا مِنْ الْبَحْرِ الْمَدِيدِ فَكَذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا اسْتَعْمَلُوا عِبَارَةَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ وَخَصَّصُوا أَحَدَهُمَا بِالِاسْتِحْسَانِ لِكَوْنِ الْعَمَلِ بِهِ مُسْتَحْسَنًا، وَلِكَوْنِهِ مَائِلًا عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ الظَّاهِرِ فَسَمَّوْهُ بِهَذَا الِاسْمِ لِوُجُودِ مَعْنَى الِاسْمِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا اسْمٌ لِلدُّعَاءِ ثُمَّ أُطْلِقَتْ عَلَى الْعِبَادَةِ الْمَعْهُودَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ الدُّعَاءِ عَادَةً. فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَقْصُودَ الشَّيْخِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ دَفْعُ الطَّعْنِ، وَإِبَانَةُ الْمُرَادِ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ لَا تَعْرِيفُ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى وَجْهٍ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ أَقْسَامِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ كَلَامِهِ فَإِنَّهُ قَالَ: وَإِنَّمَا غَرَضُنَا هَاهُنَا أَيْ فِي هَذَا الْبَابِ تَقْسِيمُ وُجُوهِ الْعِلَلِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ لَا بَيَانُ جَمِيعِ أَقْسَامِ الِاسْتِحْسَانِ. قَوْلُهُ: (إنَّهُ الْوَجْهُ الْأَوْلَى فِي الْعَمَلِ) ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يُوهِمُ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ الَّذِي عَارَضَهُ اسْتِحْسَانٌ جَائِزٌ لَكِنَّ الْعَمَلَ بِالِاسْتِحْسَانِ أَوْلَى، وَأَنَّ الْعَمَلَ بِالطَّرْدِ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ الْأَثَرُ أَيْ الْعَمَلُ بِالْمُؤَثِّرِ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِالطَّرْدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا ظَنَّ أَنَّ الْعَمَلَ بِالِاسْتِحْسَانِ أَوْلَى مَعَ جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ فِي مَوْضِعِ الِاسْتِحْسَانِ وَشَبَّهَ ذَلِكَ بِالطَّرْدِ مَعَ الْمُؤَثِّرِ، وَقَالَ الْعَمَلُ بِالْمُؤَثِّرِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ بِالطَّرْدِ جَائِزًا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ، وَهَذَا وَهْمٌ عِنْدِي فَإِنَّ اللَّفْظَ الْمَذْكُورَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ، وَالْمَتْرُوكُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ وَرُبَّمَا قِيلَ إلَّا أَنِّي أَسْتَقْبِحُ ذَلِكَ، وَمَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ مِنْ الدَّلِيلِ شَرْعًا فَاسْتِقْبَاحُهُ يَكُونُ كُفْرًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْقِيَاسَ مَتْرُوكٌ فِي مُعَارَضَةِ الِاسْتِحْسَانِ أَصْلًا، وَأَنَّ الْأَضْعَفَ يَسْقُطُ فِي مُقَابَلَةِ الْأَقْوَى. وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ بَعْدَهُ بِأَسْطُرٍ مَا يُوَافِقُ هَذَا حَيْثُ قَالَ فَسَقَطَ حُكْمُ الْقِيَاسِ بِمُعَارَضَةِ الِاسْتِحْسَانِ لِعَدَمِهِ فِي التَّقْدِيرِ، وَقَالَ فَصَارَ هَذَا بَاطِنًا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ الظَّاهِرُ فِي مُقَابَلَتِهِ فَسَقَطَ حُكْمُ الظَّاهِرِ لِعَدَمِهِ

[أقسام الاستحسان]

وَلِلِاسْتِحْسَانِ أَقْسَامٌ وَهُوَ مَا ثَبَتَ بِالْأَثَرِ مِثْلُ السَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ وَبَقَاءِ الصَّوْمِ مَعَ فِعْلِ النَّاسِي ـــــــــــــــــــــــــــــQوَهَكَذَا حُكْمُ الطَّرْدِ مَعَ الْأَثَرِ فَإِنَّ الطَّرْدَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَالْأَثَرَ حُجَّةٌ فَكَيْفَ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي مُقَابَلَةِ مَا هُوَ حُجَّةٌ بَلْ الْعَمَلُ بِالْأَثَرِ وَاجِبٌ، وَالطَّرْدُ بِمُقَابَلَتِهِ سَاقِطٌ، وَهَذَا هُوَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ مُعَارَضَةٍ فَإِنَّ الدَّلِيلَيْنِ إذَا تَعَارَضَا وَظَهَرَ لِأَحَدِهِمَا رُجْحَانٌ عَلَى الْآخَرِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ وَسَقَطَ الْآخَرُ أَصْلًا فَكَذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ مَعَ الِاسْتِحْسَانِ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ إنَّهُ الْوَجْهُ الْأَوْلَى فِي الْعَمَلِ بِهِ أَنَّهُ هُوَ الْوَجْهُ الْمَأْخُوذُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَمِنْ قَوْلِهِ إنَّ الْعَمَلَ بِالْآخَرِ جَائِزٌ إنَّ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ جَائِزٌ عِنْدَ سَلَامَتِهِ عَنْ مُعَارَضَةِ الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الطَّرْدِ مَعَ الْأَثَرِ يَعْنِي إذَا لَمْ يُعَارِضْ الطَّرْدَ أَثَرٌ جَازَ الْعَمَلُ بِهِ إذَا كَانَ مُلَائِمًا، وَإِذَا ظَهَرَ الْأَثَرُ فَالْمَعْمُولُ هُوَ الْأَثَرُ وَالطَّرْدُ سَاقِطٌ، وَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ ظَاهِرِ اللَّفْظِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمُنَاقَضَةِ [أَقْسَامُ الِاسْتِحْسَانِ] قَوْلُهُ: (وَلِلِاسْتِحْسَانِ أَقْسَامٌ) يَعْنِي لَيْسَ الِاسْتِحْسَانُ مُقْتَصِرًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَوْعَيْهِ بَلْ لَهُ أَنْوَاعٌ أُخَرُ مِثْلُ الِاسْتِحْسَانِ الثَّابِتِ بِالْأَثَرِ وَالْإِجْمَاعِ وَالضَّرُورَةِ إلَّا أَنَّ غَرَضَنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ لَمَّا كَانَ تَقْسِيمَ أَنْوَاعِ الْعِلَلِ إذْ نَحْنُ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْعِلَّةِ قَسَّمْنَا الِاسْتِحْسَانَ الَّذِي هُوَ قِيَاسٌ خَفِيٌّ فَانْقَسَمَ عَلَى نَوْعَيْنِ كَمَا بَيَّنَّا، وَهُوَ مَا ثَبَتَ بِالْأَثَرِ الضَّمِيرُ إمَّا أَنْ يَعُودَ إلَى الِاسْتِحْسَانِ أَوْ إلَى أَقْسَامٍ وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ مُشْتَبِهٌ، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ لَفْظَةَ هُوَ، وَمِنْهُ فِيمَا بَعْدُ لَكَانَ أَوْضَحَ مِثْلُ السَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ وَبَقَاءِ الصَّوْمِ مَعَ فِعْلِ النَّاسِي. فَإِنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْعَقْدِ مَعْدُومٌ حَقِيقَةً عِنْدَ الْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ لَا يَنْعَقِدُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ بِالْأَثَرِ الْمُوجِبِ لِلتَّرَخُّصِ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّاوِي وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ» الْحَدِيثَ، وَأَقَمْنَا الذِّمَّةَ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَقَامَ مِلْكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ جَوَازِ السَّلَمِ. وَكَذَا الْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، وَهُوَ النَّفَقَةُ مَعْدُومٌ فِي الْحَالِ، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْعَقْدِ مُضَافًا إلَى زَمَانِ وُجُودِهِ؛ لِأَنَّ الْمُعَاوَضَاتِ لَا تَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ بِالْأَثَرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَعْطُوا الْأَجِيرَ حَقَّهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ» فَالْأَمْرُ بِإِعْطَاءِ الْأَجْرِ دَلِيلُ صِحَّةِ الْعَقْدِ وَكَذَا الْأَكْلُ نَاسِيًا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّوْمِ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَبْقَى مَعَ وُجُودِ مَا يُنَافِيهِ كَالطَّهَارَةِ مَعَ الْحَدَثِ وَالِاعْتِكَافِ مَعَ الْخُرُوجِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَّا أَنَّهُ مَتْرُوكٌ بِالْأَثَرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَتِمَّ عَلَى صَوْمِك فَإِنَّمَا أَطْعَمَك اللَّهُ وَسَقَاك» ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ قَالَ لَوْلَا قَوْلُ النَّاسِ لَقُلْت يَقْتَضِي يَعْنِي بِهِ رِوَايَةَ الْأَثَرِ. وَمِنْهُ أَيْ وَمِنْ الِاسْتِحْسَانِ مَا ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ مِثْلُ الِاسْتِصْنَاعِ يَعْنِي فِيمَا فِيهِ لِلنَّاسِ تَعَامُلٌ مِثْلُ أَنْ يَأْمُرَ إنْسَانًا لِيُخَرِّزَ لَهُ خُفًّا مَثَلًا بِكَذَا وَيُبَيِّنَ صِفَتَهُ وَمِقْدَارَهُ، وَلَا يَذْكُرُ لَهُ أَجَلًا وَيُسَلِّمُ إلَيْهِ الدَّرَاهِمَ أَوْ لَا يُسَلِّمُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِهِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ مَعْدُومٌ لِلْحَالِ حَقِيقَةً، وَهُوَ مَعْدُومٌ وَصْفًا فِي الذِّمَّةِ. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ إلَّا بَعْدَ تَعَيُّنِهِ حَقِيقَةً أَيْ ثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ كَالسَّلَمِ فَأَمَّا مَعَ الْعَدَمِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ عَقْدٌ لَكِنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا تَرْكَهُ بِالْإِجْمَاعِ الثَّابِتِ بِتَعَامُلِ الْأُمَّةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ؛ لِأَنَّ بِالْإِجْمَاعِ يَتَعَيَّنُ جِهَةُ الْخَطَأِ فِي الْقِيَاسِ كَمَا يَتَعَيَّنُ بِالنَّصِّ فَيَكُونُ وَاجِبَ التَّرْكِ، وَقَصَرُوا الْأَمْرَ عَلَى مَا فِيهِ تَعَامُلٌ؛ لِأَنَّهُ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ. فَإِنْ قِيلَ: الْإِجْمَاعُ وَقَعَ مُعَارِضًا لِلنَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك» قُلْنَا: قَدْ صَارَ النَّصُّ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ مَخْصُوصًا

وَمِنْهُ مَا ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ الِاسْتِصْنَاعُ، وَمِنْهُ مَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ، وَهُوَ تَطْهِيرُ الْحِيَاضِ وَالْآبَارِ وَالْأَوَانِي، وَإِنَّمَا غَرَضُنَا هُنَا تَقْسِيمُ وُجُوهِ الْعِلَلِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ وَلَمَّا صَارَتْ الْعِلَّةُ عِنْدَنَا عِلَّةً بِأَثَرِهَا سَمَّيْنَا الَّذِي ضَعُفَ أَثَرُهَا قِيَاسًا وَسَمَّيْنَا الَّذِي قَوِيَ أَثَرُهَا اسْتِحْسَانًا أَيْ قِيَاسًا مُسْتَحْسَنًا، وَقَدَّمْنَا الثَّانِيَ، وَإِنْ كَانَ خَفِيًّا عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ جَلِيًّا؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِقُوَّةِ الْأَثَرِ دُونَ الظُّهُورِ وَالْجَلَاءِ أَلَا يُرَى أَنَّ الدُّنْيَا ظَاهِرَةٌ وَالْعُقْبَى بَاطِنَةٌ وَقَدْ تَرَجَّحَ الْبَاطِنُ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ، وَهُوَ الدَّوَامُ وَالْخُلُودُ وَالصَّفْوَةُ وَتَأَخُّرُ الظَّاهِرِ لِضَعْفِ أَثَرِهِ، وَكَالنَّفْسِ مَعَ الْقَلْبِ وَالصَّبْرِ مَعَ الْعَقْلِ فَسَقَطَ حُكْمُ الْقِيَاسِ بِمُعَارَضَةِ الِاسْتِحْسَانِ لِعَدَمِهِ فِي التَّقْدِيرِ. مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ سُؤْرَ سِبَاعِ الطَّيْرِ فِي الْقِيَاسِ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ سُؤْرُ مَا هُوَ سَبُعٌ مُطْلَقٌ فَكَانَ كَسُؤْرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ، وَهَذَا مَعْنًى ظَاهِرُ الْأَثَرِ؛ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي حُرْمَةِ الْأَكْلِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ هُوَ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ السَّبُعَ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ بِدَلِيلِ جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِهِ شَرْعًا ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالْإِجْمَاعِ فَبَقِيَ الْقِيَاسُ النَّافِي لِلْجَوَازِ مُعَارِضًا لِلْإِجْمَاعِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ بِمُعَارَضَةِ الْإِجْمَاعِ. وَمِنْهُ مَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ، وَهُوَ تَطْهِيرُ الْحِيَاضِ وَالْآبَارِ وَالْأَوَانِي. فَإِنَّ الْقِيَاسَ نَافٍ طَهَارَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بَعْدَ تَنَجُّسِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ صَبُّ الْمَاءِ عَلَى الْحَوْضِ أَوْ الْبِئْرِ لِيَتَطَهَّرَ. وَكَذَا الْمَاءُ الدَّاخِلُ فِي الْحَوْضِ أَوْ الَّذِي يَنْبُعُ مِنْ الْبِئْرِ تَتَنَجَّسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَسِ وَالدَّلْوُ تَتَنَجَّسُ أَيْضًا بِمُلَاقَاةِ الْمَاءِ فَلَا تَزَالُ تَعُودُ، وَهِيَ نَجِسَةٌ. وَكَذَا الْإِنَاءُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي أَسْفَلِهِ ثَقْبٌ يَخْرُجُ الْمَاءُ مِنْهُ إذَا أُجْرِيَ مِنْ أَعْلَاهُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ النَّجِسَ يَجْتَمِعُ فِي أَسْفَلِهِ فَلَا يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا تَرْكَ الْعَمَلِ بِمُوجِبِ الْقِيَاسِ لِلضَّرُورَةِ الْمُحْوِجَةِ إلَى ذَلِكَ لِعَامَّةِ النَّاسِ وَلِلضَّرُورَةِ أَثَرٌ فِي سُقُوطِ الْخِطَابِ. ثُمَّ بَيَّنَ وَجْهَ تَرْجِيحِ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى الْقِيَاسِ فَقَالَ: وَلَمَّا صَارَتْ الْعِلَّةُ عِنْدَنَا عِلَّةً بِأَثَرِهَا خِلَافًا لِأَهْلِ الطَّرْدِ وَغَيْرِهِمْ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ. سَمَّيْنَا الَّذِي أَيْ الشَّيْءَ الَّذِي ضَعُفَ أَثَرُهَا قِيَاسًا. وَسَمَّيْنَا الشَّيْءَ الَّذِي قَوِيَ أَثَرُهَا اسْتِحْسَانًا ذَكَرَ الِاسْمَ الْمَوْصُولَ بِتَأْوِيلِ الشَّيْءِ، وَأَنَّثَ الضَّمِيرَ بِتَأْوِيلِ الْعِلَّةِ. وَلَوْ قَالَ سَمَّيْنَا الَّذِي ضَعُفَ أَثَرُهُ أَوْ سَمَّيْنَا الَّتِي ضَعُفَ أَثَرُهَا لَكَانَ أَبْعَدَ مِنْ الِاشْتِبَاهِ. وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ سُمِّيَ الَّذِي ضَعُفَ أَثَرُهُ اسْتِحْسَانًا أَيْضًا وَعَلَى الْعَكْسِ، وَقَدْ مَرَّ الْجَوَابُ عَنْهُ. وَقَدَّمْنَا الثَّانِيَ، وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ الَّذِي قَوِيَ أَثَرُهُ، وَإِنْ كَانَ خَفِيًّا عَلَى الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ الَّذِي ضَعُفَ أَثَرُهُ، وَإِنْ كَانَ جَلِيًّا. وَقَدْ يُرَجَّحُ الْبَاطِنُ بِقُوَّةِ أَثَرِهِ، وَهُوَ الْبَقَاءُ حَتَّى وَجَبَ الِاشْتِغَالُ لِطَلَبِهِ. وَتَأَخَّرَ الظَّاهِرُ لِضَعْفِ أَثَرِهِ، وَهُوَ الْغَنَاءُ حَتَّى وَجَبَ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ، وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا مِنْ ذَهَبٍ وَالْآخِرَةُ مِنْ خَزَفٍ لَاخْتَارَ الْعَاقِلُ الْخَزَفَ الْبَاقِيَ عَلَى الذَّهَبِ الْفَانِي كَيْفَ، وَقَدْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى الْعَكْسِ. وَكَالنَّفْسِ مَعَ الْقَلْبِ فَإِنَّ الْقَلْبَ تَرَجَّحَ عَلَى النَّفْسِ، وَإِنْ كَانَتْ النَّفْسُ ظَاهِرَةً وَالْقَلْبُ بَاطِنًا؛ لِأَنَّ أَثَرَ عَمَلِ الْقَلْبِ أَقْوَى مِنْ عَمَلِ النَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْعِلْمِ وَالْبَصَرِ مَعَ الْعَقْلِ فَإِنَّ الْعَقْلَ رَاجِحٌ، وَإِنْ كَانَ بَاطِنًا لِقُوَّةِ أَثَرِ إدْرَاكِهِ وَضَعْفِ أَثَرِ إدْرَاكِ الْبَصَرِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ. قَوْلُهُ: (مِثَالُ ذَلِكَ) أَيْ مِثَالُ تَقَدُّمِ الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي قَوِيَ أَثَرُهُ عَلَى الْقِيَاسِ الَّذِي ضَعُفَ أَثَرُهُ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ مِثَالُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ الْقِيَاسِ وَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ. أَنَّ سُؤْرَ سِبَاعِ الطَّيْرِ كَالصَّقْرِ وَالْبَازِي وَالشَّاهِينِ فِي الْقِيَاسِ نَجِسٌ؛ لِأَنَّ السُّؤْرَ مُعْتَبَرٌ بِاللَّحْمِ، وَلَحْمُ هَذِهِ الطُّيُورِ حَرَامٌ كَلَحْمِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ، وَكَانَ سُؤْرُهَا نَجِسًا، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ هُوَ طَاهِرٌ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّ السَّبُعَ كَذَا. اعْلَمْ أَنَّ مَشَايِخَنَا عَلَّلُوا فِي نَجَاسَةِ سُؤْرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ بِأَنَّ لُعَابَهَا مُتَوَلِّدٌ مِنْ اللَّحْمِ، وَلَحْمَهَا نَجِسٌ فَيَكُونُ السُّؤْرُ نَجِسًا أَيْضًا. وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّحْمَ إنْ كَانَ نَجِسًا لِذَاتِهِ بِاعْتِبَارِ الْحُرْمَةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ بَيْعُ السَّبُعِ، وَلَا الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَلَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ كَالْخِنْزِيرِ، وَإِنْ كَانَ نَجِسًا بِالْمُجَاوِرِ، وَكَانَتْ عَيْنُهُ طَاهِرَةً كَالْجِلْدِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَنَجَّسَ السُّؤْرُ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ الْمُجَاوِرَةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي نَجَاسَةِ السُّؤْرِ كَمَا فِي سُؤْرِ الشَّاةِ وَالْآدَمِيِّ فَسَلَكَ الشَّيْخُ طَرِيقَةً يَنْدَفِعُ عَنْهُ هَذَا السُّؤَالُ. فَقَالَ السَّبُعُ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ لِدَلِيلِ جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِهِ يَعْنِي مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ إذْ لَوْ كَانَ نَجِسَ الْعَيْنِ حَرُمَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ كَمَا حَرُمَ بِالْخِنْزِيرِ وَسَائِرِ الْأَنْجَاسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5] {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج: 30] {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] وَهَذَا

وَقَدْ ثَبَتَ نَجَاسَتُهُ ضَرُورَةَ تَحْرِيمِ لَحْمِهِ فَأَثْبَتْنَا حُكْمًا بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ، وَهُوَ النَّجَاسَةُ الْمُجَاوِرَةُ فَيَثْبُتُ صِفَةُ النَّجَاسَةِ فِي رُطُوبَتِهِ وَلُعَابِهِ وَسِبَاعُ الطَّيْرِ يَشْرَبُ بِالْمِنْقَارِ عَلَى سَبِيلِ الْأَخْذِ ثُمَّ الِابْتِلَاعِ وَالْعَظْمُ طَاهِرٌ بِذَاتِهِ خَالٍ عَنْ مُجَاوَرَةِ النَّجِسِ أَلَا يُرَى أَنَّ عَظْمَ الْمَيِّتِ طَاهِرٌ فَعَظْمُ الْحَيِّ أَوْلَى فَصَارَ هَذَا بَاطِنًا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ الظَّاهِرُ فِي مُقَابَلَتِهِ فَسَقَطَ حُكْمُ الظَّاهِرِ لِعَدَمِهِ، وَعَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ دَلِيلِهِ لَا يُعَدُّ مِنْ بَابِ الْخُصُوصِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فِي بَابِ إبْطَالِ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. ـــــــــــــــــــــــــــــQيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ السَّبُعُ طَاهِرًا كَالشَّاةِ وَالْآدَمِيِّ. وَقَدْ ثَبَتَ نَجَاسَتُهُ أَيْ نَجَاسَةُ السَّبُعِ بِاعْتِبَارِ حُرْمَةِ لَحْمِهِ فَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْحُرْمَةِ تَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ فَإِنَّ الْحُرْمَةَ إمَّا أَنْ تَثْبُتَ لِعَدَمِ صَلَاحِيَةِ الْغِذَاءِ كَالذُّبَابِ وَالتُّرَابِ إذْ الْأَكْلُ أُبِيحَ لِلْغِذَاءِ فَيَصِيرُ بِدُونِهِ عَبَثًا. أَوْ لِلْخَبَثِ طَبْعًا كَالضُّفْدَعِ وَالسُّلَحْفَاةِ. أَوْ لِلِاحْتِرَامِ كَالْآدَمِيِّ أَوْ لِلنَّجَاسَةِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ كُلَّ نَجِسٍ بِنَفْسِهِ أَوْ بِمُجَاوِرٍ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالطَّعَامِ النَّجِسِ، وَلَا احْتِرَامَ لِلسِّبَاعِ، وَهِيَ صَالِحَةٌ لِلْغِذَاءِ، وَلَمْ تَسْتَخْبِثْهَا الطِّبَاعُ فَإِنَّهَا كَانَتْ مَأْكُولَةً قَبْلَ التَّحْرِيمِ فَثَبَتَ أَنَّ حُرْمَتَهَا لِلنَّجَاسَةِ. فَإِنْ قِيلَ: لَمْ تَثْبُتْ الْحُرْمَةُ لِلنَّجَاسَةِ بَلْ لِفَسَادِ طَبْعٍ فَإِنَّهَا حَيَوَانَاتٌ نَاهِبَةٌ وَيَتَعَدَّى إلَى الْآكِلِينَ فَحَرَّمَهَا الشَّرْعُ صِيَانَةً عَنْ ذَلِكَ. قُلْنَا هَذِهِ مَصْلَحَةٌ وَحِكْمَةٌ مَطْلُوبَةٌ فِي الْعَاقِبَةِ، وَالْمَصَالِحُ وَالْحِكَمُ أَدِلَّةٌ عَلَى صِحَّةِ الْأَسْبَابِ، وَلَا تَكُونُ عِلَّةً بِأَنْفُسِهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تُنَالُ بِغَالِبِ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسُ قَوْلٌ بِغَالِبِ الرَّأْيِ فَتَثْبُتُ النَّجَاسَةُ لِتَكُونَ الْحُرْمَةُ مَبْنِيَّةً عَلَى سَبَبٍ ظَاهِرٍ دُونَ الْحِكْمَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي حَقِّ الْمَشْرُوعِيَّةِ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْت مِنْ السَّبَبِ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ بِنَجَاسَةٍ لِيَكُونَ آكَدَ فِي إيجَابِ التَّجَنُّبِ كَمَا فِي الْخَمْرِ فَإِنَّهَا حُرِّمَتْ؛ لِأَنَّهَا مُفْسِدَةٌ عُقُولَنَا بِطَبْعِهَا فَحُرِّمَتْ بِنَجَاسَةٍ، وَكَذَلِكَ الْخِنْزِيرُ وَالْكَلْبُ. وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ حُرْمَةَ لَحْمِ السَّبُعِ لِنَجَاسَتِهِ اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ السَّبُعُ نَجِسَ الْعَيْنِ كَالْخِنْزِيرِ. فَأَثْبَتْنَا يَعْنِي لِلسَّبُعِ حُكْمًا بَيْنَ حُكْمَيْنِ أَيْ بَيْنَ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالنَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَهُوَ النَّجَاسَةُ الْمُجَاوِرَةُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ مَا لَا يُؤْكَلُ، وَهُوَ طَاهِرٌ كَالْجِلْدِ وَالْعَظْمِ وَالْعَصَبِ وَالشَّعْرِ، وَمَا يُؤْكَلُ، وَهُوَ نَجِسٌ كَاللَّحْمِ وَالشَّحْمِ فَأَشْبَهَ دُهْنًا مَاتَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الدُّهْنِ النَّجِسِ وَالِاسْتِصْبَاحُ بِهِ عِنْدَنَا، وَيَحْرُمُ أَكْلُ لَحْمِهِ لِنَجَاسَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَطْهُرَ لَحْمُهُ بِالذَّكَاةِ كَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَقَدْ نَصَّ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ الْهِدَايَةِ أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ كَالْجِلْدِ. قُلْنَا: مُخْتَارُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ فَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَسْرَارِ أَنَّ مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ يَقُولُ اللَّحْمُ طَاهِرٌ، وَإِنْ لَمْ يَحِلَّ الْأَكْلُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ نَجِسٌ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ فِي مِثْلِهِ تَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ وَنُقِلَ عَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُ إذَا صَلَّى، وَمَعَهُ لَحْمُ سَبُعٍ مَذْبُوحٍ مِنْ سِبَاعِ الْوَحْشِ لَا يُجَوِّزُ صَلَاتَهُ، وَلَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ أَفْسَدَهُ، وَهَكَذَا عَنْ النَّاطِفِيِّ كَذَا فِي فَتَاوَى الْقَاضِي الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ الْخُلَاصَةِ أَيْضًا. وَلَمَّا ثَبَتَتْ صِفَةُ النَّجَاسَةِ فِي لَحْمِهِ ثَبَتَتْ فِي رُطُوبَتِهِ وَلُعَابِهِ؛ لِأَنَّ رُطُوبَتَهُ مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ لَحْمِهِ الَّذِي هُوَ نَجِسٌ لَا مِمَّا هُوَ طَاهِرٌ مِنْهُ، وَإِنَّهُ يَشْرَبُ بِلِسَانِهِ الَّذِي هُوَ رَطْبٌ مِنْ لُعَابِهِ فَيَتَنَجَّسُ سُؤْرُهُ ضَرُورَةً بِمُخَالَطَةِ لُعَابِهِ وَسِبَاعُ الطَّيْرِ تَشْرَبُ بِالْمِنْقَارِ عَلَى سَبِيلِ الْأَخْذِ ثُمَّ الِابْتِلَاعِ وَالْمِنْقَارُ طَاهِرٌ بِذَاتِهِ خَالٍ عَنْ مُجَاوَرَةِ النَّجِسِ خِلْقَةً؛ لِأَنَّهُ عَظْمٌ جَافٌّ لَيْسَ فِيهِ رُطُوبَةٌ فَلَا يُجَاوِرُ الْمَاءَ بِمُلَاقَاةِ نَجَاسَةٍ فَيَبْقَى طَاهِرًا. إلَّا أَنَّا أَثْبَتْنَا صِفَةَ الْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا يُحْتَرَزُ بِهَا عَنْ الْمَيْتَةِ وَالنَّجَاسَةِ فَكَانَتْ كَالدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ. وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ إنَّ مَا يَقَعُ عَلَى الْجِيَفِ مِنْ سِبَاعِ الطَّيْرِ فَسُؤْرُهُ نَجِسٌ؛ لِأَنَّ مِنْقَارَهُ لَا يَخْلُو عَنْ نَجَاسَةٍ عَادَةً كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ. وَالْجَوَابُ أَنَّهَا تُدَلِّكُ مِنْقَارَهَا بِالْأَرْضِ بَعْدَ الْأَكْلِ، وَهُوَ شَيْءٌ صَلْبٌ فَيَزُولُ مَا عَلَيْهِ بِذَلِكَ

وَأَمَّا الَّذِي ظَهَرَ فَسَادُهُ وَاسْتَتَرَتْ صِحَّتُهُ، وَأَثَرُهُ فَهُوَ الْقِيَاسُ الَّذِي عَمِلَ بِهِ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَابَلَهُ اسْتِحْسَانٌ ظَهَرَ أَثَرُهُ وَاسْتَتَرَ فَسَادُهُ فَسَقَطَ الْعَمَلُ بِهِ مِثَالُهُ أَنَّهُمْ قَالُوا فِيمَنْ تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ فِي الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَرْكَعُ بِهَا قِيَاسًا؛ لِأَنَّ النَّصَّ قَدْ وَرَدَ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَخَرَّ رَاكِعًا} [ص: 24] ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَنَا بِالسُّجُودِ، وَالرُّكُوعُ خِلَافُهُ كَمَا فِي سُجُودِ الصَّلَاةِ فَهَذَا أَثَرٌ ظَاهِرٌ. فَأَمَّا وَجْهُ الْقِيَاسِ فَمَجَازٌ مَحْضٌ لَكِنَّ الْقِيَاسَ أَوْلَى بِأَثَرِهِ الْبَاطِنِ، وَالِاسْتِحْسَانُ مَتْرُوكٌ لِفَسَادِهِ الْبَاطِنِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَيَطْهُرُ؛ وَلِأَنَّا لَمْ نَتَيَقَّنْ بِالنَّجَاسَةِ عَلَى مِنْقَارِهِ فَيَثْبُتُ الْكَرَاهَةُ بِالْعَادَةِ دُونَ النَّجَاسَةِ كَمَا فِي الدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ. ثُمَّ تَأَيَّدَ مَا ذَكَرْنَا بِالْعِلَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فِي الْهِرَّةِ فَإِنَّ مَعْنَى الْبَلْوَى يَتَحَقَّقُ فِي سُؤْرِ سِبَاعِ الطَّيْرِ؛ لِأَنَّهَا تَنْقُضُ مِنْ الْهَوَاءِ، وَلَا يُمْكِنُ صَوْنُ الْأَوَانِي عَنْهَا خُصُوصًا فِي الصَّحَارِي بِخِلَافِ سِبَاعِ الْوَحْشِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُسْتَحْسَنًا بِالضَّرُورَةِ أَيْضًا، وَإِثْبَاتُ الْكَرَاهَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ الضَّرُورَةَ فِيهَا لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ فَلِوُجُودِ أَصْلِ الضَّرُورَةِ انْتَفَتْ النَّجَاسَةُ وَلِكَوْنِهَا غَيْرَ لَازِمَةٍ بَقِيَتْ الْكَرَاهَةُ. طَعَنَ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ أَنَّا سَلَّمْنَا أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ لَيْسَ قَوْلًا بِالتَّشَهِّي، وَلَكِنَّهُ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ إذَا كَانَ ثَابِتًا فِي صُورَةِ الِاسْتِحْسَانِ، وَفِي سَائِرِ الصُّوَرِ ثُمَّ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي صُورَةِ الِاسْتِحْسَانِ وَبَقِيَ مَعْمُولًا بِهِ فِي غَيْرِ تِلْكَ الصُّورَةِ كَانَ ذَلِكَ تَخْصِيصًا لَهُ، وَهُوَ بَاطِلٌ لِمَا سَنَذْكُرُ. فَأَشَارَ إلَى الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ فَصَارَ هَذَا أَيْ الْمَعْنَى الَّذِي يُوجِبُ الطَّهَارَةَ بِصِفَةِ الْكَرَاهَةِ بَاطِنًا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ الظَّاهِرُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي مُقَابَلَتِهِ فَسَقَطَ حُكْمُ الظَّاهِرِ لِعَدَمِهِ فِي نَفْسِهِ لَا أَنْ يَنْعَدِمَ حُكْمُهُ مَعَ وُجُودِهِ، وَعَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ لَيْسَ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالِاسْتِحْسَانِ قَوْلٌ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ فَقَدْ أَخْطَأَ؛ لِأَنَّ بِمَا ذَكَرْنَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لِنَجَاسَةِ سُؤْرِ سِبَاعِ الْوَحْشِ الرُّطُوبَةُ النَّجِسَةُ فِي الْآلَةِ الَّتِي تَشْرَبُ بِهَا، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ فِي سِبَاعِ الطَّيْرِ فَانْعَدَمَ الْحُكْمُ لِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ مِنْ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ فِي شَيْءٍ وَعَلَى اعْتِبَارِ الصُّورَةِ يَتَرَاءَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ يَتَبَيَّنُ عِنْدَ التَّأَمُّلِ انْعِدَامُ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ وُجُوبُ التَّحَرُّزِ عَنْ الرُّطُوبَةِ النَّجِسَةِ الَّتِي يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ، وَقَدْ صَارَ هَذَا مَعْلُومًا بِالتَّنْصِيصِ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ فِي الْهِرَّةِ فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَنْعَدِمُ بَعْضُ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ كَانَ انْعِدَامُ الْحُكْمِ لِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ فَلَا يَكُونُ تَخْصِيصًا. قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الَّذِي ظَهَرَ فَسَادُهُ) أَيْ الْقِيَاسُ الَّذِي ظَهَرَ فَسَادُهُ، وَهَذَا بَيَانُ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ الْقِيَاسِ وَيَتَضَمَّنُ بَيَانَ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ الِاسْتِحْسَانِ أَيْضًا. مِثَالُهُ أَيْ مِثَالُ الْقِيَاسِ الْمَوْصُوفِ أَنَّهُمْ يَعْنِي عُلَمَاءَنَا قَالُوا فِيمَنْ تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ فِي الصَّلَاةِ إنَّهُ يَرْكَعُ بِهَا قِيَاسًا. ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ إذَا تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ فِي صَلَاتِهِ، وَهِيَ فِي آخِرِ السُّورَةِ إلَّا آيَاتٍ بَقِينَ فَإِنْ شَاءَ رَكَعَ لَهَا، وَإِنْ شَاءَ سَجَدَ. وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ إنْ شَاءَ رَكَعَ، وَإِنْ شَاءَ سَجَدَ بَعْضُهُمْ قَالُوا مَعْنَاهُ إنْ شَاءَ سَجَدَ لَهَا سَجْدَةً عَلَى حِدَةٍ، وَإِنْ شَاءَ رَكَعَ رُكُوعًا عَلَى حِدَةٍ غَيْرَ أَنَّ الرُّكُوعَ يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ يَنْوِي الرُّكُوعَ لِلتِّلَاوَةِ، وَالسَّجْدَةُ لَا تَحْتَاجُ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ السَّجْدَةُ وَالرُّكُوعُ إنْ كَانَ يُخَالِفُ السَّجْدَةَ صُورَةً يُوَافِقُهَا مَعْنًى فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُوَافِقُهَا مَعْنًى يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُخَالِفُهَا صُورَةً يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ بِخِلَافِ السَّجْدَةِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْوَاجِبَةُ الْأَصْلِيَّةُ فَلَا يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى النِّيَّةِ. وَبَعْضُهُمْ قَالُوا مَعْنَى قَوْلِهِ إنْ شَاءَ رَكَعَ لَهَا، وَإِنْ شَاءَ أَقَامَ رُكُوعَ الصَّلَاةِ مَقَامَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ. قُلْت: وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ، وَأَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ. وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنْ كَانَتْ السَّجْدَةُ فِي وَسَطِ السُّورَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدَ لَهَا ثُمَّ يَقُومَ فَيَقْرَأَ مَا بَقِيَ ثُمَّ يَرْكَعُ، وَإِنْ رَكَعَ فِي مَوْضِعِ السَّجْدَةِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ خَتَمَ السُّورَةَ ثُمَّ رَكَعَ لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ عَنْ السَّجْدَةِ نَوَاهَا أَوْ لَمْ يَنْوِهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ دَيْنًا

وَبَيَانُهُ أَنَّ السُّجُودَ لَمْ يَجِبْ عِنْدَ التِّلَاوَةِ قُرْبَةً مَقْصُودَةً أَلَا تَرَى أَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ مُجَرَّدُ مَا يَصْلُحُ تَوَاضُعًا عِنْدَ هَذِهِ التِّلَاوَةِ وَالرُّكُوعِ فِي الصَّلَاةِ بِعَمَلِ هَذَا الْعَمَلِ بِخِلَافِ الرُّكُوعِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَبِخِلَافِ سُجُودِ الصَّلَاةِ فَصَارَ الْأَثَرُ الْخَفِيُّ مَعَ الْفَسَادِ الظَّاهِرِ أَحَقَّ مِنْ الْأَثَرِ الظَّاهِرِ مَعَ الْفَسَادِ الْبَاطِنِ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَيْهِ بِفَوَاتِ مَحَلِّ الْأَدَاءِ وَبِصَيْرُورَتِهَا دَيْنًا صَارَتْ مَقْصُودَةً بِنَفْسِهَا؛ لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ مَقْصُودًا لَا يَجِبُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ كَالطَّهَارَةِ لَا تَصِيرُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بِحَالٍ فَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الصُّلْبِيَّةِ فَلَا يَتَأَدَّى بِالرُّكُوعِ، وَلَا بِسَجْدَةِ الصَّلَاةِ. ثُمَّ قَالَ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ بِالسَّجْدَةِ بِعَيْنِهَا فَالْقِيَاسُ أَنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَبِالْقِيَاسِ نَأْخُذُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُجْزِيهِ إلَّا السَّجْدَةُ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ مُرَادُهُ إذَا تَلَاهَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَرَكَعَ فِي الْقِيَاسِ يُجْزِيهِ؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ يَتَقَارَبَانِ فَيَنُوبُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ كَمَا يَنُوبُ فِي الصَّلَاةِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الرُّكُوعُ خَارِجَ الصَّلَاةِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فَلَا يَنُوبُ عَمَّا هُوَ قُرْبَةٌ بِخِلَافِ الرُّكُوعِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِلَّا ظَهَرَ أَنَّ مُرَادَهُ الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ فِي الرُّكُوعِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ وَضْعِ السَّجْدَةِ فَالشَّيْخُ بِقَوْلِهِ فِي الصَّلَاةِ رَدَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَاخْتَارَ الْقَوْلَ الثَّانِيَ. ثُمَّ يَحْتَاجُ هَاهُنَا إلَى بَيَانِ وَجْهِ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ أَوَّلًا ثُمَّ إلَى بَيَانِ قُوَّةِ أَثَرِ الْقِيَاسِ وَضَعْفِ أَثَرِ الِاسْتِحْسَانِ ثَانِيًا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ. فَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ يَتَشَابَهَانِ فِي مَعْنَى الْخُضُوعِ وَلِهَذَا أَطْلَقَ اسْمَ الرُّكُوعِ عَلَى السُّجُودِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَخَرَّ رَاكِعًا} [ص: 24] أَيْ سَاجِدًا؛ لِأَنَّ الْخُرُورَ هُوَ السُّقُوطُ، وَإِنَّهُ مَوْجُودٌ فِي السُّجُودِ دُونَ الرُّكُوعِ، وَيُقَالُ رَكَعَتْ النَّخْلَةُ وَسَجَدَتْ إذَا طَأْطَأَتْ رَأْسَهَا، وَلَمَّا ثَبَتَ التَّشَابُهُ بَيْنَهُمَا يَسْقُطُ الْوَاجِبُ عَنْهُ بِالرُّكُوعِ كَمَا يَسْقُطُ بِالسُّجُودِ. أَوْ يُقَالُ لَمَّا ثَبَتَ التَّشَابُهُ يَنُوبُ الرُّكُوعُ عَنْ السُّجُودِ كَمَا تَنُوبُ الْقِيمَةُ عَنْ الْوَاجِبِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ فَهَذَا قِيَاسٌ ظَاهِرٌ لَا حَاجَةَ فِيهِ إلَى زِيَادَةِ تَأَمُّلٍ بَلْ هُوَ اعْتِبَارٌ لِأَحَدِ الْفِعْلَيْنِ بِالْآخَرِ بِظَاهِرِ الشَّبَهِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ قَدْ وَرَدَ بِهِ أَيْ بِالرُّكُوعِ فِي مَقَامِ السُّجُودِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24] ، وَإِنْ كَانَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا تَمَسُّكٌ بِظَاهِرِ النَّصِّ، وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي نُسْخَةٍ أُخْرَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَخَرَّ رَاكِعًا} [ص: 24] يَقْتَضِي وُجُوبَ الرُّكُوعِ عَقِيبَ التِّلَاوَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَهَذَا لَيْسَ بِقِيَاسٍ. قَوْلُهُ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ مَا ذَكَرْنَا. وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَنَا بِالسُّجُودِ بِقَوْلِهِ: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ} [النجم: 62] {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19] وَالرُّكُوعُ خِلَافُ السُّجُودِ أَيْ غَيْرُهُ حَقِيقَةً أَلَا تَرَى أَنَّ الرُّكُوعَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَنُوبُ عَنْ سُجُودِ الصَّلَاةِ، وَلَا السُّجُودُ عَنْ الرُّكُوعِ فَلَأَنْ لَا يَنُوبَ عَنْ سُجُودِ التِّلَاوَةِ كَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْقُرْبَ بَيْنَ رُكُوعِ الصَّلَاةِ وَسُجُودِهَا مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوجِبُ التَّحْرِيمَةِ أَظْهَرُ مِنْ الْقُرْبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَلِهَذَا لَوْ تَلَا خَارِجَ الصَّلَاةِ فَرَكَعَ لَهَا لَمْ يَجُزْ عَنْ السَّجْدَةِ فَفِي الصَّلَاةِ أَوْلَى إنْ أَقَامَ رُكُوعَ الصَّلَاةِ مَقَامَ السُّجُودِ؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ مُسْتَحَقٌّ بِجِهَةٍ أُخْرَى. فَهَذَا أَيْ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الرُّكُوعَ خِلَافُ السُّجُودِ حَقِيقَةً إلَى آخِرِهِ أَثَرٌ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ لَا يَتَأَدَّى بِإِتْيَانِ مَا يُخَالِفُهُ فَفَسَدَ بِهِ وَجْهُ الْقِيَاسِ، وَصَارَ مَرْجُوحًا؛ لِأَنَّ هَذَا عَمَلٌ بِحَقِيقَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَأَمَّا وَجْهُ الْقِيَاسِ فَمَجَازٌ مَحْضٌ أَيْ ثَابِتٌ بِدَلِيلٍ هُوَ مَجَازٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّكُوعِ السُّجُودُ بِاتِّفَاقِ الْمُفَسِّرِينَ فَإِثْبَاتُ التَّشَابُهِ وَالْقُرْبِ بَيْنَهُمَا بِهَذَا الدَّلِيلِ، وَبِنَاءُ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعَمَلِ بِالْمَجَازِ فِي مُقَابَلَةِ الْحَقِيقَةِ وَلِهَذَا سَمَّيْنَا الثَّانِيَ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى، وَأَخْفَى بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَوَّلِ كَمَا تَرَى. فَهَذَا بَيَانُ ظُهُورِ أَثَرِ الِاسْتِحْسَانِ وَظُهُورِ فَسَادِ الْقِيَاسِ بِمُقَابَلَتِهِ. لَكِنَّ الْقِيَاسَ أَوْلَى بِالْعَمَلِ بِأَثَرِهِ الْبَاطِنِ أَيْ بِسَبَبِ قُوَّةِ أَثَرِهِ الْبَاطِنِ. وَالِاسْتِحْسَانُ مَتْرُوكُ الْعَمَلِ

وَهَذَا قِسْمٌ عَزَّ وُجُودُهُ فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَالْأَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى، وَفَرْقٌ مَا بَيْنَ الْمُسْتَحْسَنِ بِالْأَثَرِ أَوْ الْإِجْمَاعِ أَوْ الضَّرُورَةِ، وَبَيْنَ الْمُسْتَحْسَنِ بِالْقِيَاسِ الْخَفِيِّ أَنَّ هَذَا يَصِحُّ تَعْدِيَتُهُ بِخِلَافِ الْأَقْسَامِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَعْلُولَةٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِفَسَادِهِ الْبَاطِنِ أَيْ الْخَفِيِّ. بَيَانُهُ أَيْ بَيَانُ الْأَثَرِ الْبَاطِنِ الَّذِي يَظْهَرُ بِهِ فَسَادُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ السُّجُودَ عِنْدَ التِّلَاوَةِ لَمْ يَجِبْ قُرْبَةً مَقْصُودَةً أَيْ لَمْ يَجِبْ قُرْبَةً لِعَيْنِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ الْمَقْصُودِ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِطَرِيقِ الِاسْتِبْدَادِ بِنَفْسِهِ وَلِهَذَا لَا يَلْتَزِمُ بِالنَّذْرِ كَمَا لَا يَلْتَزِمُ الطَّهَارَةَ بِهِ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ مُجَرَّدُ مَا يَصْلُحُ تَوَاضُعًا لِتَحْصُلَ بِهِ مُخَالَفَةُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ امْتَنَعُوا عَنْ السُّجُودِ اسْتِكْبَارًا إذْ الِاقْتِدَاءُ بِالْمُقَرَّبِينَ الَّذِينَ تَبَادَرُوا إلَى السُّجُودِ تَقَرُّبًا وَافْتِخَارًا كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ الْفَرِيقَيْنِ فِي مَوَاضِعِ السُّجُودِ، وَفِي النُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ} [النحل: 48] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ - وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ} [الرعد: 18 - 15] {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ} [النحل: 49] إشَارَةً إلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ السُّجُودِ التَّوَاضُعُ وَالْخُضُوعُ وَالِانْقِيَادُ. وَكَذَا عَدَمُ اقْتِرَانِهِ بِالرُّكُوعِ كَمَا فِي سُجُودِ الصَّلَاةِ، وَشَرْعِيَّةُ التَّدَاخُلِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَيْنَهُ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ بَلْ الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّوَاضُعُ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأعراف: 206] وَبِالْإِجْمَاعِ وَلِهَذَا شَرَطَ فِيهِ الْوُضُوءَ وَاسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ. وَالرُّكُوعُ فِي الصَّلَاةِ يَعْمَلُ هَذَا الْعَمَلَ أَيْ يَحْصُلُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ السُّجُودِ بِالرُّكُوعِ فِي الصَّلَاةِ لِحُصُولِ مَعْنَى التَّوَاضُعِ وَالْعِبَادَةِ فِيهِ فَيَسْقُطُ عِنْدَ السُّجُودِ بِهِ كَمَا سَقَطَتْ الطَّهَارَةُ لِلصَّلَاةِ بِطَهَارَةٍ وَقَعَتْ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ، وَكَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ يَسْقُطُ بِالسَّعْيِ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ. وَتَأَيَّدَ مَا ذَكَرْنَا بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ إذَا تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ فِي الصَّلَاةِ رَكَعَ. بِخِلَافِ الرُّكُوعِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ بِخِلَافِ سُجُودِ الصَّلَاةِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ إقَامَةُ الرُّكُوعِ مَقَامَهُ، وَلَا عَكْسُهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ بِنَفْسِهِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَكِّنْ جَبْهَتَك مِنْ الْأَرْضِ.» «وَأُمِرْت أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ» وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ فَلَا تَتَأَدَّى بِغَيْرِهِ. فَصَارَ الْأَثَرُ الْخَفِيُّ لِلْقِيَاسِ، وَهُوَ حُصُولُ الْمَقْصُودِ بِالرُّكُوعِ. مَعَ الْفَسَادِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْمَجَازِ مَعَ إمْكَانِهِ بِالْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ وَاعْتِبَارِ نَفْسِ الشَّبَهِ أَحَقَّ مِنْ الْأَثَرِ الظَّاهِرِ لِلِاسْتِحْسَانِ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ مَعَ الْفَسَادِ الْبَاطِنِ، وَهُوَ جَعْلُ غَيْرِ الْمَقْصُودِ مُسَاوِيًا لِلْمَقْصُودِ. قَوْلُهُ: (وَهَذَا) أَيْ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْقِيَاسِ، وَهُوَ الَّذِي تَرَجَّحَ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ بِقُوَّةِ أَثَرِهِ الْبَاطِنِ قِسْمٌ عَزَّ وُجُودُهُ. وَسَمِعْت مِنْ شَيْخِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ إلَّا فِي سِتِّ مَسَائِلَ أَوْ سَبْعٍ. مِنْهَا مَا إذَا ادَّعَى الرَّهْنَ الْوَاحِدَ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُولُ رَهَنْتنِي بِأَلْفٍ، وَقَبَضْته وَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ فِي الِاسْتِحْسَانِ يَقْتَضِي بِأَنَّهُ مَرْهُونٌ عِنْدَهُمَا وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا ارْتَهَنَا مَعًا لِجَهَالَةِ التَّارِيخِ كَمَا فِي الْغَرْقَى وَالْهَدْمَى، وَكَمَا لَوْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ، وَفِي الْقِيَاسِ تَبْطُلُ الْبَيِّنَتَانِ لِتَعَذُّرِ الْقَضَاءِ بِالْكُلِّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلِاسْتِحَالَةِ تَعَذُّرِ الْقَضَاءِ لِوَاحِدٍ بِعَيْنِهِ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ بِنِصْفِهِ لِتَأْدِيَتِهِ إلَى الشُّيُوعِ الْمَانِعِ مِنْ صِحَّةِ الرَّهْنِ فَتَعَيَّنَ التَّهَاتُرُ. وَأَخَذْنَا بِالْقِيَاسِ لِقُوَّةِ أَثَرِهِ الْبَاطِنِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي عَقْدًا عَلَى حِدَةٍ وَيُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ حَبْسًا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى مِثْلِهِ فِي الِاسْتِيفَاءِ وَبِهَذَا الْقَضَاءِ يَثْبُتُ عَقْدٌ وَاحِدٌ وَحَبْسٌ يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى شَطْرِهِ فِي الِاسْتِيفَاءِ فَيَكُونُ قَضَاءً عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْحُجَّةِ. بِخِلَافِ الرَّهْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ فَإِنَّ الْعَقْدَ هُنَاكَ وَاحِدٌ فَيُمْكِنُ

أَلَا تَرَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُثَمَّنِ لَا يُوجِبُ يَمِينَ الْبَائِعِ قِيَاسًا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَدَّعِي عَلَيْهِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا الْبَائِعُ هُوَ الْمُدَّعِي، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجِبُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ بِمَا يَدَّعِيهِ الْمُشْتَرِي ثَمَنًا، وَهَذَا حُكْمٌ قَدْ تَعَدَّى إلَى الْوَارِثِينَ ـــــــــــــــــــــــــــــQإثْبَاتُ مُوجِبِ الْعَقْدِ بِهِ مُتَّحِدًا فِي الْمَحَلِّ وَبِخِلَافِ دَعْوَى الشِّرَاءِ فَإِنَّا لَمْ نَجْعَلْ ذَلِكَ كَأَنَّهُمَا اشْتَرَيَا مَعًا إذْ لَوْ جُعِلَ كَذَلِكَ لَمَا ثَبَتَ الْخِيَارُ لَهُمَا كَمَا لَوْ بَاعَ مِنْهُمَا جَمِيعًا بِعَقْدٍ وَاحِدٍ. وَمِنْهَا مَا إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَبَيْنَ رَبِّ السَّلَمِ فِي دِرْعَانِ الْمُسْلَمِ فِيهِ فِي الْقِيَاسِ يَتَخَالَفَانِ وَبِهِ نَأْخُذُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ فَالِاخْتِلَافُ فِي دِرْعَانِهِ لَا يَكُونُ اخْتِلَافًا فِي أَصْلِهِ بَلْ فِي صِفَتِهِ مِنْ حَيْثُ الطُّولُ وَالسَّعَةُ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ التَّخَالُفَ كَالِاخْتِلَافِ فِي دِرْعَانِهِ الثَّوْبَ الْمَبِيعَ بِعَيْنِهِ. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْمُسْتَحَقِّ بِعَقْدِ السَّلَمِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّخَالُفَ، ثُمَّ أَثَرُ الْقِيَاسِ مُسْتَتِرٌ، وَلَكِنَّهُ قَوِيَ مِنْ حَيْثُ إنَّ عَقْدَ السَّلَمِ إنَّمَا يُعْقَدُ بِالْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ لَا بِالْإِشَارَةِ إلَى الْمُعَيَّنِ، وَكَانَ الْمَوْصُوفُ بِأَنَّهُ خَمْسٌ فِي سَبْعٍ غَيْرَ الْمَوْصُوفِ بِأَنَّهُ أَرْبَعٌ فِي سِتٍّ فَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ هَاهُنَا فِي أَصْلِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّخَالُفَ فَلِذَلِكَ أَخَذْنَا بِالْقِيَاسِ. وَمِنْهَا مَا إذَا قَرَأَ السَّجْدَةَ فِي رَكْعَةٍ فَسَجَدَهَا ثُمَّ أَعَادَهَا فِي الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى فَفِي الِاسْتِحْسَانِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ سَجْدَةٌ أُخْرَى فِي الْقِيَاسِ لَا يَلْزَمُهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ. وَمِنْهَا أَنَّ الرَّهْنَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ رَهْنٌ بِالْمُتْعَةِ فِي الِاسْتِحْسَانِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَكُونُ رَهْنًا بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَمِنْهَا أَنَّ الْعَبْدَ إذَا جَرَحَ حُرًّا خَطَأً فَخُيِّرَ مَوْلَاهُ بَعْدَ الْبُرْءِ فَاخْتَارَ الْفِدَاءَ ثُمَّ انْتَقَضَتْ الْجِرَاحَةُ وَصَارَتْ نَفْسًا يُخَيَّرُ ثَانِيَةً فِي الِاسْتِحْسَانِ هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يُخَيَّرُ وَيَكُونُ مُخْتَارًا لِلدِّيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ. وَمِنْهَا غَاصِبُ الْعَقَارِ فِي الِاسْتِحْسَانِ ضَامِنٌ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَفِي الْقِيَاسِ لَيْسَ بِضَامِنٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فَرَجَعَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ إلَى الْقِيَاسِ لِقُوَّتِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ الشَّيْخُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُسْتَحْسَنِ بِالْقِيَاسِ الْخَفِيِّ وَبَيْنَ الْمُسْتَحْسَنِ بِالْأَثَرِ أَوْ الْإِجْمَاعِ أَوْ الضَّرُورَةِ فَقَالَ الْمُسْتَحْسَنُ بِالْقِيَاسِ الْخَفِيِّ يَصِحُّ تَعْدِيَتُهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ التَّعْدِيَةُ، وَهَذَا الْقِسْمُ، وَإِنْ اخْتَصَّ بِاسْمِ الِاسْتِحْسَانِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ قِيَاسًا فَيَكُونُ حُكْمُهُ التَّعْدِيَةَ بِخِلَافِ الْأَقْسَامِ الْأُوَلِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَعْلُولَةٍ بَلْ هِيَ مَعْدُولٌ بِهَا عَنْ الْقِيَاسِ فَلَا يُقْبَلُ التَّعْدِيَةُ. ثُمَّ بَيَّنَ مِثَالًا لِمَا ذَكَرَ فَقَالَ أَلَا تَرَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُثَمَّنِ يَعْنِي قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ إذَا لَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُسَلِّمُ الْمَبِيعَ إلَى الْمُشْتَرِي. لَا يُوجِبُ يَمِينَ الْبَائِعِ قِيَاسًا؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا اتَّفَقَا عَلَى الْبَيْعِ قَدْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْمَبِيعَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي فَالْمُشْتَرِي لَا يَكُونُ مُدَّعِيًا عَلَى الْبَائِعِ شَيْئًا فِي الظَّاهِرِ، وَإِنَّمَا الْبَائِعُ هُوَ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ فَكَانَ الْقِيَاسُ نَظَرًا إلَى سَائِرِ الْخُصُومَاتِ أَنْ يُسَلِّمَ الْمَبِيعَ إلَى الْمُشْتَرِي وَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَا أَقَرَّ بِهِ وَيَحْلِفُ عَلَى الْبَاقِي. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجِبُ الثَّمَنُ عَلَى الْبَائِعِ كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي وُجُوبَ التَّسْلِيمِ عِنْدَ إحْضَارِ أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ الَّذِي يُقِرُّ بِهِ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ بِمَا يُقِرُّ بِهِ ثَمَنًا وَالْبَيْعُ كَمَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْمِلْكِ عَلَى الْبَائِعِ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْيَدِ عَلَيْهِ عِنْدَ وُصُولِ الثَّمَنِ إلَيْهِ. وَهَذَا حُكْمُ أَيْ وُجُوبُ التَّحَالُفِ قَبْلَ الْقَبْضِ حُكْمٌ قَدْ تَعَدَّى إلَى الْوَارِثِينَ حَتَّى لَوْ مَاتَ الْمُتَعَاقِدَانِ وَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ وَارِثِيهِمَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَجْرِي التَّحَالُفُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ قَائِمٌ

وَإِلَى الْإِجَارَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَا بَعْدَ الْقَبْضِ فَلَمْ يَجِبْ يَمِينُ الْبَائِعِ إلَّا بِالْأَثَرِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَلَمْ يَصِحَّ تَعْدِيَتُهُ إلَى الْوَارِثِ، وَإِلَى حَالِ هَلَاكِ السِّلْعَةِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَى أَصْحَابِنَا بَعْضُ النَّاسِ اسْتِحْسَانَهُمْ لِجَهْلِهِمْ بِالْمُرَادِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَقَامَ الْمُوَرِّثِ فِي حُقُوقِ الْعَقْدِ فَوَارِثُ الْبَائِعِ يُطَالِبُ وَارِثَ الْمُشْتَرِي بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ وَوَارِثُ الْمُشْتَرِي يُطَالِبُهُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ فَيُمْكِنُ تَعْدِيَةُ حُكْمِ التَّحَالُفِ إلَيْهِمَا، وَإِلَى الْإِجَارَةِ حَتَّى لَوْ اخْتَلَفَ الْقَصَّارُ وَرَبُّ الثَّوْبِ فِي مِقْدَارِ الْأُجْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ الْقَصَّارُ فِي الْعَمَلِ يَتَحَالَفَانِ؛ لِأَنَّ التَّحَالُفَ مَشْرُوعٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِطَرِيقِ الْفَسْخِ لِيَعُودَ إلَيْهِ رَأْسُ مَالِهِ وَعَقْدُ الْإِجَارَةِ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ قَبْلَ إقَامَةِ الْعَمَلِ كَالْبَيْعِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعِيًا، وَمُنْكِرًا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا فَيَجْرِي التَّحَالُفُ بَيْنَهُمَا. وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِثْلُ مَا إذَا اخْتَلَفَتْ الزَّوْجَانِ فِي مِقْدَارِ الْمَهْرِ يَجِبُ التَّحَالُفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَحْتَمِلُ لِلْفَسْخِ فِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ يَقَعُ بِخِيَارِ الْعِتْقِ وَخِيَارِ الْبُلُوغِ وَعَدَمِ الْكَفَّارَةِ وَيَسْتَحِقُّ فِيهِ التَّسْلِيمَ، وَالتَّسْلِيمُ يُشْبِهُ الْبَيْعَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَيُمْكِنُ جَعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعِيًا، وَمُنْكِرًا فَيَجْرِي فِيهِ التَّحَالُفُ أَيْضًا. وَمِثْلُ مَا إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ، وَقَدْ اخْتَلَفَتَا بَدَلًا بِأَنْ قَبِلَ الْعَبْدُ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ يَجْرِي التَّحَالُفُ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ الْوَاجِبَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمَّا وَرَدَ عَلَيْهَا الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ كَانَتْ فِي حُكْمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَكَانَتْ مِثْلَ الْعَيْنِ فِي إمْكَانِ فَسْخِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا. فَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ أَيْ الِاخْتِلَافِ الَّذِي وَقَعَ بَعْدَ الْقَبْضِ فِي الثَّمَنِ فَلَمْ يَجِبْ أَيْ لَمْ يَجِبْ بِهِ يَمِينُ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ عَلَى الْبَائِعِ شَيْئًا إذْ الْمَبِيعُ مُسَلَّمٌ إلَيْهِ فَكَانَ ثُبُوتُ التَّحَالُفِ بِالْأَثَرِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ لَا يَتَعَدَّى إلَى الْوَارِثِ حَتَّى لَوْ اخْتَلَفَ وَارِثُ الْبَائِعِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَالْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ. أَوْ وَارِثُ الْمُشْتَرِي بَعْدَ مَوْتِهِ مَعَ الْبَائِعِ. أَوْ اخْتَلَفَ الْوَارِثَانِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَالسِّلْعَةُ مَقْبُوضَةٌ قَائِمَةٌ فِي الْمَسَائِلِ كُلِّهَا كَانَ مِنْ الْقَوْلِ قَوْلَ الْمُشْتَرِي أَوْ وَارِثِهِ، وَلَا يَجْرِي التَّحَالُفُ بَيْنَهُمَا، وَلَا إلَى مَا بَعْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ سَوَاءٌ أَخَلَفَتْ بَدَلًا أَوْ لَمْ تَخْلُفْ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّخَالُفَ بَعْدَ الْقَبْضِ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ مُسْتَحْسَنٌ بِالْأَثَرِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: عَدَمُ جَرَيَانِ التَّحَالُفِ فِي الْوَارِثِ بَعْدَ الْقَبْضِ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنَّهُ حَالَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِدُخُولٍ تَحْتَ إطْلَاقِ النَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» قُلْنَا: النَّصُّ الْمُقَيَّدُ بِقِيَامِ السِّلْعَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ قِيَامِ السِّلْعَةِ. وَكَذَا الْمُطْلَقُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ التَّرَادِّ إنْ كَانَ رَدُّ الْمَأْخُوذِ حِسًّا وَحَقِيقَةً فَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إلَّا عِنْدَ قِيَامِ السِّلْعَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ رَدَّ الْعَقْدِ فَالْفَسْخُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ قِيَامِ السِّلْعَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ لَا يَرِدُ إلَّا عَلَى مَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ فَإِذَا فَاتَ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ فَقَدْ فَاتَ مَحَلُّ الْفَسْخِ، وَلَا يُمْكِنُ إبْقَاءُ الْمَحَلِّ بِإِقَامَةِ الْقِيمَةِ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ قَبْلَ الْفَسْخِ عَلَى أَحَدٍ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجْرِي التَّحَالُفُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ؛ لِأَنَّ التَّحَالُفَ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي عَقْدًا يُنْكِرُهُ الْآخَرُ إذْ الْبَيْعُ بِأَلْفٍ غَيْرُ الْبَيْعِ بِأَلْفَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّ شَاهِدَيْ الْبَيْعِ إذَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ لَا تُقْبَلُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا

وَإِذَا صَحَّ الْمُرَادُ عَلَى مَا قُلْنَا بَطَلَتْ الْمُنَازَعَةُ فِي الْعِبَارَةِ وَثَبَتَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتْرُكُوا الْحُجَّةَ بِالْهَوَى وَالشَّهْوَةِ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَعْضِ كُتُبِهِ أَسْتَحِبُّ كَذَا، وَمَا بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فَرْقٌ وَالِاسْتِحْسَانُ أَفْصَحُهُمَا، وَأَقْوَاهُمَا وَالِاسْتِحْسَانُ بِالْأَثَرِ لَيْسَ مِنْ بَابِ خُصُوصِ الْعِلَلِ أَيْضًا ـــــــــــــــــــــــــــــQبِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي عَقْدًا يُنْكِرُهُ صَاحِبُهُ فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَتَحَقَّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ وَحَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ وَحَالَ هَلَاكِهَا فَيَثْبُتُ التَّحَالُفُ فِي الْجَمِيعِ. وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي عَقْدًا آخَرَ فَإِنَّ الْعَقْدَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الثَّمَنِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ بِأَلْفٍ يَمْلِكُ الْبَيْعَ بِأَلْفَيْنِ، وَأَنَّ الْبَيْعَ بِأَلْفٍ قَدْ يَصِيرُ بِأَلْفَيْنِ بِالزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ وَالْبَيْعَ بِأَلْفَيْنِ يَصِيرُ بِأَلْفٍ عِنْدَ حَطِّ بَعْضِ الثَّمَنِ. وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي جَارِيَةً حَلَّ لِلْمُشْتَرِي وَطْؤُهَا، وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الثَّمَنِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْعَقْدِ لَمَا حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا كَمَا إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ وَالْآخَرُ الْهِبَةَ. وَاخْتِلَافُ الشَّاهِدَيْنِ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ لِاخْتِلَافِ الْعَقْدِ بَلْ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يُكَذِّبُ أَحَدَهُمَا، وَقَبُولُ بَيِّنَةِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الِانْفِرَادِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُدَّعٍ صُورَةً لَا مَعْنًى وَذَلِكَ كَانَ لِقَبُولِ بَيِّنَتِهِ، وَلَكِنْ لَا يَتَوَجَّهُ بِهِ الْيَمِينُ عَلَى خَصْمِهِ، وَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَتُهُ تُقْبَلُ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ: (وَإِذَا صَحَّ الْمُرَادُ) أَيْ ثَبَتَ وَظَهَرَ عَلَى مَا قُلْنَا إنَّهُ اسْمٌ لِأَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ أَوْ اسْمٌ لِلدَّلِيلِ الْأَقْوَى فِي مُقَابَلَةِ الْقِيَاسِ، وَلَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِي صِحَّةِ الْعَمَلِ بِهِ بَطَلَتْ الْمُنَازَعَةُ فِي الْعِبَارَةِ. وَهُوَ جَوَابٌ عَمَّا قَالَ بَعْضُ الطَّاعِنِينَ نَحْنُ لَا نُنَازِعُكُمْ فِي الِاسْتِحْسَانِ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْتُمْ، وَلَكِنْ لَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الدَّلِيلِ بِتَسْمِيَتِهِ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ كُلَّ الشَّرْعِ اسْتِحْسَانٌ كَذَا فِي الْقَوَاطِعِ. فَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ نِزَاعٌ فِي الْعِبَارَةِ، وَهُوَ بَاطِلٌ إذْ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ. عَلَى أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمْ وَضَعُوا هَذَا الِاسْمَ لِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الدَّلِيلِ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ بِاعْتِبَارِ وُجُودِ الْحُسْنِ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ كَمَا أَنَّ الْخُصُومَ وَضَعُوا لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ الْأَقْيِسَةِ اسْمًا كَقِيَاسِ الدَّلَالَةِ، وَقِيَاسِ الْعِلَّةِ، وَقِيَاسِ الشَّبَهِ وَنَحْوِهَا بِاعْتِبَارِ مَعْنًى. وَوُجُودُ مَعْنَى الِاسْمِ فِي غَيْرِ مَا وَضَعُوهُ لَهُ بِاعْتِبَارِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ فَإِنَّ الْعَرَبَ سَمَّتْ الزُّجَاجَ قَارُورَةً لِقَرَارِ الْمَائِعِ فِيهِ مَعَ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَوَانِي، وَكَيْفَ يَصِحُّ الطَّعْنُ بِاسْتِعْمَالِ هَذَا اللَّفْظِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ سَائِرِ الْمُجْتَهِدِينَ فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَسْتَعْمِلُ هَذَا اللَّفْظَ كَثِيرًا فِي الْمَسَائِلِ. وَذَكَرَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَفْظَ الِاسْتِحْسَانِ فِي كِتَابِهِ فِي مَوْضِعٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُتْعَةِ أَسْتَحْسِنُ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، وَقَالَ فِي بَابِ الشَّفِيعِ أَسْتَحْسِنُ أَنْ تَثْبُتَ لِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَقَالَ فِي الْمُكَاتَبِ أَسْتَحْسِنُ تَرْكَ شَيْءٍ لِلْمُكَاتَبِ مِنْ نُجُومِ الْكِتَابَةِ. وَذَكَرَ مُحْيِي السُّنَّةِ فِي التَّهْذِيبِ وَوَضْعُ الْمُصْحَفِ فِي حِجْرِ الْحَالِفِ عِنْدَ التَّحْلِيفِ اسْتَحْسَنَهُ الشَّافِعِيُّ تَغْلِيظًا. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَعْضِ كُتُبِهِ أَسْتَحِبُّ كَذَا، وَلَيْسَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فَرْقٌ بَلْ الِاسْتِحْسَانُ أَفْصَحُهُمَا؛ لِأَنَّهُ أَوْفَقُ لِكَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ الَّذِي هُوَ أَفْصَحُ الْكَلَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر: 55] {فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر: 17] {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف: 145] . وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» وَأَقْوَاهُمَا يَعْنِي فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَقْصُودِ إذْ الْمُرَادُ بَيَانُ حُسْنِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الدَّلِيلُ، وَهَذَا اللَّفْظُ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِوَضْعِهِ إذْ الِاسْتِحْسَانُ وُجْدَانُ الشَّيْءِ وَعَدُّهُ حَسَنًا فَأَمَّا الِاسْتِحْبَابُ فَيَدُلُّ بِوَضْعِهِ عَلَى مَيَلَانِ الطَّبْعِ إلَى الشَّيْءِ وَالْمَحَبَّةِ لَهُ

[باب أحوال المجتهدين في الاجتهاد والكلام في شرطه وحكمه]

عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَوْلُنَا فِي بَيَانِ حُكْمِ الْعِلَّةِ إنَّهُ ثَابِتٌ فِي الْفَرْعِ بِغَالِبِ الرَّأْيِ عَلَى احْتِمَالِ الْخَطَأِ رَاجِعٌ إلَى فَصْلٍ مِنْ أَحْكَامِ الْعِلَلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ قَطْعًا وَتُبْتَنَى عَلَيْهِ مَسَائِلُ أَحْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ (بَابُ مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ وَمَنَازِلِهِمْ فِي الِاجْتِهَادِ) وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي شَرْطِهِ وَحُكْمِهِ: ـــــــــــــــــــــــــــــQوَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحُسْنِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ لَا مَحَالَةَ فَإِنَّ الطَّبْعَ قَدْ يَمِيلُ إلَى مَا هُوَ قَبِيحٌ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ هَذَا اللَّفْظَ فِي مَقَامِ الذَّمِّ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} [إبراهيم: 3] {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} [النحل: 107] فَعَرَفْنَا أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ أَفْصَحُ، وَأَقْوَى مِنْ الِاسْتِحْبَابِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ يَعْنِي فِي بَابِ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ. ثُمَّ ذَكَرَ وَجْهَ التَّلْفِيقِ بَيْنَ الْبَابَيْنِ فَقَالَ: وَقَوْلُنَا كَذَا رَاجِعٌ إلَى فَصْلٍ مِنْ أَحْكَامِ الْعِلَلِ أَيْ أَحْكَامِ الْقِيَاسِ أَنَّهُ الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ. لَا يَثْبُتُ بِهِ أَيْ بِالْقِيَاسِ الْحُكْمُ بِطَرِيقِ الْقَطْعِ. وَيُبْتَنَى عَلَيْهِ أَيْ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ بِالْقِيَاسِ كَذَا. [بَابُ أَحْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الِاجْتِهَادِ وَالْكَلَامُ فِي شَرْطِهِ وَحُكْمِهِ] [شَرْطُ الِاجْتِهَادِ] (بَابُ مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ) . إنَّهُمْ مُصِيبُونَ فِي اجْتِهَادِهِمْ لَا مَحَالَةَ إذْ احْتِمَالُ الْخَطَأِ قَائِمٌ فِي اجْتِهَادِهِمْ، وَمَنَازِلُهُمْ فِي الِاجْتِهَادِ أَيْ الْمُصِيبُ مِنْهُمْ مَأْجُورٌ بِلَا خِلَافٍ وَالْمُخْطِئُ مَأْجُورٌ أَوْ مَعْذُورٌ أَوْ مُعَاتَبٌ مُخَطَّأٌ. قَوْلُهُ: (وَالْكَلَامُ فِي هـ) أَيْ فِي الِاجْتِهَادِ فِي شَرْطِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُبَيِّنْ نَفْسَ الِاجْتِهَادِ لِشُهْرَتِهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ اسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ فِي تَحْقِيقِ أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَا فِيهِ كُلْفَةٌ، وَمَشَقَّةٌ فَيُقَالُ اجْتَهَدَ فِي حَمْلِ الرَّحَى، وَلَا يُقَالُ اجْتَهَدَ فِي حَمْلِ خَرْدَلَةٍ أَوْ نَوَاةٍ لَكِنْ صَارَ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ مَخْصُوصًا بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ. وَالِاجْتِهَادُ التَّامُّ أَنْ يَبْذُلَ الْوُسْعَ فِي الطَّلَبِ بِحَيْثُ يُحِسُّ مِنْ نَفْسِهِ بِالْعَجْزِ عَنْ مَزِيدِ طَلَبٍ. وَعِبَارَةُ بَعْضِهِمْ هُوَ بَذْلُ الْجُهْدِ فِي اسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ مِنْ شَوَاهِدِهَا الدَّالَّةِ عَلَيْهَا بِالنَّظَرِ الْمُؤَدِّي إلَيْهَا، وَقِيلَ هُوَ طَلَبُ الصَّوَابِ بِالْأَمَارَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ. وَقِيلَ هُوَ اسْتِفْرَاغُ الْفَقِيهِ الْوُسْعَ لِتَحْصِيلِ ظَنٍّ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ. وَاحْتَرَزَ بِالْفَقِيهِ عَنْ غَيْرِهِ فَإِنَّ اسْتِفْرَاغَ النَّحْوِيِّ أَوْ الْمُتَكَلِّمِ الَّذِي لَا فِقْهَ لَهُ لِتَحْصِيلِ مَا ذُكِرَ لَا يُسَمَّى اجْتِهَادًا. وَبِقَوْلِهِ لِتَحْصِيلِ ظَنٍّ عَنْ اسْتِفْرَاغِ وُسْعِهِ لِتَحْصِيلِ عِلْمٍ كَطَلَبِهِ النَّصَّ فِي حَادِثَةٍ وَظَفَرِهِ بِهِ. وَبِقَوْلِهِ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَنْ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ وَالْحِسِّيِّ وَالْعُرْفِيِّ وَنَحْوِهَا، وَقَدْ عُرِفَ مِنْ تَفْسِيرِ الِاجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدُ وَالْمُجْتَهَدُ فِيهِ فَالْمُجْتَهِدُ مَنْ اتَّصَفَ بِصِفَةِ الِاجْتِهَادِ وَالْمُجْتَهَدُ فِيهِ هُوَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي لَا قَاطِعَ فِيهِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ الظَّنَّ بِهِ مَعَ وُجُودِ الْقَاطِعِ فَيَخْرُجُ عَنْهُ الْحُكْمُ الْعَقْلِيُّ، وَمَسَائِلُ الْكَلَامِ وَوُجُوبُ أَرْكَانِ الشَّرْعِ، وَمَا اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ مِنْ جَلِيَّاتِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً لَكِنَّ فِيهَا دَلَائِلَ قَطْعِيَّةً. ثُمَّ قِيلَ هُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ. فَرْضُ عَيْنٍ، وَفَرْضُ كِفَايَةٍ وَنَدْبٌ أَمَّا الْأَوَّلُ فَفِي حَالَتَيْنِ إحْدَاهُمَا اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فِيمَا نَزَلَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَلَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ. وَالثَّانِيَةُ اجْتِهَادُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ إذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ فِيهِ بِأَنْ ضَاقَ وَقْتُ الْحَادِثَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ حِينَئِذٍ. وَأَمَّا الثَّانِي فَفِي حَالَتَيْنِ. إحْدَاهُمَا إذَا نَزَلَتْ حَادِثَةٌ بِأَحَدٍ فَاسْتَفْتَى أَحَدَ الْعُلَمَاءِ كَانَ الْجَوَابُ فَرْضًا عَلَى جَمِيعِهِمْ، وَأَخَصُّهُمْ بِفَرْضِهِ مَنْ خُصَّ بِالسُّؤَالِ عَنْ الْحَادِثَةِ فَإِنْ أَجَابَ وَاحِدٌ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْ جَمِيعِهِمْ، وَإِنْ أَمْسَكُوا مَعَ ظُهُورِ الْجَوَابِ وَالصَّوَابِ لَهُمْ أَثِمُوا، وَإِنْ أَمْسَكُوا مَعَ الْتِبَاسِهِ عَلَيْهِمْ عُذِرَ، وَلَكِنْ لَا يَسْقُطُ عَنْهُمْ الطَّلَبُ، وَكَانَ فَرْضُ الْجَوَابِ بَاقِيًا عِنْدَ ظُهُورِ الصَّوَابِ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَتَرَدَّدَ الْحُكْمُ بَيْنَ

أَمَّا شَرْطُهُ فَأَنْ يَحْوِيَ عِلْمَ الْكِتَابِ بِمَعَانِيهِ وَوُجُوهِهِ الَّتِي قُلْنَا وَعِلْمَ السُّنَّةِ بِطُرُقِهَا، وَمُتُونِهَا وَوُجُوهِ مَعَانِيهَا، وَأَنْ يَعْرِفَ وُجُوهَ الْقِيَاسِ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ كِتَابُنَا هَذَا. ـــــــــــــــــــــــــــــQقَاضِيَيْنِ مُشْتَرَكَيْنِ فِي النُّطْقِ فَيَكُونُ فَرْضُ الِاجْتِهَادِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَأَيُّهُمَا تَفَرَّدَ بِالْحُكْمِ سَقَطَ الْفَرْضُ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَفِي حَالَتَيْنِ أَيْضًا أَحَدَيْهِمَا أَنْ يَجْتَهِدَ الْعَالِمُ قَبْلَ نُزُولِ الْحَادِثَةِ لِيَسْبِقَ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِهَا قَبْلَ نُزُولِهَا. وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَسْتَفْتِيَهُ سَائِلٌ قَبْلَ نُزُولِهَا بِهِ فَيَكُونُ الِاجْتِهَادُ فِي الْحَالَتَيْنِ نَدْبًا كَذَا فِي الْقَوَاطِعِ. قَوْلُهُ: (وَأَمَّا شَرْطُهُ) أَيْ شَرْطُ الِاجْتِهَادِ فَأَنْ يَحْوِيَ أَيْ يَجْمَعَ الْمُجْتَهِدُ عِلْمَ الْكِتَابِ بِمَعَانِيهِ أَيْ مَعَ مَعَانِيهِ أَوْ مُلْتَبِسًا بِمَعَانِيهِ لُغَةً وَشَرْعًا. وَوُجُوهَهُ أَيْ أَقْسَامَهُ الَّتِي قُلْنَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ حِفْظَ نَظْمِهِ؛ لِأَنَّ الْحَافِظَ أَضْبَطُ لِمَعَانِيهِ مِنْ النَّاظِرِ فِيهِ. وَقِيلَ لَا يُشْتَرَطُ بَلْ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الطَّلَبِ وَالنَّظَرِ فِيهِ كَمَا فِي السُّنَنِ. وَقِيلَ يَجِبُ أَنْ يَحْفَظَ مَا اخْتَصَّ بِالْأَحْكَامِ دُونَ مَا سِوَاهُ. وَعِلْمَ السُّنَّةِ بِطَرِيقِهَا أَيْ مُلْتَبِسَةً لِطُرُقِهَا مِنْ التَّوَاتُرِ وَالشُّهْرَةِ وَالْآحَادِ. وَمُتُونَهَا يَعْنِي يَعْرِفُ نَفْسَ الْأَخْبَارِ أَنَّهَا رُوِيَتْ بِلَفْظِ الرَّسُولِ أَوْ نُقِلَتْ بِالْمَعْنَى. وَوُجُوهَ مَعَانِيهَا أَيْ لُغَةً وَشَرْعًا مِثْلُ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَسَائِرِ الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ. وَذَكَرَ فِي الْقَوَاطِعِ أَيْ فِي مَعْرِفَةِ السُّنَّةِ خَمْسَةَ شُرُوطٍ: مَعْرِفَةَ طُرُقِهَا مِنْ تَوَاتُرٍ وَآحَادٍ لِيَكُونَ الْمُتَوَاتِرَاتُ مَعْلُومَةً وَالْآحَادُ مَظْنُونَةً. وَمَعْرِفَةَ صِحَّةِ طُرُقِ الْآحَادِ وَرُوَاتِهَا لِيَعْمَلَ بِالصَّحِيحِ مِنْهَا وَيَعْدِلَ عَمَّا لَا يَصِحُّ. وَمَعْرِفَةَ أَحْكَامِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ لِيَعْلَمَ مَا يُوجِبُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَمَعْرِفَةَ مَعَانِي مَا انْتَفَى الِاحْتِمَالُ عَنْهُ وَحِفْظُ أَلْفَاظِ مَا وُجِدَ الِاحْتِمَالُ فِيهِ. وَتَرْجِيحُ مَا تَعَارَضَ مِنْ الْأَخْبَارِ. وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ لِلِاجْتِهَادِ شَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِمَدَارِكِ الشَّارِعِ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِثْمَارِ الظَّنِّ بِالنَّظَرِ فِيهَا وَتَقْدِيمِ مَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ وَتَأْخِيرِ مَا يَجِبُ تَأْخِيرُهُ. وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ عَدْلًا مُجْتَنِبًا عَنْ الْمَعَاصِي الْقَادِحَةِ فِي الْعَدَالَةِ، وَهَذَا شَرْطٌ لِجَوَازِ الِاعْتِمَادِ عَلَى قَوْلِهِ فَمَنْ لَيْسَ عَدْلًا لَا تُقْبَلُ فَتْوَاهُ أَمَّا هُوَ فِي نَفْسِهِ إذَا كَانَ عَالِمًا فَلَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ لِنَفْسِهِ وَيَأْخُذَ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ فَكَانَتْ الْعَدَالَةُ شَرْطَ قَبُولِ الْفَتْوَى لَا شَرْطَ صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ. ثُمَّ قَالَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْفَتْوَى بِأَنْ يَعْرِفَ الْمَدَارِكَ الْمُثْمِرَةَ لِلْأَحْكَامِ، وَأَنْ يَعْرِفَ كَيْفِيَّةَ الِاسْتِثْمَارِ. وَالْمَدَارِكُ الْمُثْمِرَةُ أَرْبَعَةٌ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْعَقْلُ، وَطَرِيقُ الِاسْتِثْمَارِ تَتِمُّ بِأَرْبَعَةِ عُلُومٍ اثْنَانِ مُقَدَّمَانِ وَاثْنَانِ مُتَمِّمَانِ فَهَذِهِ ثَمَانِيَةٌ فَلْنُفَصِّلْهَا وَلْنُنَبِّهْ فِيهَا عَلَى دَقَائِقَ أَهْمَلَهَا الْأُصُولِيُّونَ. أَمَّا كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ الْأَصْلُ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَلْنُحَقِّقْ عَنْهُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ جَمِيعِ الْكِتَابِ بَلْ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ مِنْهُ وَذَلِكَ مِقْدَارُ خَمْسِمِائَةِ آيَةٍ. الثَّانِي أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ حِفْظُهَا مِنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ بَلْ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَوَاقِعِهَا حَتَّى يَطْلُبَ الْآيَةَ الْمُحْتَاجَ إلَيْهَا فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ مِنْهَا بِالْأَحْكَامِ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ زَائِدَةً عَلَى أُلُوفٍ فَهِيَ مَحْصُورَةٌ، وَفِيهَا التَّحْقِيقَانِ الْمَذْكُورَانِ إذْ لَا يَلْزَمُهُ مَعْرِفَةُ مَا يَتَعَلَّقُ مِنْ الْأَحَادِيثِ بِالْمَوَاعِظِ، وَأَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَغَيْرِهَا. وَالثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ حِفْظُهَا بَلْ يَكْفِيهِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ أَصْلٌ مُصَحَّحٌ بِجَمِيعِ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ كَالْجَامِعِ الصَّحِيحِ لِلْبُخَارِيِّ وَالْجَامِعِ لِمُسْلِمٍ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَيَكْفِيهِ أَنْ يَعْرِفَ مَوَاقِعَ كُلِّ بَابٍ فَيُرَاجِعُهُ وَقْتَ الْحَاجَةِ إلَى الْفَتْوَى، وَإِنْ كَانَ عَلَى حِفْظِهِ فَهُوَ أَحْسَنُ وَأَكْمَلُ. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَمَيَّزَ عِنْدَهُ مَوَاقِعُ الْإِجْمَاعِ حَتَّى لَا يُفْتِيَ بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ

وَأَمَّا حُكْمُهُ فَالْإِصَابَةُ بِغَالِبِ الرَّأْيِ حَتَّى قُلْنَا إنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَقَالَ الْمُعْتَزِلَةُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQكَمَا تَلْزَمُهُ مَعْرِفَةُ النُّصُوصِ حَتَّى لَا يُفْتِيَ بِخِلَافِهَا وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَحْفَظَ جَمِيعَ مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ بَلْ كُلُّ مَسْأَلَةٍ يُفْتِي فِيهَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ فَتْوَاهُ لَيْسَتْ مُخَالِفَةً لِلْإِجْمَاعِ أَمَّا بِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا مُوَافِقَةٌ مَذْهَبَ أَيِّ مَذْهَبٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ يَعْلَمَ أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ مُتَوَلِّدَةٌ فِي الْعَصْرِ لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الْإِجْمَاعِ فِيهَا خَوْضٌ فَهَذِهِ الْقَدْرُ فِيهِ كِفَايَةٌ. وَأَمَّا الْعَقْلُ فَنَعْنِي بِهِ مُسْتَنَدَ النَّصِّ وَالْمُسْتَنَدَ الْأَصْلِيَّ لِلْأَحْكَامِ فَإِنَّ الْعَقْلَ قَدْ دَلَّ عَلَى نَفْيِ الْجَرْحِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَعَلَى نَفْيِ الْأَحْكَامِ مِنْهَا فِي صُوَرٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمُسْتَثْنَيَات مَحْصُورَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ إلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ وَالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَيَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُغَيَّرُ إلَّا بِنَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ عَلَى مَنْصُوصٍ، وَمَا هُوَ فِي مَعْنَى النَّصِّ مِنْ الْإِجْمَاعِ، وَأَفْعَالِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَذِهِ هِيَ الْمَدَارِكُ الْأَرْبَعَةُ. وَأَمَّا الْعِلْمَانِ الْمُقَدَّمَانِ فَأَحَدُهُمَا مَعْرِفَةُ نُصُبِ الْأَدِلَّةِ وَشُرُوطِهَا الَّتِي بِهَا تَصِيرُ الْبَرَاهِينُ وَالْأَدِلَّةُ مُنْتِجَةً، وَالْحَاجَةُ إلَيْهِ تَعُمُّ الْمَدَارِكَ الْأَرْبَعَةَ. وَالثَّانِي مَعْرِفَةُ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ وَيَخْتَصُّ فَائِدَتُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَنَعْنِي بِهِ الْقَدْرَ الَّذِي يَفْهَمُ بِهِ خِطَابَ الْعَرَبِ وَعَادَتَهُمْ فِي الِاسْتِعْمَالِ إلَى حَدٍّ يُمَيِّزُ بَيْنَ صَرِيحِ الْكَلَامِ وَظَاهِرِهِ، وَمُجْمَلِهِ وَحَقِيقَتِهِ، وَمَجَازِهِ وَفَحْوَاهُ، وَمَنْظُومِهِ وَمَفْهُومِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَبْلُغَ مَبْلَغَ الْخَلِيلِ وَالْمُبَرِّدِ، وَأَنْ يَعْرِفَ جَمِيعَ اللُّغَةِ وَيَتَعَمَّقَ فِي النَّحْوِ بَلْ الْقَدْرُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى مَوَاقِعِ الْخِطَابِ وَدَرْكِ دَقَائِقِ الْمَقَاصِدِ فِيهِ. وَأَمَّا الْعِلْمَانِ الْمُتَمِّمَانِ فَأَحَدُهُمَا مَعْرِفَةُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ عَلَى حِفْظِهِ بَلْ كُلُّ وَاقِعَةٍ يُفْتِي فِيهَا بِآيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ أَوْ الْآيَةَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمَنْسُوخِ، وَهَذَا يَعُمُّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ. وَالثَّانِي، وَهُوَ يَخْتَصُّ بِالسُّنَّةِ مَعْرِفَةُ الرُّوَاةِ وَتَمْيِيزُ الصَّحِيحِ مِنْ الْفَاسِدِ وَالْمَقْبُولِ مِنْ الْمَرْدُودِ. وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ حَدِيثٍ يُفْتِي بِهِ مِمَّا قَبِلَتْهُ الْأُمَّةُ لَا حَاجَةَ بِهِ إلَى النَّظَرِ فِي إسْنَادِهِ فَإِنْ خَالَفَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ رُوَاتَهُ وَعَدَالَتَهُمْ. وَالْبَحْثُ عَنْ أَحْوَالِ الرِّجَالِ فِي زَمَانِنَا هَذَا مَعَ طُولِ الْمُدَّةِ، وَكَثْرَةِ الْوَسَائِطِ أَمْرٌ مُتَعَذِّرٌ فَلَوْ جَوَّزْنَا الِاكْتِفَاءَ بِتَعْدِيلِ أَئِمَّةِ الدِّينِ الَّذِينَ اتَّفَقَ الْخَلَفُ عَلَى عَدَالَتِهِمْ وَالِاعْتِمَادَ عَلَى الْكُتُبِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي ارْتَضَى الْأَئِمَّةُ رِوَايَتَهَا كَانَ حَسَنًا، وَقَصَّرَ الطَّرِيقَ عَلَى الْمُفْتِي فَهَذِهِ هِيَ الْعُلُومُ الثَّمَانِيَةُ يُسْتَفَادُ بِهَا مَنَاصِبُ الِاجْتِهَادِ. وَمُعْظَمُ ذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ فُنُونٍ: عِلْمُ الْحَدِيثِ، وَعِلْمُ اللُّغَةِ، وَعِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ فَأَمَّا عِلْمُ الْكَلَامِ فَلَيْسَ بِمَشْرُوطٍ فَإِنَّا لَوْ فَرَضْنَا إنْسَانًا جَازِمًا بِاعْتِقَادِ الْإِسْلَامِ تَقْلِيدًا لَأَمْكَنَهُ الِاسْتِدْلَال بِالدَّلَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى الْأَحْكَامِ عَلَى أَنَّ الْمُجَاوَزَةَ عَنْ حَدِّ التَّقْلِيدِ إلَى مَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ تَقَعُ مِنْ ضَرُورَةِ مَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ فَإِنَّهُ لَا يَبْلُغُ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ إلَّا وَقَدْ قَرَعَ سَمْعَهُ أَدِلَّةُ خَلْقِ الْعَالَمِ، وَأَوْصَافِ الصَّانِعِ جَلَّ جَلَالُهُ وَبَعْثَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِعْجَازِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَذَلِكَ مُحَصِّلٌ لِلْمَعْرِفَةِ الْحَقِيقَةِ مُجَاوِزٌ لِصَاحِبِهِ حَدَّ التَّقْلِيدِ. وَأَمَّا تَفَارِيعُ الْفِقْهِ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهَا لِلِاجْتِهَادِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ التَّفَارِيعَ وَلَّدَهَا الْمُجْتَهِدُونَ بَعْدَ حِيَازَةِ مَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ فَكَيْفَ يَكُونُ شَرْطًا فِي مَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ، وَتَقَدُّمُ الِاجْتِهَادِ عَلَيْهَا شَرْطٌ. نَعَمْ

[حكم الاجتهاد]

فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَقَّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ وَاحِدٌ أَوْ مُتَعَدِّدٌ فَعِنْدَنَا الْحَقُّ وَاحِدٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQإنَّمَا يَحْصُلُ مَنْصِبُ الِاجْتِهَادِ فِي زَمَانِنَا بِمُمَارَسَتِهَا فَهِيَ طَرِيقُ تَحْصِيلِ الدِّرَايَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَلَمْ يَكُنْ الطَّرِيقُ فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ ذَلِكَ وَيُمْكِنُ الْآنَ سُلُوكُ طَرِيقِ الصَّحَابَةِ أَيْضًا. وَاعْلَمْ أَنَّ اجْتِمَاعَ هَذِهِ الْعُلُومِ إنَّمَا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ الَّذِي يُفْتِي فِي جَمِيعِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَلَيْسَ الِاجْتِهَادُ عِنْدَ الْعَامَّةِ مَنْصِبًا لَا يَتَجَزَّأُ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَفُوزَ الْعَالِمُ بِمَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ دُونَ بَعْضٍ. فَمَنْ عَرَفَ طَرَفَ النَّظَرِ فِي الْقِيَاسِ فَلَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِي مَسْأَلَةٍ قِيَاسِيَّةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَاهِرًا فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ. وَمَنْ نَظَرَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُشْتَرَكَةِ أَوْ مَسْأَلَةِ الْعَوْلِ يَكْفِيهِ أَنْ يَكُونَ فَقِيهَ النَّفْسِ عَارِفًا بِأُصُولِ الْفَرَائِضِ وَمَعَانِيهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَصَّلَ الْأَخْبَارَ الَّتِي وَرَدَتْ فِي بَابِ الرِّبَا وَالْبُيُوعِ فَلَا اسْتِمْدَادَ لِنَظَرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْهَا، وَلَا تَعَلُّقَ لِتِلْكَ الْأَحَادِيثِ بِهَا فَمِنْ أَيْنَ تَضُرُّ الْغَفْلَةُ عَنْهَا وَالْقُصُورُ عَنْ مَعْرِفَتِهَا. وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْمُفْتِي أَنْ يُجِيبَ عَنْ كُلِّ مَسْأَلَةٍ بِجَوَابٍ فَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ أَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً فَقَالَ فِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ لَا أَدْرِي وَتَوَقَّفَتْ الصَّحَابَةُ وَعَامَّةُ الْمُجْتَهِدِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي الْمَسَائِلِ. فَإِذَنْ لَا يُشْتَرَطُ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِيمَا يُفْتِي فَيُفْتِي فِيمَا يَدْرِي وَيَدْرِي أَنَّهُ يَدْرِي وَيُمَيِّزُ بَيْنَ مَا يَدْرِي وَبَيْنَ مَا لَا يَدْرِي فَيَتَوَقَّفُ فِيمَا لَا يَدْرِي وَيُفْتِي فِيمَا يَدْرِي. هَذَا كُلُّهُ مِنْ كَلَامِهِ. [حُكْمُ الِاجْتِهَاد] قَوْلُهُ: (فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَقَّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ وَاحِدٌ) أَرَادَ بِمَوْضِعِ الْخِلَافِ الْمَسَائِلَ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا، وَكَلَّمُوا بِالِاجْتِهَادِ يَعْنِي مَحَلَّ النِّزَاعِ الْحَوَادِثُ الْفِقْهِيَّةُ الْمُجْتَهَدُ فِيهَا لَا الْمَسَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي هِيَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ فَإِنَّ الْحَقَّ فِيهَا وَاحِدٌ بِالْإِجْمَاعِ وَالْمُخْطِئُ فِيهَا كَافِرٌ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ إنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس. وَمُضَلَّلٌ مُبْتَدِعٌ إنْ لَمْ يَكُنْ كَأَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ الْعَنْبَرِيُّ إلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِي الْمَسَائِلِ الْكَلَامِيَّةِ الَّتِي لَا يَلْزَمُ مِنْهَا كُفْرٌ كَمَسْأَلَةِ خَلْقِ الْقُرْآنِ وَالْإِرَادَةِ وَخَلْقِ الْأَفْعَالِ مُصِيبٌ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّ مَا اعْتَقَدَهُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْمَسَائِلِ الْكَلَامِيَّةِ مُطَابِقٌ لِلْحَقِّ إذْ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقًا وَغَيْرَ مَخْلُوقٍ وَالْمَعَاصِي دَاخِلَةٌ تَحْتَ إرَادَةِ اللَّهِ وَخَارِجَةٌ عَنْ إرَادَتِهِ، وَالرُّؤْيَةُ مُمْكِنَةٌ وَغَيْرُ مُمْكِنَةٍ، وَفَسَادُ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ نَفْيَ الْإِثْمِ وَالْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ. وَزَادَ الْجَاحِظُ أَنَّ مُخَالِفَ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس إنْ نَظَرَ فَعَجَزَ عَنْ دَرْكِ الْحَقِّ فَهُوَ مَعْذُورٌ غَيْرُ آثِمٍ، وَإِنْ لَمْ يَنْظُرْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ وُجُوبَ النَّظَرِ فَهُوَ مَعْذُورٌ أَيْضًا، وَإِنْ عَانَدَ عَلَى خِلَافِ اعْتِقَادِهِ فَهُوَ آثِمٌ مُعَذَّبٌ، وَاحْتَجَّا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا، وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ، وَأَهْلُ الْأَهْوَاءِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ قَدْ عَجَزُوا عَنْ دَرْكِ الْحَقِّ، وَلَازَمُوا عَقَائِدَهُمْ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إذَا انْسَدَّ عَلَيْهِمْ طَرِيقُ الْمَعْرِفَةِ فَلَا يَلِيقُ بِكَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ تَعْذِيبُهُمْ عَلَى مَا لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ وَلِهَذَا كَانَ الْإِثْمُ مُرْتَفِعًا عَنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. قَالَ الْعَنْبَرِيُّ الْآيَاتُ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ مُتَشَابِهَةٌ، وَأَدِلَّةُ الشَّرْعِ فِيهَا مُتَعَارِضَةٌ وَكُلُّ فَرِيقٍ ذَهَبَ إلَى أَنَّ آرَاءَهُ أَوْفَقُ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَلَامِ رَسُولِهِ، وَأَلْيَقُ بِعَظَمَةِ اللَّهِ، وَإِثْبَاتِ دِينِهِ فَكَانُوا مَعْذُورِينَ. وَكَانَ يَقُولُ فِي مُثْبِتِي الْقَدَرِ هَؤُلَاءِ عَظَّمُوا اللَّهَ، وَفِي نُفَاةِ الْقَدَرِ هَؤُلَاءِ نَزَّهُوا اللَّهَ. وَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ بِأَدِلَّةٍ سَمْعِيَّةٍ ضَرُورِيَّةٍ فَإِنَّا كَمَا نَعْلَمُ أَنَّ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَمَرَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ نَعْلَمُ ضَرُورَةً أَنَّهُ أَمَرَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالْإِيمَانِ بِهِ وَاتِّبَاعِهِ وَذَمَّهُمْ

وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ، وَهُمْ الْمُعْتَزِلَةُ: الْحُقُوقُ مُتَعَدِّدَةٌ وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فِيمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ثُمَّ اخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِالْحُقُوقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِاسْتِوَائِهَا فِي الْمَنْزِلَةِ، وَقَالَ عَامَّتُهُمْ: بَلْ وَاحِدٌ مِنْ الْجُمْلَةِ أَحَقُّ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الصَّحِيحَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا أَخْطَأَ كَانَ مُخْطِئًا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هُوَ مُصِيبٌ فِي ابْتِدَاءِ اجْتِهَادِهِ لَكِنَّهُ مُخْطِئٌ انْتِهَاءً فِيمَا طَلَبَهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ الْآخَرُ هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدٌ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ مَا قُلْنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى إصْرَارِهِمْ عَلَى عَقَائِدِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَاتَلَ جَمِيعَهُمْ، وَكَانَ يَكْشِفُ عَنْ عَوْرَةِ مَنْ بَلَغَ مِنْهُمْ لِيَقْتُلَهُ وَيُعَذِّبَهُ وَنَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ الْمُعَانِدَ الْعَارِفَ مِمَّا يَقِلُّ، وَإِنَّمَا الْأَكْثَرُ مُقَلِّدُهُ اعْتَقَدُوا دِينَ آبَائِهِمْ، وَلَمْ يَعْرِفُوا مُعْجِزَةَ الرَّسُولِ وَصِدْقَهُ. وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا مِمَّا لَا يُحْصَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: 27] {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: 27] {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت: 23] {إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24] {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} [المجادلة: 18] {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10] وَعَلَى الْجُمْلَةِ ذَمُّ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ الْكُفَّارِ مِمَّا لَا يَنْحَصِرُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَوْلُهُمْ إنَّهُ تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ أَقْدَرُهُمْ عَلَى إصَابَةِ الْحَقِّ بِمَا رَزَقَهُمْ مِنْ الْعَقْلِ وَنَصَبَ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَبَعَثَ مِنْ الرُّسُلِ الْمُؤَيَّدِينَ بِالْمُعْجِزَاتِ الَّذِينَ نَبَّهُوا الْغُفُولَ وَحَرَّكُوا دَوَاعِيَ النَّظَرِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.، وَمَا قَالَهُ الْعَنْبَرِيُّ يَبْطُلُ بِإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ قَبْلَ حُدُوثِ الْمُخَالِفِينَ عَلَى ذَمِّ الْمُبْتَدِعَةِ، وَمُهَاجَرَتِهِمْ، وَقَطْعِ الصُّحْبَةِ مَعَهُمْ وَتَشْدِيدِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ مَعَ تَرْكِ التَّشْدِيدِ عَلَى الْمُخْتَلِفِينَ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ. وَرَفْعِ الْإِثْمِ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ الْفِقْهِيَّةِ إنَّمَا كَانَ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ مِنْهَا هُوَ الظَّنُّ بِهَا، وَقَدْ حَصَلَ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ الْعِلْمُ، وَلَمْ يَحْصُلْ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَدِلَّةَ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَكُلَّ مَا كَانَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ ظَاهِرَةٌ مُتَوَافِرَةٌ فَلَا يُعْذَرُ أَحَدٌ فِيهَا بِالْجَهْلِ وَالْغَفْلَةِ. 1 - قَوْلُهُ: (وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ) إلَى آخِرِهِ. اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَكُونُ لِلَّهِ تَعَالَى حُكْمٌ مُعَيَّنٌ فِي الْمَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ أَمْ لَا. فَذَهَبَ كُلُّ مَنْ قَالَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ مِثْلُ عَامَّةِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيِّ وَالْغَزَالِيِّ وَالْمُزَنِيِّ وَبَعْضِ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَكَثِيرٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ كَأَبِي هُذَيْلٍ وَالْجُبَّائِيِّ، وَأَبِي هَاشِمٍ، وَأَتْبَاعِهِمْ إلَى أَنَّهُ لَا حُكْمَ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهَا قَبْلَ الِاجْتِهَادِ بَلْ الْحُكْمُ فِيهَا تَابِعٌ لِظَنِّ الْمُجْتَهِدِ حَتَّى كَانَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ كُلِّ مُجْتَهِدٍ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِتَعَدُّدِ الْحُقُوقِ، وَهَؤُلَاءِ يُسَمَّوْنَ الْمُصَوِّبَةَ. وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حُكْمٌ مُتَعَيَّنٌ فِي الْحَادِثَةِ قَدْ وُجِدَ مِنْهَا مَا لَوْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا بِحُكْمٍ لَمَّا حَكَمَ إلَّا بِهِ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ بِالْأَشْبَهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ بَلْ وَاحِدٌ مِنْ الْجُمْلَةِ أَحَقُّ. وَفَسَّرَ الْغَزَالِيُّ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْحَادِثَةِ حُكْمًا مُعَيَّنًا عِنْدَهُمْ إلَيْهِ يَتَوَجَّهُ الطَّلَبُ إذْ لَا بُدَّ لِلطَّلَبِ مِنْ مَطْلُوبٍ لَكِنْ لَمْ يُكَلَّفْ الْمُجْتَهِدُ إصَابَتَهُ فَلِذَلِكَ كَانَ مُصِيبًا، وَإِنْ أَخْطَأَ ذَلِكَ الْحُكْمَ الَّذِي لَمْ يُؤْمَرْ بِإِصَابَتِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ أَتَى مَا كُلِّفَ بِهِ فَأَصَابَ مَا عَلَيْهِ. وَذَهَبَ كُلُّ مَنْ قَالَ الْمُجْتَهِدُ يُخْطِئُ أَوْ يُصِيبُ مِثْلُ أَصْحَابِنَا وَعَامَّةِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَبَعْضِ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْحَدِيثِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ وَالْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيِّ وَعَبْدِ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَإِلَيْهِمْ أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ: وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الصَّحِيحَةِ إلَى أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى حُكْمًا مُعَيَّنًا فِي الْحَادِثَةِ الْمُجْتَهَدِ فِيهَا. ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ لَيْسَ عَلَى الْحُكْمِ دَلِيلٌ، وَإِنَّمَا هُوَ مِثْلُ دَفِينٍ يَعْثِرُ الطَّالِبُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ فَلِمَنْ عَثَرَ عَلَيْهِ أَجْرَانِ وَلِمَنْ اجْتَهَدَ، وَلَمْ يَعْثِرْ أَجْرٌ وَاحِدٌ لِأَجْلِ سَعْيِهِ وَطَلَبِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ظَنِّيٌّ إلَّا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَمْ يُكَلَّفْ بِإِصَابَتِهِ لِخَفَائِهِ وَغُمُوضِهِ فَلِذَلِكَ كَانَ مَعْذُورًا وَمَأْجُورًا، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ إلَى أَنَّ عَلَيْهِ دَلِيلًا ظَنِّيًّا أُمِرَ الْمُجْتَهِدُ بِطَلَبِهِ فَإِذَا أَخْطَأَ لَمْ يَكُنْ مَأْجُورًا لَكِنْ حُطَّ عَنْهُ الْإِثْمُ تَخْفِيفًا

احْتَجَّ مَنْ ادَّعَى الْحُقُوقَ بِأَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ جَمِيعًا لَمَّا كُلِّفُوا إصَابَةَ الْحَقِّ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ عَلَى مَا فِي وُسْعِهِمْ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ الْحَقُّ مُتَعَدِّدًا وَجَبَ الْقَوْلُ بِتَعَدُّدِهِ تَحْقِيقًا لِشَرْطِ التَّكْلِيفِ كَمَا قِيلَ فِي الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْقِبْلَةِ إنَّهُمْ جُعِلُوا مُصِيبِينَ حَتَّى تَأَدَّى الْفَرْضُ عَنْهُمْ جَمِيعًا وَلَا يَتَأَدَّى الْفَرْضُ عَنْهُمْ إلَّا بِإِصَابَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ مَعَ إحَاطَةِ الْعِلْمِ بِخَطَأِ مَنْ اسْتَدْبَرَ الْكَعْبَةَ وَجَائِزٌ تَعَدُّدُ الْحُقُوقِ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ كَمَا صَحَّ ذَلِكَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الرُّسُلِ وَعَلَى اخْتِلَافِ الزَّمَانِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُكَلَّفِينَ، وَمَنْ قَالَ بِاسْتِوَاءِ الْحُقُوقِ قَالَ: لِأَنَّ دَلِيلَ التَّعَدُّدِ لَمْ يُوجِبْ التَّفَاوُتَ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إنَّ عَلَيْهِ دَلِيلًا قَطْعِيًّا أُمِرَ الْمُجْتَهِدُ بِطَلَبِهِ فَإِذَا أَخْطَأَ لَا يَصِحُّ عَمَلُهُ وَيَنْقُضُ قَضَاءُ الْقَاضِي فِيهِ، وَلَكِنْ يَحُطُّ عَنْهُ الْإِثْمَ لِغُمُوضِ الدَّلِيلِ وَخَفَائِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ، وَإِلَيْهِ مَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ. وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ مَالَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ إلَّا أَنَّهُ قَالَ الْمُخْطِئُ فِيهِ آثِمٌ غَيْرُ مَعْذُورٍ كَمَا فِي سَائِرِ الْقَطْعِيَّاتِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْخَامِسُ هَذَا تَفْصِيلُ الْمَذَاهِبِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ نُسَخِ الْأُصُولِ فَالشَّيْخُ بِقَوْلِهِ إذَا أَخْطَأَ كَانَ مُخْطِئًا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً يَعْنِي كَانَ مُخْطِئًا فِي اجْتِهَادِهِ، وَمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ أَشَارَ إلَى الْقَوْلِ الرَّابِعِ. وَبِقَوْلِهِ هُوَ مُصِيبٌ فِي ابْتِدَاءِ اجْتِهَادِهِ يَعْنِي فِي نَفْسِ الِاجْتِهَادِ، وَلَكِنَّهُ مُخْطِئٌ فِيمَا طَلَبَهُ، وَهُوَ الْحُكْمُ فِي الْحَادِثَةِ أَشَارَ إلَى الْقَوْلِ الثَّانِي وَاخْتَارَهُ. قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ قَوْمٌ إذَا لَمْ يُصِبْ الْمُجْتَهِدُ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ مُخْطِئًا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً حَتَّى أَنَّ عَمَلَهُ لَا يَصِحُّ، وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا كَانَ مُخْطِئًا لِلْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مُصِيبًا فِي حَقِّ عَمَلِهِ حَتَّى أَنَّ عَمَلَهُ بِهِ يَقَعُ صَحِيحًا شَرْعًا كَأَنَّهُ أَصَابَ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ بَلَغَنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ لِيُوسُفَ بْنِ خَالِدٍ السَّمْتِيِّ وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ فَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي أَخْطَأَ مَا عِنْدَ اللَّهِ مُصِيبٌ فِي حَقِّ عَمَلِهِ. ثُمَّ قَالَ فَصَارَ قَوْلُنَا هَذَا الْقَوْلُ الْوَسَطُ بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ. قَوْلُهُ: (احْتَجَّ مَنْ ادَّعَى الْحُقُوقَ) وَهُمْ الْمُصَوِّبَةُ بِأَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ قَدْ كُلِّفُوا إصَابَةَ الْحَقِّ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا كُلِّفُوا الْفَتْوَى بِغَالِبِ الرَّأْيِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] كَانَ ذَلِكَ تَكْلِيفًا بِإِصَابَةِ الْحَقِّ إذْ لَيْسَ بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ، وَالشَّرْعُ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يُكَلِّفَ بِالضَّلَالِ وَالْخَطَأِ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ فِي تَكْلِيفِهِمْ بِالْفَتْوَى بِغَالِبِ الرَّأْيِ مُكَلَّفُونَ بِإِصَابَةِ الْحَقِّ. وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ أَيْ التَّكْلِيفُ بِالْإِصَابَةِ بِالنَّظَرِ إلَى وُسْعِهِمْ إلَّا بِأَنْ يُجْعَلَ الْحَقُّ مُتَعَدِّدًا إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّدًا، وَكَانَ وَاحِدًا لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِ كُلِّ وَاحِدٍ إصَابَتُهُ لِغُمُوضِ طَرِيقِهِ وَخَفَاءِ دَلِيلِهِ فَكَانَ التَّكْلِيفُ بِالْإِصَابَةِ حِينَئِذٍ تَكْلِيفَ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ الْقَوْلُ بِتَعَدُّدِ الْحَقِّ. تَحْقِيقًا بِشَرْطِ التَّكْلِيفِ بِإِصَابَةِ الْحَقِّ أَوْ الْقُدْرَةُ عَلَيْهَا تَثْبُتُ بِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّكْلِيفُ بِدُونِهِ. كَمَا قِيلَ فِي الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْقِبْلَةِ إنَّهُمْ جُعِلُوا مُصِيبِينَ لِلْقِبْلَةِ حَالَةَ الِاشْتِبَاهِ وَجُعِلَتْ الْجِهَاتُ كُلُّهَا قِبْلَةً فِي حَقِّهِمْ عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] حَتَّى لَوْ صَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ إلَى جِهَةٍ تَأَدَّى عَنْهُمْ الْفَرْضُ جَمِيعًا. وَلَا يَتَأَدَّى الْفَرْضُ عَنْهُمْ أَيْ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِإِصَابَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهُوَ التَّوَجُّهُ إلَى الْكَعْبَةِ فَلَوْ لَمْ يَصِرْ كُلُّ الْجِهَاتِ بِمَنْزِلَةِ الْكَعْبَةِ فِي حَقِّهِمْ لَمَا تَأَدَّى فَرْضُ مَنْ اسْتَدْبَرَ الْكَعْبَةَ مِنْهُمْ لِظُهُورِ خَطَئِهِ بِيَقِينٍ، وَإِنَّمَا عَيَّنَ هَذَا الْوَجْهَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَتَوَجَّهُ إلَى الْكَعْبَةِ بِوَجْهٍ فَكَانَ خَطَؤُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَأَمَّا مَنْ وَقَعَ يَمِينُهُ أَوْ يَسَارُهُ إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ فِي تَحَرِّيهِ فَلَيْسَ بِمُخْطِئٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِوُجُودِ تَوَجُّهِ الْكَعْبَةِ مِنْهُ بِجُزْءٍ مِنْ وَجْهِهِ، وَهُوَ الْعِذَارُ وَلِهَذَا أَمَرَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِإِعَادَةِ صَلَاةِ مَنْ اسْتَدْبَرَ الْكَعْبَةَ فِي تَحَرِّيهِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِإِعَادَةِ صَلَاةِ مَنْ تَوَجَّهَ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى. وَقَوْلُهُ وَجَائِزٌ تَعَدُّدُ الْحُقُوقِ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ يَرِدُ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَ بِتَعَدُّدِ الْحُقُوقِ يُؤَدِّي إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُتَنَافِيَيْنِ، وَهُمَا الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ وَالصِّحَّةُ وَالْفَسَادُ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ إذْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا حَلَالًا وَحَرَامًا، وَقَلِيلُ النَّبِيذِ حَلَالًا وَحَرَامًا، وَالنِّكَاحُ الْأَوْلَى صَحِيحًا

وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ اسْتِوَاءَهَا يَقْطَعُ التَّكْلِيفَ؛ لِأَنَّهَا إذَا اسْتَوَتْ أُصِيبَتْ بِمُجَرَّدِ الِاخْتِيَارِ مِنْ غَيْرِ امْتِحَانٍ وَسَقَطَتْ دَرَجَةُ الْعُلَمَاءِ وَبَطَلَتْ الدَّعْوَةُ وَسَقَطَتْ وُجُوهُ النَّظَرِ أَلَا تَرَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي اخْتِيَارِ وُجُوهِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بَاطِلٌ، وَأَنَّ اخْتِيَارَهُ بِمُجَرَّدِ الْعَزِيمَةِ صَحِيحٌ بِلَا تَأَمُّلٍ فَلِذَلِكَ وَجَبَ الْقَوْلُ بِأَنَّ بَعْضَهَا أَحَقُّ وَوَجْهُ قَوْلِنَا: إنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُصِيبُ مَرَّةً وَيُخْطِئُ أُخْرَى ـــــــــــــــــــــــــــــQوَفَاسِدًا وَذَلِكَ مُحَالٌ. فَقَالَ وَجَائِزٌ تَعَدُّدُ الْحُقُوقِ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ يَعْنِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ مُتَعَدِّدًا بِأَنْ كَانَ الْحَظْرُ حَقًّا وَالْإِبَاحَةُ حَقًّا أَيْضًا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ. عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى التَّعَدُّدِ. كَمَا صَحَّ ذَلِكَ أَيْ التَّعَدُّدُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الرُّسُلِ بِأَنْ بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَيْنِ فِي قَوْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ عَلَى اقْتِصَارِ رِسَالَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَوْمِهِ. وَعَلَى اخْتِلَافِ الزَّمَانِ كَمَا إذَا نُسِخَ الْحَظْرُ بِالْإِبَاحَةِ بِالْحَظْرِ فِي شَرِيعَةِ رَسُولٍ وَاحِدٍ فِي زَمَانَيْنِ. فَكَذَلِكَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُكَلَّفِينَ أَيْ فَكَمَا جَازَ التَّعَدُّدُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ جَازَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُكَلَّفِينَ فَيَثْبُتُ الْحَظْرُ فِي حَقِّ شَخْصٍ وَالْإِبَاحَةُ فِي حَقِّ آخَرَ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَيْتَةَ أُبِيحَتْ فِي حَقِّ الْمُضْطَرِّ وَحَرُمَتْ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَالْمَنْكُوحَةَ أُحِلَّتْ لِلزَّوْجِ وَحَرُمَتْ عَلَى غَيْرِهِ. وَالْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا حَرُمَتْ عَلَى الزَّوْجِ وَأُحِلَّتْ لِغَيْرِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ إبَاحَةُ النَّبِيذِ فِي حَقِّ مُجْتَهِدٍ وَحُرْمَتُهُ فِي حَقِّ آخَرَ وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقًّا وَيَلْزَمُ قَوْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اتِّبَاعُ إمَامِهِ كَمَا فِي الرَّسُولَيْنِ. وَهَذَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ابْتَلَى عِبَادَهُ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ لِيَمْتَازَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ الِابْتِلَاءُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فَيَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الطَّبَقَاتِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ دَلِيلَ التَّعَدُّدِ، وَهُوَ التَّكْلِيفُ بِإِصَابَةِ الْحَقِّ لِلْكُلِّ لَمْ يُوجِبْ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْحُقُوقِ بَلْ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُ كُلِّ مُجْتَهِدٍ حَقًّا فِي حَقِّهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ تَرْجِيحُ الْبَعْضِ بِلَا مُرَجِّحٍ. قَوْلُهُ: (وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ) وَهُوَ أَنَّ وَاحِدًا مِنْ الْجُمْلَةِ أَحَقُّ، وَهُوَ الْقَوْلُ بِالْأَشْبَهِ أَنَّ اسْتِوَاءَ الْحُقُوقِ يَقْطَعُ التَّكْلِيفَ أَيْ يُؤَدِّي إلَى سُقُوطِ التَّكْلِيفِ بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي الطَّلَبِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ لَمَّا كَانَ حَقًّا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى السَّوَاءِ لَمْ يَكُنْ فِي إتْعَابِ النَّفْسِ، وَإِعْمَالِ الْفِكْرِ فِي الطَّلَبِ فَائِدَةٌ بَلْ يَخْتَارُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ مِنْ غَيْرِ امْتِحَانٍ كَالْمُصَلِّي فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ يَخْتَارُ أَيَّ جِهَةٍ شَاءَ مِنْ غَيْرِ بَذْلِ مَجْهُودٍ، وَإِجَالَةِ تَفَكُّرٍ لَكِنَّ الْفَرِيقَ الْأَوَّلَ يَقُولُونَ إنَّمَا يَلْزَمُ هَذَا لَوْ كَانَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ حَقًّا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ الِاجْتِهَادِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْحُكْمُ بِحَقِّيَّةِ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُ كُلِّ وَاحِدٍ تَابِعٌ لِاجْتِهَادِهِ فَقَبْلَ الِاجْتِهَادِ لَا يُمْكِنُ إصَابَةُ الْحَقِّ بِمُجَرَّدِ الِاخْتِيَارِ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الِاخْتِيَارِ وَبَعْدَمَا اجْتَهَدَ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاخْتِيَارُ أَيْضًا لَازِمًا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ هُوَ الْحَقُّ فِي حَقِّهِ دُونَ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُ غَيْرِهِ. وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ وَعِبَارَتُهُ فِيهِ وَاَلَّذِينَ قَالُوا إنَّ الْوَاحِدَ حَقٌّ ذَهَبُوا إلَى أَنَّا لَوْ سَوَّيْنَا بَيْنَهُمَا لَبَطَلَتْ مَرَاتِبُ الْفُقَهَاءِ وَسَاوَى الْبَاذِلُ كُلَّ جُهْدِهِ فِي الطَّلَبِ الْمُبْلِي عُذْرَهُ بِأَدْنَى طَلَبٍ. قَوْلُهُ: (وَبَطَلَتْ الدَّعْوَةُ وَسَقَطَتْ وُجُوهُ النَّظَرِ) يَعْنِي لَوْ ثَبَتَ اسْتِوَاؤُهَا فِي الْحَقِّيَّةِ بَطَلَتْ دَعْوَةُ الْمُجْتَهِدِ غَيْرَهُ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ إلَى مَذْهَبِهِ وَسَقَطَتْ الْمُنَاظَرَةُ وَطُوِيَ بِسَاطُهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا إظْهَارُ الصَّوَابِ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ وَدَعْوَةِ الْمُخَالِفِ إلَيْهِ عِنْدَ ظُهُورِهِ بِالدَّلِيلِ فَإِذَا كَانَ الْكُلُّ عَلَى السَّوَاءِ فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يَسْتَقِمْ دَعْوَةُ الْغَيْرِ إلَى مَذْهَبِهِ فَلَمْ يَبْقَ لِلْمُنَاظَرَةِ فَائِدَةٌ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لِصَاحِبِهِ إنَّ مَا اعْتَقَدْته حَقٌّ فَلَازِمْهُ إذْ لَا فَضْلَ لِمَذْهَبِي عَلَى مَذْهَبِك. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا مُنَاظَرَةَ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ فِي أَعْدَادِ رَكَعَاتِ صَلَاتَيْهِمَا لَمَّا ثَبَتَ الْحَقِّيَّةُ عَلَى السَّوَاءِ. وَلَكِنْ مَنْ قَالَ بِالِاسْتِوَاءِ يَقُولُ لَيْسَتْ فَائِدَةُ الْمُنَاظَرَةِ مُنْحَصِرَةً فِيمَا ذَكَرْتُمْ بَلْ لَهَا فَوَائِدُ أُخَرُ كَتَبَيُّنِ التَّرْجِيحِ عِنْدَ تَسَاوِي الدَّلِيلَيْنِ فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ حَتَّى يَجْزِمَ بِالنَّفْيِ أَوْ بِالْإِثْبَاتِ. أَوْ تَبَيُّنِ التَّسَاوِي حَتَّى يَثْبُتَ لَهُ الْوَقْفُ

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] ، وَإِذَا اخْتَصَّ سُلَيْمَانَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - بِالْفَهْمِ، وَهُوَ إصَابَةُ الْحَقِّ بِالنَّظَرِ فِيهِ كَانَ الْآخَرُ خَطَأً «، وَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ اُحْكُمْ عَلَى أَنَّك إنْ أَصَبْت فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَإِنْ أَخْطَأْت فَلَكَ حَسَنَةٌ» ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ إنْ أَصَبْتُ فَمِنْ اللَّهِ، وَإِنْ أَخْطَأْتُ فَمِنِّي، وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَاَللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ مِنْهُ بَرِيئَانِ، وَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذَا حَاصَرْتُمْ حِصْنًا فَأَرَادُوكُمْ أَنْ تُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلُوهُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ» ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى احْتِمَالِ الْخَطَأِ وَلِأَنَّ تَعَدُّدَ الْحُقُوقِ مُمْتَنِعٌ اسْتِدْلَالًا بِنَفْسِ الْحُكْمِ وَسَبَبِهِ أَمَّا السَّبَبُ فَلِأَنَّا قُلْنَا إنَّ الْقِيَاسَ تَعْدِيَةُ وَضْعٍ لِدَرْكِ الْحُكْمِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَوْ التَّخْيِيرُ لِكَوْنِهِ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ التَّرْجِيحِ، وَكَالتَّمْرِينِ فِي الِاجْتِهَادِ وَاكْتِسَابِ الْمَلَكَةِ عَلَى اسْتِثْمَارِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَتَشْحِيذِ الْخَاطِرِ وَتَنْبِيهِ الْمُسْتَمِعِينَ عَلَى مَدَارِك الْأَحْكَامِ لِتَحْرِيكِ دَوَاعِيهِمْ إلَى طَلَبِ مَرْتَبَةِ الِاجْتِهَادِ وَنَيْلِ الثَّوَابِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ فَائِدَةِ الدَّعْوَةِ سُقُوطُ الْمُنَاظَرَةِ لِبَقَاءِ هَذِهِ الْفَوَائِدِ ثُمَّ اسْتَوْضَحَ مَا ذَكَرَ مِنْ سُقُوطِ فَائِدَةِ الْمُنَاظَرَةِ وَسُقُوطِ التَّكْلِيفِ عِنْدَ اسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي الْحَقِيقَةِ بِقَوْلِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ أَيْ الْمُنَاظَرَةَ. فِي اخْتِيَارِ وُجُوهِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَيْ اخْتِيَارِ أَحَدِ أَنْوَاعِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا حَقٌّ، وَلَيْسَ أَحَدُهَا أَحَقَّ مِنْ الْبَاقِي فَلَمْ يَكُنْ لِلِاخْتِلَافِ وَالِاجْتِهَادِ فِيهِ فَائِدَةٌ. وَإِنْ اخْتَارَهُ أَيْ اخْتِيَارُ أَحَدِ الْوُجُوهِ بِمُجَرَّدِ الْقَصْدِ الَّذِي انْضَمَّ إلَيْهِ الْفِعْلُ صَحِيحٌ بِلَا تَأَمُّلٍ أَيْ بِلَا اجْتِهَادٍ فِيهِ. وَاحْتَجَّ الْقَاضِي الْإِمَامُ لِهَؤُلَاءِ بِأَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ مَا اجْتَهَدُوا إلَّا لِإِصَابَةِ مَا يَشْهَدُ النُّصُوصَ بِالْحَقِّيَّةِ خَلَفًا عَنْ شَهَادَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا النَّاسَ كُلَّهُمْ إلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ مَا تَرَى بَيْنَ أَعْدَادِهِمْ اخْتِلَافًا إلَّا بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ كَالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ وَالْغَنَاءِ وَالْفَقْرِ وَنَحْوِهَا، فَالِاجْتِهَادُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، وَكَانَ يَقْتَضِي هَذَا أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ وَاحِدًا فِي حَقِّ الْكُلِّ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقَوْلَ بِهِ ضَرُورَةَ أَنْ لَا يَصِيرُوا مُكَلَّفِينَ بِمَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِمْ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِإِثْبَاتِ نَفْسِ الْحَقِّيَّةِ لِفَتْوَاهُمْ فَيَبْقَى الْوَاحِدُ أَحَقَّ بِنَاءً عَلَى أَصْلِ الشَّرِيعَةِ الثَّابِتَةِ بِالْوَحْيِ قَوْله تَعَالَى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] دَخَلَ رَجُلَانِ عَلَى دَاوُد وَعِنْدَهُ ابْنُهُ سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - أَحَدُهُمَا صَاحِبُ حَرْثٍ، وَقِيلَ كَانَ كَرْمًا قَدْ تَدَلَّتْ عَنَاقِيدُهُ وَالْآخَرُ صَاحِبُ غَنَمٍ فَقَالَ صَاحِبُ الْحَرْثِ إنَّ هَذَا انْفَلَتَتْ غَنَمُهُ فَوَقَعَتْ فِي حَرْثِي فَلَمْ تُبْقِ مِنْهُ شَيْئًا فَقَالَ لَك رِقَابُ الْغَنَمِ، وَقَدْ كَانَتْ قِيمَتَاهُمَا مُسْتَوِيَتَيْنِ فَقَالَ سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - غَيْرُ هَذَا أَوْفَقُ لِلْفَرِيقَيْنِ يَنْطَلِقُ أَهْلُ الْحَرْثِ بِالْغَنَمِ فَيُصِيبُونَ مِنْ أَلْبَانِهَا، وَمَنَافِعِهَا وَيَقُومُ أَصْحَابُ الْغَنَمِ عَلَى الْكَرْمِ حَتَّى إذَا كَانَتْ كَلَيْلَةِ نَفَشَتْ فِيهِ دَفَعَ هَؤُلَاءِ إلَى هَؤُلَاءِ غَنَمَهُمْ، وَهَؤُلَاءِ إلَى هَؤُلَاءِ كَرْمَهُمْ فَقَالَ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْقَضَاءُ مَا قَضَيْت فَأَخَذَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 78] أَيْ وَاذْكُرْهُمَا إذْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْهُمَا {يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 78] النَّفَشُ أَنْ يَنْتَشِرَ الْغَنَمُ بِاللَّيْلِ تَرْعَى بِلَا رَاعٍ مِنْ حَدٍّ دَخَلَ وَضَرَبَ جَمِيعًا {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] لَمْ يَفُتْ عَنَّا مِنْ أَمْرِهِمْ شَيْءٌ وَجَمَعَ الضَّمِيرَ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَهُمَا وَالْمُتَحَاكِمِينَ إلَيْهِمَا أَوْ أُرِيدَ بِهِ التَّثْنِيَةُ. فَفَهَّمْنَاهَا الْهَاءُ ضَمِيرُ الْحُكُومَةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78] وَكُلًّا أَيْ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا آتَيْنَا حُكْمًا فَصْلًا بَيْنَ الْخُصُومِ، وَعِلْمًا بِأُمُورِ الدِّينِ. وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ كَانَ بِالِاجْتِهَادِ إذْ لَوْ كَانَ بِالْوَحْيِ لَمَا جَازَ لِسُلَيْمَانَ خِلَافُهُ، وَلَمَا جَازَ لِدَاوُدَ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِهِ ثُمَّ إنَّهُ تَعَالَى خَصَّ سُلَيْمَانَ بِالْفَهْمِ فِي الْقَضِيَّةِ، وَمَنَّ عَلَيْهِ، وَكَمَالُ الْمِنَّةِ فِي إصَابَةِ الْحَقِّ حَقِيقَةً فَلَوْ كَانَا مُصِيبَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ سُلَيْمَانَ بِالْفَهْمِ فَائِدَةٌ؛ لِأَنَّ دَاوُد قَدْ فَهِمَ مِنْ الْحُكْمِ الصَّوَابَ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ مَا فَهِمَ سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -. وَلَا يُقَالُ كَانَ مَا قَضَى بِهِ دَاوُد جَائِزًا، وَمَا قَضَى بِهِ سُلَيْمَانُ أَفْضَلَ فَلِذَلِكَ اخْتَصَّهُ بِالْفَهْمِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ دَاوُد تَرْكَ الْأَفْضَلِ لَمَا وَسِعَ سُلَيْمَانَ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الِافْتِيَاتَ عَلَى رَأْيِ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQإذَا كَانَ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ خُصُوصًا عَلَى الْأَبِ النَّبِيِّ كَذَا قِيلَ. وَاعْتَرَضَ الْغَزَالِيُّ عَلَى التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ كَيْفَ يَصِحُّ أَنَّهُمَا حَكَمَا بِالِاجْتِهَادِ، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَمْنَعُ اجْتِهَادَ الْأَنْبِيَاءِ عَقْلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ سَمْعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازُوا حَالَ الْخَطَأِ عَلَيْهِمْ فَكَيْفَ يُنْسَبُ الْخَطَأُ إلَى دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَمِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ أَنَّهُ قَالَ مَا قَالَ عَنْ اجْتِهَادٍ. وَالْآيَةُ عَلَى نَقِيضِ مَذْهَبِكُمْ أَدَلُّ؛ لِأَنَّهُ قَالَ {وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] وَالْخَطَأُ يَكُونُ ظُلْمًا وَجَهْلًا لَا حُكْمًا وَعِلْمًا، وَمَنْ قَضَى بِخِلَافِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ حَكَمَ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ الْحُكْمَ وَالْعِلْمَ الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا سِيَّمَا فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّا قَدْ دَلَلْنَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ بِالِاجْتِهَادِ وَثَبَتَ ذَلِكَ بِالنَّقْلِ أَيْضًا، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْخَطَأَ عَلَيْهِمْ فِي اجْتِهَادِهِمْ جَائِزَانِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى الْخَطَأِ. وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] أَنَّهُ آتَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمًا وَعِلْمًا فِيمَا حَكَمَا بِهِ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ إيتَاءَ الْعِلْمِ بِوُجُوهِ الِاجْتِهَادِ وَطُرُقِ الْأَحْكَامِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَالْخَطَأُ فِي مَسْأَلَةٍ لَا يَمْنَعُ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ أُوتِيَ حُكْمًا وَعِلْمًا فَلَا نُبْقِي لِلْخَصْمِ حُجَّةً. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ اقْضِ بَيْنَ هَذَيْنِ قَالَ أَقْضِي، وَأَنْتَ حَاضِرٌ قَالَ نَعَمْ قَالَ عَلَى مَاذَا أَقْضِي قَالَ عَلَى أَنَّك إنْ اجْتَهَدْت فَأَصَبْت فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَإِنْ أَخْطَأْت فَلَكَ حَسَنَةٌ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ» فَفِيهِمَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِي الِاجْتِهَادِ خَطَأً وَصَوَابًا حَيْثُ صَرَّحَ بِذِكْرِ الْخَطَأِ وَبِتَفَاوُتِ الْأَجْرِ، وَفِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ رَوَاهُ مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَإِذَا حَاصَرْتُمْ أَهْلَ حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ فَأَرَادُوكُمْ أَنْ تُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ» الْحَدِيثَ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ، وَفِي هَذَا اللَّفْظِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ فَإِنَّهُ قَالَ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ؟ . وَلَوْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا لَكَانَ يَعْلَمُ حُكْمَ اللَّهِ بِالِاجْتِهَادِ لَا مَحَالَةَ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ «، وَلَكِنْ أَنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمٍ ثُمَّ اُحْكُمُوا فِيهِمْ بِمَا رَأَيْتُمْ» ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُجْتَهِدُ مُصِيبًا لِلْحَقِّ لَمَا أَمَرَ بِإِنْزَالِهِمْ عَلَى حُكْمِنَا فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَأْمُرُ بِالْإِنْزَالِ عَلَى الْخَطَأِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَأْمُرُ بِالْإِنْزَالِ عَلَى الصَّوَابِ. قُلْنَا: نَحْنُ لَا نَقُولُ الْمُجْتَهِدُ يَكُونُ مُخْطِئًا لَا مَحَالَةَ، وَلَكِنَّهُ عَلَى رَجَاءٍ مِنْ الْإِصَابَةِ، وَهُوَ أَتَى بِمَا فِي وُسْعِهِ فَلِهَذَا أُمِرْنَا بِالْإِنْزَالِ عَلَى ذَلِكَ لَا؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُصِيبًا بِالِاجْتِهَادِ لَا مَحَالَةَ، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِيهِ شُبْهَةُ الْخِلَافِ إذَا أُنْزِلُوا عَلَى حُكْمِنَا وَحَكَمْنَا فِيهِمْ بِمَا رَأَيْنَا وَيَتَمَكَّنُ إذَا أُنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ. وَالدَّلِيلُ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ أَطْلَقُوا الْخَطَأَ فِي الِاجْتِهَادِ كَثُرَ أَوْ شَاعَ وَتَكَرَّرَ، وَلَمْ يُنْكِرْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي التَّخْطِئَةِ فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ لَيْسَ إلَّا وَاحِدٌ فَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ خَطَّئُوا ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي تَرْكِ الْقَوْلِ بِالْعَوْلِ وَخَطَّأَهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْقَوْلِ بِهِ، وَقَالَ مَنْ بَاهَلَنِي بَاهَلْته إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ، وَفِي رِوَايَةٍ إنَّ الَّذِي أَحْصَى رَمْلَ عَالِجٍ عَدَدًا لَمْ يَجْعَلْ فِي مَالٍ وَاحِدٍ نِصْفَيْنِ وَثَلَاثًا. وَمِنْهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ أَقُولُ فِي الْكَلَالَةِ بِرَأْيِي فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي، وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُ بَرِيئَانِ وَعَنْ عُمَرَ

فَمَا لَيْسَ بِمُتَعَدِّدٍ لَا يَتَعَدَّى مُتَعَدِّدًا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ تَغْيِيرًا حِينَئِذٍ فَيُوجِبُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ مُتَعَدِّدًا بِالنَّصِّ بِعَيْنِهِ، وَهَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ أَلَا تَرَى لَوْ تَوَهَّمْنَا غَيْرَ مَعْلُومٍ لَمْ يَكُنْ حُكْمُهُ مُتَعَدِّدًا وَذَلِكَ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ صِيغَتُهُ بِيَقِينٍ فَلَا يَتَعَدَّدُ بِالتَّعْلِيلِ، وَفِيهِ تَغْيِيرٌ وَيَصِيرُ الْفَرْعُ بِهِ مُخَالِفًا لِلْأَصْلِ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِنَفْسِ الْحُكْمِ فَهُوَ أَنَّ الْفِطْرَ وَالصَّوْمَ، وَفَسَادَ الصَّلَاةِ وَصِحَّتَهَا، وَفَسَادَ النِّكَاحِ وَصِحَّتَهُ وَوُجُودَ الشَّيْءِ وَعَدَمَهُ، وَقِيَامَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ تَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهُ، وَلَا يَصْلُحُ الْمُسْتَحِيلُ حُكْمًا شَرْعِيًّا ـــــــــــــــــــــــــــــQ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ حَكَمَ بِحُكْمٍ فَقَالَ رَجُلٌ هَذَا وَاَللَّهِ الْحَقُّ فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّ عُمَرَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ أَصَابَ الْحَقَّ لَكِنَّهُ لَمْ يَأْلُ جَهْدًا. وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِكَاتِبِهِ اُكْتُبْ هَذَا مَا رَأَى عُمَرُ فَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنْهُ، وَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي اسْتَحْضَرَهَا عُمَرُ فَأُجْهِضَتْ، وَقَدْ قَالَ لَهُ عُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ إنَّمَا أَنْتَ مُؤَدَّبٌ لَا نَرَى عَلَيْك شَيْئًا فَقَالَ عَلِيٌّ إنْ كَانَا قَدْ اجْتَهَدَا فَقَدْ أَخْطَأَ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَهِدَا فَقَدْ غَشَّاكِ أَرَى عَلَيْك الدِّيَةَ يَعْنِي الْغُرَّةَ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُفَوَّضَةِ أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي، وَمِنْ الشَّيْطَانِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ أَلَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ ابْنًا، وَلَا يَجْعَلُ أَبَا الْأَبِ أَبًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوَقَائِعِ. وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذِهِ الْحُجَّةِ بِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ التَّخْطِئَةُ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ التَّقْصِيرُ مِنْ الْمُجْتَهِدِ أَوْ فِيمَا خَالَفَ فِيهِ نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا وَحِينَئِذٍ لَا يَنْتَهِضُ حُجَّةً. وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّخْطِئَةَ، وَقَعَتْ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الَّتِي لَا نَصَّ، وَلَا إجْمَاعَ فِيهَا، وَلَا تَقْصِيرَ فِي مُجْتَهِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَإِلَّا وَجَبَ التَّأْثِيمُ، وَهُوَ بَاطِلٌ. 1 - ثُمَّ اسْتَدَلَّ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى امْتِنَاعِ تَعَدُّدِ الْحُقُوقِ بِنَفْسِ الْحُكْمِ وَسَبَبِهِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ الثَّابِتُ بِالِاجْتِهَادِ. أَمَّا السَّبَبُ فَلِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقِيَاسَ تَعْدِيَةٌ، وُضِعَ لِدَرْكِ الْحُكْمِ فَقَوْلُهُ وُضِعَ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ أَيْ الْقِيَاسُ لِتَعْدِيَةِ حُكْمِ النَّصِّ إلَى مَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَإِنَّهُ وُضِعَ مُدْرِكًا لِحُكْمِ النَّصِّ لَا مُثْبِتًا لِلْحُكْمِ ابْتِدَاءً وَلِهَذَا حُدَّ بِأَنَّهُ إبَانَةُ مِثْلِ الْحُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْفَرْعِ. فَمَا لَيْسَ بِمُتَعَدِّدٍ لَا يَتَعَدَّى مُتَعَدِّدًا يَعْنِي حُكْمَ النَّصِّ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّدًا فِي نَفْسِهِ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتَعَدَّى مُتَعَدِّدًا؛ لِأَنَّهُ أَيْ التَّعْدِيَةَ بِصِفَةِ التَّعَدُّدِ يَصِيرُ تَغْيِيرًا لِحُكْمِ النَّصِّ إذَا لَمْ يَكُنْ حُكْمُهُ مُتَعَدِّدًا. فَيُوجِبُ ذَلِكَ أَيْ تَعَدُّدُ الْحَقِّ فِي الْفَرْعِ أَوْ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ مُتَعَدِّدًا أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ مُتَعَدِّدًا بِالنَّصِّ بِعَيْنِهِ لِيَثْبُتَ تَعَدُّدُهُ فِي الْفَرْعِ بِالتَّعْدِيَةِ. وَهَذَا أَيْ كَوْنُ الْحَقِّ مُتَعَدِّدًا فِي النَّصِّ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عِنْدَ تَعَارُضِ النَّصَّيْنِ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ أَوْ النَّفْيِ وَالْإِيجَابِ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَأَنَّ الْعَمَلَ لَا يَجِبُ بِهِمَا جَمِيعًا بَلْ يَجِبُ الْوَقْفُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ الرُّجْحَانُ لِأَحَدِهِمَا أَوْ يُعْرَفُ التَّارِيخُ فَيَكُونُ الْآخَرُ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ تَعَدُّدُ الْحَقِّ فِي الْأُصُولِ بَطَلَ الْقَوْلُ بِتَعَدُّدِهِ فِي الْفُرُوعِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَيْهَا. ثُمَّ اسْتَوْضَحَ مَا ذَكَرَ أَنَّهُ تَغْيِيرٌ بِقَوْلِهِ أَلَا تَرَى أَنَّا لَوْ تَوَهَّمْنَاهُ أَيْ النَّصَّ. غَيْرُ مَعْلُولٍ أَيْ غَيْرُ مُعَلَّلٍ، وَذَلِكَ أَيْ التَّعَدُّدُ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ غَيْرُ لَازِمٍ فَإِنَّ الْحُكْمَ يَتَعَدَّى إلَى الْفَرْعِ مِنْ الْأَصْلِ مُتَّحِدًا غَيْرَ مُتَعَدِّدٍ، وَلَكِنَّ التَّعَدُّدَ فِيهِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْأَصْلِ فَإِنَّ أَصْلَ كُلِّ مُجْتَهِدٍ فِي الْفَرْعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ غَيْرُ أَصْلِ خَصْمِهِ فَإِنَّ مَنْ جَوَّزَ بَيْعَ الْجِصِّ مُتَفَاضِلًا اعْتَبَرَهُ بِالْمَذْرُوعِ، وَمَنْ لَمْ يُجَوِّزْهُ اعْتَبَرَ بِالْحِنْطَةِ وَالْجَوَازُ وَعَدَمُ الْجَوَازِ فِي الْأَصْلَيْنِ ثَابِتَانِ بِلَا خِلَافٍ وَتَعَدَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْحُكْمَيْنِ إلَى الْفَرْعِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِيرٍ وَتَعَدُّدٍ فِيهِ، وَلَكِنَّ التَّعَدُّدَ حَصَلَ بِتَعَدُّدِ الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرْتُمْ أَنْ لَوْ اعْتَبَرَ الْفَرْعُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَصْمَيْنِ بِأَصْلٍ وَاحِدٍ بِأَنْ اعْتَبَرَهُ الْمُجَوَّزَ بِالْحِنْطَةِ كَمَا اعْتَبَرَ غَيْرَ الْمُجَوَّزِ بِهَا أَوْ اعْتَبَرَهُ غَيْرَ الْمُجَوَّزِ بِالْمَذْرُوعِ كَمَا اعْتَبَرَهُ الْمُجَوَّزَ بِهِ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا

وَصِحَّةُ التَّكْلِيفِ يَحْصُلُ بِمَا قُلْنَا مِنْ صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ، وَإِصَابَتِهِ ابْتِدَاءً. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُدَّعِي الْمِيرَاثِ إذَا لَمْ يُشْهِدْ شُهُودَهُ أَنَّا لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ؛ لِأَنِّي لَا أَكْفُلُ الْمُدَّعِيَ، وَهَذَا شَيْءٌ احْتَاطَ بِهِ الْقُضَاةُ، وَهُوَ جَوْرٌ سَمَّاهُ جَوْرًا، وَهُوَ اجْتِهَادٌ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْمَطْلُوبِ مَائِلٌ عَنْ الْحَقِّ، وَهُوَ مَعْنَى الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا إذَا فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا نَفَذَ الْحُكْمُ، وَقَدْ أَخْطَأَ السُّنَّةَ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ اشْتِبَاهًا. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِنَفْسِ الْحُكْمِ فَظَاهِرٌ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهُ أَيْ اجْتِمَاعُ الْمَذْكُورِ يَعْنِي فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ كَالنَّصِّ؛ لِأَنَّهُ خَلَفُ النَّصِّ، وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالنَّصِّ لَا يَخْتَصُّ بِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ فَكَذَا الثَّابِتُ بِالْقِيَاسِ فَكَانَ حُكْمُهُ شَامِلًا لِلْجَمِيعِ كَحُكْمِ النَّصِّ فَيَجْتَمِعُ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُقَلِّدَ لَوْ اسْتَفْتَى أَحَدَ الْمُجْتَهِدِينَ لَأَفْتَاهُ بِالْحَظْرِ الَّذِي ثَبَتَ عِنْدَهُ عَلَى أَنَّهُ حُكْمُ الشَّرْعِ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ، وَلَوْ اسْتَفْتَى الْآخَرَ لَأَفْتَاهُ بِالْإِبَاحَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا فَكَانَ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ مُجْتَمِعَيْنِ فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ. بِخِلَافِ اجْتِمَاعِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فِي الْمَيْتَةِ؛ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُضْطَرِّ لَا يَتَعَدَّاهُ وَالْحُرْمَةُ مُخْتَصَّةٌ بِغَيْرِ الْمُضْطَرِّ فَلَا يَكُونُ اجْتِمَاعًا فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ. قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَوْ كَانَ الْحَقُّ مُتَعَدِّدًا لَجَازَ لِلَّذِي يَعْمَلُ بِاتِّبَاعِ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَخْتَارَ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَثْبَتَ الْكَفَّارَةَ فِي بَابِ الْيَمِينِ أَنْوَاعًا كَانَ لِلْعَبْدِ الْخِيَارُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا يَهْوَاهُ بِلَا دَلِيلٍ، وَمَنْ أَبَاحَ هَذَا فَقَدْ أَبْطَلَ الْحُدُودَ وَشَرَعَ طَرِيقَ الْإِبَاحَةِ وَبَنَى الدِّينَ عَلَى الْهَوَى وَاَللَّهُ تَعَالَى مَا نَهَجَ الدِّينَ إلَّا عَلَى دَلِيلٍ غَيْرِ الْهَوَى مِنْ نَصٍّ ثَابِتٍ بِوَحْيٍ أَوْ قِيَاسٍ شَرْعِيٍّ فَمَنْ جَعَلَ الْحَقَّ حُقُوقًا أَثْبَتَ الْخِيَارَ لِلْعَامِّيِّ بِهَوَاهُ، وَمَنْ قَالَ الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ أَلْزَمَ الْعَامِّيَّ أَنْ يَتَّبِعَ إمَامًا وَاحِدًا، وَقَعَ عِنْدَهُ بِدَلِيلِ النَّظَرِ أَنَّهُ أَعْلَمُ، وَلَا يُخَالِفُهُ فِي شَيْءٍ بِهَوَى نَفْسِهِ. فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ الْقِيَاسَانِ إذَا تَعَارَضَا ثَابِتٌ لِلْمُجْتَهِدِ الْخِيَارُ يَعْمَلُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ قُلْنَا نَعَمْ، وَلَكِنْ لَا بِهَوَى نَفْسِهِ بَلْ بِالضَّرُورَةِ فَإِنَّ الْحَقَّ فِي أَحَدِهِمَا وَيَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِهِ، وَلَمْ يَبْقَ قِبَلَهُ لِلَّهِ تَعَالَى دَلِيلٌ يُوَصِّلُهُ إلَيْهِ سِوَى شَهَادَةِ قَلْبِهِ فَلَزِمَهُ الْعَمَلُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ حُجَجِ الشَّرْعِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِذَا عَمِلَ بِأَحَدِهِمَا لَزِمَهُ الْإِعْرَاضُ عَنْ الْآخَرِ إلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ الْحَقُّ وَاحِدًا لَوَجَبَ اتِّبَاعُ الْخَطَأِ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الِاجْتِهَادِ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِاسْتِحَالَةِ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الْخَطَأِ. قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ اسْتِحَالَةَ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الْخَطَأِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إصَابَةِ الْحَقِّ فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ إذَا كَانَ فِيهَا نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ اجْتَهَدَ بَعْدَ اسْتِفْرَاغِ وُسْعِهِ فِي الطَّلَبِ كَانَ مَأْمُورًا بِاتِّبَاعِ ظَنِّهِ مَعَ أَنَّهُ خَطَأٌ حَقِيقَةً لِوُجُودِ نَصٍّ عَلَى خِلَافِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْخَطَأَ جَائِزُ الِاتِّبَاعِ فِي الْفُرُوعِ عِنْدَ ظَنِّ الْإِصَابَةِ وَتَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَقِّ. قَوْلُهُ: (وَصِحَّةُ التَّكْلِيفِ تَحْصِيلٌ بِمَا قُلْنَا) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ لَا بُدَّ لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِالِاجْتِهَادِ مِنْ تَعَدُّدِ الْحَقِّ إذْ لَوْ كَانَ وَاحِدًا لَزِمَ تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ. فَقَالَ صِحَّةُ التَّكْلِيفِ يَحْصُلُ بِمَا قُلْنَا مِنْ صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ، وَإِصَابَتِهِ ابْتِدَاءً يَعْنِي إنَّمَا لَمْ يَصِحَّ التَّكْلِيفُ إذَا كُلِّفُوا بِإِصَابَةِ مَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْحَقِّ، وَلَمْ يُكَلَّفُوا بِهَا إمَّا لِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ أَوْ لِخَفَائِهِ بِحَيْثُ لَا يَصِلُ إلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ بَلْ كُلِّفُوا الِاجْتِهَادَ لِلْإِصَابَةِ فَإِنْ أَصَابُوا أُجِرُوا، وَإِنْ أَخْطَئُوا عُذِرُوا وَأُجِرُوا عَلَى الطَّلَبِ فَكَانُوا مُصِيبِينَ فِي الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ أَخْطَأَ بَعْضُهُمْ الْحَقَّ فَلَمْ يَلْزَمْ تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ. وَهَذَا كَمَنْ أَمَرَ خُدَّامَهُ بِطَلَبِ فَرَسٍ ضَلَّ عَنْهُ فَخَرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ إلَى جَانِبٍ فِي طَلَبِهِ صَحَّ هَذَا الْأَمْرُ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مُصِيبًا فِي الطَّلَبِ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ، وَلَكِنْ مَنْ وَجَدَ الْفَرَسَ مُصِيبٌ ابْتِدَاءً لِصِحَّةِ طَلَبِهِ وَانْتِهَاءً لِظَفَرِهِ بِالْفَرَسِ وَالْبَاقُونَ مُصِيبُونَ ابْتِدَاءً لِبَذْلِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQجُهْدِهِمْ فِي الطَّلَبِ وَامْتِثَالِ الْأَمْرِ لَا انْتِهَاءً لِحِرْمَانِهِمْ عَنْ إصَابَةِ الْفَرَسِ فَكَذَا هَاهُنَا. قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ) إلَى آخِرِهِ لَمَّا زَعَمَتْ الْمُعْتَزِلَةُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ عَلَى مَذْهَبِهِمْ اسْتِدْلَالًا بِمَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ أَنْكَرَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَذْهَبًا لَهُ، وَأَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَهُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ. فَقَالَ: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي مُدَّعِي الْمِيرَاثِ إذَا لَمْ يَشْهَدْ شُهُودُهُ أَنَّا لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ يَعْنِي شَهِدُوا أَنَّ الْمُدَّعِيَ هَذَا وَارِثُ فُلَانٍ الْمَيِّتِ، وَلَمْ يَقُولُوا لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ. إنِّي لَا أُكَفِّلُ الْمُدَّعِيَ يَعْنِي لَا أُكَلِّفُهُ بِإِعْطَاءِ الْكَفِيلِ إذَا سَلَّمْت الْمَالَ إلَيْهِ، وَهَذَا أَيْ أَخْذُ الْكَفِيلِ شَيْءٌ احْتَاطَ بِهِ الْقُضَاةُ، وَهُوَ جَوْرٌ، سَمَّاهُ أَيْ أَخَذَ الْكَفِيلُ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ جَوْرًا، وَهُوَ اجْتِهَادٌ. الْوَاوُ لِلْحَالِ أَيْ مَعَ أَنَّ أَخْذَ الْكَفِيلِ ثَبَتَ عِنْدَهُ بِالِاجْتِهَادِ، وَهُوَ أَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ وَرُبَّمَا يَظْهَرُ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ آخَرُ فَيَأْخُذُ كَفِيلًا مِنْ الْحَاضِرِ نَظَرًا لِلْغَائِبِ كَالْمُلْتَقِطِ إذَا رَدَّ اللُّقَطَةَ عَلَى صَاحِبِهَا يَأْخُذُ كَفِيلًا مِنْهُ احْتِيَاطًا فَلَوْ كَانَ الْحَقُّ مُتَعَدِّدًا عِنْدَهُ لَمْ يَكُنْ لِتَسْمِيَتِهِ الْحُكْمَ الثَّابِتَ بِالِاجْتِهَادِ جَوْرًا مَعْنًى فَثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ عِنْدَهُ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ وَاحِدٌ. وَلَمَّا كَانَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْحَقُّ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فِي الْمُجْتَهَدَاتِ لَكِنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فِي حَقِّ الْعَمَلِ مَأْمُورٌ بِالْعَمَلِ بِاجْتِهَادِهِ فَلَا يَجُوزُ تَسْمِيَةُ مَا ثَبَتَ بِالِاجْتِهَادِ جَوْرًا أَشَارَ الشَّيْخُ إلَى الْجَوَابِ فِي الدَّلِيلِ فَقَالَ إنَّمَا سَمَّاهُ جَوْرًا؛ لِأَنَّهُ أَيْ الْقَاضِيَ الَّذِي أَمَرَ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ احْتِيَاطًا فِي حَقِّ الْمَطْلُوبِ، وَهُوَ أَخْذُ الْكَفِيلِ مَائِلٌ عَنْ الْحَقِّ، وَهُوَ عَدَمُ تَكْلِيفِ الْمُدَّعِي بِإِعْطَاءِ الْكَفِيلِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحَاضِرِ مَعْلُومٌ قَدْ ثَبَتَ بِالْحُجَّةِ وَحَقَّ الْآخَرِ مَوْهُومٌ فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ حَقِّ الْحَاضِرِ لِآخَرَ مَوْهُومٍ لَا أَمَارَةَ عَلَيْهِ. وَمَسْأَلَةُ اللُّقَطَةِ فِيمَا إذَا دَفَعَهَا بِالْعَلَامَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحَاضِرِ لَيْسَ بِثَابِتٍ وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ لَا يَدْفَعَهَا إلَيْهِ فَأَمَّا إذَا دَفَعَهَا بِالْبَيِّنَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَخْذِ الْكَفِيلِ عِنْدَهُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَةِ. وَهُوَ مَعْنَى الْجَوْرِ يُقَالُ جَارَ عَنْ الطَّرِيقِ إذَا مَالَ عَنْ قَصْدِهِ. وَالظُّلْمُ يَعْنِي إنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ الْجَوْرِ الظُّلْمَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَأْخُذُ الْكَفِيلَ عَنْ الْمُدَّعِي ظَالِمٌ فِي حَقِّهِ فَهُوَ بِمَعْنَى الْمَيْلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَإِذَا كَلَّفَهُ الْقَاضِي بِإِعْطَاءِ الْكَفِيلِ جَبْرًا، وَالْحَقُّ عَلَى خِلَافِهِ كَانَ ذَلِكَ وَضْعًا لِلشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَكَانَ مَيْلًا عَنْ الْحَقِّ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَعْنِي ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمَبْسُوطِ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ إذَا الْتَعَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا أَنَّ الْفُرْقَةَ جَائِزَةٌ، وَأَنَّ حُكْمَهُ يَنْفُذُ عِنْدَنَا، وَقَدْ أَخْطَأَ السُّنَّةَ أَيْ الطَّرِيقَةَ الْمَسْلُوكَةَ فِي الشَّرْعِ فِي هَذَا الْبَابِ فَقَدْ حَكَمَ أَصْحَابُنَا بِصِحَّةِ الِاجْتِهَادِ حَيْثُ نَفَّذُوا قَضَاءَ الْقَاضِي ثُمَّ أَطْلَقُوا اسْمَ الْخَطَأِ عَلَيْهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الِاجْتِهَادَ قَدْ يَقَعُ خَطَأً عِنْدَهُمْ، وَإِنْ كَانَ جَائِزَ الْعَمَلِ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْفُذَ حُكْمُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ كَمَا قَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ حَكَمَ بِخِلَافِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّ اللِّعَانَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَالْحُكْمَ بِخِلَافِ النَّصِّ بَاطِلٌ كَمَا لَوْ حَكَمَ بِشَهَادَةِ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ فِي حَدِّ الزِّنَا. قُلْنَا هَذَا حُكْمٌ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ فَيَنْفُذُ كَمَا لَوْ حَكَمَ بِشَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَكْرَارَ اللِّعَانِ لِلتَّغْلِيظِ، وَمَعْنَى التَّغْلِيظِ يَحْصُلُ بِأَكْثَرِ كَلِمَاتِ اللِّعَانِ؛ لِأَنَّهُ جَمْعٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَأَدْنَى الْجَمْعِ كَأَعْلَاهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَإِذَا اجْتَهَدَ الْقَاضِي، وَأَدَّى

وَدَلِيلُ مَا قُلْنَا مِنْ الْمَذْهَبِ لِأَصْحَابِنَا فِي أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى، وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْقِبْلَةِ فَإِنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُتَحَرِّيَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ أَيْضًا كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ فِي قَوْمٍ صَلَّوْا جَمَاعَةً وَتَحَرُّوا الْقِبْلَةَ وَاخْتَلِفُوا فَمَنْ عَلِمَ مِنْهُمْ حَالَ إمَامِهِ، وَهُوَ مُخَالِفُهُ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ مُخْطِئٌ لِلْقِبْلَةِ عِنْدَهُ وَلَوْ كَانَ الْكُلُّ صَوَابًا وَالْجِهَاتُ قِبْلَةً لَمَا فَسَدَتْ وَلَمَا كُلِّفُوا التَّحَرِّيَ وَالطَّلَبَ كَالْجَمَاعَةِ إذَا صَلَّوْا فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الْمُخْطِئَ لِلْقِبْلَةِ لَا يُعِيدُ صَلَاتَهُ فَلِأَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ إصَابَةَ الْكَعْبَةِ يَقِينًا بَلْ كُلِّفَ طَلَبَهُ عَلَى رَجَاءِ الْإِصَابَةِ لَكِنَّ الْكَعْبَةَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ بِعَيْنِهَا، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ ابْتِلَاءٌ فَإِذَا حَصَلَ الِابْتِلَاءُ بِمَا فِي قَلْبِهِ مِنْ رَجَاءِ الْإِصَابَةِ وَحَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ طَلَبُ وَجْهِ اللَّهِ سَقَطَتْ حَقِيقَتُهُ أَلَا تَرَى أَنَّ جَوَازَ الصَّلَاةِ، وَفَسَادَهَا مِنْ صِفَاتِ الْعَمَلِ، وَالْمُخْطِئُ فِي حَقِّ نَفْسِ الْعَمَلِ مُصِيبٌ فَثَبَتَ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْقِبْلَةِ، وَمَسْأَلَتَنَا سَوَاءٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQاجْتِهَادُهُ إلَى هَذَا الطَّرِيقِ نَفَذَ حُكْمُهُ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَضَاءَهُ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْفُرْقَةِ، وَمَحَلَّهَا غَيْرُ مَذْكُورَيْنِ فِي النَّصِّ، وَهَذَا الِاجْتِهَادُ فِي مَحَلِّ الْفُرْقَةِ فَإِنَّ مَنْ أَبْطَلَ هَذَا الْقَضَاءَ يَقُولُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ، وَإِنْ أَتَمَّتْ الْمَرْأَةُ اللِّعَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ، وَإِنْ تَمَّ الزَّوْجُ اللِّعَانَ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الْفُرْقَةُ عِنْدَهُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. قَوْلُهُ: (وَدَلِيلُ مَا قُلْنَا مِنْ الْمَذْهَبِ) يَعْنِي الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ أَصْحَابِنَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ كَثِيرٌ فِي كُتُبِهِمْ سِوَى هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ مِثْلُ مَسْأَلَةِ التَّحَرِّي، وَمِثْلُ مَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كُتُبِهِ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِرَأْيِ نَفْسِهِ فِي حَادِثَةٍ اخْتَلَفَ فِيهَا الْفُقَهَاءُ نَفَذَ عَلَى الْكُلِّ وَثَبَتَ صِحَّتُهُ فِي حَقِّ مَنْ يُخَالِفُهُ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْمُخَالِفِ هَذَا الْقَاضِي مُخْطِئًا لِلْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ إنَّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَصْحَابُنَا مِنْ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ كَثِيرٌ فِي كُتُبِهِمْ سِوَى الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. ثُمَّ أَجَابَ عَنْ مَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ الَّتِي اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ. فَقَالَ فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْقِبْلَةِ إلَى آخِرِهِ يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ فِي الْقِبْلَةِ مُصِيبٌ لَا مَحَالَةَ بَلْ الْمُجْتَهِدُ فِيهَا يُخْطِئُ وَيُصِيبُ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ اسْتِدْلَالًا بِالْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ. وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُجْتَهِدُ فِي الْقِبْلَةِ مُصِيبًا لَا مَحَالَةَ لَوَجَبَ عَلَى الْمُخْطِئِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ كَمَا لَوْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ نَجِسٍ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ طَاهِرٌ. فَتَعَرَّضَ لِلْجَوَابِ بِقَوْلِهِ: وَأَمَّا قَوْلُهُ أَيْ قَوْلُ مَنْ ادَّعَى الْحُقُوقَ إنَّ الْمُخْطِئَ لِلْقِبْلَةِ لَا يُعِيدُ صَلَاتَهُ وَجَوَابُ أَمَّا مَحْذُوفٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَالتَّقْدِيرُ أَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الْمُخْطِئَ لَا يُعِيدُ صَلَاتَهُ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى مَا ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّهُ أَيْ الْمُجْتَهِدَ فِي الْقِبْلَةِ أَوْ الْمَأْمُورَ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ لَمْ يُكَلَّفْ إصَابَةَ حَقِيقَةِ الْكَعْبَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي وُسْعِهِ لِانْقِطَاعِ الْأَدِلَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ. بَلْ كُلِّفَ طَلَبَهُ أَيْ طَلَبَ الْكَعْبَةِ بِتَأْوِيلِ الْبَيْتِ عَلَى رَجَاءِ الْإِصَابَةِ.، وَلَكِنْ الْكَعْبَةُ اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ بَلْ كُلِّفَ طَلَبَهُ يَعْنِي التَّكْلِيفَ بِطَلَبِ الْكَعْبَةِ، وَإِنْ تَحَقَّقَ لَكِنَّ الْكَعْبَةَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ بِعَيْنِهَا فِي هَذَا التَّكْلِيفِ وَلِهَذَا لَوْ قَصَدَ بِالتَّوَجُّهِ التَّعْظِيمَ لِلْكَعْبَةِ وَالْعِبَادَةَ لَهَا يُكَفَّرُ، أَلَا تَرَى أَنَّ عَيْنَهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الشَّرْعِ، وَلَمْ تَكُنْ قَبْلَهُ. وَقَدْ يَنْتَقِلُ وُجُوبُ التَّوَجُّهِ مِنْ عَيْنِهَا إلَى جِهَتِهَا عِنْدَ الْغَيْبَةِ، وَمِنْ جِهَتِهَا إلَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ التَّحَرِّي عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَإِلَى أَيِّ جِهَةٍ تَوَجَّهَتْ الدَّابَّةُ أَوْ السَّفِينَةُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الدَّابَّةِ وَالسَّفِينَةِ فَثَبَتَ أَنَّ عَيْنَهَا لَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ رِضَاهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] وَاسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ ابْتِدَاءٌ كَمَا كَانَ اسْتِقْبَالُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ابْتِدَاءً. فَإِذَا حَصَلَ الِابْتِدَاءُ فِي حَالَةِ الِاشْتِبَاهِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى مَا شَهِدَ قَلْبُهُ أَنَّهُ جِهَةُ الْكَعْبَةِ وَحَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ طَلَبُ وَجْهِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي هَذَا التَّوَجُّهِ. سَقَطَتْ حَقِيقَتُهُ أَيْ حَقِيقَةُ التَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ لَا يُبَالِي بِفَوَاتِ الْوَسِيلَةِ وَصَارَ التَّوَجُّهُ إلَى جِهَةِ التَّحَرِّي عِنْدَ الِاضْطِرَارِ كَالتَّوَجُّهِ إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ بِاعْتِبَارِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجِبْ الْإِعَادَةُ. ثُمَّ اسْتَوْضَحَ فَسَادَ اسْتِدْلَالِهِمْ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ أَلَا تَرَى أَنَّ جَوَازَ الْعِبَادَةِ، وَفَسَادَهَا مِنْ صِفَاتِ الْعَمَلِ يُقَالُ عَمَلٌ جَائِزٌ وَعَمَلٌ فَاسِدٌ لَا مِنْ صِفَاتِ مَا هُوَ الْحَقُّ حَقِيقَةً، وَنَحْنُ نُسَاعِدُكُمْ

وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كُلِّفَ الْمُتَحَرِّي إصَابَةَ حَقِيقَةِ الْكَعْبَةِ حَتَّى إذَا أَخْطَأَ أَعَادَ صَلَاتَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ فِي حَقِّ نَفْسِ الْعَمَلِ مُصِيبٌ فَكَانَ الِاجْتِهَادُ فِي الْقِبْلَةِ وَالِاجْتِهَادُ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ سَوَاءً فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ لِلْحَقِّ حَقِيقَةً. قَوْلُهُ: (وَهَذَا عِنْدَنَا) أَيْ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُتَحَرِّيَ لَمْ يُكَلَّفْ إصَابَةَ الْكَعْبَةِ، وَإِنَّمَا كُلِّفَ طَلَبَهُ عَلَى رَجَاءِ الْإِصَابَةِ مَذْهَبُنَا. فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَالْمُتَحَرِّي كُلِّفَ إصَابَةَ حَقِيقَةِ الْكَعْبَةِ حَتَّى إذَا أَخْطَأَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِأَنْ اسْتَدْبَرَ الْكَعْبَةَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ إذَا عَلِمَ بِهِ فَعَلَى قَوْلِهِ لَا يَصِحُّ اسْتِدْلَالُهُمْ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَصْلًا. احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ فِي حَقِّ الْغَائِبِينَ عَنْهَا، وَانْقِطَاعُ دَلِيلِ الْعِيَانِ ثَابِتٌ عَلَى تَحْقِيقِ الْإِصَابَةِ يَقِينًا بِأَنَّ طَرِيقَ الْإِصَابَةِ مِمَّا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ لَوْ تَكَلَّفَ الْعَبْدُ لِمَعْرِفَةِ تَرْكِيبِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَكَيْفِيَّةِ جِهَاتِ الْأَقَالِيمِ إلَّا أَنَّهُ عُذِرَ دُونَهُ بِسَبَبِ الْحَرَجِ فَكَانَ مُبِيحًا لَا مُسْقِطًا أَصْلًا فَبَقِيَ أَصْلُ الْأَمْرِ مُتَعَلِّقًا بِالْإِصَابَةِ حَقِيقَةً فَمَتَى ظَهَرَ الْخَطَأُ يَقِينًا لَزِمَتْ الْإِعَادَةُ كَالْعَمَلِ بِالرَّأْيِ أُبِيحَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُخَالِفَ النَّصَّ وَعُذِرَ فِي الْعَمَلِ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ عَدَمُ النَّصِّ، وَلَمْ يَتَكَلَّفْ كُلَّ التَّكْلِيفِ فِي طَلَبِ النَّصِّ، وَلَكِنْ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ أَصْلُ الْخِطَابِ فَأُبِيحَ لَهُ الْعَمَلُ بِشَرْطِ أَنَّهُ إنْ ظَهَرَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ فَسَدَ عَمَلُهُ. وَأَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بَنَوْا وُجُوبَ طَلَبِ الْكَعْبَةِ بَعْدَ الْغَيْبَةِ عَنْهَا عَلَى الدَّلَائِلِ الْمُعْتَادَةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا كَثِيرُ حَرَجٍ لَا عَلَى مَا لَيْسَ بِمُعْتَادٍ، وَلَا مَأْمُورٍ بِهِ بِالشَّرْعِ مِنْ عِلْمِ الْهَنْدَسَةِ، وَكَيْفِيَّةِ تَرْكِيبِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالدَّلَائِلِ الْمُعْتَادَةِ مِنْ الشَّمْسِ وَالنُّجُومِ لَا تُوَصِّلُنَا إلَى حَقِيقَةِ الْكَعْبَةِ بَلْ هِيَ مُطْمِعَةٌ فَسَقَطَ الْخِطَابُ بِإِصَابَةِ الْحَقِيقَةِ لِقُصُورِ الْحُجَّةِ، وَلَزِمَهُ الْعَمَلُ بِالتَّوَجُّهِ إلَى جِهَةٍ فِيهَا رَجَاءُ إصَابَةِ الْكَعْبَةِ فَإِذَا فُقِدَتْ النُّجُومُ وَالْمَحَارِيبُ الْمَنْصُوبَةُ، وَأَخْبَارُ النَّاسِ عَنْ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ وَوَجَبَ الْعَمَلُ بِرَأْيِ الْقَلْبِ، وَهَذَا الرَّأْيُ لَا يُوَصِّلُهُ إلَى الْجِهَةِ الظَّاهِرَةِ حَالَ ظُهُورِ الشَّمْسِ وَالْمَحَارِيبِ سَقَطَ إصَابَةُ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَلَزِمَهُ التَّوَجُّهُ إلَى جِهَةٍ فِيهَا رَجَاءُ إصَابَةِ الْمِحْرَابِ الظَّاهِرِ فَإِذَا عَمِلَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ صَارَ مُؤْتَمِرًا بِالْأَمْرِ فَلَا يَقَعُ عَمَلُهُ فَاسِدًا بِتَرْكِ مَا تَرَكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ بِخِلَافِ حَادِثَةٍ فِيهَا نَصٌّ، وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ وَعَمِلَ بِالرَّأْيِ بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّهُ كُلِّفَ الْعَمَلَ بِالرَّأْيِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُخَالِفَهُ نَصٌّ، وَالنَّصُّ الَّذِي يُخَالِفُهُ مِمَّا يَنَالُهُ حَالَةَ الْحَاجَةِ إلَى الْعَمَلِ بِهِ لَوْلَا تَقْصِيرٌ مِنْهُ فِي الطَّلَبِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ طَلَبَهُ مِنْ قَبْلُ أَمْكَنَهُ الْعَمَلُ بِهِ حَالَ حَاجَتِهِ هَذِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ زَوَالَ هَذَا الْجَهْلِ مَقْرُونٌ بِمَعْنًى يُوجَدُ مِنْهُ لَا يَتَبَدَّلُ حَالَ الدَّلِيلِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا الْخَطَأُ فِي بَابِ الْقِبْلَةِ فَيَتَبَدَّلُ بِهِ حَالَ الدَّلِيلِ بِزَوَالِ الْغَيْمِ وَظُهُورِ النَّجْمِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ سَمَاوِيٌّ تَبَدَّلَ بِهِ حَالُ الدَّلِيلِ فَكَانَ وَرَاءَهُ نُزُولُ نَصٍّ بَعْدَمَا عَمِلَ بِالِاجْتِهَادِ بِخِلَافِهِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى نَقُولُ فِيمَنْ اجْتَهَدَ وَتَوَضَّأَ بِمَاءٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ نَجِسٌ أَنَّهُ يُعِيدُ الصَّلَاةَ، وَكَذَلِكَ الثَّوْبُ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ الْعِلْمِ بِتِلْكَ النَّجَاسَةِ الْخَبَرُ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَلِقُصُورٍ مِنْهُ فِي طَلَبِهِ وَقَعَ الْجَهْلُ، وَالْخَبَرُ عَنْ الْقِبْلَةِ، وَإِنْ بَلَغَهُ فِي مَوْضِعِهِ لَا يَنْفَعُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَلَا يَبْقَى إلَّا النَّجْمُ كَذَا فِي التَّقْوِيمِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الدَّلِيلِ مُعَارَضٌ بِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جَعَلَ الِاقْتِدَاءَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ هُدًى بِقَوْلِهِ: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَحْكَامٍ نَفْيًا، وَإِثْبَاتًا فَلَوْ كَانَ الْحَقُّ وَاحِدًا لَمْ يَكُنْ الِاقْتِدَاءُ بِالْكُلِّ هُدًى. وَبِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي الْمَسَائِلِ، وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ قَوْلًا وَصَوَّبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا

فَأَمَّا مَنْ جَعَلَهُ مُخْطِئًا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً فَقَدْ احْتَجَّ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ إطْلَاقِ الْخَطَأِ فِي الْحَدِيثِ «وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُسَارَى بَدْرٍ حِينَ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ} [الأنفال: 68] الْآيَةَ لَوْ نَزَلَ بِنَا عَذَابٌ مَا نَجَا إلَّا عُمَرَ» ـــــــــــــــــــــــــــــQبِدَلِيلِ أَنَّهُ بَقِيَ بَيْنَهُمْ تَعْظِيمُ بَعْضِهِمْ لِلْبَعْضِ وَتَرْكُ إنْكَارِ بَعْضِهِمْ قَوْلَ الْبَعْضِ، وَلَوْ اعْتَقَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّ صَاحِبَهُ مُخْطِئٌ لَأَنْكَرَهُ؛ لِأَنَّ إنْكَارَ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ. وَبِأَنَّ الْحَقَّ لَوْ كَانَ وَاحِدًا لَنُصِبَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ لِإِزَاحَةِ الْإِشْكَالِ، وَلَوَجَبَ نَقْضُ كُلِّ حُكْمٍ خَالَفَهُ كَمَا قَالَهُ الْمَرِيسِيِّ وَالْأَصَمُّ وَابْنُ عُلَيَّةَ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحَقَّ لَوْ كَانَ وَاحِدًا لَمْ يَكُنْ الِاقْتِدَاءُ بِالْكُلِّ هُدًى بَلْ هُوَ هُدًى؛ لِأَنَّهُ كَمَا صَحَّ أَنْ يُقَالَ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ فِي اتِّبَاعِ ظَنِّهِ مُهْتَدٍ صَحَّ لِلْعَامِّيِّ إذَا قَلَّدَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ إجْمَاعًا مُقَلِّدًا كَانَ أَوْ مُجْتَهِدًا إذْ الْمُرَادُ مِنْ الِاهْتِدَاءِ هُوَ الْإِتْيَانُ بِمَا يَجِبُ؛ وَلِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِآحَادِهِمْ إذَا كَانَ اهْتِدَاءً كَانَ الِاقْتِدَاءُ بِجَمِيعِهِمْ أَوْلَى بِالِاهْتِدَاءِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُمْ أَطْبَقُوا عَلَى تَخْطِئَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ الْحَقَّ وَاحِدًا فَكَانَ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي هَذَا اهْتِدَاءً. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ صَوَّبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَإِنَّمَا بَقِيَ التَّعْظِيمُ وَتَرْكُ الْإِنْكَارِ؛ لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ ظَنَّهُ وَالْمُخْطِئُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ حَتَّى لَوْ كَانَ مُعَيَّنًا يَجِبُ الْإِنْكَارُ حِينَئِذٍ. وَقَوْلُهُمْ لَوْ كَانَ الْحَقُّ وَاحِدًا لَنُصِبَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ فَاسِدٌ إذْ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَصْلَحَةُ طَلَبَ الظَّنِّ بِالْحُكْمِ بِالْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ لِنَيْلِ ثَوَابِ الِاجْتِهَادِ لَا طَلَبِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِنَصْبِ الْأَدِلَّةِ الظَّاهِرَةِ مَعَ إمْكَانِ نَصْبِ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ. وَإِنَّمَا امْتَنَعَ نَقْضُ مَا خَالَفَ الصَّوَابَ لِعَدَمِ مَعْرِفَةِ الْخَطَأِ مِنْ الصَّوَابِ. 1 - قَوْلُهُ: (فَأَمَّا مَنْ جَعَلَهُ) أَيْ الْمُجْتَهِدَ إذَا أَخْطَأَ مُخْطِئًا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً أَيْ مُخْطِئًا مِنْ الْأَصْلِ فِي نَفْسِ الِاجْتِهَادِ، وَفِيمَا هُوَ الْحَقُّ حَقِيقَةً فَقَدْ احْتَجَّ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ إطْلَاقِ الْخَطَأِ فِي الْحَدِيثِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ «وَإِنْ أَخْطَأْت فَلَكَ حَسَنَةٌ» ذَكَرَ الْخَطَأَ مُطْلَقًا وَالْخَطَأُ الْمُطْلَقُ مَا هُوَ الْخَطَأُ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً. قَالُوا وَالِاجْتِهَادُ الْمُؤَدِّي إلَى الْخَطَأِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ كَالرَّجُلِ الْمَأْمُورِ بِدُخُولِ بَلَدٍ إذَا سَلَكَ طَرِيقًا لَا يُوَصِّلُهُ إلَيْهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ إنَّهُ مُصِيبٌ فِي قَطْعِ الْمَسَافَةِ الَّتِي قَطَعَهَا، وَلَا إنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِقَطْعِهَا. قَالُوا: وَإِنَّمَا أَلْزَمْنَا الْمُجْتَهِدَ الْعَمَلَ بِقِيَاسِهِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ صَوَابٌ كَمَا يَلْزَمُنَا الْعَمَلُ بِالنَّصِّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، وَمَتَى ظَهَرَ انْتِسَاخُهُ بَطَلَ الْعَمَلُ بِهِ فَكَذَلِكَ مَتَى عَمِلَ بِالْقِيَاسِ ثُمَّ رُوِيَ لَهُ نَصٌّ بِخِلَافِهِ حَتَّى تَبَيَّنَ خَطَؤُهُ يَقِينًا بَطَلَ مَا أَمْضَى بِقِيَاسِهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ حَضَرَتْهُ الصَّلَاةُ، وَمَعَهُ ثَوْبٌ أَوْ مَاءٌ شَكَّ فِي طَهَارَتِهِمَا فَإِنَّهُ يَسْتَعْمِلُهُمَا عَلَى تَقْدِيرِ الطَّهَارَةِ بِحُكْمِ الِاسْتِصْحَابِ فَإِذَا تَبَيَّنَ نَجَاسَتُهُمَا فَسَدَ عَمَلُهُ مِنْ الْأَصْلِ، وَمَا رُوِيَ مِنْ إطْلَاقِ الْإِصَابَةِ عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ جَمِيعًا فَعَلَى مَا إذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ وَجْهُ الْخَطَأِ وَاشْتَبَهَ فَإِنَّ الْوَاجِبَ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ الْعَمَلُ بِأَيِّ قِيَاسٍ كَانَ فَيَكُونُ الْعَمَلُ مِنْ كُلِّ مُجْتَهِدٍ بِقِيَاسِهِ صَوَابًا ظَاهِرًا مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ خَطَؤُهُ. قَالُوا: وَهَكَذَا تَقُولُ فِي قَوْمٍ اخْتَلَفُوا فِي جِهَةِ الْكَعْبَةِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ وَصَلَّوْا إنَّ صَلَاةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَائِزٌ حَتَّى يَتَبَيَّنَ عَلَيْهِ خَطَؤُهُ فَحِينَئِذٍ نَأْمُرُهُ بِالْإِعَادَةِ. قَوْلُهُ: «وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي أُسَارَى بَدْرٍ اسْتَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي أُسَارَى بَدْرٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوْمُك، وَأَهْلُك اسْتَانَّ بِهِمْ لَعَلَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَخُذْ مِنْهُمْ فِدْيَةً تَتَقَوَّى بِهَا عَلَى الْكُفَّارِ، وَقَالَ عُمَرُ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَذَّبُوك، وَأَخْرَجُوك قَدِّمْهُمْ وَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْنَاك عَنْ الْفِدَاءِ فَمَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى رَأْيِ

وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَبِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] وَالْحُكْمُ وَالْعِلْمُ إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الْعَمَلُ فَأَمَّا إصَابَةُ الْمَطْلُوبِ فَمِنْ أَحَدِهِمَا، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِمَسْرُوقٍ وَالْأَسْوَدُ كِلَاكُمَا أَصَابَ وَصَنِيعُ مَسْرُوقٍ أَحَبُّ إِلَيَّ فِيمَا سُبِقَا مِنْ رَكْعَتَيْ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَبِي بَكْرٍ فَنَزَلَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] إلَى آخِرِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ فَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَوْ نَزَلَ بِنَا عَذَابٌ مَا نَجَا إلَّا عُمَرَ» . فَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ اجْتِهَادَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ صَوَابًا، وَأَنَّ الِاجْتِهَادَ الْآخَرَ كَانَ خَطَأً مِنْ الْأَصْلِ لِاسْتِيجَابِهِ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ لَوْلَا الْمَانِعُ، وَهُوَ الْكِتَابُ السَّابِقُ، وَلَوْ كَانَ صَوَابًا فِي حَقِّ الْعَمَلِ لَمَا اسْتَوْجَبَ بِهِ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ لِوُجُودِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْ الْكِتَابِ السَّابِقِ مَا كَتَبَ اللَّهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ أَهْلَ بَدْرٍ. وَقِيلَ أَنْ يُحِلَّ لَهُمْ الْغَنَائِمَ وَالْفِدَاءَ، وَقِيلَ أَنْ لَا يُعَذِّبَ قَوْمًا إلَّا بَعْدَ تَأْكِيدِ الْحُجَّةِ وَتَقْدِيمِ النَّهْيِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ. ثُمَّ بِظَاهِرِ هَذَا النَّصِّ تَمَسَّكَ الْمَرِيسِيِّ، وَمَنْ تَابَعَهُ، وَقَالَ الْمُجْتَهِدُ يَأْثَمُ بِالْخَطَأِ وَيُعَاتَبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ دَلِيلُ الْإِثْمِ؛ وَلِأَنَّ الْخَطَأَ إنَّمَا يَقَعُ لِتَقْصِيرٍ فِي الطَّلَبِ، وَالتَّقْصِيرُ فِي طَلَبِ الْوَاجِبِ دَلِيلُ الْإِثْمِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْخَطَأَ فِي أُصُولِ الدِّينِ مُوجِبٌ لِلْإِثْمِ لِقُصُورٍ فِي الطَّلَبِ وَالتَّأَمُّلِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالْمُجْتَهِدِينَ عَلَى سَبِيلِ الشُّهْرَةِ تَشْنِيعُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَلَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ.، وَقَوْلِهِ مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ.، وَقَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَبْلِغْ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبْطَلَ حَجَّهُ وَجِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ إنْ لَمْ يَتُبْ. وَقَوْلِ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا شَيْءٌ احْتَاطَهُ بَعْضُ الْقُضَاةِ، وَهُوَ جَوْرٌ، وَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَنْ اسْتَحْسَنَ فَقَدْ شَرَّعَ فَدَلَّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْخَطَأَ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْعِتَابِ وَالْإِثْمِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلتَّشْنِيعِ وَجْهٌ. قَوْلُهُ: (وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا قَالَ لَهُ، وَإِنْ أَخْطَأْت فَلَكَ حَسَنَةٌ، وَقَالَ فِي آخَرَ «، وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ» وَالْخَطَأُ الْمُطْلَقُ لَا يَكُونُ حَسَنَةً، وَلَا سَبَبًا لِلْأَجْرِ بِوَجْهٍ عَرَفْنَا أَنَّهُ مُصِيبٌ فِي نَفْسِ الِاجْتِهَادِ، وَمُسْتَحِقٌّ لِلْأَجْرِ بِهِ، وَإِنْ أَخْطَأَ الْحَقَّ الْحَقِيقِيَّ. وَبِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ {وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] أَخْبَرَ أَنَّهُمَا جَمِيعًا أُوتِيَا مِنْ اللَّهِ عِلْمًا وَحُكْمًا بَعْدَمَا بَيَّنَ أَنَّ سُلَيْمَانَ اخْتَصَّ بِفَهْمِ مَا هُوَ الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَطَأَ الْمَحْضَ لَا يَكُونُ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَثْبُتُ أَنَّ تَأْوِيلَهُ أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ إنَّهُ صَوَابٌ فِي حَقِّ الْعَمَلِ. وَهَذَا التَّمَسُّكُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا سَلَّمَ الْخَصْمُ أَنَّ الْمُرَادَ إتْيَانُ الْعِلْمِ وَالْحُكْمِ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ، وَلَكِنَّهُ لَا يُسَلِّمُ بَلْ يَقُولُ الْمُرَادُ إتْيَانُ الْعِلْمِ وَالْحُكْمِ فِي غَيْرِهِمَا كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ كَذَا رُوِيَ أَنَّ مَسْرُوقًا وَعَلْقَمَةَ أَوْ الْأَسْوَدَ سُبِقَا بِرَكْعَتَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَلَمَّا قَامَا إلَى الْقَضَاءِ صَلَّى مَسْرُوقٌ رَكْعَةً وَجَلَسَ ثُمَّ رَكْعَةً وَجَلَسَ وَسَلَّمَ وَصَلَّى الْآخَرُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ فَذَكَرَا ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ كِلَاكُمَا أَصَابَ، وَلَكِنَّ صَنِيعَ مَسْرُوقٍ أَحَبُّ إلَيَّ فَنَظَرَ أَحَدُهُمَا إلَى الْفَائِتِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا قَعْدَةٌ وَالْآخَرُ إلَى الْبَاقِي فَقَوْلُهُ كِلَاكُمَا أَصَابَ دَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُصِيبٌ، وَقَوْلُهُ صَنِيعُ مَسْرُوقٍ أَحَبُّ إلَيَّ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَقُلْنَا أَرَادَ بِأَوَّلِ الْكَلَامِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُصِيبٌ فِيمَا عَمِلَ بِاجْتِهَادِهِ، وَمِنْ آخِرِهِ أَنَّ الْحَقَّ الْحَقِيقِيَّ مَعَ مَسْرُوقٍ عِنْدَهُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كِلَا الِاجْتِهَادَيْنِ حَقٌّ، وَلَكِنَّ الْعَمَلَ بِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَسْرُوقٌ أَفْضَلُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْقَائِلِينَ بِالْأَشْبَهِ. قُلْنَا: هَبْ أَنَّهُ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ

وَلِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ يُكَلَّفُ بِمَا فِي وُسْعِهِ فَاسْتَوْجَبَ الْأَجْرَ عَلَى ابْتِدَاءِ فِعْلِهِ وَحَرُمَ الصَّوَابُ وَالثَّوَابُ فِي آخِرِهِ إمَّا بِتَقْصِيرٍ مِنْهُ أَوْ حِرْمَانًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً. وَأَمَّا قِصَّةُ بَدْرٍ فَقَدْ عَمِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِشَارَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَيْفَ يَكُونُ خَطَأً إلَّا أَنَّ هَذَا كَانَ رُخْصَةً. وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ عَلَى حُكْمِ الْعَزِيمَةِ لَوْلَا الرُّخْصَةُ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُصِيبٌ فِي حَقِّ الْعَمَلِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، وَأَنَّ مَذْهَبَ عَبْدِ اللَّهِ حَيْثُ قَالَ، وَإِنْ أَخْطَأْتُ فَمِنِّي، وَمِنْ الشَّيْطَانِ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّ كِلَيْهِمَا أَصَابَ الْحَقَّ حَقِيقَةً، وَأَنَّ أَحَدَهُمَا أَحَقُّ بَلْ أَرَادَ مَا ذَكَرْنَا أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ مُخْطِئٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً سَاعَدَنَا فِي أَنَّهُ مُخْطِئٌ لِلْحُكْمِ فَلَا يُمْكِنُهُ حَمْلُ قَوْلِهِ كِلَاكُمَا قَدْ أَصَابَ عَلَى أَنَّهُمَا أَصَابَا الْحُكْمَ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمَا أَصَابَا فِي الِاجْتِهَادِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُكَلَّفٌ بِمَا فِي وُسْعِهِ، وَفِي وُسْعِ كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ طَلَبُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْحَقِّ دُونَ إصَابَتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ أُمِرَ بِالْقِيَاسِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ، وَأَنَّهُ لَا يُوَصِّلُهُ إلَى الْحَقِّ الَّذِي هُوَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى قَطْعًا بِلَا خِلَافٍ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِالْعَمَلِ بِهِ عَلَى شَرْطِ إصَابَةِ الْحَقِّ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يُوَصِّلُهُ إلَيْهِ، وَلَكِنْ عَلَى تَحَرِّي الْإِصَابَةِ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ مُطْمِعٌ فِي الْإِصَابَةِ فَاسْتَوْجَبَ الْأَجْرَ عَلَى ابْتِدَاءِ فِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا كُلِّفَ بِهِ وَحُرِمَ الصَّوَابَ، وَالثَّوَابُ فِي آخِرِهِ أَيْ ثَوَابُ إصَابَةِ الْحَقِّ إمَّا بِسَبَبِ تَقْصِيرٍ مِنْهُ أَوْ بِابْتِدَاءِ حِرْمَانٍ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَهَذَا كَمَنْ قَاتَلَ الْكُفَّارَ عَلَى تَحَرِّي النُّصْرَةِ كَانَ مُصِيبًا فِي قِتَالِهِ مُمْتَثِلًا أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي إعْلَاءِ كَلِمَتِهِ قَتَلَ أَمْ قُتِلَ مُسْتَحِقًّا لِلْأَجْرِ الْعَظِيمِ؛ لِأَنَّهُ مُصِيبٌ لَمَّا قَاتَلَ عَلَى تَحَرِّي إصَابَةِ النُّصْرَةِ أَصَابَ أَوْ لَمْ يُصِبْ، وَكَالرُّمَاةِ إذَا نَصَبُوا غَرَضًا فَرَمَوْا عَلَى تَحَرِّي الْإِصَابَةِ كَانُوا مُصِيبِينَ فِي تَحَرِّيهِمْ الْإِصَابَةَ، وَإِذَا أَخْطَأَ بَعْضُهُمْ الْغَرَضَ، وَأَصَابَ الْبَعْضُ لَمْ يَصِرْ وَاحِدٌ مُخْطِئًا فِي تَحَرِّيهِ الْإِصَابَةَ بِطَرِيقِهِ (فَإِنْ قِيلَ) خَطَؤُهُ فِي تَقْصِيرِهِ فِي طَلَبِ طَرِيقِ الْإِصَابَةِ لَا فِي قَصْدِ الْإِصَابَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَاهُ مِنْ الرَّأْيِ مَا لَوْ بَذَلَ مَجْهُودَهُ كُلَّ الْبَذْلِ لَأَصَابَ الْحَقَّ عَلَى الْحَقِيقَةِ. (قُلْنَا) إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا لَمْ يُكَلِّفْ بِمَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ لَمْ يُكَلِّفْ بِمَا فِيهِ الْحَرَجُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، وَفِي بِنَاءِ الْخِطَابِ عَلَى هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ فِي اسْتِعْمَالِ الرَّأْيِ حَرَجٌ عَظِيمٌ فَيَصِيرُ عَفْوًا وَيَجِبُ بِنَاءُ الْخِطَابِ عَلَى الْمُعْتَادِ مِنْ الِاسْتِعْمَالِ وَذَلِكَ لَا يُوَصِّلُنَا إلَى حَقِيقَةِ الْعِلْمِ بِلَا خِلَافٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ الِاجْتِهَادِ فِي أُصُولِ الدِّينِ فَإِنَّ الْمُخْطِئَ لِمَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مُخْطِئٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى دَلَائِلَ عَلَيْهَا يُوجِبُ الْعِلْمُ يَقِينًا فِي أَصْلِ الْوَضْعِ فَلَمْ يَجِبْ الْخَطَأُ إلَّا بِقِلَّةِ التَّأَمُّلِ. فَأَمَّا قِصَّةُ بَدْرٍ فَقَدْ عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِشَارَةِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَيْ بِاجْتِهَادِهِ وَرَأْيِهِ يَعْنِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ اجْتِهَادُهُ عَلَى الْخَطَأِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمِلَ بِرَأْيِهِ، وَأُقِرَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا} [الأنفال: 69] ، وَلَمَّا أُقِرَّ عَلَيْهِ لَمْ يَحْتَمِلْ الْخَطَأَ بِوَجْهٍ. إلَّا أَنَّ هَذَا أَيْ أَخْذَ الْفِدَاءِ كَانَ رُخْصَةً. وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ عَلَى حُكْمِ الْعَزِيمَةِ لَوْلَا الرُّخْصَةُ أَيْ الْعِتَابُ بِنَاءً عَلَى تَقْدِيرِ بَقَاءِ الْعَزِيمَةِ. قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ وَتَأْوِيلُ الْعِتَابِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] وَكَانَ ذَلِكَ كَرَامَةً خُصِّصَتْ بِهَا رُخْصَةُ {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] بِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ لَمَسَّكُمْ الْعَذَابُ بِحُكْمِ الْعَزِيمَةِ عَلَى مَا قَالَهُ عُمَرُ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] قَبْلَ الْإِثْخَانِ، وَقَدْ أَثْخَنْت يَوْمَ بَدْرٍ فَكَانَ لَك الْأَسْرَى كَمَا كَانَ لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -، وَلَكِنْ كَانَ الْحُكْمُ فِي الْأَسْرَى الْمَنَّ أَوْ الْقَتْلَ دُونَ الْمُفَادَاةِ فَلَوْلَا الْكِتَابُ السَّابِقُ فِي إبَاحَةِ الْفِدَاءِ لَك لَمَسَّكُمْ الْعَذَابُ كَذَا فِي التَّقْوِيمِ

فَالْمُخْطِئُ فِي هَذَا الْبَابِ لَا يُضَلَّلُ وَلَا يُعَاتَبُ إلَّا أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ الصَّوَابِ بَيِّنًا فَيُعَاتَبُ، وَإِنَّمَا نَسَبْنَا الْقَوْلَ بِتَعَدُّدِ الْحُقُوقِ إلَى الْمُعْتَزِلَةِ لِقَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ الْأَصْلَحِ، وَفِي تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ وُجُوبُ الْقَوْلِ بِالْأَصْلَحِ وَبِأَنْ يَلْحَقَ الْوَلِيُّ بِالنَّبِيِّ، وَهَذَا عَيْنُ مَذْهَبِهِمْ وَالْمُخْتَارُ مِنْ الْعِبَارَاتِ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ إنَّ الْمُجْتَهِدَ يُصِيبُ وَيُخْطِئُ عَلَى تَحْقِيقِ الْمُرَادِ بِهِ احْتِرَازًا عَنْ الِاعْتِزَالِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَعَلَى هَذَا أَدْرَكْنَا مَشَايِخَنَا وَعَلَيْهِ مَضَى أَصْحَابُنَا الْمُتَقَدِّمُونَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا لَسَقَطَتْ الْمِحْنَةُ وَبَطَلَ الِاجْتِهَادُ ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ: (فَالْمُخْطِئُ فِي هَذَا الْبَابِ) أَيْ فِي الْفُرُوعِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا لَا يُضَلَّلُ، وَاحْتَرَزَ بِهِ عَنْ الْمُخْطِئِ فِي الْأُصُولِ فَإِنَّهُ مُضَلَّلٌ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي الْمُخْطِئِ فِي الْفُرُوعِ فَقِيلَ هُوَ مَأْجُورٌ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ. وَقِيلَ هُوَ مَعْذُورٌ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ ضِدُّ الصَّوَابِ، وَهُوَ مَحْظُورٌ فِي الْأَصْلِ إلَّا أَنَّ حُكْمَ الْحَظْرِ يَزُولُ بِعُذْرِ الْخَطَأِ فَأَمَّا أَنْ يَنَالَ أَجْرَ الصَّوَابِ، وَلَا صَوَابَ فَلَا كَالنَّائِمِ لَا يَأْثَمُ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ، وَلَكِنْ لَا يَنَالُ ثَوَابَ الْمُصَلِّي. وَقِيلَ هُوَ مُعَاقَبٌ مُخَطَّأٌ لِمَا ذَكَرْنَا، وَقُلْنَا إذَا كَانَ طَرِيقُ الْإِصَابَةِ بَيِّنًا فَهُوَ مُعَاتَبٌ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ مَا أَخْطَأَ إلَّا بِتَقْصِيرِ مَنْ قَبْلَهُ فَأَمَّا إذَا كَانَ خَفِيًّا فَلَيْسَ بِمُعَاتَبٍ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ إنَّمَا وَقَعَ لِخَفَاءِ دَلِيلِ الْإِصَابَةِ وَذَلِكَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْخَفِيُّ مِمَّا لَا يُدْرِكُهُ كُلُّ فَهْمٍ وَكُلُّ قَلْبٍ فَإِنَّ إدْرَاكَ الْبَصَائِرِ عَلَى التَّفَاوُتِ كَإِدْرَاكِ الْأَبْصَارِ بِحُكْمِ الْخِلْقَةِ فَلَا يَجُوزُ الْعِتَابُ عَلَى فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَصِيرُ مَعْذُورًا فِيمَا لَمْ يُدْرِكْ مُصِيبًا فِيمَا اسْتَعْمَلَ مِنْ الِاجْتِهَادِ مَأْجُورًا. وَمَا رُوِيَ مِنْ التَّخْطِئَةِ وَالتَّشْنِيعِ فَعَلَى النَّوْعِ الَّذِي طَرِيقُهُ عِنْدَ الَّذِي خَطَّأَ وَشَنَّعَ، وَفِي تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ وُجُوبُ الْقَوْلِ بِالْأَصْلَحِ فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الْأَصْلَحَ لِلْعَبْدِ إصَابَةُ الْحَقِّ وَاسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ عَلَيْهِ فَإِذَا حُرِمَ مِنْ الْإِصَابَةِ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ أَصْلَحَ لَهُ، وَهُوَ وَاجِبٌ لَهُ عِنْدَهُمْ فَلِذَلِكَ وَجَبَ الْقَوْلُ بِإِصَابَةِ الْكُلِّ. وَبِأَنْ يَلْحَقَ الْوَلِيُّ بِالنَّبِيِّ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ نَبِيٍّ مِنْ الْإِكْرَامِ وَالْإِفْضَالِ مَا لَا يَفْعَلُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ إلَّا أَنَّ الْعَبْدَ يُبْطِلُ ذَلِكَ بِفِعْلِهِ وَاجْتِسَارِهِ فَالْوَلِيُّ مُلْحَقٌ بِالنَّبِيِّ عِنْدَهُمْ فِي حَقِّ الْإِفْضَالِ وَالْإِنْعَامِ عَلَيْهِ، وَفِي تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ إلْحَاقُ الْوَلِيِّ بِالنَّبِيِّ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مُصِيبًا لِلْحَقِّ فِي اجْتِهَادِهِ لَا مَحَالَةَ كَانَ قَوْلُهُ فِي الْحَقِّيَّةِ مِثْلَ قَوْلِ النَّبِيِّ فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّصْوِيبِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّصْوِيبِ لَا يُؤَدِّي إلَى الْقَوْلِ بِالْأَصْلَحِ لَا مَحَالَةَ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ ذَهَبُوا إلَيْهِ مَعَ إنْكَارِهِمْ الْقَوْلَ بِالْأَصْلَحِ، وَلَكِنَّ مَبْنَى التَّصْوِيبِ عَلَى أَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا وُجُوبُ الْأَصْلَحِ كَمَا ذَكَرَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَالثَّانِي امْتِنَاعُ تَكْلِيفِ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ أَوْ مَا فِيهِ حَرَجٌ فَمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الِاعْتِزَالِ بِالتَّصْوِيبِ بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ الْأَصْلَحِ، وَمَنْ قَالَ بِهِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ بِنَاءً عَلَى امْتِنَاعِ تَكْلِيفِ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ أَوْ مَا فِيهِ حَرَجٌ. قَوْلُهُ: (عَلَى تَحْقِيقِ الْمُرَادِ بِهِ) أَيْ بِهَذَا الْقَوْلِ بِأَنْ يُرَادَ إصَابَةُ الْحَقِّ الْحَقِيقِيِّ، وَإِخْطَاءِ الْحَقِّ الْحَقِيقِيِّ لِيَحْصُلَ الِاحْتِرَازُ عَنْ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْأَحَقِّ مِنْهُمْ قَدْ يَقُولُونَ إنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ وَيُرِيدُونَ بِذَلِكَ إصَابَةَ الْأَحَقِّ وَإِخْطَاءَهُ، وَلَكِنَّ الْمُخْطِئَ لِلْأَحَقِّ مُصِيبٌ لِلْحَقِّ حَقِيقَةً عِنْدَهُمْ فَإِذَا لَمْ نُرِدْ بِقَوْلِنَا يُخْطِئُ وَيُصِيبُ حَقِيقَةً كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا يَكُونُ هَذَا احْتِرَازًا عَنْ الِاعْتِزَالِ ظَاهِرًا حَيْثُ حَصَلَ بِهِ الِاحْتِرَازُ عَنْ مَذْهَبِ مَنْ قَالَ بِاسْتِوَاءِ الْحُقُوقِ مِنْهُمْ لَا بَاطِنًا حَيْثُ لَمْ يَحْصُلْ الِاحْتِرَازُ عَنْ مَذْهَبِ الْقَائِلِينَ بِالْأَحَقِّ فَأَمَّا إذَا أَرَدْنَا بِهِمَا إصَابَةَ الْحَقِّ الْحَقِيقِيِّ، وَإِخْطَاءَهُ فَقَدْ حَصَلَ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْمَذْهَبَيْنِ فَكَانَ ذَلِكَ احْتِرَازًا عَنْ مَذْهَبِهِمْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. قَالَ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ: وَلَقَدْ تَدَبَّرْتُ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ مَنْ يَقُولُ بِالتَّصْوِيبِ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْفِقْهِ، وَمَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ كَثِيرُ حَظٍّ، وَلَمْ يَقِفُوا عَلَى شَرَفِ هَذَا الْعِلْمِ، وَمَنْصِبِهِ فِي الدِّينِ، وَمَرْتَبَتِهِ فِي مَسَالِكِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا نِهَايَةُ رَأْسِ مَالِهِمْ الْمُجَادَلَاتُ الْمُوحِشَةُ، وَإِلْزَامُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فِي مَنْصُوبَاتٍ، وَمَوْضُوعَاتٍ اتَّفَقُوا

[باب فساد تخصيص العلل]

وَيَتَّصِلُ بِهَذَا الْأَصْلِ مَسْأَلَةُ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ وَهَذَا. (بَابُ فَسَادِ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَجَازَ تَخْصِيصَ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ كَانَتْ عِلَّتِي تُوجِبُ ذَلِكَ لَكِنَّهُ لَمْ تُوجِبْ لِمَانِعٍ فَصَارَ مَخْصُوصًا مِنْ الْعِلَّةِ بِهَذَا الدَّلِيلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَيْهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ فَنَظَرُوا إلَى الْفِقْهِ، وَمَعَانِيهِ بِأَفْهَامٍ كَلِيلَةٍ وَعُقُولٍ حَسِيرَةٍ فَعَدُّوا ذَلِكَ ظَاهِرًا مِنْ الْأَمْرِ، وَلَمْ يُعْتَقَدْ لَهَا كَثِيرُ مَعَانٍ يَلْزَمُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا، وَقَالُوا لَمْ يُكَلَّفْ الْمُجْتَهِدُ إلَّا فِي مَحْضِ ظَنٍّ يَعْثِرُ عَلَيْهِ بِنَوْعِ أَمَارَةٍ، وَلَا يَسْتَقِيمُ تَكْلِيفُهُ سِوَى ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ حَقٌّ وَاحِدٌ مَطْلُوبٌ بَلْ مَطْلُوبُ الْمُجْتَهِدِ هُوَ الظَّنُّ لِيَعْمَلَ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَطْلُوبُ الْمُجْتَهِدِ مُجَرَّدَ ظَنٍّ، وَالظَّنُّ قَدْ يَسْتَوِي فِيهِ الْعَالِمُ وَالْعَامِّيُّ، وَقَدْ يَكُونُ بِدَلِيلٍ. وَقَدْ يَكُونُ بِلَا دَلِيلٍ بَلْ الْمَطْلُوبُ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَادِثَةِ بِالْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ، وَلَا يَقِفُ عَلَيْهَا إلَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ الَّذِينَ عَرَفُوا مَعَانِيَ الشَّرْعِ وَطَلَبُوهَا بِالْجَهْدِ الشَّدِيدِ وَالْكَدِّ الْعَظِيمِ حَتَّى أَصَابُوهَا فَأَمَّا مَنْ يَنْظُرُ إلَيْهِ مِنْ بُعْدٍ وَيَظُنُّهُ سَهْلًا مِنْ الْأَمْرِ، وَلَا يَعْرِفُ إلَّا مُجَرَّدَ ظَنٍّ يَظُنُّهُ الْإِنْسَانُ فَيَعْثِرُ هَذِهِ الْعَثْرَةَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي لَا انْتِعَاشَ عَنْهَا وَيَعْتَقِدُ تَصْوِيبَ كُلِّ الْمُجْتَهِدِينَ بِمُجَرَّدِ ظُنُونِهِمْ فَيُؤَدِّي قَوْلُهُ إلَى اعْتِقَادِ الْأَقْوَالِ الْمُتَنَاقِضَةِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَإِلَى خَرْقِ الْإِجْمَاعِ وَالْخُرُوجِ عَلَى الْأُمَّةِ وَحَمْلِ أَمْرِهِمْ عَلَى الْجَهْلِ، وَقِلَّةِ الْعِلْمِ وَتَرْكِ الْمُبَالَاةِ فِيمَا نَصَبُوا مِنْ الْأَدِلَّةِ، وَأَسْهَرُوا لَيَالِيَهُمْ، وَأَتْعَبُوا فِكْرَهُمْ فِي اسْتِخْرَاجِهَا، وَإِظْهَارِ تَأْثِيرَاتِ مَا ادَّعَوْهَا مِنْ الْعِلَلِ ثُمَّ نِهَايَةُ أَمْرِهِمْ عِنْدَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ وَصَلُوا إلَى مِثْلِ مَا وَصَلَ مُخَالِفُوهُمْ، وَأَنَّ مَا وَصَلُوا إلَيْهِ عِنْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَضِدُّهُ حَقٌّ، وَقَوْلُهُمْ وَقَوْلُ مُخَالِفِيهِمْ سَوَاءٌ فَيَكُونُ سَعْيُهُمْ شِبْهَ ضَائِعٍ وَثَمَرَتُهُ كَلَا ثَمَرَةٍ، وَبُطْلَانُ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرٌ، وَلَعَلَّ حِكَايَتَهُ تُغْنِي كَثِيرًا مِنْ الْعُقَلَاءِ عَنْ إقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَتَّصِلُ بِهَذَا الْأَصْلِ أَيْ بِبَيَانِ أَحْكَامِ الْعِلَّةِ مَسْأَلَةُ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ. أَوْ يَتَّصِلُ بِمَسْأَلَةِ تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ وَتَخْطِئَتِهِمْ مَسْأَلَةُ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ كَمَا سَيَأْتِيك بَيَانُهُ، وَهَذَا أَيْ مَا نَشْرَعُ فِيهِ. [بَابُ فَسَادِ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ] (بَابُ فَسَادِ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ) تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ عِبَارَةٌ عَنْ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ عَنْ الْوَصْفِ الْمُدَّعَى عِلَّةً لِمَانِعٍ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ تَخْصِيصًا؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْنًى، وَلَا عُمُومَ لِلْمَعْنَى حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَلَكِنَّهُ بِاعْتِبَارِ حُلُولِهِ فِي مَحَالَّ مُتَعَدِّدَةٍ يُوصَفُ بِالْعُمُومِ فَإِخْرَاجُ بَعْضِ الْمَحَالِّ الَّتِي تُوجَدُ فِيهَا الْعِلَّةُ عَنْ تَأْثِيرِ الْعِلَّةِ فِيهِ، وَقَصْرُ عَمَلِ الْعِلَّةِ عَلَى الْبَاقِي يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ التَّخْصِيصِ كَمَا أَنَّ إخْرَاجَ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ عَنْ تَنَاوُلِ لَفْظِ الْعَامِّ إيَّاهُ، وَقَصْرِهِ عَلَى الْبَاقِي تَخْصِيصٌ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ مَتَى وَرَدَ عَلَيْهَا نَقْضٌ تَبْطُلُ؛ لِأَنَّ الْمُنْتَقِضَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً شَرْعِيَّةً. وَاخْتَلَفُوا فِي تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ فَقَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ وَالشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ إنَّ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ جَائِزٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَعَامَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَذَهَبَ مَشَايِخُ دِيَارِنَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ أَظْهَرُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ. هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ فَأَمَّا فِي الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ فَاتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ عَلَى الْجَوَازِ فِيهَا. وَمَنْ لَمْ يُجَوِّزْ التَّخْصِيصَ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ فَأَكْثَرُهُمْ جَوَّزَهُ فِي الْمَنْصُوصَةِ وَبَعْضُهُمْ مَنَعَهُ فِي الْمَنْصُوصَةِ أَيْضًا، وَهُوَ مُخْتَارُ عَبْدِ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ الإِسْفِرايِينِي، وَقِيلَ إنَّهُ مَنْقُولٌ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. احْتَجَّ الْمُجَوِّزُونَ بِأَنَّ الْعِلَّةَ

وَاحْتَجَّ بِأَنَّ التَّخْصِيصَ غَيْرُ الْمُنَاقَضَةِ لُغَةً، وَهَذَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ بَيَانُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ لَا نَقْضٌ وَلَا إبْطَالٌ، وَقَدْ صَحَّ الْخُصُوصُ عَلَى: الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دُونَ الْمُنَاقَضَةِ قَالَ وَلِأَنَّ الْعُدُولَ عَنْ الْقِيَاسِ بِسُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ ضَرُورَةٍ أَوْ اسْتِحْسَانٍ مَخْصُوصٍ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّ الْخَصْمَ ادَّعَى أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ عِلَّةٌ فَإِذَا وُجِدَ وَلَا حُكْمَ لَهُ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَمُ لِفَسَادِ الْعِلَّةِ فَيَتَنَاقَضُ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَمُ لِمَانِعٍ فَوَجَبَ أَنْ يُقْبَلَ بَيَانُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالشَّرْعِيَّةَ أَمَارَةٌ عَلَى الْحُكْمِ، وَلَيْسَتْ بِمُوجِبَةٍ بِنَفْسِهَا، وَإِنَّمَا صَارَتْ أَمَارَةً بِجَعْلِ جَاعِلٍ فَجَازَ أَنْ تُجْعَلَ أَمَارَةً لِلْحُكْمِ فِي مَحَلٍّ، وَلَمْ تُجْعَلْ أَمَارَةً فِي مَحَلٍّ كَمَا جَازَ أَنْ تُجْعَلَ أَمَارَةً فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ وَبِتَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا أَمَارَةً؛ لِأَنَّ الْأَمَارَةَ لَا تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْحُكْمِ فِي كُلِّ الْمَوَاضِعِ بَلْ الشَّرْطُ فِيهَا غَلَبَةُ وُجُودِ الْحُكْمِ عِنْدَهَا كَالْغَيْمِ الرَّطْبِ فِي الشِّتَاءِ أَمَارَةٌ لِلْمَطَرِ قَدْ يَتَخَلَّفُ فِي بَعْضِ الْأَحَايِينِ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِأَمَارَةٍ. وَبِأَنَّ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ جَائِزٌ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ السَّرِقَةَ وَالزِّنَا عِلَّتَيْنِ لِلْقَطْعِ وَالْحَدِّ، وَقَدْ يُوجَدُ سَارِقٌ لَا يُقْطَعُ وَزَانٍ لَا يُحَدُّ وَجَعَلَ الْمُشَاقَّةَ عِلَّةً لِقَتْلِ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13] بَعْدَ قَوْلِهِ {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12] ، وَقَدْ وُجِدَتْ الْعِلَّةُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ بِدُونِ الْقَتْلِ وَجَعَلَ وُقُوعَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ عِلَّةً لِحُرْمَةِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 91] وَالْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ مَعَ تَخَلُّفِ حُكْمِهَا عَنْهَا، وَلَمَّا جَازَ تَخْصِيصُ الْمَنْصُوصَةِ جَازَ تَخْصِيصُ الْمُسْتَنْبَطَةِ؛ لِأَنَّ مَا يَجُوزُ عَلَى الشَّيْءِ أَوْ مَا يَسْتَحِيلُ جَوَازُهُ عَلَيْهِ لَا يَخْتَلِفُ لِاخْتِلَافِ طُرُقِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْعِلَّتَيْنِ اخْتِلَافُ الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ فِي أَحَدَيْهِمَا النَّصُّ، وَفِي الْأُخْرَى الِاسْتِنْبَاطُ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الِاخْتِلَافَ فِيهِمَا بَعْدَمَا ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِلَّةٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ دَلَالَةَ الْعِلَّةِ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي مَحَالِّهَا كَدَلَالَةِ الْعَامِّ عَلَى أَفْرَادِهِ فَلَمَّا جَازَ تَخْصِيصُ الْعَامِّ جَازَ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ. وَبِأَنَّ خُصُوصَ الْعِلَّةِ لَيْسَ إلَّا امْتِنَاعَ ثُبُوتِ مُوجِبِ الدَّلِيلِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لِمَانِعٍ يَمْنَعُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَرُدُّهُ الْعَقْلُ، وَلَا يَكُونُ دَلِيلَ الْفَسَادِ كَمَا فِي الْعِلَّةِ الْمَحْسُوسَةِ فَإِنَّ النَّارَ عِلَّةٌ لِلْإِحْرَاقِ ثُمَّ إنَّهَا لَمْ تُؤَثِّرْ فِي إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلَا فِي الطَّلْقِ لِمَانِعٍ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّارَ لَيْسَتْ بِمُحْرِقَةٍ. وَبِمَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ التَّخْصِيصَ غَيْرُ الْمُنَاقَضَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا؛ لِأَنَّ مَنْ أَنْكَرَ التَّخْصِيصَ جَعَلَهُ مِنْ بَابِ الْمُنَاقَضَةِ إذْ يَلْزَمُ مِنْهُ الْقَوْلُ بِتَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ اعْتِقَادَ حَقِّيَّةَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَالْجَوَازِ وَالْفَسَادِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ تَنَاقُضٌ فَقَالَ التَّخْصِيصُ غَيْرُ الْمُنَاقَضَةِ. وَتَقْرِيرُهُ مَا ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِمَا أَنَّ التَّخْصِيصَ غَيْرُ الْمُنَاقَضَةِ لُغَةً وَشَرْعًا، وَإِجْمَاعًا، وَفِقْهًا. أَمَّا اللُّغَةُ فَلِأَنَّ النَّقْضَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَرِدُ فِعْلًا سَبَقَ عَلَى سَبِيلِ الْمُضَادَّةِ كَنَقْضِ الْبُنْيَانِ وَنَقْضِ كُلِّ مُؤَلَّفٍ وَالْخُصُوصُ بَيَانُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْجُمْلَةِ لَا أَنَّهُ رَفَعَ الثُّبُوتَ أَلَا تَرَى أَنَّ ضِدَّ الْخُصُوصِ الْعُمُومُ، وَضِدَّ النَّقْضِ الْبِنَاءُ وَالتَّأْلِيفُ. وَأَمَّا الشَّرْعُ فَلِأَنَّ التَّخْصِيصَ جَائِزٌ فِي النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالتَّنَاقُضُ لَا يَجُوزُ فِيهَا أَصْلًا فَيَتَغَايَرَانِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ لِقَوْلِهِ، وَقَدْ صَحَّ الْخُصُوصُ إلَى آخِرِهِ. ، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلِأَنَّ الْقَائِسِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَحْكَامَ قَدْ تَثْبُتُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِدَلِيلٍ أَقْوَى مِنْهُ مِنْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ ضَرُورَةٍ وَذَلِكَ يَكُونُ تَخْصِيصًا لَا مُنَاقَضَةً وَلِهَذَا سَمَّاهَا الشَّافِعِيُّ مَخْصُوصَةً عَنْ الْقِيَاسِ، وَنَحْنُ نُسَمِّيهَا مَعْدُولًا بِهَا عَنْ الْقِيَاسِ أَلَا تَرَى أَنَّ ذَلِكَ الْقِيَاسَ بَقِيَ مَعْمُولًا بِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَالْقِيَاسُ الْمُنْتَقَضُ فَاسِدٌ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ فِي مَوْضِعٍ

إنْ أَبْرَزَ مَانِعًا، وَإِلَّا فَقَدْ تَنَاقَضَ وَلِذَلِكَ لَا يُقْبَلُ مُجَرَّدُ قَوْلِهِ خُصَّ بِدَلِيلِ الِاحْتِمَالِ الْفَسَادَ بِخِلَافِ النُّصُوصِ؛ لِأَنَّهَا لَا يَحْتَمِلُ فَسَادًا وَبُنِيَ عَلَى هَذَا تَقْسِيمُ الْمَوَانِعِ، وَهِيَ خَمْسَةٌ حِسًّا وَحُكْمًا مَانِعٌ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعِلَّةِ، وَمَانِعٌ يَمْنَعُ تَمَامَ الْعِلَّةِ، وَمَانِعٌ يَمْنَعُ حُكْمَ الْعِلَّةِ، وَمَانِعٌ يَمْنَعُ تَمَامَ الْحُكْمِ، وَمَانِعٌ يَمْنَعُ لُزُومَ الْحُكْمِ وَذَلِكَ فِي الرَّامِي إذَا انْقَطَعَ وَتَرَاهُ أَوْ انْكَسَرَ فَوْقَ سَهْمِهِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ عِلَّةً، وَإِذَا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَقْصِدِهِ حَائِطٌ مَنَعَ تَمَامَ الْعِلَّةِ حَتَّى لَمْ يَصِلْ إلَى الْمَحَلِّ، وَمَانِعٌ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْحُكْمِ، وَهُوَ أَنْ يُصِيبَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَأَمَّا الْفِقْهُ فَلِأَنَّ الْخَصْمَ أَيْ الْمُعَلِّلَ ادَّعَى أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ عِلَّةٌ فَلَمَّا أُورِدَ عَلَيْهِ مَا وُجِدَ فِيهِ ذَلِكَ الْوَصْفُ بِدُونِ ذَلِكَ الْحُكْمِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الْحُكْمِ لِفَسَادٍ فِي أَصْلِ عِلَّتِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَنَاقُضًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الْحُكْمِ لِمَانِعٍ مَنَعَ ثُبُوتَ الْحُكْمِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ عِلَّةٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ بِلَا شُبْهَةٍ ثُمَّ إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ بِهِ فِي صُورَةِ خِيَارِ الشَّرْطِ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى فَسَادِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ لِمَانِعٍ، وَهُوَ الْخِيَارُ الْمَشْرُوطُ فِي الْعَقْدِ فَإِذَا ادَّعَى الْمُعَلِّلُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ صَارَ مَخْصُوصًا مِنْ عِلَّتَيْنِ لِمَانِعٍ فَقَدْ ادَّعَى أَمْرًا مُحْتَمَلًا فَيَكُونُ مُطَالَبًا بِالْحُجَّةِ. فَإِنْ أَبْرَزَ مَانِعًا صَالِحًا يُقْبَلُ بَيَانُهُ أَيْ بَيَانُ الْمُعَلِّلِ؛ لِأَنَّهُ بَيَانُ أَحَدِ الْمُحْتَمَلَيْنِ. وَإِلَّا فَقَدْ تَنَاقَضَ أَيْ ظَهَرَ أَنَّهُ مُتَنَاقِضٌ فِي جَعْلِ هَذَا الْوَصْفِ عِلَّةً حَيْثُ لَمْ يَجْعَلْهُ عِلَّةً فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. أَوْ ظَهَرَ أَنَّ وَصْفَهُ مُتَنَاقِضٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَظْهَرْ لِامْتِنَاعِ الْحُكْمِ عَنْهُ مَانِعٌ كَانَ مُوجِبًا وَغَيْرَ مُوجِبٍ، وَهُوَ تَنَاقُضٌ. ، وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْعَدَمُ لِفَسَادِ الْعِلَّةِ وَلِلْمَانِعِ لَا يُقْبَلُ مِنْ الْمُعَلِّلِ مُجَرَّدُ قَوْلِهِ خُصَّ بِدَلِيلٍ لِاحْتِمَالِ الْفَسَادِ أَيْ لِاحْتِمَالِ تَعَيُّنِ جِهَةِ فَسَادِ الْعِلَّةِ بِأَنْ يَعْجِزَ عَنْ إبْرَازِ الْمَانِعِ أَصْلًا وَيُبَيِّنَ مَا لَا يَصْلُحُ مَانِعًا إذْ لَا بُدَّ لِلْمَانِعِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى مِنْهُ أَوْ مِثْلَهُ بِخِلَافِ النُّصُوصِ يَعْنِي إذَا تَمَسَّكَ فِي حَادِثَةٍ بِعُمُومِ نَصٍّ فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ حُكْمَ هَذَا الْعَامِّ لَمْ يَثْبُتْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَدَلَّ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْمُولٍ فَأَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ خُصَّ مِنْ هَذَا الْعَامِّ بِدَلِيلٍ يُقْبَلُ، وَلَا يُطْلَبُ مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّصَّ الْعَامَّ لَيْسَ فِيهِ احْتِمَالُ الْفَسَادِ وَالْغَلَطِ بِوَجْهٍ فَلَا يَبْقَى لِعَدَمِ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ وَجْهٌ إلَّا الْخُصُوصَ الَّذِي يَلِيقُ بِكَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى إثْبَاتِهِ بِدَلِيلٍ. فَأَمَّا احْتِمَالُ الْفَسَادِ فِي الْعِلَّةِ فَقَائِمٌ فَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ دَلِيلُ الْخُصُوصِ فِيمَا ادَّعَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ مِنْ عِلَّتِهِ لَا يَنْتَفِي جِهَةُ الْفَسَادِ فَلَا يَصْلُحُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ. وَلَا يُقَالُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَانِعٌ، وَلَا يُمْكِنُهُ إبْرَازُهُ فَلَا يَثْبُتُ فَسَادُ الْوَصْفِ بِالِاحْتِمَالِ أَيْضًا؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْأَصْلُ فِي التَّخَلُّفِ هُوَ التَّنَاقُضُ. قَوْلُهُ: (وَبَنَى) أَيْ مَنْ أَجَازَ التَّخْصِيصَ عَلَى هَذَا أَيْ عَلَى جَوَازِ التَّخْصِيصِ تَقْسِيمَ الْمَوَانِعِ أَيْ مَوَانِعِ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ. وَهِيَ خَمْسَةٌ حِسًّا وَحُكْمًا أَيْ فِي الْحِسِّيَّاتِ وَالشَّرْعِيَّاتِ عُرِفَ ذَلِكَ بِالِاسْتِقْرَاءِ. وَذَلِكَ أَيْ مَا قُلْنَا مِنْ الْمَوَانِعِ حِسًّا يَتَبَيَّنُ فِي الرَّمْيِ فَإِنَّهُ قَتَلَ أَوْ أَصَابَ وَيَلْزَمُ الرَّامِيَ أَحْكَامُ الْقَتْلِ وَالرَّمْيُ عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلٍ مَعْلُومٍ، وَهُوَ إغْرَاقُ الْقَوْسِ بِالسَّهْمِ، وَإِرْسَالُهُ. فَالرَّامِي إذَا انْقَطَعَ وَتَرُهُ أَيْ وَتَرُ قَوْسِهِ أَوْ انْكَسَرَ فَوْقَ سَهْمِهِ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْوَتَرِ مِنْ السَّهْمِ يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ انْعِقَادِ الرَّمْيِ عِلَّةً بَعْدَ تَمَامِ قَصْدِ الرَّامِي إلَى مُبَاشَرَةٍ حَتَّى أَنَّ شَيْئًا مِنْ حُكْمِ الرَّمْي لَا يَظْهَرُ مَعَ هَذَا الْمَانِعِ مِنْ مُضِيِّ السَّهْمِ أَوْ إصَابَتِهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ: وَإِذَا حَالَ بَيْنَ الرَّامِي وَبَيْنَ مَقْصِدِهِ حَائِطٌ فِي مَسَافَةِ مُرُورِ السَّهْمِ يُعَارِضُ السَّهْمَ فَيَمْنَعُهُ مِنْ الْمُرُورِ وَيَرُدُّهُ عَنْ سُنَنِهِ فَهُوَ مَانِعٌ يَمْنَعُ تَمَامَ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ انْعَقَدَ رَمْيًا لَكِنَّ الرَّمْيَ إنَّمَا يَصِيرُ قَتْلًا إذَا أَصَابَ الْمُرْمَى بِامْتِدَادِ السَّهْمِ إلَى الْمُرْمَى بِقُوَّتِهِ، وَهَذَا الْمَانِعُ مَنَعَ تَمَامَ الِامْتِدَادِ إلَيْهِ فَمَنَعَ تَمَامَ الْعِلَّةِ. وَهَذَانِ لَيْسَا مِنْ أَقْسَامِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّخْصِيصِ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ لِمَانِعٍ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ، وَقَدْ عُدِمَتْ الْعِلَّةُ فِي هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ أَصْلًا فَيَكُونُ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ فِيهِمَا لِعَدَمِ الْعِلَّةِ لَا لِمَانِعٍ مَنَعَ وُجُودَ الْعِلَّةِ فَلَا يَسْتَقِيمُ بِنَاؤُهُمَا عَلَيْهِ وَجَعْلُهُمَا مِنْ أَقْسَامِهِ إلَّا أَنَّ

فَيَدْفَعُهُ بِتُرْسٍ أَوْ غَيْرِهِ وَاَلَّذِي يَمْنَعُ تَمَامَ الْحُكْمِ أَنْ يَجْرَحَهُ ثُمَّ يُدَاوِيَهُ فَيَنْدَمِلَ، وَاَلَّذِي يَمْنَعُ لُزُومَهُ أَنْ يُصِيبَهُ فَيَمْرَضَ بِهِ وَيَصِيرَ صَاحِبَ فِرَاشٍ ثُمَّ يَصِيرَ لَهُ كَطَبْعٍ خَامِسٍ فَيَأْمَنُ مِنْهُ غَالِبًا بِمَنْزِلَةِ مَنْ ضَرَبَهُ الْفَالِجُ فَيَصِيرُ مَفْلُوجًا كَانَ مَرِيضًا فَإِنْ امْتَدَّ فَصَارَ طَبْعًا صَارَ فِي حُكْمِ الصَّحِيحِ. وَمِثَالُهُ مِنْ الشَّرْعِيَّاتِ الْبَيْعُ إذَا أُضِيفَ إلَى حُرٍّ لَمْ يَنْعَقِدْ، وَإِذَا أُضِيفَ إلَى مَالٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ لِلْبَائِعِ مَنَعَ تَمَامَ الِانْعِقَادِ فِي حَقِّ الْمَالِكِ، وَخِيَارُ الشَّرْطِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْحُكْمِ، وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ يَمْنَعُ تَمَامَ الْحُكْمِ، وَخِيَارُ الْعَيْبِ يَمْنَعُ لُزُومَ الْحُكْمِ ـــــــــــــــــــــــــــــQهَذَا الْقَائِلَ لَمَّا شَرَعَ فِي بَيَانِ الْمَوَانِعِ ذَكَرَهُمَا تَتْمِيمًا لِلتَّقْسِيمِ لَا أَنَّهُ بَنَاهُمَا عَلَى التَّخْصِيصِ. وَمَانِعٌ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْحُكْمِ هُوَ أَنْ يُصِيبَهُ أَيْ يُصِيبَ السَّهْمُ الْمُرْمَى. فَيَدْفَعُهُ أَيْ الْمُرْمَى السَّهْمَ بِتُرْسٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ دِرْعٍ أَوْ جَوْشَنٍ أَوْ قَبَاءٍ؛ لِأَنَّ السَّهْمَ لَمَّا امْتَدَّ إلَيْهِ وَاتَّصَلَ بِهِ فَقَدْ تَمَّتْ الْعِلَّةُ فَكَانَ مِنْ حُكْمِهِ الْجَرْحُ الَّذِي هُوَ قَتْلٌ، وَهَذَا الْمَانِعُ أَعْنِي التُّرْسَ وَنَحْوَهُ مِنْهُ أَصْلُ الْحُكْمِ. وَلَا يُقَالُ التُّرْسُ مَانِعٌ مِنْ الِاتِّصَالِ كَالْحَائِطِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كِلَاهُمَا مِنْ قَبِيلِ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ التُّرْسُ أَوْ الدِّرْعُ مُتَّصِلٌ بِالْمُرْمَى فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ بَدَنِهِ فَكَانَ اتِّصَالُ السَّهْمِ بِهِ بِمَنْزِلَةِ اتِّصَالِهِ بِبَدَنِهِ بِخِلَافِ الْحَائِطِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِهِ فَلَا يَكُونُ اتِّصَالُ السَّهْمِ بِالْحَائِطِ بِمَنْزِلَةِ اتِّصَالِ السَّهْمِ بِالْمُرْمَى فَكَانَ قِسْمًا آخَرَ. وَاَلَّذِي يَمْنَعُ تَمَامَ الْحُكْمِ أَنْ يَجْرَحَهُ أَيْ السَّهْمُ الْمُرْمَى ثُمَّ يُدَاوِيهِ أَيْ الْمُرْمَى الْجُرْحَ فَيَنْدَمِلُ فَالْمُدَاوَاةُ مَعَ الِانْدِمَالِ أَوْ الِانْدِمَالُ بِنَفْسِهِ مَانِعٌ مِنْ تَمَامِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْجُرْحَ إنَّمَا يُتِمُّ قَتْلًا إذَا سَرَى أَلَمُهُ إلَى الْمَوْتِ فَمَا يَقْطَعُ السِّرَايَةَ يَكُونُ مَانِعًا تَمَامَ حُكْمِ الْعِلَّةِ. وَاَلَّذِي يَمْنَعُ لُزُومَ الْحُكْمِ أَنْ يُصِيبَ السَّهْمُ الْمُرْمَى فَيَمْرَضُ بِهِ وَيَصِيرُ صَاحِبَ فِرَاشٍ ثُمَّ يَصِيرُ ذَلِكَ الْمَرَضُ وَالْجُرْحُ لَهُ كَطَبْعٍ خَامِسٍ أَيْ زَائِدٍ عَلَى الطِّبَاعِ الْأَرْبَعَةِ فَيَأْمَنُ أَيْ الْمُرْمَى الْمُصَابُ مِنْهُ أَيْ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ فِي الْغَالِبِ أَيْ يَأْمَنُ الْمُصَابُ مِنْ أَنْ يَقْضِيَ ذَلِكَ الْجُرْحُ إلَى الْهَلَاكِ، وَإِنْ لَمْ يَنْدَمِلْ. فَصَيْرُورَتُهُ طَبْعًا خَامِسًا مَنَعَ لُزُومَ الْحُكْمِ أَيْ مَنَعَ الْجُرْحَ أَنْ يَصِيرَ قَتْلًا إذْ مَعْنَى لُزُومِهِ صَيْرُورَتُهُ قَتْلًا، وَهُوَ كَالِانْدِمَالِ فِي التَّحْقِيقِ؛ لِأَنَّهُ مَانِعٌ مِنْ زُهُوقِ الرُّوحِ كَالِانْدِمَالِ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ الْقَاضِي الْإِمَامُ هَذَا الْقِسْمَ فِي أَقْسَامِ الْمَوَانِعِ. إلَّا أَنَّ الْجُرْحَ الَّذِي هُوَ أَثَرُ الرَّمْيِ لَمَّا بَقِيَ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ طَبْعًا فَلَمْ يَنْدَمِلْ لَمْ يَنْدَفِعْ الْحُكْمُ بِهَذَا الْمَانِعِ بِالْكُلِّيَّةِ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَصِيرَ قَتْلًا فِي الْعَاقِبَةِ، وَلَكِنَّ الدَّفْعَ بِصَيْرُورَتِهِ طَبْعًا إفْضَاؤُهُ إلَى الْقَتْلِ فِي الْحَالِ فَكَانَ مَانِعًا لُزُومَ الْحُكْمِ، وَفِي أَصْلِهِ لِبَقَائِهِ بَعْدَ وُجُودِهِ وَبِالِانْدِمَالِ قَدْ انْدَفَعَ الْجُرْحُ الْحَاصِلُ بِالرَّمْيِ بِالْكُلِّيَّةِ فَكَانَ الِانْدِمَالُ أَقْوَى مَنْعًا لِلْحُكْمِ مِنْ صَيْرُورَةِ الْجُرْحِ طَبْعًا، وَلِذَلِكَ جَعَلَهُمَا الشَّيْخُ قِسْمَيْنِ. وَفِي الْجُمْلَةِ جَعْلُ صَيْرُورَتِهِ طَبْعًا مَانِعَةً مِنْ لُزُومِ الْحُكْمِ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ نَفْسُ الْحُكْمِ ثَابِتًا، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْمَانِعِ ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ الْحُكْمِ إنْ كَانَ هُوَ الْقَتْلَ فَنَفْسُهُ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ كَمَا فِي الِانْدِمَالِ فَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يُجْعَلَ ثَابِتًا غَيْرَ لَازِمٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْجُرْحَ فَهُوَ لَازِمٌ بَعْدَمَا صَارَ طَبْعًا فَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يُجْعَلَ كَوْنُهُ طَبْعًا مَانِعًا مِنْ اللُّزُومِ أَيْضًا وَذَكَرَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ أَنَّ حُكْمَ الرَّمْيِ الْجُرْحُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُقَاوِمُهُ الْمُرْمَى فَيُفْضِي إلَى الْقَتْلِ فَإِذَا انْدَمَلَ لَمْ يَتِمَّ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ الْمُرْمَى يَصْلُحُ مُقَاوِمًا لَهُ فَيَكُونُ الِانْدِمَالُ مَانِعًا تَمَامَ الْحُكْمِ، وَإِذَا لَمْ يَنْدَمِلْ وَصَارَ صَاحِبَ فِرَاشٍ فَقَدْ تَحَقَّقَ عَدَمُ الْمُقَاوَمَةِ إلَّا أَنَّهُ مَا دَامَ حَيًّا يَحْتَمِلُ أَنْ يَزُولَ عَدَمُ الْمُقَاوَمَةِ بِالِانْدِمَالِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِيرَ لَازِمًا بِإِفْضَائِهِ إلَى الْقَتْلِ فَإِذَا صَارَ طَبْعًا فَقَدْ مَنَعَ ذَلِكَ إفْضَاءَهُ إلَى الْقَتْلِ فَكَانَ صَيْرُورَتُهُ طَبْعًا مَانِعَةً لُزُومَ الْحُكْمِ، وَهُوَ لَا يَخْلُو عَنْ تَكَلُّفٍ كَمَا تَرَى. قَوْلُهُ (وَمِثَالُهُ) أَيْ مِثَالُ مَا تَحَقَّقَ مِنْهُ الْمَوَانِعُ الْخَمْسَةُ مِنْ الشَّرْعِيَّاتِ الْبَيْعُ فَإِنَّهُ عِلَّةٌ لِمِلْكِ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ جَمِيعًا ثُمَّ إذَا أُضِيفَ إلَى حُرٍّ أَوْ مَيِّتَةٍ يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ أَصْلِ الِانْعِقَادِ لِعَدَمِ الْمَحَلِّ. وَإِذَا أُضِيفَ إلَى مَالٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ لِلْبَائِعِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ مَنَعَ يَعْنِي كَوْنَهُ غَيْرَ مَمْلُوكٍ لِلْبَائِعِ تَمَامَ الِانْعِقَادِ فِي حَقِّ الْمِلْكِ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ أَصْلِ الِانْعِقَادِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ لِلْمَالِكِ فِيهِ. وَالدَّلِيلُ

وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ادَّعَيْنَا مِنْ إبْطَالِ خُصُوصِ الْعِلَلِ أَنَّ تَفْسِيرَ الْخُصُوصِ مَا مَرَّ ذِكْرُهُ أَنَّ دَلِيلَ الْخُصُوصِ يُشْبِهُ النَّاسِخَ بِصِيغَتِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى الِانْعِقَادِ أَنَّهُ يَلْزَمُ بِإِجَازَتِهِ وَغَيْرُ الْمُنْعَقِدِ لَا يَصِيرُ لَازِمًا، وَمُنْعَقِدًا بِالْإِجَازَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ تَامٍّ أَنَّهُ يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَارِثِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ فِي حَقِّ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْبَائِعِ تَامٌّ حَتَّى لَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةُ إبْطَالِهِ وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ بَائِعَ مَالِ الْغَيْرِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلتَّصَرُّفِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ الْمِلْكِ وَجَبَ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ الْبَيْعُ أَصْلًا، وَلَمَّا كَانَ رُكْنُ الْبَيْعِ صَادِرًا مِنْ الْأَهْلِ فِي مَحَلٍّ صَالِحٍ لِلتَّصَرُّفِ وَجَبَ أَنْ يَنْعَقِدَ تَامًّا مُعْلِنًا أَنَّهُ انْعَقَدَ غَيْرَ تَامٍّ فِي حَقِّ الْمَالِكِ حَمْلًا بِالشَّبَهَيْنِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَنَّ إضَافَةَ الْبَيْعِ إلَى مَالِ الْغَيْرِ تَمْنَعُ التَّامَّ فَإِنَّهُ فِي حَقِّ الْمَالِكِ كَأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ لِعَدَمِ وِلَايَةِ الْعَاقِدِ عَلَيْهِ. وَخِيَارُ الشَّرْطِ أَيْ الْخِيَارُ الثَّابِتُ بِالشَّرْطِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْحُكْمِ، وَهُوَ الْمِلْكُ حَتَّى لَا يَخْرُجَ الْبَدَلُ الَّذِي فِي جَانِبِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ عَنْ مِلْكِهِ إلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ، وَإِنْ انْعَقَدَ الْبَيْعُ فِي حَقِّهِمَا عَلَى التَّمَامِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ الْحُكْمُ بِالْخِيَارِ لِتَعَلُّقِ الثُّبُوتِ بِسُقُوطِهِ. وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ يَمْنَعُ تَمَامَ الْحُكْمِ دُونَ أَصْلِهِ حَتَّى لَا يَمْنَعَ ثُبُوتَ الْمِلْكِ، وَلَكِنْ لَا يَتِمُّ الصِّفَةُ بِالْقَبْضِ مَعَهُ وَيَتَمَكَّنُ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ مِنْ الْفَسْخِ بِدُونِ قَضَاءٍ، وَلَا رِضَاءٍ لِعَدَمِ التَّمَامِ. وَصَارَ الْعَيْبُ يَمْنَعُ لُزُومَ الْحُكْمِ يَعْنِي ثَبَتَ الْحُكْمُ مَعَهُ تَامًّا حَتَّى كَانَ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي الْبَيْعِ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الْفَسْخِ بِدُونِ رِضَاءٍ، وَلَا قَضَاءٍ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ حَيْثُ ثَبَتَ لَهُ وِلَايَةُ الرَّدِّ فَثَبَتَ أَنَّهُ مَانِعٌ مِنْ اللُّزُومِ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ مَرَاتِبُ هَذِهِ الْخِيَارَاتِ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يَثْبُتُ بِالشَّرْطِ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الشَّرْطَ فِيهِ دَاخِلٌ عَلَى الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ فَصَارَ الْحُكْمُ مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ فَعَدِمَ قَبْلَ وُجُودِهِ. وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ يَثْبُتُ بِنَاءً عَلَى فَوَاتِ تَمَامِ الرِّضَاءِ؛ لِأَنَّ الرِّضَاءَ يَحْصُلُ بِالْعِلْمِ وَأَصْلِهِ، وَإِنْ كَانَ يَحْصُلُ بِالْوَصْفِ وَالْإِشَارَةِ، وَلَكِنْ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالرُّؤْيَةِ فَقَبْلَ الرُّؤْيَةِ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ مُوجِبًا لِلْمِلْكِ لِوُجُودِ أَصْلِ الرِّضَاءِ، وَلَكِنْ لَا يَتِمُّ مَا لَمْ يَتِمَّ الرِّضَاءُ بِالرُّؤْيَةِ. وَخِيَارُ الْعَيْبِ يَثْبُتُ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ لَهُ بِتَسْلِيمِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ لَا عَلَى فَوَاتِ الرِّضَاءِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْأَوْصَافِ قَبْلَ رُؤْيَةِ مَوْضِعِ الْعَيْبِ يَثْبُتُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ، وَهُوَ صِفَةُ السَّلَامَةِ لَكِنْ لَمَّا اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ مَا فَاتَ فَإِذَا عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِهِ، وَلَا يُمْكِنُ إسْقَاطُ بَعْضِ الثَّمَنِ بِمُقَابَلَتِهِ؛ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ ثَبَتَ لَهُ وِلَايَةُ الرَّدِّ وَالْفَسْخِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ادَّعَيْنَا مِنْ إبْطَالِ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ) أَرَادَ بِهِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ بَابُ فَسَادِ تَخْصِيصِ الْعِلَلِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَذْهَبَهُ صَرِيحًا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَانِعِينَ مِنْ التَّخْصِيصِ تَمَسَّكُوا بِوُجُوهٍ مِنْهَا أَنَّ وُجُودَ الْعِلَّةِ مَعَ تَخَلُّفِ حُكْمِهَا مُنَاقَضَةٌ وَالْمُنَاقَضَةُ مِنْ آكَدِ مَا تَفْسُدُ بِهِ الْعِلَّةُ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الْعَبَثِ وَالسَّفَهِ وَنِسْبَةُ ذَلِكَ إلَى الشَّرْعِ لَا يَجُوزُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي جَعَلَهُ الْمُعَلِّلُ عِلَّةً إذَا وُجِدَ مُتَعَرِّيًا عَنْ الْحُكْمِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَقُولَ امْتِنَاعُ الْحُكْمِ لِمَانِعٍ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ أَوَّلًا لِمَانِعٍ، وَالثَّانِي ظَاهِرُ الْفَسَادِ؛ لِأَنَّ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ بِدُونِ الْمَانِعِ دَلِيلُ الْفَسَادِ وَالْمُنَاقَضَةِ. وَكَذَا الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ أَمَارَاتٌ، وَأَدِلَّةٌ عَلَى أَحْكَامِ الشَّارِعِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ نَصَّ الشَّارِعُ فِي كُلِّ وَصْفٍ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ دَلِيلٌ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ أَيْنَمَا وُجِدَ فَإِذَا خَلَا الدَّلِيلُ عَنْ الْمَدْلُولِ كَانَ مُنَاقَضَةً. وَمِنْهَا أَنَّ مَعْنَى التَّخْصِيصِ قِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَدُلُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَا يَجُوزُ

وَيُشْبِهُ الِاسْتِثْنَاءَ بِحُكْمِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَقَعَ التَّعَرُّضُ بَيْنَ النَّصَّيْنِ فَلَمْ يَفْسُدْ أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ وَلَكِنَّ النَّصَّ الْعَامَّ لَحِقَهُ ضَرْبٌ مِنْ الِاسْتِعَارَةِ بِأَنْ أُرِيدَ بِهِ بَعْضُهُ مَعَ بَقَائِهِ حُجَّةً عَلَى مَا مَرَّ ـــــــــــــــــــــــــــــQقِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الدَّلِيلَ لَا يَدُلُّ أَنَّ فِي ذَلِكَ عَزْلُ الدَّلِيلِ عَنْ دَلَالَتِهِ، وَهُوَ بَاطِلٌ. فَإِنْ دَلَّ ذَلِكَ الدَّلِيلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ دَلِيلٌ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ. فَنَقُولُ لَهُ لِأَيِّ مَعْنًى صَارَ عِلَّةً فِي تِلْكَ الْحَالَةِ إنْ قَالَ بِالْأَثَرِ أَوْ بِالْإِحَالَةِ أَوْ بِغَيْرِهِمَا فَنَقُولُ ذَلِكَ الْمَعْنَى يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ دَلِيلًا عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِلَّا فَلَا يَكُونُ عِلَّةً. فَإِنْ قَالَ هَذَا الْوَصْفُ عِلَّةٌ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَمْنَعَهُ مَانِعٌ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا ذِكْرَهُ، وَأَضْمَرْنَاهُ كَمَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ الْعَمَلُ بِالْعُمُومِ وَاجِبٌ وَتَعْنُونَ بِهِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ الْمَنْعِ مِنْ إجْرَائِهِ عَلَى عُمُومِهِ. فَنَقُولُ إنْ كَانَ هَذَا الشَّرْطُ مَقْرُونًا بِالْعِلَّةِ لَمْ يَكُنْ تَخْصِيصًا لِلْعِلَّةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ اسْتِيفَاءً لِإِجْرَائِهَا فَزَالَتْ الْمُنَازَعَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْرُونًا بِهَا كَانَ ذَلِكَ نَقْضًا، وَمِنْهَا مَا ذَكَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ أَنَّ أَقْوَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ الْمَانِعُونَ مِنْ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ أَنْ يُقَالَ مَعْنَى قَوْلِنَا إنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ هُوَ أَنَّ تَخْصِيصَهَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهَا أَمَارَةً وَطَرِيقًا إلَى الْوُقُوفِ عَلَى الْحُكْمِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْفُرُوعِ، وَإِذَا مَنَعَ تَخْصِيصُهَا مِنْ كَوْنِهَا طَرِيقًا إلَى الْحُكْمِ فَقَدْ تَمَّ مَا أَرَدْنَاهُ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّا إذَا عَلِمْنَا أَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ مُتَفَاضِلًا هِيَ كَوْنُهُ مَوْزُونًا ثُمَّ عَلِمْنَا مَثَلًا إبَاحَةَ بَيْعِ الرَّصَاصِ بِالرَّصَاصِ مُتَفَاضِلًا مَعَ أَنَّهُ مَوْزُونٌ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ بِعِلَّةٍ أُخْرَى تَقْتَضِي إبَاحَتَهُ، وَهِيَ أَقْوَى مِنْ عِلَّةِ تَحْرِيمِ الذَّهَبِ أَوْ أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ بِنَصٍّ. فَإِنْ دَلَّ عَلَى إبَاحَتِهِ عِلَّةٌ يُقَاسُ بِهَا الرَّصَاصُ عَلَى أَصْلٍ مُبَاحٍ فَحِينَئِذٍ يَعْلَمُ أَنَّ حُرْمَةَ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ مُتَفَاضِلًا بِالْوَزْنِ وَبِعَدَمِ ذَلِكَ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ الْإِبَاحَةِ فَيَتَبَيَّنُ بَعْدَ التَّحْقِيقِ أَنَّ الْعِلَّةَ لَمْ تَكُنْ كَوْنَهُ مَوْزُونًا فَقَطْ وَأَنْتَ جَعَلْت الْوَزْنَ هُوَ الْعِلَّةُ. وَإِنْ دَلَّ عَلَى إبَاحَةِ بَيْعِ الرَّصَاصِ بِالرَّصَاصِ نَصَّ، وَقَدْ عَلِمْنَا عِلَّةَ إبَاحَتِهِ فَالْكَلَامُ فِيهِ مِثْلُ الْكَلَامِ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ عِلَّةَ إبَاحَتِهِ كَانَتْ الْعِلَّةُ مَقْصُورَةً عَلَى الرَّصَاصِ غَيْرَ مُتَعَدِّيَةٍ عَنْهُ؛ لِأَنَّهَا لَوْ تَعَدَّتْ لَوَجَبَ فِي الْحِكْمَةِ أَنْ يُثْبِتَ الشَّارِعُ عِلْمًا عَلَى ذَلِكَ لِيَعْلَمَ ثُبُوتَ حُكْمِهَا فِيمَا عَدَا الرَّصَاصَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ بِالْوَزْنِ فَقَطْ بَلْ؛ لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِرَصَاصٍ فَيَبْطُلُ بِهَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْعِلَّةُ هِيَ الْوَزْنَ فَقَطْ فَثَبَتَ أَنَّ التَّخْصِيصَ يُخْرِجُ الْعِلَّةَ مِنْ كَوْنِهَا أَمَارَةً. قَالَ وَاَلَّذِي تَبَيَّنَ مَا قُلْنَا مِنْ اشْتِرَاطِ نَفْيِ الْمُخَصِّصِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ اسْتَدَلَّ عَلَى طَرِيقِهِ فِي بَرِّيَّةٍ بِأَمْيَالٍ مَنْصُوبَةٍ ثُمَّ رَأَى مِيلًا لَا يَدُلُّ عَلَى طَرِيقِهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّهُ أَسْوَدُ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَدِلُّ فِيمَا بَعْدُ عَلَى طَرِيقِهِ بِوُجُودِ مِيلٍ دُونَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ غَيْرُ أَسْوَدَ فَقَدْ صَحَّ مَا أَرَدْنَاهُ أَنَّ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ يُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنِهَا أَمَارَةً عَلَى الْحُكْمِ. وَمِنْهَا مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكِتَابِ: أَنَّ تَفْسِيرَ الْخُصُوصِ أَيْ تَخْصِيصَ الْعَامِّ مَا مَرَّ ذِكْرُهُ فِي أَبْوَابِ الْعَامِّ أَنَّ دَلِيلَ الْخُصُوصِ شَبَّهُ النَّاسِخَ بِصِيغَتِهِ لِاسْتِقْلَالِهِ بِنَفْسِهِ وَيُشَبِّهُ الِاسْتِثْنَاءَ بِحُكْمِهِ؛ لِأَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الْخُصُوصَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعُمُومِ كَالِاسْتِثْنَاءِ، وَلِهَذَا شَرَطَ أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا لِيُمْكِنَ أَنْ يُجْعَلَ الْعَامُّ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمَخْصُوصِ كَمَا شَرَطَ ذَلِكَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ لِيُمْكِنَ جَعْلُهُ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ إذَا كَانَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ كَمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُشْبِهُ الْأَمْرَيْنِ، وَمَعَ التَّعَارُضِ ظَاهِرًا بَيْنَ النَّصَّيْنِ، وَهُمَا صِيغَةُ الْعَامِّ وَدَلِيلُ الْخُصُوصِ. فَلَمْ يَفْسُدْ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ أَيْ لَمْ يَبْطُلْ النَّصُّ الْعَامُّ بِلُحُوقِ دَلِيلِ الْخُصُوصِ بِهِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ

وَهَذَا لَا يَكُونُ فِي الْعِلَلِ أَبَدًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ وَيُوجِبُ عِصْمَةَ الِاجْتِهَادِ عَنْ الْخَطَأِ وَالْمُنَاقَضَةِ، وَفِي ذَلِكَ قَوْلٌ بِالْأَصْلَحِ لَكِنَّ الْحُكْمَ إنَّمَا يَمْتَنِعُ لِزِيَادَةِ وَصْفٍ أَوْ نُقْصَانِهِ الَّذِي تُسَمِّيهِ مَانِعًا مُخَصِّصًا وَبِزِيَادَتِهِ أَوْ نُقْصَانِهِ يَتَبَدَّلُ الْعِلَّةُ فَيَجِبُ أَنْ يُضَافَ الْعَدَمُ إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ لَا إلَى مَانِعٍ أَوْجَبَ الْخُصُوصَ مَعَ قِيَامِ الْعِلَّةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْبَعْضُ، وَلَمْ يَبْطُلْ دَلِيلُ الْخُصُوصِ إذَا كَانَ مَجْهُولًا بِالْعَامِّ أَيْضًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ آخَرِينَ بَلْ صَارَ النَّصُّ الْعَامُّ مُسْتَعَارًا لِمَا بَقِيَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ وَقَعَ حُجَّةً فِيهِ. وَهَذَا أَيْ التَّخْصِيصُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ أَنْ يُبْقِيَ الْعِلَّةَ حُجَّةً فِيمَا وَرَاءَ مَوْضِعِ التَّخْصِيصِ لَا يَكُونُ فِي الْعِلَلِ أَبَدًا أَيْ لَا يَسْتَقِيمُ فِيهَا بِوَجْهٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْ التَّخْصِيصَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يُؤَدِّي إلَى تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الِاجْتِهَادِ إنَّمَا تَثْبُتُ بَعْدَ تَأْثِيرِهِ بِسَلَامَتِهِ عَنْ الْمُنَاقَضَةِ وَيَظْهَرُ فَسَادُهُ وَخَطَؤُهُ بِانْتِقَاضِهِ فَإِذَا جَازَ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ أَمْكَنَ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ إذَا وَرَدَ عَلَيْهِ نَقْضٌ فِي عِلَّتِهِ أَنْ يَقُولَ خَصَّصْت عِلَّتِي بِدَلِيلٍ وَيَتَخَلَّصُ عَنْ النَّقْضِ فَسَلِمَ اجْتِهَادُهُ عَنْ الْخَطَأِ وَالْمُنَاقَضَةِ فَيَكُونُ اجْتِهَادُ كُلِّ مُجْتَهِدٍ صَوَابًا، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الدُّنْيَا مُنَاقِضٌ. وَفِي ذَلِكَ أَيْ فِي تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ وَعِصْمَةِ الِاجْتِهَادِ قَوْلٌ بِوُجُوبِ الْأَصْلَحِ. لَكِنَّ الْمُجَوَّزِينَ يَقُولُونَ إنَّمَا يَلْزَمُ مِنْ التَّخْصِيصِ تَصْوِيبُ كُلِّ مُجْتَهِدٍ إذَا قُبِلَ مِنْهُ مُجَرَّدُ قَوْلِهِ خُصَّ لِمَانِعٍ أَمَّا إذَا اشْتَرَطَ بَيَانَ مَانِعٍ صَالِحٍ لِلتَّخْصِيصِ فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ إذْ لَا يَتَيَسَّرُ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ أَنْ يُبَيِّنَ عِلَّةً مُؤَثِّرَةً فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ ثُمَّ يُبَيِّنَ عِنْدَ وُرُودِ النَّقْضِ عَلَيْهَا مَانِعًا صَالِحًا. وَلَئِنْ كَانَ التَّخْصِيصُ بِهَذَا الشَّرْطِ مُؤَدِّيًا إلَى التَّصْوِيبِ لَكَانَ مَا ذَهَبْتُمْ إلَيْهِ مِنْ إضَافَةِ عَدَمِ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ التَّخْصِيصِ إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ مُؤَدِّيًا إلَى التَّصْوِيبِ أَيْضًا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ عِلَّةٍ مُؤَثِّرَةٍ ثَبَتَ تَخْصِيصُهَا عِنْدَنَا بِدَلِيلٍ فَهِيَ عِنْدَكُمْ صَحِيحَةٌ غَيْرُ مُنْتَقَضَةٍ أَيْضًا لَكِنَّكُمْ تَنْسُبُونَ عَدَمَ الْحُكْم إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ بِاعْتِبَارِ فَوَاتِ وَصْفٍ وَنَحْنُ نَنْسُبُ إلَى الْمَانِعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يُمْكِنُ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ إذَا وَرَدَ عَلَيْهِ نَقْضٌ أَنْ يَقُولَ قَدْ عَدِمْت عِلَّتِي فِي صُورَةِ النَّقْضِ لِزِيَادَةِ وَصْفٍ أَوْ نُقْصَانِهِ وَيَتَخَلَّصُ عَنْ النَّقْضِ بِذَلِكَ كَمَا يَتَخَلَّصُ بِالتَّخْصِيصِ فَتَبْقَى عِلَّتُهُ عَلَى الصِّحَّةِ فَيَكُونُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا. وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ التَّخْصِيصَ يُؤَدِّي إلَى تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ وُجُوبُ الْقَوْلِ بِالْأَصْلَحِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَّجِرِينَ فِي الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ ذَهَبُوا إلَى التَّصْوِيبِ مَعَ إنْكَارِهِمْ الْقَوْلَ بِالْأَصْلَحِ غَايَةَ الْإِنْكَارِ، وَبَنَوْا ذَلِكَ عَلَى الِاسْتِحَالَةِ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ. قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ مَوْلَانَا حُمَيْدٍ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي فَوَائِدِهِ وَالْقَوْلُ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ يُؤَدِّي إلَى تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ إذْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَرْعُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَمَنْ قَالَ بِتَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ يَحْتَاجُ إلَى الْقَوْلِ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ إذَا وُجِدَتْ، وَلَا حُكْمَ تَكُونُ مَنْقُوضَةً فَيَكُونُ الْمُعَلِّلُ مُخْطِئًا ضَرُورَةً، وَهُوَ خِلَافُ مَا اعْتَقَدُوا فَدَعَاهُمْ ذَلِكَ إلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِجَوَازِ التَّخْصِيصِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الْمُجْتَهِدِ مَنْقُوضَةً ضَرُورَةَ كَوْنِ الْمُجْتَهِدِ مُصِيبًا؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلَحُ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ وَعِنْدَنَا لَمَّا جَازَ الْخَطَأُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ جَازَ انْتِقَاضُ الْعِلَّةِ فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ يُؤَدِّي إلَى تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ فَعِنْدَهُمْ كَمَا لَا يَجُوزُ الْفَسَادُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا يَجُوزُ عَلَى الْعِلَلِ أَيْضًا فَصَارَ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ نَظِيرَ تَخْصِيصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعِنْدَنَا لَمَّا جَازَ فَسَادُ الْعِلَّةِ لَمْ يَكُنْ نَظِيرَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَمَّا ذَكَرَ الشَّيْخُ مِنْ لُزُومِ تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ بِأَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّخْصِيصِ يُؤَدِّي إلَى تَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ، وَأَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ حُكْمَانِ مُتَضَادَّانِ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا وُجِدَتْ الْعِلَّةُ فِي أَصْلَيْنِ وَاقْتَضَتْ التَّحْلِيلَ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَنْفَصِلْ مَنْ عَلَّقَ عَلَيْهَا التَّحْلِيلَ فِي الْفَرْعِ اعْتِبَارًا بِأَحَدِ الْأَصْلَيْنِ مِمَّنْ عَلَّقَ عَلَيْهَا التَّحْرِيمَ

وَفَرْقٌ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ أَنَّهُمْ يَنْسُبُونَ عَدَمَ الْحُكْمِ إلَى مَانِعٍ مَعَ قِيَامِ الْعِلَّةِ فَصَارَ كَدَلِيلِ الْخُصُوصِ فِي بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَامُّ مَعَ قِيَامِ دَلِيلِ الْعُمُومِ وَنَحْنُ نَنْسُبُ الْعَدَمَ إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ يَنْعَدِمُ وَصْفُ الْعِلَّةِ أَوْ زِيَادَتُهَا، وَالْعَدَمُ بِالْعَدَمِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْخُصُوصِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي ذَلِكَ الْفَرْعِ اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ الْآخَرِ فَيَتَكَافَأُ الدَّلِيلَانِ وَيَسْتَوِي الْقَوْلَانِ. مِثَالُهُ مِنْ عَلَّلَ عَدَمَ وُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِ السَّبُعِ بِأَنَّهُ سَبُعٌ فَلَا يَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ قِيَاسًا عَلَى الْكَلْبِ فَإِذَا نُقِضَتْ عَلَيْهِ الْعِلَّةُ بِالضَّبُعِ أَجَابَ بِأَنَّهُ خَصَّهَا فَيَصِيرُ هَذِهِ الْوَصْفُ، وَهُوَ السَّبُعِيَّةُ عِلَّةً لِحُكْمَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ بِالْقِيَاسِ عَلَى أَصْلَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَّفِقٌ عَلَى كَلِمَةٍ. وَلَيْسَ لِمَنْ أَجَازَ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْ هَذَا بِدَعْوَاهُ التَّرْجِيحَ فِي أَحَدِ وَجْهِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْحُكْمَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ تَرْجِيحُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ فِي تَخْصِيصِهِ بِأَحَدِ حُكْمَيْهِ، وَإِذَا اسْتَحَالَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ أَنَّ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ يُؤَدِّي إلَى تَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ، وَهُوَ بَاطِلٌ كَذَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ وَصَاحِبُ الْقَوَاطِعِ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّخْصِيصِ يَجُرُّ إلَى مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ بَعْضَ الْمُعْتَزِلَةِ يَقُولُونَ إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَشِيئَةً، وَهِيَ عِلَّةُ حُدُوثِ كُلِّ شَيْءٍ ثُمَّ الْمَشِيئَةُ تُوجَدُ، وَلَا حَادِثَ عِنْدَهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَاءَ مِنْ الْكُفَّارِ الْإِيمَانَ، وَلَمْ يَحْدُثْ الْإِيمَانُ مِنْهُمْ فَكَانَتْ عِلَّةُ الْحُدُوثِ مَوْجُودَةً، وَلَكِنْ امْتَنَعَ حُكْمُهَا لِمَانِعٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكُفْرِ. قَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ هَذَا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ مَنْ قَالَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَائِلًا بِتَخْصِيصِ الْمَشِيئَةِ كَمَا أَنَّ الْقَائِلَ بِتَخْصِيصِ الْكِتَابِ لَا يَكُونُ قَائِلًا بِتَخْصِيصِ الْمَشِيئَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا مُوجِبَةٌ بِذَاتِهَا فَلَأَنْ لَا يَقُولُوا بِتَخْصِيصِ الْمَشِيئَةِ أَوْلَى عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَ أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى عِلَّةُ كُلِّ حَادِثٍ لَيْسَ بِثَابِتٍ عِنْدَهُمْ. وَلَئِنْ كَانَ ثَابِتًا فَإِنَّمَا يَلْزَمُ تَخْصِيصُ الْمَشِيئَةِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ دُونَ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَإِنَّهُمْ قَائِلُونَ بِأَنَّ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ كُلَّهَا بِمَشِيئَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَقَضَائِهِ. فَلَا يَلْزَمُ عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ التَّخْصِيصِ تَخْصِيصُ الْمَشِيئَةِ عِنْدَهُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّهُ يُؤَدِّي إلَى مَذْهَبِهِمْ فِي الِاسْتِطَاعَةِ قَبْلَ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ قُوَّةَ الْفِعْلِ عِلَّةُ الْفِعْلِ وَعِنْدَهُمْ الْقُوَّةُ مَوْجُودَةٌ، وَلَا فِعْلَ لِمَانِعٍ مَنَعَ الْمُسْتَطِيعَ مِنْ الْفِعْلِ حَتَّى إنَّ عِنْدَهُمْ لِلْمُقَيَّدِ قُوَّةَ الْفِرَارِ، وَلَكِنْ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَفِرَّ لِمَانِعِ الْقَيْدِ فَإِذَا جَازَ وُجُودُ عِلَّةِ الْفِعْلِ، وَلَا فِعْلَ لِمَانِعٍ جَازَ أَنْ تُوجَدَ الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ، وَلَا حُكْمَ لَهَا كَالْإِيمَانِ وَالطَّاعَاتِ لِمَانِعٍ. وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ نَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ الْقَوْلَ بِالِاسْتِطَاعَةِ قَبْلَ الْفِعْلِ يَسْتَلْزِمُ جَوَازَ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَجْوِيزَ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ يَسْتَلْزِمُ الْقَوْلَ بِالِاسْتِطَاعَةِ قَبْلَ الْفِعْلِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ أَمَارَاتٌ فِي الْحَقِيقَةِ فَيَجُوزُ مَدْلُولَاتُهَا عَنْهَا فَأَمَّا الْعِلَلُ الْعَقْلِيَّةُ فَمُوجِبَةٌ بِذَوَاتِهَا فَلَا يُتَصَوَّرُ انْفِكَاكُ مَعْلُولَاتِهَا عَنْهَا كَالْكَسْرِ مَعَ الِانْكِسَارِ، وَمَسْأَلَةُ الِاسْتِطَاعَةِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. قَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَنَا لَا أَنْسُبُ مَنْ ذَهَبَ إلَى جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ إلَى الِاعْتِزَالِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَتَّصِلُ بِتِلْكَ الْمَسْأَلَةِ يَعْنِي مَسْأَلَةَ الِاسْتِطَاعَةِ، وَلَكِنْ لَمَّا صَارَ الْقَوْلُ بِهِ فِي دِيَارِنَا مِنْ شِعَارِ الْمُعْتَزِلَةِ وَجَبَ التَّحَرُّزُ عَنْهُ كَمَا وَجَبَ التَّحَرُّزُ عَنْ التَّخَتُّمِ بِالْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ شِعَارِ الرَّوَافِضِ، وَكَمَا وَجَبَ التَّحَرُّزُ عَنْ التَّزَيِّي بِزِيِّ الْكَفَرَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ شِعَارِهِمْ. 1 - قَوْلُهُ: (لَكِنَّ الْحُكْمَ) اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ فِي الْعِلَلِ أَبَدًا يَعْنِي لَا يَقَعُ التَّخْصِيصُ فِي الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ بِوَجْهٍ لَكِنَّ الْحُكْمَ قَدْ يَمْتَنِعُ بَعْدَ وُجُودِ رُكْنِ الْعِلَّةِ بِزِيَادَةِ وَصْفٍ أَوْ نُقْصَانِهِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ أَهْلُ التَّخْصِيصِ مَانِعًا مُخَصِّصًا وَبِزِيَادَةِ وَصْفٍ فِي الْعِلَّةِ أَوْ نُقْصَانِهِ مِنْهَا تَتَبَدَّلُ الْعِلَّةُ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ بِالزِّيَادَةِ يَصِيرُ مَا هُوَ كُلُّ الْعِلَّةِ قَبْلَ الزِّيَادَةِ بَعْضَ

وَهَذَا طَرِيقُ أَصْحَابِنَا فِي الِاسْتِحْسَانِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ إنْ تُرِكَ بِالنَّصِّ قَدْ عُدِمَ حُكْمُ الْعِلَّةِ لِعَدَمِهَا؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَمْ تُجْعَلْ عِلَّةً فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَبَطَلَ حُكْمُهَا لِعَدَمِهَا لَا مَعَ قِيَامِهَا بِدَلِيلِ الْخُصُوصِ بِخِلَافِ النَّصَّيْنِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يُفْسِدُ صَاحِبَهُ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِالْخُصُوصِ، وَكَذَلِكَ إذَا عَارَضَهُ إجْمَاعٌ أَوْ ضَرُورَةٌ لَمْ يَبْقَ الْوَصْفُ عِلَّةً؛ لِأَنَّ فِي الضَّرُورَةِ إجْمَاعًا أَيْضًا وَالْإِجْمَاعُ مِثْلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَأَمَّا إذَا عَارَضَهُ اسْتِحْسَانٌ أَوْجَبَ عَدَمَ الْأَوَّلِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي بَابِ الِاسْتِحْسَانِ فَصَارَ عَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ الْخُصُوصِ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي سَائِرِ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي قَوْلِنَا فِي الصَّائِمِ إذَا صَبَّ الْمَاءَ فِي حَلْقِهِ يَفْسُدُ الصَّوْمُ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ رُكْنُهُ وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ النَّاسِي فَمَنْ أَجَازَ الْخُصُوصَ قَالَ امْتَنَعَ حُكْمُ هَذَا التَّعْلِيلِ ثَمَّةَ لِمَانِعٍ، وَهُوَ الْأَثَرُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعِلَّةِ بَعْدَهَا وَبِالنُّقْصَانِ يَفُوتُ بَعْضُ الْعِلَّةِ، وَالْكُلُّ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ بَعْضِهِ فَيَحْصُلُ التَّغَيُّرُ ضَرُورَةً، وَإِذَا تَغَيَّرَتْ الْعِلَّةُ صَارَتْ مَعْدُومَةً حُكْمًا فَيُنْسَبُ عَدَمُ الْحُكْمِ إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ لَا إلَى مَانِعٍ أَوْجَبَ التَّخْصِيصَ. أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّاهِدَ مَعَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْأَدَاءِ إذَا تَرَكَ لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ فِيمَا أَعْلَمُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِشَهَادَتِهِ لِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعَمَلِ بِشَهَادَتِهِ مَعْنًى. وَنَظِيرُ زِيَادَةِ الْوَصْفِ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّ الْبَيْعَ الْمُطْلَقَ سَبَبٌ لِلْمِلْكِ شَرْعًا، وَمَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ لَا يَبْقَى مُطْلَقًا بَلْ يَصِيرُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ كَالْمُتَعَلِّقِ بِالشَّرْطِ، وَالْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ غَيْرُ الْمُطْلَقِ فَيَكُونُ مَا هُوَ الْعِلَّةُ مَعْدُومًا كَذَا قِيلَ. وَنَظِيرُ النُّقْصَانِ الزِّنَا حَالَةَ الْإِحْصَانِ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِلرَّجْمِ فَإِذَا فَاتَ الْإِحْصَانُ لَمْ يَبْقَ الزِّنَا بِدُونِ هَذَا الْوَصْفِ عِلَّةً لِلرَّجْمِ. قَوْلُهُ: (وَهَذَا طَرِيقُ أَصْحَابِنَا فِي الِاسْتِحْسَانِ) ذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى أَنَّ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ جَائِزٌ وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا بِالِاسْتِحْسَانِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ فَإِنَّ مَعْنَى التَّخْصِيصِ وُجُودُ الْعِلَّةِ مَعَ عَدَمِ الْحُكْمِ لِمَانِعٍ وَالِاسْتِحْسَانِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنَّ حُكْمَ الْقِيَاسِ قَدْ امْتَنَعَ فِي صُورَةِ الِاسْتِحْسَانِ لِمَانِعٍ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِالتَّخْصِيصِ. فَرَدَّ الشَّيْخُ ذَلِكَ، وَقَالَ: وَهَذَا أَيْ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ إضَافَةِ عَدَمِ الْحُكْمِ إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ هُوَ طَرِيقُ أَصْحَابِنَا فِي الِاسْتِحْسَانِ لَا طَرِيقُ التَّخْصِيصِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْسَانَ إذَا عَارَضَ الْقِيَاسَ لَمْ يَبْقَ الْقِيَاسُ عِلَّةً؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الِاسْتِحْسَانِ سَوَاءٌ كَانَ نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا أَوْ ضَرُورَةً أَوْ قِيَاسًا أَقْوَى مِنْ الْأَوَّلِ يُوجِبُ عَدَمَ الْقِيَاسِ الْمُعَارِضِ لَهُ فِي نَفْسِهِ إذًا مِنْ شَرْطِهِ عَدَمُ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ لِمَا مَرَّ فَكَانَ عَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ عِلَّةِ الْمَانِعِ أَوْجَبَ الْخُصُوصَ. بِخِلَافِ النَّصَّيْنِ أَيْ النَّصِّ الْعَامِّ وَالنَّصِّ الْخَاصِّ إذَا تَعَارَضَا حَيْثُ يَكُونُ الْخَاصُّ مُخَصِّصًا لِلْعَامِّ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يُفْسِدُ الْآخَرَ لِمَا بَيَّنَّا فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِالتَّخْصِيصِ ضَرُورَةً. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْفَرْقِ: إنَّ النَّصَّيْنِ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا عَامًّا وَالْآخَرُ خَاصًّا فَالْعَامُّ لَا يَنْعَدِمُ بِالْخَاصِّ حَقِيقَةً، وَلَا حُكْمًا، وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْ النَّصَّيْنِ تَوَهُّمُ الْفَسَادِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْخَاصَّ كَانَ مُخَصِّصًا لِلْمَوْضِعِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ مِنْ حُكْمِ الْعَامِّ مَعَ بَقَاءِ الْعَامِّ حُجَّةً فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَإِنْ تَمَكَّنَ فِيهِ نَوْعُ شُبْهَةٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ صَارَ كَالْمُسْتَعَارِ فِيمَا هُوَ حَقِيقَةُ حُكْمِ الْعَامِّ فَأَمَّا الْعِلَّةُ، وَإِنْ كَانَتْ مُؤَثِّرَةً فَفِيهَا احْتِمَالُ الْخَطَأِ وَالْفَسَادِ، وَهِيَ تَحْتَمِلُ الْإِعْدَامَ حُكْمًا فَإِذَا جَاءَ مَا يُغَيِّرُهَا جَعَلْنَاهَا مَعْدُومَةً حُكْمًا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ثُمَّ انْعِدَامُ الْحُكْمِ لِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ أَيْ مِثْلَ مَا قُلْنَا فِي الْقِيَاسِ مَعَ الِاسْتِحْسَانِ مِنْ عَدَمِ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ نَقُولُ فِي سَائِرِ الْعِلَلِ إذَا تَخَلَّفَ أَحْكَامُهَا عَنْهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ يَعْنِي الْعَدَمَ مُضَافٌ إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ لَا إلَى الْمَانِعِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَيْ بَيَانُ مَا قُلْنَا مِنْ عَدَمِ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ قَوْلُنَا فِي الصَّائِمِ إذَا صَبَّ الْمَاءَ فِي حَلْقِهِ، وَهُوَ ذَاكِرٌ لِصَوْمِهِ بِطَرِيقِ الْإِكْرَاهِ إنَّ صَوْمَهُ يَفْسُدُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ رُكْنَ الصَّوْمِ، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ قَدْ فَاتَ لِوُصُولِ الْمُغَذِّي إلَى جَوْفِهِ، وَهَذَا تَعْلِيلٌ بِوَصْفٍ مُؤَثِّرٍ. وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ النَّاسِي فَإِنَّ صَوْمَهُ لَا يَفْسُدُ مَعَ فَوَاتِ الرُّكْنِ حَقِيقَةً. فَمَنْ أَجَازَ الْخُصُوصَ أَيْ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ قَالَ امْتَنَعَ حُكْمُ هَذَا التَّعْلِيلِ فِي صُورَةِ النِّسْيَانِ لِمَانِعٍ، وَهُوَ الْأَثَرُ مَعَ قِيَامِ الْعِلَّةِ. وَنَحْنُ نَقُولُ عَدَمُ الْحُكْمِ فِي النَّاسِي لِعَدَمِ هَذِهِ الْعِلَّةِ

وَقُلْنَا نَحْنُ: الْعَدَمُ لِعَدَمِ هَذِهِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ النَّاسِي مَنْسُوبٌ إلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ فَسَقَطَ عَنْهُ مَعْنَى الْجِنَايَةِ، وَصَارَ الْفِعْلُ عَفْوًا فَفِي الصَّوْمِ لِبَقَاءِ رُكْنِهِ لَا لِمَانِعٍ مَعَ فَوَاتِ رُكْنِهِ، وَمِثْلُ قَوْلِنَا فِي الْغَصْبِ إنَّهُ لَمَّا صَارَ سَبَبَ مِلْكٍ بَدَلَ الْمَالِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَبَبَ مِلْكِ الْمُبْدَلِ. وَأَمَّا الْمُدَبَّرُ فَإِنَّمَا امْتَنَعَ حُكْمُ هَذِهِ الْعِلَّةِ فِيهِ لِمَانِعٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ فَكَانَ هَذَا تَخْصِيصًا، وَهَذَا بَاطِلٌ. وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ مَا قُلْنَا إنَّ الْحُكْمَ عَدَمٌ لِعَدَمِ هَذِهِ الْعِلَّةِ، وَهُوَ كَوْنُ الْغَصْبِ سَبَبًا لِمِلْكِ بَدَلِ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْمُدَبَّرِ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ لَكِنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْيَدِ الْفَائِتَةِ لِمَا قُلْنَا إنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلِّ النَّقْلِ فَاَلَّذِي جُعِلَ عِنْدَهُمْ دَلِيلَ الْخُصُوصِ جَعَلْنَاهُ دَلِيلَ الْعَدَمِ، وَهَذَا أَصْلُ هَذَا الْفَصْلِ احْفَظْهُ، وَأَحْكِمْهُ فَفِيهِ فِقْهٌ كَثِيرٌ، وَمُخَلِّصٌ كَبِيرٌ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْخُصُوصُ عَلَى الْعِلَلِ الطَّرْدِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا كَشْفُ قَائِمَةٍ بِصِيغَتِهَا، وَالْخُصُوصُ يَرِدُ عَلَى الْعِبَارَاتِ دُونَ الْمَعَانِي الْخَالِصَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَإِنَّهَا عُدِمَتْ بِسَبَبِ زِيَادَةٍ الْتَحَقَتْ بِهَا، وَهِيَ أَنَّ فِعْلَ النَّاسِي نُسِبَ إلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ الَّذِي هُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ بِقَوْلِهِ: «إنَّمَا أَطْعَمَك اللَّهُ وَسَقَاك» فَصَارَ فِعْلُهُ بِهَذِهِ النِّسْبَةِ سَاقِطَ الِاعْتِبَارِ، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ فِعْلُهُ مُعْتَبَرًا شَرْعًا كَانَ رُكْنُ الصَّوْمِ بَاقِيًا فَكَانَ عَدَمُ الْحُكْمِ، وَهُوَ الْفِطْرُ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْفِطْرِ لَا لِمَانِعٍ مَنَعَ مِنْ الْفِطْرِ مَعَ قِيَامِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لَهُ. قَالُوا فِيهِ إنْكَارُ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَانْقِلَابُ الْحَقِيقَةِ. أَمَّا الْحِسُّ فَلِأَنَّ الْأَكْلَ قَدْ وُجِدَ حِسًّا وَالْفِعْلُ الْحِسِّيُّ لَا يَقْبَلُ الِارْتِفَاعَ حَقِيقَةً، وَلَا حُكْمًا إذْ الْأَصْلُ هُوَ الْمُطَابَقَةُ. وَأَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّ الْمُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَكْلِ وَالْكَفِّ مُتَحَقِّقَةٌ عَقْلًا، وَقَدْ حَكَمَ صَرِيحُ الْعَقْلِ بِوُقُوعِ أَحَدِ الْمُتَنَافِيَيْنِ بِلَا رَيْبٍ فَانْتَفَى الْآخَرُ ضَرُورَةً. وَأَمَّا الشَّرْعُ فَلِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يُفْطِرُ فَأَكَلَ نَاسِيًا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ. وَأَمَّا انْقِلَابُ الْحَقِيقَةِ فَلِوُجُودِ الْأَكْلِ حَقِيقَةً فَلَوْ قُلْنَا بِعَدَمِهِ يُؤَدِّي إلَى مَا ذَكَرْنَا. وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نَجْعَلُ الْأَكْلَ غَيْرَ أَكْلٍ حَقِيقَةً، وَلَكِنْ لَا نَجْعَلُهُ سَبَبًا لِلْفِطْرِ بِنِسْبَتِهِ إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ مِنْ حَيْثُ التَّسْبِيبُ، وَمَسْأَلَةُ الْفِطْرِ مَمْنُوعَةٌ. وَمِثْلُ قَوْلِنَا فِي الْغَصْبِ إنَّهُ لَمَّا صَارَ سَبَبَ مِلْكِ بَدَلِ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ، وَهُوَ ضَمَانُ الْقِيمَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَبَبَ مِلْكِ الْبَدَلِ، وَهُوَ الْمَغْصُوبُ تَحْقِيقًا لِلتَّسَاوِي وَاحْتِرَازًا عَنْ اجْتِمَاعِ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ. وَأَمَّا الْمُدَبَّرُ يَعْنِي يَلْزَمُ عَلَيْهِ الْمُدَبَّرُ فَإِنَّ غَصْبَهُ يُوجِبُ تَقَرُّرَ الْمِلْكِ فِي قِيمَتِهِ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِدُونِ أَنْ يَثْبُتَ الْمِلْكُ لِلْغَاصِبِ فِيهِ فَلَوْ قِيلَ إنَّمَا امْتَنَعَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي الْمُدَبَّرِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ لِمَانِعٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمُدَبَّرَ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ كَانَ ذَلِكَ تَخْصِيصًا، وَهُوَ بَاطِلٌ. وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ مَا قُلْنَا إنَّ الْحُكْمَ عَدَمٌ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ لِانْتِقَاصِ وَصْفٍ مِنْهَا، وَهُوَ كَوْنُ الْغَصْبِ سَبَبَ مِلْكِ بَدَلِ الْيَدِ لَا سَبَبَ مِلْكِ بَدَلِ الْعَيْنِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ تَقَرُّرُ الْمِلْكِ فِي ضَمَانٍ هُوَ بَدَلٌ عَنْ الْعَيْنِ وَضَمَانُ الْمُدَبَّرِ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ عَيْنِهِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ كَوْنِ الضَّمَانِ بَدَلًا عَنْ الْعَيْنِ أَنْ يَكُونَ الْعَيْنُ مُحْتَمِلَةً لِلتَّمْلِيكِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي الْمُدَبَّرِ بَلْ هُوَ بَدَلٌ عَنْ الْيَدِ الْفَائِتَةِ لِلْمَالِكِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ مَعَ جَرَيَانِ الْعِتْقِ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ مَمْلُوكٌ لِلْمَالِكِ، وَمَالِيَّتُهُ مُسْتَحَقَّةٌ لَهُ، وَلَهُ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ كَمَا فِي الْقِنِّ وَالْغَاصِبِ قَدْ فَوَّتَهَا عَلَيْهِ فَكَانَ الضَّمَانُ بِمُقَابَلَتِهَا لِتَعَذُّرِ إيجَابِهِ بِمُقَابَلَةِ الْعَيْنِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعِلَّةَ قَدْ عُدِمَتْ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَا الْغَصْبَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ مِلْكِ بَدَلِ الْعَيْنِ سَبَبًا لِمِلْكِ الْمُبْدَلِ وَالْغَصْبُ فِي الْمُدَبَّرِ لَيْسَ سَبَبَ مِلْكِ بَدَلِ الْعَيْنِ فَكَيْفَ يَكُونُ سَبَبًا لِمِلْكِ الْمُبْدَلِ فَكَانَ عَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ لَا لِلْمَانِعِ. فَاَلَّذِي جَعَلَ عِنْدَهُمْ دَلِيلَ الْخُصُوصِ أَيْ جُعِلَ مَانِعًا لِلْحُكْمِ مَعَ قِيَامِ الْعِلَّةِ مِنْ نَصٍّ أَوْ غَيْرِهِ. جَعَلْنَاهُ أَيْ ذَلِكَ الدَّلِيلَ دَلِيلَ عَدَمِ الْعِلَّةِ، وَهَذَا أَيْ جَعْلُ دَلِيلِ الْخُصُوصِ دَلِيلَ الْعَدَمِ. أَصْلُ هَذَا الْفَصْلِ، وَهُوَ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ فَاحْفَظْ هَذَا الْأَصْلَ، وَأَحْكِمْهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ فِقْهًا كَثِيرًا، وَمُخَلِّصًا كَبِيرًا. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمُعَلِّلَ يَحْتَاجُ فِي رِعَايَةِ هَذَا الْأَصْلِ إلَى ضَبْطِ جَمِيعِ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ فِي كُلِّ صُورَةٍ لِيُمْكِنَهُ رَدُّ مَا يَرِدُ نَقْضًا عَلَيْهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ جَمِيعَ صُوَرِ التَّخْصِيصِ يَبْطُلُ بِهَذَا الْأَصْلِ فَكَانَتْ رِعَايَتُهُ وَاجِبَةً. قَوْلُهُ: (وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْخُصُوصُ عَلَى الْعِلَلِ الطَّرْدِيَّةِ) أَيْ يَلْزَمُ الْقَوْلُ بِالتَّخْصِيصِ فِي الْعِلَلِ الطَّرْدِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا قَائِمَةٌ بِصِيَغِهَا أَيْ بِصُوَرِهَا لَا بِمَعَانِيهَا؛ لِأَنَّ أَهْلَ الطَّرْدِ جَعَلُوا نَفْسَ الْوَصْفِ عِلَّةً مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى تَأْثِيرٍ فَكَانَ مُوجِبًا بِصِيغَتِهِ كَالنَّصِّ فَإِذَا تَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْهُ يَلْزَمُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُنَا فِي الزِّنَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ إنَّهُ حَرْثٌ لِلْوَلَدِ فَأُقِيمَ مَقَامَهُ، وَلَمَّا خُلِقَ الْوَلَدُ مِنْ مَائِهِمَا أَوْ اجْتَمَعَا عَلَى الْوَطْءِ جَاءَتْ بَيْنَهُمَا شُبْهَةُ الْبَعْضِيَّةِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ صَارَتْ بَنَاتُهَا وَأُمَّهَاتُهَا كَبَنَاتِهِ وَأُمَّهَاتِهِ وَآبَاؤُهُ كَآبَائِهَا، وَأَبْنَائِهَا فَلَزِمَ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَحْرُمْ الْأَخَوَاتُ وَالْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ فَقَالَ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الْأُولَى: إنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالنَّصِّ مَعَ قِيَامِ الْعِلَّةِ، وَقُلْنَا نَحْنُ بَلْ الْعِلَلُ صَارَتْ عِلَلًا شَرْعًا لَا بِذَوَاتِهَا، وَهِيَ لَمْ تُجْعَلْ عِلَّةً عِنْدَ مُعَارَضَةِ النَّصِّ، وَفِي هَذَا مُعَارَضَةٌ؛ لِأَنَّ حُكْمَ النَّصِّ يَزْدَادُ بِامْتِدَادِ الْحُرْمَةِ إلَى الْأَخَوَاتِ وَغَيْرِهِنَّ فَلَا يَبْقَى عِلَّةٌ عِنْدَ مُعَارَضَةِ النَّصِّ فَيَكُونُ عَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْخُصُوصِ فِي شَيْءٍ، وَهَذَا وَاضِحٌ جِدًّا، وَمَنْ أَحْكَمَ الْمَعْرِفَةَ، وَأَحْسَنَ الطَّوِيَّةَ سَهُلَ عَلَيْهِ تَخْرِيجُ الْجُمَلِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّخْصِيصِ كَمَا فِي النَّصِّ، وَإِلَّا يَلْزَمُ التَّنَاقُضُ بِخِلَافِ الْمَعَانِي الْخَالِصَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَظَائِفِ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى فَيُحْمَلُ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ فِيهَا عَلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ إنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا يَكُونُ تَنَاقُصًا.، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالْمَعَانِي الْخَالِصَةِ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ قَدْ يَجْرِي فِي الْمَعَانِي تَبَعًا لِلْأَلْفَاظِ إذْ الْمَعَانِي لَازِمَةٌ لِلْأَلْفَاظِ فَإِذَا خُصِّصَتْ الْأَلْفَاظُ فَقَدْ خُصِّصَتْ مَعَانِيهَا أَيْضًا لَكِنَّهُ لَا يَجْرِي فِي الْمَعَانِي الْمُجَرَّدَةِ قَصْدًا فَلِهَذَا قَالَ دُونَ الْمَعَانِي الْخَالِصَةِ. ثُمَّ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّخْصِيصَ عِنْدَ أَهْلِ الطَّرْدِ جَائِزٌ، وَلَكِنْ ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَنَّ أَهْلَ الطَّرْدِ زَعَمُوا أَنَّ الْعِلَلَ قِيَاسِيَّةٌ لَا تَقْبَلُ الْخُصُوصَ وَسَمَّوْا الْخُصُوصَ نَقْضًا لِزَعْمِهِمْ أَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِعَيْنِ الْوَصْفِ فَلَمْ يَجُزْ وُجُودُهُ بِلَا مَانِعٍ، وَلَا حُكْمٍ لَهُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَشَدُّ إنْكَارًا لِلتَّخْصِيصِ مِنْ أَهْلِ التَّأْثِيرِ ثُمَّ إذَا تَأَمَّلْت فِيمَا ذَكَرَ الْفَرِيقَانِ عَرَفْت أَنَّ الْخِلَافَ رَاجِعٌ إلَى الْعِبَارَةِ فِي التَّحْقِيقِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْهَا صَحِيحَةٌ عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ، وَفِي مَوْضِعِ التَّخَلُّفِ الْحُكْمُ مَعْدُومٌ بِلَا شُبْهَةٍ إلَّا أَنَّ الْعَدَمَ مُضَافٌ إلَى مَانِعٍ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَنَا إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ. قَوْلُهُ: (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ، وَمِمَّا يُضَافُ فِيهِ عَدَمُ الْحُكْمِ إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ قَوْلُنَا فِي الزِّنَا كَذَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ فَأُقِيمَ أَيْ الزِّنَا مَقَامَ الْوَلَدِ. فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ أَيْ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ عَدَمُ تَحْرِيمِ أَخَوَاتِ الْمُزَنِيَّةِ بِهَا وَعَمَّاتِهَا وَخَالَاتِهَا حَيْثُ لَمْ يَصِرْنَ كَأَخَوَاتِهِ وَعَمَّاتِهِ وَخَالَاتِهِ حَتَّى حَلَّ لَهُ التَّزَوُّجُ بِهِنَّ. أَنَّهُ أَيْ عَدَمَ تَحْرِيمِهِنَّ مَخْصُوصٌ بِالنَّصِّ يَعْنِي أَنَّهُمْ يَقُولُونَ الْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِلْحُرْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ، وَهِيَ شُبْهَةُ الْبَعْضِيَّةِ مَوْجُودَةٌ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ، وَلَكِنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَثْبُتْ لِمَانِعٍ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] فَإِنَّهُ يُوجِبُ إبَاحَةَ غَيْرِ الْمَذْكُورَاتِ. أَوْ قَوْلُهُ عَزَّ ذِكْرُهُ: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا» الْحَدِيثَ فَإِنَّهُمَا يُوجِبَانِ حُرْمَةَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ نِكَاحًا أَوْ وَطْئًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ لَا حُرْمَةَ الذَّوَاتِ فَخُصَّتْ تِلْكَ الْعِلَّةُ بِهَذَيْنِ النَّصَّيْنِ. ، وَقُلْنَا فِي هَذَا أَيْ فِي تَحْرِيمِهِنَّ عَلَى سَبِيلِ التَّأْبِيدِ مُعَارَضَةُ النَّصِّ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ الْمُوجِبَةَ لِحُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23] {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء: 23] {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] تُوجِبُ حُرْمَةَ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَالْآبَاءِ وَالْبَنِينَ خَاصَّةً فَلَوْ أَثْبَتْنَا حُرْمَةَ الْأَخَوَاتِ وَغَيْرِهِنَّ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ، وَهُوَ الزِّنَا لَازْدَادَ حُكْمُ النَّصِّ فِي الْفَرْعِ عَلَى حُكْمِهِ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ النِّكَاحُ فَيَكُونُ هَذَا تَغْيِيرًا لِلنَّصِّ، وَإِثْبَاتًا لِحُرْمَةٍ أُخْرَى بِالْعِلَّةِ فِي مُعَارَضَةِ النَّصِّ إذْ الْحُرْمَةُ الثَّابِتَةُ فِي الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ الْمُمْتَدَّةُ إلَى الْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ غَيْرُ الْحُرْمَةِ الْمُقْتَصِرَةِ عَلَى الْبَنَاتِ وَالْأُمَّهَاتِ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَصْلُحُ مُعَارِضَةً لِلنَّصِّ بِوَجْهٍ بَلْ تَعْدَمُ فِي مُقَابَلَتِهِ فَيَكُونُ عَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ لَا لِمَانِعٍ مَعَ قِيَامِ الْعِلَّةِ. وَهَذَا مِنْ أَمْثِلَةِ عَدَمِ الْعِلَّةِ لِفَوَاتِ وَصْفٍ مِنْهَا، وَهُوَ عَدَمُ تَحَقُّقِ شَرْطِهَا إذْ مِنْ شَرْطِهَا عَدَمُ النَّصِّ عَلَى مَا مَرَّ. وَمَنْ أَحْكَمَ الْمَعْرِفَةَ، وَأَحْسَنَ الطَّوِيَّةَ أَيْ الْعَقِيدَةَ يَعْنِي تَرَكَ التَّعَنُّتَ وَتَأَمَّلَ عَنْ إنْصَافٍ سَهُلَ عَلَيْهِ تَخْرِيجُ الْجُمَلِ الَّتِي لَمْ نَذْكُرْهَا وَيَتَرَاءَى أَنَّهَا تَخْصِيصٌ. عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَهُوَ إضَافَةُ عَدَمِ الْحُكْمِ إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرُوا أَنَّ عِلَلَ

[باب وجوه دفع العلل]

(بَابُ وُجُوهِ دَفْعِ الْعِلَلِ) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْعِلَلُ قِسْمَانِ طَرْدِيَّةٌ، وَمُؤَثِّرَةٌ وَعَلَى كُلِّ قِسْمٍ ضُرُوبٌ مِنْ الدَّفْعِ أَمَّا الْعِلَلُ الْمُؤَثِّرَةُ فَإِنَّ دَفْعَهَا بِطَرِيقٍ فَاسِدٍ وَبِطَرِيقٍ صَحِيحٍ. وَأَمَّا الْفَاسِدُ فَأَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ الْمُنَاقَضَةُ، وَفَسَادُ الْوَضْعِ، وَقِيَامُ الْحُكْمِ مَعَ عَدَمِ الْعِلَّةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ أَمَّا الْمُنَاقَضَةُ فَلِمَا قُلْنَا: إنَّ الصَّحِيحَ مِنْ الْعِلَلِ مَا ظَهَرَ أَثَرُهُ الثَّابِتُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ الْمُنَاقَضَةَ لَكِنَّهُ إذَا تَصَوَّرَ مُنَاقَضَةً وَجَبَ تَخْرِيجُهُ عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ عَدَمِ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ لَا لِمَانِعٍ يُوجِبُ الْخُصُوصَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالشَّرْعِ أَمَارَاتٌ فَيَجُوزُ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْهَا إلَى آخِرِهِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْأَمَارَةَ الْمُعْتَبَرَةَ لِبِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهَا الْأَمَارَةُ الْمُقَوِّيَةُ لِلظَّنِّ وَبِالنَّقْضِ يَزُولُ قُوَّةُ الظَّنِّ. أَوْ نَقُولُ هِيَ أَمَارَاتٌ بِشَرْطِ أَنْ لَا تَنْتَقِضَ كَمَا أَنَّهَا أَمَارَاتٌ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُعَارِضَهَا نَصٌّ. وَبِهِ خَرَّجَ الْجَوَابَ عَنْ تَمْثِيلِهِمْ بِالْغَيْمِ الرَّطْبِ فِي الشِّتَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ أَمَارَةً بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَخَلَّفَ الْمَطَرُ عَنْهُ أَصْلًا؛ وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَوَفُّرِ قُوَّةِ الظَّنِّ فِي كَوْنِ الْوَصْفِ أَمَارَةً عَلَى الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ هَذَا ظَنٌّ يُفِيدُ حُكْمًا شَرْعِيًّا فَلَا بُدَّ مِنْ بُلُوغِهِ نِهَايَةَ الْقُوَّةِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا مُطَّرِدًا وَبِالتَّخَلُّفِ يَزُولُ ذَلِكَ، وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ فِي الْغَيْمِ الرَّطْبِ. وَكَذَا اعْتِبَارُهُمْ جَوَازَ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ بِالْمَنْصُوصَةِ فَاسِدٌ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ تَخْصِيصُ الْمَنْصُوصَةِ أَيْضًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ مُخْتَارُ الشَّيْخِ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ تَنَاقَضَ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ التَّنَاقُضُ عَلَى الْمُسْتَنْبَطَةِ لَا يَجُوزُ فِي الْمَنْصُوصَةِ فَإِذَا وُجِدَتْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مُتَخَلِّفًا عَنْهَا حُكْمُهَا عُلِمَ أَنَّهَا كَانَتْ بَعْضَ الْعِلَّةِ فِي مَوْضِعِ النَّصِّ كَمَا قُلْنَا فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ. وَلَئِنْ سَلَّمْنَا جَوَازَ تَخْصِيصِهَا فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ دَلِيلَ صِحَّةِ الْمَنْصُوصَةِ هُوَ النَّصُّ فَحَسْبُ، وَقَدْ وُجِدَ فَصَحَّتْ وَحُمِلَ تَخَلُّفُ حُكْمِهَا عَنْهَا عَلَى التَّخْصِيصِ كَمَا فِي الْعَامِّ فَأَمَّا دَلِيلُ صِحَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ فَالتَّأْثِيرُ بِشَرْطِ الِاطِّرَادِ وَيَبْطُلُ ذَلِكَ بِالتَّخْصِيصِ لِفُتُورِ قُوَّةِ الظَّنِّ بِهِ. وَقَوْلُهُمْ امْتِنَاعُ مُوجِبِ الدَّلِيلِ لِمَانِعٍ مِمَّا لَا يَرُدُّهُ الْعَقْلُ فَاسِدٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّا قَدْ أَقَمْنَا الدَّلِيلَ عَلَى فَسَادِهِ. وَاعْتِبَارُهُمْ بِالْعِلَّةِ الْمَحْسُوسَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَا تُؤَثِّرُ إلَّا فِي مَحَلِّهَا وَالطَّلْقُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْإِحْرَاقِ كَالْمَاءِ فَامْتِنَاعُ الْحُكْمِ فِيهِ لَا يَكُونُ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ. وَكَذَا النَّارُ لَمْ تَبْقَ عِلَّةً فِي حَقِّ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُعْجِزَةً لَهُ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] ، وَكَانَ عَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ لَا لِمَانِعٍ أَوْجَبَ تَخْصِيصَهَا. وَفِي الْمَسْأَلَةِ كَلَامٌ طَوِيلٌ لِلْفَرِيقَيْنِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ مُقْنِعٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ وُجُوهِ دَفْعِ الْعِلَلِ] [أَقْسَام الْعِلَل] [الْعِلَل الْمُؤْثَرَة وَطُرُق دُفَعهَا] [دَفْعِ الْعِلَل الْمُؤْثَرَة بِطَرِيقِ فاسد وَطَرِيق صَحِيح] (بَابُ وُجُوهِ دَفْعِ الْعِلَلِ) : وَلَمَّا بَيَّنَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - شُرُوطَ الْقِيَاسِ وَرُكْنَهُ وَحُكْمَهُ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْقِسْمِ الرَّابِعِ، وَهُوَ الدَّفْعُ. فَقَالَ الْعِلَلُ قِسْمَانِ طَرْدِيَّةٌ، وَمُؤَثِّرَةٌ. وَالِاحْتِجَاجُ بِالطَّرْدِ، وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا إلَّا أَنَّهُ لَمَّا عَمَّ بَيْنَ الْجَدَلِيِّينَ، وَمَالَ إلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ النَّظَرِ ذَكَرَ الْعِلَلَ الطَّرْدِيَّةَ فِي التَّقْسِيمِ لِيُبَيِّنَ الِاعْتِرَاضَاتِ الْوَارِدَةَ عَلَيْهَا. وَعَلَى كُلِّ قِسْمٍ ضُرُوبٌ مِنْ الدَّفْعِ أَيْ أَنْوَاعٌ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ بَعْضُهَا صَحِيحٌ وَبَعْضُهَا فَاسِدٌ كَمَا ذَكَرَ. الْمُنَاقَضَةُ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْ الْوَصْفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ لِمَانِعٍ أَوْ لِغَيْرِ مَانِعٍ عِنْدَ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ إذْ التَّخْصِيصُ مُنَاقَضَةٌ عِنْدَهُمْ. وَعِنْدَ مَنْ جَوَّزَ التَّخْصِيصَ هِيَ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَمَّا ادَّعَاهُ الْمُعَلِّلُ عِلَّةً لَا لِمَانِعٍ. وَفَسَادُ الْوَضْعِ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الْجَامِعِ فِي الْقِيَاسِ بِحَيْثُ قَدْ ثَبَتَ اعْتِبَارُهُ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ فِي نَقِيضِ الْحُكْمِ. وَعِبَارَةُ بَعْضِهِمْ فَسَادُ الْوَضْعِ أَنْ لَا يَكُونَ الْقِيَاسُ عَلَى الْهَيْئَةِ الصَّالِحَةِ لِاعْتِبَارِهِ فِي تَرْتِيبِ الْحُكْمِ كَتَلَقِّي التَّضْيِيقِ مِنْ التَّوَسُّعِ وَالتَّخْفِيفِ مِنْ التَّغْلِيظِ وَالْإِثْبَاتِ مِنْ النَّفْيِ وَبِالْعَكْسِ. وَصُورَةُ الْفَرْقِ أَنْ يَقُولَ السَّائِلُ لَيْسَ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ مَا ذَكَرْت، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى فِيهِ كَذَا، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي الْفَرْعِ. قَوْلُهُ: (أَمَّا الْمُنَاقَضَةُ) أَيْ الْفَسَادُ الدَّفْعُ

مِثْلُ قَوْلِنَا مَسْحٌ فِي وُضُوءٍ فَلَا يُسَنُّ تَكْرَارُهُ كَمَسْحِ الْخُفِّ لَا يَلْزَمُ الِاسْتِنْجَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَسْحٍ بَلْ إزَالَةٌ لِلنَّجَاسَةِ أَلَا تَرَى الْحَدَثَ إذَا لَمْ يُعْقِبْ أَثَرًا لَمْ يُسَنَّ مَسْحُهُ، وَهَذَا يُذْكَرُ فِي آخِرِ هَذَا الْفَصْلِ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالْمُنَاقَضَةِ فَلِأَنَّ الْمُنَاقَضَةَ لَا تَرِدُ عَلَى الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ إذْ التَّأْثِيرُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلِ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ الْإِجْمَاعِ، وَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ لَا تَحْتَمِلُ التَّنَاقُضَ فَكَذَا التَّأْثِيرُ الثَّابِتُ بِهَا؛ لِأَنَّ فِي مُنَاقَضَتِهِ مُنَاقَضَةَ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ. مِثَالُ ذَلِكَ مَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي شَهَادَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ هَذِهِ شَهَادَةٌ تَمَكَّنَتْ فِيهَا تُهْمَةٌ فَلَا تُقْبَلُ كَشَهَادَةِ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَبِالْعَكْسِ فَلَوْ أَوْرَدَ عَلَيْهِ شَهَادَةَ صَاحِبِ الدَّيْنِ لِمَدْيُونِهِ أَوْ شَهَادَةَ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِصَاحِبِهِ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مَعَ وُجُودِ التُّهْمَةِ فِي الْفَرْعِ كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ التُّهْمَةَ مَانِعَةٌ مِنْ الْقَبُولِ فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِنَقِيضِهِ سَفَهًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَقِضُ لَكِنْ يَجِبُ عَلَى الْمُجِيبِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ التُّهْمَةَ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ فِيمَا ذَكَرَ السَّائِلُ، وَيَجِبُ عَلَى السَّائِلِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِأَنَّ التُّهْمَةَ فِي الْفَرْعِ أَعْنِي شَهَادَةَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ لَا بِالنَّقْضِ كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ. فَإِنْ قِيلَ الْعِلَلُ الْمُؤَثِّرَةُ تَحْتَمِلُ الْمُعَارَضَةَ بِالِاتِّفَاقِ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ تَحْتَمِلُ حَقِيقَةَ التَّعَارُضِ كَمَا لَا تَحْتَمِلُ حَقِيقَةَ التَّنَاقُضِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا بِالْمُنَاقَضَةِ كَمَا يَصِحُّ بِالْمُعَارَضَةِ (قُلْنَا) النُّصُوصُ قَدْ تَحْتَمِلُ لُزُومَ التَّعَارُضِ صُورَةً بِحَيْثُ يَجِبُ التَّهَاتُرُ وَيَرْجِعُ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ لِجَهْلِنَا بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فَكَذَا الْعِلَلُ الْمُسْتَنْبَطَةُ مِنْهَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَارَضَ لِجَهْلِنَا بِمَا هُوَ عِلَّةُ الْحُكْمِ حَقِيقَةً فَأَمَّا النُّصُوصُ فَلَا تَحْتَمِلُ التَّنَاقُضَ فَكَذَا الْعِلَلُ الثَّابِتَةُ بِهَا. وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى مِنْهُ أَنَّ التَّنَاقُضَ يُبْطِلُ نَفْسَ الدَّلِيلِ وَيَلْزَمُ مِنْهُ نِسْبَةُ الْجَهْلِ وَالسَّفَهِ إلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُمَا فَأَمَّا التَّعَارُضُ فَلَا يُبْطِلُ الدَّلِيلَ بَلْ يُقَرِّرُهُ وَيُؤَدِّي إلَى نِسْبَةِ الْجَهْلِ إلَيْنَا لَا إلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ وَذَلِكَ جَائِزٌ كَذَا قِيلَ. لَكِنَّهُ الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ إذَا تَصَوَّرَ مُنَاقَضَتَهُ أَيْ مُنَاقَضَةَ الصَّحِيحِ مِنْ الْعِلَلِ أَيْ إذَا وَقَعَ صُورَةُ نَقْضٍ فِي الْعِلَّةِ الصَّحِيحَةِ وَجَبَ تَخْرِيجُهُ أَيْ تَخْرِيجُ النَّقْضِ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ مِنْ عَدَمِ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ بِاعْتِبَارِ نُقْصَانِ وَصْفٍ أَوْ زِيَادَتِهِ. مِثْلُ قَوْلِنَا فِي مَسْأَلَةِ تَكْرَارِ الْمَسْحِ إنَّهُ مَسْحٌ مَشْرُوعٌ فِي الطَّهَارَةِ فَلَا يُسَنُّ تَكْرَارُهُ كَمَسْحِ الْخُفِّ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْأَحْجَارِ نَقْضًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَسْحٍ بَلْ الْمَشْرُوعُ فِيهِ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعَقِّبْ أَثَرًا بِأَنْ خَرَجَ مِنْهُ رِيحٌ لَا يُسَنُّ مَسْحُهُ بَلْ الِاسْتِنْجَاءُ مِنْ الرِّيحِ بِدْعَةٌ عَلَى مَا قِيلَ. وَبِدَلِيلِ أَنَّ غَسْلَ الْمَخْرَجِ بِالْمَاءِ أَفْضَلُ، وَلَوْ كَانَ الْمَشْرُوعُ مَسْحًا لَكَانَ الْغَسْلُ بِدْعَةً كَمَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ، وَمَسْحِ الْخُفِّ. ثُمَّ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ فَسَادِ دَفْعِ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ بِالْمُنَاقَضَةِ مُخْتَارُ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ وَالشَّيْخَيْنِ، وَمُتَابِعِيهِمْ. وَمَذْهَبُ عَامَّةِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ النَّقْضَ سُؤَالٌ صَحِيحٌ يَبْطُلُ بِهِ الْعِلَّةُ خُصُوصًا عِنْدَ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ فَإِنَّ التَّخْصِيصَ إذَا لَمْ يَجُزْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ النَّقْضُ مُبْطِلًا لِلْعِلَّةِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُعَلِّلَ مَتَى نَصَبَ عِلَّةً قَدْ الْتَزَمَ طَرْدَهَا، وَادَّعَى أَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ مَتَى وُجِدَتْ فَالْحُكْمُ يَتْبَعُهَا فَإِذَا لَمْ يَفِ بِقَوْلِهِ وَوُجِدَ عَلَيْهِ مُنَاقَضَةٌ بَطَلَتْ عِلَّتُهُ لِعَدَمِ وَفَائِهِ لِدَعْوَاهُ وَتَصْحِيحِهِ مَا يَدَّعِيهِ ثُمَّ عَلَى الْمُعَلِّلِ الدَّفْعُ بِبَيَانِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي جَعَلَهُ عِلَّةً فَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ لَزِمَ النَّقْضُ وَبَطَلَتْ الْعِلَّةُ وَظَهَرَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مُؤَثِّرَةً. قُلْت فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الشَّيْخِ مَا ذَكَرَ أَنَّ سُؤَالَ الْمُنَاقَضَةِ فَاسِدٌ عَلَى الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ فَسَادَهُ بَعْدَمَا ظَهَرَ تَأْثِيرُهَا بِاتِّفَاقِ الْخَصْمَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمِثَالِ فَأَمَّا قَبْلَ تَسْلِيمِ الْخَصْمِ ظُهُورَ التَّأْثِيرِ فَهُوَ صَحِيحٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ مُمَانِعَةٌ فِي نَفْسِ الْوَصْفِ فِي التَّحْقِيقِ. وَنُقِلَ عَنْ

وَكَذَلِكَ فَسَادُ الْوَضْعِ لَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْأَثَرِ إذْ لَا يُوصَفُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ بِالْفَسَادِ. وَأَمَّا عَدَمُ الْعِلَّةِ، وَقِيَامُ الْحُكْمِ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِاحْتِمَالِ عِلَّةٍ أُخْرَى أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَكْسَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْعِلَّةِ لَكِنَّهُ دَلِيلٌ مُرَجِّحٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQبَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ النَّقْضَ لَيْسَ مِنْ مُبْطِلَاتِ الْعِلَّةِ، وَمَنْ أَلْزَمَ عَلَيْهِ نَقْضٌ فَعَلَيْهِ تَعْلِيلُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نُقِضَتْ بِهَا. وَبَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَدَّعِي اطِّرَادَ الْعِلَّةِ فِيهَا. وَلَكِنَّ الْحَقَّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ مِنْ مُفْسِدَاتِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَمَّا كَانَتْ مُسْتَلْزِمَةً لِلْحُكْمِ لَا يَجُوزُ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْهَا إلَّا لِمَانِعٍ أَوْ لِزَوَالِ قَيْدٍ، وَلَمَّا رَأَيْنَاهَا قَدْ تَخَلَّفَ حُكْمُهَا بِدُونِ الْمَانِعِ أَوْ بِدُونِ زَوَالِ وَصْفٍ عَلِمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعِلَّةٍ. قَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ فَسَادُ الْوَضْعِ) أَيْ، وَكَمَا لَا يُتَصَوَّرُ الْمُنَاقَضَةُ بَعْدَ صِحَّةِ الْأَثَرِ وَظُهُورِهِ لَا يُتَصَوَّرُ فَسَادُ الْوَضْعِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ التَّأْثِيرَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ فَبَعْدَ ذَلِكَ دَعْوَاهُ أَنَّ الْوَصْفَ يَأْبَى عَنْ هَذَا الْحُكْمِ، وَأَنَّهُ فِي وَضْعِهِ فَاسِدٌ لَا تُسْمَعُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ لَا يَضَعُ الْفَاسِدَ، وَهُوَ مِثْلُ النَّقْضِ بَلْ أَقْوَى مِنْهُ عَلَى مَا يَأْتِيك بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا عَدَمُ الْعِلَّةِ، وَقِيَامُ الْحُكْمِ فَلَا بَأْسَ بِهِ أَيْ لَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ مُوجِبَةٌ لِهَذَا الْحُكْمِ فَإِذَا ظَهَرَ أَثَرُهَا فِي جِنْسِ ذَلِكَ الْحُكْمِ وَجَبَ إثْبَاتُ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِهَا. فَأَمَّا ثُبُوتُهُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى فَجَائِزٌ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ لَمْ يَقَعْ لِإِبْطَالِ عِلَّةٍ أُخْرَى بَلْ لِإِيجَابِ الْحُكْمِ بِهَا، وَمَعَ كَوْنِهِ ثَابِتًا بِهَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الثُّبُوتَ بِعِلَّةٍ لَا يُنَافِي الثُّبُوتَ بِعِلَّةٍ أُخْرَى أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُكْمَ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ حَتَّى إذَا رَجَعَ اثْنَانِ قَبْلَ الْقَضَاءِ يَبْقَى الْقَضَاءُ وَاجِبًا بِشَهَادَةِ الْبَاقِينَ فَلَا يَكُونُ عَدَمُ الْعِلَّةِ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ فِي مَوْضِعٍ ثَابِتًا بِعِلَّةٍ أُخْرَى دَلِيلَ فَسَادِ الْعِلَّةِ. وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ أَوْ بِعِلَلٍ مُسْتَقِلَّةٍ جَائِزٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ، وَأَنْكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ وَعَلَيْهِ يُبْتَنَى اشْتِرَاطُ الْعَكْسِ، وَهُوَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْعِلَّةِ لِصِحَّةِ الْعِلَّةِ فَمَنْ مَنَعَ مِنْ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ لَزِمَهُ الْقَوْلُ بِانْحِصَارِ عِلَّةِ الْحُكْمِ فِي وَاحِدَةٍ، وَلَزِمَ مِنْهُ اشْتِرَاطُ الِانْعِكَاسِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِلَّةٍ فَإِذَا اتَّحَدَتْ الْعِلَّةُ انْتَفَى الْحُكْمُ بِانْتِفَائِهَا إذْ لَوْ بَقِيَ لَكَانَ ثَابِتًا مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ. وَمَنْ جَوَّزَ تَعْلِيلَهُ بِعِلَّتَيْنِ لَا يَلْزَمُهُ الْقَوْلُ بِاشْتِرَاطِ الِانْعِكَاسِ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ بَعْضِ الْأَدِلَّةِ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ دَلِيلٍ آخَرَ. احْتَجَّ الْمَانِعُونَ بِأَنَّهُ لَوْ جَازَ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ أَوْ بِعِلَلٍ مُسْتَقِلَّةٍ لَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ فِي التَّعْلِيلِ غَيْرَ مُسْتَقِلَّةٍ بِهِ، وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِ الْعِلَّةِ مُسْتَقِلَّةً بِالتَّعْلِيلِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِهَا وَحْدَهَا دُونَ غَيْرِهَا فَإِذَا تَعَدَّدَتْ الْعِلَّةُ يَلْزَمُ مِنْ اسْتِقْلَالِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عَدَمُ اسْتِقْلَالِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا لِاسْتِلْزَامِ عِلِّيَّةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ عَدَمَ عِلِّيَّةِ الْغَيْرِ فَضْلًا عَنْ اسْتِقْلَالِهَا. يُبَيِّنُهُ أَنَّ الْأَئِمَّةَ تَعَلَّقُوا بِالتَّرْجِيحِ فِي عِلَّةِ الرِّبَا فَرَجَّحَ بَعْضُهُمْ الْكَيْلَ وَبَعْضُهُمْ الطُّعْمَ وَبَعْضُهُمْ الْقُوتَ تَفَادِيًا عَنْ لُزُومِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ، وَلَوْلَا امْتِنَاعُهُ لَمْ يُرَجِّحُوا الْبَعْضَ بَلْ جَوَّزُوا كَوْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ عِلَّةً مِنْ صِحَّةِ اسْتِقْلَالِ وَاحِدَةٍ مِنْهَا بِالْعِلِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِقْلَالَ مِنْ ضَرُورَةِ التَّرْجِيحِ بَعْدَ التَّعَارُضِ، وَلَا تَعَارُضَ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا فِي قُوَّةِ صَاحِبِهِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ فَعَلَى هَذَا لَوْلَا صِحَّةُ اسْتِقْلَالِ كُلٍّ بِالْعِلِّيَّةِ لَمَا رَجَّحُوا. وَاحْتَجَّ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ أَمَارَاتٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَا يَمْتَنِعُ نَصْبُ عَلَامَتَيْنِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِي الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ. وَدَلِيلُ جَوَازِهِ وُقُوعُهُ فَإِنَّ الْحَدَثَ يَقَعُ بِالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْمَذْيِ وَخُرُوجِ الدَّمِ

وَأَمَّا الْفَرْقُ فَإِنَّمَا فَسَدَ لِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ. أَحَدُهَا أَنَّ السَّائِلَ مُنْكِرٌ فَسَبِيلُهُ الدَّفْعُ دُونَ الدَّعْوَى فَإِذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ مَعْنًى آخَرَ انْتَصَبَ مُدَّعِيًا؛ وَلِأَنَّ دَعْوَاهُ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ الْجِرَاحَةِ مَعًا مَعَ اسْتِقْلَالِ كُلٍّ مِنْهَا فِي إيجَابِ الْحَدَثِ. وَكَذَا الْقَتْلُ حُكْمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ إبْطَالَ حَيَاةِ الْوَاحِدِ شَيْءٌ وَاحِدٌ ثُمَّ إنَّهُ قَدْ يَقَعُ بِالْقِصَاصِ وَالرِّدَّةِ مَعًا كَمَنْ قَتَلَ وَارْتَدَّ مَعَ اسْتِقْلَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي إيجَابِ الْقَتْلِ. وَكَذَا لَوْ جَمَعْتَ لَبَنَ زَوْجَةِ أَخِيكَ، وَلَبَنَ أُخْتِكَ، وَأَوْجَرْتَ مُرْتَضِعَةً دَفْعَةً مِنْهَا تَحْرُمُ عَلَيْكَ؛ لِأَنَّكَ عَمُّهَا وَخَالُهَا مَعَ أَنَّ الْحُرْمَةَ حُكْمٌ وَاحِدٌ مُعَلَّلٌ بِالْخُؤُولَةِ وَالْعُمُومَةِ إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُحَالَ إلَى أَحَدَيْهِمَا دُونَ الْأُخْرَى. فَإِنْ قِيلَ: الْعِلَلُ إذَا كَانَتْ مُتَعَدِّدَةً كَانَتْ الْأَحْكَامُ مُتَعَدِّدَةً تَقْدِيرًا؛ لِأَنَّ قَتْلَ الْقِصَاصِ مَثَلًا مُغَايِرٌ لِقَتْلِ الرِّدَّةِ، وَلِذَلِكَ يَنْتَفِي قَتْلُ الْقِصَاصِ بِالْعَفْوِ وَيَبْقَى الْآخَرُ، وَهُوَ قَتْلُ الرِّدَّةِ لِعَدَمِ عَوْدِهِ إلَى الْإِسْلَامِ وَبِالْعَكْسِ إذَا عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَعْفُ عَنْهُ يَنْتَفِي قَتْلُ الرِّدَّةِ وَيَبْقَى قَتْلُ الْقِصَاصِ، وَلَوْلَا تَغَايُرُ الْقَتْلَيْنِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. قُلْنَا: إضَافَةُ الشَّيْءِ إلَى أَحَدِ دَلِيلَيْهِ لَا يُوجِبُ تَعَدُّدًا فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَإِلَّا لَزِمَ مُغَايَرَةُ حَدَثِ الْبَوْلِ حَدَثَ الْغَائِطِ، وَهُوَ بَاطِلٌ. وَأَمَّا الْعَقْلُ فَلَا تَعَدُّدَ فِيهِ بَلْ فِي اسْتِنَادِهِ وَلِهَذَا كَانَ الزَّائِلُ بِالْعَفْوِ هُوَ اسْتِنَادُهُ إلَى الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ، وَالزَّائِلُ بِالْإِسْلَامِ هُوَ اسْتِنَادُهُ إلَى الرِّدَّةِ لَا نَفْسُ الْقَتْلِ فَإِنَّهُ بَاقٍ عَلَى مَا كَانَ، وَلَمْ يَزُلْ عَمَّا عَلَيْهِ. وَأَمَّا دَعْوَاهُمْ لُزُومَ التَّنَاقُضِ فَفَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَ مَعْنَى الِاسْتِقْلَالِ مَا ذَكَرُوا، وَلَا نُسَلِّمُ لَهُمْ ذَلِكَ بَلْ مَعْنَاهُ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ عِلَّةٍ إذَا انْفَرَدَتْ اسْتَقَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ ثَبَتَ بِهَا لَا غَيْرُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا تَنَاقُضَ فِي التَّعَدُّدِ إذْ قَدْ يَجْتَمِعُ لِحُكْمٍ وَاحِدٍ عِلَلٌ لَوْ انْفَرَدَتْ اسْتَقَلَّتْ بِإِثْبَاتِهِ كَمَا اجْتَمَعَ لِلْمِلْكِ، وَهُوَ حُكْمٌ وَاحِدٌ أَسْبَابٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْمِيرَاثِ وَغَيْرِهَا. وَكَذَا تَعَلُّقُهُمْ تَرْجِيحَ الْأَئِمَّةِ عِلَّةَ الرِّبَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ تَعَرَّضُوا لِلتَّرْجِيحِ بَلْ إنَّمَا تَعَرَّضُوا لِإِبْطَالِ كَوْنِ الْغَيْرِ عِلَّةً، وَلَوْ سَلَّمَ أَنَّهُمْ تَعَرَّضُوا لِلتَّرْجِيحِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ تَعَرَّضُوا لَهُ لِامْتِنَاعِ التَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ بَلْ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى اتِّحَادِ الْعِلَّةِ فِي الرِّبَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ اتِّحَادُ الْعِلَّةِ هَاهُنَا بِكَوْنِ الْمَجْمُوعِ عِلَّةً إذْ يَلْزَمُ مِنْهُ جَعْلُ عِلَلِ الرِّبَا الْمُخْتَلَفِ فِيهَا آخِرَ الْعِلَّةِ، وَلَا قَائِلَ بِهِ. وَإِذَا حَقَّقْت هَذَا عَلِمْت أَنَّ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ مِنْ عَدَمِ فَسَادِ الْعِلَّةِ لِوُجُودِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِهَا وَعَدَمُ اشْتِرَاطِ الْعَكْسِ لِصِحَّةِ الْعِلَّةِ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَإِنَّ عَلَى قَوْلِ أُولَئِكَ الْبَعْضِ وُجُودَ الْحُكْمِ بِدُونِ الْعِلَّةِ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهَا فَيَصِحُّ الدَّفْعُ بِهَذَا الْوَجْهِ عِنْدَهُمْ. قَوْلُهُ: (فَأَمَّا الْفَرْقُ فَإِنَّمَا فَسَدَ لِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ) وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ السَّائِلُ لَيْسَ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ مَا ذَكَرْت، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى مِنْهُ كَذَا، وَهُوَ مَفْقُودٌ فِي الْفَرْعِ وَلِهَذَا فَسَّرُوهُ بِأَنَّهُ بَيَانُ وَصْفٍ فِي الْأَصْلِ لَهُ مَدْخَلٌ فِي التَّعْلِيلِ، وَلَا وُجُودَ لَهُ فِي الْفَرْعِ وَاخْتُلِفَ فِيهِ فَزَعَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْفَرْقَ اعْتِرَاضٌ صَحِيحٌ وَسَمَّوْهُ فِقْهًا. قَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ فُقَهَاءِ خُرَاسَانَ، وَفُقَهَاءِ غَزْنَةَ مُسْتَدِلِّينَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْعِلَّةِ خُلُوُّهَا عَنْ الْمُعَارَضَةِ فَإِذَا عُورِضَتْ امْتَنَعَتْ صِحَّتُهَا. قَالُوا وَحَقِيقَتُهُ رَاجِعَةٌ إلَى أَنَّ الْمُعَلِّلَ لَا يَسْتَقِرُّ كَلَامُهُ مَا لَمْ يُبْطِلْ بِمَسْلَكِ السِّيَرِ كُلَّ مَا عَدَا عِلَّتَهُ مِمَّا يُمْكِنُ التَّعْلِيلُ بِهِ فَإِذَا عَلَّلَ، وَلَمْ يُسَيِّرْ فَعُورِضَ مَعْنَى الْأَصْلِ فَكَأَنَّهُ طُولِبَ بِالْوَفَاءِ بِالسِّيَرِ وَتَتَبُّعِ كُلِّ مَا عَدَا عِلَّتَهُ بِالنَّقْضِ وَالْإِبْطَالِ. وَقَدْ ثَبَتَ اعْتِنَاءُ السَّلَفِ بِالْفِرَقِ وَنُقِلَ ذَلِكَ فِي وَقَائِعَ جَرَتْ فِي مَجَامِعِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُمْ - مِنْهَا قِصَّةُ إجْهَاضِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

لَا يَصْلُحُ لِلتَّعْدِيَةِ إلَى هَذَا الْفَرْعِ لَا يَمْنَعُ التَّعْلِيلَ بِعِلَّةٍ مُتَعَدِّيَةٍ فَلَمْ يَبْقَ لِدَعْوَاهُ اتِّصَالٌ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ وَلِأَنَّ الْخِلَافَ فِي حُكْمِ الْفَرْعِ وَلَمْ يَصْنَعْ بِمَا قَالَ فِي الْفَرْعِ إلَّا إنْ أَرَانَا عَدَمَ الْعِلَّةِ، وَعَدَمُ الْعِلَّةِ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عِنْدَ مُقَابَلَةِ الْعَدَمِ عَلَى مَا مَرَّ ذِكْرُهُ فَلَأَنْ لَا يَصْلُحَ دَلِيلًا عِنْدَ مُقَابَلَةِ الْحُجَّةِ أَوْلَى. ـــــــــــــــــــــــــــــQلَمَّا اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ فِي ذَلِكَ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ إنَّمَا أَنْتَ مُؤَدِّبٌ، وَلَا أَرَى عَلَيْك شَيْئًا، وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنْ لَمْ يَجْتَهِدْ فَقَدْ غَشَّك، وَإِنْ اجْتَهَدَ فَقَدْ أَخْطَأَ أَرَى أَنَّ عَلَيْك الْغُرَّةَ. فَعَبْدُ الرَّحْمَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَبَّهَ فِعْلَهُ بِالْمُبَاحَاتِ الَّتِي لَا تُوجِبُ ضَمَانًا وَجَعَلَ الْجَامِعَ أَنَّهُ فَعَلَ مَا لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ. وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَتَشَبَّثَ بِالْفَرْقِ، وَأَبَانَ أَنَّ الْمُبَاحَاتِ الْمَضْبُوطَةَ النِّهَايَاتِ لَيْسَتْ كَالتَّعْزِيرَاتِ الَّتِي يَجِبُ الْوُقُوفُ فِيهَا دُونَ مَا يُؤَدِّي إلَى الْإِتْلَافِ، وَلَوْ تَتَبَّعْنَا مُعْظَمَ مَا خَاضَ فِيهِ الصَّحَابَةُ مِنْ الْمَسَائِلِ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُفَرِّقُونَ وَيَجْمَعُونَ. ثُمَّ الْغَرَضُ مِنْ الْفَرْقِ لَيْسَ مُقَابَلَةَ عِلَّةِ الْأَصْلِ بِعِلَّةِ الْفَرْعِ بَلْ الْغَرَضُ بَيَانُ مُنَاقَضَةِ الْجَمْعِ، وَإِبْطَالُ فِقْهِهِ، وَإِلْحَاقُهُ بِالطَّرْدِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ يَنْتَظِمُ بِفَرْعٍ، وَأَصْلٍ، وَمَعْنًى رَابِطٍ بَيْنَهُمَا عَلَى شَرَائِطَ مَعْلُومَةٍ وَالْفَرْقُ مَعْنًى يَشْمَلُ ذِكْرَ أَصْلٍ، وَفَرْعٍ، وَهُمَا يَفْتَرِقَانِ فِي الْمَعْنَى فَكَانَ وُقُوعُهُ عَلَى نَقِيضِ غَرَضِ الْجَمْعِ وَيَظْهَرُ لَهُ فِقْهٌ يُشْعِرُ بِمُفَارَقَةِ الْفَرْعِ الْأَصْلَ عَلَى مُنَاقَضَةِ الْجَمْعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَكُونُ هَذَا اعْتِرَاضًا صَحِيحًا. وَذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ إلَى أَنَّهُ اعْتِرَاضٌ فَاسِدٌ لَا يَبْطُلُ بِهِ الْعِلَّةُ لِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ كَمَا ذَكَرَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. أَحَدُهَا أَنَّ السَّائِلَ جَاهِلٌ مُسْتَرْشِدٌ فِي مَوْقِفِ الْإِنْكَارِ إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ الْحُجَّةُ لَا فِي مَوْضِعِ الدَّعْوَى فَإِذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ مَعْنًى آخَرَ انْتَصَبَ مُدَّعِيًا، وَلَمْ يَبْقَ سَائِلًا فَيَكُونُ تَجَاوُزًا عَنْ حَدِّهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. بِخِلَافِ مَا إذَا عَارَضَهُ فِي الْفَرْعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ سَائِلًا بَعْدُ حَيْثُ تَمَّ دَلِيلُ الْمُعَلِّلِ بَلْ يَكُونُ مُدَّعِيًا ابْتِدَاءً فَأَمَّا مَا دَامَ فِي مَوْقِفِ الْإِنْكَارِ فَلَمْ يَسَعْ لَهُ الدَّعْوَى. وَالثَّانِي أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا بِعِلَّتَيْنِ ثُمَّ يَتَعَدَّى الْحُكْمُ إلَى بَعْضِ الْفُرُوعِ بِإِحْدَى الْعِلَّتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى فَبِأَنْ عَدِمَ فِي الْفَرْعِ الْوَصْفَ الَّذِي يَدُومُ بِهِ السَّائِلُ الْفَرْقَ إنْ سَلِمَ لَهُ أَنَّهُ عِلَّةٌ لِإِثْبَاتِ حُكْمٍ فِي الْأَصْلِ لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يُعَدِّيَ حُكْمَ الْأَصْلِ إلَى الْفَرْعِ بِالْوَصْفِ الَّذِي يَدَّعِيهِ أَنَّهُ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ فَلَمْ يَبْقَ لِدَعْوَى السَّائِلِ اتِّصَالٌ بِالْمَسْأَلَةِ إذْ كُلُّ سُؤَالٍ يُمْكِنُ لِلْمُعَلِّلِ الِاعْتِرَافُ بِهِ مَعَ الِاسْتِقْرَارِ عَلَى مُدَّعَاهُ كَانَ فَاسِدًا، وَلَا يَكُونُ قَدْحًا فِي كَلَامِ الْمُعَلِّلِ فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِهِ عَبَثًا. وَالثَّالِثُ أَنَّ الْخِلَافَ وَقَعَ فِي حُكْمِ الْفَرْعِ لَا فِي حُكْمِ الْأَصْلِ، وَلَمْ يَصْنَعْ السَّائِلُ بِمَا ذَكَرَ مِنْ الْفَرْقِ فِي الْفَرْعِ إلَّا أَنْ أَرَانَا عَدَمَ الْعِلَّةِ فِيهِ. وَعَدَمُ الْعِلَّةِ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ عِنْدَ مُقَابَلَةِ الْعَدَمِ يَعْنِي إذَا لَمْ يُوجَدْ دَلِيلٌ آخَرُ يُوجِبُ وُجُودَ الْحُكْمِ حَتَّى لَوْ عَلَّلَ، وَقَالَ الْحُكْمُ مَعْدُومٌ؛ لِأَنَّ عِلَّتَهُ مَعْدُومَةٌ لَا يَصِحُّ، وَإِنْ لَمْ يُعَارِضْهُ دَلِيلٌ مُوجِبٌ لِلْحُكْمِ عَلَى مَا مَرَّ ذِكْرُهُ فِي بَابِ الْمَقَالَةِ الثَّانِيَةِ فِي بَيَانِ فَسَادِ التَّعْلِيلِ بِالنَّفْيِ. فَلَأَنْ لَا يَصْلُحَ عَدَمُ الْعِلَّةِ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ عِنْدَ مُقَابَلَةِ الْحُجَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْحُكْمِ كَانَ أَوْلَى. قَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ: الْمُفَارَقَةُ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ مِنْ أَفْسَدِ الِاعْتِرَاضَاتِ إلَّا أَنْ يُذْكَرَ مَعْنًى فِي الْفَرْعِ يُفِيدُ خِلَافَ الْحُكْمِ الَّذِي أَفَادَهُ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، وَأَسْنَدَهُ إلَى أَصْلٍ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ مُعَارَضَةً، وَلَمْ يَبْقَ فَرْقًا. وَأَمَّا مَا ذَكَرُوا أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْعِلَّةِ خُلُوَّهَا عَنْ الْمُعَارَضَةِ فَمُسَلَّمٌ، وَلَكِنَّ الْمُعَارَضَةَ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِي حُكْمَيْنِ عَلَى التَّضَادِّ فَأَمَّا إذَا ذُكِرَتْ عِلَّتَانِ لِحُكْمٍ وَاحِدٍ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُعَارَضَةٍ. وَقَوْلُهُمْ لَا يَصِحُّ تَعْلِيلُ الْمُعَلِّلِ مَا لَمْ يُبْطِلْ كُلَّ مَا عَدَا عِلَّتَهُ بَاطِلٌ إذْ لَمْ يُكَلَّفْ الْمُعَلِّلُ سِوَى تَصْحِيحِ عِلَّتِهِ بِبَيَانِ

وَأَمَّا الْقِسْمُ الصَّحِيحُ فَوَجْهَانِ الْمُمَانَعَةُ وَالْمُعَارَضَةُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّأْثِيرِ فَأَمَّا السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا اخْتَارَهُ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي الْفِقْهِ. وَكَذَا مَا ذَكَرُوا مِنْ اعْتِنَاءِ السَّلَفِ بِالْفَرْقِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ إذْ لَمْ يُنْقَلْ الْمُفَارَقَةُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَخُوضُ فِيهِ عَنْهُمْ أَصْلًا. وَمَنْ تَأَمَّلَ فِيمَا نُقِلَ عَنْهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ الْمَعَانِيَ الْمُؤَثِّرَةَ، وَمَا ذَكَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي قِصَّةِ الْإِجْهَاضِ مَعْنًى صَحِيحٌ، وَاَلَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَعْنًى أَلْطَفُ مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ مَا فَعَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ جَائِزَ الْإِتْيَانِ بِهِ وَالتَّرْكِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى حَدٍّ مَضْبُوطٍ فِي الشَّرْعِ، وَمِثْلُهُ مُطْلَقٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَالْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ الْفَرْقِ وَالْجَمْعِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ بِوَجْهٍ. وَمَا ذَكَرُوا مِنْ ظُهُورِ فِقْهٍ إلَى آخِرِهِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُفَاقَهَةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي الْمُمَانَعَةِ دُونَ الْمُفَارَقَةِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ النَّاسِ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمُفَارَقَةَ مُفَاقَهَةٌ، وَلَعَمْرِي الْمُفَارَقَةُ مُفَاقَهَةٌ، وَلَكِنْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بَلْ الِاعْتِرَاضُ بِهَا عَلَى الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ مُجَادَلَةٌ لَا فَائِدَةَ فِيهَا فِي مَوْضِعِ النِّزَاعِ، وَإِنَّمَا الْمُفَاقَهَةُ فِي الْمُمَانَعَةِ حَتَّى يُبَيِّنَ الْمُجِيبُ تَأْثِيرَ عِلَّتِهِ فَالْفِقْهُ حِكْمَةٌ بَاطِنَةٌ، وَمَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ شَرْعًا فَهُوَ الْحِكْمَةُ الْبَاطِنَةُ فَالْمُطَالَبَةُ بِهِ تَكُونُ مُفَاقَهَةً فَأَمَّا الِاعْتِرَاضُ عَنْهَا وَالِاشْتِغَالُ بِالْفَرْقِ فَيَكُونُ قَبُولًا لِمَا فِيهِ احْتِمَالُ أَنْ لَا يَكُونَ حُجَّةً لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ وَاشْتِغَالًا لَا بِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ أَصْلًا فِي مَوْضِعِ النِّزَاعِ، وَهُوَ عَدَمُ الْعِلَّةِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ الْمُفَاقَهَةِ فِي شَيْءٍ.

[باب الممانعة]

(بَابُ الْمُمَانَعَةِ) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ، وَهِيَ أَسَاسُ النَّظَرِ؛ لِأَنَّ السَّائِلَ مُنْكِرٌ فَسَبِيلُهُ أَنْ لَا يَتَعَدَّى حَدَّ الْمَنْعِ وَالْإِنْكَارِ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ الْمُمَانَعَةُ فِي نَفْسِ الْحُجَّةِ، وَالْمُمَانَعَةُ فِي الْوَصْفِ الَّذِي جُعِلَ عِلَّةً أَمَوْجُودٌ فِي الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ أَمْ لَا، وَالْمُمَانَعَةُ فِي شَرْطِ الْعِلَّةِ، وَالْمُمَانَعَةُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ صَارَ دَلِيلًا أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِمَا لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي النِّكَاحِ إنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّا قَدْ قُلْنَا إنَّ الِاحْتِجَاجَ بِالنَّفْيِ وَالتَّعْلِيلِ بِهِ بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَمَسَّكَ بِالطَّرْدِ. وَأَمَّا الْمُمَانَعَةُ فِي الْوَصْفِ؛ فَلِأَنَّ التَّعْلِيلَ قَدْ يَقَعُ بِوَصْفٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ مِثْلُ قَوْلِنَا فِي إيدَاعِ الصَّبِيِّ إنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَى الِاسْتِهْلَاكِ، وَمِثْلُ قَوْلِنَا فِي صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ إنَّهُ مَنْهِيٌّ، وَإِنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى التَّحَقُّقِ؛ لِأَنَّ هَذَا نَسْخٌ عِنْدَ الْخَصْمِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الشَّرْعِيِّ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّحَقُّقِ عِنْدَهُ. وَمِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْغَمُوسِ إنَّهَا مَعْقُودَةٌ وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى، وَأَمَّا الْمُمَانَعَةُ فِي الشَّرْطِ فَقَدْ ذَكَرْنَا شُرُوطَ التَّعْلِيلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQ [بَابُ الْمُمَانَعَةِ] قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الْقِسْمُ الصَّحِيحُ) أَيْ دَفْعُ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ بِالطَّرِيقِ الصَّحِيحِ فَوَجْهَانِ الْمُمَانَعَةُ وَالْمُعَارَضَةُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْخَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا الْبَابِ جَعَلَ الدَّفْعَ بِالْمُنَاقَضَةِ، وَفَسَادِ الْوَضْعِ فَاسِدًا أَوْ الدَّفْعَ بِالْمُمَانَعَةِ صَحِيحًا. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِفَسَادِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَسَادَهُ قَبْلَ ظُهُورِ أَثَرِ الْوَصْفِ وَصِحَّتِهِ فَذَلِكَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ لِأَنَّ الِاعْتِرَاضَ بِالْمُمَانَعَةِ لَمَّا صَحَّ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ الْوَصْفُ صَحِيحًا أَوْ لَا يَكُونَ مُؤَثِّرًا صَحَّ الِاعْتِرَاضُ بِالْمُنَاقَضَةِ، وَفَسَادِ الْوَضْعِ أَيْضًا كَمَا فِي الْعِلَلِ الطَّرْدِيَّةِ. وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ فَاسِدٌ بَعْدَ ظُهُورِ صِحَّةِ الْوَصْفِ وَتَأْثِيرِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عِبَارَةُ التَّقْوِيمِ حَيْثُ قِيلَ فِيهِ دَعْوَى فَسَادِ الْوَضْعِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ مُؤَثِّرًا لَا يُتَصَوَّرُ. وَكَذَا دَعْوَى الْمُنَاقَضَةِ؛ لِأَنَّ النَّقْضَ لَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ ثُبُوتِ التَّأْثِيرِ بِدَلِيلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ فَذَلِكَ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنَّ الْمُمَانَعَةَ بَعْدَ ثُبُوتِ الْأَثَرِ فَاسِدَةٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْوَصْفِ لَمَّا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ لَمْ يَبْقَ مَحَلُّ الْمُمَانَعَةِ، وَلَمْ يَصِحَّ بَعْدَهُ إلَّا الْمُعَارَضَةُ فَثَبَتَ أَنَّ الْفَرْقَ الْمَذْكُورَ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ أَرَادَ فَسَادَهُ قَبْلَ ظُهُورِ التَّأْثِيرِ لَكِنَّهُ تَبَيَّنَ بِالتَّأْثِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ تَأْثِيرُ الْوَصْفِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلْمُنَاقَضَةِ، وَفَسَادِ الْوَضْعِ بِخِلَافِ الْمُمَانَعَةِ فَإِنَّهَا طَلَبُ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ الْوَصْفِ وَتَأْثِيرِهِ وَبَعْدَ ظُهُورِهِ لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّ ذَلِكَ الطَّلَبَ كَانَ بَاطِلًا. وَلَا يَخْلُو هَذَا الْجَوَابُ عَنْ وَهَاءٍ وَتَمَحُّلٍ كَمَا تَرَى. وَذَكَرَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيُسْرِ أَنَّ الِاعْتِرَاضَاتِ الصَّحِيحَةَ عَلَى الْعِلَلِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ: أَوَّلُهَا الْمُمَانَعَةُ، وَبَعْدَهَا بَيَانُ فَسَادِ الْوَضْعِ، وَبَعْدَهُ الْمُنَاقَضَةُ، وَبَعْدَ الثَّلَاثَةِ الْقَلْبُ وَالْعَكْسُ، وَالْخَامِسُ وَهُوَ الْأَخِيرُ الْمُعَارَضَةُ، وَبَيَّنَ هَذِهِ الْأَقْسَامَ ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الِاعْتِرَاضَاتُ الْفَاسِدَةُ فَلَا نِهَايَةَ لَهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ فَاسِدُ الْخَاطِرِ يَعْتَرِضُ بِمَا بَدَا لَهُ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى حَصْرِ الِاعْتِرَاضَاتِ الْفَاسِدَةِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ عَامَّةُ الْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (بَابُ الْمُمَانَعَةِ) . الْمُمَانَعَةُ أَوْقَعُ سُؤَالٍ عَلَى الْعِلَلِ، وَهِيَ أَسَاسُ النَّظَرِ أَيْ أَصْلُ الْمُنَاظَرَةِ؛ لِأَنَّهَا وُضِعَتْ عَلَى مِثَالِ الْخُصُومَاتِ فِي الدَّعَاوَى الْوَاقِعَةِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادَةِ فَالْمُعَلِّلُ يَدَّعِي لُزُومَ الْحُكْمِ الَّذِي رَامَ إثْبَاتَهُ عَلَى السَّائِلِ، وَالسَّائِلُ مُدَّعًى عَلَيْهِ فَكَانَ سَبِيلُهُ الْإِنْكَارَ كَمَا أَنَّ سَبِيلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْحُقُوقِ الْإِنْكَارُ وَدَفْعُ الدَّعَاوَى عَنْ نَفْسِهِ وَالْأَصْلُ فِي الْإِنْكَارِ الْمُمَانَعَةُ فَكَانَتْ الْمُمَانَعَةُ أَسَاسَ الْمُنَاظَرَةِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَجَاوَزَ إلَى غَيْرِهَا إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَهِيَ أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ مَا ادَّعَاهُ الْمُجِيبُ مُؤَثِّرًا فِي الْحُكْمِ فَيَتَجَاوَزُ عَنْهَا إلَى الْقَوْلِ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَيَشْتَغِلُ بِالْقَلْبِ ثُمَّ الْعَكْسِ ثُمَّ بِالْمُعَارَضَةِ فَإِذَا آلَ الْكَلَامُ إلَى الْمُعَارَضَةِ سَهُلَ الْأَمْرُ عَلَى الْمُجِيبِ فَثَبَتَ أَنَّ الْأَسَاسَ هُوَ الْمُمَانَعَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ وُجُوهِهَا كَذَا فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ. الْمُمَانَعَةُ فِي نَفْسِ الْحُجَّةِ أَيْ بِمَنْعِ كَوْنِ مَا تَمَسَّكَ بِهِ الْمُجِيبُ عِلَّةً بِأَنْ يَقُولَ لَا أُسَلِّمُ أَنَّ مَا ذَكَرْت مِنْ الْوَصْفِ صَالِحٌ لِكَوْنِهِ عِلَّةً ثُمَّ الْمُمَانَعَةُ فِي الْوَصْفِ يَعْنِي بَعْدَمَا ثَبَتَ صَلَاحِيَةُ الْوَصْفِ لِكَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَى الْحُكْمِ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِ فِي الْمَقِيسِ وَالْمَقِيسِ عَلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ لِيُثْبِتَهُ الْمُجِيبُ بِالدَّلِيلِ، ثُمَّ الْمُمَانَعَةُ فِي شُرُوطِ الْعِلَّةِ، وَهِيَ الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا فِي بَابِ شُرُوطِ الْقِيَاسِ ثُمَّ الْمُمَانَعَةُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي صَارَ الْوَصْفُ بِهِ دَلِيلًا عَلَى الْحُكْمِ، وَهُوَ الْأَثَرُ. أَمَّا الْأَوَّلُ أَيْ صِحَّةُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْمُمَانَعَةُ فِي نَفْسِ الْحُجَّةِ فَلِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِمَا لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا وَيَعْتَقِدُهُ حُجَّةً. مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ كَذَا فَإِنَّهُ تَمَسَّكَ بِلَا دَلِيلٍ؛ لِأَنَّا قَدْ قُلْنَا يَعْنِي فِي بَابِ الْمَقَالَةِ الثَّانِيَةِ إنَّ الِاحْتِجَاجَ بِالنَّفْيِ وَالتَّعْلِيلَ بِهِ بَاطِلٌ. وَكَذَا مَنْ تَمَسَّكَ بِالطَّرْدِ وَاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَتَعَارُضِ الْحَالِ وَتَعَارُضِ الْأَشْبَاهِ مُحْتَجٌّ بِلَا دَلِيلٍ فَلَوْ تُرِكَتْ الْمُمَانَعَةُ يَكُونُ قَبُولًا مِنْ الْخَصْمِ مَا لَا يَكُونُ حُجَّةً أَصْلًا وَذَلِكَ دَلِيلُ الْجَهْلِ فَكَانَتْ الْمُمَانَعَةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ دَلِيلَ الْفَقَاهَةِ كَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ. وَأَمَّا الْمُمَانَعَةُ فِي الْوَصْفِ أَيْ صِحَّةُ الْمُمَانَعَةِ فِي وُجُودِ الْوَصْفِ بَعْدَمَا سَلَّمَ أَنَّهُ صَالِحٌ فَلِأَنَّ التَّعْلِيلَ قَدْ يَقَعُ بِوَصْفٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ أَيْ مُخْتَلِفٍ فِي وُجُودِهِ لَا فِي كَوْنِهِ عِلَّةً. مِثْلُ قَوْلِنَا يَعْنِي قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي إيدَاعِ الصَّبِيِّ أَيْ فِيمَا إذَا أَوْدَعَ مِنْ الصَّبِيِّ شَيْئًا أَنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَى الِاسْتِهْلَاكِ لِمَا مَرَّ بَيَانُهُ فَهَذَا الْوَصْفُ مَمْنُوعٌ عِنْدَ الْخَصْمِ؛ لِأَنَّ الْإِيدَاعَ لَيْسَ بِتَسْلِيطٍ عِنْدَهُ إذْ لَوْ كَانَ تَسْلِيطًا عِنْدَهُ لَمَا بَقِيَ النِّزَاعُ فِي الْحُكْمِ. وَمِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ فِي الْغَمُوسِ أَنَّهَا مَعْقُودَةٌ، هَذَا تَعْلِيلٌ بِوَصْفٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْعَقْدِ عِنْدَهُ الْقَصْدُ وَعِنْدَنَا ارْتِبَاطُ اللَّفْظَيْنِ لِإِيجَابِ حُكْمِ الْبِرِّ عَلَى مَا عُرِفَ فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى الْخَصْمِ بَلْ كَانَ لَهُ أَنْ يَقُولَ لَا أُسَلِّمُ أَنَّهَا مَعْقُودَةٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْعَقْدِ عِنْدِي كَذَا أَوْ لَمْ يُوجَدْ. وَذَلِكَ أَيْ التَّعْلِيلُ بِالْوَصْفِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى. مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: الْمَذْهَبُ فِي السَّلَمِ الْحَالِّ أُسْلِمُ فِي مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ فَيَجُوزُ فَيُقَالُ لَهُ لِمَ قُلْت إنَّهُ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ بَلْ الْقُدْرَةُ مَعْدُومَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَحْصُلُ بِالْأَجَلِ، وَلَمْ يُوجَدْ. وَمِثْلُ قَوْلِهِ فِي شِرَاءِ مَا لَمْ يَرَهُ هَذَا شِرَاءُ شَيْءٍ مَجْهُولٍ فَلَا يَجُوزُ فَيُقَالُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ عِنْدَنَا وَاقِعٌ عَلَى الْعَيْنِ، وَهِيَ مَعْلُومَةٌ فَلَمْ يَكُنْ الْوَصْفُ الَّذِي ادَّعَاهُ عِلَّةً مَوْجُودًا. وَمِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَنْ اشْتَرَى قَرِيبَهُ مَعَ غَيْرِهِ إنَّ الْأَجْنَبِيَّ رَضِيَ بِاَلَّذِي وَقَعَ الْعِتْقُ بِهِ بِعَيْنِهِ

وَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يَمْنَعَ شَرْطًا مِنْهَا هُوَ شَرْطٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ عُدِمَ فِي الْفَرْعِ أَوْ الْأَصْلِ مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي السَّلَمِ الْحَالِّ إنَّهُ أَحَدُ عِوَضَيْ الْبَيْعِ فَثَبَتَ حَالًّا، وَمُؤَجَّلًا كَثَمَنِ الْبَيْعِ فَيُقَالُ لَهُ لَا خِلَافَ أَنَّ مَنْ شَرْطِ التَّعْلِيلَ أَنْ لَا يُغَيِّرَ حُكْمًا، وَالنَّصُّ أَنْ لَا يَكُونَ الْأَصْلُ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ بِحُكْمِهِ، وَأَنَّا لَا نُسَلِّمُ هَذَا الشَّرْطَ هَهُنَا وَالْمُمَانَعَةُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ صَارَ دَلِيلًا فَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَثَرِ؛ لِأَنَّ مَجْرَى الْوَصْفِ بِلَا أَثَرٍ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَهُ فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ مِنْ الْخَصْمِ عَلَى مَنْ لَا يَرَاهُ دَلِيلًا حَتَّى يُبَيِّنَ أَثَرَهُ وَسَبِيلَهُ فِي هَذَا كُلِّهِ الْإِنْكَارُ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْإِنْكَارُ مَعْنًى لَا صُورَةً مِثْلُ قَوْلِنَا فِي الْمُودَعِ يَدَّعِي الرَّدَّ، إنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ، وَهُوَ مُدَّعٍ صُورَةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQفَيَقُولُ الْخَصْمُ لَا أُسَلِّمُ أَنَّ الرِّضَاءَ كَانَ مَوْجُودًا. قَوْلُهُ: (وَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يَمْنَعَ السَّائِلُ شَرْطًا مِنْهَا) أَيْ مِنْ شُرُوطِ الْقِيَاسِ مَا هُوَ شَرْطٌ بِالْإِجْمَاعِ لِيُفِيدَ مَنْعُهُ بُطْلَانَ التَّعْلِيلِ فِي عَيْنِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ فَأَمَّا إذَا مَنَعَ شَرْطًا مُخْتَلَفًا فِيهِ فَيَقُولُ الْمُعَلِّلُ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدِي وَحِينَئِذٍ يُؤَوَّلُ الْكَلَامُ إلَى أَنَّ مَا مَنَعَهُ السَّائِلُ هَلْ هُوَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْقِيَاسِ أَمْ لَا وَذَلِكَ يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ إذْ الْمَقْصُودُ إثْبَاتُ حُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ دُونَ إثْبَاتِ شَرْطِ الْقِيَاسِ. وَمَعَ هَذَا لَوْ مَنَعَ شَرْطًا مُخْتَلَفًا فِيهِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يُفِيدُ دَفْعَ إلْزَامِ الْمُعَلِّلِ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ لَزِمَ مِنْهُ انْتِقَالُ الْكَلَامِ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ. وَلَفْظُ مَا فِي قَوْلِهِ مَا هُوَ شَرْطٌ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ " شَرْطًا " لَا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ. مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَيْ الشَّافِعِيِّ الْمَذْهَبِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فَيُقَالُ لَهُ: وَنَحْنُ لَا نُسَلِّمُ هَذَا الشَّرْطَ أَيْ وُجُودَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ النَّصْبِ يَتَغَيَّرُ بِهَذَا التَّعْلِيلِ فَيَصِيرُ مَا هُوَ رُخْصَةٌ نَقْلَ رُخْصَةِ إسْقَاطٍ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ. وَكَذَا جَوَازُ السَّلَمِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ أَيْضًا لِكَوْنِ الْمَبِيعِ مَعْدُومًا حَقِيقَةً فَلَا يَجْرِي فِيهِ الْقِيَاسُ. وَأَمَّا الْمُمَانَعَةُ فِي الْمَعْنَى يَعْنِي إذَا ثَبَتَ صَلَاحُ الْوَصْفِ وَوُجُودُهُ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَتَحَقُّقُ شَرَائِطِ الْقِيَاسِ كَانَ لِلسَّائِلِ أَنْ يَقُولَ لَا أُسَلِّمُ أَنَّ الْعَمَلَ بِهَذَا الْوَصْفِ وَاجِبٌ بَلْ الْعَمَلُ بِهِ جَائِزٌ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا جَازَ وَجَبَ كَالنَّوَافِلِ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَكَالْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ مَسْتُورِ الْحَالِ فَإِذْ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ أَنَّهُ وَاجِبُ الْعَمَلِ لِيَتِمَّ الْإِلْزَامُ عَلَى السَّائِلِ وَذَلِكَ بِبَيَانِ الْأَثَرِ كَالْكَافِرِ يُقِيمُ الشَّهَادَةَ عَلَى الْمُسْلِمِ إنْ كَانَ الشَّاهِدُ مُسْلِمًا يَكُونُ شَهَادَتُهُ حُجَّةً يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُسْلِمِ، وَإِنْ كَانَ حُجَّةً عِنْدَ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِي بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ يُرِيدُ الْإِيجَابَ عَلَى الْمُسْلِمِ كَذَا هَاهُنَا. وَسَبِيلُهُ أَيْ سَبِيلُ السَّائِلِ فِي هَذَا كُلِّهِ أَيْ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوهِ الْمُمَانَعَةِ الْإِنْكَارُ، وَأَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِلدَّعْوَى، وَلَا يَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ هُوَ فِي صُورَةِ الدَّعْوَى. فَإِذَا تَكَلَّمَ بِمَا هُوَ فِي صُورَةِ الدَّعْوَى لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ إنْكَارًا بِمَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْمَعَانِي دُونَ الصُّوَرِ كَالْمُودَعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ، وَأَنْكَرَهُ الْمُودِعُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُودَعِ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ مَعْنًى، وَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا لِلرَّدِّ صُورَةً. وَكَذَا الْبِكْرُ إذَا قَالَتْ بَلَغَنِي خَبَرُ النِّكَاحِ فَرَدَدْت، وَقَالَ الزَّوْجُ مَا رَدَّتْ بَلْ سَكَتَتْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ؛ لِأَنَّهَا تُنْكِرُ ثُبُوتَ مِلْكِ النِّكَاحِ عَلَيْهَا وَلُزُومَ الْعَقْدِ مَعْنًى، وَإِنْ كَانَتْ تَدَّعِي الرَّدَّ صُورَةً فَالْوُجُوهُ الْمَذْكُورَةُ مِنْ الْمُمَانَعَةِ إنْكَارٌ صُورَةً، وَمَعْنًى فَكَانَتْ صَحِيحَةً. وَلَوْ قَالَ السَّائِلُ إنَّ الْحُكْمَ مَا تَعَلَّقَ بِهَذَا الْوَصْفِ فَقَطْ بَلْ بِهِ وَبِقَرِينَةٍ أُخْرَى يَكُونُ إنْكَارًا مَعْنًى، وَإِنْ كَانَ دَعْوَى صُورَةً؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُتَعَلِّقَ بِعِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ لَا يَثْبُتُ بِوُجُودِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ فَيَكُونُ هَذَا مُمَانَعَةً صَحِيحَةً. وَذَلِكَ كَمَا لَوْ عَلَّلَ فِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِأَنَّهَا يَمِينٌ بِاَللَّهِ مَقْصُودَةٌ فَيَتَعَدَّى الْحُكْمُ بِهَذَا الْوَصْفِ إلَى الْغَمُوسِ فَيَقُولُ: الْحُكْمُ ثَبَتَ فِي الْأَصْلِ بِهَذَا الْوَصْفِ مَعَ قَرِينَةٍ، وَهِيَ تَوَهُّمُ الْبِرِّ فِيهَا فَيَكُونُ هَذَا مَنْعًا لِمَا ادَّعَاهُ الْخَصْمُ وَيَحْتَاجُ الْخَصْمُ إلَى إثْبَاتِ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ فَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ لَيْسَ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ مَا ذَكَرْت، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى فِيهِ كَذَا فَإِنْكَارٌ صُورَةً، وَلَكِنَّهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى دَعْوَى فَلَا يَكُونُ مُمَانَعَةً بَلْ هُوَ دَعْوَى فِي مَوْضِعِ النِّزَاعِ غَيْرُ مُفِيدَةٍ كَمَا بَيَّنَّا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[باب المعارضة]

بَابُ الْمُعَارَضَةِ) . قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَيْسَ لِلسَّائِلِ بَعْدَ الْمُمَانَعَةِ إلَّا الْمُعَارَضَةُ، وَهِيَ نَوْعَانِ مُعَارَضَةٌ فِيهَا مُنَاقَضَةٌ وَمُعَارَضَةٌ خَالِصَةٌ أَمَّا الْمُعَارَضَةُ الَّتِي فِيهَا مُنَاقَضَةٌ فَالْقَلْبُ وَهُوَ نَوْعَانِ وَيُقَابِلُهُ الْعَكْسُ وَهُوَ نَوْعَانِ لَكِنْ الْعَكْسُ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ـــــــــــــــــــــــــــــQ [بَابُ الْمُعَارَضَةِ] [النَّوْعُ الْأَوَّلِ الْمُعَارَضَةُ الَّتِي فِيهَا مُنَاقَضَةٌ] قَدْ مَرَّ تَفْسِيرُ الْمُعَارَضَةِ فِيمَا سَبَقَ وَالْمُرَادُ مِنْ الْمُعَارَضَةِ هُنَا تَسْلِيمُ الْمُعْتَرِضِ دَلَالَةَ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ مِنْ الْوَصْفِ عَلَى مَطْلُوبِهِ، وَإِنْشَاءُ دَلِيلٍ آخَرَ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَطْلُوبِهِ وَقِيلَ هِيَ مُمَانَعَةٌ فِي الْحُكْمِ مَعَ بَقَاءِ دَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ إذْ السَّائِلُ يَقُولُ لِلْمُجِيبِ مَا ذَكَرْت مِنْ الْوَصْفِ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى الْحُكْمِ لَكِنْ عِنْدِي مِنْ الدَّلِيلِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ فَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِدَلِيلِهِ بِالْإِبْطَالِ ثُمَّ الْمُعَارَضَةُ مِنْ السَّائِلِ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَزَعَمَ بَعْضُ الْجَدَلِيِّينَ أَنَّهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَهِضُ حِينَئِذٍ مُسْتَدِلًّا، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بَلْ لَهُ الِاعْتِرَاضُ الْمَحْضُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَصِحُّ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّتِهَا فَإِذَا انْتَصَبَ السَّائِلُ لِذَلِكَ كَانَ بَانِيًا مُسْتَدِلًّا لَا هَادِمًا مُعْتَرِضًا. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ الْمُعَارَضَةَ اعْتِرَاضٌ عَلَى الْعِلَّةِ فَتَكُونُ مَقْبُولَةً كَالْمُمَانَعَةِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا الْمُجِيبُ لَا تَتِمُّ حُجَّةً مَا لَمْ تَسْلَمْ عَنْ الْمُعَارَضَةِ فَإِنَّ الْمُعَارَضَةَ تُوجِبُ وُقُوفَ الْحُجَّةِ بِدَلِيلِ الْبَيِّنَاتِ وَبِدَلِيلِ أَنَّ الْقَوْلَ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً عِنْدَ السَّلَامَةِ عَنْ الْمُعَارَضَةِ فَكَانَتْ الْمُعَارَضَةُ اعْتِرَاضًا عَلَى الْعِلَّةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَتَكُونُ مَقْبُولَةً. وَإِنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي الْقِيَاسِ قُوَّةُ الظَّنِّ، وَإِذَا تَعَارَضَ الدَّلِيلَانِ يَفُوتُ بِهِ قُوَّةُ الظَّنِّ وَيَخْرُجُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِينَئِذٍ مِنْ أَنْ يَتَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا فَكَانَتْ الْمُعَارَضَةُ بَيَانَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ لَيْسَ بِعِلَّةٍ فَتَكُونُ اعْتِرَاضًا صَحِيحًا. فَإِنْ قِيلَ إنَّ السَّائِلَ، وَإِنْ قَصَدَ الِاعْتِرَاضَ وَلَكِنَّهُ أَتَى بِدَلِيلٍ مُبْتَدَأٍ صُورَةً فَيَكُونُ مَمْنُوعًا عَنْ ذَلِكَ كَمَا فِي الْمُفَارَقَةِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ قُلْنَا صُورَةُ الْأَدِلَّةِ مَا امْتَنَعَتْ عَنْ السَّائِلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا أَدِلَّةٌ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَتْ إذَا كَانَ السَّائِلُ مُعْرِضًا عَنْ الِاعْتِرَاضِ آتِيًا بِكَلَامٍ مُبْتَدَأٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مُعْتَرِضٌ بِهَذِهِ الْمُعَارَضَةِ فَتُسْمَعُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُسْمَعُ مِنْهُ اعْتِرَاضٌ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ إفَادَةً فَلَأَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ اعْتِرَاضٌ يَسْتَقِلُّ بِالْإِفَادَةِ وَبِقَدَحٍ فِي كَلَامِ الْخَصْمِ كَانَ أَوْلَى. ثُمَّ ذَكَرَ الشَّيْخُ هَاهُنَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلسَّائِلِ بَعْدَ الْمُمَانَعَةِ إلَّا الْمُعَارَضَةُ. وَذَكَرَ فِي نُسْخَةٍ أُخْرَى بَعْدَ بَيَانِ أَنْوَاعِ الْمُمَانَعَةِ أَنَّ التَّأْثِيرَ إذَا ثَبَتَ لِلْوَصْفِ تَجَاوَزَ السَّائِلُ عَنْ الْمُمَانَعَةِ إلَى الْقَوْلِ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ إنْ أَمْكَنَ ثُمَّ إلَى الْقَلْبِ ثُمَّ إلَى الْعَكْسِ الْكَاسِرِ ثُمَّ إلَى الْمُعَارَضَةِ، وَهُوَ أَوْضَحُ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ إذَا أَمْكَنَ بِتَسْلِيمِ مَا عَلَّلَهُ الْخَصْمُ مَعَ بَقَاءِ الْخِلَافِ مَعَ أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْمُمَانَعَةِ مِنْ الْمُعَارَضَةِ كَانَ أَوْلَى مِنْ الذَّهَابِ إلَى الْمُعَارَضَةِ الَّتِي هِيَ أَسْوَأُ أَحْوَالِ السَّائِلِ مُعَارَضَةٌ فِيهَا مُنَاقَضَةٌ أَيْ مُعَارَضَةٌ مُتَضَمِّنَةٌ لِإِبْطَالِ تَعْلِيلِ الْمُعَلِّلِ وَمُعَارَضَةٌ خَالِصَةٌ أَيْ مَحْضَةٌ لَا تَتَضَمَّنُ إبْطَالًا فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُعَارَضَةِ وَالْمُنَاقَضَةِ وَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ إذْ الْمُعَارَضَةُ تَسْتَلْزِمُ تَسْلِيمَ دَلِيلِ الْمُعَلِّلِ وَصِحَّةَ دَلَالَتِهِ عَلَى الْحُكْمِ وَالْمُنَاقَضَةُ تَتَضَمَّنُ بُطْلَانَ دَلِيلِهِ، وَفَسَادَ دَلَالَتِهِ عَلَى الْحُكْمِ، وَقَدْ اخْتَارَ الشَّيْخُ أَيْضًا أَنَّ الْمُنَاقَضَةَ لَا تَرِدُ عَلَى الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ فَكَيْفَ يُقْبَلُ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْمُعَارَضَةِ بَعْدَ ظُهُورِ التَّأْثِيرِ. قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُعَارَضَةَ تَسْلِيمُ الدَّلِيلِ مُطْلَقًا بَلْ هِيَ مُمَانَعَةٌ فِي الْحُكْمِ صُورَةً، وَمُمَانَعَةٌ لِلدَّلِيلِ مَعْنًى بِدَعْوَى عَدَمِ سَلَامَتِهِ عَنْ الْمُعَارِضِ فَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا تَنَافٍ إذْ الْمَقْصُودُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا

أَمَّا الْقَلْبُ فَلَهُ مَعْنَيَانِ فِي اللُّغَةِ يَقُومُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَرْبٌ مِنْ الِاعْتِرَاضِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَنْ يُجْعَلَ الشَّيْءُ مَنْكُوسًا أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ وَأَسْفَلُهُ أَعْلَاهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْإِبْطَالُ ثُمَّ هَذِهِ الْمُنَاقَضَةُ تَثْبُتُ فِي ضِمْنِ الْمُعَارَضَةِ فَلَا تَمْنَعُ الْقَبُولَ إذْ الِاعْتِبَارُ فِي مِثْلِ هَذَا لِلْمُتَضَمِّنِ دُونَ الْمُتَضَمَّنِ؛ وَلِأَنَّ الدَّلِيلَ بَعْدَ بَيَانِ التَّأْثِيرِ لِمَا قَبْلَ الْإِبْطَالِ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُؤَثِّرًا، وَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُعَلِّلُ مُشَبَّهٌ بِالْأَثَرِ، وَلَيْسَ بِأَثَرٍ فِي التَّحْقِيقِ وَالْمُنَاقَضَةُ إنَّمَا تَمْتَنِعُ عَلَى مَا هُوَ مُؤَثِّرٌ حَقِيقَةً كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ مَوْلَانَا حُمَيْدٍ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيُقَابِلُهُ الْعَكْسُ أَيْ يُقَابِلُ الْقَلْبَ الْعَكْسُ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ يُذْكَرُ لِإِبْطَالِ تَعْلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ، وَالْعَكْسُ يُذْكَرُ لِتَصْحِيحِهِ وَلِهَذَا يَذْكُرُهُ الْمُعَلِّلُ دُونَ السَّائِلِ فَكَانَ فِي مُقَابَلَتِهِ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْ بَابِ الْمُعَارَضَةِ؛ لِأَنَّ أَحَدَ نَوْعَيْهِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ مُرَجِّحَاتِ الْعِلَّةِ، وَالنَّوْعُ الثَّانِي لَيْسَ بِعَكْسٍ حَقِيقَةً بَلْ هُوَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقَلْبِ عَلَى مَا سَيَأْتِيك بَيَانُهُ فَلَا يَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي التَّحْقِيقِ لَكِنْ الْقَلْبُ لَمَّا ذُكِرَ فِي هَذَا الْبَابِ ذُكِرَ الْعَكْسُ بِمُقَابَلَتِهِ أَيْضًا لَا بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْمُعَارَضَةِ. قَوْلُهُ (أَمَّا الْقَلْبُ فَلَهُ مَعْنَيَانِ فِي اللُّغَةِ) مَعْنَى الْقَلْبِ فِي اللُّغَةِ تَغْيِيرُ هَيْئَةِ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ الْهَيْئَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا وَالْمَعْنَيَانِ الْمَذْكُورَانِ يَرْجِعَانِ إلَيْهِ وَبِالْمَعْنَيَيْنِ اُسْتُعْمِلَ فِي بَابِ الْقِيَاسِ، وَيَرْجِعُ الْمَعْنَيَانِ فِيهِ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ أَيْضًا، وَهُوَ تَغْيِيرُ التَّعْلِيلِ إلَى هَيْئَةٍ تُخَالِفُ الْهَيْئَةَ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَمَّا الْأَوَّلُ أَيْ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ لُغَةً فَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ الشَّيْءُ مَنْكُوسًا أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ بِنَصْبِ اللَّامِ، وَأَسْفَلُهُ بِرَفْعِهَا أَعْلَاهُ كَقَلْبِ الْإِنَاءِ وَمِثَالُهُ أَيْ مِثَالُ هَذَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ مِنْ الِاعْتِرَاضِ عَلَى التَّعْلِيلِ جَعْلُ الْمَعْلُولِ عِلَّةً وَالْعِلَّةِ مَعْلُولًا؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ أَصْلٌ يَعْنِي فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ حَيْثُ يَفْتَقِرُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ إلَيْهَا، وَلَا يَفْتَقِرُ وُجُودُهَا إلَى الْحُكْمِ لِسَبْقِهَا عَلَيْهِ ذِهْنًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْعَامَّةِ وَزَمَانًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْبَعْضِ. وَالْحُكْمُ تَابِعٌ يَعْنِي فِي الْوُجُودِ حَيْثُ يَفْتَقِرُ وُجُودُهُ إلَيْهَا فَإِذَا قَلَبْته يَعْنِي التَّعْلِيلَ فَقَدْ جَعَلْته مَنْكُوسًا بِجَعْلِ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى مِنْ الْفَرْعِ تَابِعًا لَهُ وَجَعْلِ الْفَرْعِ الَّذِي هُوَ دُونَ الْأَصْلِ أَعْلَى مِنْهُ فَكَانَ هَذَا أَيْ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْقَلْبِ مُعَارَضَةً أَيْ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ فِيهَا مُنَاقَضَةٌ أَيْ إبْطَالٌ لِتَعْلِيلِ الْمُعَلِّلِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْقَاضِي الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَعَامَّةُ الْأُصُولِيِّينَ مَعْنَى الْمُعَارَضَةِ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمُعَارَضَةِ، وَهِيَ ذِكْرُ دَلِيلٍ يُوجِبُ خِلَافَ مَا أَوْجَبَهُ دَلِيلُ الْمُسْتَدِلِّ لَمْ يُوجَدْ إذْ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِتَعْلِيلِ الْقَالِبَ لَا يَتَعَرَّضُ لِلْحُكْمِ الثَّابِتِ بِتَعْلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ بِنَفْيٍ، وَلَا إثْبَاتٍ وَإِنَّمَا يَدُلُّ تَعْلِيلُهُ عَلَى فَسَادِ تَعْلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ فَكَانَ هَذَا إبْطَالًا لَا مُعَارِضَةً لَكِنْ الشَّيْخُ اعْتَبَرَ صُورَةَ الْمُعَارَضَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْقَالَبَ عَارَضَ تَعْلِيلَ الْمُسْتَدِلِّ بِتَعْلِيلٍ يَلْزَمُ مِنْهُ بُطْلَانُ تَعْلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ ثُمَّ يَلْزَمُ مِنْهُ بُطْلَانُ حُكْمِهِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ فَجَعَلَهُ مِنْ أَقْسَامِ الْمُعَارَضَةِ ثُمَّ أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى مَعْنَى الْمُنَاقَضَةِ فَقَالَ مَا جَعَلَهُ الْمُعَلِّلُ عِلَّةً لِمَا صَارَ حُكْمًا فِي الْأَصْلِ أَيْ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ بِتَعْلِيلِ الْقَالَبِ وَاحْتَمَلَ ذَلِكَ أَيْ احْتَمَلَ مَا جَعَلَهُ عِلَّةً صَيْرُورَتَهُ حُكْمًا فَسَدَ الْأَصْلُ أَيْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَقِيسًا عَلَيْهِ لِلْمُسْتَدِلِّ فِي الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ فَبَقِيَ قِيَاسُهُ بِلَا مَقِيسٍ عَلَيْهِ فَبَطَلَ وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْقَلْبِ فِيمَا إذَا عَلَّلَ الْمُسْتَدِلُّ بِالْحُكْمِ بِأَنْ جَعَلَ حُكْمًا فِي الْأَصْلِ عِلَّةً لِحُكْمٍ آخَرَ فِيهِ ثُمَّ عَدَّاهُ إلَى الْفَرْعِ. فَأَمَّا إذَا عُلِّلَ بِالْوَصْفِ الْمَحْضِ أَيْ بِالْمَعْنَى فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ هَذَا الْقَلْبُ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ لَا يَصِيرُ حُكْمًا بِوَجْهٍ، وَلَا يَصِيرُ الْحُكْمُ الثَّابِتُ عِلَّةً لَهُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ سَابِقٌ عَلَى الْحُكْمِ فَإِذَا

وَمِثَالُهُ مِنْ الِاعْتِرَاضِ أَنْ يُجْعَلَ الْمَعْلُولُ عِلَّةً وَالْعِلَّةُ مَعْلُولًا؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ أَصْلٌ وَالْحُكْمُ تَابِعٌ فَإِذَا قَلَبْته فَقَدْ جَعَلْته مَنْكُوسًا، وَكَانَ هَذَا مُعَارَضَةً فِيهَا مُنَاقَضَةٌ؛ لِأَنَّ مَا جَعَلَهُ الْمُعَلِّلُ عِلَّةً لِمَا صَارَ حُكْمًا فِي الْأَصْلِ وَاحْتَمَلَ ذَلِكَ فَسَادَ الْأَصْلِ فَبَطَلَ الْقِيَاسُ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا فِيمَا يَكُونُ التَّعْلِيلُ بِالْحُكْمِ فَأَمَّا بِالْوَصْفِ الْمَحْضِ فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْقَلْبُ مِثَالُهُ قَوْلُهُمْ الْكُفَّارُ جِنْسٌ يُجْلَدُ بِكْرُهُمْ مِائَةً فَيُرْجَمُ ثَيِّبُهُمْ كَالْمُسْلِمِينَ، وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ الْقِرَاءَةُ تَكَرَّرَتْ فِي الْأُولَيَيْنِ فَكَانَتْ فَرْضًا فِي الْأُخْرَيَيْنِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَقُلْنَا الْمُسْلِمُونَ إنَّمَا جُلِدَ بِكْرُهُمْ مِائَةً؛ لِأَنَّ ثَيِّبَهُمْ يُرْجَمُ، وَإِنَّمَا تَكَرَّرَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ فَرْضًا فِي الْأُولَيَيْنِ؛ لِأَنَّهُ تَكَرَّرَ فَرْضًا فِي الْأُخْرَيَيْنِ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَّلْنَا فِي الْجِصِّ مَثَلًا بِأَنَّهُ مَكِيلٌ جِنْسٌ فَيَجْرِي فِيهِ الرِّبَا كَالْحِنْطَةِ لَا يُمْكِنُ قَلْبُهُ بِأَنْ يُقَالَ إنَّمَا كَانَتْ الْحِنْطَةُ مَكِيلَ جِنْسٍ؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مَكِيلَ جِنْسٍ سَابِقٌ عَلَيْهِ مِثَالُهُ أَيْ مِثَالُ مَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْقَلْبِ قَوْلُهُمْ أَيْ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ حَتَّى لَوْ زَنَى الذِّمِّيُّ الْحُرُّ الثَّيِّبُ يُرْجَمُ عِنْدَهُمْ، الْكُفَّارُ جِنْسٌ يُجْلَدُ بِكْرُهُمْ مِائَةً فَيُرْجَمُ ثَيِّبُهُمْ كَالْمُسْلِمِينَ الْأَحْرَارِ مِنْهُمْ وَبِقَوْلِهِ مِائَةً أَشَارَ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْبِكْرَ مِنْ الْعَبِيدِ لَمَّا لَمْ يُجْلَدْ مِائَةً لَمْ يُرْجَمْ الثَّيِّبُ مِنْهُمْ وَالْبِكْرُ وَالثَّيِّبُ يَقَعَانِ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ فِي فَرْضِيَّةِ الْقِرَاءَةِ فِي جَمِيعِ الرَّكَعَاتِ الْقِرَاءَةُ تَكَرَّرَتْ فَرْضًا فِي الْأُولَيَيْنِ إلَى آخِرِهِ، وَاحْتَرَزُوا بِقَوْلِهِمْ فَرْضًا عَنْ السُّورَةِ فَإِنَّهَا تَكَرَّرَتْ، وَلَكِنْ غَيْرَ فَرْضٍ فَجَعَلُوا جَلْدَ الْمِائَةِ عِلَّةً لِوُجُوبِ الرَّجْمِ، وَالتَّكَرُّرُ فِي الْأُولَيَيْنِ عِلَّةٌ لِلْوُجُوبِ فِي الْبَاقِي فَقُلْنَا الْمُسْلِمُونَ إنَّمَا يُجْلَدُ بِكْرُهُمْ لِأَنَّ ثَيِّبَهُمْ يُرْجَمُ لَا أَنَّهُ يُرْجَمُ ثَيِّبُهُمْ؛ لِأَنَّهُ يُجْلَدُ بِكْرُهُمْ فَجَعَلْنَا مَا نَصَبَهُ عِلَّةً فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ جَلْدُ الْمِائَةِ حُكْمًا، وَمَا جَعَلَهُ حُكْمًا فِيهِ، وَهُوَ رَجْمُ الثَّيِّبِ عِلَّةً فَانْتُقِضَ تَعْلِيلُهُمْ بِهَذَا الْقَلْبِ وَبَطَلَ لِبَقَائِهِ بِلَا أَصْلٍ إذْ لَمْ يَبْقَ إلَّا قَوْلُهُمْ: الْكُفَّارُ جِنْسٌ يُجْلَدُ بِكْرُهُمْ مِائَةً فَيُرْجَمُ ثَيِّبُهُمْ، وَهَذَا لَيْسَ بِشُبْهَةٍ فَضْلًا مِنْ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً إذْ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ أَصْلًا. وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ، وَكَانَ هَذَا مُعَارَضَةً أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ تَعَرَّضَ لِلْمُتَنَازَعِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ عَدَمُ الدَّلِيلِ عَلَى ثُبُوتِهِ فَإِنَّ الْقَالِبَ لَمَّا ادَّعَى أَنَّ عِلَّةَ ثُبُوتِ الْجَلْدِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ الرَّجْمُ لَمْ يَبْقَ الْجَلْدُ عِلَّةً لِلرَّجْمِ فَعَدِمَ فِي حَقِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، وَهُوَ الْكَافِرُ الذِّمِّيُّ عِلَّةُ الرَّجْمِ فَيَكُونُ الرَّجْمُ مُنْتَفِيًا لِانْتِفَاءِ دَلِيلِهِ فَيَكُونُ مُعَارَضَةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَعَمْرِي هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْمُمَانَعَةِ مِنْهُ إلَى الْمُعَارَضَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ مَنْعُ نَفْسِ الدَّلِيلِ وَصَلَاحِيَتُهُ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ تَعْلِيلٌ بِالْعَدَمِ، وَهُوَ فَاسِدٌ فَكَيْفَ يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِلتَّعْلِيلِ بِالْمَعْنَى الْوُجُودِيِّ. وَاعْلَمْ بِأَنَّ تَجْوِيزَ الشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاعْتِرَاضَ عَلَى الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ بِالْقَلْبِ بَعْدَ مَنْعِهِ الِاعْتِرَاضَ عَلَيْهَا بِالْمُنَاقَضَةِ، وَفَسَادِ الْوَضْعِ، مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ بَعْدَمَا ثَبَتَ تَأْثِيرُهَا بِدَلِيلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ لَا يَحْتَمِلُ الْقَلْبَ كَمَا لَا يَحْتَمِلُ الْمُنَاقَضَةَ، وَفَسَادَ الْوَضْعِ فَإِنَّهُ لَوْ ثَبَتَ التَّأْثِيرُ لِوُجُوبِ الْجَلْدِ فِي إيجَابِ الرَّجْمِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ لَا يُمْكِنُ قَلْبُهُ بِجَعْلِ الرَّجْمِ عِلَّةً لِلْجَلْدِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي قَوْلِنَا فِي الْمُدَبَّرِ مَمْلُوكٌ تَعَلَّقَ عِتْقُهُ بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَأُمِّ الْوَلَدِ لَمَّا ظَهَرَ التَّأْثِيرُ لِتَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِالْمَوْتِ فِي الْمَنْعِ عَنْ الْبَيْعِ فِي أُمِّ الْوَلَدِ لَا يُمْكِنُ قَلْبُهُ بِأَنْ يُقَالَ إنَّمَا تَعَلَّقَ الْعِتْقُ بِالْمَوْتِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَجُزْ. وَكَذَا لَا يُمْكِنُ لِلْقَالِبِ بَيَانُ التَّأْثِيرِ لِتَعْلِيلِهِ بَعْدَمَا ظَهَرَ تَأْثِيرُ التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ وَبِدُونِ بَيَانِ التَّأْثِيرِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ قَلْبُهُ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ مُعَارَضَةٌ وَغَيْرُ الْمُؤَثِّرِ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِلْمُؤَثِّرِ إذَا كَانَ كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَرِدَ الْقَلْبُ عَلَى الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ كَفَسَادِ الْوَضْعِ وَالْمُنَاقَضَةِ، وَإِنَّمَا يَرِدُ عَلَى الطَّرْدِيَّةِ. يُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيُسْرِ بَعْدَ بَيَانِ نَوْعَيْ الْقَلْبِ، وَالْقَلْبُ الْأَوَّلُ إنَّمَا يَجِيءُ فِي كُلِّ طَرْدٍ جَعَلَ الْحُكْمَ عِلَّةً، وَالْقَلْبُ الثَّانِي يَجِيءُ عَلَى كُلِّ طَرْدٍ مَا لَمْ يَظْهَرْ التَّأْثِيرُ، وَمَا ذُكِرَ فِي نُسْخَةٍ أُخْرَى مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ وَالْمُخَلِّصُ مِنْ الْقَلْبِ بِذَكَرِ تَأْثِيرِ الْوَصْفِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي عُلِّلَ دُونَ الْحُكْمِ الَّذِي قَالَهُ خَصْمُهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِاعْتِرَاضَ بِالْقَلْبِ بَعْدَ التَّأْثِيرِ غَيْرُ صَحِيحٍ وَأَنَّهُ كَالْمُنَاقَضَةِ، وَفَسَادِ الْوَضْعِ

وَالْمُخَلِّصُ عَنْ هَذَا أَنْ يُخَرَّجَ الْكَلَامُ مَخْرَجَ الِاسْتِدْلَالِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى شَيْءٍ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الْمُخَلِّصُ إذَا ثَبَتَ أَنَّهُمَا نَظِيرَانِ مِثْلُ التَّوْأَمِ وَذَلِكَ قَوْلُنَا مَا يُلْتَزَمُ بِالشُّرُوعِ إذَا صَحَّ كَالْحَجِّ فَقَالُوا الْحَجُّ إنَّمَا يُوَلَّى عَلَيْهَا فِي مَالِهَا فَيُوَلَّى عَلَيْهَا فِي نَفْسِهَا كَالْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ فَقَالُوا إنَّمَا يُوَلَّى عَلَى الْبِكْرِ فِي مَالِهَا؛ لِأَنَّهُ يُوَلَّى عَلَيْهَا فِي نَفْسِهَا فَقُلْنَا: النَّذْرُ لَمَّا وَقَعَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّقَرُّبِ إلَيْهِ تَسْبِيبًا لَزِمَتْهُ مُرَاعَاتُهُ بِابْتِدَاءِ الْمُبَاشَرَةِ، وَهُوَ مُنْفَصِلٌ عَنْ النَّذْرِ وَبِالشُّرُوعِ حَصَلَ فِعْلُ الْقُرْبَةِ فَلَأَنْ يَجِبَ مُرَاعَاتُهُ بِالثَّبَاتِ عَلَيْهِ أَوْلَى ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ غَيْرِ فَرْقٍ. قَوْلُهُ: (الْمُخَلِّصُ مِنْ هَذَا) أَيْ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْقَلْبِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ إذَا وَرَدَ يَدْفَعُهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ بَعْدَ وُرُودِهِ بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ لَا يَرِدَ عَلَيْهِ هَذَا الْقَلْبُ فَطَرِيقُهُ أَنْ يُخْرِجَ الْكَلَامَ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ لَا بِطَرِيقِ التَّعْلِيلِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى شَيْءٍ وَذَلِكَ الشَّيْءُ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَيْهِ كَمَا فِي الْعَقْلِيَّاتِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ مَوْجُودٌ فَيَجُوزُ رُؤْيَتُهُ، وَأَنْ يُقَالَ يَجُوزُ رُؤْيَتُهُ فَيَكُونُ مَوْجُودًا، وَكَذَا يَكُونُ الدُّخَانُ دَلِيلًا عَلَى النَّارِ وَالنَّارُ دَلِيلًا عَلَى الدُّخَانِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِحُكْمٍ عَلَى حُكْمٍ طَرِيقُ السَّلَفِ فِي الْحَوَادِثِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ. وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا الْمُخَلِّصُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الشَّيْئَيْنِ نَظِيرَانِ أَيْ مِثْلَانِ مُتَسَاوِيَانِ فَيَدُلُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ التَّوْأَمَيْنِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ حُرِّيَّةُ الْأَصْلِ لِأَحَدِهِمَا بِثُبُوتِهَا فِي الْآخَرِ وَيَثْبُتُ الرِّقُّ فِي أَيِّهِمَا كَانَ بِثُبُوتِهِ فِي الْآخَرِ، وَكَذَا النَّسَبُ يَثْبُتُ فِيهِمَا بِثُبُوتِهِ لِأَحَدِهِمَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ غَيْرُ مُثْبَتٍ بَلْ هُوَ مُظْهِرٌ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَلِيلًا عَلَى الْآخَرِ فِي عَيْنِ مَا كَانَ هُوَ مَدْلُولُهُ كَمَا بَيَّنَّا فِي التَّوْأَمَيْنِ فَأَمَّا الْعِلَّةُ فَمُثْبِتَةٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ ثَابِتًا بِشَيْءٍ، وَمُثْبِتًا لَهُ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ سَابِقَةً عَلَى الْحُكْمِ رُتْبَةً، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَسْبِقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَالتَّوْأَمُ اسْمٌ لِلْوَلَدِ إذَا كَانَ مَعَهُ آخَرُ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ يُقَالُ هُمَا تَوْأَمَانِ، وَقَوْلُهُمْ هُمَا تَوْأَمٌ خَطَأٌ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ وَذَلِكَ أَيْ الْمَخْلَصُ وَهُوَ الْإِخْرَاجُ مَخْرَجَ الِاسْتِدْلَالِ يَتَحَقَّقُ فِيمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ لِوُجُودِ شَرْطِهِ، وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ فِي الْحُكْمَيْنِ لَا فِيمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فَإِنَّ عُلَمَاءَنَا اسْتَدَلُّوا فِي أَنَّ الشُّرُوعَ فِي النَّافِلَةِ مُلْزِمٌ كَالنَّذْرِ فَقَالُوا مَا يُلْتَزَمُ بِالنَّذْرِ يُلْتَزَمُ بِالشُّرُوعِ إذَا صَحَّ الشُّرُوعُ وَاحْتَرَزَ بِهِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ، كَالْحَجِّ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ كَمَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ، وَقَالُوا فِي ثُبُوتِ وِلَايَةِ التَّزْوِيجِ عَلَى الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ لِلْوَلِيِّ إنَّهُ - الضَّمِيرُ لِلشَّانِّ - يُوَلَّى عَلَيْهَا فِي مَالِهَا فَيُوَلَّى عَلَيْهَا فِي نَفْسِهَا كَالْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ فَقَلَبَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ. فَأَشَارَ الشَّيْخُ إلَى بَيَانِ الْمُخَلِّصِ بِقَوْلِهِ فَقُلْنَا النَّذْرُ لَمَّا وَقَعَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّقَرُّبِ إلَيْهِ تَسَبُّبًا يَعْنِي النَّذْرَ سَبَبُ قُرْبَةٍ يُبَاشِرُهُ الْعَبْدُ عَلَى سَبِيلِ التَّقَرُّبِ ثُمَّ لَزِمَتْهُ مُرَاعَاةُ النَّذْرِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْقُرْبَةِ وَلَيْسَ بِقُرْبَةٍ بِابْتِدَاءِ مُبَاشَرَةِ فِعْلِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ الْقُرْبَةِ صِيَانَةً لِلسَّبَبِ عَنْ الْبُطْلَانِ مَعَ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْمُبَاشَرَةِ مُنْفَصِلٌ عَنْ النَّذْرِ وَبِالشُّرُوعِ حَصَلَ فِعْلُ الْقُرْبَةِ حَقِيقَةً فَلَأَنْ يَجِبَ مُرَاعَاةُ هَذَا الْفِعْلِ الْمَوْجُودِ قُرْبَةً بِالثَّبَاتِ عَلَيْهِ أَيْ بِإِلْزَامِ الْإِتْمَامِ صِيَانَةً لَهُ عَنْ الْبُطْلَانِ كَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ وَحَقِيقَةُ الْقُرْبَةِ أَوْلَى بِالصِّيَانَةِ مِنْ سَبَبِهَا، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُمْ عَلَيْنَا؛ لِأَنَّا نَسْتَدِلُّ بِأَحَدِ الْحُكْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَقْصُودَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَحْصِيلُ عِبَادَةٍ زَائِدَةٍ هِيَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ الْمُضِيُّ فِيهَا لَازِمًا وَالرُّجُوعُ عَنْهَا بَعْدَ الْأَدَاءِ حَرَامٌ، وَإِبْطَالُهَا بَعْدَ الصِّحَّةِ جِنَايَةٌ فَبَعْدَ ثُبُوتِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا يُجْعَلُ هَذَا دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ تَارَةً وَذَلِكَ عَلَى هَذَا تَارَةً قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ الشُّرُوعُ مَعَ النَّذْرِ فِي الْإِيجَابِ بِمَنْزِلَةِ تَوْأَمَيْنِ لَا يَنْفَصِلُ أَحَدُهُمَا

وَكَذَلِكَ الْوِلَايَةُ شُرِعَتْ لِلْعَجْزِ وَالْحَاجَةِ عَلَى مَنْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى قَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَالنَّفْسُ وَالْمَالُ وَالثَّيِّبُ وَالْبِكْرُ فِيهِ سَوَاءٌ فَأَمَّا الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ فَلَيْسَا بِسَوَاءٍ فِي أَنْفُسِهِمَا وَفِي شُرُوطِهِمَا أَيْضًا حَتَّى افْتَرَقَا فِي شَرْطِ الثَّانِيَةِ، وَكَذَلِكَ الْقِرَاءَةُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ لَيْسَا بِسَوَاءٍ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ زَائِدٌ تَسْقُطُ بِالِاقْتِدَاءِ عِنْدَنَا وَتَسْقُطُ لِخَوْفِ فَوْتِ الرَّكْعَةِ عِنْدَهُ، وَمَنْ عَجَزَ عَنْ الْأَفْعَالِ لَمْ يَصْلُحْ الذِّكْرُ أَصْلًا بِخِلَافِ الْأَفْعَالِ، وَكَذَلِكَ الشَّفْعُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي لَيْسَا بِسَوَاءٍ فِي الْقِرَاءَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدَ شَطْرَيْ الْقِرَاءَةِ سَقَطَ عَنْهُ، وَهُوَ السُّورَةُ وَيَسْقُطُ أَحَدُ وَصْفَيْهِ، وَهُوَ الْجَهْرُ فَلَمْ يَجْهَرْ بِحَالٍ فَفَسَدَ الِاسْتِدْلَال. ـــــــــــــــــــــــــــــQعَنْ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ إنَّمَا صَارَ سَبَبًا؛ لِأَنَّ النَّاذِرَ عَهِدَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ تَعَالَى فَلَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ بِقَوْلِهِ: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] فَكَذَا الشَّارِعُ فِي عِبَادَةٍ عَازِمٌ عَلَى إبْقَائِهِ فَلَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِإِبْقَاءِ مَا أَدَّى بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وَلَا يُتَصَوَّرُ إبْقَاءُ مَا أَدَّى إلَّا بِانْضِمَامِ سَائِرِ الْأَجْزَاءِ إلَيْهِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمُّ صِيَانَةً لِمَا أَدَّى عَنْ الْبُطْلَانِ ثُمَّ إبْطَالُ مَا أَدَّى فَوْقَ تَرْكِ الْأَدَاءِ، وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ تَحْقِيقًا لِلْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ فَلَأَنْ يَلْزَمَ إتْمَامُ مَا أَدَّى وَإِبْقَاؤُهُ عِبَادَةً بَعْدَ الْأَدَاءِ تَحْقِيقًا لِلْوَفَاءِ كَانَ أَحْرَى وَأَوْلَى. وَكَذَلِكَ الْوِلَايَةُ أَيْ، وَكَمَا أَنَّ النَّذْرَ وَالشُّرُوعَ مُتَسَاوِيَانِ فِي مَعْنَى الْإِيجَابِ الْوِلَايَةُ عَلَى الْمَالِ وَالْوِلَايَةُ عَلَى النَّفْسِ مُتَسَاوِيَتَانِ فِي الثُّبُوتِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ شُرِعَتْ أَيْ ثَبَتَتْ وَوَجَبَتْ لِلْعَجْزِ أَيْ لِعَجْزِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ عَنْ التَّصَرُّفِ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ مَعَ حَاجَتِهِ إلَيْهِ عَلَى مَنْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِ وَهُوَ الْوَلِيُّ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوِلَايَةِ لِحُرٍّ عَلَى حُرٍّ مِثْلِهِ وَثُبُوتُ الْوِلَايَةِ لِلشَّخْصِ عَلَى نَفْسِهِ إذْ الْأَصْلُ رَأْيُهُ لَكِنْ إذَا عُدِمَ رَأْيُهُ بِالصِّغَرِ أَوْ الْجُنُونِ أُقِيمَ رَأْيُ الْغَيْرِ مَقَامَ رَأْيِهِ وَانْتَقَلَتْ الْوِلَايَةُ إلَى الْغَيْرِ نَظَرًا لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ وَلِهَذَا كَانَتْ تَصَرُّفَاتُهُ مُقَيَّدَةً بِشَرْطِ النَّظَرِ فَالْوِلَايَةُ، وَإِنْ كَانَتْ ثَابِتَةً لِلْوَلِيِّ عَلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِ ظَاهِرًا، وَلَكِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الْوَلِيِّ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ مَعْنًى نَظَرًا لَهُ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِ لِنَفْسِهِ وَالْمَالِيَّةِ، وَلِهَذَا لَا يَتَمَكَّنُ الْوَلِيُّ مِنْ رَدِّهَا، وَلَوْ امْتَنَعَ عَنْ إقَامَةِ مَصَالِحِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِ يَأْثَمُ. وَالنَّفْسُ وَالْمَالُ وَالثَّيِّبُ وَالْبِكْرُ فِيهِ أَيْ فِي الْمَعْنَى الَّذِي ثَبَتَتْ بِهِ الْوِلَايَةُ، وَهُوَ الْعَجْزُ وَالْحَاجَةُ سَوَاءٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوِلَايَتَيْنِ حَالَ وُجُودِ الرَّأْيِ عَلَى السَّوَاءِ فَكَذَا تَسْتَوِيَانِ فِي حَالِ عَدَمِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال بِثُبُوتِ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى وَلَا يُقَالُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ النَّفْسِ وَالْمَالِ غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ مُبْتَذَلٌ وَالْمَالُ مُبْتَذَلٌ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ غَيْرُ مَشْرُوطَةٍ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ لِصِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بَلْ الْمَشْرُوطُ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي بُنِيَ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ، وَقَدْ وُجِدَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ النَّفْسَ وَالْمَالَ فِي الْحَاجَةِ إلَى التَّصَرُّفِ النَّافِعِ الَّتِي بُنِيَ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهَا سَوَاءٌ. فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْحَاجَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الْحَالِ لِلتَّثْمِيرِ كَيْ لَا تَأْكُلَهُ النَّفَقَةُ لَكِنْ الْحَاجَةُ فِي حَقِّ النَّفْسِ مُتَأَخِّرَةٌ إلَى مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَثْبُتَ الْوِلَايَةُ عَلَى النَّفْسِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ. قُلْنَا: الْحَاجَةُ فِي النَّفْسِ قَدْ تَتَحَقَّقُ فِي الْحَالِ عَلَى تَقْدِيرِ فَوَاتِ الْكُفُؤِ، وَفِي الْمَالِ قَدْ لَا يَقَعُ الْحَاجَةُ بِأَنْ كَانَ كَثِيرًا فَكَانَا سَوَاءً لِاجْتِمَاعِ جِهَةِ الْحَاجَةِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَنْ لَا مُخَلِّصَ لِلْخَصْمِ عَنْ الْقَلْبِ الَّذِي ذَكَرْنَا فَقَالَ فَأَمَّا الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ فَلَيْسَا بِسَوَاءٍ فِي أَنْفُسِهِمَا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا نِهَايَةٌ فِي الْعُقُوبَةِ يَأْتِي عَلَى النَّفْسِ وَالْآخَرُ تَأْدِيبٌ مَحَلُّهُ ظَاهِرُ الْبَدَنِ. وَفِي شُرُوطِهَا فَإِنَّ الثِّيَابَةَ بِصِفَةِ الْكَمَالِ، وَهِيَ الثِّيَابَةُ بِمِلْكِ النِّكَاحِ دُونَ مِلْكِ الْيَمِينِ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الرَّجْمِ دُونَ وُجُوبِ الْجَلْدِ، وَإِذَا انْتَفَى التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِوُجُودِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَكَيْفَ يُسْتَدَلُّ بِالْأَخَفِّ عَلَى الْأَغْلَظِ وَبِالِابْتِدَاءِ عَلَى النِّهَايَةِ وَكَذَلِكَ الْقِرَاءَةُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ لَيْسُوا بِسَوَاءٍ، وَلَوْ قِيلَ لَيْسَتْ بِسَوَاءٍ، أَوْ لَيْسَ بِسَوَاءٍ لَكَانَ أَحْسَنَ، وَمَنْ عَجَزَ عَنْ الْأَفْعَالِ لَمْ يَصْلُحْ الذِّكْرُ أَصْلًا يَعْنِي لَوْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْأَفْعَالِ دُونَ الْأَذْكَارِ كَالْمَرِيضِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ

[النوع الثاني المعارضة الخالصة]

وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْهُ فَهُوَ قَلْبُ الشَّيْءِ ظَهْرًا لِبَطْنٍ وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ شَاهِدًا عَلَيْك فَقَلَبْته فَجَعَلْته شَاهِدًا لَك، وَكَانَ ظَهْرُهُ إلَيْك فَصَارَ وَجْهُهُ إلَيْك فَنَقَضَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ فَصَارَتْ مُعَارَضَةً فِيهَا مُنَاقَضَةٌ بِخِلَافِ الْمُعَارَضَةِ بِقِيَاسٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الِاشْتِبَاهَ إلَّا بِتَرْجِيحٍ وَلَا يُوجِبُ تَنَاقُضًا إلَّا أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا بِوَصْفٍ زَائِدٍ فِيهِ تَقْرِيرٌ لِلْأَوَّلِ وَتَفْسِيرُهُ فَكَانَ دُونَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِثَالُهُ قَوْلُهُمْ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إنَّهُ صَوْمُ فَرْضٍ فَلَا يَتَأَدَّى إلَّا بِتَعَيُّنِ النِّيَّةِ كَصَوْمِ الْقَضَاءِ فَقُلْنَا لَمَّا كَانَ صَوْمًا فَرْضًا اسْتَغْنَى عَنْ تَعْيِينِ النِّيَّةِ بَعْدَ تَعَيُّنِهِ كَصَوْمِ الْقَضَاءِ لَكِنَّهُ إنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِالشُّرُوعِ، وَهَذَا تَعَيَّنَ قَبْلَ الشُّرُوعِ، وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ إنَّهُ رُكْنٌ فِي الْوُضُوءِ فَيُسَنُّ بِثَلَاثَةٍ كَغَسْلِ الْوَجْهِ فَيُقَالُ لَهُمْ: لَمَّا كَانَ رُكْنًا فِي الْوُضُوءِ وَجَبَ أَنْ لَا يُسَنَّ تَثْلِيثُهُ بَعْدَ إكْمَالِهِ بِزِيَادَةٍ عَلَى الْفَرْضِ كَغَسْلِ الْوَجْهِ. وَبَيَانُهُ أَنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ يَتَأَدَّى بِالْقَلِيلِ فَيَكُونُ اسْتِيعَابُهُ تَكْمِيلًا لِلْفَرْضِ فِي مَحَلِّهِ بِزِيَادَةٍ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ التَّكْرَارِ فِي الْوَجْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى الْإِيمَاءِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَدَاءُ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الْأَفْعَالِ فَإِنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا دُونَ الْأَذْكَارِ كَالْأَخْرَسِ وَالْأُمِّيِّ تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ، يَسْقُطُ مِنْهُ أَيْ مِنْ الشَّفْعِ الثَّانِي أَوْ مِنْ الْمُصَلِّي فِي الشَّفْعِ الثَّانِي أَحَدُ وَصْفَيْهِ أَيْ أَحَدُ وَصْفَيْ الْوَاجِبِ، وَهُوَ الْقِرَاءَةُ فَلَمْ يَجْهَرْ بِحَالٍ إمَامًا كَانَ أَوْ مُنْفَرِدًا فَفَسَدَ الِاسْتِدْلَال أَيْ لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَال بِوُجُوبِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي جَمِيعِ الرَّكَعَاتِ عَلَى وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ فِي الْجَمِيعِ لِعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ. [النَّوْعُ الثَّانِي الْمُعَارَضَة الْخَالِصَة] قَوْلُهُ: (وَأَمَّا) (النَّوْعُ الثَّانِي مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْقَلْبِ فَهُوَ مِنْ قَلْبِ الشَّيْءِ أَيْ مَأْخُوذٌ مِنْ قَلْبِ الشَّيْءِ ظَهْرًا لِبَطْنٍ أَيْ جَعْلُ ظَهْرِهِ بَطْنًا وَبَطْنِهِ ظَهْرًا مِثْلُ قَلْبِ الْجِرَابِ، وَذَلِكَ أَيْ الْقَلْبُ الْمَأْخُوذُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ شَاهِدًا أَيْ حُجَّةً عَلَيْك فَقَلَبْته فَجَعَلْته شَاهِدًا لَك فَنَقَضَ أَيْ أَبْطَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَيْ مِنْ الشَّهَادَتَيْنِ أَوْ مِنْ التَّعْلِيلَيْنِ صَاحِبَهُ لِمَا نُبَيِّنُ فَصَارَتْ أَيْ صَارَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْقَلْبِ، وَالتَّأْنِيثُ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ مُعَارَضَةً؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ خِلَافَ مَا أَوْجَبَهُ تَعْلِيلُ الْمُعَلِّلِ وَمَعْنَى الْمُعَارَضَةِ فِي هَذَا النَّوْعِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ لِوُجُودِ حَدِّ الْمُعَارَضَةِ فِيهِ فِيهَا مُنَاقَضَةٌ أَيْ إبْطَالٌ لِلتَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ الْحُكْمُ وَالْوَصْفُ الَّذِي يَشْهَدُ بِثُبُوتِهِ مِنْ وَجْهٍ وَبِانْتِفَائِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ تَكُونُ مُتَنَاقِضًا فِي نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ الَّذِي يَشْهَدُ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فِي حَادِثَةٍ ثُمَّ لِلْخَصْمِ الْآخَرِ عَلَيْهِ فِي عَيْنِ تِلْكَ الْحَادِثَةِ فَإِنَّهُ يَتَنَاقَضُ كَلَامُهُ بِخِلَافِ الْمُعَارَضَةِ بِقِيَاسٍ آخَرَ حَيْثُ لَا تَكُونُ مُنَاقَضَةً؛ لِأَنَّهُ أَيْ التَّعَارُضَ يُوجِبُ الِاشْتِبَاهَ فَيَتَعَذَّرُ الْعَمَلُ لِلِاشْتِبَاهِ إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ رُجْحَانٌ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ تَنَاقُضًا أَيْ إبْطَالًا لِلْأَوَّلِ إلَّا أَنَّ هَذَا أَيْ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْقَلْبِ لَا يَكُونُ أَيْ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِوَصْفٍ زَائِدٍ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُعَلِّلُ. فِيهِ أَيْ فِي ذَلِكَ الْوَصْفِ الزَّائِدِ تَقْرِيرٌ لِلْوَصْفِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْقَلْبُ يَكُونُ بِتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ بِعَيْنِهِ فَإِذَا زِيدَ عَلَيْهِ وَصْفٌ آخَرُ لَمْ يَبْقَ بِعَيْنِهِ عِلَّةً فَيَكُونُ هَذَا تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى فَيَكُونُ مُعَارَضَةً مَحْضَةً غَيْرَ مُتَضَمَّنَةٍ لِمَعْنَى الْإِبْطَالِ فَقَالَ هَذِهِ الزِّيَادَةُ تَفْسِيرٌ لِلْوَصْفِ الْأَوَّلِ، وَتَقْرِيرٌ لَهُ لَا تَغْيِيرٌ فَلَا تَجْعَلُهُ فِي حُكْمِ شَيْءٍ آخَرَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ قَالَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ هَذَا صَوْمُ فَرْضٍ، وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ فِي هَذَا الْوَقْتِ لِعَدَمِ بَقَاءِ غَيْرِهِ مِنْ الصِّيَامَاتِ مَشْرُوعًا مَعَهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ تَلْبِيسًا عَلَيْنَا فَنَحْنُ فَسَّرْنَا الصَّوْمَ الْمَذْكُورَ تَفْسِيرًا تَرَكَهُ الْخَصْمُ وَبَيَّنَّا مَحَلَّ النِّزَاعِ فَكَانَ قِيَاسُ هَذَا الصَّوْمِ مِنْ الْقَضَاءِ مَا بَعْدَ الشُّرُوعِ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ إنَّهُ رُكْنٌ، وَلَمْ يُفَسِّرْ أَنَّهُ إكْمَالٌ بِأَمْثَالِ الْفَرْضِ فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ فَنَحْنُ بَيَّنَّا ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ تَغْيِيرًا بَلْ كَانَ قَلْبًا لِذَلِكَ الْوَصْفِ بِعَيْنِهِ فَبَطَلَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِذَا تَعَارَضَا سَقَطَ كَلَامُ الْمُجِيبِ لَكِنَّهُ أَيْ الْقَضَاءَ تَعَيَّنَ بِالشُّرُوعِ وَهَذَا أَيْ صَوْمُ رَمَضَانَ تَعَيَّنَ قَبْلَ الشُّرُوعِ وَبِهَذَا الْقَدْرِ لَا تَقَعُ الْمُفَارَقَةُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَلْبَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ وَالتَّقْسِيمِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي عَامَّةِ كُتُبِ أَصْحَابِنَا، وَلَمْ يَذْكُرْ عَامَّةُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ فِي كُتُبِهِمْ، وَفَسَّرُوا الْقَلْبَ بِأَنَّهُ تَعْلِيقُ نَقِيضِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قِيَاسٍ بِالرَّدِّ إلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ بِعَيْنِهِ، وَأَرَادُوا بِالنَّقِيضِ مَا يُنَافِي الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ وَلَا يُجْمَعُ مَعَهُ، وَإِنَّمَا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQاشْتَرَطَ الرَّدَّ إلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَدَّ إلَى أَصْلٍ آخَرَ فَحُكْمُ ذَلِكَ الْأَصْلِ الْآخَرِ إنْ وُجِدَ فِي هَذَا الْأَصْلِ كَانَ الرَّدُّ إلَيْهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ لَا يُمْكِنُهُ مَنْعُ وُجُودِ تِلْكَ الْعِلَّةِ فِيهِ وَيُمْكِنُهُ مَنْعُ وُجُودِهَا فِي أَصْلٍ آخَرَ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ كَانَ أَصْلُ الْقِيَاسِ الْأَوَّلِ نَقْضًا عَلَى تِلْكَ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ حَاصِلٌ فِيهِ مَعَ عَدَمِ الْحُكْمِ. ثُمَّ قَسَّمُوهُ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُبَيِّنَ الْمُعْتَرِضُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ دَلِيلٌ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ، وَإِنْ كَانَ دَلِيلًا لَهُ أَيْضًا وَالْأَوَّلُ قَلَّمَا يَتَّفِقُ لَهُ مِثَالٌ فِي الشَّرْعِيَّاتِ فِي غَيْرِ النُّصُوصِ وَذَلِكَ كَمَا لَوْ اسْتَدَلَّ مَنْ وَرَّثَ الْخَالَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ» فَيُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَفْيُ تَوْرِيثِ الْخَالِ بِطَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ الْجَرْعُ زَادُ مَنْ لَا زَادَ لَهُ وَالصَّبْرُ حِيلَةُ مَنْ لَا حِيلَةَ لَهُ. وَالثَّانِي ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا أَنْ يَتَعَرَّضَ الْقَالِبُ فِي الْقَلْبِ لِتَصْحِيحِ مَذْهَبِهِ، وَثَانِيهَا أَنْ يَتَعَرَّضَ لِإِبْطَالِ مَذْهَبِ الْخَصْمِ صَرِيحًا. وَثَالِثُهَا أَنْ يَتَعَرَّضَ لِإِبْطَالِهِ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ بِأَنْ يُرَتِّبَ عَلَى الدَّلِيلِ حُكْمًا يَلْزَمُ مِنْهُ إبْطَالُ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ مِثَالُ الْأَوَّلِ مَا لَوْ قَالَ الْحَنَفِيُّ فِي مَسْأَلَةِ الِاعْتِكَافِ: لُبْثٌ مَخْصُوصٌ فَلَا يَكُونُ قُرْبَةً بِنَفْسِهِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ عِبَادَةٍ فِي كَوْنِهِ قُرْبَةً كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: لُبْثٌ مَخْصُوصٌ فَلَا يَكُونُ الصَّوْمُ مِنْ شَرْطِهِ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَعَرَّضَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِتَصْحِيحِ مَذْهَبِهِ إلَّا أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ أَشَارَ بِعِلَّتِهِ إلَى اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ وَالْمُعْتَرِضُ أَشَارَ إلَى نَفْيِ اشْتِرَاطِهِ صَرِيحًا. وَقَدْ يَتَّفِقُ تَعَرُّضُ كُلٍّ مِنْهُمَا لِتَصْحِيحِ مَذْهَبِهِ صَرِيحًا كَقَوْلِ الشَّافِعِيَّةِ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ طَهَارَةٌ تُرَادُ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ فَلَا تَجُوزُ بِغَيْرِ الْمَاءِ كَطَهَارَةِ الْحَدَثِ، وَقَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ اعْتِرَاضًا طَهَارَةٌ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ فَتَصِحُّ بِغَيْرِ الْمَاءِ كَطَهَارَةِ الْحَدَثِ فَقَدْ تَعَرَّضَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِتَصْحِيحِ مَذْهَبِهِ صَرِيحًا. وَمِثَالُ الثَّانِي مَا لَوْ قَالَ الْحَنَفِيُّ فِي مَسْأَلَةِ مَسْحِ الرَّأْسِ عُضْوًا مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَلَا يَكْتَفِي فِيهِ بِأَقَلِّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الرَّأْسِ كَغَيْرِهِ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَلَا يَتَقَدَّرُ بِالرُّبْعِ كَسَائِرِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَقَدْ تَعَرَّضَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي دَلِيلِهِ لِإِبْطَالِ مَذْهَبِ خَصْمِهِ صَرِيحًا وَلَيْسَ مَا يَدُلُّ عَلَى تَصْحِيحِ مَذْهَبِ أَحَدِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إبْطَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا تَصْحِيحُ الْآخَرِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الصَّحِيحُ مَذْهَبَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهُوَ الِاسْتِيعَابُ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لَوْ كَانَ الْقَائِلُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَائِلَيْنِ، وَالِاتِّفَاقُ وَاقِعًا عَلَى نَفْيِ قَوْلٍ ثَالِثٍ. وَمِثَالُ الثَّالِثِ: مَا لَوْ قَالَ الْحَنَفِيُّ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْغَائِبِ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَصِحُّ مَعَ الْجَهْلِ بِالْمُعَوَّضِ كَالنِّكَاحِ. فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ عَقْدُهُ مُعَاوَضَةٌ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ كَالنِّكَاحِ فَالْمُعْتَرِضُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِإِبْطَالِ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ وَهُوَ الْقَوْلُ بِالصِّحَّةِ صَرِيحًا بَلْ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ؛ لِأَنَّ مَنْ قَالَ بِالصِّحَّةِ قَالَ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ عِنْدَهُ فَيَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ انْتِفَاءُ الصِّحَّةِ. قُلْت هَذِهِ أَقْيِسَةٌ لَيْسَتْ بِمُنَاسِبَةٍ فَضْلًا مِنْ أَنْ تَكُونَ مُؤَثِّرَةً بَلْ بَعْضُهَا طَرْدِيَّةٌ وَبَعْضُهَا شَبَهِيَّةٌ فَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الشَّارِطُونَ لِلتَّأْثِيرِ الْمُعْتَرِضُونَ مِنْ الطَّرْدِ وَالشَّبَهِ كَيْفَ يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ مِثْلُ هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ، وَكَيْفَ يُعَلِّلُونَ بِهَا، وَالِالْتِفَاتُ إلَى مِثْلِهَا لَيْسَ مِنْ دَأْبِهِمْ وَهَجِيرِهِمْ لَكِنَّ الْمُخَالِفِينَ وَضَعُوهَا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ وَنَسَبُوهَا إلَى أَصْحَابِنَا، وَأَوْرَدُوهَا

وَأَمَّا الْعَكْسُ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ لَكِنَّهُ لَمَّا اُسْتُعْمِلَ فِي مُقَابَلَةِ الْقَلْبِ أُلْحِقَ بِهِ، وَهُوَ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا يَصْلُحُ لِتَرْجِيحِ الْعِلَلِ وَالثَّانِي مُعَارَضَةٌ فَاسِدَةٌ وَأَصْلُهُ رَدُّ الشَّيْءِ عَلَى سَنَنِهِ الْأَوَّلِ مِثْلُ عَكْسِ الْمِرْآةِ إذَا رَدَّ نُورَ الْبَصَرِ بِنُورِهِ حَتَّى انْعَكَسَ فَأَبْصَرَ نَفْسَهُ كَأَنَّ لَهُ وَجْهًا فِي الْمِرْآةِ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِنَا مَا يُلْتَزَمُ بِالنَّذْرِ يُلْتَزَمُ بِالشُّرُوعِ كَالْحَجِّ، وَعَكْسُهُ الْوُضُوءُ، وَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِمَّا يَصْلُحُ لِتَرْجِيحِ الْعِلَلِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ـــــــــــــــــــــــــــــQأَمْثِلَةً فِي كُتُبِهِمْ لِيَتَّضِحَ فَهْمُ أَقْسَامِ الْقَلْبِ الَّتِي ذَكَرُوهَا ثُمَّ ذَكَرُوا أَنَّ الْقَلْبَ عَلَى الْأَوْجُهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا نَوْعُ مُعَارَضَةٍ لَكِنَّهَا تُفَارِقُ مُطْلَقَ الْمُعَارَضَةِ بِأَنَّهَا نَشَأَتْ مِنْ نَفْسِ دَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ، وَبِأَنَّهَا لَا يُمْكِنُ فِيهَا الزِّيَادَةُ عَلَى الْعِلَّةِ لِوُجُوبِ اتِّحَادِ الْعِلَّةِ فِيهَا، وَبِأَنَّهَا لَا يُمْكِنُ فِيهَا مَنْعُ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْقَالِبِ، وَفَرْعَهُ هُوَ أَصْلُ الْمُسْتَدِلِّ. وَفَرْعُهُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْمُعَارَضَاتِ فِيمَا ذَكَرْنَا وَلِهَذَا كَانَ الْقَلْبُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنْ مُطْلَقِ الْمُعَارَضَةِ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْأَصْلِ وَالْجَامِعِ أَقْوَى فِي النَّاقِصَةِ مِمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَانِعٌ لِلْمُسْتَدِلِّ مِنْ تَرْجِيحِ أَصْلِهِ وَجَامِعِهِ عَلَى أَصْلِ الْقَالِبِ وَجَامِعِهِ لِلِاتِّحَادِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْمُعَارَضَاتِ. وَزَعَمَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْقَلْبَ مَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَرِضَ إنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِي الْقَلْبِ لِنَقِيضِ حُكْمِ الْمُسْتَدِلِّ فَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي الدَّلِيلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِلْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ وَلِلْأَصْلِ الْوَاحِدِ حُكْمَانِ غَيْرُ مُتَنَافِيَيْنِ، وَإِنْ تَعَرَّضَ لِنَقِيضِهِ فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ بِأَصْلِ الْمُسْتَدِلِّ، وَلَا إثْبَاتُهُ بِعِلَّتِهِ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ النَّقِيضَيْنِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَاسْتِحَالَةِ اقْتِضَاءِ الْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ حُكْمَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ لِتَعَذُّرِ مُنَاسَبَتِهَا إيَّاهُمَا. وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِنَقْضِ حُكْمِ الْمُسْتَدِلِّ فَلَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ قَادِحًا فِي الدَّلِيلِ إذَا كَانَ مَا تَعَرَّضَ لِنَفْيِهِ مِنْ لَوَازِمِ حُكْمِ الْمُسْتَدِلِّ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْأَمْثِلَةِ. وَعَنْ الثَّانِي إنَّ شَرْطَ الْقَلْبِ اشْتِمَالُ الْأَصْلِ عَلَى حُكْمَيْنِ غَيْرِهِ مُتَنَافِيَيْنِ فِي ذَاتَيْهِمَا قَدْ امْتَنَعَ اجْتِمَاعُهُمَا فِي النَّوْعِ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مُنَاسَبَةُ الْوَصْفِ لِلْحُكْمِ وَنَقِيضِهِ حَقِيقَةً لِاسْتِحَالَتِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَصِحُّ حُصُولُهُمَا فِي الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحَالَةٍ لِعَدَمِ تَنَافِيهِمَا فِي ذَاتَيْهِمَا وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْعِلَّةُ مُنَاسَبَةً لِحُكْمٍ فِي نَظَرِ الْمُسْتَدِلِّ وَلِنَقِيضِهِ فِي نَظَرِ السَّائِلِ، وَإِذَا انْدَفَعَتْ الِاسْتِحَالَةُ صَحَّ الْقَلْبُ. وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْقَلْبَ صَحِيحٌ، وَهُوَ مُعَارَضَةٌ كَانَ لِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَمْنَعَ حُكْمَ الْقَالِبِ فِي الْأَصْلِ، وَأَنْ يَقْدَحَ فِي تَأْثِيرِ الْعِلَّةِ فِيهِ بِالنَّقْضِ وَعَدَمِ التَّأْثِيرِ وَأَنْ يَقُولَ بِمُوجِبِهِ إذَا أَمْكَنَهُ بَيَانُ أَنَّ اللَّازِمَ مِنْ ذَلِكَ الْقَلْبِ لَا يُنَافِي حُكْمَهُ وَأَنْ يَقْلِبَ قَلْبَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ قَلْبُ الْقَلْبِ مُنَاقِضًا لِحُكْمِهِ؛ لِأَنَّ قَلْبَ الْقَالِبِ إذَا أَفْسَدَ بِالْقَلْبِ الثَّانِيَ سَلِمَ أَصْلُ الْقِيَاسِ مِنْ الْقَلْبِ كَذَا فِي عَامَّةِ نُسَخِ الْأُصُولِ وَرَأَيْت فِي بَعْضِ فَوَائِدِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّهُ لَا يُسْمَعُ الْقَلْبُ وَالنَّقْضُ عَلَى الْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْإِفْسَادِ لِكَلَامِ الْخَصْمِ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّعْلِيلِ، وَلَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِبَيَانِ أَنَّ هَذَا الْقَلْبَ لَا يَخْرُجُ فِي دَلَالَةِ الْوَصْفِ عَلَى الْحُكْمِ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ تَعْلِيلِ الْمُعَلِّلِ فَيَرِدُ عَلَيْهِ مَا يَرِدُ عَلَى الْأَوَّلِ. قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الْعَكْسُ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ) أَيْ لَيْسَ بِمُعَارَضَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ لِلدَّفْعِ وَالْعَكْسَ لِلتَّصْحِيحِ فَلَا يَكُونَ الْعَكْسُ مِنْ الْمُعَارَضَةِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُذْكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ. لَكِنَّهُ أَيْ الْعَكْسَ لَمَّا اُسْتُعْمِلَ فِي مُقَابَلَةِ الْقَلْبِ لَمَّا قُلْنَا إنَّ الْقَلْبَ لِلْإِبْطَالِ وَالْعَكْسَ لِلتَّصْحِيحِ أُلْحِقَ الْعَكْسُ بِالْقَلْبِ أَيْ بَيَانُ الْعَكْسِ بِبَيَانِ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ مُقَابِلِ الشَّيْءِ بَعْدَ ذِكْرِهِ مِنْ مُحَسِّنَاتِ الْكَلَامِ وَالثَّانِي مُعَارَضَةٌ فَاسِدَةٌ لَا يُقَالُ لَمَّا كَانَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعَكْسِ مُعَارَضَةً فَاسِدَةً كَانَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَلَمْ يَسْتَقِمْ نَفْيُهُ بِالْعَكْسِ مِنْ هَذَا الْبَابِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَا يَنْدَفِعُ بِأَنَّ نَفْيَهُ يَصِحُّ بِاعْتِبَارِ الْفَسَادِ إذْ الْفَاسِدُ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ أَنْوَاعَ الْمُعَارَضَةِ فِي الْأَصْلِ مَعَ فَسَادِهَا مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ

وَالنَّوْعُ الثَّانِي إنْ رُدَّ عَلَى خِلَافِ سَنَنِهِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ هَذِهِ عِبَادَةٌ لَا يَمْضِي فِي فَسَادِهَا فَلَا تُلْتَزَمُ بِالشُّرُوعِ كَالْوُضُوءِ فَيُقَالُ لَهُمْ لَمَّا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ عَمَلُ النَّذْرِ وَالشُّرُوعِ كَالْوُضُوءِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهِ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَاءَ بِحُكْمٍ آخَرَ ذَهَبَتْ الْمُنَاقَضَةُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي الْحَقِيقَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَاءَ بِحُكْمٍ مُجْمَلٍ لَا يَصِحُّ مِنْ السَّائِلِ إلَّا بِطَرِيقِ الِابْتِدَاءِ؛ وَلِأَنَّ الْمُفَسَّرَ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكَلَامِ مَعْنَاهُ، وَالِاسْتِوَاءُ مُخْتَلِفٌ فِي الْمَعْنَى سُقُوطٌ مِنْ وَجْهٍ وَثُبُوتٌ مِنْ وَجْهٍ عَلَى التَّضَادِّ وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلْقِيَاسِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ الْعَكْسُ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ لَيْسَ بِعَكْسٍ حَقِيقَةً بَلْ هُوَ قَلْبٌ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ لَكِنَّهُ لَمَّا تَشَابَهَ الْعَكْسُ مِنْ وَجْهٍ أَدْخَلَهُ فِي هَذَا الْقِسْمِ. وَأَصْلُهُ أَيْ أَصْلُ الْعَكْسِ لُغَةً رَدُّ الشَّيْءِ عَلَى سُنَنِهِ أَيْ رَجَعَهُ مِنْ وَرَائِهِ عَلَى طَرِيقِهِ الْأَوَّلِ مِثْلُ عَكْسِ الْمِرْآةِ إذَا رَدَّتْ الْمِرْآةُ نُورَ بَصَرِ النَّاظِرِ بِنُورِهَا حَتَّى انْعَكَسَ نُورُ الْبَصَرِ فَأَبْصَرَ النَّاظِرُ بِانْعِكَاسِ نُورِ بَصَرِهِ إلَى نَفْسِهِ نَفْسَهُ كَانَ لَهُ وَجْهَانِ فِي الْمِرْآةِ قَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ: وَهَذَا قَوْلُ ثُمَامَةَ الْمُتَكَلِّمِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَقَالَ عَامَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةُ: إنَّ الِانْعِكَاسَ لَا يَسْتَقِيمُ بَلْ يَرَى مَا يَرَى بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ يُحْدِثُ صُوَرَ الْأَشْيَاءِ فِيهَا عِنْدَ مُقَابَلَةٍ مَخْصُوصَةٍ إذَا تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا جِسْمٌ شَفَّافٌ كَمَا يُحْدِثُ الرُّوحَ فِي الْبَدَنِ عِنْدَ اسْتِعْدَادِهِ وَصَلَاحِيَّتِهِ لِلْقَبُولِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِطَرِيقِ الِانْعِكَاسِ إنَّ صُوَرَ الْأَشْيَاءِ تَحْدُثُ فِيهَا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَاظِرٌ وَنَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْأَعْمَى إذَا قَابَلَ الْمِرْآةَ بِوَجْهِهِ يُحْدِثُ صُورَتَهُ فِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِبَصَرِهِ نُورٌ يَنْعَكِسُ. وَكَذَا لَوْ نَظَرَ مَنْ انْطَبَعَ صُورَتُهُ فِي الْمِرْآةِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ إلَى شَيْءٍ آخَرَ خَارِجَ الْمِرْآةِ لَا تَزُولُ صُورَتُهُ عَنْهَا، وَلَوْ كَانَ بِطَرِيقِ الِانْعِكَاسِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُبْقِيَ الصُّورَةَ فِيهَا بَعْدَمَا صَرَفَ طَرْفَهُ عَنْ الْمِرْآةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْقَوْلَ بِالِانْعِكَاسِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ إلَّا أَنَّ غَرَضَ الشَّيْخِ مِنْهُ التَّمْثِيلُ، وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ النَّاسِ أَنَّ إبْصَارَ الصُّوَرِ فِي الْمِرْآةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَذَكَرَهُ عَلَى مَا وَقَعَ عِنْدَهُمْ تَقْرِيبًا إلَى الْفَهْمِ. وَذُكِرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْأُصُولِ أَنَّ الْعَكْسَ فِي اللُّغَةِ هُوَ رَدُّ أَوَّلِ الشَّيْءِ إلَى آخِرِهِ وَآخِرِهِ إلَى أَوَّلِهِ، وَأَصْلُهُ شَدُّ رَأْسِ الْبَعِيرِ بِخِطَامِهِ إلَى ذِرَاعِهِ، وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ هُوَ انْتِقَاءُ الْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ، وَقِيلَ هُوَ تَعْلِيقُ نَقِيضِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ بِنَقِيضِ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَرَدُّهُ إلَى أَصْلٍ آخَرَ وَذَلِكَ أَيْ الْعَكْسُ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ مِثْلُ قَوْلِنَا فِي أَنَّ الشُّرُوعَ فِي النَّفْلِ فَلَزِمَ مَا يَلْتَزِمُ بِالنَّذْرِ وَيَلْتَزِمُ بِالشُّرُوعِ كَالْحَجِّ وَعَكْسُهُ الْوُضُوءُ يَعْنِي عَكْسَهُ أَنَّ مَا لَا يُلْتَزَمُ بِالنَّذْرِ لَا يُلْتَزَمُ بِالشُّرُوعِ كَالْوُضُوءِ فَعَكَسْت الْحُكْمَ بِقَلْبِ الْوَصْفِ الَّذِي جَعَلْته عِلَّةً فِي الطَّرْدِ. وَهَذَا أَيْ الْعَكْسُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَمَا أَشْبَهَهُ كَقَوْلِنَا فِي الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ يُوَلَّى عَلَيْهَا فِي مَالِهَا فَيُوَلَّى عَلَيْهَا فِي نَفْسِهَا كَالْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ، وَعَكْسُهُ الثَّيِّبُ الْبَالِغَةُ فَإِنَّهُ لَا يُوَلَّى عَلَيْهَا فِي مَالِهَا فَلَا يُوَلَّى عَلَيْهَا فِي نَفْسِهَا مِمَّا لَا يَصْلُحُ لِتَرْجِيحِ الْعِلَلِ يَعْنِي هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعَكْسِ لَيْسَ بِقَادِحٍ فِي الْعِلَلِ أَصْلًا بَلْ هُوَ يَصْلُحُ مُرَجِّحًا لِلْعِلَّةِ الَّتِي تَطَّرِدُ وَتَنْعَكِسُ عَلَى الَّتِي تَطَّرِدُ، وَلَا تَنْعَكِسُ؛ لِأَنَّ الِانْعِكَاسَ يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ تَعَلُّقٍ لِلْحُكْمِ بِالْوَصْفِ وَيُوجِبُ زِيَادَةَ قُوَّةٍ فِي ظَنِّ كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً. وَالثَّانِي أَنْ يَرِدَ عَلَى خِلَافِ سُنَنِهِ أَيْ يَرِدُ الْحُكْمُ إلَى خِلَافِهِ لَا عَلَى سُنَنِهِ بَلْ سُنَنٍ غَيْرِ سُنَنِهِ كَذَا لَفْظُ التَّقْوِيمِ وَهَذَا النَّوْعُ لَيْسَ بِعَكْسٍ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي تَعْرِيفِ الْعَكْسِ بَلْ هُوَ فِي أَقْسَامِ الْقَلْبِ، وَلِهَذَا ذَكَرَهُ صَدْرُ الْإِسْلَامِ وَعَامَّةُ الْأُصُولِيِّينَ فِي أَقْسَامِ الْقَلْبِ، وَلَمْ يَذْكُرُوهُ فِي الْعَكْسِ لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ يُشْبِهُ الْعَكْسَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ رَدٌّ لِلْحُكْمِ الَّذِي اطَّرَدَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ سُنَنِهِ أَوْرَدَهُ الشَّيْخُ فِي هَذَا الْقِسْمِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ هَذَا أَيْ الصَّوْمُ النَّفَلُ عِبَادَةٌ لَا يَمْضِي فِي فَاسِدِهَا يَعْنِي إذَا فَسَدَتْ لَا يَجِبُ، وَلَا يَجُوزُ إتْمَامُهَا وَالْمُضِيُّ فِيهَا، وَاحْتَرَزَ بِهِ عَنْ الْحَجِّ فَإِنَّهُ وَجَبَ بِالشُّرُوعِ؛ لِأَنَّ الْمُضِيَّ يَجِبُ فِيهِ بَعْدَ الْفَسَادِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَلْزَمَ بِالشُّرُوعِ

وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ الْخَالِصَةُ فَخَمْسَةُ أَنْوَاعٍ فِي الْفَرْعِ وَثَلَاثَةٌ فِي الْأَصْلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ لَمَّا كَانَ الشَّأْنُ كَمَا قُلْنَا إنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ لَا يُمْضَى فِي فَاسِدِهَا أَوْ لَمَّا كَانَ صَوْمُ النَّفْلِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ أَيْ فِي الصَّوْمِ النَّفَلُ عَمَلُ النَّذْرِ وَالشُّرُوعُ كَمَا اسْتَوَى عَمَلُهُمَا فِي الْوُضُوءِ يَعْنِي اسْتَوَى عَمَلُهُمَا فِي الْوُضُوءِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا يُمْضَى فِي فَاسِدِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي التَّنَازُعِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْضَى فِي فَاسِدِهِ أَيْضًا فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ اسْتِوَاؤُهُمَا فِيهِ كَمَا فِي الْوُضُوءِ وَهَذَا أَيْ هَذَا النَّوْعُ ضَعِيفٌ أَيْ فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهِ الْقَلْبِ، وَيُسَمَّى هَذَا قَلْبَ التَّسْوِيَةِ. وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَذَهَبَ بَعْضُ مَنْ صَحَّحَ الْقَلْبَ إلَى قَبُولِ هَذَا النَّوْعِ لِوُجُودِ حَدِّ الْقَلْبِ فِيهِ إذْ السَّائِلُ قَدْ جَعَلَ الْوَصْفَ الْمَذْكُورَ بَعْدَمَا كَانَ شَاهِدًا عَلَيْهِ شَاهِدًا لِنَفْسِهِ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنْ الْحُكْمِ الْمُسْتَلْزِمِ لِمُخَالَفَةِ دَعْوَى الْمُسْتَدِلِّ؛ لِأَنَّ اسْتِوَاءَ الشُّرُوعِ وَالنَّذْرِ لَوْ ثَبَتَ يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُ الشُّرُوعِ مُلْزِمًا كَالنَّذْرِ، وَهُوَ خِلَافُ دَعْوَى الْمُسْتَدِلِّ وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ بِوُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ ذُكِرَتْ فِي الْكِتَابِ أَحَدُهَا أَنَّ السَّائِلَ جَاءَ بِحُكْمٍ آخَرَ لَيْسَ بِنَاقِضٍ لِلْحُكْمِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ لَمْ يَنْفِ التَّسْوِيَةَ لِيَكُونَ إثْبَاتُهَا مُنَاقِضًا لِمُدَّعَاهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ذَهَبَتْ الْمُنَاقَضَةُ الَّتِي هِيَ شَرْطُ صِحَّةِ الْقَلْبِ فَلَمْ يَكُنْ دَفْعًا لِدَعْوَى الْمُسْتَدِلِّ فَلَا يُقْبَلُ إلَّا أَنَّ الْفَرِيقَ الْأَوَّلَ يَقُولُونَ لَيْسَ تَنَاقُضُ الْحُكْمَيْنِ ذَاتًا شَرْطًا لِصِحَّةِ الْقَلْبِ بَلْ انْتِفَاءُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ كَافٍ لِصِحَّتِهِ، وَقَدْ وُجِدَ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الِاسْتِوَاءِ مُسْتَلْزِمٌ لِانْتِفَاءِ مُدَّعَى الْمُسْتَدِلِّ، وَفِي بَيَانِ الْوَجْهِ الرَّابِعِ دُفِعَ هَذَا السُّؤَالُ، وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِانْتِفَاءِ الْمُنَاقَضَةِ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ لَمْ يَكُنْ هَذَا النَّوْعُ مِنْ بَابِ الْمُعَارَضَةِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ كَانَ مُعَارَضَةً صُورَةً، وَإِيرَادُهُ فِي هَذَا الْبَابِ بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ وَلِهَذَا كَانَ مُعَارَضَةً فَاسِدَةً. وَالثَّانِي أَنَّ السَّائِلَ جَاءَ بِحُكْمٍ مُجْمَلٍ إذْ الِاسْتِوَاءُ يَحْتَمِلُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْإِلْزَامِ الْمُسَاوَاةَ فِي السُّقُوطِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْبَيَانُ إلَّا بِكَلَامٍ مُبْتَدَأٍ بِأَنْ يُثْبِتَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الشُّرُوعِ وَالنَّذْرِ فِي الْإِلْزَامِ وَلَيْسَ إلَى السَّائِلِ ذَلِكَ. وَالثَّالِثُ أَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي ذَكَرَهُ السَّائِلُ مُجْمَلٌ لِمَا قُلْنَا وَالْحُكْمُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ مُفَسِّرٌ وَالْمُجْمَلُ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِلْمُفَسَّرِ لِثُبُوتِ الِاحْتِمَالِ فِي الْمُجْمَلِ وَانْتِفَائِهِ عَنْ الْمُفَسَّرِ. وَالرَّابِعُ إنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكَلَامِ مَعْنَاهُ فَإِنَّ مَا لَا مَعْنَى لَهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ لَيْسَ بِكَلَامٍ وَالسَّائِلُ، وَإِنْ عَلَّقَ بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ حُكْمَ الِاسْتِوَاءِ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ شَيْءٌ آخَرُ يَخْتَلِفُ مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ فَإِنَّ اسْتِوَاءَ النَّذْرِ وَالشُّرُوعَ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ الْوُضُوءُ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ الْإِلْزَامِ فَإِنَّهُ لَا أَثَرَ لِلنَّذْرِ، وَلَا لِلشُّرُوعِ فِي إيجَابِ الْوُضُوءِ بِالْإِجْمَاعِ وَاسْتِوَاؤُهَا فِي الْفَرْعِ، وَهُوَ الصَّوْمُ النَّفَلُ بِاعْتِبَارِ الْإِلْزَامِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ ثُبُوتٌ مِنْ وَجْهٍ سُقُوطٌ مِنْ وَجْهٍ. وَالْمَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ عَلَى وَجْهِ التَّضَادِّ أَيْ التَّنَافِي وَاخْتِلَافُ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ مُبْطِلٌ لِلْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ إبَانَةٌ مِثْلُ حُكْمِ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ بِمِثْلِ عِلَّتِهِ فِي الْآخَرِ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَعَدَّى مِنْ الْأَصْلِ إلَى الْفَرْعِ حُكْمٌ لَا يُوجَدُ فِي الْأَصْلِ فَكَانَ هَذَا نَظِيرَ إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ فِي الْفَرْعِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْحِلِّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ هَذَا التَّعْلِيلُ إذَا كَانَ الِاسْتِوَاءُ بِنَفْسِهِ مَقْصُودًا، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ. قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ الْخَافِضَةُ) أَيْ الْمُعَارَضَةُ الَّتِي خَلَصَتْ عَنْ مَعْنَى الْمُنَاقَضَةِ وَالْإِبْطَالِ فَثَمَانِيَةُ أَنْوَاعٍ، خَمْسَةٌ مِنْهَا تَتَحَقَّقُ فِي الْفَرْعِ، وَثَلَاثَةٌ فِي الْأَصْلِ ثُمَّ اثْنَانِ مِنْ الْخَمْسَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْفَرْعِ

أَمَّا الَّتِي فِي الْفَرْعِ فَأَصَحُّ وُجُوهِهَا الْمُعَارَضَةُ بِضِدِّ ذَلِكَ الْحُكْمِ فَيَقَعُ بِذَلِكَ مَحْضُ الْمُقَابَلَةِ فَيَمْتَنِعُ الْعَمَلُ وَيَنْسَدُّ الطَّرِيقُ إلَّا بِتَرْجِيحٍ مِثَالُهُ قَوْلُهُمْ إنَّ الْمَسْحَ رُكْنٌ فِي وُضُوءٍ فَيُسَنُّ تَثْلِيثُهُ كَالْغَسْلِ فَيُقَالُ إنَّهُ مَسْحٌ فَلَا يُسَنُّ تَثْلِيثُهُ كَمَسْحِ الْخُفِّ. وَالثَّانِي مُعَارَضَةٌ بِزِيَادَةٍ هِيَ تَفْسِيرٌ لِلْأَوَّلِ وَتَقْرِيرٌ لَهُ فَمِثْلُ قَوْلِنَا إنَّ الْمَسْحَ رُكْنٌ فِي الْوُضُوءِ فَلَا يُسَنُّ تَثْلِيثُهُ بَعْدَ إكْمَالِهِ كَالْغَسْلِ، وَهَذَا أَحَدُ وَجْهَيْ الْقَلْبِ عَلَى مَا قُلْنَا. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَمَا فِيهِ نَفْيٌ لِمَا أَثْبَتَهُ الْأَوَّلُ أَوْ إثْبَاتٌ لِمَا نَفَاهُ لَكِنْ بِضَرْبِ تَغْيِيرٍ مِثْلُ قَوْلِنَا فِي الثَّيِّبِ الْيَتِيمَةِ إنَّهَا صَغِيرَةٌ فَتُنْكَحُ كَاَلَّتِي لَهَا أَبٌ أَيْ فَقَالُوا هِيَ صَغِيرَةٌ فَلَا يُوَلَّى عَلَيْهَا بِوِلَايَةٍ الْأُخُوَّةِ كَالْمَالِ، وَهَذَا تَغْيِيرٌ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ لِإِثْبَاتِ الْوِلَايَةِ لَا لِتَعْيِينِ الْوَلِيِّ إلَّا أَنَّ تَحْتَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ نَفْيًا لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأُخُوَّةِ إذَا بَطَلَتْ بَطَلَ سَائِرُهَا بِنَاءً عَلَيْهَا بِالْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا الرَّابِعُ فَالْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ قِسْمَيْ الْعَكْسِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ـــــــــــــــــــــــــــــQصَحِيحَانِ بِلَا شُبْهَةٍ وَثَلَاثَةٌ مِنْهَا فِيهَا شُبْهَةُ الصِّحَّةِ، وَالثَّلَاثَةُ الَّتِي فِي الْأَصْلِ فَاسِدَةٌ كُلُّهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ الْفَاسِدَةَ مِنْهَا فِي هَذَا الْبَابِ لِبَيَانِ جَمِيعِ أَقْسَامِهَا، وَإِحَاطَةِ سَائِرِ أَنْوَاعِهَا أَمَّا الَّتِي فِي الْفَرْعِ أَيْ الْمُعَارَضَاتُ الَّتِي فِي الْفَرْعِ فَأَصَحُّ وُجُوهِهَا. الْمُعَارَضَةُ بِضِدِّ ذَلِكَ الْحُكْمِ أَيْ بِمَا يُخَالِفُ حُكْمَ الْمُسْتَدِلِّ بِأَنْ يَذْكُرَ عِلَّةً أُخْرَى تُوجِبُ خِلَافَ مَا تُوجِبُهُ عِلَّةُ الْمُسْتَدِلِّ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَتَغْيِيرٍ فِيهِ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ بِعَيْنِهِ فَيَقَعُ بِذَلِكَ أَيْ بِإِيرَادِ الضِّدِّ مَحْضُ الْمُقَابَلَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِإِبْطَالِ عِلَّةِ الْخَصْمِ فَيَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِهِمَا بِمُدَافَعَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَا يُقَابِلُهَا وَيَفْسُدُ طَرِيقُ الْعَمَلِ إلَّا بِتَرَجُّحِ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى فَإِذَا تَرَجَّحَتْ إحْدَاهُمَا وَجَبَ الْعَمَلُ بِالرَّاجِحَةِ حِينَئِذٍ. قَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ، وَهَذِهِ الْمُعَارِضَةُ تَجِيءُ عَلَى كُلِّ عِلَّةٍ يَذْكُرُهَا الْمُعَلِّلُ. مِثَالُهُ أَيْ مِثَالُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمُعَارَضَةِ يَتَحَقَّقُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي تَثْلِيثِ الْمَسْحِ رُكْنٌ فِي الْوُضُوءِ فَيُسَنُّ تَثْلِيثُهُ كَالْغَسْلِ فَيُقَالُ لَهُمْ: إنَّهُ مَسْحٌ فَلَا يُسَنُّ تَثْلِيثُهُ كَمَسْحِ الْخُفِّ فَهَذِهِ مُعَارَضَةٌ خَالِصَةٌ صَحِيحَةٌ لِمَا فِيهَا مِنْ إثْبَاتِ حُكْمٍ مُخَالِفٍ لِلْحُكْمِ الْأَوَّلِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَتَغْيِيرٍ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي، وَهُوَ قَوْلُنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ رُكْنٌ فِي الْوُضُوءِ فَلَا يُسَنُّ تَثْلِيثُهُ بَعْدَ إكْمَالِهِ كَالْغَسْلِ مُعَارَضَةٌ بِتَغْيِيرٍ هُوَ تَفْسِيرٌ لِلْحُكْمِ الْأَوَّلِ وَتَقْرِيرٌ لَهُ وَهِيَ صَحِيحَةٌ أَيْضًا حَتَّى وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى التَّرْجِيحِ فِيهَا كَمَا فِي الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى وَلَكِنَّهَا دُونَ الْأُولَى فَإِنَّ الْأُولَى تَصِحُّ بِدُونِ الزِّيَادَةِ، وَهَذِهِ لَا تَصِحُّ بِدُونِهَا كَذَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ لِأَصْحَابِنَا. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقِسْمُ أَقْوَى مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فِي الدَّفْعِ، وَمُقَدَّمًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ وَجْهَيْ الْقَلْبِ، وَالْقَلْبُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُعَارَضَةِ الْمَحْضَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْأُصُولِيِّينَ لِتَضَمُّنِهِ إبْطَالَ عِلَّةِ الْخَصْمِ ثُمَّ إيرَادُ الشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا النَّوْعَ هَاهُنَا مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّهُ فِي بَيَانِ الْمُعَارَضَةِ الْمَحْضَةِ الْخَالِصَةِ عَنْ تَضَمُّنِ مَعْنَى الْإِبْطَالِ، وَهَذَا النَّوْعُ لَيْسَ بِمُعَارَضَةٍ خَالِصَةٍ، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي الْمُعَارَضَةِ الَّتِي فِيهَا مُنَاقَضَةٌ فَكَيْفَ يَصِحُّ إيرَادُهُ فِي الْمُعَارَضَةِ الْخَالِصَةِ وَمَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ مُعَارَضَةٌ ذَاتًا، وَمُنَاقَضَةٌ ضِمْنًا فَيَصِحُّ إيرَادُهُ هَاهُنَا بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْمُعَارَضَةِ، وَيَصِحُّ إيرَادُهُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَيْضًا بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْمُنَاقَضَةِ، وَمَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْأُصُولِ لِأَصْحَابِنَا أَنَّ هَذِهِ مُعَارَضَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْقَلْبِ فَالسَّائِلُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ يَأْتِي بِهِ عَلَى وَجْهِ الْمُعَارَضَةِ، وَإِنْ شَاءَ يَأْتِي بِهِ عَلَى وَجْهِ الْقَلْبِ لَا يَدْفَعَانِ هَذَا الْإِشْكَالَ؛ لِأَنَّ الشَّيْخَ قَيَّدَ الْمُعَارَضَةَ بِالْخَالِصَةِ وَبِإِيرَادِ هَذَا النَّوْعِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يَحْدُثُ الْخُلُوصُ فِيهِ. وَكَذَا بِإِيرَادِ السَّائِلِ إيَّاهُ عَلَى وَجْهِ الْمُعَارَضَةِ لَا يَصِيرُ مُعَارِضَةً خَالِصَةً فَلَا يَسْتَقِيمُ إيرَادُهُ فِي الْمُعَارَضَةِ الْخَالِصَةِ بِوَجْهٍ وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَقْسَامَ الْمُعَارَضَةِ فِي الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ عَلَى وَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ لَكِنَّهُمَا ذَكَرَا الْقَلْبَ وَالْعَكْسَ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ، وَذَكَرَا أَقْسَامَ الْمُعَارَضَةِ فِي فَصْلٍ آخَرَ، وَلَمْ يُقَيِّدَا الْمُعَارَضَةَ بِالْخُلُوصِ فَاسْتَقَامَ إيرَادُ هَذَا الْقِسْمِ مِنْهُمَا فِي أَقْسَامِ الْمُعَارَضَةِ كَمَا اسْتَقَامَ إيرَادُهُ فِي أَقْسَامِ الْقَلْبِ وَلَكِنَّ الشَّيْخُ لَمَّا تَصَرَّفَ وَجَعَلَ الْكُلَّ مِنْ بَابِ الْمُعَارَضَةِ ثُمَّ قَسَّمَ الْمُعَارَضَةَ عَلَى قِسْمَيْنِ خَالِصَةٍ وَغَيْرِهَا اشْتَبَهَ إيرَادُهُ فِي الْقِسْمَيْنِ لِاسْتِلْزَامِهِ كَوْنَ هَذَا النَّوْعِ مُعَارَضَةً خَالِصَةً وَغَيْرَ خَالِصَةٍ، وَلَا أَعْرِفُ وَجْهَ التَّقَصِّي عَنْهُ. قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الثَّالِثُ) أَيْ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَقْسَامِ الْمُعَارَضَةِ الْخَالِصَةِ فِي الْفَرْعِ فَمَا فِيهِ

فَفِيهِ صِحَّةٌ مِنْ وَجْهٍ وَعَلَى ذَلِكَ مَا قُلْنَا الْكَافِرُ يَمْلِكُ بَيْعَ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ فَيَمْلِكُ شِرَاءَهُ كَالْمُسْلِمِ فَقَالُوا بِهَذَا الْمَعْنَى وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ ابْتِدَاؤُهُ وَقَرَارُهُ كَالْمُسْلِمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQأَيْ فَالْمُعَارَضَةُ الَّتِي فِيهَا نَفْيٌ لِمَا أَثْبَتَهُ الْمُسْتَدِلُّ أَوْ إثْبَاتٌ لِمَا نَفَاهُ، وَلَكِنْ بِضَرْبِ تَغَيُّرٍ فِيهِ إخْلَالٌ بِمَوْضِعِ النِّزَاعِ. مِثْلُ قَوْلِنَا فِي أَنَّ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ كَالْأَخِ وَالْعَمِّ وِلَايَةَ تَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ وَالْجَدِّ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهَا أَيْ الْيَتِيمَةَ صَغِيرَةٌ عَلَيْهَا فَيَثْبُتُ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ كَاَلَّتِي لَهَا أَبٌ فَقَالُوا أَيْ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ هَذِهِ صَغِيرَةٌ فَلَا يُوَلَّى عَلَيْهَا بِوِلَايَةِ الْأُخُوَّةِ قِيَاسًا عَلَى الْمَالِ فَإِنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْأَخِ عَلَى مَالِ الصَّغِيرَةِ بِالِاتِّفَاقِ، وَهَذَا تَغْيِيرُ الْأَوَّلِ أَيْ تَعْيِينُ الْأَخِ زِيَادَةٌ تُوجِبُ تَغْيِيرًا لِلْحُكْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي وَقَعَ النِّزَاعُ فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ وَقَعَ لِإِثْبَاتِ وِلَايَةِ التَّزْوِيجِ عَلَيْهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا لِتَعْيِينِ الْوَلِيِّ الزَّوْجِ لَهَا وَالْخَصْمُ بِهَذِهِ الْمُعَارَضَةِ عَلَّلَ لِنَفْيِ الْوِلَايَةِ فِي مَحَلٍّ خَاصٍّ، وَهُوَ الْأَخُ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْحُكْمُ عَيْنَ ذَلِكَ الْحُكْمِ فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةُ دَفْعًا إلَّا أَنَّ أَيْ لَكِنْ تَحْتَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَهِيَ التَّعْلِيلُ لِنَفْيِ وِلَايَةِ الْأَخِ فِي التَّزْوِيجِ نَفْيُ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ إثْبَاتُ وِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ عَلَى الصَّغِيرَةِ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ قَرَابَةَ الْأُخُوَّةِ أَقْرَبُ الْقَرَابَاتِ بَعْدَ قَرَابَةِ الْوِلَادَةِ، وَالْأَخُ هُوَ الْأَصْلُ بَعْدَ الْأَبِ وَالْجَدِّ فِي الْوِلَايَةِ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لِسَائِرِ الْأَقَارِبِ تَثْبُتُ بَعْدَ وِلَايَةِ الْأَخِ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا تَثْبُتُ وِلَايَةُ الْأَخِ بَعْدَ وِلَايَةِ الْأَبِ وَالْجَدِّ فَلَمَّا انْتَفَى بِهَذِهِ الْمُعَارَضَةِ وِلَايَةُ الْأَخِ الَّذِي هُوَ الْأَقْرَبُ وَالْأَصْلُ؛ فَلَأَنْ تَنْتَفِيَ وِلَايَةُ سَائِرِ الْأَقَارِبِ الَّتِي هِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى وِلَايَةِ الْأَخِ كَانَ الْأَخُ أَوْلَى، أَوْ يُقَالُ وِلَايَةُ الْأَخِ مُنْتَفِيَةٌ عَنْهَا بِهَذِهِ الْمُعَارَضَةِ وَوِلَايَةُ مَنْ سِوَى الْأَخِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ مُنْتَفِيَةٌ عَنْهَا بِالْأَخِ فَيَكُونُ كُلُّ الْوِلَايَاتِ مُنْتَفِيَةٌ بِهَذِهِ الْمُعَارَضَةِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَظْهَرُ مَعْنَى الصِّحَّةِ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَوِيًّا. قَوْلُهُ: (فَفِيهِ صِحَّةٌ مِنْ وَجْهٍ) يَعْنِي إيرَادَهُ فِي الْمُعَارَضَةِ بَعْدَمَا بَيَّنَّا فِيهِ مَا يُوجِبُ فَسَادَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ فِيهِ صِحَّةً مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ مَا ادَّعَاهُ السَّائِلُ مِنْ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ يَلْزَمُ مِنْهُ انْتِفَاءُ حُكْمِ الْمُسْتَدِلِّ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بِهَذِهِ الْمُعَارَضَةِ خِلَافُ حُكْمِ الْمُسْتَدِلِّ صَرِيحًا وَقَصْدًا لَمْ يَتَحَقَّقْ مَعْنَى الْمُعَارَضَةِ فِيهِ فَتَكُونُ فَاسِدَةً، وَمِنْ حَيْثُ إنَّ مَا ادَّعَاهُ السَّائِلُ مِنْ الْحُكْمِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ حُكْمِ الْمُسْتَدِلِّ يَظْهَرُ فِيهَا جِهَةُ الصِّحَّةِ وَعَلَى ذَلِكَ أَيْ عَلَى أَنَّ فِي هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ جِهَةُ الصِّحَّةِ قُلْنَا كَذَا فَقَالُوا كَذَا. الْكَافِرُ إذَا اشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ عِنْدَنَا وَلَكِنَّهُ يُؤْمَرُ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَيُجْبَرُ عَلَيْهِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ فَعَلَّلَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ مَالٌ يَمْلِكُ الْكَافِرُ بَيْعَهُ فَيَمْلِكُ شِرَاءَهُ قِيَاسًا عَلَى الْمُسْلِمِ فَعَارَضُوهُ بِأَنَّ الْكَافِرَ لَمَّا مَلَكَ بَيْعَهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ ابْتِدَاؤُهُ أَيْ ابْتِدَاءُ الْمِلْكِ. وَقَوْلُهُ كَالْمُسْلِمِ وَفِي التَّقْوِيمِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ الشِّرَاءِ وَالتَّقْرِيرُ عَلَيْهِ كَالْمُسْلِمِ ثُمَّ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِقَرَارِ مِلْكِ الْكَافِرِ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مَحَلًّا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِيهِ ابْتِدَاءً فَفِي هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ إثْبَاتُ مَا لَمْ يَنْفِهِ الْمُسْتَدِلُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَالْقَرَارِ، وَإِنَّمَا أَثْبَتَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَلَا تَكُونُ مُتَّصِلَةً بِمَوْضِعِ النِّزَاعِ فَتَكُونُ فَاسِدَةً إلَّا أَنَّ فِيهَا شُبْهَةَ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ اسْتِوَاءُ الْبَقَاءِ وَالِابْتِدَاءِ ظَهَرَتْ الْمُفَارَقَةُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَيَصِحُّ الْبَيْعُ، وَلَا يَصِحُّ الشِّرَاءُ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْمِلْكَ ابْتِدَاءً فَيَتَّصِلُ بِمَوْضِعِ النِّزَاعِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَكِنْ الِاتِّصَالُ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بَعْدَ الْبِنَاءِ بِإِثْبَاتِ

وَأَمَّا الْخَامِسُ فَالْمُعَارَضَةُ فِي حُكْمٍ غَيْرِ الْأَوَّلِ لَكِنْ فِيهِ نَفْيٌ لِلْأَوَّلِ أَيْضًا مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الَّتِي نُعِيَ إلَيْهَا زَوْجُهَا فَنَكَحَتْ وَوَلَدَتْ ثُمَّ جَاءَ الْأَوَّلُ حَيًّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَحَقُّ بِالْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ فِرَاشٍ صَحِيحٍ فَإِنْ عَارَضَهُ الْخَصْمُ بِأَنَّ الثَّانِيَ صَاحِبُ فِرَاشٍ فَاسِدٍ فَيُسْتَوْجَبُ بِهِ نَسَبُ الْوَلَدِ كَرَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ شُهُودٍ فَوَلَدَتْ فَهَذِهِ الْمُعَارَضَةُ فِي الظَّاهِرِ فَاسِدَةٌ لِاخْتِلَافِ الْحُكْمِ إلَّا أَنَّ النَّسَبَ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ إثْبَاتُهُ مِنْ زَيْدٍ بَعْدَ ثُبُوتِهِ مِنْ عَمْرٍو صَحَّتْ الْمُعَارَضَةُ بِمَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ النَّسَبِ فَاحْتَاجَ الْخَصْمُ إلَى التَّرْجِيحِ بِأَنَّ فِرَاشَ الْأَوَّلِ صَحِيحٌ ثُمَّ عَارَضَهُ الْخَصْمُ بِأَنَّ الثَّانِيَ شَاهِدٌ وَالْمَاءُ مَاؤُهُ فَتَبَيَّنَ بِهِ فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الصِّحَّةَ وَالْمِلْكَ أَحَقُّ بِالِاعْتِبَارِ مِنْ الْحَضْرَةِ؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ شُبْهَةٌ فَلَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ فَيَفْسُدُ التَّرْجِيحُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ، وَلَيْسَ إلَى السَّائِلِ الْبِنَاءُ تَرَجَّحَتْ جِهَةُ الْفَسَادِ فِي هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ فَلَا تَصْلُحُ لِدَفْعِ تَعْلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي التَّقْوِيمِ وَفِي إيرَادِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمُعَارَضَةِ فِي أَقْسَامِ الْمُعَارَضَةِ الْخَالِصَةِ مِنْ السُّؤَالِ مَا فِي إيرَادِ النَّوْعِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ جِهَةَ صِحَّةِ الْمُعَارَضَةِ فِي هَذَا النَّوْعِ يَسْتَلْزِمُ إبْطَالَ تَعْلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ أَيْضًا فَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مُعَارَضَةً لَا يَكُونُ خَالِصَةً. قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الْخَامِسُ فَالْمُعَارَضَةُ فِي حُكْمٍ غَيْرِ الْأَوَّلِ) يَعْنِي يَأْتِي السَّائِلُ بِحُكْمٍ يُخَالِفُ حُكْمًا آخَرَ، وَإِلَّا يُخَالِفُ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ صُورَةً لَكِنْ فِيهِ أَيْ فِيمَا يَثْبُتُ بِهَذِهِ الْمُعَارَضَةِ مِنْ الْحُكْمِ نَفْيٌ مِنْ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كَمَا فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ، وَإِلَيْهِ أُشِيرَ بِلَفْظِهِ أَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَ السَّائِلِ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ إنَّ الثَّانِيَ يَسْتَوْجِبُ نَسَبَ الْوَلَدِ يُعَارِضُ عَدَمَ ثُبُوتِ النَّسَبِ لِلثَّانِي، وَلَا يُعَارِضُ ثُبُوتَ النَّسَبِ لِلْأَوَّلِ صُورَةً إلَّا أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا النَّوْعِ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ إنَّ مَحَلَّ حُكْمَيْ الْمُسْتَدِلِّ وَالسَّائِلِ مُخْتَلِفٌ فِي هَذَا النَّوْعِ. وَفِيمَا تَقَدَّمَ كَانَ الْمَحَلُّ وَاحِدًا مِثْلَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْ مِثْلَ مُعَارَضَةِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي نُعِيَ إلَيْهَا زَوْجُهَا أَيْ أُخْبِرَتْ بِمَوْتِهِ مِنْ نَعَى النَّاعِي الْمَيِّتَ نَعْيًا إذَا أَخْبَرَ بِمَوْتِهِ، وَهُوَ مَنْعِيٌّ فَاعْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَجَاءَتْ بِوَلَدٍ ثُمَّ حَضَرَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ فِرَاشٍ صَحِيحٍ لِقِيَامِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا بِصِفَةِ الصِّحَّةِ فَكَانَ أَحَقَّ بِالْوَلَدِ كَمَا إذَا لَمْ تَتَزَوَّجْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَجَاءَتْ بِالْأَوْلَادِ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ بِأَنَّ الثَّانِيَ صَاحِبُ فِرَاشٍ فَاسِدٍ إلَى آخِرِهِ فَهَذِهِ مُعَارَضَةٌ فَاسِدَةٌ فِي الظَّاهِرِ لِاخْتِلَافِ الْحُكْمِ يَعْنِي مِنْ شَرْطِ الْمُعَارَضَةِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الَّذِي يَتَوَارَدُ عَلَيْهِ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ وَاحِدًا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ حُجَّةً لِلْمُدَافَعَةِ وَالْمُدَافَعَةُ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِيمَا قُلْنَا، وَهَاهُنَا الْحُكْمُ مُخْتَلِفٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ عَلَّلَ لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ مِنْ الْأَوَّلِ، وَالسَّائِلُ عَلَّلَ لِإِثْبَاتِهِ مِنْ الثَّانِي، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُعَلِّلَ لِنَفْيِهِ عَنْ الْأَوَّلِ لِيَتَوَارَدَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ فَفَسَدَتْ الْمُعَارَضَةُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فِي التَّقْوِيمِ وَغَيْرِهِ لِاخْتِلَافِ الْحُكْمِ فِي هَذَا النَّوْعِ، وَإِنَّمَا تَعَرَّضَ لِاخْتِلَافِ الْمَحَلِّ فَقِيلَ هُوَ إثْبَاتٌ لِلْحُكْمِ الْأَوَّلِ فِي مَحَلٍّ غَيْرِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَوْضَحُ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ مِنْ الْأَوَّلِ. وَالسَّائِلُ أَثْبَتَ النَّسَبَ لِلثَّانِي فَكَانَ مَحَلُّ الْحُكْمِ مُخْتَلِفًا فَفَسَدَتْ الْمُعَارَضَةُ لِاخْتِلَافِ الْمَحَلِّ إذْ مِنْ شَرْطِهَا اتِّحَادُ الْمَحَلِّ، وَلَمْ يُوجَدْ إلَّا أَنَّ فِيهَا صِحَّةً مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ أَنَّ النَّسَبَ مَتَى ثَبَتَ مِنْ عَمْرٍو مَثَلًا وَهُوَ الثَّانِي لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مِنْ زَيْدٍ، وَهُوَ الْأَوَّلُ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ ثُبُوتِهِ مِنْ شَخْصَيْنِ فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةُ نَفْيَ النَّسَبِ عَنْ الْأَوَّلِ، وَقَدْ وُجِدَ مَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ النَّسَبِ فِي حَقِّ الثَّانِي، وَهُوَ الْفِرَاشُ الْفَاسِدُ فَصَحَّتْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ: إنَّ فِيهَا شُبْهَةَ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَوْ ثَبَتَ مِنْ الْحَاضِرِ انْتَفَى مِنْ الْغَائِبِ لَكِنْ الْحُكْمُ الَّذِي ادَّعَاهُ الْمُجِيبُ لَا يَنْتَفِي إلَّا بَعْدَ إثْبَاتِ السَّائِلِ الْحُكْمَ الَّذِي ادَّعَاهُ، وَلَيْسَ إلَيْهِ إثْبَاتُهُ، وَإِنَّمَا إلَيْهِ الْإِبْطَالُ بِالْمُدَافَعَةِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَتَكُونُ مُعَارَضَةً فَاسِدَةً فَاحْتَاجَ الْخَصْمُ إلَى التَّرْجِيحِ، وَلَمَّا صَحَّتْ الْمُعَارَضَةُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَ احْتَاجَ الْخَصْمُ، وَهُوَ الْمُجِيبُ إلَى تَرْجِيحِ مَا ادَّعَاهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ بِأَنْ يَقُولَ فِرَاشُ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ صَحِيحٌ وَالْمِلْكُ قَائِمٌ حَقِيقَةً، وَفِرَاشُ الزَّوْجِ الثَّانِي فَاسِدٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَحَقَّ بِالِاعْتِبَارِ. كَمَا لَوْ كَانَا حَاضِرَيْنِ، وَاحِدُ الْفِرَاشَيْنِ صَحِيحٌ وَالْآخَرُ فَاسِدٌ، ثُمَّ عَارَضَهُ الْخَصْمُ، وَهُوَ السَّائِلُ بِأَنَّ الثَّانِيَ شَاهِدٌ أَيْ حَاضِرٌ

وَأَمَّا الْمُعَارَضَاتُ فِي الْأَصْلِ فَثَلَاثَةٌ مُعَارَضَةٌ بِمَعْنًى لَا يَتَعَدَّى وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِعَدَمِ حُكْمِهِ وَلِفَسَادِهِ لَوْ أَفَادَ تَعْدِيَةً وَالثَّانِي أَنْ يَتَعَدَّى إلَى فَصْلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفِي الْعِلَّةَ الْأُولَى، وَالثَّالِثُ أَنْ يَتَعَدَّى إلَى مَعْنًى مُخْتَلَفٍ فِيهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْمَاءُ مَاؤُهُ، وَقَدْ وُجِدَ مَا يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ، وَهُوَ الْفِرَاشُ الْفَاسِدُ فَيَكُونُ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ الْأَوَّلِ فَيَتَبَيَّنُ بِهَذَا أَيْ بِالتَّرْجِيحِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنَّ صِحَّةَ فِرَاشِ الْأَوَّلِ، وَقِيَامَ مِلْكِهِ مَعَ غَيْبَتِهِ أَحَقُّ بِالِاعْتِبَارِ مِنْ حَضْرَةِ الثَّانِي، وَكَوْنُهُ صَاحِبُ الْمَاءِ مَعَ فَسَادِ فِرَاشِهِ وَانْتِفَاءِ مِلْكِهِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ يُوجِبُ الشُّبْهَةَ، وَالصَّحِيحُ يُوجِبُ الْحَقِيقَةَ فَكَانَتْ الْحَقِيقَةُ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ الشُّبْهَةِ كَذَا فِي بَعْضِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْفِرَاشُ الصَّحِيحُ الَّذِي لِلْغَائِبِ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ النَّسَبِ لِلْأَوَّلِ، وَالْفِرَاشُ الْفَاسِدُ مَعَ قَرَائِنِهِ الْمَذْكُورَةِ لَيْسَ مَثَلًا لِلصَّحِيحِ فَلَا يُنْسَخُ بِهِ حُكْمُ الِاسْتِحْقَاقِ الثَّابِتِ بِالصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُنْسَخُ إلَّا بِمَا هُوَ فَوْقَهُ أَوْ مِثْلُهُ وَبَعْدَمَا صَارَ النَّسَبُ مُسْتَحَقًّا لِزَيْدٍ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ لِعَمْرٍو بِوَجْهٍ مَا. قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الْمُعَارَضَاتُ فِي الْأَصْلِ) أَيْ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ أَنْ يَذْكُرَ السَّائِلُ عِلَّةً أُخْرَى فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ تُفْقَدُ هِيَ فِي الْفَرْعِ، وَيُسْنَدُ الْحُكْمُ إلَيْهَا مُعَارِضًا لِلْمُجِيبِ فِي عِلَّتِهِ، وَهِيَ بَاطِلَةٌ لِمَا عَرَفْت أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي يَدَّعِيهِ السَّائِلُ مُتَعَدِّيًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُتَعَدٍّ لَا يُنَافِي الْوَصْفَ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُجِيبُ إذْ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِعِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ. كَمَا لَوْ وَقَعَتْ فِي دَنٍّ قَطْرَةُ بَوْلٍ وَدَمٍ وَخَمْرٍ تَنَجَّسَ بِنَجَاسَةِ الْبَوْلِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ حَتَّى لَوْ تَوَهَّمْنَا زَوَالَ الْبَعْضِ يَبْقَى الْبَاقِي مُنَجَّسًا ثُمَّ أَشَارَ الشَّيْخُ إلَى بَيَانِ فَسَادِ أَنْوَاعِهَا مُفَصَّلَةً فَقَالَ: وَأَمَّا الْمُعَارَضَاتُ فِي الْأَصْلِ فَثَلَاثَةٌ أَيْ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مُعَارَضَةٌ بِمَعْنًى لَا يَتَعَدَّى أَيْ بِذِكْرِ السَّائِلِ عِلَّةً فِي الْأَصْلِ لَا يَتَعَدَّى إلَى فَرْعٍ كَمَا إذَا عَلَّلَ الْمُجِيبُ فِي بَيْعِ الْحَدِيدِ بِالْحَدِيدِ بِأَنَّهُ مَوْزُونٌ قُوبِلَ بِجِنْسِهِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِهِ مُتَفَاضِلًا كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَيُعَارِضُهُ السَّائِلُ بِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ الثَّمِينَةُ دُونَ الْوَزْنِ، وَأَنَّهَا عُدِمَتْ فِي الْفَرْعِ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ الْحُرْمَةُ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ أَيْ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْمُعَارَضَةِ بَاطِلٌ إذْ التَّعْلِيلُ بِمَعْنَى لَا يَتَعَدَّى بَاطِلٌ؛ لِعَدَمِ حُكْمِهِ، وَهُوَ التَّعْدِيَةُ فَإِنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ التَّعْلِيلِ لَيْسَ إلَّا التَّعْدِيَةَ فَإِذَا خَلَا تَعْلِيلٌ عَنْ التَّعْدِيَةِ بَطَلَ الْخَلْوَةُ عَنْ الْفَائِدَةِ إذْ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ دُونَ الْعِلَّةِ وَلَا فَرْعَ يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِ بِالْعِلَّةِ، وَإِذَا بَطَلَ التَّعْلِيلُ بَطَلَتْ الْمُعَارَضَةُ بِهِ. وَلِفَسَادِهِ لَوْ أَفَادَ تَعْدِيَةً يَعْنِي لَوْ عَارَضَ السَّائِلُ بِمَعْنًى يُفِيدُ تَعْدِيَةً كَانَتْ الْمُعَارَضَةُ فَاسِدَةً أَيْضًا سَوَاءٌ تَعَدَّى إلَى فَرْعٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ أَوْ إلَى فَرْعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ لِعَدَمِ اتِّصَالِ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ بِمَوْضِعِ النِّزَاعِ إلَّا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَنْعَدِمُ تِلْكَ الْعِلَّةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ عَدَمَ الْعِلَّةِ لَا يُوجِبُ عَدَمَ الْحُكْمِ، وَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عِنْدَ عَدَمِ حُجَّةٍ أُخْرَى فَكَيْفَ يَصْلُحُ دَلِيلًا عِنْدَ مُقَابَلَةِ حُجَّةٍ. مِثَالُ التَّعْدِيَةِ إلَى فَصْلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ مَا إذَا عَلَّلَ الْمُجِيبُ فِي حُرْمَةِ بَيْعِ الْجِصِّ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا بِأَنَّهُ مَكِيلٌ قُوبِلَ بِجِنْسِهِ فَيَحْرُمُ بَيْعُهُ بِهِ مُتَفَاضِلًا كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ فَيُعَارِضُهُ السَّائِلُ بِأَنَّ الْمَعْنَى لَيْسَ فِي الْأَصْلِ مَا ذَكَرْت، وَلَكِنَّهُ الِاقْتِيَاتُ وَالِادِّخَارُ، وَقَدْ فُقِدَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْفَرْعِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَتَعَدَّى إلَى فَصْلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْأُرْزُ وَالدُّخْنُ وَنَحْوُهُمَا إذْ لَا يُنَاقِشُ الْمُجِيبُ السَّائِلَ فِيهَا لَكِنْ الْمُعَارَضَةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا تُفِيدُ لِلسَّائِلِ إلَّا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي الْجِصِّ، وَقَدْ قُلْنَا إنَّ عَدَمَ

وَمِنْ أَهْلِ النَّظَرِ فِي أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الْمُعَارَضَةَ حَسَنَةً لِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ أَحَدُهُمَا فَصَارَتَا مُتَدَافِعَتَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ فَيَصِيرُ إثْبَاتُ الْأُخْرَى إبْطَالًا مِنْ طَرِيقِ الضَّرُورَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعِلَّةِ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا. وَمِثَالُ مَا إذَا تَعَدَّى إلَى فَرْعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ مَا إذَا عَارَضَ السَّائِلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا بِأَنْ يَقُولَ لَيْسَ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ مَا ذَكَرْت، وَلَكِنَّهُ الطَّعْمُ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْفَرْعِ فَهَذَا الْمَعْنَى يَتَعَدَّى إلَى فَرْعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ وَهُوَ الْفَوَاكِهُ، وَمَا دُونَ الْكَيْلِ وَأَقْوَى الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الْمُعَارَضَةُ بِمَعْنًى يَتَعَدَّى إلَى فَرْعٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ فَسَادُ هَذَا الْوَجْهِ كَانَ فَسَادُ مَا سِوَاهُ أَوْلَى بِالثُّبُوتِ ثُمَّ فِي لَفْظِ الْكِتَابِ نَوْعُ اشْتِبَاهٍ فَإِنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ وَلِفَسَادِهِ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: وَذَلِكَ بَاطِلٌ كَاللَّامِ الْأُولَى وَالضَّمِيرُ فِيهِ رَاجِعٌ إلَى الْمَعْنَى فَصَارَ التَّقْدِيرُ الْمُعَارَضَةُ بِالْمَعْنَى الَّذِي لَا يَتَعَدَّى بَاطِلَةً لِكَذَا وَلِفَسَادِ الْمَعْنَى الَّذِي لَا يَتَعَدَّى لَوْ أَفَادَ تَعْدِيَةً، وَهَذَا لَا يَصْلُحُ تَعْلِيلًا لِمَا ذَكَرَهُ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَتَعَدَّى لَا يُفِيدُ تَعْدِيَةً بِوَجْهٍ إذْ لَوْ أَفَادَ تَعْدِيَةً لَمْ يَبْقَ غَيْرَ مُتَعَدِّدٍ. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ بِهَذَا التَّرْتِيبِ الْمُعَارَضَاتُ فِي الْأَصْلِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مُعَارَضَةٌ بِمَعْنًى لَا يَتَعَدَّى، وَمُعَارَضَةٌ بِمَعْنًى يَتَعَدَّى إلَى فَرْعٍ مَجْمَعٍ عَلَيْهِ، وَمُعَارَضَةٌ بِمَعْنَى يَتَعَدَّى إلَى فَرْعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، وَالْكُلُّ بَاطِلٌ لِعَدَمِ حُكْمِ التَّعْلِيلِ، وَهُوَ التَّعْدِيَةُ إنْ كَانَ الْمَعْنَى الَّذِي عَارَضَ بِهِ السَّائِلُ غَيْرَ مُتَعَدٍّ وَلِفَسَادِهِ لَوْ أَفَادَ تَعْدِيَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَوَاضِعِ النِّزَاعِ إلَّا أَنَّ نَظَرَ الْمَشَايِخِ لَمَّا كَانَ إلَى تَصْحِيحِ الْمَعْنَى لَمْ يَلْتَفِتُوا إلَى رِعَايَةِ اللَّفْظِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ ثُمَّ إنَّ الشَّيْخَ ذَكَرَ لَفْظَ الْبُطْلَانِ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَعْنَى غَيْرَ مُتَعَدٍّ، وَلَفْظَ الْفَسَادِ فِيمَا إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ فِي الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ عَدَمُ صِحَّتِهِ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِعِلَّةٍ قَاصِرَةٍ غَيْرُ صَحِيحٍ وَعَدَمُ تَعَلُّقِهِ بِمَوْضِعِ النِّزَاعِ، وَفِي الثَّانِي مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ عَدَمُ تَعَلُّقِهِ بِالْمُتَنَازَعِ فِيهِ. قَوْلُهُ: (وَمِنْ أَهْلِ النَّظَرِ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الْمُعَارَضَةَ) أَيْ الْمُعَارَضَةَ فِي الْأَصْلِ بِأَقْسَامِهَا الثَّلَاثَةِ حَسَنَةً كَذَا فِي بَعْضِ الْفَوَائِدِ وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا لَمْ يَقُلْ بِجَوَازِ التَّعْلِيلِ بِعِلَّةٍ قَاصِرَةٍ فَيَكُونُ الْمُعَارَضَةُ بِمَعْنًى لَا يَتَعَدَّى فَاسِدَةً بِلَا خِلَافٍ بَيْنَهُمْ ثُمَّ سِيَاقُ كَلَامِ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْقِسْمِ الْأَخِيرِ، وَهُوَ الْمُعَارَضَةُ بِمَعْنًى يَتَعَدَّى إلَى فَرْعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ فَإِنَّهُمَا ذَكَرَا إفْسَادَ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَأَقَامَا الدَّلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ ثُمَّ قَالَا وَكَذَلِكَ مَا يَتَعَدَّى إلَى فَرْعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ وَبَيَّنَّا الْخِلَافَ فِيهِ فَقَالَا، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذِهِ مُعَارَضَةٌ حَسَنَةٌ وَكَذَا الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ يُشِيرُ إلَيْهِ أَيْضًا فَإِنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِأَنَّ الْعِلَّةَ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ لَا كِلَاهُمَا بِالْإِجْمَاعِ فَصَارَتَا مُتَدَافِعَتَيْنِ أَيْ مُتَنَافِيَتَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ فَيَصِيرُ إثْبَاتُ الْعِلَّةِ الْأُخْرَى مِنْ السَّائِلِ إبْطَالًا لِعِلَّةِ الْمُجِيبِ مِنْ طَرِيقِ الضَّرُورَةِ فَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ مَعْنَى الْمُمَانَعَةِ وَالْمُدَافَعَةِ فَتَصِحُّ فَهَذَا الِاسْتِدْلَال مِنْهُمْ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ فِي الْقِسْمِ الْأَخِيرِ دُونَ الْأَوَّلَيْنِ إذْ لَا يُمْكِنُ لِلْمُجِيبِ فِيهِ أَنْ يَقُولَ ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ بِالْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا لِإِنْكَارِهِ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا السَّائِلُ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ لِلسَّائِلِ أَيْضًا فَيَثْبُتُ التَّدَافُعُ بِالِاتِّفَاقِ فَيَبْطُلُ الْمَعْنَيَانِ بِالتَّعَارُضِ وَيَبْقَى الْأَصْلُ بِلَا مَعْنَى فَلَا يَبْقَى حُجَّةً فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُمَانَعَةِ فِي هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَأَمَّا فِي الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَيُمْكِنُ لِلْمُجِيبِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ وَيَقُولُ الْحُكْمُ ثَابِتٌ بِالْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِجْمَاعُ فِي هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ عَلَى أَنَّ الْعَلَّةَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ فَلَا يَثْبُتُ التَّدَافُعُ فَتَكُونُ الْمُعَارَضَةُ فَاسِدَةً بِالِاتِّفَاقِ لِفَوَاتِ مَعْنَى الْمُمَانَعَةِ أَصْلًا. وَبَيَانُ

وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى فَسَادِ أَحَدِهِمَا لِمَعْنًى فِيهِ لَا لِصِحَّةِ الْآخَرِ كَالْكَيْلِ وَالطَّعْمِ وَالصَّحِيحُ أَحَدُهُمَا لَا غَيْرُ لَكِنْ الْفَسَادُ لَيْسَ لِصِحَّةِ الْآخَرِ لَكِنْ لِمَعْنًى فِيهِ يُفْسِدُهُ فَإِثْبَاتُ الْفَسَادِ لِصِحَّةِ الْآخَرِ بَاطِلٌ فَبَطَلَتْ الْمُعَارَضَةُ، وَكُلُّ كَلَامٍ صَحِيحٍ فِي الْأَصْلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا ذَكَرْنَا أَنَّ السَّائِلَ إذَا عَارَضَ فِي تَعْلِيلِ الْحِنْطَةِ بِالْكَيْلِ وَالْجِنْسِ لِلتَّعْدِيدِ إلَى الْجِصِّ بِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ الطَّعْمُ دُونَ الْكَيْلِ وَالْجِنْسِ لَا يُمْكِنُ لِلْمُجِيبِ أَنْ يَقُولَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِالْعِلَّتَيْنِ لِإِنْكَارِهِ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ فِي التُّفَّاحَةِ بِالتُّفَّاحَتَيْنِ وَالْحَفْنَةِ بِالْحَفْنَتَيْنِ الَّذِي هُوَ مُوجِبُ عِلَّةِ السَّائِلِ فَيَثْبُتُ التَّدَافُعُ فَأَمَّا إذَا عَارَضَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِالِاقْتِيَاتِ وَالْإِدْخَارِ أَوْ عَارَضَ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْحَدِيدِ بِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ الثَّمَنِيَّةُ دُونَ الْوَزْنِيَّةِ فَيُمْكِنُ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَيَقُولَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِالْمَعْنَيَيْنِ فَلَا يَكُونُ فِي هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ مَعْنَى الْمُمَانَعَةِ فَتَكُونُ فَاسِدَةً بِالِاتِّفَاقِ. وَالْجَوَابُ عَنْ كَلَامِهِمْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَمْ يَنْعَقِدْ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ قَصْدًا بَلْ الِاتِّفَاقُ وَاقِعٌ عَلَى أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا ذَاتًا لِجَوَازِ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ وَلِهَذَا لَوْ نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى ذَلِكَ جَازَ وَحِينَئِذٍ يَتَعَدَّى الْحُكْمُ بِأَحَدِهِمَا إلَى فُرُوعٍ وَبِالْآخَرِ إلَى فُرُوعٍ أُخَرَ. وَإِنَّمَا أَجْمَعُوا عَلَى فَسَادِ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ لِمَعْنًى فِيهَا لَا لِصِحَّةِ الْأُخْرَى أَلَا تَرَى أَنَّ أَصْحَابَنَا، وَأَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ، وَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْحِنْطَةِ الْكَيْلُ أَوْ الطَّعْمُ، وَأَنَّ الصَّحِيحَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَقُولُوا بِفَسَادِ أَحَدِهِمَا لِصِحَّةِ الْآخَرِ، وَلَا بِصِحَّةِ أَحَدِهِمَا لِفَسَادِ الْآخَرِ بَلْ قَالَ كُلُّ فَرِيقٍ بِصِحَّةِ مَا ادَّعَاهُ عِلَّةً لِمَعْنًى فِيهِ يُوجِبُ الصِّحَّةَ وَبِفَسَادِ عِلَّةِ صَاحِبِهِ لِمَعْنًى فِيهَا يُوجِبُ الْفَسَادَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ إثْبَاتُ الْفَسَادِ لِإِحْدَى الْعِلَّتَيْنِ بِثُبُوتِ صِحَّةِ الْأُخْرَى بَاطِلًا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مَعْنًى مُفْسِدٍ فِي نَفْسِ الْوَصْفِ لِثُبُوتِ الْفَسَادِ فِيهِ كَمَا لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مَعْنًى مُصَحِّحٍ لِثُبُوتِ الصِّحَّةِ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّ لِظُهُورِ فَسَادِ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ لَا يَثْبُتُ التَّأْثِيرُ فِي الْأُخْرَى بِالْإِجْمَاعِ كَذَلِكَ عَكْسُهُ، فَإِنْ قِيلَ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ فَسَادُ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ عِنْدَ ثُبُوتِ صِحَّةِ الْأُخْرَى لَزِمَ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى صِحَّةِ أَحَدَيْهِمَا دُونَ صِحَّتِهِمَا. قُلْنَا: إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ أَنْ لَوْ ثَبَتَ صِحَّتُهَا قَطْعًا وَلَكِنَّهَا لَمْ تَثْبُتْ بَلْ احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ الْفَاسِدَةُ هِيَ الَّتِي بَيَّنَ صِحَّتَهَا وَالْأُخْرَى هِيَ الصَّحِيحَةُ أَوْ يَقُولُ الْإِجْمَاعُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ بِدُونِ بَيَانِ الْمُفْسِدِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعَارَضَةَ فِي الْأَصْلِ هِيَ الْمُفَارَقَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ مُخْتَارُ الشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ نَفْيُ الْحُكْمِ عَنْ الْفَرْعِ لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ إنْ صَرَّحَ السَّائِلُ فِي هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ بِالْفَرْقِ بِأَنْ يَقُولَ لَا يَلْزَمُ مِمَّا ذَكَرْت ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ لِوُجُودِ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَصْلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ مُتَعَلِّقٌ بِوَصْفِ كَذَا، وَهُوَ مَفْقُودٌ فِي الْفَرْعِ فَهِيَ مُتَفَارِقَةٌ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْفَرْقِ بَلْ قَصَدَ بِالْمُعَارَضَةِ بَيَانَ عَدَمِ انْتِهَاضِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَقَالَ دَلِيلُك إنَّمَا كَانَ يَنْتَهِضُ عَلَيَّ لَوْ كَانَ مَا ذَكَرْته مُسْتَقِلًّا بِالْعَلِيَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِدَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إدْرَاجِ الْوَصْفِ الَّذِي أَقُولُهُ فِي التَّعْلِيلِ فَهِيَ لَيْسَتْ بِمُفَارَقَةٍ وَلِهَذَا قَبِلُوا هَذِهِ الْمُعَارَضَةَ، وَلَمْ يَقْبَلُوا الْمُفَارَقَةَ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ رَاجِعٌ إلَى الْمُمَانَعَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمُفَارَقَةُ هِيَ الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ جَمِيعًا حَتَّى لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ فَرْقًا وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةُ مُفَارَقَةً، وَهِيَ مِنْ الْأَسْئِلَةِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي لَا تُقْبَلُ مِنْ السَّائِلِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ الْفَرْقُ بِمَعْنًى فِقْهِيٍّ صَحِيحٍ فِي نَفْسِهِ بَيَّنَ الشَّيْخُ وَجْهَ إيرَادِهِ عَلَى طَرِيقٍ يُقْبَلُ مِنْهُ

يُذْكَرُ عَلَى سَبِيلِ الْمُفَارَقَةِ فَاذْكُرْهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُمَانَعَةِ كَقَوْلِهِمْ فِي إعْتَاقِ الرَّاهِنِ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنْ الرَّاهِنِ يُلَاقِي حَقَّ الْمُرْتَهِنِ بِالْإِبْطَالِ، وَكَانَ مَرْدُودًا كَالْبَيْعِ فَقَالُوا لَيْسَ كَالْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِخِلَافِ الْعِتْقِ وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنْ نَقُولَ إنَّ الْقِيَاسَ لِتَعَدِّيَةِ حُكْمِ النَّصِّ دُونَ تَغْيِيرِهِ، وَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ وُجُودَ هَذَا الشَّرْطِ هُنَا، وَبَيَانُهُ أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ وَقْفُ مَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ وَالْفَسْخَ وَأَنْتَ فِي الْفَرْعِ تُبْطِلُ أَصْلًا مَا لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ وَالْفَسْخُ كَذَلِكَ إنْ اعْتَبَرَهُ بِإِعْتَاقِ الْمَرِيضِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِجْمَاعِ ثَمَّةَ تَوَقُّفُ الْعِتْقِ وَلُزُومُ الْإِعْتَاقِ وَأَنْتَ قَدْ عَدَّيْت الْبُطْلَانَ أَصْلًا فَإِنْ ادَّعَى فِي الْأَصْلِ حُكْمًا غَيْرَ مَا قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَقَالَ: وَكُلُّ كَلَامٍ صَحِيحٍ فِي الْأَصْلِ أَيْ فِي نَفْسِهِ يُذْكَرُ عَلَى سَبِيلِ الْمُفَارَقَةِ أَيْ يَذْكُرُهُ أَهْلُ الطَّرْدِ عَلَى وَجْهِ الْفَرْقِ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ فَاذْكُرْهُ أَنْتَ عَلَى سَبِيلِ الْمُمَانَعَةِ لِيَكُونَ ذَلِكَ مُفَاقَهَةً صَحِيحَةً عَلَى حَدِّ الْإِنْكَارِ فَيُقْبَلُ مِنْك لَا مَحَالَةَ كَقَوْلِهِمْ فِي إعْتَاقِ الرَّاهِنِ. إذَا أَعْتَقَ الرَّاهِنُ الْعَبْدَ الْمَرْهُونَ نَفَذَ عِتْقُهُ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كَانَ الرَّاهِنُ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ مُعْسِرًا يُؤْمَرُ الْعَبْدُ بِالسِّعَايَةِ فِي أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ، وَمِنْ الدَّيْنِ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْمَوْلَى عِنْدَ الْيَسَارِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ إذَا كَانَ مُعْسِرًا قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَهُ قَوْلَانِ فِي الْمُوسِرِ فَعَلَّلَ أَصْحَابُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ الْإِعْتَاقَ تَصَرُّفٌ مِنْ الرَّاهِنِ إلَّا فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِالْإِبْطَالِ أَيْ يَبْطُلُ حَقُّهُ فِي الرَّهْنِ بِدُونِ رِضَاءٍ بِهِ، وَهُوَ الْبَيْعُ بِالدَّيْنِ عِنْدَهُ، فَكَانَ مَرْدُودًا كَالْبَيْعِ أَيْ كَمَا إذَا بَاعَ الرَّاهِنُ الْمَرْهُونَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُرْتَهِنِ فَقَالُوا أَيْ فَرَّقَ أَهْلُ الطَّرْدِ مِنْ أَصْحَابِنَا بَيْنَ الْبَيْعِ هُوَ الْأَصْلُ وَبَيْنَ الْإِعْتَاقِ الَّذِي هُوَ الْفَرْعُ فَقَالُوا لَيْسَ الْإِعْتَاقُ مِثْلَ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ وُقُوعِهِ فَيَظْهَرُ أَثَرُ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي الْمَنْعِ مِنْ النَّفَاذِ فَيَنْعَقِدُ عَلَى وَجْهٍ يَتَمَكَّنُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ فَسْخِهِ بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَمَا صَدَرَ مِنْ الْأَصْلِ فِي مَحَلِّهِ فَلَا يَظْهَرُ أَثَرُ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي الْمَنْعِ مِنْ النَّفَاذِ فَيَنْعَقِدُ لَازِمًا، وَهَذَا فَرْقٌ فِقْهِيٌّ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ فَسَدَ لِصُدُورِهِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْفَرْقِ وَهُوَ السَّائِلُ فَلَمْ يُقْبَلْ. وَالْوَجْهُ فِي إيرَادِهِ عَلَى وَجْهِ الْمُمَانَعَةِ لِيَقْبَلَ أَنْ يَقُولَ السَّائِلُ إنَّ الْقِيَاسَ لِتَعْدِيَةِ حُكْمِ النَّصِّ أَيْ الْأَصْلِ دُونَ تَغْيِيرِهِ، وَأَنَا لَا أُسَلِّمُ وُجُودَ هَذَا الشَّرْطِ، وَهُوَ التَّعْدِيَةُ بِدُونِ التَّغْيِيرِ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَبَيَانُهُ أَيْ بَيَانُ فَوَاتِ هَذَا الشَّرْطِ أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ، وَهُوَ الْبَيْعُ، وَقَفَ أَيْ تَوَقَّفَ مَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ فِي ابْتِدَائِهِ وَالْفَسْخَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْبَيْعِ عَلَيْهِ مِنْ الرَّاهِنِ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى لَوْ تَرَبَّصَ إلَى أَنْ يَذْهَبَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ تَمَّ الْبَيْعُ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَأَنْتَ فِي الْفَرْعِ، وَهُوَ الْإِعْتَاقُ تُبْطِلُ أَصْلًا مَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَالرَّدَّ أَيْ تُلْغِي مِنْ الْأَصْلِ شَيْئًا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَالرَّدَّ فِي ابْتِدَائِهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَوْ رَدَّ الْإِعْتَاقَ لَا يَرْتَدُّ، وَلَوْ أَرَادَ هُوَ وَالْمَوْلَى أَنْ يَفْسَخَاهُ لَا يَنْفَسِخُ بِوَجْهٍ بِخِلَافِ الْبَيْعِ. وَهَذَا تَغْيِيرٌ لِحُكْمِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْإِبْطَالَ مِنْ الْأَصْلِ غَيْرُ الِانْعِقَادِ عَلَى وَجْهِ التَّوَقُّفِ وَأَصْلًا نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ أَوْ عَلَى الْمَصْدَرِ لَا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ كَمَا ظَنَّهُ الْبَعْضُ وَمَا مَفْعُولٌ بِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ اعْتَبَرَهُ بِإِعْتَاقِ الْمَرِيضِ أَيْ، وَمِثْلُ اعْتِبَارِ الْخَصْمِ الْإِعْتَاقَ بِالْبَيْعِ اعْتِبَارُهُ إيَّاهُ بِإِعْتَاقِ الْمَرِيضِ فِي لُزُومِ تَغْيِيرِ حُكْمِ الْأَصْلِ فَإِنَّهُ لَمَّا لَزِمَهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْفَسَادِ فِي اعْتِبَارِهِ الْإِعْتَاقَ بِالْبَيْعِ أَلْحَقَهُ بِإِعْتَاقِ الْمَرِيضِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفُذُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الرَّدَّ وَالْفَسْخَ. وَقَالَ: إنَّهُ تَصَرُّفٌ يُبْطِلُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ الْمُتَعَلِّقَ بِالْعَبْدِ فَلَا يَصِحُّ كَإِعْتَاقِ الْمَرِيضِ الْمَدْيُونِ عَبْدَهُ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ فِي الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْغُرَمَاءِ فِي عَبْدِ الْمَرِيضِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ الْبَيْعُ عَلَى الْمَرِيضِ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ وَيَمْتَنِعُ عَلَى الرَّاهِنِ ثُمَّ إنَّ حَقَّهُمْ يَمْنَعُ نُفُوذَ إعْتَاقِ الْمَرِيضِ إذَا مَاتَ فِي مَرَضِهِ فَحَقُّ الْمُرْتَهِنِ أَوْلَى فَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ تَغْيِيرٌ لِحُكْمِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِجْمَاعِ ثَمَّةَ فِي إعْتَاقِ الْمَرِيضِ تَوَقَّفَ الْعِتْقُ إلَى أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ السِّعَايَةِ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُكَاتَبِ مَا دَامَ يَسْعَى فِي بَدَلِ رَقَبَتِهِ وَلُزُومُ

وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ قَتْلُ آدَمِيٍّ مَضْمُونٌ فَيُوجِبُ الْمَالَ كَالْخَطَأِ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ الْمِثْلُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ وَسَبِيلُهُ مَا قُلْنَا أَنْ لَا نُسَلِّمَ قِيَامَ شَرْطِ الْقِيَاسِ وَتَفْسِيرُهُ أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ شَرَعَ الْمَالَ خَلَفًا عَنْ الْقَوَدِ وَأَنْتَ جَعَلْته مُزَاحِمًا لَهُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُنَاقَضَةَ لَا تَرِدُ عَلَى الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ بَعْدَ صِحَّةِ أَثَرِهَا، وَإِنَّمَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ بِوُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ، وَهَذَا. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْإِعْتَاقِ بِحَيْثُ لَا سَبِيلَ إلَى إبْطَالِهِ وَرَدِّ الْعَبْدِ إلَى الرِّقِّ أَصْلًا وَأَنْتَ عَدَّيْت الْإِبْطَالَ أَصْلًا أَيْ أَبْطَلْت الْإِعْتَاقَ فِي الْفَرْعِ مِنْ الْأَصْلِ بِحَيْثُ لَوْ أَجَازَهُ الْمُرْتَهِنُ بَعْدُ لَا يَنْفُذُ فَكَانَ تَغْيِيرًا لِحُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمَبْسُوطِ وَعِتْقُ الْمَرِيضِ عِنْدَنَا لَا يَلْغُوا قِيَامَ حَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَلَكِنَّهُ يَخْرُجُ إلَى الْحُرِّيَّةِ بِالسِّعَايَةِ لَا مَحَالَةَ فَهَاهُنَا أَيْضًا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَلْغُوَ إلَّا أَنْ هُنَاكَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ مَا دَامَ يَسْعَى، وَهَاهُنَا يَكُونُ حُرًّا، وَإِنْ لَزِمَتْهُ السِّعَايَةُ عِنْدَ اعْتِبَارِ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ وَالْوَصِيَّةُ تَتَأَخَّرُ عَنْ الدَّيْنِ إلَّا أَنَّ الْعِتْقَ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ لِرَدِّ الْوَصِيَّةِ قَالَ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ هُنَاكَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ بَدَلُ رَقَبَتِهِ، وَلَا يُسَلَّمُ لَهُ الْمُبْدَلُ مَا لَمْ يَرُدَّ الْبَدَلَ، وَهَاهُنَا السِّعَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ لَيْسَتْ فِي بَدَلِ رَقَبَتِهِ بَلْ فِي الدَّيْنِ الَّذِي فِي ذِمَّةِ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ ذَلِكَ فَوُجُوبُ السِّعَايَةِ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ مَانِعًا نُفُوذَ عِتْقِهِ فِي الْحَالِ وَلِهَذَا قُلْنَا لَوْ أَيْسَرَ الرَّاهِنُ هَذَا رَجَعَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ بِمَا أَدَّى مِنْ السِّعَايَةِ، وَهُنَاكَ لَا يَرْجِعُ الْعَبْدُ عَلَى أَحَدٍ بِمَا سَعَى فِيهِ مِنْ قِيمَتِهِ فَإِنْ ادَّعَى أَيْ الْمُعَلَّلَ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ الْبَيْعُ أَوْ إعْتَاقُ الْمَرِيضِ حُكْمًا غَيْرَ مَا قُلْنَا بِأَنْ يَقُولَ حُكْمُ الْبَيْعِ الْبُطْلَانُ لَا التَّوَقُّفُ، وَكَذَا حُكْمُ إعْتَاقِ الْمَرِيضِ فَلَا يَكُونُ فِي هَذَا التَّعْلِيلِ تَغْيِيرُ حُكْمِ الْأَصْلِ لَمْ نُسَلِّمْ؛ لِأَنَّ عِنْدَنَا حُكْمُهُمَا مَا ذَكَرْنَا فَإِنْ وَافَقَنَا فِيهِ يَلْزَمُ التَّغْيِيرُ ضَرُورَةً، وَإِنْ خَالَفَنَا فِيهِ بِأَنْ قَالَ عِنْدِي حُكْمُهُمَا الْبُطْلَانُ يَكُونُ هَذَا رَدَّ الْمُخْتَلِفِ إلَى الْمُخْتَلِفِ، وَهُوَ فَاسِدٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْخَصْمِ. قَوْلُهُ: (وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ) أَيْ مِثْلُ تَعْلِيلِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي إيجَابِ الدِّيَةِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ بِأَنَّهُ قَتْلُ آدَمِيٍّ مَضْمُونٍ فَيُوجِبُ الْمَالَ كَالْقَتْلِ الْخَطَأِ فَإِنْ فَرَّقَ السَّائِلُ بِأَنَّ الْعَمْدَ لَيْسَ كَالْخَطَأِ فِي لُزُومِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ فِي الْخَطَأِ بِاعْتِبَارِ تَعَذُّرِ إيجَابِ الْمِثْلِ مِنْ جِنْسِهِ؛ لِأَنَّ الْخَاطِئَ مَعْذُورٌ لِعَدَمِ الْقَصْدِ فَيَصِيرُ إلَى إيجَابِ الْمَالِ خَلَفًا عَنْهُ صَوْنًا لِلدَّمِ عَنْ الْهَدَرِ، وَقَدْ عُدِمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْفَرْعِ وَهُوَ الْعَمْدُ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ، فَهَذَا فَرْقٌ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ مِنْ السَّائِلِ فَسَبِيلُهُ أَنْ يَقُولَ لَا أُسَلِّمُ قِيَامَ شَرْطِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ عَدَمُ تَغْيِيرِ حُكْمِ الْأَصْلِ. وَتَفْسِيرُهُ أَيْ بَيَانِ عَدَمِ قِيَامِ شَرْطِ الْقِيَاسِ أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ وَهُوَ الْقَتْلُ خَطَأً شُرِعَ الْمَالُ خَلَفًا عَنْ الْقَوَدِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ اسْتِيفَائِهِ، وَأَنْتَ بِهَذَا التَّعْلِيلِ جَعَلْت الْمَالَ مُزَاحِمًا لِلْقَوَدِ حَيْثُ أَثْبَتَهُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ كَالْقَوَدِ، وَالْخَلَفُ قَطُّ لَا يُزَاحِمُ الْأَصْلَ فَكَانَ هَذَا تَقْلِيلًا يُوجِبُ تَغْيِيرَ حُكْمِ الْأَصْلِ فَكَانَ بَاطِلًا، وَهُوَ نَظِيرُ مَذْهَبِهِ فِي إيجَابِ الْفِدْيَةِ عَلَى الْحَائِضِ مَعَ الصَّوْمِ إذَا أَخَّرْت الْقَضَاءَ إلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْفِدْيَةَ الَّتِي هِيَ خَلَفٌ عَنْ الصَّوْمِ مُزَاحِمًا لَهُ فِي الْوُجُوبِ حَيْثُ أَوْجَبَهُمَا جَمِيعًا. وَقَدْ بَيَّنَّا يَعْنِي فِي أَوَّلِ بَابِ دَفْعِ الْعِلَلِ أَنَّ الْمُنَاقَضَةَ الْحَقِيقِيَّةَ لَا تَرِدُ عَلَى الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ بَعْدَ صِحَّةِ أَثَرِهَا؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَهَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الدَّلِيلُ لَا يَقْبَلُ النَّقْضَ، وَإِنَّمَا يَرُدُّ الْمُنَاقَضَةَ عَلَى الْعِلَلِ الطَّرْدِيَّةِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ صِحَّتِهَا الِاطِّرَادُ وَبِالْمُنَاقَضَةِ لَمْ يَبْقَ الْإِطْرَادُ، وَلَكِنْ قَدْ يَرِدُ النَّقْضُ صُورَةً عَلَى الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى دَفْعِهِ بِبَيَانِ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَقْضٍ، وَإِنَّمَا نُبَيِّنُ ذَلِكَ أَيْ عَدَمَ وُرُودِ النَّقْضِ عَلَى الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ حَقِيقَةً، وَإِنْ يَتَرَاءَى نَقْضًا صُورَةً بِطُرُقٍ أَرْبَعَةٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[باب بيان وجوه دفع المناقضة]

بَابُ بَيَانِ وُجُوهِ دَفْعِ الْمُنَاقَضَةِ) : قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُجِيبَ مَتَى أَمْكَنَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا ادَّعَاهُ عِلَّةً وَبَيْنَ مَا يُتَصَوَّرُ مُنَاقَضَةً بِتَوْفِيقٍ بَيِّنٍ بَطَلَتْ الْمُنَاقَضَةُ كَمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْمُنَاقَضَاتِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ بَيْنَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ وَبَيْنَ الشَّهَادَاتِ أَنَّهُ مَتَى احْتَمَلَ التَّوْفِيقَ وَظَهَرَ ذَلِكَ بَطَلَ التَّنَاقُضُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَبِالْوَصْفِ الَّذِي جَعَلَهُ عِلَّةً وَالثَّانِي بِمَعْنَى الْوَصْفِ الَّذِي بِهِ صَارَ الْوَصْفُ عِلَّةً، وَهُوَ دَلَالَةُ أَثَرِهِ، وَالثَّالِثُ بِالْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ، وَالرَّابِعُ بِالْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ بِذَلِكَ الْحُكْمُ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَظَاهِرٌ مِثْلُ قَوْلِنَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ أَنَّهُ مَسْحٌ فَلَا يُسَنُّ تَثْلِيثُهُ كَمَسْحِ الْخُفِّ وَلَا يَلْزَمُ الِاسْتِنْجَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَسْحٍ وَلَكِنَّهُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَحْدَثَ فَلَمْ يَتَلَطَّخْ بِهِ بَدَنُهُ لَمْ يَكُنْ الِاسْتِنْجَاءُ سُنَّةً، وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا فِي الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ إنَّهُ خَارِجٌ مِنْ الْإِنْسَانِ فَكَانَ حَدَثًا كَالْبَوْلِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَسِلْ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ وَلَيْسَ بِخَارِجٍ؛ لِأَنَّ تَحْتَ كُلِّ جَلْدَةٍ رُطُوبَةً وَفِي كُلِّ عِرْقٍ دَمًا فَإِذَا زَايَلَهُ الْجِلْدُ كَانَ ظَاهِرًا لَا خَارِجًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِهِ الْغُسْلُ بِالْإِجْمَاعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQ [بَابُ بَيَانِ وُجُوهِ دَفْعِ الْمُنَاقَضَةِ] وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَيْ حَاصِلُ دَفْعِ الْمُنَاقَضَةِ وَالْخُرُوجِ عَنْهَا أَنَّ الْمُجِيبَ مَتَى أَمْكَنَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ عِلَّةً وَبَيْنَ مَا يُتَصَوَّرُ مُنَاقَضَةً لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَقْضًا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ، وَمَتَى لَمْ يُمْكِنْهُ الْجَمْعُ لَزِمَهُ النَّقْضُ ثُمَّ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ يُمْكِنُهُ الْجَمْعُ مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ عَنْ الْأَوَّلِ وَبِهَا يَتَبَيَّنُ الْفِقْهُ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ؛ لِأَنَّ الْفِقْهَ هُوَ الْوُقُوفُ عَلَى الْمَعْنَى الْخَفِيِّ فَالدَّفْعُ عَلَى طَرِيقِ الْفِقْهِ إنَّمَا يَكُونُ بِوُجُوهٍ لَا تُنَالُ إلَّا بِضَرْبِ تَأَمُّلٍ أَمَّا الدَّفْعُ بِأَلْفَاظٍ ظَاهِرَةٍ فَلَا يَكُونُ فِقْهًا بَيْنَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ كَمَا إذَا ادَّعَى أَلْفًا، وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ لَا يَقْبَلُ الشَّهَادَةَ إلَّا أَنْ يُوَفِّقَ فَيَقُولَ كَانَ الْوَاجِبُ خَمْسَمِائَةٍ إلَّا إنِّي قَبَضْت خَمْسَمِائَةٍ. وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ فُلَانٍ هَذَا الْعَيْنَ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ وَهَبَهُ مِنْهُ لَا يُقْبَلُ إلَّا إذَا قَالَ: وَهَبَنِي فَجَحَدَ فَاشْتَرَيْته مِنْهُ وَبَيَّنَ الشَّهَادَاتِ بِأَنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ، وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي الْأَكْثَرَ يَقْبَلُ الشَّهَادَةَ عَلَى الْأَلْفِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْأَلْفِ، وَإِنْ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَا بِسَرِقَةٍ بَقَرٍ، وَقَالَ أَحَدُهُمَا لَوْنُهُ أَحْمَرُ، وَقَالَ الْآخَرُ لَوْنُهُ أَسْوَدُ تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِإِمْكَانِ التَّوْفِيقِ بِأَنْ شَهِدَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى مَا وَقَعَ عِنْدَهُ مِنْ لَوْنِ الْبَقَرِ كَمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ. قَوْلُهُ: (أَمَّا الْأَوَّلُ) أَيْ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْ وُجُوهِ الدَّفْعِ الدَّفْعُ بِالْوَصْفِ بِأَنْ يَقُولَ مَا ذَكَرْته عِلَّةً لَيْسَ مَوْجُودًا فِي صُورَةِ النَّقْضِ فَتَخَلُّفُ الْحُكْمِ فِيهَا لَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْعِلَّةِ. وَالثَّانِي بِمَعْنَى الْوَصْفِ وَهُوَ دَلَالَةُ أَثَرِهِ أَيْ أَثَرِ الْوَصْفِ عَلَى الْحُكْمِ بِأَنْ يَقُولَ لَيْسَ الْمَعْنَى الَّذِي جَعَلَ الْوَصْفَ بِهِ عِلَّةً، وَهُوَ التَّأْثِيرُ مَوْجُودًا فِي صُورَةِ النَّقْضِ فَلَا يَكُونُ الْوَصْفُ بِدُونِهِ عِلَّةً، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِلَّةً لَمْ يَكُنْ نَقْضًا. وَالثَّالِثُ بِالْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ بِأَنْ يَقُولَ لَيْسَ الْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ بِالْوَصْفِ مُتَخَلِّفًا عَنْ الْوَصْفِ بَلْ هُوَ مَوْجُودٌ لَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ لِوُجُودِ الْمَانِعِ فَلَا يَكُونُ نَقْضًا إذْ النَّقْضُ أَنْ يَتَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْ الْوَصْفِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الدَّفْعِ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَوَّزَ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ فَأَمَّا عِنْدَ مَنْ يَأْبَاهُ فَلَا يَتَأَتَّى هَذَا الدَّفْعُ عَلَى مَذْهَبِهِ. وَالرَّابِعُ بِالْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ بِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَفِي أُصُولِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ بِالْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ بِالتَّعْلِيلِ، وَهُوَ أَوْضَحُ، وَلَفْظُ التَّقْوِيمِ ثُمَّ بِالْغَرَضِ الَّذِي قَصَدَ الْمُعَلِّلُ التَّعْلِيلَ لِأَجْلِهِ، وَأَثْبَتَ الْحُكْمَ بِقَدْرِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَظَاهِرٌ أَيْ الدَّفْعُ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الدَّفْعُ بِالْوَصْفِ ظَاهِرُ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ رُكْنُ الْعِلَّةِ فَعَدَمُ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِهِ يَكُونُ دَلِيلَ صِحَّتِهِ فَيَصِحُّ الدَّفْعُ بِهِ. مِثْلُ قَوْلِنَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ إنَّهُ مَسْحٌ فَلَا يُسَنُّ تَثْلِيثُهُ كَمَسْحِ الْخُفِّ فَيُورِدُ عَلَيْهِ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْأَحْجَارِ نَقْضًا فَإِنَّهُ مَسْحٌ، وَيُسَنُّ فِيهِ التَّثْلِيثُ فَإِنَّ الْعَدَدَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسْنُونًا عِنْدَنَا لَكِنْ إذَا اُحْتِيجَ إلَى التَّثْلِيثِ فَإِنَّهُ يَقَعُ سُنَّةً بِالْإِجْمَاعِ. وَكَذَا الِاسْتِنْجَاءُ بِحَجَرٍ لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ سُنَّةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْعَدَدُ مَسْنُونًا عِنْدَنَا كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ فَنَدْفَعُهُ بِالْوَصْفِ بِأَنْ نَقُولَ إنَّ الِاسْتِنْجَاءَ لَيْسَ بِمَسْحٍ أَيْ لَا اعْتِبَارَ لِلْمَسْحِ فِيهِ بَلْ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ شُرِعَ بِشَيْءٍ لَهُ أَثَرٌ فِي الْإِزَالَةِ كَالْحَجَرِ وَالْمَدَرِ وَالْمَاءِ وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَحْدَثَ، وَلَمْ يَتَلَطَّخْ بِهِ بَدَنُهُ بِأَنْ خَرَجَ مِنْهُ رِيحٌ لَمْ يَكُنْ الْمَسْحُ سُنَّةً، وَلَوْ كَانَ الِاسْتِنْجَاءُ مَسْحًا لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى تَلَطُّخِ الْبَدَنِ كَمَسْحِ الرَّأْسِ وَالْخُفِّ. وَبِدَلِيلِ

وَأَمَّا الدَّفْعُ بِمَعْنَى الْوَصْفِ فَإِنَّمَا صَحَّ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ لَمْ يَصِرْ حُجَّةً بِصِيغَتِهِ، وَإِنَّمَا صَارَ حُجَّةً بِمَعْنَاهُ الَّذِي يُعْقَلُ بِهِ، وَذَلِكَ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا ثَابِتٌ بِنَفْسِ الصِّيغَةِ ظَاهِرٌ أَوْ الثَّانِي بِمَعْنَاهُ الثَّابِتِ بِهِ دَلَالَةً عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا سَبَقَ فَكَانَ ثَابِتًا بِهِ لُغَةً فَصَحَّ الدَّفْعُ بِهِ كَمَا صَحَّ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَكَانَ دَفْعًا بِنَفْسِ الْوَصْفِ، وَهَذَا أَحَقُّ وَجْهَيْ الدَّفْعِ لَكِنْ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ فَنَبْدَأُ بِهِ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِنَا مَسْحٌ فِي الْوُضُوءِ فَلَمْ يَكُنْ التَّكْرَارُ فِيهِ مَسْنُونًا كَمَسْحِ الْخُفِّ وَلَا يَلْزَمُ الِاسْتِنْجَاءُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْمَسْحِ تَطْهِيرٌ حُكْمِيٌّ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالتَّكْرَارُ لِتَوْكِيدِ التَّطْهِيرِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُرَادًا بَطَلَ التَّكْرَارُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَتَأَدَّى بِبَعْضِ مَحَلِّهِ بِخِلَافِ الِاسْتِنْجَاءِ؛ لِأَنَّهُ لِإِزَالَةِ عَيْنِ النَّجَاسَةِ وَفِي التَّكْرَارِ تَوْكِيدُهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَأَدَّى بِبَعْضِهِ فَصَارَ ذَلِكَ نَظِيرَ الْغُسْلِ، وَهَذَا مَعْنًى ثَابِتٌ بِاسْمِ الْمَسْحِ لُغَةً ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّ غَسْلَهُ بِالْمَاءِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِزَالَةِ، وَلَوْ كَانَ مَسْحًا لَكُرِهَ تَبْدِيلُهُ بِالْغَسْلِ إذْ الْغَسْلُ فِي مَحَلِّ الْمَسْحِ مَكْرُوهٌ كَمَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ وَالْخُفِّ وَكَذَلِكَ أَيْ، وَمِثْلُ قَوْلِنَا فِي الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ أَنَّهُ نَجَسٌ خَارِجٌ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ فَكَانَ حَدَثًا كَالْبَوْلِ وَزَادَ بَعْضُهُمْ قَيْدَ الْحَيَاةِ فَقَالُوا مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ الْحَيِّ احْتِرَازًا عَنْ النَّجَسِ الْخَارِجِ مِنْ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ إعَادَةَ غُسْلِهِ ثَانِيًا، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَبْقَ إنْسَانًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ مُطْلَقِ لَفْظِ الْإِنْسَانِ ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَيْهِ مَا إذَا لَمْ يَسِلْ عَنْ رَأْسِ الْجُرْحِ نَقْضًا فَإِنَّهُ خَارِجٌ نَجَسٌ، وَلَيْسَ بِحَدَثٍ، وَمِثْلُهُ حَدَثٌ فِي السَّبِيلَيْنِ بِلَا خِلَافٍ وَبِهَذَا زَادَ بَعْضُهُمْ لَفْظَ الْكَثِيرِ فَقَالُوا الْخَارِجُ الْكَثِيرُ النَّجَسُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ حَدَثٌ احْتِرَازًا عَنْهُ. فَوَجَبَ دَفْعُ هَذَا النَّقْضِ بِمَنْعِ الْوَصْفِ بِأَنْ يُقَالَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ خَارِجٌ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ هُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ مَكَان بَاطِنٍ إلَى مَكَان ظَاهِرٍ كَالرَّجُلِ يَخْرُجُ مِنْ الدَّارِ لَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى فِيمَا إذَا لَمْ يَسِلْ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ بَعْدُ فِي مَحَلِّهَا لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُ فَإِنَّ تَحْتَ كُلِّ جَلْدَةٍ رُطُوبَةٌ فِي كُلِّ عِرْقٍ دَمًا وَالْجِلْدَةُ سَاتِرَةٌ لَهَا فَإِذَا زَالَتْ الْجَلْدَةُ صَارَ مَا تَحْتَهَا ظَاهِرًا لَا خَارِجًا لِعَدَمِ الِانْتِقَالِ كَمَنْ كَانَ فِي بَيْتٍ أَوْ خَيْمَةٍ مُتَسَتِّرًا بِهِ إذَا رُفِعَ عَنْهُ مَا كَانَ مُتَسَتِّرًا بِهِ يَكُونُ ظَاهِرًا لَا خَارِجًا، وَإِنَّمَا يُسَمَّى خَارِجًا إذَا فَارَقَ الْبَيْتَ أَوْ الْخَيْمَةَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ غَسْلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ جَاوَزَ قَدْرَ الدِّرْهَمِ وَلَوْ ثَبَتَ وَصْفُ الْخُرُوجِ لَوَجَبَ غَسْلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ عِنْدَهُ قَلِيلًا كَانَ ذَلِكَ أَوْ كَثِيرًا، وَلَوَجَبَ عِنْدَنَا إذَا جَاوَزَ قَدْرَ الدِّرْهَمِ وَيُسَنُّ إذَا كَانَ مَا دُونَ الدِّرْهَمِ وَحَيْثُ لَمْ يَجِبْ، وَلَمْ يُسَنَّ بِالْإِجْمَاعِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِخَارِجٍ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ النَّجَاسَةِ الَّتِي فِي مَحَلِّهَا، وَكَذَا لَوْ أُزِيلَتْ عَنْ ذَلِكَ الْمَحِلِّ بِقُطْنَةٍ أَوْ بِالْمَسْحِ عَلَى جِدَارٍ لَا يُنْتَقَضُ الطَّهَارَةُ، وَإِنْ حَصَلَ الِانْفِصَالُ؛ لِأَنَّهُ مُخْرَجٌ وَلَيْسَ بِخَارِجٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا خَرَجَ مَعَ الْبُزَاقِ دَمٌ وَالْبُزَاقُ غَالِبٌ لَا يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ بَلْ بِقُوَّةِ غَيْرِهِ، وَهُوَ الْبُزَاقُ. وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ نَجَسٌ أَيْضًا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مَا لَا يَكُونُ حَدَثًا لَا يَكُونُ نَجَسًا. قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الدَّفْعُ بِمَعْنَى الْوَصْفِ) ، وَهُوَ التَّأْثِيرُ فَإِنَّمَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ لَمْ يَصِرْ حُجَّةً بِصِيغَتِهِ أَيْ بِمُجَرَّدِ صُورَةِ اللَّفْظِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعَمَلَ بِمُجَرَّدِ الْوَصْفِ لَا يَجُوزُ مَا لَمْ يَظْهَرْ مُلَائِمَتُهُ، وَلَا يَجِبُ مَا لَمْ يَظْهَرْ عَدَالَتُهُ، وَإِنَّمَا صَارَ حُجَّةً بِمَعْنَاهُ الَّذِي يُعْقَلُ بِهِ أَيْ يُعْلَمُ وَيُفْهَمُ مِنْ الْوَصْفِ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا ثَابِتٌ بِنَفْسِ الصِّيغَةِ ظَاهِرًا يَعْنِي ظَاهِرَ لَفْظِهِ لُغَةً يَدُلُّ عَلَيْهِ كَدَلَالَةِ لَفْظِ الْخُرُوجِ لُغَةً عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْ الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ وَدَلَالَةُ لَفْظِ الْمَسْحِ لُغَةً عَلَى الْإِصَابَةِ. وَالثَّانِي بِمَعْنَاهُ الثَّابِتِ بِهِ أَيْ بِالْوَصْفِ دَلَالَةً، وَهُوَ التَّأْثِيرُ فَإِنَّ الْوَصْفَ بِوَاسِطَةِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى آخَرَ هُوَ مُؤَثِّرٌ فِي الْحُكْمِ فَإِنَّ وَصْفَ الْمَسْحِ بِوَاسِطَةِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ يَدُلُّ عَلَى التَّخْفِيفِ الَّذِي هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي إسْقَاطِ التَّكْرَارِ وَوَصْفُ الْخُرُوجِ فِي مَسْأَلَةِ السَّبِيلَيْنِ بِوَاسِطَةِ مَعْنَاهُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى قِيَامِ النَّجَاسَةِ بِمَحَلِّ الطَّهَارَةِ الَّذِي هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي إيجَابِ التَّطْهِيرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا سَبَقَ يَعْنِي فِي بَابِ تَفْسِيرِ الْقِيَاسِ فِي بَيَانِ عِلَّةِ الرِّبَا، وَفِي بَابِ رُكْنِ الْقِيَاسِ فِي قَوْلِهِ الْأَثَرُ مَعْقُولٌ مِنْ كُلِّ مَحْسُوسٍ لُغَةً وَعِيَانًا وَمِنْ كُلِّ مَشْرُوعٍ مَعْقُولٍ دَلَالَةً فَكَانَ أَيْ الْمَعْنَى

وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا أَنَّهُ نَجَسٌ خَارِجٌ فَكَانَ حَدَثًا كَالْبَوْلِ وَلَا يَلْزَمُ إذَا لَمْ يَسِلْ؛ لِأَنَّ مَا سَالَ مِنْهُ نَجَسٌ أَوْجَبَ تَطْهِيرًا حَتَّى وَجَبَ غُسْلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَصَارَ بِمَعْنَى الْبَوْلِ، وَهَذَا غَيْرُ خَارِجٍ إذَا لَمْ يَسِلْ حَتَّى لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ وُجُوبُ التَّطْهِيرِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالثَّانِي، وَهُوَ الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرُ ثَابِتًا أَيْ بِالْوَصْفِ لُغَةً كَالْمَعْنَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِوَاسِطَةِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَهَذَا كَشِرَاءِ الْقَرِيبِ يَصِيرُ إعْتَاقًا بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ فَإِنَّ الْمُوجِبَ لِلْعِتْقِ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمِلْكُ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمِلْكُ مُضَافًا إلَى الشِّرَاءِ صَارَ الْعِتْقُ بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ مُضَافًا إلَى الشِّرَاءِ أَيْضًا حَتَّى صَارَ الْمُشْتَرِي مُعْتِقًا فَكَذَا التَّأْثِيرُ بِوَاسِطَةِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ صَارَ مُضَافًا إلَى الْوَصْفِ بِهِ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ فَصَحَّ الدَّفْعُ بِهِ أَيْ بِالْقِسْمِ الثَّانِي كَمَا صَحَّ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ فَإِنَّ الدَّفْعَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الدَّفْعُ بِنَفْسِ الْوَصْفِ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فَكَانَ أَيْ الدَّفْعُ بِالْأَثَرِ دَفْعًا بِنَفْسِ الْوَصْفِ أَيْ بِمَنْعِ نَفْسِ الْوَصْفِ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ. وَهَذَا أَيْ الدَّفْعُ بِالتَّأْثِيرِ أَحَقُّ وَجْهَيْ الدَّفْعِ بِالِاعْتِبَارِ وَهُمَا الدَّفْعُ بِنَفْسِ الْوَصْفِ وَالدَّفْعُ بِالتَّأْثِيرِ؛ لِأَنَّ التَّأْثِيرَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْوَصْفِ شَرْعًا دُونَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ مِنْهُ لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَيْ الدَّفْعُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ مَفْهُومُ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ فَبَدَأْنَا بِهِ وَذَلِكَ أَيْ الدَّفْعُ بِالتَّأْثِيرِ يَتَحَقَّقُ فِي هَذَيْنِ الْمِثَالَيْنِ أَيْضًا وَقَوْلُهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْمَسْحِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَجْمُوعِ يَعْنِي إنَّمَا لَا يَكُونُ التَّكْرَارُ فِيهِ مَسْنُونًا، وَإِنَّمَا لَا يَلْزَمُ الِاسْتِنْجَاءُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْمَسْحِ أَيْ تَأْثِيرُهُ أَنَّهُ تَطْهِيرٌ حُكْمِيٌّ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ حُصُولُ التَّطْهِيرِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِالْمَسْحِ بَلْ يَزْدَادُ بِهِ النَّجَاسَةُ الَّتِي فِي الْمَحَلِّ، وَكَذَا الْغَسْلُ فِي مَوْضِعِ الْمَسْحِ مَكْرُوهٌ، وَلَوْ كَانَ التَّطْهِيرُ مَقْصُودًا لَكَانَ الْغُسْلُ أَفْضَلَ بَلْ هُوَ أَمْرٌ تَعَبُّدِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ كَالتَّيَمُّمِ وَالتَّكْرَارِ فِيمَا شُرِعَ، وَهُوَ الْغَسْلُ إنَّمَا شُرِعَ لِتَوْكِيدِ التَّطْهِيرِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ التَّظْهِيرُ هَاهُنَا مُرَادًا بَطَلَ التَّكْرَارُ الَّذِي شُرِعَ لِتَوْكِيدِهِ، وَكَانَ مَكْرُوهًا؛ لِأَنَّهُ مُقَرِّبٌ إلَى الْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ وَهُوَ الْغُسْلُ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَسْحَ يَتَأَدَّى بِبَعْضِ مَحَلِّهِ تَوْضِيحٌ لِكَوْنِ التَّطْهِيرِ غَيْرَهُ مَقْصُودٌ فِيهِ يَعْنِي الْغَرَضَ يَتَأَدَّى بِمَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ، وَهُوَ الرُّبْعُ أَوْ مِقْدَارُ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ مِقْدَارُ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ، وَلَوْ كَانَ التَّطْهِيرُ مَقْصُودًا لَمَا تَأَدَّى بِبَعْضِ الْمَحَلِّ كَالْغَسْلِ بِخِلَافِ الِاسْتِنْجَاءِ؛ لِأَنَّ التَّطْهِيرَ فِيهِ مَقْصُودٌ إذْ هُوَ إزَالَةُ عَيْنِ النَّجَاسَةِ وَلِهَذَا كَانَ الْغَسْلُ فِيهِ أَفْضَلَ وَكَانَ هُوَ الْأَصْلَ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ اكْتَفَى بِالْحَجَرِ وَالْمَدَرِ تَخْفِيفًا وَفِي التَّكْرَارِ تَوْكِيدُهُ أَيْ تَوْكِيدُ الْإِزَالَةِ الْمَقْصُودَةِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ. أَلَا تَرَى تَوْضِيحٌ لِكَوْنِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ الَّتِي هِيَ تَطْهِيرٌ فِيهِ مَقْصُودًا يَعْنِي لَوْ اسْتَعْمَلَ الْحَجَرَ فِي بَعْضِ الْمَحَلِّ دُونَ الْبَعْضِ لَا يَتِمُّ الِاسْتِنْجَاءُ، وَلَوْ كَانَ نَفْسُ الْمَسْحِ فِيهِ مَقْصُودًا لَتَأَدَّى بِبَعْضِهِ كَمَسْحِ الرَّأْسِ وَالْخُفِّ فَصَارَ ذَلِكَ أَيْ الِاسْتِنْجَاءُ بِاعْتِبَارِ الِاسْتِيعَابِ وَالْقَصْدِ إلَى تَطْهِيرِ الْمَحَلِّ نَظِيرَ الْغُسْلِ فِي الْأَعْضَاءِ الْمَغْسُولَةِ سُنَّةً كَالْمَضْمَضَةِ أَوْ فَرْضًا كَغَسْلِ الْوَجْهِ لَا نَظِيرَ الْمَسْحِ فَلِذَلِكَ شُرِعَ التَّكْرَارُ فِيهِ، وَهَذَا مَعْنًى ثَابِتٌ أَيْ كَوْنُهُ تَطْهِيرًا حُكْمِيًّا غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى مُؤَثِّرًا فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّكْرَارِ ثَابِتٌ بِاسْمِ الْمَسْحِ لُغَةً؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْإِصَابَةِ، وَهِيَ لَا تُنْبِئُ عَنْ التَّطْهِيرِ الْحَقِيقِيِّ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى التَّخْفِيفِ فَكَانَ الدَّفْعُ بِهَذَا الْمَعْنَى كَالدَّفْعِ بِنَفْسِ الْوَصْفِ وَعِبَارَةُ التَّقْوِيمِ إنَّ وَصْفَ الْمَسْحِ إنَّمَا صَارَ عِلَّةً لِمَنْعِ التَّثْلِيثِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ التَّخْفِيفُ فِي مُقَابَلَةِ الْغَسْلِ فِعْلًا يَعْنِي مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَأَدَّى بِبَعْضِ الْأَصَابِعِ، وَذَاتًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَصَابَهُ، وَكَذَلِكَ قَدْرًا مِنْ حَيْثُ التَّأَدِّي بِبَعْضِ الْمَحَلِّ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ فِي الِاسْتِنْجَاءِ. (قَوْلُهُ:) وَكَذَلِكَ أَيْ، وَمِثْلُ قَوْلِنَا

وَأَمَّا الدَّفْعُ بِالْحُكْمِ فَمِثْلُ قَوْلِنَا فِي الْغَصْبِ إنَّهُ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُبْدَلِ فَكَانَ سَبَبًا لِمِلْكِ الْمُبْدَلِ وَلَا يَلْزَمُ الْمُدَبَّرُ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَاهُ سَبَبًا فِيهِ أَيْضًا لَكِنَّهُ امْتَنَعَ حُكْمُهُ لِمَانِعٍ كَالْبَيْعِ يُضَافُ إلَيْهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ أَنَّهُ نَجَسٌ خَارِجٌ فَكَانَ حَدَثًا كَالْبَوْلِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَا إذَا لَمْ يَسِلْ؛ لِأَنَّ مَا سَالَ مِنْهُ نَجَسٌ أَوْجَبَ تَطْهِيرًا يَعْنِي الْخَارِجَ النَّجَسَ إنَّمَا صَارَ حَدَثًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُؤَثِّرٌ فِي تَنْجِيسِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَإِيجَابِ تَطْهِيرِهِ حَتَّى وَجَبَ غَسْلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِلتَّطْهِيرِ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا يَجِبُ بِخُرُوجِ الْبَوْلِ فَلَمَّا سَاوَى الْبَوْلَ فِي إيجَابِ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقَةِ سَاوَاهُ فِي إيجَابِ الْحُكْمِيَّةِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا دُونَ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَأَخَفُّ مِنْهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا طَهَارَةٌ. وَهَذَا أَيْ الَّذِي ظَهَرَ، وَلَمْ يَسِلْ لَمْ يُوجِبْ تَنْجِيسَ الْمَحَلِّ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي إيجَابِ التَّطْهِيرِ حَتَّى لَمْ يَجِبْ غَسْلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِالْإِجْمَاعِ فَلَمْ يَكُنْ كَالْبَوْلِ فِي إيجَابِ الطَّهَارَةِ فِي مَحَلِّهَا فَكَذَا فِي غَيْرِ مَحِلِّهَا فَتَبَيَّنَ بِدَلَالَةِ التَّأْثِيرِ أَنَّ غَيْرَ السَّائِلِ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ التَّعْلِيلِ، وَإِنَّ عَدَمَ الْحُكْمِ هُنَاكَ لِعَدَمِ الْوَصْفِ مَعْنًى، وَإِنْ وُجِدَ صُورَةً وَمِثْلُهُ يَكُونُ مُرَجِّحًا لِلْعِلَّةِ فَكَيْفَ يَكُونُ نَقْضًا. وَقَوْلُهُ غَيْرُ خَارِجٍ إذَا لَمْ يَسِلْ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي بَيَانِ الدَّفْعِ بِالتَّأْثِيرِ لَا فِي بَيَانِ الدَّفْعِ بِنَفْسِ الْوَصْفِ بَلْ كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَقُولَ، وَهَذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ وُجُوبُ التَّطْهِيرِ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَهُ لِيَضُمَّ الدَّفْعَ بِالْوَصْفِ إلَى الدَّفْعِ بِالتَّأْثِيرِ تَوْكِيدًا فَإِنْ قِيلَ مَا ذَكَرْتُمْ أَنَّهُ مُؤَثِّرٌ فِي إيجَابِ غَسْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ عَلَى أَصْلِكُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ النَّجِسَ إذَا تَجَاوَزَ عَنْ رَأْسِ الْجُرْحِ لَا يُؤَثِّرُ فِي إيجَابِ غَسْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إذَا لَمْ يَتَجَاوَزْ قَدْرَ الدِّرْهَمِ عِنْدَكُمْ حَتَّى لَوْ تَوَضَّأَ مِنْ غَيْرِ غَسْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ جَازَتْ صَلَاتُهُ، وَإِذَا لَمْ يُؤَثِّرْ خُرُوجُ مَا دُونَ الدِّرْهَمِ فِي إيجَابِ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فَكَيْفَ يُؤَثِّرُ فِي إيجَابِ الْحُكْمِيَّةِ قُلْنَا: غَرَضُنَا مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ إلْحَاقُهُ بِالْبَوْلِ وَقَدْ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ الشَّرْعَ عَفَا عَنْ الْقَلِيلِ فِي السَّبِيلَيْنِ حَيْثُ اكْتَفَى بِالْأَحْجَارِ، وَلَمْ يُوجِبْ الْغَسْلَ فَأَلْحَقْنَا غَيْرَ السَّبِيلَيْنِ بِهِمَا فِي هَذَا الْحُكْمِ أَيْضًا، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَأْثِيرِهِ فِي إيجَابِ الْغَسْلِ بَلْ الْقَلِيلُ مُؤَثِّرٌ فِي إيجَابِ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقَةِ وَالْحُكْمِيَّةِ جَمِيعًا كَالْكَثِيرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَعْنِي فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ عَفَا فِي الْقَلِيلِ عَنْ إيجَابِ إحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ فَبَقِيَتْ الْأُخْرَى وَاجِبَةً بِهِ عَلَى أَنَّ عِنْدَ الْخَصْمِ الْحُكْمُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ سَوَاءٌ حَتَّى وَجَبَ غَسْلُ الْقَلِيلِ كَغَسْلِ الْكَثِيرِ. وَعِنْدَ مَشَايِخِنَا يَجِبُ غَسْلُ الْقَلِيلِ أَيْضًا حَتَّى قَالُوا لَوْ رَأَى الْمُصَلِّي فِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةً دُونَ قَدْرِ الدِّرْهَمِ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ وَيَغْسِلُهَا إنْ لَمْ يَخَفْ فَوْتَ الْوَقْتِ ثُمَّ يُصَلِّي وَقَالُوا أَيْضًا لَوْ اشْتَغَلَ بِغَسْلِ مَا دُونَ الدِّرْهَمِ مِنْ النَّجَاسَةِ تَفُوتُهُ الْجَمَاعَةُ، وَلَكِنْ لَا تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ فِي الْوَقْتِ أَنَّهُ يَشْتَغِلُ بِغَسْلِهَا وَيُصَلِّي مُنْفَرِدًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْقَلِيلَ مُؤَثِّرٌ فِي الْإِيجَابِ كَالْكَثِيرِ. قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الدَّفْعُ بِالْحُكْمِ) فَكَذَا دَفْعُ الْمُنَاقَضَةِ بِالْحُكْمِ أَنْ يَدْفَعَ الْمُعَلِّلُ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ النَّقْضِ بِمَنْعِ عَدَمِ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ بِأَنْ يَقُولَ لَا أُسَلِّمُ أَنَّ الْوَصْفَ إنْ وُجِدَ لَمْ يُوجَدْ حُكْمُهُ بَلْ الْحُكْمُ مَوْجُودٌ فِيهَا أَيْضًا تَقْدِيرًا كَمَا إذَا قَالَ الْمُجِيبُ إنَّ الْغَصْبَ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْبَدَلِ، وَهُوَ الضَّمَانُ فَيَكُونُ سَبَبًا لِمِلْكِ الْمُبْدَلِ، وَهُوَ الْمَغْصُوبُ فَإِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْمُدَبَّرُ نَقْضًا حَيْثُ كَانَ غَصْبُهُ سَبَبًا لِمِلْكِ الْبَدَلِ، وَلَيْسَ بِسَبَبٍ لِمِلْكِ الْمُبْدَلِ يَدْفَعُهُ بِالْحُكْمِ بِأَنْ يَقُولَ لَا أُسَلِّمُ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ عَنْهُ بَلْ الْغَصْبُ فِيهِ سَبَبٌ لِلْمِلْكِ كَالْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مَمْلُوكٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ جَمَعَ بَيْنَ مُدَبَّرٍ وَقِنٍّ فِي الْبَيْعِ دَخَلَ الْمُدَبَّرُ فِي الْبَيْعِ، وَأَخَذَ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ حَتَّى يَبْقَى الْعَقْدُ فِي الْقَنِّ بِحِصَّتِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ السَّبَبُ مُنْعَقِدًا فِي حَقِّ الْمُدَبَّرِ لَمَّا انْعَقَدَ الْعَقْدُ فِي الْقَنِّ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَائِعًا إيَّاهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ ابْتِدَاءً، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ، وَقِنٍّ وَبَاعَهُمَا. لَكِنَّهُ أَيْ

وَمِثْلُ قَوْلِنَا فِي الْجَمَلِ الصَّائِلِ إنَّ الْمَصُولَ عَلَيْهِ أَتْلَفَهُ لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ وَالِاسْتِحْلَالُ لِإِحْيَاءِ الْمُهْجَةِ لَا يُنَافِي عِصْمَةَ الْمُتْلَفِ كَمَا إذَا أَتْلَفَهُ دَفْعًا لِلْمَخْمَصَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مَالُ الْبَاغِي، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ؛ لِأَنَّ عِصْمَتَهُ لَمْ تَبْطُلْ بِهَذَا الْمَعْنَى فَكَانَ طَرْدًا لَا نَقْضًا، وَكَذَلِكَ مَتَى قُلْنَا فِي الدَّمِ إنَّهُ نَجَسٌ خَارِجٌ فَكَانَ حَدَثًا لَمْ يَلْزَمْ دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ؛ لِأَنَّهُ حَدَثٌ أَيْضًا لَكِنْ عَمَلُهُ امْتَنَعَ لِمَانِعٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالسَّبَبَ، وَهُوَ الْغَصْبُ امْتَنَعَ حُكْمُهُ، وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِمَانِعٍ وَهُوَ حَقُّ الْمُدَبَّرِ نَظَرًا لِلْمُدَبَّرِ لَا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يُوجَدْ كَالْبَيْعِ يُضَافُ إلَى الْمُدَبَّرِ يَنْعَقِدُ سَبَبًا فِي حَقِّهِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ امْتَنَعَ حُكْمُهُ لِلْمَانِعِ، وَإِذَا كَانَ امْتِنَاعُ الْحُكْمِ لِمَانِعٍ كَانَ الْحُكْمُ مَوْجُودًا تَقْدِيرًا نَظَرًا إلَى اقْتِضَاءِ الْعِلَّةِ إيَّاهُ فَلَا يَكُونُ نَقْضًا بَلْ يَكُونُ طَرْدًا وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجَوِّزُ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ فَأَمَّا عِنْدَ مَنْ أَنْكَرَهُ فَالْغَصْبُ فِي الْمُدَبَّرِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِمِلْكِ الْعَيْنِ فَكَانَ عَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمٍ لَا لِمَانِعٍ مَعَ وُجُودِهِ عَلَى مَا مَرَّ فِي بَابِ التَّخْصِيصِ. وَإِنَّمَا أَوْرَدَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا الْقِسْمَ فِي هَذَا الْبَابِ مَعَ إنْكَارِهِ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ اتِّبَاعًا لِلْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ أَوْرَدَهُ فِي التَّقْوِيمِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدَهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ بَعْدَ بَيَانِ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ الدَّفْعَ بِهَذَا الْوَجْهِ لَا يَسْلَمُ عَنْ الْقَوْلِ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مُنْكِرٌ لِهَذَا الْوَجْهِ مِنْ الدَّفْعِ مِثْلُ إنْكَارِهِ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ. وَرَأَيْت فِي نُسْخَةٍ أُخْرَى أَظُنُّهَا مِنْ مُصَنَّفَاتِ الشَّيْخِ فِي بَيَانِ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ الْغَصْبَ سَبَبٌ لِأَمَارَةِ مِلْكِ الْمُبْدَلِ فِي الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا إلَّا أَنَّ فِي فَصْلِ الْمُدَبَّرِ إنَّمَا لَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا؛ لِأَنَّ فِي الْمَحَلِّ مَانِعًا كَمَا فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِإِفَادَةِ الْمِلْكِ ثُمَّ إذَا أُضِيفَ إلَى الْمُدَبَّرِ لَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا لِمَانِعٍ فِي الْمَحَلِّ فَكَذَا هَاهُنَا فَجُعِلَ السَّبَبُ غَيْرَ مُنْعَقِدٍ لِلْمَانِعِ فَكَانَ الْحُكْمُ مَعْدُومًا لِعَدَمِ الْعِلَّةِ لَا لِوُجُودِهَا مَعَ الْمَانِعِ. قَوْلُهُ: (وَمِثْلُ قَوْلِنَا فِي الْجَمَلِ الصَّائِلِ) الْجَمَلُ إذَا صَالَ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ الْمَصُولُ عَلَيْهِ يَجِبُ الضَّمَانُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ دَفْعًا لِلْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ فَصَارَ كَالْحُرِّ الصَّائِلِ وَالْعَبْدِ الصَّائِلِ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ الْمَصُولَ عَلَيْهِ أَتْلَفَ مَالًا مُتَقَوِّمًا مَعْصُومًا حَقًّا لِلْمَالِكِ لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ قَبْلَ الصِّيَالِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ إبَاحَةَ الْقَتْلِ لِإِحْيَاءِ الْمُهْجَةِ لَا تُنَافِي عِصْمَةَ الْمَحَلِّ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْهَلَاكِ يَحْصُلُ مَعَ بَقَاءِ عِصْمَةِ الْمَحَلِّ بِإِبَاحَةِ الْإِتْلَافِ بِشَرْطِ الضَّمَانِ كَمَا فِي الْإِتْلَافِ لِدَفْعِ الْمَخْمَصَةِ، وَكَمَا فِي مُبَاشَرَةِ مَحْظُورِ الْإِحْرَامِ عِنْدَ الْعُذْرِ بِشَرْطِ الضَّمَانِ، وَهُوَ الْكَفَّارَةُ. وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ إذَا أَتْلَفَ الْعَادِلُ مَالَ الْبَاغِي حَالَ الْقِتَالِ وَالْبَغْيِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِثْلُ إتْلَافِ نَفْسِ الْبَاغِي، وَإِتْلَافِ عَبْدِ الْغَيْرِ إذَا صَالَ عَلَيْهِ بِالسِّلَاحِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا إتْلَافٌ لِإِحْيَاءِ الْمُهْجَةِ ثُمَّ عِصْمَةُ الْمَحَلِّ قَدْ سَقَطَتْ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ حَتَّى لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ عَلَى الْمُتْلِفِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ إحْيَاءً لِنَفْسِهِ، فَيُدْفَعُ هَذَا النَّقْضُ بِالْحُكْمِ بِأَنْ يُقَالَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِصْمَةَ فِي تِلْكَ الصُّوَرِ سَقَطَتْ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ إحْيَاءُ الْمُهْجَةِ لَكِنَّهَا سَقَطَتْ بِالْبَغْيِ فِي حَقِّ الْبَاغِي وَبِالصِّيَالِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ آدَمِيٌّ مُكَلَّفٌ، وَأَنَّهُ فِي حَقِّ الدَّمِ وَالْحَيَاةِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فَبَطَلَتْ حُرْمَتُهُ بِصِيَالِهِ كَمَا تَبْطُلُ حُرْمَةُ الْحُرِّ بِصِيَالِهِ، وَبُطْلَانُ حَقِّ الْمَوْلَى بِطَرِيقِ التَّبَعِ كَمَا فِي إقْرَارِهِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَكَانَ أَيْ إتْلَافُ مَالِ الْبَاغِي، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ طَرْدًا أَيْ مُوَافِقًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى لَا نَقْضًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ نَقْضًا أَنْ لَوْ وُجِدَ الْإِتْلَافُ مُنَافِيًا لِلْعِصْمَةِ مُوجِبًا سُقُوطَهَا فِي صُوَرِ النَّقْضِ، وَلَمْ يُوجَدْ بَلْ السُّقُوطُ وُجِدَ بِعِلَّةٍ أُخْرَى لَا بِالْإِتْلَافِ فَكَانَ حُكْمُ الْإِتْلَافِ، وَهُوَ عَدَمُ مُنَافَاتِهِ لِلْعِصْمَةِ مَوْجُودًا فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كَمَا فِي إتْلَافِ الْجَمَلِ الصَّائِلِ لَكِنَّهُ لَا يَمْنَعُ وُجُودَ مَعْنًى آخَرَ مُسْقِطٍ لِلْعِصْمَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ مَعَ كَوْنِهِ مُوجِبًا لِلْعِصْمَةِ لَا يَمْنَعُ حُدُوثَ مَعْنًى آخَرَ يُوجِبُ سُقُوطَ الْعِصْمَةِ فَهَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ

وَأَمَّا الرَّابِعُ فَمِثْلُ قَوْلِنَا نَجَسٌ خَارِجٌ وَلَا يَلْزَمُ دَمُ اسْتِحَاضَةٍ وَدَمُ صَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ الدَّائِمِ؛ لِأَنَّ غَرَضَنَا التَّسْوِيَةُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْخَارِجِ مِنْ الْمَخْرَجِ الْمُعْتَادِ وَذَلِكَ حَدَثٌ فَإِذَا لَزِمَ صَارَ عَفْوًا لِقِيَامِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ هَذَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا فِي التَّأْمِينِ إنَّهُ ذِكْرٌ فَكَانَ سَبِيلُهُ الْإِخْفَاءَ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الْأَذَانُ وَتَكْبِيرَاتُ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ غَرَضَنَا أَنَّ أَصْلَ الذِّكْرِ الْإِخْفَاءُ، وَكَذَلِكَ أَصْلُ الْأَذَانِ وَالتَّكْبِيرَاتِ إلَّا أَنَّ فِي تِلْكَ الْأَذْكَارِ مَعْنًى زَائِدًا، وَهُوَ أَنَّهَا أَعْلَامٌ فَلِذَلِكَ أَوْجَبَ فِيهَا حُكْمًا عَارِضًا أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُنْفَرِدَ وَالْمُقْتَدِيَ لَا يَجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ، وَمَنْ صَلَّى وَحْدَهُ أَذَّنَ لِنَفْسِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِمُوجِبٍ لِلْعِصْمَةِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَسْقَطٍ لَهَا فَهَذَا مَعْنَى الدَّفْعِ بِالْحُكْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَالصُّولُ وَالصِّيَالُ الْوَثْبُ وَالْمُهْجَةُ الدَّمُ وَيُقَالُ الْمُهْجَةُ دَمُ الْقَلْبِ خَاصَّةً وَالْمُرَادُ مِنْهَا هَاهُنَا الرُّوحُ يُقَالُ خَرَجَتْ مُهْجَتُهُ إذَا خَرَجَتْ رُوحُهُ وَكَذَلِكَ أَيْ، وَكَمَا لَا يَلْزَمُ الْمُدَبَّرَ، وَمَالُ الْبَاغِي عَلَى الْمَسْأَلَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ لِوُجُودِ حُكْمِ الْعِلَّةِ فِي صُوَرِ النَّقْضِ لَا يَلْزَمُ دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَعْنِي لَوْ قِيلَ إنَّهُ دَمٌ خَارِجٌ نَجَسٌ، وَلَيْسَ يَحْدُثُ حَيْثُ لَمْ يُنْتَقَضْ بِهِ الطَّهَارَةُ مَا دَامَ الْوَقْتُ بَاقِيًا أَوْ مَا دَامَتْ تُصَلِّي الْفَرْضَ، وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ النَّوَافِلِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَدَثٍ بَلْ نَقُولُ إنَّهُ حَدَثٌ، وَلَكِنْ تَأَخَّرَ حُكْمُهُ إلَى مَا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لِلْعُذْرِ وَلِهَذَا تَلْزَمُهَا الطَّهَارَةُ لِصَلَاةٍ أُخْرَى بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ بِذَلِكَ الْحَدَثِ فَإِنَّ خُرُوجَ الْوَقْتِ لَيْسَ بِحَدَثٍ بِالْإِجْمَاعِ وَالْحُكْمُ تَارَةً يَتَّصِلُ بِالسَّبَبِ وَتَارَةً يَتَأَخَّرُ عَنْهُ لِمَانِعٍ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ امْتَنَعَ عَمَلُهُ لِمَانِعٍ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَوَّزَ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ أَيْضًا. (قَوْلُهُ: وَأَمَّا الرَّابِعُ، وَهُوَ الدَّفْعُ) فَالْغَرَضُ بِأَنْ يَقُولَ الْغَرَضُ مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ إلْحَاقُ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ، وَقَدْ حَصَلَ فَمَا يَرِدُ نَقْضًا عَلَى الْفَرْعِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ فَهُوَ وَارِدٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَالْجَوَابُ الَّذِي لِلْخَصْمِ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ هُوَ الْجَوَابُ لَنَا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ وَذَلِكَ مِثْلُ تَعْلِيلِنَا فِي الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ أَنَّهُ خَارِجٌ نَجَسٌ فَيَكُونُ حَدَثًا كَالْخَارِجِ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ فَأَوْرَدَ عَلَيْهِ دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ وَدَمَ صَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَرِدُ نَقْضًا عَلَى الْأَصْلِ إذْ هُوَ خَارِجٌ نَجَسٌ عَنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ، وَلَيْسَ بِحَدَثٍ. وَالثَّانِي يَرِدُ نَقْضًا عَلَى الْفَرْعِ فَإِنَّهُ خَارِجٌ نَجَسٌ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ، وَمِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ وَلَيْسَ بِحَدَثٍ فَيُدْفَعُ بِالْغَرَضِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْفَرْعِ، وَهُوَ الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ وَبَيْنَ الْأَصْلِ، وَهُوَ الْخَارِجُ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ، وَقَدْ حَصَلَ فَإِنَّ الْخَارِجَ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ حَدَثٌ فَإِذَا لَزِمَ أَيْ دَامَ صَارَ عَفْوًا لِقِيَامِ، وَقْتِ الصَّلَاةِ أَيْ بِسَبَبِ قِيَامِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا مُخَاطَبَةٌ بِالْأَدَاءِ فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ قَادِرَةً، وَلَا قُدْرَةَ إلَّا بِسُقُوطِ حُكْمِ الْحَدَثِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَكَذَلِكَ هَذَا أَيْ فَمِثْلُ الْأَصْلِ الْفَرْعُ، وَهُوَ الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ فِي أَنَّهُ إذَا صَارَ لَازِمًا يَصِيرُ عَفْوًا لِقِيَامِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ عَفْوًا فِي الْفَرْعِ عِنْدَ اللُّزُومِ لَكَانَ الْفَرْعُ مُخَالِفًا لِلْأَصْلِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَثَبَتَ أَنَّ التَّسْوِيَةَ الَّتِي هِيَ الْمَقْصُودَةُ مِنْ التَّعْلِيلِ فِي جَعْلِهِ عَفْوًا كَالْأَصْلِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ نَقْضًا. قَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ) أَيْ، وَكَمَا يُدْفَعُ بِالْغَرَضِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُدْفَعُ بِالْغَرَضِ فِي مَسْأَلَةِ التَّأْمِينِ فَإِنَّ عُلَمَاءَنَا قَالُوا السُّنَّةُ فِي التَّأْمِينِ الْإِخْفَاءُ دُونَ الْجَهْرِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ أَيْ دُعَاءٌ فَإِنَّ مَعْنَاهُ اسْتَجِبْ دُعَاءَنَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُوسَى، وَهَارُونَ {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس: 89] وَرُوِيَ أَنَّ مُوسَى كَانَ يَدْعُو، وَهَارُونَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - كَانَ يُؤَمِّنُ فَكَانَ سُنَّتُهُ الْإِخْفَاءَ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَدْعِيَةِ إذَا الْأَصْلُ فِيهَا الْإِخْفَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «خَيْرُ الدُّعَاءِ الْخَفِيُّ وَخَيْرُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي» أَوْ هُوَ ذِكْرٌ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ آمِينَ بِالْمَدِّ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ فَكَانَتْ سُنَّتُهُ الْإِخْفَاءَ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَذْكَارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} [الأعراف: 205] الْآيَةَ. «وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلَّذِي رَفَعَ صَوْتَهُ بِالذِّكْرِ إنَّك لَنْ تَدْعُوَا أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا» وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ الْأَذَانُ

وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَشَايِخِنَا فِي الدَّفْعِ أَنَّهُ لَا يُفَارِقُ الْأَصْلَ لَكِنْ مَا قُلْنَاهُ أَبْيَنُ فِي وُجُوهِ الدَّفْعِ وَإِذَا قَامَتْ الْمُعَارَضَةُ كَانَ السَّبِيلُ فِيهِ التَّرْجِيحُ، وَهَذَا. ـــــــــــــــــــــــــــــQوَتَكْبِيرَاتُ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا أَذْكَارٌ شُرِعَتْ بِالْجَهْرِ فَيُدْفَعُ بِالْغَرَضِ بِأَنْ يُقَالَ غَرَضُنَا مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنْ يُجْعَلَ الذَّكَرُ سَبَبًا لِشَرْعِ الْمُخَافَتَةِ، وَأَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ التَّأْمِينِ وَبَيْنَ سَائِرِ الْأَذْكَارِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي صُوَرِ النَّقْضِ الْأَصْلُ هُوَ الْإِخْفَاءُ أَيْضًا إلَّا أَنَّ فِي تِلْكَ الْأَذْكَارِ مَعْنًى زَائِدًا يُوجِبُ الْجَهْرَ بِهَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَهُوَ أَنَّهَا أَعْلَامٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ دَلَالَاتٌ عَلَى انْتِقَالَاتِ الْإِمَامِ مِنْ حَالَةٍ إلَى حَالَةٍ وَعَلَى دُخُولِ، وَقْتِ الصَّلَاةِ أَوْ أَنَّهَا إعْلَامٌ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ هِيَ إخْبَارٌ وَتَنْبِيهٌ لِمَنْ خَلْفَ الْإِمَامِ بِانْتِقَالِهِ إلَى رُكْنٍ آخَرَ وَلِلنَّاسِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ، وَلِهَذَا سُمِّيَ أَذَانًا فَذَلِكَ الْمَعْنَى الزَّائِدِ أَوْجَبَ فِي هَذِهِ الْأَذْكَارِ حُكْمًا عَارِضًا عَلَى الْأَصْلِ وَهُوَ الْجَهْرُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ إعْلَامًا إلَّا بِصِفَةِ الْجَهْرِ. فَبِبَيَانِ الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ بِالتَّعْلِيلِ، وَهُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ هَذَا الذِّكْرِ وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ انْدَفَعَ النَّقْضُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الدَّفْعِ بِالْحُكْمِ بِأَنْ يُقَالَ هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ كَوْنُهُ ذِكْرًا يُوجِبُ الْإِخْفَاءَ فِي صُوَرِ النَّقْضِ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ لِمَانِعٍ أَقْوَى وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ وُجُودَ عِلَّةٍ لَا يَمْنَعُ وُجُودَ عِلَّةٍ أُخْرَى يُوجِبُ الْحُكْمَ عَلَى خِلَافِ الْأَوْلَى، وَكَانَ الْإِخْفَاءُ فِيهَا ثَابِتًا تَقْدِيرًا وَلِهَذَا لَوْ جَهَرَ الْمُقْتَدِي أَوْ الْمُنْفَرِدُ فَقَدْ أَسَاءَ، وَكَذَا لَوْ جَهَرَ الْإِمَامُ فَوْقَ حَاجَةِ النَّاسِ إلَى الْعِلْمِ فَقَدْ أَسَاءَ لِزَوَالِ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْجَهْرِ فِيمَا وَرَاءَ مَوْضِعِ الْإِعْلَامِ فَإِنْ قِيلَ سَلَّمْنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ ذِكْرٍ هُوَ الْإِخْفَاءُ إلَّا أَنَّهُ قَدْ قَامَ فِي التَّأْمِينِ مَعْنًى آخَرُ يُوجِبُ الْجَهْرَ، وَهُوَ إعْلَامُ الْقَوْمِ أَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّقَ تَأْمِينَ الْقَوْمِ بِتَأْمِينِ الْإِمَامِ فِي قَوْلِهِ «إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا» أَوْ لَمْ يَكُنْ تَأْمِينُ الْإِمَامِ مَسْمُوعًا لَمَا صَحَّ تَعْلِيقُ تَأْمِينِ الْقَوْمِ بِهِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى أَبُو وَائِلٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجْهَرُ بِالتَّأْمِينِ» وَمَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ أَدْرَكْتُ مِائَتَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانُوا إذَا أَمَّنُوا سُمِعَ لِتَأْمِينِهِمْ ضَجَّةٌ فِي الْمَسْجِدِ قُلْنَا قَدْ حَصَلَ الْإِعْلَامُ بِبَيَانِ الْمَوْضِعِ حَيْثُ قَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ، «وَإِذَا قَالَ الْإِمَامُ، وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا آمِينَ» فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِعْلَامِ بِالْجَهْرِ فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ الْإِخْفَاءُ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَقُولُهَا، وَلَوْ كَانَ تَأْمِينُهُ مَسْمُوعًا لَاسْتُغْنِيَ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ أَخْبَارٌ فِي فِعْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَيُحْمَلُ الْجَهْرُ عَلَى التَّعْلِيمِ أَوْ عَلَى ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ عَلَى أَنَّ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ رَدَّ حَدِيثَ أَبِي وَائِلٍ فَقَالَ أَشَهِدَ أَبُو وَائِلٍ وَغَابَ عَبْدُ اللَّهِ، وَأَبُو وَائِلٍ مِنْ الْأَعْرَابِ وَمَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ مُعَارَضٌ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِخِلَافِهِ فَإِنَّ مَذْهَبَهُمْ فِي التَّأْمِينِ الْإِخْفَاءُ، وَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ اخْتِلَافٌ فَيَدُلُّ اخْتِلَافُهُمْ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَخْبَارِ فَيُصَارُ إلَى التَّرْجِيحِ بِمَا ذَكَرْنَا إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْأَسْرَارِ. قَوْلُهُ: (وَهَذَا) أَيْ الدَّفْعُ بِالْغَرَضِ مَعْنَى قَوْلِ مَشَايِخِنَا يَعْنِي أَهْلَ النَّظَرِ مِنْهُمْ فِي بَابِ الدَّفْعِ أَنَّهُ أَيْ الْفَرْعَ لَا يُفَارِقُ الْأَصْلَ يَعْنِي أَنَّهُمْ إذَا دَفَعُوا النَّقْضَ بِأَنْ قَالُوا إنَّ الْفَرْعَ مَعَ وُرُودِ هَذَا النَّقْضِ لَا يُفَارِقُ الْأَصْلَ فَهُوَ الدَّفْعُ بِالْغَرَضِ الَّذِي ذَكَرْنَا إلَّا أَنَّهُمْ لَقَّبُوهُ بِأَنَّهُ لَا يُفَارِقُ حُكْمَ أَصْلِهِ وَنَحْنُ لَقَّبْنَاهُ بِالْغَرَضِ؛ لِأَنَّهُ أَبْيَنُ فِي وَجْهٍ مِمَّا قَالُوا إذْ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ عَدَمَ مُفَارَقَتِهِمَا فِي الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ مِنْ التَّعْلِيلِ أَوْ فِي وُرُودِ النَّقْضِ عَلَيْهِمَا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُجْمَلِ وَفِيمَا قُلْنَا بَيَانُ تَسْوِيَتِهِمَا فِي الْغَرَضِ، وَهُوَ

[باب الترجيح]

بَابُ التَّرْجِيحِ) : قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ: الْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَابِ أَرْبَعَةُ أَضْرُبٍ أَحَدُهَا ـــــــــــــــــــــــــــــQالْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ مِنْ التَّعْلِيلِ مَعَ وُرُودِ النَّقْضِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُفَسَّرِ فَلِهَذَا اخْتَرْنَا هَذِهِ الْعِبَارَةِ، قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَبِهَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ الدَّفْعِ تَبَيَّنَ الْفِقْهُ فَإِنَّهُ اسْمٌ لِضَرْبِ مَعْنًى يُنَالُ بِالتَّأَمُّلِ وَالِاسْتِنْبَاطِ فَالدَّفْعُ عَلَى طُرُقِ الْفِقْهِ هُوَ أَنْ يَكُونَ بِوُجُوهٍ لَا يُنَالُ إلَّا بِضَرْبِ تَأَمُّلٍ فَأَمَّا الدَّفْعُ بِأَلْفَاظٍ ظَاهِرَةٍ فَمِمَّا يَقَعُ بِهَا الِاحْتِرَازُ عَنْ النُّقُوضِ بِمُجَرَّدِ السَّمَاعِ فَلَا يَكُونُ فِقْهًا. قَالَ: وَقَدْ زَادَ مَشَايِخُنَا مِنْ أَصْحَابِ الطَّرْدِ فِي هَذِهِ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ فَعَلَّلُوا لِمَسْحِ الرَّأْسِ أَنَّهُ مَسْحٌ بِالْمَاءِ فَأَشْبَهَ مَسْحَ الْخُفِّ احْتِرَازًا عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِلَفْظٍ ظَاهِرٍ وَعَلَّلُوا لِلدَّمِ السَّائِلِ بِأَنَّهُ نَجَسٌ خَارِجٌ إلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ فِي نَفْسِهِ احْتِرَازًا عَنْ غَيْرِ السَّائِلِ بِلَفْظٍ ظَاهِرٍ وَعَلَّلُوا لِإِيجَابِ الْمِلْكِ فِي الْمَغْصُوبِ بِالْغَصْبِ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ بِأَنَّهُ سَبَبٌ أَوْجَبَ مِلْكَ الْبَدَلِ فَيُوجِبُ مِلْكَ الْمُبْدَلِ الْقَابِلِ لِلْمِلْكِ احْتِرَازًا عَنْ الْمُدَبَّرِ، وَأَنَّهُ سَمِجٌ سَمَاعًا، وَلَغْوٌ ذِكْرًا لِوُقُوعِ الْغُنْيَةِ عَنْهُ بِمَا دُونَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. 1 - قَوْلُهُ: (وَإِذَا قَامَتْ الْمُعَارَضَةُ) وَلَمَّا فَرَغَ عَنْ بَيَانِ الْمُمَانَعَةِ وَالْمُعَارَضَةِ بِذَلِكَ فِي بَيَانِ دَفْعِ الْمُعَارَضَةِ بَعْدَ تَحَقُّقِهَا فَقَالَ: وَإِذَا قَامَتْ الْمُعَارَضَةُ أَيْ تَحَقَّقَتْ بِأَنْ لَمْ تَنْدَفِعْ بِطَرِيقٍ مِنْ الطُّرُقِ الْمَسْلُوكَةِ فِي دَفْعِ الْعِلَلِ مِنْ الْمُمَانَعَةِ وَالْقَلْبِ وَنَحْوِهِمَا كَانَ السَّبِيلُ فِيهِ أَيْ فِي دَفْعِ الْمُعَارَضَةِ التَّرْجِيحَ فَإِنَّ أَسْوَأَ أَحْوَالِ الْمُجِيبِ أَنْ يُسَاوِيَهُ السَّائِلُ فِي الدَّرَجَةِ بِإِقَامَةِ دَلِيلٍ يُوجِبُ خِلَافَ مَا اقْتَضَاهُ دَلِيلُ الْمُجِيبِ فَوَجَبَ دَفْعُهُ بِبَيَانِ التَّرْجِيحِ إذَا لَمْ يَنْدَفِعْ بِطَرِيقٍ آخَرَ فَإِنْ لَمْ يَتَأَتَّ لِلْمُجِيبِ التَّرْجِيحُ صَارَ مُنْقَطِعًا وَإِنْ رَجَّحَ الْمُجِيبُ عِلَّتَهُ فَلِلسَّائِلِ أَنْ يُعَارِضَ تَرْجِيحَهُ بِتَرَجُّحِ عِلَّتِهِ كَمَا كَانَ لَهُ أَنْ يُعَارِضَ عِلَّتَهُ بِعِلَّتِهِ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ تَرْجِيحُ عِلَّتِهِ لَزِمَهُ مَا ادَّعَاهُ الْمُجِيبُ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالرَّاجِحِ، وَإِهْمَالُ الْمَرْجُوحِ وَاجِبٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ التَّرْجِيحِ] [الْقِسْمُ الْأَوَّل تَفْسِيرِ التَّرْجِيحِ وَمَعْنَاهُ] (بَابُ التَّرْجِيحِ) : اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ التَّمَسُّكِ بِالتَّرْجِيحِ عِنْدَ التَّعَارُضِ وَوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالرَّاجِحِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ الْوَاجِبُ عِنْدَ التَّعَارُضِ التَّوَقُّفُ أَوْ التَّخْيِيرُ دُونَ التَّرْجِيحِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] فَقَدْ أَمَرَ بِالِاعْتِبَارِ، وَالْعَمَلُ بِالْمَرْجُوحِ اعْتِبَارٌ. وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَنَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ وَالْحُكْمُ بِالْمَرْجُوحِ حُكْمٌ بِالظَّاهِرِ؛ وَلِأَنَّ الْأَمَارَاتِ الظَّنِّيَّةَ لَا تَزِيدُ عَلَى الْبَيِّنَاتِ، وَالتَّرْجِيحُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْبَيِّنَاتِ حَتَّى لَمْ تُرَجَّحْ شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ عَلَى شَهَادَةِ الِاثْنَيْنِ فَكَذَا فِي الْأَمَارَاتِ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى صِحَّةِ التَّرْجِيحِ وَوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالرَّاجِحِ مُتَمَسِّكِينَ فِي ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ عَلَى تَقْدِيمِ بَعْضِ الْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ عَلَى الْبَعْضِ إذَا اقْتَرَنَ بِهِ مَا يَقْوَى بِهِ عَلَى مُعَارَضَةٍ فَإِنَّهُمْ قَدَّمُوا خَبَرَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ عَلَى خَبَرِ مَنْ رَوَى أَنْ «لَا مَاءَ إلَّا مِنْ الْمَاءِ» ، وَقَدَّمُوا أَيْضًا مَنْ رَوَتْ مِنْ أَزْوَاجِهِ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا، وَهُوَ صَائِمٌ» عَلَى مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُمْ - «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صِيَامَ لَهُ» . وَقَوَّى عَلِيٌّ خَبَرَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَلَمْ يُحَلِّفْهُ وَحَلَّفَ غَيْرَهُ وَقَوَّى أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَبَرَ الْمُغِيرَةِ فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ لَمَّا رَوَى مَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ تَعْدَادُهُ؛ وَلِأَنَّ الْعُقَلَاءَ يُوجِبُونَ الْعَمَلَ بِالرَّاجِحِ بِعُقُولِهِمْ فِي الْحَوَادِثِ، وَالْأَصْلُ تَنْزِيلُ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى

فِي تَفْسِيرِ التَّرْجِيحِ، وَمَعْنَاهُ لُغَةً وَشَرِيعَةً وَالثَّانِي فِي الْوُجُوهِ الَّتِي تَقَعُ بِهَا بِتَرْجِيحٍ. وَالثَّالِثُ بَيَانُ الْمُخَلِّصِ فِي تَعَارُضِ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ، وَالرَّابِعُ فِي الْفَاسِدِ مِنْ وَجْهِ التَّرْجِيحِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّ التَّرْجِيحَ عِبَارَةٌ عَنْ فَضْلِ أَحَدِ الْمِثْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَصْفًا فَصَارَ التَّرْجِيحُ بِنَاءً عَلَى الْمُمَاثَلَةِ وَقِيَامُ التَّعَارُضِ بَيْنَ مِثْلَيْنِ يَقُومُ بِهِمَا التَّعَارُضُ قَائِمًا بِوَصْفٍ هُوَ تَابِعٌ لَا يَقُومُ بِهِ التَّعَارُضُ بَلْ يَنْعَدِمُ فِي مُقَابَلَةِ أَحَدِ رُكْنَيْ التَّعَارُضِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ رُجْحَانُ الْمِيزَانِ وَذَلِكَ أَنْ يَسْتَوِيَ الْكِفَّتَانِ بِمَا يَقُومُ بِهِ التَّعَارُضُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ ثُمَّ يَنْضَمُّ إلَى أَحَدِهِمَا شَيْءٌ لَا يَقُومُ بِهِ التَّعَارُضُ وَلَا يَقُومُ بِهِ الْوَزْنُ لَوْلَا الْأَصْلُ فَسُمِّيَ ذَلِكَ رُجْحَانًا كَالدَّانَقِ وَنَحْوِهِ فِي الْعَشَرَةِ فَأَمَّا السِّتَّةُ وَالسَّبْعَةُ إذَا ضُمَّ إلَى إحْدَى الْعَشَرَتَيْنِ فَلَا. أَلَا يُرَى أَنَّ ضِدَّ التَّرْجِيحِ التَّطْفِيفُ وَذَلِكَ يَنْقُصَانِ فِي الْوَزْنِ وَالْكَيْلِ بِوَصْفٍ لَا يَقُومُ بِهِ التَّعَارُضُ وَلَا يَنْفِي أَصْلَ التَّعَارُضِ، وَذَلِكَ مَعْنَى التَّرْجِيحِ شَرْعًا ـــــــــــــــــــــــــــــQوِزَانِ الْأُمُورِ الْعُرْفِيَّةِ لِكَوْنِهِ أَسْرَعَ إلَى الِانْقِيَادِ وَلِهَذَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» وَالْجَوَابُ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِالْآيَةِ أَنَّ مُقْتَضَاهَا وُجُوبُ النَّظَرِ، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يُنَافِي الْقَوْلَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالرَّاجِحِ، وَعَنْ احْتِجَاجِهِمْ بِالسُّنَّةِ مَنْعُ كَوْنِ الْمَرْجُوحِ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ مَا تَرَجَّحَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ عَلَى الْآخَرِ وَالْمَرْجُوحُ مَعَ الرَّاجِحِ لَيْسَ كَذَلِكَ وَعَنْ تَعَلُّقِهِمْ بِمَسْأَلَةِ الشَّهَادَةِ مَا سَيَأْتِي. وَاعْلَمْ أَيْضًا أَنَّ التَّرْجِيحَ إنَّمَا يَقَعُ بَيْنَ الْمَظْنُونَيْنِ؛ لِأَنَّ الظُّنُونَ تَتَفَاوَتُ فِي الْقُوَّةِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي مَعْلُومَيْنِ إذْ لَيْسَ بَعْضُ الْعُلُومِ أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَجْلَى وَأَقْرَبُ حُصُولًا، وَأَشَدُّ اسْتِغْنَاءً عَنْ التَّأَمُّلِ، وَلِذَلِكَ قُلْنَا إذَا تَعَارَضَ نَصَّانِ قَاطِعَانِ فَلَا سَبِيلَ إلَى التَّرْجِيحِ بَلْ الْمُتَأَخِّرُ هُوَ النَّاسِخُ إنْ عُرِفَ التَّارِيخُ، وَإِلَّا وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ أَوْ التَّوَقُّفُ وَلَا فِي مَعْلُومٍ، وَمَظْنُونٍ لِاسْتِحَالَةِ بَقَاءِ الظَّنِّ فِي مُقَابَلَةِ الْعِلْمِ فَثَبَتَ أَنَّ مَحَلَّ التَّرْجِيحِ الدَّلَائِلُ الظَّنِّيَّةُ فَبَعْدَ ذَلِكَ الْكَلَامُ فِي تَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ عَلَى الْأَوْجُهِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ. قَوْلُهُ: (فِي تَفْسِيرِ التَّرْجِيحِ وَمَعْنَاهُ لُغَةً وَشَرِيعَةً) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُسْتَقِيمِ أَيْ فِي تَفْسِيرِ التَّرْجِيحِ لُغَةً، وَمَعْنَاهُ شَرِيعَةً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُشَوَّشِ أَيْ فِي تَفْسِيرِ التَّرْجِيحِ شَرِيعَةً، وَمَعْنَاهُ لُغَةً. أَمَّا الْأَوَّلُ، وَهُوَ تَفْسِيرُ التَّرْجِيحِ لُغَةً وَشَرِيعَةً وَالثَّانِي فِي الْوُجُوهِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا التَّرْجِيحُ أَيْ الْوُجُوهُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي يَقَعُ بِهَا التَّرْجِيحُ فِي الْأَقْيِسَةِ فَأَمَّا وُجُوهُ التَّرْجِيحِ فِي الْأَخْبَارِ فَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهَا فَإِنَّ التَّرْجِيحَ عِبَارَةٌ عَنْ كَذَا فِيهِ تَوَسُّعٌ؛ لِأَنَّ مَا ذُكِرَ مَعْنَى الرُّجْحَانِ لَا مَعْنَى التَّرْجِيحِ فَإِنَّ التَّرْجِيحَ إثْبَاتُ رُجْحَانٍ. وَلِهَذَا قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: التَّرْجِيحُ لُغَةً إظْهَارُ الزِّيَادَةِ لِأَحَدِ الْمِثْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَصْفًا لَا أَصْلًا مِنْ قَوْلِك أَرْجَحْت الْوَزْنَ إذَا زِدْت جَانِبَ الْمَوْزُونِ حَتَّى مَالَتْ كِفَّتُهُ وَطَفَتْ كِفَّةُ السَّنَجَاتِ مَيْلًا لَا يُبْطِلُ مَعْنَى الْوَزْنِ فَصَارَ التَّرْجِيحُ بِنَاءً عَلَى الْمُمَاثَلَةِ فَقَوْلُهُ بِنَاءً خَبَرُ صَارَ، وَقَائِمًا خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ أَوْ بِنَاءً مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ وَقَعَ مَوْقِعَ الْحَالِ، وَقَائِمًا خَبَرُ صَارَ أَيْ صَارَ التَّرْجِيحُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا مَبْنِيًّا عَلَى الْمُمَاثَلَةِ قَائِمًا بِكَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عِبَارَةً عَنْ فَضْلِ أَحَدِ الْمِثْلَيْنِ لَا بُدَّ مِنْ الْمُمَاثَلَةِ، وَقِيَامِ التَّعَارُضِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا أَيْ ثَابِتًا بِوَصْفٍ هُوَ تَابِعٌ إذْ الْأَوْصَافُ أَتْبَاعٌ لِلذَّوَاتِ ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فَصَارَ التَّرْجِيحُ إلَى آخِرِهِ بَيَانَ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ وَالْأَوَّلُ بَيَانُ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَحْقِيقَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَقَوْلُهُ كَذَلِكَ مَعْنَى التَّرْجِيحِ شَرْعًا إشَارَةً إلَى الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ وَأَصْلُ ذَلِكَ أَيْ أَصْلُ التَّرْجِيحِ بِالتَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ رُجْحَانُ الْمِيزَانِ أَيْ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْهُ فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ زِيَادَةٍ بَعْدَ ثُبُوتِ الْمُعَادَلَةِ بَيْنَ كِفَّتَيْ الْمِيزَانِ وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقُومُ بِهَا الْمُمَاثَلَةُ ابْتِدَاءً، وَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْوَزْنِ مُنْفَرِدَةً عَنْ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ قَصْدًا فِي الْعَادَةِ كَالدَّانَقِ وَنَحْوِهِ مِثْلُ الْحَبَّةِ وَالشَّعِيرَةِ فَإِنَّ الدَّانَقَ فِي مُقَابِلَةِ الْعَشَرَةِ لَا يُعْتَبَرُ وَزْنُهُ عَادَةً، وَلَا يُفْرَدُ لَهُ الْوَزْنُ فِي مُقَابَلَتِهَا بَلْ يُهْدَرُ وَيُجْعَلُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ أَمَّا السِّتَّةُ وَالسَّبْعَةُ الْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ إذَا ضُمَّتْ إلَى إحْدَى الْعَشْرَتَيْنِ يَعْنِي إذَا قُوبِلَتْ عَشَرَةٌ بِعَشَرَةٍ وَضُمَّتْ إلَى إحْدَاهُمَا سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ أَوْ نَحْوُهُمَا لَا يُسَمَّى ذَلِكَ تَرْجِيحًا؛ لِأَنَّ السِّتَّةَ وَنَحْوَهَا يُعْتَبَرُ وَزْنُهَا فِي مُقَابَلَةِ الْعَشَرَةِ، وَلَا يُهْدَرُ

أَلَا يُرَى أَنَّا جَوَّزْنَا فَضْلًا فِي الْوَزْنِ فِي قَضَاءِ الدُّيُونِ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلْوَازِنِ «زِنْ وَأَرْجِحْ» وَلَمْ يَجْعَلْهُ هِبَةً فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِمَّا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ، وَكَانَ مِنْ قِبَلِ مَا يَقَعُ التَّعَارُضُ بِصِفَةِ التَّطْفِيفِ صَارَ هِبَةً، وَكَانَ بَاطِلًا وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ التَّرْجِيحَ لَا يَقَعُ بِمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً بِانْفِرَادِهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ بِوَصْفٍ لَا يَصْلُحُ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِانْفِرَادِهِ كَرَجُلٍ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ عَلَى عَيْنٍ، وَأَقَامَ آخَرُ أَرْبَعَةً لَمْ يَتَرَجَّحْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِلَّةٌ انْضَمَّ إلَى مِثْلِهَا فَلَمْ يَصْلُحْ وَصْفًا، وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّرْجِيحُ بِوَصْفٍ مُؤَكِّدٍ لِمَعْنَى الرُّكْنِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ التَّرْجِيحُ بِشَاهِدٍ ثَالِثٍ عَلَى الشَّاهِدِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَزِيدُ الْحُجَّةَ قُوَّةً، وَلَا الصِّدْقَ تَوْكِيدًا ـــــــــــــــــــــــــــــQقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ تُسَمَّى زِيَادَةُ دِرْهَمٍ عَلَى الْعَشَرَةِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ رُجْحَانًا؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ تَقُومُ بِهِ أَصْلًا وَتُسَمَّى زِيَادَةُ الْحَبَّةِ وَنَحْوِهَا رُجْحَانًا؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ لَا تَقُومُ بِهَا عَادَةً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الشَّيْخِ مِنْ إحْدَى الْعَشْرَتَيْنِ حَقِيقَةَ الْعَشَرَةِ، وَمِنْ الْآخَرِ السَّنْجَةَ الَّتِي فِي مُقَابَلَتِهَا. قَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ مَعْنَى التَّرْجِيحِ شَرْعًا) أَيْ، وَكَمَا بَيَّنَّا مَعْنَى التَّرْجِيحِ لُغَةً فَهُوَ فِي الشَّرْعِ بِذَلِكَ الْمَعْنَى أَيْضًا إذْ هُوَ فِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ إظْهَارِ قُوَّةٍ لِأَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ لَوْ انْفَرَدَتْ عَنْهُ لَا تَكُونُ حُجَّةً مُعَارِضَةً وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ صَاحِبِ الْمِيزَانِ التَّرْجِيحُ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ زِيَادَةُ قُوَّةٍ مَعَ قِيَامِ التَّعَارُضِ ظَاهِرًا. وَعِبَارَةُ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ تَقْوِيَةُ أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ عَلَى الْآخَرِ لِيُعْلَمَ الْأَقْوَى فَيُعْمَلَ بِهِ وَيُطْرَحَ الْآخَرُ وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ اقْتِرَانِ أَحَدِ الصَّالِحَيْنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ مَعَ تَعَارُضِهِمَا بِمَا يَقْوَى عَلَى مُعَارَضَةٍ فَقَوْلُهُ أَحَدِ الصَّالِحَيْنِ احْتِرَازٌ عَمَّا لَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا صَالِحَيْ الدَّلَالَةِ وَقَوْلُهُ مَعَ تَعَارُضِهِمَا احْتِرَازٌ عَنْ الصَّالِحَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا إذْ التَّرْجِيحُ إنَّمَا يَكُونُ مَعَ التَّعَارُضِ لَا مَعَ عَدَمِهِ. قَوْلُهُ: (أَلَا تَرَى أَنَّا جَوَّزْنَا) التَّوْضِيحَ لِمَا ذُكِرَ أَنَّ التَّرْجِيحَ فِي الشَّرْعِ كَالتَّرْجِيحِ فِي اللُّغَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ مَا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ يَكُونُ وَصْفًا لَا أَصْلًا فَإِنَّا قَدْ جَوَّزْنَا فَضْلًا فِي الْوَزْنِ فِي قَضَاءِ الدُّيُونِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلْوَزَّانِ حِينَ اشْتَرَى سَرَاوِيلَ بِدِرْهَمَيْنِ «زِنْ وَأَرْجِحْ فَإِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ هَكَذَا نَزِنُ» وَلَمْ يَجْعَلْهُ أَيْ ذَلِكَ الْفَضْلَ هِبَةً حَتَّى مَنَعَ مِنْ الْجَوَازِ؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الرُّجْحَانُ زِيَادَةُ تَقْوِيَةٍ وَصْفًا بِالْمَوْزُونِ لَا مَقْصُودًا بِسَبَبِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْفَضْلُ أَكْثَرَ مِمَّا يَقَعُ التَّرْجِيحُ كَالدِّرْهَمِ عَلَى الْعَشَرَةِ وَكَانَ مِنْ قَبِيلِ مَا يَقَعُ بِهِ التَّعَارُضُ بِصِفَةِ التَّطْفِيفِ يَعْنِي بِوَزْنٍ قُصِدَ فِي مُقَابَلَةِ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ صِفَةُ التَّطْفِيفِ. صَارَ ذَلِكَ الْفَضْلُ هِبَةً حَتَّى كَانَ بَاطِلًا لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَمَيِّزًا كَهِبَةِ الْمُشَاعِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَقُومُ بِهِ الْمُمَاثَلَةُ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَقْصُودًا بِالْوَزْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ مَقْصُودًا فِي التَّمْلِيكِ بِسَبَبِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا الْهِبَةَ فَإِنَّ قَضَاءَ الْعَشَرَةِ يَكُونُ بِمِثْلِهَا عَشَرَةً فَتَبَيَّنَ أَنَّ بِالرُّجْحَانِ لَا يَفُوتُ أَصْلُ الْمُمَاثَلَةِ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةُ وَصْفٍ بِمَنْزِلَةِ زِيَادَةِ وَصْفِ الْجُودَةِ، وَمَا يَكُونُ مَقْصُودًا بِالْوَزْنِ يَفُوتُ بِهِ الْمُمَاثَلَةُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الرُّجْحَانِ فِي شَيْءٍ. 1 - قَوْلُهُ: (وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ، وَلَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّرْجِيحَ لُغَةً وَشَرِيعَةً إنَّمَا يَقَعُ بِوَصْفٍ هُوَ تَابِعٌ لَا بِمَا هُوَ أَصْلٌ قُلْنَا فِي تَرْجِيحِ الْعِلَلِ: إنَّهُ لَا يَقَعُ بِمَا يَصْلُحُ عِلَّةً بِانْفِرَادِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ تَبَعًا، وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّرْجِيحُ بِوَصْفٍ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً بِانْفِرَادِهِ، وَهُوَ قُوَّةُ الْأَثَرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي التَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ حَدِيثٌ وَاحِدٌ أَوْ قِيَاسٌ وَاحِدٌ، وَفِي الْآخَرِ حَدِيثَانِ أَوْ قِيَاسَانِ فَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ النَّظَرِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَبَعْضِ أَصْحَابِي إلَى أَنَّهُ يَصِحُّ التَّرْجِيحُ بِهَا؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الْوَاحِدَ لَا يُقَاوِمُ إلَّا دَلِيلًا وَاحِدًا مِنْ جِنْسِهِ فَيَتَسَاقَطَانِ بِالتَّعَارُضِ فَيَبْقَى الدَّلِيلُ الْآخَرُ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارَضَةِ فَيَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّرْجِيحِ قُوَّةُ الظَّنِّ الصَّادِرِ عَنْ إحْدَى الْأَمَارَتَيْنِ الْمُتَعَارِضَتَيْنِ، وَقَدْ حَصَلَتْ قُوَّةُ الظَّنِّ فِي الدَّلِيلِ الَّذِي عَارَضَهُ دَلِيلٌ آخَرُ مِثْلُهُ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ فَيَتَرَجَّحُ عَلَى الْآخَرِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِلَّةَ الْمُنْتَزَعَةَ مِنْ أُصُولٍ تَتَرَجَّحُ عَلَى الْمُنْتَزَعَةِ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ لِتَقَوِّيهَا بِكَثْرَةِ أُصُولِهَا بِالْعِلَلِ الْمُنْتَزَعَةِ مِنْ أُصُولٍ، وَكُلُّهَا يَدُلُّ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ تَكُونُ

لِهَذَا قَالُوا: إنَّ الْقِيَاسَ لَا يَتَرَجَّحُ بِقِيَاسٍ آخَرَ وَلَا الْحَدِيثُ بِحَدِيثٍ آخَرَ لَا الْقِيَاسُ بِالنَّصِّ وَلَا نَصُّ الْكِتَابِ بِنَصٍّ آخَرَ، وَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ النَّصُّ بِقُوَّةٍ فِيهِ عَلَى مَا مَرَّ ذِكْرُهُ حَتَّى صَارَ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ أَوْلَى مِنْ الْغَرِيبِ؛ لِأَنَّ الشُّهْرَةَ تُوجِبُ قُوَّةً فِي اتِّصَالِهِ بِالرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ـــــــــــــــــــــــــــــQأَوْلَى بِالتَّرَجُّحِ مِنْ الْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ الْمُنْتَزَعَةِ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ لِتَقَوِّيهَا بِكَثْرَتِهَا فِي أَنْفُسِهَا، وَكَثْرَةِ أُصُولِهَا أَيْضًا. وَذَهَبَ عَامَّةُ الْأُصُولِيِّينَ إلَى أَنَّ التَّرْجِيحَ لَا يَقَعُ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يَتَقَوَّى بِصِفَةٍ تُوجَدُ فِي ذَاتِهِ لَا بِانْضِمَامِ مِثْلِهِ إلَيْهِ كَمَا فِي الْمَحْسُوسَاتِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ لَا قِوَامَ لَهُ بِنَفْسِهِ فَلَا يُوجَدُ إلَّا تَبَعًا لِغَيْرِهِ فَيَتَقَوَّى بِهِ الْمَوْصُوفُ فَأَمَّا الدَّلِيلُ الْمُسْتَبِدُّ بِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ بَلْ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مُعَارِضًا لِلدَّلِيلِ الَّذِي يُوجِبُ الْحُكْمَ عَلَى خِلَافِهِ فَيَتَسَاقَطُ الْكُلُّ بِالتَّعَارُضِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْعِلَّةِ الْمُنْتَزَعَةِ مِنْ أُصُولٍ؛ لِأَنَّهَا بِاعْتِبَارِ شَهَادَةِ الْأُصُولِ بِصِحَّتِهَا تَقَوَّتْ فِي نَفْسِهَا فَتَتَرَجَّحُ عَلَى الْأُخْرَى بِتَقَوِّيهَا فَأَمَّا الْعِلَلُ فَلَا تَتَقَوَّى بِكَثْرَتِهَا، وَلَا بِكَثْرَةِ أُصُولِهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ أَصْلٍ يَشْهَدُ بِصِحَّةِ عِلَّتِهِ الْمُنْتَزَعَةِ مِنْهُ لَا بِصِحَّةِ عِلَّةِ أَصْلِ آخَرَ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ قُوَّةَ الظَّنِّ تَحْصُلُ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ فَإِنَّهُ لَوْ اجْتَمَعَ أَلْفُ قِيَاسٍ وَعَارَضَ تِلْكَ الْأَقْيِسَةَ خَبَرٌ وَاحِدٌ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ كَانَ ذَلِكَ الْخَبَرُ رَاجِحًا كَمَا لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ وَاحِدًا. وَلَوْ كَانَ لِلْكَثْرَةِ أَثَرٌ فِي قُوَّةِ الظَّنِّ لَتَرَجَّحَتْ الْأَقْيِسَةُ الْمُتَكَثِّرَةُ بِتَعَاضُدِهَا عَلَى الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا اتِّفَاقُهُمْ عَلَى عَدَمِ تَرْجِيحِ الشَّهَادَةِ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ فَإِنَّ أَحَدَ الْمُدَّعِيَيْنِ لَوْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ وَالْآخَرُ أَرْبَعَةً لَا يَتَرَجَّحُ شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ عَلَى شَهَادَةِ الِاثْنَيْنِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الِاثْنَيْنِ عِلَّةٌ تَامَّةٌ لِلْحُكْمِ فَلَا تَصْلُحُ مُرَجِّحَةً لِلْحُجَّةِ، وَكَذَا لَوْ أَقَامَ ثَلَاثَةً؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ شَاهِدِ وَاحِد مِنْ جِنْسِ مَا يَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ كَاَلَّذِي يَشْهَدُ بِهِلَالِ رَمَضَانَ وَحْدَهُ، وَفِي السَّمَاءِ غَيْمٌ فَإِنَّ تِلْكَ الشَّهَادَةَ حُجَّةٌ حَتَّى وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي الْأَمْرُ بِالصَّوْمِ فَلَا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ وَلَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا شَاهِدَيْنِ مَسْتُورَيْنِ وَالْآخَرُ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ يَتَرَجَّحُ شَهَادَةُ الْعَدْلَيْنِ لِظُهُورِ مَا يُؤَكِّدُ مَعْنَى الصِّدْقِ فِي شَهَادَتِهِمَا فَثَبَتَ أَنَّ التَّرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَأَنَّ التَّرْجِيحَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِمَا يَزِيدُ قُوَّةً لِمَا جُعِلَ حُجَّةً وَيَصِيرُ وَصْفًا لَهُ. قَوْلُهُ: (وَلِهَذَا) أَيْ؛ وَلِأَنَّ التَّرْجِيحَ لَا يَقَعُ بِمَا يَصْلُحُ دَلِيلًا بِانْفِرَادِهِ قَالُوا إنَّ الْقِيَاسَ لَا يَتَرَجَّحُ بِقِيَاسٍ آخَرَ لِمَا قُلْنَا بَلْ يَتَرَجَّحُ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ فِيهِ يَتَأَكَّدُ مَا هُوَ الرُّكْنُ فِي الْقِيَاسِ وَلَا الْقِيَاسُ بِالنَّصِّ؛ لِأَنَّ النَّصَّ مَتَى شَهِدَ لِصِحَّةِ الْقِيَاسِ صَارَتْ الْعِبْرَةُ لِلنَّصِّ وَسَقَطَ الْقِيَاسُ فِي أَنْ يُضَافَ الْحُكْمُ إلَيْهِ فِي الْمَنْصُوصِ نَفْسِهِ عَلَى مَا مَرَّ أَنَّ تَعْلِيلَ النَّصِّ بِعِلَّةٍ لَا تَتَعَدَّى سَاقِطٌ؛ وَلِأَنَّ النَّصَّ فَوْقَ الْقِيَاسِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَتَرَجَّحُ بِقِيَاسٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ تَبَعًا لَهُ فَبِالنَّصِّ أَوْلَى وَلَا نَصُّ الْكِتَابِ بِنَصٍّ آخَرَ يَعْنِي إذَا وَقَعَتْ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدَهُمَا بِآيَةٍ أُخْرَى بَلْ تَتَرَجَّحُ بِقُوَّةٍ فِي النَّصِّ بِأَنْ يَكُونَ مُفَسَّرًا أَوْ مُحْكَمًا وَاَلَّذِي يُعَارِضُهُ دُونَهُ بِأَنْ كَانَ مُجْمَلًا أَوْ مُؤَوَّلًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ. حَتَّى صَارَ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ أَوْلَى مِنْ الْغَرِيبِ أَيْ مِنْ الْخَبَرِ الَّذِي دُونَهُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ هِيَ الْخَبَرُ الْمَنْقُولُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالِاشْتِهَارُ يُوجِبُ قُوَّةَ ثُبُوتٍ فِي النَّقْلِ الَّذِي بِهِ يُثْبِتُ الْخَبَرَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَيَصِيرُ حُجَّةً وَيَصِيرُ وَصْفًا لِلْخَبَرِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ خَبَرٌ مَشْهُورٌ وَمُتَوَاتِرٌ وَشَاذٌّ وَبِهَذَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا يُقَالُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَرَجَّحَ الْخَبَرُ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ حَتَّى لَوْ كَانَ لِخَبَرٍ رَاوٍ وَاحِدٍ وَلِمُعَارِضِهِ رَاوِيَانِ أَوْ رُوَاةٌ يَتَرَجَّحُ عَلَى الْأَوَّلِ إذْ لَيْسَ فِي الِاشْتِهَارِ إلَّا كَثْرَةُ الرُّوَاةِ، وَقَدْ أَنْكَرَ الشَّيْخُ ذَلِكَ فِي بَابِ الْمُعَارَضَةِ؛ لِأَنَّ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ إذَا لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ التَّوَاتُرِ أَوْ الشُّهْرَةِ لَا يَحْدُثُ وَصْفٌ فِي الْخَبَرِ يَتَقَوَّى بِهِ بَلْ هُوَ فِي خَبَرِ الْآحَادِ كَمَا كَانَ فَأَمَّا إذَا بَلَغَ حَدَّ التَّوَاتُرِ أَوْ الشُّهْرَةِ فَقَدْ

وَكَذَلِكَ إذَا جَرَحَ رَجُلٌ رَجُلًا جِرَاحَةً وَجَرَحَهُ آخَرُ جِرَاحَاتٍ فَمَاتَ مِنْهَا وَذَلِكَ خَطَأٌ أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ نِصْفَيْنِ وَلَا بِتَرْجِيحِ صَاحِبِ الْجِرَاحَاتِ حَتَّى يُجْعَلَ وَحْدَهُ قَاتِلًا؛ لِأَنَّ كُلَّ جِرَاحَةٍ تَصْلُحُ عِلَّةً مُعَارِضَةً فَلَمْ تَصْلُحْ وَصْفًا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ ـــــــــــــــــــــــــــــQحَدَثَ فِيهِ وَصْفٌ تَقَوَّى بِهِ حَيْثُ يُقَالُ خَبَرٌ مَشْهُورٌ، وَمُتَوَاتِرٌ فَيُعْتَبَرُ هَذِهِ الْكَثْرَةُ فِي التَّرْجِيحِ دُونَ الْأُولَى. وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِنَا أَنَّ أَحَدَ النَّصَّيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَرَجَّحُ بِنَصٍّ آخَرَ، وَلَكِنَّهُ يَتَرَجَّحُ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصْفِ لِلنَّصِّ الَّذِي يُوَافِقُهُ وَتَابِعًا لَهُ فَيَصْلُحُ مُرَجِّحًا. وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ لَا يَتَرَجَّحُ بِالْقِيَاسِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا أَصَحَّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يَصْلُحُ حُجَّةً بِنَفْسِهِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ حُجَّةً مَعَ النَّصِّ كَالشَّاهِدِ الثَّالِثِ لَا يَصْلُحُ مُرَجِّحًا لِإِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يَصْلُحُ حُجَّةً بِنَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَكَذَلِكَ أَيْ، وَكَمَا لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ بِدَلِيلٍ آخَرَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَمْثِلَةِ لَا يَتَرَجَّحُ صَاحِبُ الْجِرَاحَاتِ عَلَى صَاحِبِهِ فِيمَا إذَا جَرَحَ رَجُلٌ رَجُلًا جِرَاحَةً يَعْنِي جِرَاحَةً يَقْصِدُ بِهَا الْقَتْلَ وَجَرَحَهُ آخَرُ جِرَاحَاتٍ كَذَلِكَ أَيْضًا حَتَّى لَوْ خَدَشَ أَحَدُهُمَا وَجَرَحَ الْآخَرُ فَالضَّمَانُ إنْ كَانَ خَطَأً وَالْقِصَاصُ إنْ كَانَ عَمْدًا عَلَى الْجَارِحِ دُونَ الْخَادِشِ. فَمَاتَ مِنْهَا أَيْ مِنْ جَمِيعِ الْجِرَاحَاتِ بِأَنْ مَاتَ، وَلَمْ تَنْدَمِلْ وَاحِدَةٌ مِنْهَا حَتَّى لَوْ جَرَحَهُ أَحَدُهُمَا وَانْدَمَلَ ثُمَّ جَرَحَهُ الْآخَرُ أَوْ انْدَمَلَ جُرْحُ أَحَدِهِمَا بَعْدَمَا جَرَحَاهُ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ انْدِمَالِ جُرْحِ الْآخَرِ كَانَ الدِّيَةُ أَوْ الْقِصَاصُ عَلَى مَنْ لَمْ يَنْدَمِلْ جُرْحُهُ دُونَ الْآخَرِ وَذَلِكَ خَطَأٌ إنَّمَا قَيَّدَ بِهِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَمْدًا لَا يَتَرَجَّحُ صَاحِبُ الْجِرَاحَاتِ عَلَى الْآخَرِ بَلْ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا أَيْضًا لِيُبَيِّنَ أَنَّ صَاحِبَ الْجِرَاحَاتِ، وَإِنْ لَمْ يَتَرَجَّحْ يُسَاوِي صَاحِبَ الْجِرَاحَةِ الْوَاحِدَةِ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ، وَلَا يُعْتَبَرُ عَدَدُ الْجِرَاحَاتِ مَعَ إمْكَانِ اعْتِبَارِهِ بِقِسْمَةِ الدِّيَةِ عَلَيْهِ وَبَيَانُهُ أَنَّهُ لَوْ جَرَحَ أَحَدُهُمَا جِرَاحَةً وَاحِدَةً وَالْآخَرُ تِسْعَ جِرَاحَاتٍ فَلَوْ قِيلَ بِالتَّرْجِيحِ لَكَانَ الدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ وَالْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ عَلَى صَاحِبِ التِّسْعِ دُونَ الْآخَرِ، وَلَمَّا سَقَطَ التَّرْجِيحُ كَانَ اعْتِبَارُ عَدَدِ الْجِرَاحَاتِ مُمْكِنًا فِي الْخَطَأِ بِقِسْمَةِ الدِّيَةِ عَلَيْهِ، وَإِيجَابِ عُشْرِهَا عَلَى صَاحِبِ الْجِرَاحَةِ الْوَاحِدَةِ وَتِسْعَةُ أَعْشَارِهَا عَلَى الْآخَرِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُعْتَبَرْ بَلْ اُعْتُبِرَ عَدَدُ الْجَانِي لَا عَدَدُ الْجِنَايَاتِ وَفِي الْعَمْدِ بَعْدَ سُقُوطِ التَّرْجِيحِ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ عَدَدِ الْجِنَايَاتِ بِعَدَمِ تَجَزُّؤِ الْقِصَاصِ فَوَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْخَطَأِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ بَعْدَ سُقُوطِ التَّرْجِيحِ الْمَصِيرُ إلَى عَدَدِ الْجَانِي لَا إلَى عَدَدِ الْجِنَايَاتِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى عَدَدِ الْجَانِي دُونَ عَدَدِ الْجِنَايَاتِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَمُوتُ مِنْ جِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدْ لَا يَمُوتُ مِنْ جِرَاحَاتٍ كَثِيرَةٍ فَلَا يُعْتَبَرُ الْعَدَدُ فِي الْجِرَاحَاتِ وَيُعْتَبَرُ الْجِرَاحَاتُ الْحَاصِلَةُ مِنْ الْوَاحِدِ بِمَنْزِلَةِ جِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ صَاحِبُ الْجِرَاحَاتِ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ انْفَرَدَ صَاحِبُ الْجِرَاحَةِ الْوَاحِدَةِ كَانَ عَلَيْهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عَدَدُ الْجَانِي لَا عَدَدُ الْجِنَايَاتِ حَتَّى يُجْعَلَ وَحْدَهُ قَاتَلَا إنَّمَا ذَكَرَ هَذَا لِيُعْلَمَ أَنَّ التَّرْجِيحَ فِي جَعْلِهِ قَاتِلًا وَحْدَهُ، وَإِهْدَارِ جِنَايَةِ الْآخَرِ لَا فِي اعْتِبَارِ عَدَدِ جِنَايَاتِهِ مَعَ اعْتِبَارِ جِنَايَةِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ جِرَاحَةٍ يَعْنِي مِنْ جِرَاحَاتِ صَاحِبِ الْجِنَايَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ يَصْلُحُ مُعَارَضَةً لِجِرَاحَةِ صَاحِبِ الْوَاحِدَةِ فَلَمْ تَصْلُحْ وَصْفًا لِجِنَايَةٍ أُخْرَى فَلَا يَقَعُ بِهَا التَّرْجِيحُ، وَلَوْ قَطَعَ أَحَدُهُمَا يَدَهُ ثُمَّ جَزَّ الْآخَرُ رَقَبَتَهُ فَالْقَاتِلُ هُوَ الَّذِي جَزَّ رَقَبَتَهُ دُونَ الْآخَرِ صَاحَبَ بِزِيَادَةِ قُوَّةٍ فِيمَا هُوَ عِلَّةُ النَّقْلِ مِنْ فِعْلِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُتَوَهَّمُ بَقَاؤُهُ

وَكَذَلِكَ قُلْنَا نَحْنُ فِي الشَّفِيعَيْنِ فِي الشِّقْصِ الشَّائِعِ الْمَبِيعِ بِسَهْمَيْنِ مُتَفَاوِتَيْنِ إنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي اسْتِحْقَاقِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ السَّهْمِ عِلَّةٌ صَالِحَةٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْجُمْلَةِ فَقَامَتْ الْمُعَارَضَةُ بِكُلِّ جُزْءٍ، وَإِنْ قَلَّ فَلَمْ يَصْلُحْ شَيْءٌ مِنْهُ وَصْفًا لِغَيْرِهِ فَقَدْ وَافَقَنَا الشَّافِعِيُّ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرَجِّحْ صَاحِبَ الْكَثِيرِ أَيْضًا لَكِنَّهُ جَعَلَ الشُّفْعَةَ مِنْ مَرَافِقِ الْمِلْكِ كَالثَّمَرِ وَالْوَلَدِ فَجَعَلَهُ مُنْقَسِمًا عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ، وَكَانَ هَذَا مِنْهُ غَلَطًا بِأَنْ جَعَلَ حُكْمَ الْعِلَّةِ مُتَوَلِّدًا مِنْ الْعِلَّةِ، وَمُنْقَسِمًا عَلَى أَجْزَائِهَا، وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ فِي ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا زَوْجُ الْمَرْأَةِ أَنَّ التَّعْصِيبَ لَا يَتَرَجَّحُ بِالزَّوْجِيَّةِ بَلْ يُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ عِلَّةً بِانْفِرَادِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQحَيًّا بَعْدَ فِعْلِهِ بِخِلَافِ الْآخَرِ. قَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ قُلْنَا) أَيْ، وَكَمَا قُلْنَا بِمُسَاوَاةِ صَاحِبِ الْجِرَاحَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ صَاحِبَ الْجِرَاحَةِ الْوَاحِدَةِ قُلْنَا بِمُسَاوَاةِ صَاحِبِ الْقَلِيلِ صَاحِبَ الْكَثِيرِ فِي اسْتِحْقَاقِ الشِّقْصِ الشَّائِعِ الْمَبِيعِ فِي الشُّفْعَةِ، وَالشِّقْصُ الْجُزْءُ مِنْ الشَّيْءِ وَالنَّصِيبُ، وَإِنَّمَا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الشِّقْصِ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْجَوَازِ عِنْدَنَا كَذَلِكَ حَتَّى مَنْ كَانَ جَوَازُهُ مِنْ جَانِبَيْنِ لَا يَتَرَجَّحُ عَلَى مَنْ كَانَ جَوَازُهُ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ لِيُمْكِنَهُ بَيَانُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِهِ، وَقَدْ وَافَقَنَا الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا. وَصُورَتُهُ دَارٌ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ لِأَحَدِهِمْ نِصْفُهَا وَلِلْآخِرِ ثُلُثُهَا وَلِلثَّالِثِ سُدُسُهَا فَبَاعَ صَاحِبُ النِّصْفِ نَصِيبَهُ وَطَلَبَ الْآخَرَانِ الشُّفْعَةَ لَمْ يَتَرَجَّحْ صَاحِبُ الثُّلُثِ عَلَى الْآخَرِ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ حَتَّى لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَ الْمَبِيعِ بِالِاتِّفَاقِ لَكِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَيُقْضَى بِالشِّقْصِ الْمَبِيعِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا بِقَدْرِ مِلْكِهِمَا، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ صَاحِبَ الثُّلُثِ قَضَى بِهِ بَيْنَ الْبَاقِيَيْنِ أَرْبَاعًا، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ السُّدُسِ قَضَى بِهِ بَيْنَ الْآخَرِينَ أَخْمَاسًا، وَعِنْدَنَا يَقْضِي بِالْمَبِيعِ بَيْنَ الْبَاقِينَ أَنْصَافًا بِكُلِّ حَالٍ. وَقَوْلُهُ: لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ إلَى آخِرِهِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَفْهُومِ مِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ لَا عَلَى الْمَلْفُوظِ، وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ يَعْنِي قُلْنَا إنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الشِّقْصِ، وَلَا رُجْحَانَ لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ عَلَى صَاحِبِ الْقَلِيلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ السَّهْمِ يَعْنِي السَّهْمَ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِ الْأَكْثَرِ عِلَّةٌ تَامَّةٌ لِاسْتِحْقَاقِ جُمْلَةِ الْمَبِيعِ بِالشُّفْعَةِ فَقَامَتْ الْمُعَارَضَةُ لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ مَعَ صَاحِبِ الْقَلِيلِ بِكُلِّ جُزْءٍ مِمَّا فِي يَدِهِ، وَإِنْ قَلَّ، فَلَمْ يَصْلُحْ شَيْءٌ مِنْ السَّهْمِ الَّذِي فِي يَدِهِ وَصْفًا لِغَيْرِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَهُوَ بَاقِي السَّهْمِ فَلَا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ إذْ لَمْ يُوجَدْ فِي جَانِبِ صَاحِبِ الْكَثِيرِ إلَّا كَثْرَةُ الْعِلَّةِ، وَهِيَ غَيْرُ صَالِحَةٍ لِلتَّرْجِيحِ. وَقَوْلُهُ: قَدْ وَافَقَنَا الشَّافِعِيُّ عَلَى هَذَا إشَارَةٌ إلَى الْمَفْهُومِ أَيْضًا أَيْ وَافَقَنَا عَلَى عَدَمِ التَّرْجِيحِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ بِاسْتِحْقَاقِ صَاحِبِ الْكَثِيرِ كُلَّ الْمَبِيعِ أَيْضًا، وَلَوْ رَجَّحَ صَاحِبَ الْكَثِيرِ لَحَكَمَ بِاسْتِحْقَاقِهِ الْجَمِيعَ وَبِحِرْمَانِ صَاحِبِهِ، لَكِنَّهُ جَعَلَ حَقَّ الشُّفْعَةِ مِنْ مَرَافِقِ الْمِلْكِ أَيْ مِنْ مَنَافِعِهِ وَثَمَرَاتِهِ كَالثَّمَرِ وَالْوَلَدِ الْمُتَوَلِّدَيْنِ مِنْ الْأَشْجَارِ وَالْحَيَوَانَاتِ الْمُشْتَرَكَةِ فَجَعَلَهُ أَيْ حَقَّ الشُّفْعَةِ مُنْقَسِمًا عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ، وَكَانَ هَذَا أَيْ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ غَلَطًا بِأَنْ جَعَلَ حُكْمَ الْعِلَّةِ، وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ مُتَوَلِّدًا مِنْ الْعِلَّةِ، وَهِيَ مِلْكُ الشَّفِيعِ مَا يَشْفَعُ بِهِ، وَمُنْقَسِمًا عَلَى أَجْزَائِهَا وَكِلَاهُمَا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ بِالْعِلَّةِ لَا بِطَرِيقِ التَّوَلُّدِ بَلْ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ مُقَارِنًا لِلْعِلَّةِ، وَكَذَا الْحُكْمُ لَا يَنْقَسِمُ عَلَى أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ لِاسْتِلْزَامِهِ صَيْرُورَةَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْعِلَّةِ عِلَّةً لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْحُكْمِ وَالشَّرْعُ جَعَلَ جَمِيعَهَا عِلَّةً لِجَمِيعِ الْحُكْمِ لَا غَيْرُ فَالْقَوْلُ بِالِانْقِسَامِ كَانَ نَصَبًا لِلشَّرْعِ بِالرَّأْيِ وَذَلِكَ فَاسِدٌ بَلْ الشَّفِيعُ يَأْخُذُ الْمَبِيعَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مِلْكَهُ الْقَدِيمَ جَعَلَهُ أَحَقَّ مِنْ الدَّخِيلِ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَأْخُوذَ صَارَ حَقًّا لِمِلْكِهِ شَرْعًا، وَإِذَا لَمْ يَصِرْ الْمَأْخُوذُ مِنْ مَرَافِقِ مِلْكِهِ لَمْ يَتَوَزَّعْ عَلَيْهِ وَلَئِنْ كَانَ مُرْفَقًا فَهُوَ مُرْفَقٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَصْلَ عِلَّةٌ وَثُبُوتُ حَقِّ التَّمَلُّكِ لِلْمَبِيعِ حُكْمٌ لَهُ ثُمَّ الْمِلْكُ يَثْبُتُ لَهُ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي يُعْطِيهِ فَكَانَ مُرْفَقًا مِنْ حُكْمِ الْعِلَّةِ لَا مِنْ الْعِلَّةِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ زِيَادَةُ الْعِلَّةِ بِخِلَافِ الثَّمَرَةِ؛ لِأَنَّهَا تَتَوَلَّدُ مِنْ الشَّجَرِ فَثُلُثُ الشَّجَرِ لَا يُولَدُ إلَّا ثُلُثُ الثَّمَرَةِ، وَالْغَلَّةُ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ فَثُلُثُ الْمَنْفَعَةِ لَا يَكُونُ لَهُ إلَّا ثُلُثُ الْبَدَلِ. قَوْلُهُ: (وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ فِي ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا زَوْجُ الْمَرْأَةِ)

وَقَالَ عَامَّةُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ إنَّ السُّدُسَ لَهُ بِالْأُخُوَّةِ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا بِالتَّعْصِيبِ خِلَافًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَمْ يَجْعَلُوا الْأُخُوَّةَ مُرَجِّحَةً لَمَّا كَانَتْ عِلَّةً بِانْفِرَادِهَا لَا يَصْلُحُ وَصْفًا؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ مِنْ الْعُمُومَةِ بِخِلَافِ الْأُخُوَّةِ لِأُمٍّ فَإِنَّهَا جُعِلَتْ وَصْفًا لِلْأُخُوَّةِ لِأَبٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجِهَةَ تَابِعَةٌ، وَالْمَنْزِلُ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا يَجِبُ طَلَبُ الرُّجْحَانِ مِنْ قِبَلِ الْأَوْصَافِ مِثْلُ الْعَدَالَةِ فِي الشَّاهِدِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا. ـــــــــــــــــــــــــــــQيَعْنِي مَاتَتْ امْرَأَةٌ وَتَرَكَتْ ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا زَوْجُهَا وَصُورَتُهُ ظَاهِرَةٌ أَنَّ التَّعْصِيبَ الَّذِي فِي الزَّوْجِ لَا يَتَرَجَّحُ بِالزَّوْجِيَّةِ بَلْ يُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ التَّعْصِيبِ وَالزَّوْجِيَّةِ عِلَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ بِانْفِرَادِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَا فِي شَخْصَيْنِ فَيَسْتَحِقُّ النِّصْفَ بِالزَّوْجِيَّةِ، وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا بِالتَّعْصِيبِ وَتَصِحُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ ثَلَاثَةٌ لِلزَّوْجِ وَسَهْمٌ لِلْآخَرِ وَقَالَ عَامَّةُ الصَّحَابَةِ فِي ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ. وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَخَوَانِ زَيْدٌ وَعَمْرٌو وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ابْنٌ فَمَاتَ زَيْدٌ وَتَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ الَّتِي هِيَ أُمُّ ابْنِهِ عَمْرٍو فَوَلَدَتْ لَهُ ابْنًا فَهَذَا الِابْنُ الَّذِي كَانَ لِعَمْرٍو مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ ابْنَا عَمٍّ لِابْنِ زَيْدٍ أَحَدُهُمَا أَخُوهُ لِأُمٍّ، وَمَاتَ هَذَا الِابْنُ وَتَرَكَ ابْنَيْ عَمِّهِ هَذَيْنِ لَا غَيْرَ كَانَ لِلَّذِي هُوَ أَخُوهُ لِأُمٍّ السُّدُسُ بِالْفَرْضِيَّةِ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا بِالْعُصُوبَةِ وَيَصِحُّ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا سَبْعَةُ أَسْهُمٍ لِلْأَخِ وَخَمْسَةٌ لِلْآخَرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَزَيْدٍ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمَالُ كُلُّهُ لِابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ لِلْمَيِّتِ عَصَبَتَانِ اسْتَوَيَا فِي قَرَابَةِ الْأَبِ وَتَفَرَّدَتْ إحْدَاهُمَا بِقَرَابَةِ الْأُمِّ فَتَتَرَجَّحُ عَلَى الْأُخْرَى كَأَخَوَيْنِ لِأَبٍ أَحَدُهُمَا لِأُمٍّ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ تَتَرَجَّحُ بِزِيَادَةٍ مِنْ جِنْسِهَا إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ لَا تَصْلُحُ عِلَّةً بِنَفْسِهَا لَوْ انْفَرَدَتْ كَمَا بَيَّنَّا وَالزِّيَادَةُ هَاهُنَا، وَهِيَ الْأُخُوَّةُ لِأُمٍّ مِنْ جِنْسِ الْعُمُومَةِ؛ لِأَنَّهَا قَرَابَةٌ كَالْعُمُومَةِ، وَلَوْ انْفَرَدَتْ لَمْ يَصْلُحْ عِلَّةً لِلتَّعْصِيبِ فَتَصْلُحُ مُرَجِّحَةً لِقَرَابَةِ الْعُصُوبَةِ كَمَا فِي الْأَخَوَيْنِ لِأَبٍ أَحَدُهُمَا لِأُمٍّ. بِخِلَافِ ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا زَوْجٌ حَيْثُ لَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا بِالزَّوْجِيَّةِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْقَرَابَةِ، وَالْعِلَّةُ إنَّمَا تَتَرَجَّحُ بِالزِّيَادَةِ مِنْ جِنْسِهَا لَا مِنْ خِلَافِ جِنْسِهَا. وَجْهُ قَوْلِ الْعَامَّةِ إنَّهُ اجْتَمَعَ فِي ابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ سَبَبَانِ لِلْمِيرَاثِ الْأُخُوَّةُ وَالْعُمُومَةُ فَيَسْتَحِقُّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا يَصِيرُ أَحَدُهُمَا تَبَعًا لِلْآخَرِ كَمَا لَوْ وُجِدَا فِي شَخْصَيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّرْجِيحَ إنَّمَا يَقَعُ بِمَا لَمْ يَصْلُحْ عِلَّةً بِانْفِرَادِهِ فَأَمَّا مَا يَصْلُحُ عِلَّةً بِانْفِرَادِهِ فَلَا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْجِرَاحَاتِ وَالشَّهَادَاتِ. وَهَاهُنَا الْأُخُوَّةُ بِانْفِرَادِهَا عِلَّةٌ صَالِحَةٌ لِلِاسْتِحْقَاقِ، وَلَا تَصْلُحُ وَصْفًا لِلْعُمُومَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْعُمُومَةِ، وَهِيَ أَقْرَبُ مِنْ الْعُمُومَةِ فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعَمِّ وَابْنِ الْعَمِّ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ الْأَخِ فَلَا تَصْلُحُ مُرَجِّحَةً لِلْعُمُومَةِ بَلْ تُعْتَبَرُ عِلَّةً بِانْفِرَادِهَا كَالزَّوْجِيَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِخِلَافِ الْأَخَوَيْنِ لِأَبٍ أَحَدُهُمَا لِأُمٍّ حَيْثُ يُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا بِقَرَابَةِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْأُخُوَّةُ وَالْأُخُوَّةُ لِأُمٍّ فِي مَعْنَى زِيَادَةِ وَصْفٍ فِي الْأُخُوَّةِ لِأَبٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَخَ لِأَبٍ وَأُمٍّ لَوْ انْفَرَدَ لَمْ يَكُنْ قَرَابَةُ الْأُمِّ فِيهِ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقٍ حَتَّى لَمْ يَسْتَحِقَّ بِالْفَرْضِيَّةِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِالْعُصُوبَةِ لَا غَيْرُ، وَإِذَا لَمْ يَصْلُحْ عِلَّةً وَالْمَنْزِلُ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْأُخُوَّةُ صَلَحَتْ مُرَجِّحَةً، وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الْأَخَوَانِ لِأُمٍّ أَحَدُهُمَا لِأَبٍ حَيْثُ لَا يَتَرَجَّحُ الْأَخُ الَّذِي لِأَبٍ وَأُمٍّ عَلَى الْأَخِ الَّذِي لِأُمٍّ بَلْ يَرِثُ الَّذِي لِأُمٍّ مَا يُفْرَضُ وَالْآخَرُ بِالْعُصُوبَةِ مَعَ أَنَّ الْمَنْزِلَ وَاحِدٌ، وَهُوَ قَرَابَةُ الْأُخُوَّةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ امْتَنَعَ لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ قَرَابَةَ الْأَبِ أَقْوَى مِنْ قَرَابَةِ الْأُمِّ فَلَا تَصْلُحُ تَبَعًا لِقَرَابَةِ الْأُمِّ بِوَجْهٍ. وَالثَّانِي أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَخِ بِالْفَرْضِ وَاسْتِحْقَاقَ الْآخَرِ بِالْعُصُوبَةِ فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُزَاحَمَةٌ لِاخْتِلَافِ الْحُكْمِ فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى التَّرْجِيحِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ أَيْ مَجْرَى الْمَذْكُورِ، وَهُوَ

[القسم الثاني الترجيح بقوة الأثر]

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ. التَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ، وَالتَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ ثَبَاتِهِ عَلَى الْحُكْمِ الْمَشْهُودِ بِهِ، وَالتَّرْجِيحُ بِكَثْرَةِ أُصُولِهِ، وَالتَّرْجِيحُ بِالْعَدَمِ عِنْدَ عَدَمِهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْأَثَرَ مَعْنَى حُجَّةٍ فَمَهْمَا قَوِيَ كَانَ أَوْلَى لِفَضْلِ وَصْفٍ فِي الْحُجَّةِ عَلَى مِثَالِ الِاسْتِحْسَانِ فِي مُعَارَضَةِ الْقِيَاسِ هُوَ كَالْخَبَرِ لَمَّا صَارَ حُجَّةً بِالِاتِّصَالِ ازْدَادَ قُوَّةً بِمَا يَزِيدُهُ قُوَّةً فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى بِضَبْطِ الرَّاوِي، وَإِتْقَانِهِ وَسَلَامَتِهِ عَنْ الِانْقِطَاعِ عَلَى مَا مَرَّ ذِكْرُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَضْلُ عَدَالَةِ بَعْضِ الشُّهُودِ عَلَى عَدَالَةِ بَعْضٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِذِي حَدٍّ وَلَا مُتَنَوِّعٍ بَلْ هُوَ التَّقْوَى وَلَا وُقُوفَ عَلَى حُدُودِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعَدَالَةِ مِثْلُ فِقْهِ الرَّاوِي وَحُسْنِ ضَبْطِهِ، وَإِتْقَانِهِ وَمِثْلُ التَّأْثِيرِ فِي الْقِيَاسِ. [الْقِسْمُ الثَّانِي التَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ] (قَوْلُهُ: وَأَمَّا الثَّانِي) ، وَهُوَ الْوُجُوهُ الَّتِي بِهَا يَقَعُ التَّرْجِيحُ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ فَأَرْبَعَةٌ أَحَدُهَا التَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ يَعْنِي إذَا كَانَ الْقِيَاسَيْنِ الْمُؤَثِّرَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ أَقْوَى تَأْثِيرًا مِنْ الْآخَرِ كَانَ رَاجِحًا عَلَيْهِ وَسَقَطَ الْعَمَلُ بِهِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مُؤَثِّرًا فَلَا يَكُونُ حُجَّةً فَلَا يَتَأَتَّى التَّرْجِيحُ. وَالثَّانِي بِقُوَّةِ ثَبَاتِهِ أَيْ ثَبَاتِ الْوَصْفِ الْمُؤَثِّرِ عَلَى الْحُكْمِ الْمَشْهُودِ بِهِ وَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَكُونَ وَصْفُ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ أَلْزَمَ لِلْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ مِنْ وَصْفِ الْقِيَاسِ الْآخَرِ لِحُكْمِهِ وَالثَّالِثُ بِكَثْرَةِ أُصُولِهِ أَيْ أُصُولِ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ أَوْ أُصُولِ الْوَصْفِ وَالرَّابِعُ التَّرْجِيحُ بِالْعَدَمِ أَيْ عَدَمِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِهِ أَيْ عَدَمِ الْوَصْفِ، وَهُوَ الْعَكْسُ الَّذِي مَرَّ بَيَانُهُ. أَمَّا الْأَوَّلُ أَيْ صِحَّةُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ؛ فَلِأَنَّ الْأَثَرَ مَعْنَى الْحُجَّةِ يَعْنِي الْمَعْنَى الَّذِي صَارَ الْوَصْفُ بِهِ حُجَّةً هُوَ الْأَثَرُ فَمَهْمَا قَوِيَ أَيْ كَانَ أَقْوَى كَانَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ أَوْلَى لِفَضْلِ وَصْفٍ فِي الْحُجَّةِ أَيْ لِزِيَادَةِ أَثَرٍ، وَكَانَ فِي الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ عَلَى مِثَالِ الِاسْتِحْسَانِ فِي مُعَارَضَةِ الْقِيَاسِ فَإِنَّ الْقِيَاسَ، وَإِنْ كَانَ مُؤَثِّرًا تَرَجَّحَ عَلَيْهِ الِاسْتِحْسَانُ لِزِيَادَةِ قُوَّةٍ فِيهِ، وَكَذَا عَكْسُهُ وَهُوَ أَيْ الْقِيَاسُ فِي تَرَجُّحِهِ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ مِثْلُ الْخَبَرِ فِي تَرَجُّحِهِ بِقُوَّةِ الِاتِّصَالِ، أَوْ تَرْجِيحُ الْقِيَاسِ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ مِثْلُ تَرْجِيحِ الْخَبَرِ فَإِنَّهُ لَمَّا صَارَ حُجَّةً بِالِاتِّصَالِ بِالرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ازْدَادَ الْخَبَرُ قُوَّةً بِمَا يَزِيدُ قُوَّةً فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَهُوَ الِاتِّصَالُ بِضَبْطِ الرَّاوِي الْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِيَزِيدَ، وَسَلَامَتُهُ أَيْ سَلَامَةُ الْخَبَرِ عَنْ الِانْقِطَاعِ بِاتِّصَالِ الْإِسْنَادِ عَلَى مَا مَرَّ ذِكْرُهُ فِي بَيَانِ أَقْسَامِ السُّنَّةِ. قَوْلُهُ: (وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَضْلُ عَدَالَةِ بَعْضِ الشُّهُودِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّ الشَّهَادَةَ صَارَتْ حُجَّةً بِالْعَدَالَةِ كَمَا صَارَ الْوَصْفُ حُجَّةً بِالْأَثَرِ وَالْخَبَرِ بِالِاتِّصَالِ ثُمَّ الشَّهَادَةُ لَا تَتَرَجَّحُ بِقُوَّةِ الْعَدَالَةِ عِنْدَ التَّعَارُضِ حَتَّى لَوْ وُجِدَ أَصْلُ الْعَدَالَةِ فِي الْجَانِبَيْنِ تَحَقَّقَ التَّعَارُضُ، وَإِنْ كَانَتْ الْعَدَالَةُ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ أَقْوَى مِنْهَا فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ فَكَذَا الْقِيَاسَانِ بَعْدَمَا ظَهَرَ تَأْثِيرُهُمَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا بِقُوَّةِ الْأَثَرِ فَقَالَ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَيْ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قُوَّةِ الْأَثَرِ الِاتِّصَالُ فَضْلُ عَدَالَةِ بَعْضِ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّهُ أَيْ الْفَضْلَ أَوْ الْعَدَالَةَ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ بِذِي حَدٍّ لِيُمْكِنَ مَعْرِفَةُ تَرَجُّحِ الْبَعْضِ بِزِيَادَةِ قُوَّةٍ فِيهِ عِنْدَ الرُّجُوعِ إلَى حَدِّهِ، وَلَا مُتَنَوِّعٍ أَيْ لَيْسَ بِذِي أَنْوَاعٍ مُتَفَاوِتَةٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ لِيَظْهَرَ لِبَعْضِهَا قُوَّةٌ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْبَعْضِ بَلْ هُوَ أَيْ الْعَدَالَةُ هِيَ التَّقْوَى وَالِانْزِجَارُ عَنْ ارْتِكَابِ مَا يَعْقِدُ الْحُرْمَةَ فِيهِ، وَلَا تَفَاوُتَ فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَكَذَا الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ مُتَعَذِّرٌ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بَاطِنٌ فَرُبَّمَا كَانَ الَّذِي يَظُنُّ أَنَّهُ أَعْدَلُ أَدْنَى دَرَجَةً فِي التَّقْوَى مِنْ الَّذِي يَظُنُّ أَنَّهُ دُونَهُ فِيهَا بِخِلَافِ تَأْثِيرِ الْعِلَّةِ فَإِنَّ قُوَّةَ الْأَثَرِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ تَظْهَرُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ إنْكَارُهُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْعِلَّةِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِأَدِلَّةٍ مَعْلُومَةٍ مُتَفَاوِتَةِ الْأَثَرِ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهَا عَلَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الشَّهَادَةَ صَارَتْ حُجَّةً بِالْعَدَالَةِ بَلْ بِالْوِلَايَةِ الثَّابِتَةِ بِالْحُرِّيَّةِ. وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ سَوَاءٌ فِي أَصْلِ الْوِلَايَةِ الثَّابِتَةِ بِأَصْلِ الْحُرِّيَّةِ، وَإِنَّمَا شُرِطَتْ الْعَدَالَةُ لِظُهُورِ جَانِبِ الصِّدْقِ فَإِذَا ظَهَرَ الصِّدْقُ بِأَصْلِ الْعَدَالَةِ وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي الْقَضَاءُ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى زِيَادَةِ قُوَّةٍ فِي الْعَدَالَةِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَأَمَّا الْقِيَاسُ فَمَا صَارَ حُجَّةً

مِثَالُهُ مَا قُلْنَا فِي طَوْلِ الْحُرَّةِ إنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْحُرَّ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَمْنَعُ؛ لِأَنَّهُ يَرِقُّ مَاءَهُ عَلَى غُنْيَةً وَذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى كُلِّ حُرٍّ كَاَلَّذِي تَحْتَهُ حُرَّةٌ، وَهَذَا وَصْفٌ بَيِّنُ الْأَثَرِ. وَقُلْت: إنَّهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ نِكَاحٌ يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ إذَا دَفَعَ إلَيْهِ مَهْرًا يَصْلُحُ لِلْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ جَمِيعًا، وَقَالَ تَزَوَّجْ مَنْ شِئْت فَيَمْلِكُهُ الْحُرُّ كَسَائِرِ الْأَنْكِحَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَّا بِالتَّأْثِيرِ، وَالتَّفَاوُتُ فِيهِ ثَابِتٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا. مِثَالُهُ أَيْ مِثَالُ التَّرْجِيحِ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ مَا قُلْنَا فِي طَوْلِ الْحُرَّةِ أَيْ الْغَنَاءِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى تَزَوُّجِ الْحُرَّةِ وَفِي الْمُغْرِبِ الطَّوْلُ الْفَضْلُ يُقَالُ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ طَوْلٌ أَيْ زِيَادَةٌ، وَفَضْلٌ وَعَنْ الشَّعْبِيِّ إذَا وُجِدَ الطَّوْلُ إلَى الْحُرَّةِ بَطَلَ نِكَاحُ الْأَمَةِ فَعَدَّاهُ بِإِلَى. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ طَوْلُ الْحُرَّةِ فَمُتَّسِعٌ فِيهِ، أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ الْحُرُّ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ مَالِكًا لِمَهْرِ الْحُرَّةِ فَتَزَوَّجَ أَمَةً جَازَ عِنْدَنَا، وَقُيِّدَ بِالْحُرِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْنَعُ الْعَبْدُ بِالِاتِّفَاقِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُمْنَعُ يَعْنِي لَمْ يَجُزْ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ مَعَ طَوْلِ الْحُرَّةِ الْمُؤْمِنَةِ أَوْ الْكِتَابِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَرِقُّ مَاءَهُ بِنِكَاحِ الْأَمَةِ إذْ الْوَلَدُ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ عَلَى غُنْيَةً أَيْ حَالِ كَوْنِهِ مُسْتَغْنِيًا عَنْ إرْقَاقِ جُزْئِهِ بِقُدْرَتِهِ عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ، وَذَلِكَ أَيْ اسْتِرْقَاقُ الْجُزْءِ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ حَرَامٌ عَلَى كُلِّ حُرٍّ؛ لِأَنَّهُ كَالْإِهْلَاكِ حُكْمًا إذْ الرِّقُّ فِي الْأَصْلِ عُقُوبَةُ الْكُفْرِ الَّذِي مُوجِبُهُ الْقَتْلُ وَلِهَذَا كَانَ لِلْإِمَامِ الْخِيَارُ فِي الْكَافِرِ الْمَغْنُومِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْإِرْقَاقِ؛ وَلِأَنَّهُ اسْتِدْلَالُ الْجُزْءِ، وَكَانَ حَرَامًا إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَهِيَ خَوْفُ الْوُقُوعِ فِي الزِّنَا الْمُشَارِ إلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25] . وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ اقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ فِي الْأَصْلِ النِّكَاحُ لَا غَيْرُ وَهَذِهِ الشَّهْوَةُ مُرَكَّبَةٌ فِي الطِّبَاعِ فَمَتَى اشْتَهَى، وَهُوَ عَاجِزٌ لَمْ يُؤْمَنْ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الزِّنَا فَأُبِيحَ لَهُ حَالَ الْعَدَمِ نِكَاحُ الْأَمَةِ لِدَفْعِ الضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِإِصَابَةِ الطَّوْلِ فَيَرْتَفِعُ الْإِبَاحَةُ كَحِلِّ الْمَيْتَةِ وَفِي قَوْلِهِ عَلَى حُرٍّ احْتِرَازٌ عَنْ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ إرْقَاقُ جُزْئِهِ بِنِكَاحِ الْأَمَةِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ؛ لِأَنَّهُ رَقِيقٌ حَقِيقَةً فَلَا يَكُونُ فِي نِكَاحِهِ لِلْأَمَةِ إرْقَاقَ جُزْئِهِ الْحُرِّ بَلْ كَانَ امْتِنَاعًا مِنْ تَحْصِيلِ صِفَةِ الْحُرِّيَّةِ لِلْجُزْءِ وَذَلِكَ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ. وَهَذَا وَصْفٌ بَيِّنُ الْأَثَرِ، وَهُوَ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِرْقَاقَ كَالْإِهْلَاكِ إلَى آخِرِهِ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَا إذَا تَزَوَّجَ حُرَّةً عَلَى أَمَةٍ حَيْثُ يَبْقَى نِكَاحُ الْأَمَةِ صَحِيحًا مَعَ أَنَّ فِيهِ إرْقَاقَ الْوَلَدِ أَيْضًا مَعَ الْغُنْيَةِ؛ لِأَنَّا أَقَمْنَا السَّبَبَ، وَهُوَ الْعَقْدُ مَقَامَ حَقِيقَةِ الْإِرْقَاقِ فِي الْحُرْمَةِ بِلَا ضَرُورَةٍ فَيَكُونُ إذًا لِلْبَقَاءِ عَلَى السَّبَبِ حُكْمُ الْبَقَاءِ عَلَى رِقٍّ ثَبَتَ وَالْإِرْقَاقُ ابْتِدَاءً حَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ عُقُوبَةُ الْكُفْرِ لَا الْبَقَاءِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَبْقَى بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَالتَّوْبَةِ، وَلَا يَلْزَمُ أَيْضًا إبَاحَةُ الْعَزْلِ مَعَ أَنَّ فِيهِ إعْدَامَ الْوَلَدِ أَصْلًا لِأَنَّ فِي الْعَزْلِ تَضْيِيعَ الْمَاءِ وَالِامْتِنَاعَ مِنْ تَحْصِيلِ الْوَلَدِ وَكَانَ دُونَ التَّسَبُّبِ لِإِهْلَاكِ الْوَلَدِ الْمَوْجُودِ. وَلَا يَلْزَمُ أَيْضًا مَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ مَجْبُوبًا أَوْ عِنِّينًا أَوْ كَانَتْ الْأَمَةُ الْمَنْكُوحَةُ عَجُوزًا أَوْ عَقِيمًا أَوْ صَغِيرَةً حَيْثُ لَا يُبَاحُ النِّكَاحُ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ إرْقَاقُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْإِرْقَاقَ أَمْرٌ يَحْصُلُ بِالْعُلُوقِ مِنْ مَائِهِ وَذَلِكَ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فَأُقِيمَ نِكَاحُ الْأَمَةِ مَقَامَ الْإِرْقَاقِ كَمَا أُقِيمَ النِّكَاحُ مَقَامَ الْوَطْءِ وَالْعُلُوقِ فِي إثْبَاتِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ وَثُبُوتِ النَّسَبِ. وَقُلْنَا: إنَّهُ أَيْ نِكَاحُ الْأَمَةِ مَعَ طَوْلِ الْحُرَّةِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ نِكَاحٌ يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى فَيَمْلِكُهُ الْحُرُّ كَسَائِرِ الْأَنْكِحَةِ الَّتِي يَمْلِكُهَا الْعَبْدُ، وَهَذَا قَوِيُّ الْأَثَرِ أَيْ هَذَا الْقِيَاسُ أَقْوَى أَثَرًا مِنْ الْقِيَاسِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَإِنَّ الْآدَمِيَّ يَصِيرُ بِهَا أَهْلًا لِلْوِلَايَاتِ وَتَمَلُّكِ الْأَشْيَاءِ وَاسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَاتِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْبَشَرِ فَكَانَ تَأْثِيرُهَا فِي الْإِطْلَاقِ، وَفَتْحِ بَابِ النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ مِنْ النِّعَمِ لَا فِي الْمَنْعِ وَالْحَجْرِ، وَالرِّقُّ مِنْ أَسْبَابِ تَنْصِيفِ الْحِلِّ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ إلَّا نِكَاحَ امْرَأَتَيْنِ لِنُقْصَانِ حَالِهِ بِالرِّقِّ وَالْحُرُّ يَمْلِكُ نِكَاحَ أَرْبَعٍ بِشَرَفِ الْحُرِّيَّةِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الرَّقِيقُ فِي النِّصْفِ مِثْلَ الْحُرِّ فِي الْكُلِّ فِي اعْتِبَارِ الشُّرُوطِ

وَهَذَا قَوِيُّ الْأَثَرِ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَأَسْبَابِ الْكَرَامَةِ، وَالرِّقُّ مِنْ أَسْبَابِ تَنْصِيفِ الْحِلِّ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الرَّقِيقُ فِي النِّصْفِ مِثْلَ الْحُرِّ فِي الْكُلِّ فَإِمَّا أَنْ يَزْدَادَ أَثَرُ الرِّقِّ وَيَتَّسِعَ حِلُّهُ فَلَا، وَهَذَا أَثَرٌ ظَهَرَتْ قُوَّتُهُ وَيَزْدَادُ وُضُوحًا بِالتَّأَمُّلِ فِي أَحْوَالِ الْبَشَرِ أَلَا يَرَى أَنَّهُ حَلَّ لِرَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - التِّسْعُ أَوْ إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى لِفَضْلِهِ وَشَرَفِهِ فَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ الْأَثَرِ فَضَعِيفٌ بِحَقِيقَتِهِ؛ لِأَنَّ الْإِرْقَاقَ دُونَ التَّضْيِيعِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ بِالْعَزْلِ بِإِذْنِ الْحُرَّةِ فَالْإِرْقَاقُ أَوْلَى. وَضَعِيفٌ بِأَحْوَالِهِ فَإِنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ جَائِزٌ لِمَنْ يَمْلِكُ سُرِّيَّةً يَسْتَغْنِي بِهَا عَنْهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فِي أَصْلِ الْحِلِّ لَا فِي الشُّرُوطِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ فِي الثِّنْتَيْنِ مِثْلُ الْحُرِّ فِي الْأَرْبَعِ فِي اشْتِرَاطِ الشُّهُودِ وَوُجُوبِ الْمَهْرِ وَالْخُلُوِّ عَنْ عِدَّةِ الْغَيْرِ وَالْمَوْلَى عَلَى أَصْلِ الْخَصْمِ فَلَوْ كَانَ عَدَمُ الطَّوْلِ شَرْطًا لِجَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ فِي حَقِّ الْحُرِّ لَكَانَ شَرْطًا فِي حَقِّ الْعَبْدِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلرِّقِّ فِي إسْقَاطِ الشُّرُوطِ وَتَنْصِيفِهَا وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَتَّسِعَ الْحِلُّ الَّذِي يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ بِالرِّقِّ الَّذِي هُوَ مِنْ أَوْصَافِ النُّقْصَانِ وَيَتَضَيَّقُ بِالْحُرِّيَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَوْصَافِ الْكَمَالِ وَأَسْبَابِ الْكَرَامَاتِ فَيَحِلُّ لِلْعَبْدِ تَزَوُّجُ الْأَمَةِ مَعَ طَوْلِ الْحُرَّةِ وَتَزَوُّجُ الْأَمَةِ عَلَى أَمَةٍ وَعَلَى حُرَّةٍ، وَلَا يَحِلُّ شَيْءٌ مِنْهُمَا لِلْحُرِّ، وَهَذَا عَكْسُ الْمَعْقُولِ وَنَقْضُ الْأُصُولِ. وَهَذَا أَيْ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْحُرِّيَّةَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ إلَى آخِرِهِ أَثَرٌ ظَهَرَتْ قُوَّتُهُ فِي نَفْسِهِ بِالنَّظَرِ إلَى الْأَصْلِ، وَازْدَادَ قُوَّةً وَوُضُوحًا بِالتَّأَمُّلِ فِي أَحْوَالِ الْبَشَرِ فَإِنَّ مَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ فِي حَقِّ الْبَشَرِ ازْدَادَ بِزِيَادَةِ الشَّرَفِ حَتَّى إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا كَانَ أَشْرَفَ النَّاسِ أُبِيحَ لَهُ نِكَاحُ تِسْعِ نِسْوَةٍ أَوْ مَا لَا يَتَنَاهَى عَلَى مَا رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «مَا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ حَتَّى أُبِيحَ لَهُ مِنْ النِّسَاءِ مَا شَاءَ» فَثَبَتَ أَنَّ زِيَادَةَ الْكَرَامَةِ تُوجِبُ زِيَادَةَ الْحِلِّ فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِزِيَادَةِ حِلِّ الْعَبْدِ مَعَ نُقْصَانِ حَالِهِ عَلَى الْحُرِّ فَإِنْ قِيلَ نَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ تَأْثِيرَ الرِّقِّ فِي الْمَنْعِ وَتَأْثِيرَ الْحُرِّيَّةِ فِي الْإِطْلَاقِ، وَلَكِنْ مَا لَمْ يُؤَدِّ إلَى الْإِرْقَاقِ فَإِذَا أَدَّى حَرُمَ كَرَامَةً لَهُ لَا بِحِسَابِهِ كَمَا حَرُمَتْ الْمَجُوسِيَّةُ عَلَى الْمُسْلِمِ دُونَ الْكَافِرِ قُلْنَا نَحْنُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إرْقَاقٌ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ إرْقَاقٌ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِرْقَاقَ بِهَذَا الطَّرِيقِ حَرَامٌ لِمَا سَنُبَيِّنُ فَأَمَّا مَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مِنْ الْأَثَرِ وَهُوَ أَنَّ الْإِرْقَاقَ إهْلَاكٌ حُكْمًا فَضَعِيفٌ بِحَقِيقَتِهِ أَيْ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ إرْقَاقَ الْحُرِّ دُونَ التَّضْيِيعِ؛ لِأَنَّ بِالْإِرْقَاقِ يَفُوتُ صِفَةُ الْحُرِّيَّةِ لَا أَصْلُ الْوَلَدِ مَعَ أَنَّهُ أَمْرٌ يُرْجَى زَوَالُهُ بِالْعِتْقِ وَبِالتَّضْيِيعِ يَفُوتُ أَصْلُ الْوَلَدِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُرْجَى وُجُودُهُ ثُمَّ التَّضْيِيعُ بِالْعَزْلِ بِإِذْنِ الْحُرَّةِ وَبِنِكَاحِ الصَّبِيَّةِ وَالْعَجُوزِ وَالْعَقِيمِ مَعَ أَنَّهُ إتْلَافٌ حَقِيقَةً جَائِزٌ فَالْإِرْقَاقُ الَّذِي هُوَ إهْلَاكٌ حُكْمًا كَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ فَإِنْ قِيلَ فِي الْعَزْلِ امْتِنَاعٌ مِنْ اكْتِسَابِ سَبَبِ الْوُجُودِ لَكِنْ إذَا أَرَادَ مُبَاشَرَةَ سَبَبِ الْوُجُودِ يَنْبَغِي أَنْ يُبَاشِرَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُفْضِي إلَى الْإِهْلَاكِ لَا يُوصَفُ بِالرِّقِّ، وَلَا بِالْحُرِّيَّةِ إلَّا بِطَرِيقِ التَّبَعِ لِلْأَصْلِ فَإِذَا انْفَصَلَ لَمْ يُقْبَلْ صِفَةَ الرِّقِّ، وَلَا صِفَةَ الْحُرِّيَّةِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ وَلَدًا بَعْدَ الِاخْتِلَاطِ بِمَائِهَا فَقَبْلَهُ لَهُ حُكْمُ الْعَدَمِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَحَدِ شَطْرَيْ الْعِلَّةِ، وَلَا حُكْمَ بِبَعْضِ الْعِلَّةِ قَبْلَ وُجُودِ الْبَاقِي، وَإِذَا اخْتَلَطَ تَرَجَّحَ مَاؤُهَا عَلَى مَائِهِ بِحُكْمِ الْحَضَانَةِ فَيَتَخَلَّقُ الْوَلَدُ مِنْ الْمَاءَيْنِ رَقِيقًا ابْتِدَاءً فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ صِفَةُ الْحُرِّيَّةِ أَصْلًا فَلَمْ يَكُنْ هَذَا إرْقَاقَ الْحُرِّ، وَمَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَالْإِهْلَاكِ فِي إرْقَاقِ الْحُرِّ. وَضَعِيفٌ بِأَحْوَالِهِ أَيْ بِأَحْوَالِ الْأَثَرِ فَإِنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ جَائِزٌ لِمَنْ مَلَكَ سُرِّيَّةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ يَسْتَغْنِي بِهَا عَنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ، وَإِرْقَاقِ الْجُزْءِ فَإِنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ يَكُونُ حُرُّ الْأَصْلِ، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ تَحْتَهُ أَمَةٌ ثُمَّ تَزَوَّجَ حُرَّةً فَإِنَّ نِكَاحَهَا لَا يَبْطُلُ، وَقَدْ اسْتَغْنَى عَنْ إرْقَاقِ الْوَلَدِ فَإِنَّ الرِّقَّ صِفَةُ الْوَلَدِ فَلَا يَحْدُثُ قَبْلَ وُجُودِهِ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ بِالْوَطْءِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَحْرُمَ الْوَطْءُ، وَإِذَا حَرُمَ الْوَطْءُ يَبْطُلُ النِّكَاحُ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَبْطُلُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَصْفُ الْإِرْقَاقِ مُطَّرِدًا فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ فَتَفْسُدُ الْعِلَّةُ بِفَوَاتِ الْإِطْرَادِ الَّذِي هُوَ شَرْطُ صِحَّتِهَا

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ إنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ مِنْ الْمَوَانِعِ، وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ فَإِذَا اجْتَمَعَا أَلْحَقَ بِالْكُفْرِ الْغَلِيظَةَ وَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ انْقَضَتْ بِإِحْلَالِ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ وَقُلْنَا نَحْنُ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ يَصِحُّ مَعَهُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ فَكَذَلِكَ نِكَاحُ الْأَمَةِ كَدِينِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ نِكَاحٌ يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ، وَهَذَا أَثَرٌ ظَهَرَتْ قُوَّتُهُ لِمَا قُلْنَا إنَّ أَثَرَ الرِّقِّ فِي التَّنْصِيفِ فِيمَا يَقْبَلُهُ كَمَا قِيلَ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ وَالْقَسْمِ وَالْحُدُودِ وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِمَا يَقْبَلُ الْعَدَدَ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَنِكَاحُ الْمَرْأَةِ فِي نَفْسِهِ مُقَابَلًا بِالرِّجَالِ لَيْسَ بِمُتَعَدِّدٍ فَلَا يَحْتَمِلُ التَّنْصِيفَ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَأَمَّا عَدَمُ جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ فَلَيْسَ بِاعْتِبَارِ حُرْمَةِ إرْقَاقِ الْجُزْءِ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ بَلْ بِاعْتِبَارِ نُقْصَانِ حَالِهَا بِالرِّقِّ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ لِمَنْ مَلَكَ سُرِّيَّةً مَذْهَبُنَا فَأَمَّا عِنْدَ الْخَصْمِ فَلَا يَجُوزُ فَقَدْ ذَكَرَ فِي التَّهْذِيبِ، وَإِنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ أَمَةٌ يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا أَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ أَمَةً لَا يَحِلُّ أَنْ يَنْكِحَ الْأَمَةَ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ إرْقَاقِ وَلَدِهِ بِمَا مَعَهُ فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى الْخَصْمِ؛ لِأَنَّهُ احْتِجَاجٌ بِالْمُخْتَلِفِ عَلَى الْمُخْتَلِفِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ وَالسُّرِّيَّةُ الْأَمَةُ الَّتِي اتَّخَذَهَا مَوْلَاهَا لِلْفِرَاشِ وَحَصَّنَهَا وَطَلَبَ وَلَدَهَا فُعْلِيَّةٌ مِنْ السِّرِّ أَيْ الْجِمَاعِ أَوْ فَعُولَةٌ مِنْ السَّرْوِ السِّيَادَةُ. قَوْلُهُ: (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ، وَمِنْ التَّرْجِيحِ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا بَيَّنَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَذَا؛ لِأَنَّ مَا بَيَّنَّا هُوَ الَّذِي تَرَجَّحَ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ دُونَ قَوْلِهِمْ إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ تَسَامَحَ فِي الْعِبَارَةِ فَإِنَّ بِسِيَاقِ الْكَلَامِ يُفْهَمُ أَنَّ مُرَادَهُ بَيَانُ مِثَالٍ آخَرَ تَرَجَّحَ فِيهِ قَوْلُنَا بِقُوَّةِ الْأَثَرِ فَكَانَ التَّقْدِيرُ، وَمِنْ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي تُرَجِّحُ قَوْلَنَا بِقُوَّةِ الْأَثَرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ يَعْنِي إذَا فَاتَ طَوْلُ الْحُرَّةِ حَتَّى حَلَّ نِكَاحُ الْأَمَةِ إنَّمَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ مِنْ الْمَوَانِعِ يَعْنِي لَهُ تَأْثِيرٌ فِي تَحْرِيمِ النِّكَاحِ حَتَّى لَمْ يَجُزْ نِكَاحُ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ، وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ فِي الْجُمْلَةِ حَتَّى لَمْ يَجُزْ نِكَاحُ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمَةِ أَصْلًا، وَلَمْ يَجُزْ لِلْمُسْلِمِ تَزَوُّجُ كُلِّ كَافِرَةٍ فَإِذَا اجْتَمَعَا تَأَيَّدَا أَحَدُهُمَا بِالْآخِرِ وَأُلْحِقَ الْمَجْمُوعُ بِالْكُفْرِ الْغَلِيظِ، وَهُوَ كُفْرُ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَالْمَجُوسِيَّةِ وَالِارْتِدَادِ فِي الْمَنْعِ مِنْ النِّكَاحِ؛ وَلِأَنَّ جَوَازَ نِكَاحِ الْأَمَةِ ضَرُورِيٌّ لِمَا فِيهِ مِنْ إرْقَاقِ الْجُزْءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَالضَّرُورَةُ انْقَضَتْ بِإِحْلَالِ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ الَّتِي هِيَ أَظْهَرُ مِنْ الْكَافِرَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إحْلَالِ الْكَافِرَةِ كَالْمُضْطَرِّ إلَى الطَّعَامِ إذَا وَجَدَ الْمَيْتَةَ وَذَبِيحَةَ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ غَائِبٌ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْمَيْتَةُ؛ لِأَنَّ الذَّبِيحَةَ أَظْهَرُ، وَإِنْ كَانَتْ حَرَامًا بِدُونِ إذْنِ الْمَالِكِ فِي غَيْرِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ فَلَمَّا وَقَعَتْ الْغُنْيَةُ بِالْأَظْهَرِ لَمْ تَحِلَّ الْأُخْرَى. وَقُلْنَا نَحْنُ: لَا بَأْسَ بِهِ أَيْ بِنِكَاحِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ عِنْدَ عَدَمِ الطَّوْلِ وَوُجُودِهِ، وَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى عِنْدَ وُجُودِ الطَّوْلِ؛ لِأَنَّهُ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى الْمَفْهُومِ أَيْ؛ لِأَنَّ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ دِينٌ يَصِحُّ مَعَهُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ فَيَصِحُّ نِكَاحُ الْأَمَةِ كَدِينِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ نِكَاحٌ يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ فَيَمْلِكُهُ الْحُرُّ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ النُّكْتَتَيْنِ فِي مُقَابَلَةِ إحْدَى نُكْتَتَيْ الْخَصْمِ وَقَوْلُهُ، وَهَذَا أَثَرٌ ظَهَرَتْ قُوَّتُهُ بِبَيَانِ تَأْثِيرِ النُّكْتَةِ الْأُولَى فَإِنَّهُ قَدْ بَيَّنَ تَأْثِيرَ النُّكْتَةِ الثَّانِيَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الرِّقَّ لَا يُؤَثِّرُ فِي تَحْرِيمِ أَصْلِ النِّكَاحِ بَلْ أَثَرُهُ فِي التَّنْصِيفِ فِيمَا يَقْبَلُهُ حَتَّى كَانَ طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَيْنِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَيْنِ، وَقَسْمُهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ قَسْمِ الْحُرَّةِ وَحَدُّ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ فِي الزِّنَا وَالْقَذْفِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَدِّ الْحُرِّ. وَقَوْلُهُ: فِيمَا يَقْبَلُهُ احْتِرَازٌ عَنْ نَحْوِ حَدِّ السُّرِّيَّةِ وَالطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ وَالْحَيْضَةِ الْوَاحِدَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعِبَادَاتِ فَإِنَّهَا لَا تَقْبَلُ التَّنْصِيفَ فَلَمْ يُؤَثِّرْ الرِّقُّ فِيهَا، وَذَلِكَ أَيْ التَّنْصِيفُ يَخْتَصُّ بِمَا يَقْبَلُ الْعَدَدَ مِنْ الْأَحْكَامِ وَالتَّجْزِئَةَ؛ لِأَنَّ تَنْصِيفَ الشَّيْءِ بِدُونِ أَنْ يَكُونَ ذَا عَدَدٍ وَذَا أَجْزَاءٍ لَا يُتَصَوَّرُ وَالنِّكَاحُ الَّذِي يَبْتَنِي عَلَى الْحِلِّ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ مُتَعَدِّدٌ حَيْثُ يَجُوزُ لَهُ تَزَوُّجُ أَرْبَعٍ مِنْ النِّسْوَةِ فَيَظْهَرُ التَّنْصِيفُ فِيهِ بِالرِّقِّ فَيَحِلُّ لِلْعَبْدِ نِكَاحُ امْرَأَتَيْنِ فَأَمَّا نِكَاحُ الْمَرْأَةِ فِي نَفْسِهِ مُقَابَلًا بِالرِّجَالِ فَلَيْسَ بِمُتَعَدِّدٍ إذْ لَا تَحِلُّ الْمَرْأَةُ لِرَجُلَيْنِ بِحَالٍ لِيَتَنَصَّفَ بِالرِّقِّ

لَكِنَّهُ ذُو أَحْوَالٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَهِيَ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ وَالْمُقَارَنَةُ فَصَحَّ مُتَقَدِّمًا، وَلَمْ يَصِحَّ مُتَأَخِّرًا قَوْلًا بِالتَّنْصِيفِ، وَبَطَلَ مُقَارِنًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّنْصِيفَ فَغُلِّبَ التَّحْرِيمُ كَالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَالْأَقْرَاءِ أَنَّهَا صَارَتْ ثِنْتَيْنِ بِالرِّقِّ لِمَا قُلْنَا فَهَذَا وَصْفٌ قَوِيَ أَثَرُهُ. وَلِذَلِكَ قُلْنَا فِي الْحُرِّ إذَا نَكَحَ أَمَةً عَلَى أَمَةٍ إنَّهُ صَحِيحٌ كَالْعَبْدِ إذَا فَعَلَهُ وَضَعُفَ أَثَرُ وَصْفِهِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ لَكِنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ التَّنْصِيفِ كَرِقِّ الرِّجَالِ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى الرَّجُلِ شَيْئًا حَلَّ لِلْحُرِّ لَكِنَّهُ أَثَرٌ فِي التَّنْصِيفِ، وَقَدْ جَعَلْت الرِّقَّ مِنْ أَسْبَابِ فَضْلِ الْحِلِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ فَتَعَذَّرَ التَّنْصِيفُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَكِنَّهُ أَيْ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ ذُو أَحْوَالٍ مُتَعَدِّدَةٍ حَالَ اجْتِمَاعِهَا مَعَ الضَّرَّةِ قَدْ يَكُونُ مُتَقَدِّمًا عَلَى نِكَاحِ الضَّرَّةِ، وَمُتَأَخِّرًا عَنْهُ، وَمُقَارِنًا إيَّاهُ فَيَقْبَلُ التَّنْصِيفَ بِالرِّقِّ بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ فَيَصِحُّ نِكَاحُ الْأَمَةِ مُتَقَدِّمًا عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ، وَلَمْ يَصِحَّ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ قَوْلًا بِالتَّنْصِيفِ فَبَقِيَ حَالَةُ الْمُقَارَنَةِ، وَهِيَ لَا تُقْبَلُ التَّنْصِيفَ وَقَدْ اجْتَمَعَ فِيهَا مَعْنَى الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّ إلْحَاقَهَا بِحَالَةِ التَّقَدُّمِ اقْتَضَى الْحِلَّ، وَإِلْحَاقُهَا بِحَالَةِ التَّأْخِيرِ اقْتَضَى الْحُرْمَةَ فَيَغْلِبُ مَعْنَى الْحُرْمَةُ احْتِيَاطًا كَالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَالْأَقْرَاءِ لَمَّا أَوْجَبَ الرِّقُّ تَنَصُّفَهَا، وَالطَّلْقَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ، وَالْقُرْءُ الْمُتَوَسِّطُ لَمْ يَقْبَلَا التَّنْصِيفَ. وَقَدْ اجْتَمَعَ فِيهِمَا جِهَتَا الثُّبُوتِ وَالسُّقُوطِ بِالنَّظَرِ إلَى طَرَفَيْهِمَا رَجَّحْنَا جَانِبَ الثُّبُوتِ احْتِيَاطًا. أَوْ يُقَالُ لِنِكَاحِ الْأَمَةِ حَالَتَانِ حَالَةُ الِانْفِرَادِ عَنْ الْحُرَّةِ بِالسَّبْقِ وَحَالَةُ الِانْضِمَامِ إلَى الْحُرَّةِ بِالْمُقَارَنَةِ أَوْ التَّأَخُّرِ فَتَكُونُ مُحَلَّةً فِي إحْدَى الْحَالَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى فَإِنْ قِيلَ سَلَّمْنَا أَنَّ رِقَّ الرَّجُلِ يُؤَثِّرُ فِي تَنْقِيصِ الْحِلِّ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ يُؤَثِّرُ فِي تَنْقِيضِ مَالِكِيَّتِهِ الَّتِي عَلَيْهَا يَبْتَنِي الْحِلُّ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ رِقَّ الْمَرْأَةِ فِي تَنْقِيصِ حِلِّهَا؛ لِأَنَّ حِلَّهَا بِنَاءً عَلَى الْمَمْلُوكِيَّةِ، وَالرِّقُّ يَزِيدُ فِي مَمْلُوكِيَّتِهَا فَكَيْفَ يُؤَثِّرُ فِي تَنْقِيصِ الْحِلِّ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الرِّقَّ يَفْتَحُ عَلَيْهَا بَابًا مِنْ الْحِلِّ كَانَ مَسْدُودًا قَبْلَهُ فَإِنَّهَا تَحِلُّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَالنِّكَاحِ جَمِيعًا، وَقَبْلَ الِاسْتِرَاقِ لَمْ تَكُنْ تَحِلُّ إلَّا بِمِلْكِ النِّكَاحِ فَاسْتَحَالَ أَنْ يَسُدَّ عَلَيْهَا بَابًا كَانَ مَفْتُوحًا قَبْلَهُ، وَإِذَا كَانَ يَثْبُتُ حِلٌّ جَدِيدٌ فِيهَا بِالرِّقِّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْتَقَصَ الْحِلُّ الثَّابِتُ فِيهَا بِالرِّقِّ قُلْنَا كَمَا أَنَّ الْحِلَّ فِي الرَّجُلِ كَرَامَةٌ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ كَرَامَةٌ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ نِعْمَةٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى مَا عُرِفَ فَلَمَّا كَانَ حِلُّ الرَّجُلِ يَتَنَصَّفُ بِرِقِّهِ فَكَذَلِكَ حِلُّ الْأَمَةِ وَقَوْلُهُ انْفَتَحَ بِسَبَبِ رَقِّهَا بَابٌ مِنْ الْحِلِّ قُلْنَا حِلُّ مِلْكِ الْيَمِينِ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ وَلِهَذَا لَا تُطَالِبُهُ بِالْوَطْءِ وَلَا تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ شَيْئًا فَالِاسْتِمْتَاعُ بِهَا كَالِاسْتِمْتَاعِ بِسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ أَثَرُ الرِّقِّ فِي فَتْحِهِ فَأَمَّا مِلْكُ النِّكَاحِ وَحِلُّهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَقَدْ ثَبَتَ كَرَامَةً فَأَثَرُ الرِّقِّ فِي الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا وَلِهَذَا يُنْتَقَصُ قَسْمُ الْأَمَةِ وَعِدَّتُهَا بِالِاتِّفَاقِ وَطَلَاقُهَا عِنْدَنَا. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَثَرَ الرِّقِّ فِي التَّنْصِيفِ لَا فِي تَغْيِيرِ أَصْلِ النِّكَاحِ لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُ النِّصْفِ الْبَاقِي وَبَقِيَ عَلَى مَا كَانَ فَيَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ مُتَقَدِّمًا عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ لَا مُتَأَخِّرًا أَوْ مُقَارِنًا عَمَلًا بِالتَّنْصِيفِ كَمَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ مُطْلَقًا فَهَذَا وَصْفٌ أَيْ الْوَصْفُ الَّذِي اعْتَمَدْنَا عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ دِينَ الْكِتَابِيَّةِ دِينٌ يَصِحُّ مَعَهُ نِكَاحٌ فَيَصِحُّ نِكَاحُ الْأَمَةِ. وَصْفٌ قَوِيَ أَثَرُهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْحِلَّ الَّذِي بِهِ تَصِيرُ الْمَرْأَةُ مَحَلًّا لِلنِّكَاحِ وَلَا يَخْتَلِفُ بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا فِي الْحُرَّةِ، وَأَصْلُ هَذَا الْحِلِّ لَا يَتَغَيَّرُ بِالرِّقِّ فَبَقِيَتْ كَالْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ، وَكَالْحُرَّةِ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ وَلِذَلِكَ أَيْ؛ وَلِأَنَّ أَثَرَ الرِّقِّ فِي التَّنْصِيفِ لَا غَيْرُ أَوْ؛ لِأَنَّ مَا يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ مِنْ الْأَنْكِحَةِ يَمْلِكُهُ الْحُرُّ قُلْنَا فِي الْحُرِّ إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى أَمَةٍ إنَّهُ صَحِيحٌ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ كَالْعَبْدِ فِعْلُهُ؛ لِأَنَّ أَثَرَ الرِّقِّ فِي التَّنْصِيفِ لَا فِي إزَالَةِ الْحِلِّ وَإِثْبَاتِهِ، وَقَدْ كَانَتْ الْإِمَاءُ مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ فَبَقِينَ عَلَى مَا كُنَّ عَلَيْهِ قَبْلَ الرِّقِّ وَضَعُفَ أَثَرُ وَصْفِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ جَعَلَ الرِّقَّ أَيْ رِقَّ الْمَرْأَةِ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ مِنْ أَسْبَابِ التَّنْصِيفِ كَرِقِّ الرَّجُلِ، وَقَدْ جَعَلَ أَيْ الشَّافِعِيُّ الرِّقَّ مِنْ أَسْبَابِ فَضْلِ الْحِلِّ حَيْثُ أَبَاحَ لِلْعَبْدِ مَعَ نُقْصَانِ

وَهَذَا عَكْسُ الْمَعْقُولِ وَنَقْضُ الْأُصُولِ، وَدِينُ الْكِتَابِيِّ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ أَيْضًا، وَأَثَرُهُمَا مُخْتَلِفٌ أَيْضًا فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُجْعَلَا عِلَّةً وَاحِدَةً وَغَيْرُ مُسَلَّمٍ لَهُ أَنْ يَكُونَ نِكَاحُ الْأَمَةِ فِي حُكْمِ الْجَوَازِ ضَرُورِيًّا لَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الِاسْتِحْبَابِ مِثْلُ نِكَاحِ الْحُرَّةِ الْكِتَابِيَّةِ لِمَا قُلْنَا مِنْ سُقُوطِ حُرْمَةِ الْإِرْقَاقِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQحَالِهِ مِنْ الْأَنْكِحَةِ مَا لَمْ يُبِحْ لِلْحُرِّ مَعَ شَرَفِهِ، وَفَضْلِهِ عَلَى الْعَبْدِ. وَهَذَا أَيْ جَعْلُ الرِّقِّ مِنْ أَسْبَابِ فَضْلِ الْحِلِّ عَكْسُ الْمَعْقُولِ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ نِعْمَةٌ تُسْتَحَقُّ بِالشَّرَفِ وَالْفَضْلِ، وَالْعَقْلُ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ الْحُرُّ الشَّرِيفُ أَنْقَصَ نِعْمَةً مِنْ الْعَبْدِ الْخَسِيسِ وَنَقْضُ الْأُصُولِ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ أَثَرُ الرِّقِّ فِي التَّنْصِيفِ لَا غَيْرُ وَأَنْ يَكُونَ الْحُرُّ أَوْسَعَ حِلًّا مِنْ الْعَبْدِ، وَأَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ أَدْنَى دَرَجَةً مِنْ الْحُرِّ فِي اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ، وَفِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ نَقْضُ هَذِهِ الْأُصُولِ. وَقَوْلُهُ وَدِينُ الْكِتَابِيِّ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ يَعْنِي كَمَا أَنَّ الرِّقَّ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ دِينُ الْكِتَابِيِّ كَذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ مَعَهُ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً حَتَّى جَازَ لِلْمُسْلِمِ تَزَوُّجُ الْكِتَابِيَّةِ وَبَقِيَ النِّكَاحُ بَعْدَمَا أَسْلَمَ زَوْجُ الْكِتَابِيَّةِ حَتَّى لَوْ أَبَتْ عَنْ الْإِسْلَامِ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُوجِبُ انْضِمَامُ الرِّقِّ الْبَيْعَ تَغَلُّظًا فِيهِ وَتَحْرِيمًا لِلنِّكَاحِ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِمَا فِي التَّحْرِيمِ وَلَوْ كَانَ كُفْرُ الْكِتَابِيَّةِ يَتَغَلَّظُ بِالرِّقِّ فِي حُكْمِ النِّكَاحِ لَكَانَ كَذَلِكَ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ أَيْضًا كَالْمَجُوسِيَّةِ وَأَثَرُهُمَا مُخْتَلِفٌ يَعْنِي إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الرِّقَّ وَالْكُفْرَ مِنْ الْمَوَانِعِ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَيْضًا لِيَصِيرَا بِمَنْزِلَةِ عِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ مَنْعَ الرِّقِّ النِّكَاحَ بِاعْتِبَارِ نُقْصَانِ الْحَالِ، وَمَنْعُ الْكُفْرِ إيَّاهُ بِاعْتِبَارِ خُبْثِ الِاعْتِقَادِ فَكَانَ مَنْعُ الْكُفْرِ بِطَرِيقَةٍ غَيْرِ طَرِيقَةِ مَنْعِ الرِّقِّ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْكُلُّ عِلَّةً وَاحِدَةً وَبِدُونِ الِاتِّحَادِ لَا يَثْبُتُ مَعْنَى التَّغَلُّظِ فَكَانَ اجْتِمَاعُهُمَا بِمَنْزِلَةِ اجْتِمَاعِ عِلَّتَيْنِ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ فَلَمْ يَقْوَ أَحَدُهُمَا بِالْآخِرِ كَابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا زَوْجٌ أَوْ أَخٌ لِأُمٍّ. قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي الْأَسْرَارِ: أَمَّا اعْتِبَارُ الْخُبْثِ فَفَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْخُبْثَ بِالْكُفْرِ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ وَبِالرِّقِّ لَا يَزْدَادُ خُبْثُ الْكُفْرِ فَالرَّقِيقُ رُبَّمَا يَكُونُ أَنْقَى، وَأَتْقَى مِنْ الْحُرِّ فَيَكُونُ أَطْهَرَ شَرْعًا إنَّمَا سُقُوطُ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ النَّاسِ، وَمَا لَهُ أَثَرٌ فِي تَحْرِيمِ الْحِلِّ. وَقَوْلُهُ: وَغَيْرُ مُسْلِمٍ جَوَابٌ عَنْ النُّكْتَةِ الثَّانِيَةِ يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّ جَوَازَ نِكَاحِ الْأَمَةِ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الرَّقِيقَ فِي النِّصْفِ مِثْلُ الْحُرِّ، وَكَمَا أَنَّ نِكَاحَ الْحُرَّةِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ لَا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ فَكَذَلِكَ نِكَاحُ الْأَمَةِ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي لَهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً ثُمَّ تَزَوَّجَ حُرَّةً لَا يَبْطُلُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَلَوْ كَانَ جَوَازُ نِكَاحِ الْأَمَةِ ضَرُورِيًّا لَمَا بَقِيَ بَعْدَمَا زَالَتْ الضَّرُورَةُ بِنِكَاحِ الْحُرَّةِ كَمَا لَوْ قَدَرَ الْمُتَيَمِّمُ عَلَى الْمَاءِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ أَوْ قَدَرَ الْمُضْطَرُّ عَلَى الطَّعَامِ الْحَلَالِ فِي خِلَالِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَلَا يُقَالُ الْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ لَا يُبْطِلُ حُكْمَ الْبَدَلِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَهَاهُنَا لَمَّا جَازَ الْعَقْدُ وَتَمَّ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: نَحْنُ لَا نُسَلِّمُ حُصُولَ الْمَقْصُودِ فَإِنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ عُمُرٍ، وَحُصُولُ الْمَقْصُودِ عَنْهُ بِانْقِضَاءِ الْعُمُرِ فَقَبْلَ الِانْقِضَاءِ لَا يَتِمُّ الْمَقْصُودُ، لَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الِاسْتِحْبَابِ يَعْنِي أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْجَوَازِ لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ، وَلَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الِاسْتِحْبَابِ ضَرُورِيٌّ مِثْلُ نِكَاحِ الْحُرَّةِ الْكِتَابِيَّةِ مَعَ وُجُودِ الْمُؤْمِنَةِ لِمَا قُلْنَا مِنْ سُقُوطِ حُرْمَةِ الْإِرْقَاقِ هَذَا تَعْلِيلٌ لِكَوْنِهِ غَيْرَ ضَرُورِيٍّ يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ ضَرُورِيٌّ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ ضَرُورِيًّا مَبْنِيٌّ عَلَى ثُبُوتِ حُرْمَةِ الْإِرْقَاقِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حُرْمَةَ الْإِرْقَاقِ سَاقِطَةٌ فَانْتَفَى كَوْنُهُ ضَرُورِيًّا لِانْتِفَاءِ دَلِيلِهِ. قَوْلُهُ: (وَمِثَالُهُ أَيْضًا) أَيْ مِثَالٌ آخَرُ لِلتَّرْجِيحِ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ تَرْجِيحُ دَلِيلِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُمْكِنُ إبْقَاءُ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا إنْ أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ وَبَقِيَ الزَّوْجُ كَافِرًا أَوْ أَسْلَمَ

وَمِثَالُهُ أَيْضًا مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي إسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ إنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَا بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ الرِّدَّةُ سَوَّى بَيْنَهُمَا، وَهَذَا وَصْفٌ ضَعِيفُ الْأَثَرِ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ وَقُلْنَا نَحْنُ إنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الْعِصْمَةِ وَبَقَاءِ الْآخَرِ عَلَى مَا كَانَ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِهِ أَيْضًا بِالْإِجْمَاعِ فَوَجَبَ إثْبَاتُ الْحُكْمِ مُضَافًا إلَى سَبَبٍ جَدِيدٍ، وَهُوَ فَوَاتُ أَغْرَاضِ النِّكَاحِ مُضَافًا إلَى امْتِنَاعِ الْآخَرِ عَنْ أَدَاءِ الْإِسْلَامِ حَقًّا لِلَّذِي أَسْلَمَ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْمَرْأَةُ وَثَنِيَّةٌ أَوْ مَجُوسِيَّةٌ لَا يَقَعُ الْفُرْقَةُ عِنْدَنَا بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ بَلْ يَجِبُ عَرْضُ الْإِسْلَامِ عَلَى الْآخَرِ فَإِنْ أَسْلَمَ بَقِيَ النِّكَاحُ، وَإِنْ أَبَى فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا، سَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ أَوْ قَبْلَهُ. وَإِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ لَمْ تَكُنْ الْمَرْأَةُ مَدْخُولًا بِهَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ لِلْحَالِ فِي الْفَصْلَيْنِ أَعْنِي فِي الْإِسْلَامِ وَالرِّدَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا تَتَوَقَّفُ الْفُرْقَةُ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي الْفَصْلَيْنِ أَيْضًا فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ إلَى آخِرِهِ أَنَّ الْإِسْلَامَ مِنْ أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْعِدَّةِ بِأَنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ فَالْفُرْقَةُ وَاقِعَةٌ بِمُجَرَّدِ الْإِسْلَامِ وَحُصُولِ الِاخْتِلَافِ وَالْمُرَادُ بِالْعِدَّةِ انْقِضَاءُ ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِهِ. وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ هَذِهِ فُرْقَةٌ وَجَبَتْ بِسَبَبٍ طَارِئٍ غَيْرِ مُنَافٍ لِلنِّكَاحِ بِحُكْمِهِ مُوجِبٌ حُرْمَةَ الِاسْتِمْتَاعِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَجَّلَ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَيَتَأَجَّلَ إلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا قِيَاسًا عَلَى الْفُرْقَةِ بِطَلَاقٍ. وَإِنَّمَا قُلْنَا طَارِئٍ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ لِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ، وَأَنَّهُ طَارِئٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ غَيْرُ مُنَافٍ حُكْمًا بِدَلِيلِ أَنَّ النِّكَاحَ بَاقٍ مَعَ الِاخْتِلَافِ إلَى الْعَرْضِ وَالْإِبَاءِ عِنْدَكُمْ، وَإِلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ عِنْدِي، وَكَذَلِكَ مَعَ رِدَّتِهَا جَمِيعًا أَصْلُكُمْ، وَمَا يُنَافِي حُكْمًا لَا يُتَصَوَّرُ مَعَهُ الْبَقَاءُ كَمِلْكِ الْيَمِينِ وَحُرْمَةِ الرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ وَهَذَا مَعْنًى مُؤَثِّرٌ؛ لِأَنَّ لِمِثْلِ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَثَرًا فِي إيجَابِ الْفُرْقَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ فَصَحَّتْ إضَافَةُ الْفُرْقَةِ إلَيْهِ، وَقُلْنَا نَحْنُ إنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الْعِصْمَةِ أَيْ عِصْمَةِ الْحُقُوقِ وَتَأْكِيدِ الْإِمْلَاكِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ» فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَحَقَّ بِهِ زَوَالُ الْمِلْكِ بِحَالٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ قَرَارَ النِّكَاحِ تَوَقَّفَ عَلَى الْإِسْلَامِ الْآخَرِ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ بَقِيَا عَلَيْهِ، وَمَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَقَّفَ قَرَارُ النِّكَاحِ عَلَى وُجُودِهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْإِسْلَامِ فِي إيجَابِ الْفُرْقَةِ وَبَقَاءُ الْآخَرِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ الْكُفْرِ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ التَّفْرِيقِ أَيْضًا بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّ كُفْرَ مَا كَانَ مَوْجُودًا وَصَحَّ مَعَهُ النِّكَاحُ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلْفُرْقَةِ؛ لِأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ قَاطِعًا لَا يُوجِبُ قَطْعًا ضَرُورَةً فَإِنْ قِيلَ إنَّا نُسَلِّمُ أَنَّ كُفْرَهُ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا مَعَ كُفْرِ الْآخَرِ لِبَقَاءِ الِاتِّفَاقِ فَأَمَّا مَعَ إسْلَامِهِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ مُؤَثِّرٌ. وَهُوَ اخْتِلَافُ الدِّينَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّ كُفْرَهُ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ وَمُحَرِّمًا لِلْوَطْءِ مَعَ كُفْرِ الْآخَرِ، وَالْآنَ هُوَ مَانِعٌ وَمُحَرِّمٌ قُلْنَا صَيْرُورَتُهُ مَانِعًا، وَمُحَرِّمًا بِتَبَدُّلِ الْحَالِ لَا تَدُلُّ عَلَى صَيْرُورَتِهِ قَاطِعًا فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَشْيَاءِ يَمْنَعُ، وَلَا يَقْطَعُ، وَالنِّزَاعُ وَقَعَ فِي الْقَطْعِ فَصَارَ فِي حَقِّ الْقَطْعِ كَأَنَّ الْحَالَةَ لَمْ تَتَبَدَّلْ أَلَا تَرَى أَنَّ قِيَامَ الْعِدَّةِ وَعَدَمَ الشُّهُودِ يَمْنَعَانِ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ، وَلَا يَمْنَعَانِ الْبَقَاءَ وَالِاسْتِغْنَاءُ عَنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ بِنِكَاحِ الْحُرَّةِ يَمْنَعُ نِكَاحَهَا ابْتِدَاءً، وَلَا يَمْنَعُ الْبَقَاءَ إذَا تَزَوَّجَ الْحُرَّةَ بَعْدَ الْأَمَةِ، وَلَمَّا لَمْ يَصْلُحْ الْإِسْلَامُ سَبَبًا لِلْفُرْقَةِ، وَلَا كُفْرَ الْبَاقِي لَمْ يَصْلُحْ اخْتِلَافُ الدِّينِ النَّاشِئُ مِنْهُمَا سَبَبًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثَرٌ فِي الْفُرْقَةِ فَإِذَا اجْتَمَعَا يَكُونُ كَذَلِكَ أَيْضًا، وَلَوْ جُعِلَ الِاخْتِلَافُ سَبَبًا وَجَبَ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ الْوَصْفُ الْأَخِيرُ

وَهُوَ سَبَبٌ ظَاهِرُ الْأَثَرِ كَمَا فِي اللِّعَانِ وَالْإِيلَاءِ وَالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ وَأَمَّا الرِّدَّةُ فَمُنَافِيَةٌ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَسْبَابِ زَوَالِ الْعِصْمَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ سَابِقٌ عَلَيْهِ، وَكَذَا الِاخْتِلَافُ وُجِدَ بِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا. وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ الْفُرْقَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ دَفْعِ ضَرَرِ الظُّلْمِ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ، وَهُوَ الِاسْتِمْتَاعُ فَاتَ شَرْعًا وَجَبَ إثْبَاتُ الْحُكْمِ مُضَافًا إلَى سَبَبٍ جَدِيدٍ وَهُوَ فَوَاتُ أَغْرَاضِ النِّكَاحِ مِنْ حِلِّ الْوَطْءِ وَالْمَسِّ وَالتَّقْبِيلِ مُضَافًا إلَى امْتِنَاعِ الْآخَرِ عَنْ أَدَاءِ الْإِسْلَامِ يَعْنِي فَوَاتَ هَذِهِ الْأَغْرَاضِ بِتَحْقِيقٍ بِامْتِنَاعِ الْآخَرِ عَنْ أَدَاءِ الْإِسْلَامِ لَا بِإِسْلَامِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ الثَّانِي بَقِيَ النِّكَاحُ بِأَغْرَاضِهِ بِالْإِجْمَاعِ فَوَجَبَ إصَابَةُ اسْتِحْقَاقِ الْغُرْبَةِ إلَى الِامْتِنَاعِ الْحَادِثِ لَا إلَى الْإِسْلَامِ الْعَاصِمِ وَكُفْرُ الْبَاقِي حَقًّا لِلَّذِي أَسْلَمَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ فَوَجَبَ إثْبَاتُ الْحُكْمِ أَيْ وَجَبَ إثْبَاتُ اسْتِحْقَاقِ الْفُرْقَةِ رِعَايَةً لِحَقِّ الْمُسْلِمِ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ إنْ كَانَ هُوَ الزَّوْجَ وَجَبَ عَلَيْهِ إدْرَارُ النَّفَقَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فَائِدَةُ الِاسْتِمْتَاعِ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةَ صَارَتْ كَالْمُعَلَّقَةِ بِفَوَاتِ أَغْرَاضِ النِّكَاحِ مَعَ بَقَائِهِ وَالتَّعْلِيقُ ظُلْمٌ وَتَفْوِيتٌ لِلْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ مُفَوَّضًا إلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ لِإِزَالَةِ الظُّلْمِ وَالْقَاضِي قَدْ وُلِّيَ لِإِزَالَةِ الظُّلْمِ عَنْ النَّاسِ، وَهُوَ أَيْ فَوَاتُ الْأَغْرَاضِ سَبَبٌ لِلْفُرْقَةِ ظَاهِرُ الْأَثَرِ فَإِنَّ الْأَسْبَابَ تُرَاعَى لِأَحْكَامِهَا فَإِذَا خَلَتْ عَنْهَا وَجَبَ الْقَوْلُ بِإِلْغَائِهَا كَمَا فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنَّ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ فِيهَا بِنَاءً عَلَى فَوَاتِ أَغْرَاضِ النِّكَاحِ مُحَالًا بِهِ عَلَى مَنْ كَانَ فَوَاتُ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ جِهَتِهِ أَمَّا فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي اللِّعَانِ فَلِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ لَمَّا حَرُمَ بِالتَّلَاعُنِ، وَفَاتَ غَرَضُ النِّكَاحِ بِسَبَبِ فِعْلِ الزَّوْجِ وَهُوَ الرَّمْيُ بَقِيَتْ الْمَرْأَةُ مُعَلَّقَةً مَظْلُومَةً لَا يَصِلُ إلَيْهَا حَقُّهَا فَوَجَبَ دَفْعُ الظُّلْمِ عَنْهَا بِالتَّفْرِيقِ. وَكَذَا فِي الْإِيلَاءِ فَإِنَّ الزَّوْجَ ظَلَمَهَا بِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْمُدَّةِ فَجُوزِيَ بِزَوَالِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ عِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَعَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ صَارَ الزَّوْجُ ظَالِمًا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ بِمَنْعِ حَقِّهَا فَوَجَبَ التَّفْرِيقُ إذَا أَصَرَّ عَلَى الظُّلْمِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا الْحُرْمَةُ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ وَالْعِدَّةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ حُرُمَاتٌ لَا تَدُومُ بَلْ هِيَ بِعَرْضِ الزَّوَالِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى تَفْوِيتِ أَغْرَاضِ النِّكَاحِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الظُّلْمُ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ. قَوْلُهُ: (فَأَمَّا الرِّدَّةُ فَمُنَافِيَةٌ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَسْبَابِ زَوَالِ الْعِصْمَةِ) يَعْنِي هِيَ مُوجِبَةٌ لِلْفُرْقَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمُنَافَاةِ لَا لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْفُرْقَةِ فَثَبَتَ بِالْحُرْمَةِ بِنَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى انْقِضَاءِ عِدَّةٍ وَلَا قَضَاءِ قَاضٍ كَمَا فِي طُرُوءِ الرَّضَاعِ وَحُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّا وَجَدْنَا الرِّدَّةَ قَدْ أَبْطَلَتْ النِّكَاحَ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ مُبْطِلَةً وَضْعًا أَوْ بِطَرِيقِ الْمُنَافَاةِ. وَلَا وَجْهَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمُبْطِلَ لِشَيْءٍ وَضْعًا لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ غَيْرَ مُبْطِلٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِإِبْطَالِهِ فَإِذَا لَمْ يَبْطُلْ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا كَالْعِتْقِ لَمَّا وُضِعَ لِإِبْطَالِ الْمِلْكِ وَإِزَالَةِ الرِّقِّ لَمْ يَكُنْ عِتْقًا عِنْدَ عَدَمِ الْإِبْطَالِ وَالْإِزَالَةِ، وَقَدْ وَجَدْنَا الرِّدَّةَ مُتَحَقِّقَةً غَيْرَ مُبْطِلَةٍ لِلنِّكَاحِ فِيمَا إذَا ارْتَدَّ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ امْرَأَةٌ فَعَلِمْنَا أَنَّهَا لَمْ تُوضَعْ لِإِبْطَالِ مِلْكِ النِّكَاحِ؛ وَلِأَنَّ الْمَوْضِعَ لِإِبْطَالِ أَمْرٍ شَرْعِيٍّ يَكُونُ مَشْرُوعًا لِإِبْطَالِهِ لَا مَحَالَةَ، وَالرِّدَّةُ لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ بِوَجْهٍ وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مَوْضُوعَةً لِإِبْطَالِ مِلْكِ النِّكَاحِ، وَقَدْ أَبْطَلَتْ النِّكَاحَ عَلِمْنَا أَنَّهَا إنَّمَا تُبْطِلُهُ بِطَرِيقِ الْمُنَافَاةِ كَالرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ فَإِنَّهُمَا لَيْسَا بِمَوْضُوعَيْنِ لِإِبْطَالِ النِّكَاحِ لِتَحَقُّقِهِمَا فِي غَيْرِ مِلْكِ النِّكَاحِ، وَلَكِنَّهُمَا مُنَافِيَانِ لِلنِّكَاحِ عَلَى مَعْنَى

وَذَلِكَ أَمْرٌ بَيِّنٌ، وَلَا يَلْزَمُ إذَا ارْتَدَّا مَعًا؛ لِأَنَّا أَثْبَتْنَا حُكْمَهُ بِنَصٍّ آخَرَ، وَهُوَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَالْقِيَاسُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي مُعَارَضَةِ الْإِجْمَاعِ؛ وَلِأَنَّ حَالَ الِاتِّفَاقِ دُونَ حَالِ الِاخْتِلَافِ فَلَنْ يَصِحَّ التَّعْدِيَةُ إلَيْهِ فِي تَضَادِّ حُكْمَيْنِ وَضَعُفَ أَثَرُ قَوْلِهِ إنَّ الرِّدَّةَ غَيْرُ مُنَافِيَةٍ بِدَلَالَةِ ارْتِدَادِهِمَا؛ لِأَنَّا وَجَدْنَا اخْتِلَافَ الدِّينِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى الْكُفْرِ لَا يَمْنَعُ، وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ إنَّهُ رُكْنٌ فِي الْوُضُوءِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّهُمَا سَبَبَا الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ، وَالْحُرْمَةُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى الْجُزْئِيَّةِ مُنَافِيَةٌ لِلنِّكَاحِ فَكَذَلِكَ الرِّدَّةُ تَبْدِيلُ الدِّينِ، وَذَلِكَ تُوجِبُ إبْطَالَ عِصْمَةِ الشَّخْصِ وَعِصْمَةَ أَمْلَاكِهِ فَتُوجِبُ بُطْلَانَ عِصْمَةِ مِلْكِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ دُونَ نَفْسِهِ، وَكَذَا الشَّخْصُ بِبُطْلَانِ الْعِصْمَةِ يَلْتَحِقُ بِالْمَوْتَى وَالْجَمَادَاتِ، وَالْمَيِّتُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِمِلْكِ النِّكَاحِ بِوَجْهٍ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَتَعَجَّلَ الْفُرْقَةُ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَبْقَى مَعَ مَا يُنَافِيهِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ بَيِّنٌ أَيْ كَوْنُ الرِّدَّةِ مِنْ أَسْبَابِ زَوَالِ الْعِصْمَةِ الَّتِي عَلَيْهَا مَبْنَى النِّكَاحِ أَمْرٌ ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ فِيهِ إذْ الرِّدَّةُ تُؤَثِّرُ فِي إزَالَةِ عِصْمَةِ النَّفْسِ وَالْمَالِ بِالْإِجْمَاعِ. وَلَا يَلْزَمُ إذَا ارْتَدَّا مَعًا يَعْنِي لَا يُقَالُ لَوْ كَانَ بُطْلَانُ النِّكَاحِ بِالرِّدَّةِ لِلْمُنَافَاةِ لَزِمَ أَنْ تَبْطُلَ بِارْتِدَادِهِمَا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى لِازْدِيَادِ الْمُنَافِي كَمَا لَوْ اجْتَمَعَ الرِّضَاءُ وَالنَّسَبُ أَوْ الْمُصَاهَرَةُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ ارْتِدَادُهُمَا مُبْطِلًا أَيْضًا لِلْمُنَافَاةِ كَمَا قَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّ الْعَرَبَ ارْتَدُّوا فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَمَّا أَسْلَمُوا لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِتَجْدِيدِ الْأَنْكِحَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ شَيْئَيْنِ ظَهَرَا، وَلَمْ يُعْرَفْ التَّارِيخُ بَيْنَهُمَا أَنْ يُجْعَلَا كَأَنَّهُمَا وَقَعَا مَعًا كَمَا فِي الْغَرْقَى وَالْحَرْقَى، وَقَدْ تَحَقَّقَ ارْتِدَادُ الْعَرَبِ وَلَمْ يَعْرِفُ التَّارِيخُ أَنَّ الْمَرْأَةَ ارْتَدَّتْ أَوَّلًا أَمْ الرَّجُلُ فَجُعِلَ كَالْوَاقِعِ مَعًا فَصَارَ إجْمَاعًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ؛ وَلِأَنَّ حَالَ الِاتِّفَاقِ دُونَ حَالِ الِاخْتِلَافِ يَعْنِي لَوْ لَمْ يَكُنْ الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدًا لَا يَدُلُّ مُنَافَاةُ ارْتِدَادِ أَحَدِهِمَا لِلنِّكَاحِ عَلَى مُنَافَاةِ ارْتِدَادِهِمَا إيَّاهُ؛ لِأَنَّ حَالَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى الِارْتِدَادِ فِي اقْتِضَاءِ الْحُرْمَةِ دُونَ حَالِ اخْتِلَافِهِمَا فِيهِ؛ لِأَنَّ فِي حَالِ الِاخْتِلَافِ لَيْسَ الْكَافِرُ مِنْهُمَا بِمَعْصُومٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَلِانْقِطَاعِ الْعِصْمَةِ بَيْنَهُمَا بَطَلَ النِّكَاحُ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي حَالِ الِاتِّفَاقِ مَعْدُومٌ فَلَمْ يَصْلُحْ التَّعْدِيَةُ أَيْ تَعْدِيَةُ حُكْمِ الِاخْتِلَافِ إلَيْهِ أَيْ إلَى الِاتِّفَاقِ فِي تَضَادِّ حُكْمَيْنِ أَيْ مَعَ تَضَادِّ حُكْمَيْ الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ فَإِنَّ الِاتِّفَاقَ يَقْتَضِي الْحِلَّ وَبَقَاءَ النِّكَاحِ، وَالِاخْتِلَافُ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ وَالْفُرْقَةَ. وَضَعُفَ أَثَرُ قَوْلِهِ يَعْنِي ضَعُفَ أَثَرُ قِيَاسِ الشَّافِعِيِّ وَاعْتِبَارُهُ ارْتِدَادَ أَحَدِهِمَا بِارْتِدَادِهِمَا جَمِيعًا فِي عَدَمِ مُنَافَاتِهِ النِّكَاحَ. وَقَوْلُهُ: لِأَنَّا وَجَدْنَا دَلِيلًا عَلَى قَوْلِهِ فَلَمْ يَصِحَّ التَّعْدِيَةُ، وَقَوْلُهُ وَضَعُفَ أَثَرُ قَوْلِهِ إنَّ الرِّدَّةَ كَذَا يَعْنِي لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ ارْتِدَادِهِمَا بِارْتِدَادِ أَحَدِهِمَا فِي إثْبَاتِ الْمُنَافَاةِ فِيهِ، وَلَا ارْتِدَادِ أَحَدِهِمَا بِارْتِدَادِهِمَا فِي نَفْيِ الْمُنَافَاةِ عَنْهُ؛ لِأَنَّا وَجَدْنَا لِاخْتِلَافِ الدِّينِ تَأْثِيرًا فِي الْحُرْمَةِ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ بِلَا خِلَافٍ وَيَقْطَعُهُ أَيْضًا عِنْدَهُ كَمَا بَيَّنَّا وَلِاتِّفَاقِ الدِّينِ تَأْثِيرٌ فِي الْحَالِ حَتَّى جَازَ نِكَاحُ مَجُوسِيَّيْنِ، وَلَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزْ فَثَبَتَ أَنَّ الِاتِّفَاقَ لَيْسَ مِثْلَ الِاخْتِلَافِ فَلَا يُمْكِنُ إلْحَاقُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مُنَافَاةِ أَحَدِهِمَا مُنَافَاةُ الْآخَرِ، وَلَا مِنْ عَدَمِ مُنَافَاةِ أَحَدِهِمَا عَدَمُ مُنَافَاةِ الْآخَرِ وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ امْتِنَاعُ صِحَّةِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا ابْتِدَاءً بَعْدَ الرِّدَّةِ عِلَّةً لِلْمَنْعِ مِنْ بَقَاءِ النِّكَاحِ لَا بِابْتِنَاءِ فَسَادِ اعْتِبَارِ حَالَةِ الْبَقَاءِ بِحَالَةِ الِابْتِدَاءِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ لَا يَسْتَدْعِي دَلِيلًا مُبْقِيًا، وَإِنَّمَا يَسْتَدْعِي الْفَائِدَةَ فِي الْإِبْقَاءِ وَبَعْدَ رِدَّتِهِمَا يُتَوَهَّمُ مِنْهُمَا الرُّجُوعُ إلَى الْإِسْلَامِ وَبِهِ يَظْهَرُ فَائِدَةُ الْبَقَاءِ فَأَمَّا الثُّبُوتُ ابْتِدَاءً فَيَسْتَدْعِي الْحِلَّ فِي الْمَحِلِّ وَذَلِكَ مَعْدُومٌ بَعْدَ الرِّدَّةِ وَعِنْدَ رِدَّةِ أَحَدِهِمَا لَا يَظْهَرُ فِي الْإِبْقَاءِ فَائِدَةٌ مَعَ مَا هُمَا عَلَيْهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ. وَمِثَالُهُ

وَهَذَا ضَعِيفُ الْأَثَرِ؛ لِأَنَّ الرُّكْنِيَّةَ لَا يُؤَثِّرُ فِي التَّكْرَارِ وَلَا يَخْتَصُّ بِهِ فَقَدْ سُنَّ تَكْرَارُ الْمَضْمَضَةِ، وَأَثَرُ الْمَسْحِ فِي التَّخْفِيفِ بَيِّنٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ قَوِيٌّ لَا ضَعْفَ فِيهِ، وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى. وَأَمَّا الثَّانِي، وَهُوَ قُوَّةُ ثَبَاتِهِ عَلَى الْحُكْمِ الْمَشْهُودِ بِهِ فَلِأَنَّ الْأَثَرَ إنَّمَا صَارَ أَثَرًا لِرُجُوعِهِ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَإِذَا ازْدَادَ ثَبَاتًا ازْدَادَ قُوَّةً بِفَضْلِ مَعْنَاهُ وَذَلِكَ فِي قَوْلِنَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ إنَّهُ مَسْحٌ فَهَذَا أَثْبَتُ فِي دَلَالَةِ التَّخْفِيفِ مِنْ قَوْلِهِمْ رُكْنٌ فِي دَلَالَةِ التَّكْرَارِ أَلَا تَرَى أَنَّ الرُّكْنَ وَصْفٌ عَامٌّ فِي الْوُضُوءِ وَفِي أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَهِيَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، وَكَانَ مِنْ قَضِيَّةِ الرُّكْنِ إكْمَالُهُ بِالْإِطَالَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَا تَكْرَارُهُ وَوَجَدْنَاهُ فِي الْبَابِ مَا لَيْسَ رُكْنًا وَيَتَكَرَّرُ، وَهُوَ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ. وَأَمَّا أَثَرُ الْمَسْحِ فِي التَّخْفِيفِ فَثَابِتٌ لَازِمٌ لَا مَحَالَةَ فِي كُلِّ مَا لَا يُعْقَلُ تَطْهِيرًا كَالتَّيَمُّمِ، وَمَسْحِ الْخُفِّ، وَمَسْحِ الْجَبَائِرِ، وَمَسْحِ الْجَوَارِبِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَيْ مِثَالُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ إنَّ الرِّدَّةَ غَيْرُ مُنَافِيَةٍ فِي النِّصْفِ قَوْلُهُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ: إنَّهُ رُكْنٌ فِي الْوُضُوءِ فَيُسَنُّ فِيهِ التَّكْرَارُ كَالْغَسْلِ. هَذَا أَيْ وَصْفُ الرُّكْنِ ضَعِيفُ الْأَثَرِ؛ لِأَنَّ الرُّكْنِيَّةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي التَّكْرَارِ بِدَلِيلِ عَدَمِ تَأْثِيرِهَا فِيهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بَلْ تَأْثِيرُهَا فِي الْوُجُودِ لَا غَيْرُ، وَلَا يَخْتَصُّ فِيهِ أَيْ لَا يَخْتَصُّ التَّكْرَارُ بِالرُّكْنِ فِي الْوُضُوءِ أَيْضًا فَإِنَّ التَّكْرَارَ مَسْنُونٌ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَهُمَا لَيْسَا بِرُكْنَيْنِ يَعْنِي أَنَّهُمَا لَيْسَا بِمُتَلَازِمَيْنِ فَإِنَّ الرُّكْنَ قَدْ يُوجَدُ بِدُونِ التَّكْرَارِ كَمَا فِي أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهَا وَالتَّكْرَارُ قَدْ يُوجَدُ بِدُونِ الرُّكْنِيَّةِ كَمَا فِي الْمَضْمَضَةِ، وَتَعْلِيلُنَا بِأَنَّهُ مَسْحٌ فَلَا يُسَنُّ فِيهِ التَّكْرَارُ تَعْلِيلٌ بِوَصْفٍ قَوِيَ أَثَرُهُ فَإِنَّ أَثَرَ الْمَسْحِ فِي التَّخْفِيفِ بَيِّنٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ إذْ الِاكْتِفَاءُ بِالْمَسْحِ مَعَ إمْكَانِ الْغَسْلِ مَا كَانَ إلَّا لِلتَّخْفِيفِ، وَتَأَدِّي الْفَرْضِ بِبَعْضِ الْمَحَلِّ مَعَ إمْكَانِ الِاسْتِيعَابِ لِلتَّخْفِيفِ أَيْضًا. وَكَذَا سُقُوطُ التَّكْرَارِ فِي مَسْحِ الْخُفِّ وَالْجَبِيرَةِ وَالتَّيَمُّمِ لِلتَّخْفِيفِ فَعَرَفْنَا أَنَّ تَأْثِيرَهُ فِي التَّخْفِيفِ قَوِيٌّ لَا ضَعْفَ فِيهِ، وَهَذَا أَيْ التَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ فِي مَسَائِلِ أَصْحَابِنَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى. قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الثَّانِي) أَيْ صِحَّةُ الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ التَّرْجِيحِ، وَهُوَ قُوَّةُ ثَبَاتِهِ أَيْ ثَبَاتِ الْوَصْفِ عَلَى الْحُكْمِ الْمَشْهُودِ بِهِ أَيْ الْحُكْمِ الَّذِي شَهِدَ الْوَصْفُ بِثُبُوتِهِ؛ فَلِأَنَّ الْوَصْفَ الْمُؤَثِّرَ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً بِأَثَرِهِ، وَمَرْجِعُ أَثَرِهِ الْكِتَابُ أَوْ السُّنَّةُ أَوْ الْإِجْمَاعُ يَعْنِي يُعْتَبَرُ أَثَرُهُ لِثُبُوتِهِ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ فَإِذَا ازْدَادَ الْوَصْفُ ثَبَاتًا عَلَى الْحُكْمِ ازْدَادَ قُوَّةً بِفَضْلِ مَعْنَاهُ الَّذِي صَارَ بِهِ حُجَّةً، وَهُوَ رُجُوعُ أَثَرِهِ إلَى هَذِهِ الْأَدِلَّةِ فَإِنَّ وَصْفَ الْمَسْحِ لَمَّا ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي التَّخْفِيفِ كَانَ زِيَادَةُ ثَبَاتِهِ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ ثَابِتَةً بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ أَيْضًا كَثُبُوتِ أَصْلِ الْأَثَرِ فَيَتَرَجَّحُ عَلَى مَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ هَذِهِ الْقُوَّةُ، وَذَلِكَ أَيْ التَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ الثَّبَاتِ. أَلَا تَرَى تَوْضِيحٌ لِعَدَمِ ثَبَاتِ وَصْفِ الرُّكْنِيَّةِ عَلَى التَّكْرَارِ، لَازِمٌ تَفْسِيرٌ لِثَابِتٍ إذْ الْمُرَادُ مِنْ الثَّبَاتِ عَلَى الْحُكْمِ لُزُومُهُ لَهُ فِي كُلِّ مَا لَا يُعْقَلُ تَطْهِيرًا أَيْ فِي كُلِّ مَسْحٍ شُرِعَ لِلتَّطْهِيرِ، وَلَمْ يُعْقَلْ مِنْهُ مَعْنَى التَّطْهِيرِ، وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِغَيْرِ الْمَاءِ فَإِنَّهُ مَسْحٌ وَقَدْ شُرِعَ فِيهِ التَّكْرَارُ؛ لِأَنَّهُ عُقِلَ فِيهِ مَعْنَى التَّطْهِيرِ إذَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْقِيَةُ، وَالتَّكْرَارُ يُؤَثِّرُ فِي تَحْصِيلِ هَذَا الْمَقْصُودِ، وَمَسْحُ الْجَوَارِبِ، يَعْنِي عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا أَيْ مِثْلُ قَوْلِنَا فِي الْمَسْحِ قَوْلُنَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إنَّهُ مُتَعَيِّنٌ فَلَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُهُ كَصَوْمِ النَّفْلِ فَإِنَّهُ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ صَوْمُ فَرْضٍ فَيُشْتَرَطُ تَعْيِينُهُ كَصَوْمِ الْقَضَاءِ لِكَوْنِهِ أَثْبَتَ عَلَى حُكْمِهِ مِمَّا ذَكَرُوا؛ لِأَنَّ وَصْفَ الْفَرْضِيَّةِ لَا يُوجِبُ إلَّا الِامْتِثَالَ بِهِ أَيْ لَا يَقْتَضِي إلَّا الْإِتْيَانَ بِالْمَفْرُوضِ لَا التَّعْيِينَ لَا مَحَالَةَ أَيْ لَا يَقْتَضِي التَّعْيِينَ أَلْبَتَّةَ فَإِنَّ الْحَجَّ يَجُوزُ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَبِنِيَّةِ النَّفْلِ عَلَى أَصْلِهِ، وَذَلِكَ أَيْ وَصْفُ الْفَرْضِيَّةِ وَصْفٌ خَاصٌّ فِي الْبَابِ أَيْ فِي بَابِ الصَّوْمِ. يَعْنِي التَّعْلِيلَ بِوَصْفِ الْفَرْضِيَّةِ لِإِيجَابِ التَّعْيِينِ لَوْ صَحَّ إنَّمَا يَصِحُّ فِي بَابِ الصَّوْمِ دُونَ سَائِرِ الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّعْيِينَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ بَلْ التَّعْيِينُ فِي غَيْرِهَا إنَّمَا يَجِبُ بِمَعَانٍ أُخَرَ لَا بِوَصْفِ الْفَرْضِيَّةِ فَأَمَّا التَّعْيِينُ أَيْ سُقُوطُ التَّعْيِينِ فَلَازِمٌ لِوَصْفِ التَّعْيِينِ أَوْ الْمُرَادُ مِنْ التَّعْيِينِ التَّعْيِينُ بِطَرِيقِ إطْلَاقِ اسْمِ السَّبَبِ، وَإِرَادَةِ الْمُسَبَّبِ يَعْنِي التَّعْلِيلَ بِوَصْفِ الْعَيْنِيَّةِ فِي سُقُوطِ اشْتِرَاطِ التَّعْيِينِ لَازِمٌ أَيْ ثَابِتٌ فِي كُلِّ عَيْنٍ حَتَّى تَعَدَّى أَيْ ثَبَتَ فِي رَدِّ الْوَدَائِعِ وَالْغُصُوبِ وَرَدِّ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ حَتَّى

وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ: إنَّهُ مُتَعَيِّنٌ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِمْ صَوْمُ فَرْضٍ؛ لِأَنَّ الْفَرْضِيَّةَ لَا تُوجِبُ إلَّا الِامْتِثَالَ بِهِ وَالتَّعْيِينَ لَا مَحَالَةَ وَذَلِكَ وَصْفٌ خَاصٌّ فِي الْبَابِ. وَأَمَّا التَّعْيِينُ فَلَازِمٌ حَتَّى تَعَدَّى إلَى الْوَدَائِعِ وَالْغُصُوبِ وَرَدِّ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَعَقْدِ الْأَيْمَانِ وَنَحْوِهَا فَكَانَ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا فِي الْمَنَافِعِ إنَّهَا لَا تُضْمَنُ مُرَاعَاةً لِشَرْطِ ضَمَانِ الْعُدْوَانِ بِالِاحْتِرَازِ عَنْ الْفَضْلِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِمْ إنَّ مَا يُضْمَنُ بِالْعَقْدِ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ تَحَقَّقَتْ لِلْجَبْرِ، وَإِثْبَاتِ الْمِثْلِ تَقْرِيبًا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ؛ لِأَنَّهُ فَضْلٌ عَلَى الْمُتَعَدِّي أَوْ إهْدَارٌ عَلَى الْمَظْلُومِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَوْ رَدَّ الْوَدِيعَةَ أَوْ الْمَغْصُوبَ إلَى الْمَالِكِ أَوْ رَدَّ الْمَبِيعَ إلَى الْبَائِعِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُهُ لِأَجْلِ الْوَدِيعَةِ أَوْ الْغَصْبِ أَوْ لِرَدِّ الْبَيْعِ بَلْ بِأَيِّ طَرِيقٍ وُجِدَ يَقَعُ فِي الْجِهَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ لِتَعَيُّنِ الْمَحَلِّ، وَلَوْ أَدَّى الدَّيْنَ يُشْتَرَطُ التَّعْيِينُ. وَعَقْدُ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى يَعْنِي لَا يُشْتَرَطُ نِيَّةُ التَّعْيِينِ فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنْ يُعَيِّنَ أَنَّهُ يُؤَدِّي الْفَرْضَ مَعَ أَنَّهُ أَقْوَى الْفُرُوضِ بَلْ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ يَأْتِي بِهِ يَقَعُ عَلَى الْفَرْضِ لِكَوْنِهِ مُتَعَيِّنًا غَيْرَ مُتَنَوِّعٍ إلَى فَرْضٍ وَنَفْلٍ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَعَقْدُ الْأَيْمَانِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ يَعْنِي إذَا حَلَفَ عَلَى فِعْلِ عَيْنٍ أَوْ عَلَى الِامْتِنَاعِ عَنْ فِعْلٍ بِأَنْ حَلَفَ لِيَصُومَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا الْيَوْمَ فَفَعَلَ ذَلِكَ أَوْ امْتَنَعَ عَنْهُ لَا عَلَى قَصْدِ الْبِرِّ يَقَعُ عَنْ الْبِرِّ لِلتَّعَيُّنِ أَوْ مَعْنَاهُ إذَا وُجِدَ الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ شَرْطُ الْحِنْثِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ وُجِدَ نِسْيَانًا أَوْ كَرْهًا أَوْ خَطَأً لِتَعَيُّنِهِ وَنَحْوِهَا كَتَصْدِيقِ النِّصَابِ عَلَى الْفَقِيرِ بِدُونِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ مُسْقِطٌ لِلزَّكَاةِ لِتَعَيُّنِ الْمَحَلِّ، وَكَإِطْلَاقِ النِّيَّةِ فِي الْحَجِّ يَتَأَدَّى بِهِ الْفَرْضُ لِتَعَيُّنِ حِجَّةِ الْإِسْلَامِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ، وَكَالسَّيْفِ الْمُحَلَّى بِالذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ إذَا بِيعَ بِجِنْسِ الْحِلْيَةِ، وَقَدْ أَدَّى بَعْضَ ثَمَنِ السَّيْفِ فِي الْمَجْلِسِ ثُمَّ افْتَرَقَا يَتَعَيَّنُ الْمُؤَدَّى لِلْحِلْيَةِ سَوَاءٌ أُطْلِقَ أَوْ عُيِّنَ أَوْ قِيلَ مِنْ ثَمَنِهِمَا لِتَعَيُّنِ ثَمَنِ الْحِلْيَةِ لِلْقَبْضِ. قَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا) يَعْنِي، وَكَمَا كَانَ قَوْلُنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَوْلَى وَأَرْجَحَ لِقُوَّةِ ثَبَاتِ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ كَانَ قَوْلُنَا فِي الْمَنَافِعِ أَنَّهَا لَا تُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ لِأَجْلِ مُرَاعَاةِ شَرْطِ ضَمَانِ الْعُدْوَانِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْعُدْوَانِ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] مُقَدَّرٌ بِالْمِثْلِ صُورَةً، وَمَعْنًى بِلَا صُورَةٍ،، وَإِيجَابُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمِثْلِ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْأَعْيَانُ لَيْسَتْ بِمُمَاثِلَةٍ لِلْمَنَافِعِ فِي الْمَالِيَّةِ لِلتَّفَاوُتِ الْفَاحِشِ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَعْيَانَ تَبْقَى وَتَدُومُ، وَلَا بَقَاءَ لِلْمَنَافِعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ مَا هُوَ فَوْقَ الْمُتْلَفِ فِي صِفَةِ الْمَالِيَّةِ عَلَى الْمُتَعَدِّي كَمَا لَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْجَيِّدِ مَكَانَ الرَّدِيءِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ بِالِاحْتِرَازِ عَنْ الْفَصْلِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِمْ إنَّ مَا يُضْمَنُ بِالْعَقْدِ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ تَحْقِيقًا لِلْجَبْرِ كَالْأَعْيَانِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ مَالٌ كَالْعَيْنِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عَنْهَا، وَالنَّاسُ يَتَمَوَّلُونَهَا وَالتَّفَاوُتُ الثَّابِتُ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِيَّةِ وَالْعَرْضِيَّةِ مَجْبُورٌ بِكَثِيرَةِ الْأَجْزَاءِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ شَهْرٍ وَاحِدٍ أَكْثَرُ أَجْزَاءً عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالدِّرْهَمِ الْوَاحِدِ فَيُجْبَرُ النُّقْصَانُ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ فَاسْتَوَيَا قِيمَةً فَبَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ التَّفَاوُتُ فِيمَا وَرَاءَ الْقِيمَةِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ كَالتَّفَاوُتِ فِي الْحِنْطَةِ مِنْ حَيْثُ الْحَبَّاتُ وَاللَّوْنُ وَنَحْوُهَا فِيمَا إذَا أَتْلَفَ حِنْطَةً، وَأَتَى بِمِثْلِهَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ، وَإِثْبَاتُ الْمِثْلِ تَقْرِيبًا يَعْنِي إيجَابَ الْمِثْلِ ثَابِتٌ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ إلَّا بِأَدْنَى تَفَاوُتٍ يُتَحَمَّلُ كَمَا فِي إيجَابِ الْقِيمَةِ عَنْ الْعَيْنِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إيجَابِ الْمِثْلِ صُورَةً مَعَ أَنَّهَا تُسْتَدْرَكُ بِالظَّنِّ وَالْحَزْرِ. وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَيْ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ إيجَابُ فَضْلٍ؛ لِأَنَّهُ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى الْمَفْهُومِ أَيْ الْوَاجِبُ فِي الْمَسْأَلَةِ إمَّا إيجَابُ فَضْلٍ عَلَى الْمُتَعَدِّي أَوْ إهْدَارٌ عَلَى الْمَظْلُومِ حَقَّهُ يَعْنِي لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ إيجَابُ الْمِثْلِ بِدُونِ الْفَضْلِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْتِزَامِ أَحَدِ مَحْذُورَيْنِ إمَّا إيجَابُ الْفَضْلِ عَلَى الْمُتَعَدِّي رِعَايَةً لِجَانِبِ الْمَظْلُومِ بِجَبْرِ حَقِّهِ أَوْ إهْدَارُ حَقِّ الْمَظْلُومِ بِعَدَمِ إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُتَعَدِّي احْتِرَازًا عَنْ إيجَابِ الْفَضْلِ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ إلْحَاقَ الْخُسْرَانِ بِالظَّالِمِ أَحَقُّ، وَفِيهِ دَفْعُ الظُّلْمِ وَسَدُّ بَابِ الْعُدْوَانِ أَوْ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى الْفَضْلِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ ذَلِكَ الْفَضْلَ إنْ اُعْتُبِرَ فَهُوَ فَضْلٌ وَاجِبٌ عَلَى الْمُتَعَدِّي ذَلِكَ لَيْسَ بِمُسْتَبْعَدٍ

وَلِأَنَّهُ إهْدَارُ وَصْفٍ أَوْ إهْدَارُ أَصْلٍ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْمِثْلِ وَاجِبٌ فِي كُلِّ بَابٍ كَمَا فِي الْأَمْوَالِ كُلِّهَا وَالصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا وَوَضْعُ الضَّمَانِ فِي الْمَعْصُومِ أَمْرٌ جَائِزٌ مِثْلُ الْعَادِلِ يُتْلِفُ مَالَ الْبَاعِي، وَالْحَرْبِيُّ يُتْلِفُ مَالَ الْمُسْلِمِ، وَالْفَضْلُ عَلَى الْمُتَعَدِّي غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ، وَإِنْ قَلَّ فَإِنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ يُنْسَبُ إلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَنِسْبَةُ الْجَوْرِ إلَيْهِ بِدُونِ وَاسِطَةِ فِعْلِ الْعَبْدِ بَاطِلٌ، وَأَنْ لَا يَضْمَنَ مُضَافٌ إلَى عَجْزِنَا عَنْ الدَّرْكِ، وَذَلِكَ سَائِغٌ حَسَنٌ؛ وَلِأَنَّ الْوَصْفَ، وَإِنْ قَلَّ فَائِتٌ أَصْلًا بِلَا بَدَلٍ، وَالْأَصْلُ، وَإِنْ عَظُمَ فَائِتٌ إلَى ضَمَانٍ فِي دَارِ الْجَزَاءِ فَكَانَ تَأَخُّرًا وَالْأَوَّلُ إبْطَالًا وَالتَّأْخِيرُ أَهْوَنُ مِنْ الْإِبْطَالِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي حَقِّهِ لِتَعَدِّيهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ فَهُوَ إهْدَارٌ لِجِهَةِ الْفَضِيلَةِ عَلَى الْمَظْلُومِ تَحْقِيقًا لِإِيجَابِ الْمِثْلِ جَبْرًا لِحَقِّهِ، وَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا كَإِهْدَارِ الْمَوَدَّةِ فِي بَابِ الرِّبَا تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ؛ وَلِأَنَّهُ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى الْمَفْهُومِ أَيْضًا أَيْ؛ وَلِأَنَّ الثَّابِتَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إمَّا إهْدَارُ وَصْفٍ عَمَّا وَجَبَ عَلَى الظَّالِمِ، وَهُوَ الْعَيْنِيَّةُ الْمُوجِبَةُ لِلْبَقَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ إيجَابِ الضَّمَانِ أَوْ إهْدَارُ أَصْلٍ أَيْ إسْقَاطُ أَصْلِ حَقِّ الْمَظْلُومِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ إيجَابِ الضَّمَانِ فَكَانَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ إهْدَارُ الْوَصْفِ أَوْلَى تَحَمُّلًا لِأَدْنَى الضَّرَرَيْنِ لِدَفْعِ أَعْلَاهُمَا وَلَوْ صَرَفْت الضَّمِيرَ فِي؛ لِأَنَّهُ إلَى شَيْءٍ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ إيجَابِ الضَّمَانِ وَنَحْوِهِ لَفَسَدَ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ مَا حَكَمْت عَلَيْهِ بِأَنَّهُ إهْدَارُ وَصْفٍ غَيْرُ مَا حَكَمْت عَلَيْهِ بِأَنَّهُ إهْدَارُ أَصْلٍ، وَلَا بُدَّ فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ يَكُونَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ وَاحِدًا. وَقَوْلُهُ: لِأَنَّ التَّقْيِيدَ دَلِيلٌ عَلَى قَوْلِهِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِمْ يَعْنِي قَوْلَنَا كَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِمْ كَذَا؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْمِثْلِ وَاجِبٌ فِي كُلِّ بَابٍ أَيْ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ الضَّمَانَاتِ مَالِيًّا كَانَ أَوْ بَدَنِيًّا فَإِنَّ ضَمَانَ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالِاعْتِكَافِ وَالْحَجِّ مُقَيَّدٌ بِالْمِثْلِ بِالْإِجْمَاعِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ فَكَانَ هَذَا الْوَصْفُ أَثْبَتَ مِمَّا ذَكَرُوا فَكَانَ أَرْجَحَ. وَوَضْعُ الضَّمَانِ فِي الْمَعْصُومِ أَيْ إسْقَاطُ الضَّمَانِ عَمَّنْ أَتْلَفَ مَالًا مَعْصُومًا أَمْرٌ جَائِزٌ فِي الشَّرْعِ مِثْلُ الْعَادِلِ يُتْلِفُ مَالَ الْبَاغِي فَإِنَّ مَالَهُ مَعَ بَغْيِهِ مَعْصُومٌ لَا يُبَاحُ لِغَيْرِ الْعَادِلِ إتْلَافُهُ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِغْنَاؤُهُ وَتَمَلُّكُهُ لِأَحَدٍ، وَفِي التَّقْوِيمِ كَإِتْلَافِ الْبَاغِي أَمْوَالَنَا وَنُفُوسَنَا فِي حَالِ الْمَنَعَةِ، وَهُوَ أَظْهَرُ، وَالْفَضْلُ عَلَى الْمُتَعَدِّي أَيْ إيجَابُ الْفَضْلِ عَلَى الْمُتَعَدِّي غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَإِنَّا لَمْ نَجِدْ تَعَدِّيًا أَوْجَبَ زِيَادَةً عَلَى الْمِثْلِ بِعُذْرٍ مِنْ الْأَعْذَارِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَثَبَتَ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا فِي نَفْيِ الزِّيَادَةِ عَنْ الْمُتَعَدِّي أَثْبَتُ مِمَّا ذَكَرُوا، وَهَذَا أَيْ عَدَمُ إيجَابِ الْفَضْلِ؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ، وَإِنْ قَلَّ فَإِنَّهُ أَيْ إيجَابُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ يُنْسَبُ إلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَهُوَ ثَابِتُ الشَّرْعِ فَيَكُونُ هَذَا إضَافَةَ الظُّلْمِ إلَى الشَّرْعِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ يَعْنِي بِدُونِ جِنَايَةٍ مِنْ الْعَبْدِ إذْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ التَّعَدِّي فِي مُقَابَلَةِ الْفَضْلِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ تَعَدٍّ عَلَى الْغَيْرِ فَيَكُونُ جَوْرًا، وَنِسْبَةُ الْجَوْرِ إلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ بَاطِلَةٌ، وَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ قَوْلَهُ بِدُونِ وَاسِطَةٍ فِعْلُ الْعَبْدِ هَاهُنَا غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ نِسْبَةَ الْجَوْرِ إلَيْهِ بِوَاسِطَةِ فِعْلِ الْعَبْدِ جَائِزَةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ نِسْبَةُ الْجَوْرِ إلَيْهِ لَا تَجُوزُ بِحَالٍ، وَمَا يُضَافُ إلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ مِنْ إيجَابِ الْجَزَاءِ بِوَاسِطَةِ فِعْلِ الْعَبْدِ لَيْسَ بِجَوْرٍ. وَعِبَارَةُ التَّقْوِيمِ تُؤَيِّدُهُ فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ أَنَّ الزِّيَادَةَ رَاجِعَةٌ إلَى مَا يَتَبَيَّنُ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ بِفَتْوَانَا وَحُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى مَصُونٌ عَنْ الْجَوْرِ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ فِي نُسْخَةٍ مِنْ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَأَظُنُّهَا لِلشَّيْخِ أَنَّ إضَافَةَ الظُّلْمِ إلَى الشَّرْعِ بِوَاسِطَةِ فِعْلِ الْعَبْدِ يَجُوزُ مِنْ حَيْثُ الْإِرَادَةُ وَالتَّقْدِيرُ وَالْمَشِيئَةُ دُونَ الرِّضَاءِ وَالْأَمْرُ بِهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذِكْرُهُ مُفِيدًا، وَمُحْتَاجًا إلَيْهِ، وَأَنْ لَا يَضْمَنَ أَيْ عَدَمُ وُجُوبِ الضَّمَانِ وَسُقُوطُهُ مُضَافٌ إلَى عَجْزِنَا عَنْ الدَّرْكِ أَيْ دَرْكِ الْمِثْلِ الْوَاجِبِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ وَجَبَ عَلَى ذِمَّةِ الْمُتْلِفِ ضَمَانُ مَا أَتْلَفَهُ مُقَدَّرًا بِالْمِثْلِ فَإِنَّ إيجَابَ الْمِثْلِ مِنْ الْعَدْلِ، وَلَكِنَّا عَجَزْنَا عَنْ مَعْرِفَتِهِ فَسَقَطَ ذَلِكَ لِلْعَجْزِ، وَذَلِكَ أَيْ عَدَمُ وُجُوبِ الضَّمَانِ وَسُقُوطُهُ لِلْعَجْزِ سَائِغٌ حَسَنٌ كَسُقُوطِ وُجُوبِ الْمِثْلِ صُورَةً عِنْدَ الْعَجْزِ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ وَسُقُوطِ فَضْلِ الْوَقْتِ فِي ضَمَانِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ؛ وَلِأَنَّ الْوَصْفَ، وَهُوَ الْفَضْلُ عَلَى تَقْدِيرِ إيجَابِ الضَّمَانِ فَائِتٌ أَصْلًا بِلَا بَدَلٍ إذْ لَا يَبْقَى لِلْمُتْلِفِ

وَهَذَا كَذَلِكَ فِي عَامَّةِ الْأَحْكَامِ فَأَمَّا ضَمَانُ الْعَقْدِ فَبَابٌ خَاصٌّ فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أَوْلَى. وَأَمَّا الثَّالِثُ، وَهُوَ كَثْرَةُ الْأُصُولِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْإِشْهَارِ فِي السُّنَنِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي فِي هَذَا الْبَابِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQحَقٌّ فِيهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَا فِي الْآخِرَةِ لِوُجُوبِهِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ فَكَانَ إيجَابُهُ إبْطَالًا لَهُ أَصْلًا وَالْأَصْلُ، وَهُوَ حَقُّ الْمَظْلُومِ، وَإِنْ عَظُمَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوَصْفِ فَائِتٌ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ إيجَابِ الضَّمَانِ إلَى الضَّمَانِ فِي دَارِ الْجَزَاءِ فَكَانَ عَدَمُ إيجَابِهِ تَأْخِيرًا لَا إبْطَالًا، وَالتَّأْخِيرُ أَهْوَنُ مِنْ الْإِبْطَالِ فِي الضَّرَرِ فَكَانَ أَوْلَى مَعَ أَنَّ تَأْخِيرَ الْحَقِّ بِالْعُذْرِ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ، وَتَأْخِيرُ الْحُقُوقِ إلَى دَارِ الْآخِرَةِ أَصْلٌ فَإِنَّهَا دَارُ الْجَزَاءِ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَهَذَا أَيْ اشْتِرَاطُ الْمُمَاثَلَةِ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ كَذَلِكَ أَيْ مِثْلُ اشْتِرَاطِهَا هَاهُنَا أَوْ اشْتِرَاطُهَا هَاهُنَا مِثْلُ اشْتِرَاطِهَا فِي عَامَّةِ الْأَحْكَامِ يَعْنِي مَا اعْتَبَرْنَاهُ مِنْ رِعَايَةِ شَرْطِ الْمُمَاثَلَةِ لَيْسَ بِوَصْفٍ خَاصٍّ بَلْ هُوَ ثَابِتٌ فِي عَامَّةِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالضَّمَانِ فَأَمَّا ضَمَانُ الْعَقْدِ فَبَابٌ خَاصٌّ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِلْحَاجَةِ مُخْتَصًّا بِالْعَقْدِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فَلَا يَكُونُ ثَبَاتُهُ عَلَى الْحُكْمِ مِثْلَ ثَبَاتِ الْأَوَّلِ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَرْجَحَ. وَأَمَّا اعْتِبَارُهُ ضَمَانَ الْمَنَافِعِ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ عَنْ الْعَيْنِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إيجَابِ الْقِيمَةِ إيجَابُ زِيَادَةٍ بِالْفَتْوَى وَنِسْبَةُ جَوْرٍ إلَى الشَّرْعِ بَلْ الْوَاجِبُ قِيمَةُ عَدْلٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ لِكُلِّ عَيْنٍ مُتَقَوِّمَةٍ قِيمَةَ مِثْلٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَرُبَّمَا يُوصَلُ إلَيْهَا بِاتِّفَاقِ الْحَالِ، وَهِيَ الْوَاجِبَةُ بِالْفَتْوَى إلَّا أَنَّهُ إذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى الِاسْتِيفَاءِ وَذَلِكَ يَبْتَنِي عَلَى الْوُسْعِ قُلْنَا يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْوُسْعِ وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ أَدْنَى تَفَاوُتٍ فِي الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَطَاعُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَأَمَّا هَاهُنَا فَالتَّفَاوُتُ فِي أَصْلِ الْوَاجِبِ لَا فِي الِاسْتِيفَاءِ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الشَّاهِدُ عَلَى إبْرَاءِ الدَّيْنِ إذَا رَجَعَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ النَّقْدَ، وَلَهُ فَضْلٌ عَلَى الدَّيْنِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّهُ أَتْلَفَ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ دَيْنًا يَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ فَيَضْمَنُ دِينًا يَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ فَلَيْسَ فِيهِ إيجَابُ فَضْلٍ. وَأَمَّا مَا اُعْتُبِرَ مِنْ تَرْجِيحِ جَانِبِ الْمَظْلُومِ فَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ الظَّالِمَ لَا يُظْلَمُ، وَلَكِنْ يُنْتَصَفُ مِنْهُ مَعَ قِيَامِ حَقِّهِ فِي مِلْكِهِ فَلَوْ لَمْ يُوجَبْ الضَّمَانُ سَقَطَ حَقُّ الْمَظْلُومِ لَا بِفِعْلٍ مُضَافٍ إلَيْنَا وَعِنْدَ إيجَابِ الضَّمَانِ سَقَطَ حَقُّ الظَّالِمِ فِي الْوَصْفِ بِمَعْنًى مُضَافٍ إلَيْنَا، وَهُوَ أَنَّا نُلْزِمُهُ إذًا ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْحُكْمِ بِهِ عَلَيْهِ، وَمُرَاعَاةُ الْوَصْفِ فِي الْوُجُوبِ كَمُرَاعَاةِ الْأَصْلِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْقِصَاصِ الَّذِي يَبْتَنِي عَلَى الْمُسَاوَاةِ التَّفَاوُتَ فِي الْوَصْفِ يَمْنَعُ جَرَيَانَ الْقِصَاصِ كَالصَّحِيحَةِ مَعَ الشَّلَّاءِ، وَلَا يُنْظَرُ إلَى تَرْجِيحِ جَانِبِ الْمَظْلُومِ، وَإِلَى تَرْجِيحِ جَانِبِ الْأَصْلِ عَلَى الْوَصْفِ فَعَرَفْنَا أَنَّ قُوَّةَ الثَّبَاتِ فِيمَا قُلْنَا، كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الثَّالِثُ، وَهُوَ كَثْرَةُ الْأُصُولِ) مَعْنَى التَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الْأُصُولِ أَنْ يَشْهَدَ لِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ أَصْلَانِ أَوْ أُصُولٌ فَيُرَجَّحُ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي لَمْ يَشْهَدْ لَهُ إلَّا أَصْلٌ وَاحِدٌ مِثْلُ وَصْفِ الْمَسْحِ فِي مَسْأَلَةِ التَّثْلِيثِ فَإِنَّهُ لَمَّا شَهِدَ لِصِحَّةِ التَّيَمُّمِ وَمَسْحِ الْخُفِّ، وَمَسْحِ الْجَبِيرَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَمْ يَشْهَدْ لِصِحَّةِ وَصْفِ الْخَصْمِ، وَهُوَ الرُّكْنِيَّةُ إلَّا الْغَسْلُ تَرَجَّحَ عَلَيْهِ ثُمَّ زَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ التَّرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الْأُصُولِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ كَثْرَةَ الْأُصُولِ فِي الْقِيَاسِ بِمَنْزِلَةِ كَثْرَةِ الرُّوَاةِ فِي الْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ لَا يَتَرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ. فَكَذَا هَذَا؛ وَلِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ التَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ كُلِّ أَصْلٍ بِمَنْزِلَةِ عِلَّةٍ عَلَى حِدَةٍ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ هُوَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ هِيَ الْوَصْفُ الْمُؤْثِرُ، الْأَصْلَ الْمُسْتَنْبَطَ مِنْهُ لَكِنْ كَثْرَةُ الْأُصُولِ يُوجِبُ زِيَادَةَ تَأْكِيدٍ وَلُزُومٍ لِلْحُكْمِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ شِدَّةِ التَّأْثِيرِ وَالثَّبَاتِ عَلَى الْحُكْمِ فَيَحْدُثُ بِهَا قُوَّةٌ فِي نَفْسِ الْوَصْفِ

وَأَمَّا الرَّابِعُ فَهُوَ الْعَكْسُ الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ أَضْعَفُ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ؛ لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ لَكِنْ الْحُكْمُ إذَا تَعَلَّقَ بِوَصْفٍ ثُمَّ عُدِمَ عِنْدَ عَدَمِهِ كَانَ ذَلِكَ أَوْضَحَ لِصِحَّتِهِ فَصَلُحَ أَنْ يَدْخُلَ فِي أَقْسَامِ التَّرْجِيحِ وَذَلِكَ قَوْلُنَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ إنَّهُ مَسْحٌ، وَهُوَ يَنْعَكِسُ بِمَا لَا لَيْسَ بِمَسْحٍ وَقَوْلُهُمْ رُكْنٌ لَا يَنْعَكِسُ؛ لِأَنَّ الْمَضْمَضَةَ تَتَكَرَّرُ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا فِي الْأُخُوَّةِ: إنَّهَا قَرَابَةٌ مُحَرِّمَةٌ لِلنِّكَاحِ لِإِيجَابِ الْعِتْقِ أَحَقُّ مِنْ قَوْلِهِمْ يَجُوزُ وَضْعُ زَكَاةِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ؛ لِأَنَّ مَا قُلْنَا يَنْعَكِسُ فِي بَنِي الْأَعْمَامِ، وَقَوْلُهُمْ لَا يَنْعَكِسُ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الزَّكَاةِ فِي الْكَافِرِ لَا يَحِلُّ وَلَا يَجِبُ بِهِ عِتْقٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا فِي بَيْعِ الطَّعَامِ إنَّهُ مَبِيعُ عَيْنٍ فَلَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِمْ مَالَانِ لَوْ قُوبِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجِنْسِهِ حَرُمَ رِبَا الْفَضْلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَلِذَلِكَ صَلَحَتْ لِلتَّرْجِيحِ فَهُوَ أَيْ الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنْ التَّرْجِيحِ مِنْ جِنْسِ الِاشْتِهَارِ فِي السِّنِّ فَإِنَّ كَثْرَةَ الرُّوَاةِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ بَلْ الْخَبَرُ هُوَ الْحُجَّةُ، وَلَكِنْ يَحْدُثُ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ قُوَّةٌ وَزِيَادَةُ اتِّصَالٍ فِي نَفْسِ الْخَبَرِ فَيَصِيرُ مَشْهُورًا أَوْ مُتَوَاتِرًا فَيَتَرَجَّحُ عَلَى مَا لَيْسَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ تَرْجِيحُ الْوَصْفِ الْقَوِيِّ عَلَى مَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ لَا تَرْجِيحُ الْأُصُولِ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَيْ التَّرْجِيحُ بِكَثْرَةِ الْأُصُولِ قَرِيبٌ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي، وَهُوَ التَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ إثْبَاتٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْ بَابِ التَّرْجِيحِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَمَا مِنْ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ إذَا قُرِّرَ بِهِ فِي مَسْأَلَةٍ إلَّا وَيَتَبَيَّنُ بِهِ إمْكَانُ تَقْدِيرِ النَّوْعَيْنِ لِلْآخَرِ فِيهِ أَيْضًا، وَهَكَذَا فِي التَّقْوِيمِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ رَاجِعَةٌ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ التَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ تَأْثِيرِ الْوَصْفِ إلَّا أَنَّ الْجِهَاتِ مُخْتَلِفَةٌ فَتَعَدُّدُهَا بِاعْتِبَارِ الْجِهَاتِ فَالتَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ التَّأْثِيرِ بِالنَّظَرِ إلَى نَفْسِ الْوَصْفِ، وَالتَّرْجِيحُ بِالثَّبَاتِ بِالنَّظَرِ إلَى الْحُكْمِ، وَالتَّرْجِيحُ بِكَثْرَةِ الْأُصُولِ بِالنَّظَرِ إلَى الْأَصْلِ، وَذَكَرَ فِي بَعْضِ فَوَائِدِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا الْقِسْمِ وَالْقِسْمِ الثَّانِي أَنَّ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي أُخِذَ التَّرْجِيحُ مِنْ قُوَّةِ هَذَا الْوَصْفِ، وَفِي هَذَا أُخِذَ مِنْ نَظَائِرِهِ، وَلَا يَكُونُ هَذَا تَرْجِيحَ الْقِيَاسِ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا لَا يَجُوزُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ قِيَاسٍ عِلَّةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ الْقِيَاسُ وَاحِدٌ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ إلَّا أَنَّ أُصُولَهُ كَثِيرَةٌ. قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الرَّابِعُ فَهُوَ الْعَكْسُ) اُخْتُلِفَ فِي التَّرْجِيحِ بِالْعَكْسِ فَعِنْدَ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا عِبْرَةَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ أَيْ لَا يُوجِبُ عَدَمُ الْعِلَّةِ عَدَمَ الْحُكْمِ وَلَا وُجُودَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَلَا يَصْلُحُ مُرَجِّحًا؛ لِأَنَّ الرُّجْحَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ. وَمُخْتَارُ عَامَّةِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ صَالِحٌ لِلتَّرْجِيحِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْفِ الَّذِي جُعِلَ حُجَّةً دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِ الْحُكْمِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ وَوَكَادَةِ تَعَلُّقِهِ بِهِ فَصَلُحَ مُرَجِّحًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَكِنَّهُ تَرْجِيحٌ ضَعِيفٌ لِاسْتِلْزَامِهِ إضَافَةَ الرُّجْحَانِ إلَى الْعَدَمِ الَّذِي لَيْسَ بِشَيْءٍ كَمَا قَالَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ، وَيَظْهَرُ ثَمَرَتُهُ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ فَإِنَّهُ إذَا عَارَضَ هَذَا النَّوْعَ تَرْجِيحٌ آخَرُ مِنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ كَانَ ذَلِكَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ كَالتَّرْجِيحِ فِي الذَّاتِ عَلَى التَّرْجِيحِ فِي الْحَالِ، وَهُوَ يَنْعَكِسُ بِمَا لَيْسَ بِمَسْحٍ أَيْ يَنْعَدِمُ الْحُكْمُ الْمُرَتَّبُ عَلَى الْمَسْحِ، وَهُوَ سُقُوطُ التَّكْرَارِ بِعَدَمِ وَصْفِ الْمَسْحِ كَمَا فِي غَسْلِ الْوَجْهِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ فَإِنَّهُ يُسَنُّ فِيهِ التَّكْرَارُ، وَكَذَا فِي كُلِّ مَا يُعْقَلُ تَطْهِيرًا يُسَنُّ فِيهِ التَّكْرَارُ أَيْضًا. وَكَذَلِكَ أَيْ، وَمِثْلُ قَوْلِنَا فِي الْمَسْحِ قَوْلُنَا فِيمَا إذَا مَلَكَ الرَّجُلُ أَخَاهُ أَوْ أُخْتَهُ إنَّ قَرَابَةَ الْأُخُوَّةِ مُحَرِّمَةٌ لِلنِّكَاحِ الَّذِي هُوَ اسْتِدْلَالٌ فَيُوجِبُ الْعِتْقَ كَقَرَابَةِ الْوِلَادَةِ. أَحَقُّ مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ هَذِهِ قَرَابَةٌ يَجُوزُ وَضْعُ زَكَاةِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ فَلَا تُوجِبُ الْعِتْقَ كَقَرَابَةِ بَنِي الْأَعْمَامِ؛ لِأَنَّ مَا قُلْنَا يَنْعَكِسُ فِي بَنِي الْأَعْمَامِ فَإِنَّ قَرَابَتَهُمْ لَمَّا لَمْ تُوجِبْ حُرْمَةَ النِّكَاحِ لَمْ تُوجِبْ الْعِتْقَ. وَقَوْلُهُمْ لَا يَنْعَكِسُ فَإِنَّ الْوَصْفَ الَّذِي ذَكَرُوهُ، وَهُوَ جَوَازُ وَضْعِ الزَّكَاةِ قَدْ انْعَدَمَ فِي الْكَافِرِ، وَلَمْ يَنْعَدِمْ الْحُكْمُ الْمُرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ عَدَمُ الْعِتْقِ فَإِنَّ الْكَافِرَ لَا يُعْتَقُ عَلَى الْمُسْلِمِ إذَا مَلَكَهُ. وَكَذَلِكَ أَيْ، وَكَقَوْلِنَا فِيمَا تَقَدَّمَ قَوْلُنَا فِي بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ إلَى آخِرِهِ. إذَا بَاعَ طَعَامًا بِعَيْنِهِ بِطَعَامٍ بِعَيْنِهِ لَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ أَيْ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَدَلَيْنِ مَبِيعُ عَيْنٍ فَلَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ كَمَا إذَا بَاعَ ثَوْبًا بِثَوْبٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَيْنِ مَالَانِ لَوْ قُوبِلَ

[القسم الثالث بيان المخلص في تعارض وجوه الترجيح]

لِأَنَّهُ يَنْعَكِسُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ وَرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ وَلَا يَنْعَكِسُ تَعْلِيلُهُ؛ لِأَنَّ بَيْعَ السَّلَمِ لَمْ يَشْمَلْ أَمْوَالَ الرِّبَا، وَمَعَ ذَلِكَ وَجَبَ فِيهِ الْقَبْضُ احْتِرَازًا عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْحُدُوثَ مَوْجُودٌ بِصُورَتِهِ، وَمَعْنَاهُ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ وُجُودِهِ، وَيُقَوَّمُ بِهِ أَحْوَالُهُ الْحَادِثَةُ عَلَى وُجُودِهِ فَإِذَا تَعَارَضَ ضَرْبَانِ تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا فِي الذَّاتِ وَالثَّانِي فِي الْحَالِ ـــــــــــــــــــــــــــــQكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجِنْسِهِ يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فَيُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ فِي بَيْعِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ثُمَّ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَنْعَكِسُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ وَرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ؛ لِأَنَّهُ أَيْ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنٌ بِدَيْنٍ يَعْنِي قَدْ عُدِمَتْ الْعَيْنِيَّةُ فِي هَذَيْنِ الْعَقْدَيْنِ فَعُدِمَ الْحُكْمُ الْمُرَتَّبُ عَلَيْهَا، وَهُوَ عَدَمُ اشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الصَّرْفِ النُّقُودُ، وَهِيَ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ فَكَانَ دَيْنًا بِدَيْنٍ. وَكَذَا الْمُسْلَمُ فِيهِ دَيْنٌ وَرَأْسُ الْمَالِ فِي الْغَالِبِ مِنْ النُّقُودِ أَيْضًا فَكَانَ دَيْنًا بِدَيْنٍ فَشُرِطَ فِيهِمَا الْقَبْضُ فَثَبَتَ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مُنْعَكِسٌ، وَلَا يَنْعَكِسُ تَعْلِيلُهُ أَيْ تَعْلِيلُ الْخَصْمِ؛ لِأَنَّ بَيْعَ السَّلَمِ لَمْ يَشْمَلْ أَمْوَالَ الرِّبَا أَيْ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَيْهَا إنْ جَازَ حَمْلُ الشُّمُولِ عَلَى الِاقْتِصَارِ يَعْنِي كَمَا يَكُونُ السَّلَمُ فِي مَالِ الرِّبَا بِأَنْ أَسْلَمَ دَرَاهِمَ فِي حِنْطَةٍ يَكُونُ فِي غَيْرِهِ بِأَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ ثَوْبًا أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّ بَيْعَ السَّلَمِ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُشْتَمِلٍ عَلَى أَمْوَالِ الرِّبَا بِأَنْ أَسْلَمَ ثَوْبًا فِي عَدَدٍ مُتَقَارِبٍ. وَعِبَارَةُ التَّقْوِيمِ أَوْضَحُ مِنْ عِبَارَةِ الْكِتَابِ، وَهِيَ وَعِلَّتُهُمْ لَا تُوجِبُ الْعَدَمَ لِعَدَمِهَا فَإِنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي الْمَجْلِسِ فِي بَابِ السَّلَمِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى أَمْوَالِ الرِّبَا، وَمَعَ ذَلِكَ أَيْ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُشْتَمِلٍ عَلَى أَمْوَالِ الرِّبَا وَجَبَ فِيهِ الْقَبْضُ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ النَّسِيئَةِ بِالنَّسِيئَةِ فَثَبَتَ أَنَّ مَا ذَكَرُوا غَيْرُ مُنْعَكِسٍ بِبَقَاءِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْفِ فَإِنْ قِيلَ مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْعَكِسًا فَهُوَ مُطَّرِدٌ، وَمَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ بِمُطَّرِدٍ فَإِنَّ بَيْعَ إنَاءٌ مِنْ فِضَّةٍ بِإِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ يُوجِبُ الْقَبْضَ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِنْ كَانَا عَيْنَيْنِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ ثَوْبًا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أَوْلَى قُلْنَا الْأَصْلُ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ وُرُودُهُمَا عَلَى الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَرُبَّمَا يَقَعُ عَلَى عَيْنٍ بِدَيْنٍ وَيَتَعَذَّرُ عَلَى عَامَّةِ التُّجَّارِ مَعْرِفَةُ مَا يَتَعَيَّنُ وَمَا لَا يَتَعَيَّنُ فَأُقِيمَ اسْمُ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ مَقَامَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَعُلِّقَ وُجُوبُ الْقَبْضِ بِهِمَا تَيْسِيرًا عَلَى النَّاسِ وَوَجَبَ الْقَبْضُ بِهِمَا سَوَاءٌ وَرَدَا عَلَى دَيْنٍ بِدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ بِعَيْنٍ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ فِي حُكْمِ الدَّيْنِ تَقْدِيرًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ إذَا أُقِيمَ مَقَامَ شَيْءٍ فَالْمَنْظُورُ نَفْسُهُ لَا الشَّيْءُ الَّذِي هُوَ أُقِيمَ هُوَ مَقَامَهُ كَالنَّوْمِ لَمَّا أُقِيمَ مَقَامَ الْحَدَثِ عِنْدَ الِاسْتِرْخَاءِ، وَالسَّفَرُ لَمَّا أُقِيمَ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ لَمْ يُتَلَفَّتْ بَعْدُ إلَى حَقِيقَةِ الْحَدَثِ وَالْمَشَقَّةِ. فَإِنْ قِيلَ مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْعَكِسًا مُوَافِقٌ لِلنَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ يَدٌ بِيَدٍ» أَيْ قَبْضٌ بِقَبْضٍ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَبْضٌ بِقَبْضٍ. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ» وَمَا ذَكَرْتُمْ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ فَكَانَ مَرْدُودًا. قُلْنَا: قَدْ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ يَدٌ بِيَدٍ عَيْنٌ بِعَيْنٍ نَقْدٌ بِنَقْدٍ يُقَالُ لِمَا لَيْسَ بِنَسِيئَةٍ بَيْعُ يَدٍ بِيَدٍ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْيَدَ آلَةُ التَّعْيِينِ كَالْإِشَارَةِ وَالْإِحْضَارِ كَمَا هِيَ آلَةُ الْقَبْضِ، وَكَذَلِكَ الْقَبْضُ بِالْيَدِ لِلتَّعْيِينِ فَيَجُوزُ أَنْ يُعَبِّرَ بِالْيَدِ وَالْقَبْضِ عَنْهُ فَيَحْمِلُهُ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَزِيدَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وَقَوْلُهُ جَلَّ جَلَالُهُ {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29] شَرْطًا لَيْسَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّسْخِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ. وَلَا يُقَالُ قَدْ زِدْتُمْ اشْتِرَاطَ الْعَيْنِيَّةِ عَلَى الْكِتَابِ بِنَهْيِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ فَزِيدُوا الْقَبْضَ بِهَذَا النَّصِّ أَيْضًا؛ لِأَنَّا نَقُولُ انْضَمَّ الْإِجْمَاعُ، وَقَبُولُ الْأُمَّةِ إلَى هَذَا الْخَبَرِ فَيَجُوزُ الزِّيَادَةُ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي خَبَرِ الْقَبْضِ فَافْتَرَقَا. [الْقِسْمُ الثَّالِثُ بَيَانُ الْمُخَلِّصِ فِي تَعَارُضِ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ] قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ) يَعْنِي مِنْ أَقْسَامِ أَوَّلِ الْبَابِ، وَهُوَ بَيَانُ الْمُخَلِّصِ فِي تَعَارُضِ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ فَإِنَّ التَّرْجِيحَيْنِ إذَا تَعَارَضَا يُحْتَاجُ إلَى تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ دَفْعًا لِلتَّعَارُضِ، أَحَدُهُمَا فِي الذَّاتِ أَيْ بِمَعْنًى رَاجِعٍ إلَى الذَّاتِ

عَلَى مُضَادَّةِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ كَانَ الرُّجْحَانُ فِي الذَّاتِ أَحَقَّ مِنْهُ فِي الْحَالِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الذَّاتَ أَسْبَقُ مِنْ الْحَالِ فَيَصِيرُ كَاجْتِهَادٍ أُمْضِيَ حُكْمُهُ لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ بِغَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ الْحَالَ قَائِمَةٌ فَلَوْ اعْتَبَرْنَا عَلَى مُضَادَّةِ الْأَوَّلِ كَانَ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ مُبْطِلًا لَهُ، وَالتَّبَعُ لَا يَصْلُحُ مُبْطِلًا لِلْأَصْلِ نَاسِخًا لَهُ، وَهَذَا عِنْدَنَا وَالشَّافِعِيُّ خَفِيَ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدُّ، وَهُوَ مَعْذُورٌ فِي مَزَلِّ الْقَدَمِ، وَالْمُصِيبُ فِي مَرَاكِزِ الزَّلَلِ مَأْجُورٌ. وَبَيَانُهُ فِيمَا هُوَ مَوْضِعُ الْإِجْمَاعِ قَوْلُنَا فِي ابْنِ ابْنِ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَنَّهُ أَحَقُّ بِالتَّعْصِيبِ مِنْ الْعَمِّ؛ لِأَنَّ هَذَا رَاجِحٌ فِي ذَاتِ الْقَرَابَةِ، وَالْعَمُّ رَاجِحٌ بِخَالَةٍ، وَكَذَلِكَ الْعَمَّةُ لِأُمٍّ مَعَ الْخَالِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَحَقُّ بِالثُّلُثَيْنِ وَالثُّلُثُ لِلْخَالِ؛ لِأَنَّهَا رَاجِحَةٌ فِي ذَاتِ الْقَرَابَةِ، وَالْخَالُ رَاجِحٌ بِخَالَةٍ وَابْنِ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَحَقُّ مِنْ ابْنِ الْأَخِ لِأَبٍ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الذَّاتِ فَيَتَرَجَّحُ بِالْخَالِ وَابْنُ ابْنِ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ لَا يَرِثُ مَعَ ابْنِ الْأَخِ لِأَبٍ لِلرُّجْحَانِ فِي الذَّاتِ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالثَّانِي فِي الْحَالِ أَيْ بِوَصْفٍ فِي الذَّاتِ عَلَى مُضَادَّةِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَيْ عَلَى مُخَالَفَتِهِ إذْ لَوْ كَانَ عَلَى مُوَافَقَتِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّرْجِيحِ ثَانِيًا: أَحَدُهُمَا أَنَّ الذَّاتَ أَسْبَقُ وُجُودًا مِنْ الْحَالِ زَمَانًا أَوْ رُتْبَةً فَبَعْدَمَا وَقَعَ التَّرْجِيحُ لِمَعْنًى فِي الذَّاتِ لَا يَتَغَيَّرُ لِمَا حَدَثَ مِنْ مَعْنًى فِي حَالِ الْآخَرِ بَعْدَ ذَلِكَ كَاجْتِهَادٍ أَمْضَى حُكْمَهُ لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ بِمَا يَحْدُثُ مِنْ اجْتِهَادٍ آخَرَ بَعْدَهُ، وَإِذَا اتَّصَلَ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ الْمَسْتُورِينَ بِالنَّسَبِ أَوْ النِّكَاحِ لِرَجُلٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ لِآخَرَ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ. وَلَا يُقَالُ الذَّاتُ أَسْبَقُ عَلَى حَالِ نَفْسِهَا لَا عَلَى حَالِ ذَاتٍ أُخْرَى وَتَرْجِيحُ الْخَصْمِ يَقَعُ بِحَالِ ذَاتٍ أُخْرَى فَيَتَسَاوَيَانِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْمَنْظُورُ كَوْنُ الذَّاتِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُقَدَّمَةً عَلَى الْحَالِ عَلَى أَنَّ التَّرْجِيحَ بِالْحَالِ وَبِالذَّاتِ قَدْ يَقَعَانِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ التَّبْيِيضِ رَجَّحْنَا بِالْكَثْرَةِ، وَهِيَ رَاجِعَةٌ إلَى ذَاتِ الصَّوْمِ، وَرَجَّحَ الْخَصْمُ بِالْفَسَادِ احْتِيَاطًا وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى حَالِ الصَّوْمِ أَيْضًا؛ وَلِأَنَّ الْحَالَ قَائِمَةٌ بِالذَّاتِ. بَيَانُ الْوَجْهِ الثَّانِي أَيْ الْحَالُ قَائِمَةٌ بِغَيْرِهَا، وَمَا هُوَ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ لَهُ حُكْمُ الْعَدَمِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِعَدَمِ قِيَامِهِ وَبَقَائِهِ بِنَفْسِهِ فَكَانَتْ الْحَالُ مَوْجُودَةً مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ تَابِعَةً لِغَيْرِهَا وَالذَّاتُ مَوْجُودَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَأَصْلٌ بِنَفْسِهَا فَكَانَ التَّرْجِيحُ بِهَا أَوْلَى وَبَعْدَمَا صَارَ الدَّلِيلُ رَاجِحًا بِاعْتِبَارِ الذَّاتِ لَا يُجْعَلُ الْآخَرُ رَاجِحًا بِاعْتِبَارِ الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ نَسْخًا، وَإِبْطَالًا لِمَا هُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ بِمَا هُوَ تَبَعٌ لِغَيْرِهِ، وَالتَّبَعُ لِغَيْرِهِ لَا يَصْلُحُ مُبْطِلًا لِمَا هُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ وَنَاسِخًا لَهُ وَقَدْ يَرِدُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ تَبَعَ الشَّيْءِ لَا يَصْلُحُ مُبْطِلًا لِذَاتِ الشَّيْءِ، وَلَكِنَّهُ يَصْلُحُ مُبْطِلًا لِشَيْءٍ آخَرَ. وَالْجَوَابُ مِثْلُ الْأَوَّلِ، وَهَذَا عِنْدَنَا أَيْ هَذَا النَّوْعُ مِنْ التَّرْجِيحِ مَذْهَبُنَا، وَالشَّافِعِيُّ وَإِنْ كَانَ لَا يُخَالِفُنَا فِي هَذَا الْأَصْلِ، وَلَكِنْ خَفِيَ عَلَيْهِ هَذَا الْأَصْلُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، وَهُوَ مَعْذُورٌ فِي مَزَلِّ الْقَدَمِ فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا أَخْطَأَ فِي مَوْضِعِ الْخَفَاءِ كَانَ مَعْذُورًا، وَإِنَّمَا الْمَأْخُوذُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ فِي مَوْضِعِ الظُّهُورِ، وَالْمُصِيبُ فِي مَرَاكِزِ الزَّلَلِ مَأْجُورٌ يَعْنِي، وَمَنْ أَصَابَ الْحَقَّ فِي مَوَاضِعَ تَزِلُّ فِيهَا أَقْدَامُ الْخَوَاطِرِ فَهُوَ مَأْجُورٌ أَرَادَ بِهِ أَبَا حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُمْ أَمْعَنُوا فِي طَلَبِ الْحَقِّ فَأَصَابُوا حَقِيقَةَ الْمَعْنَى فَلَمْ تَزِلَّ أَقْدَامُهُمْ عَنْ الصَّوَابِ. وَبَيَانُهُ أَيْ بَيَانُ رُجْحَانِ التَّرْجِيحِ بِالذَّاتِ عَلَى التَّرْجِيحِ بِالْحَالِ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا قَوْلُنَا فِي ابْنِ ابْنِ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَنَّهُ أَحَقُّ بِالتَّعْصِيبِ مِنْ الْعَمِّ؛ لِأَنَّ هَذَا أَيْ ابْنَ ابْنِ الْأَخِ رَاجِحٌ فِي ذَاتِ الْقَرَابَةِ فَإِنَّ قَرَابَتَهُ قَرَابَةُ أُخُوَّةٍ، وَهِيَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْعُمُومَةِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الْأَخَ مُجَاوِرُهُ فِي الصُّلْبِ وَالْعَمُّ مُجَاوِرُ أَبِيهِ، وَالْعَمُّ رَاجِحٌ بِحَالَةٍ، وَهِيَ زِيَادَةُ الْقُرْبِ؛ لِأَنَّهُ يَتَّصِلُ بِوَاسِطَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْأَبُ وَابْنُ ابْنِ الْأَخِ بِوَاسِطَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْعَمَّةُ لِأُمٍّ مَعَ الْخَالِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَحَقُّ بِالثُّلُثَيْنِ مِنْ الْخَالِ، وَالثُّلُثُ لِلْخَالِ؛ لِأَنَّ الْعَمَّةَ رَاجِحَةٌ فِي ذَاتِ الْقَرَابَةِ لِإِدْلَائِهَا إلَى الْمَيِّتِ بِالْأَبِ وَالْخَالُ رَاجِحٌ بِحَالَةٍ، وَهِيَ الذُّكُورَةُ، وَقُوَّةُ الْقَرَابَةِ فَإِنَّهُ يَتَّصِلُ بِأُمِّ الْمَيِّتِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَالْعَمَّةُ مُتَّصِلَةٌ بِأَبِيهِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الذَّاتِ أَيْ ذَاتِ الْقَرَابَةِ فَإِنَّ الْكُلَّ قَرَابَةُ أُخُوَّةٍ فَيَتَرَجَّحُ أَيْ الْأَوَّلُ بِالْحَالِ، وَهِيَ زِيَادَةُ الِاتِّصَالِ لِأَحَدِهِمَا. وَابْنُ ابْنِ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ لَا يَرِثُ مَعَ ابْنِ الْأَخِ لِأَبٍ لِلرُّجْحَانِ فِي الذَّاتِ يَعْنِي أَنَّهُمَا، وَإِنْ اسْتَوَيَا فِي ذَاتِ الْقَرَابَةِ؛ لِأَنَّ مَنْزِلَهُمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ الْأُخُوَّةُ لَكِنْ لِأَحَدِهِمَا، وَهُوَ ابْنُ الْأَخِ لِأَبٍ مَعْنًى مُرَجِّحٌ فِي ذَاتِهِ، وَهُوَ الْقُرْبُ فَإِنَّ نَفْسَهُ أَقْرَبُ إلَى الْمَيِّتِ بِوَاسِطَةٍ وَلِلْآخَرِ

وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي مَسَائِلِ صَنْعَةِ الْغَاصِبِ فِي الْخِيَاطَةِ وَالصِّيَاغَةِ وَالطَّبْخِ وَالشَّيِّ وَنَحْوِهَا إنَّهُ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ قَائِمَةٌ بِذَاتِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَا يُضَافُ حُدُوثُهَا إلَى صَاحِبِ الْعَيْنِ وَأَمَّا الْعَيْنُ فَهَالِكَةٌ مِنْ وَجْهٍ، وَهِيَ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ مُضَافٌ إلَى صَنْعَةِ الْغَاصِبِ فَصَارَتْ الصَّنْعَةُ رَاجِحَةً فِي الْوُجُودِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - صَاحِبُ الْأَصْلِ أَحَقُّ؛ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ بَاقِيَةٌ بِالْمَصْنُوعِ تَابِعَةٌ لَهُ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا قُلْنَا أَنَّ الْبَقَاءَ حَالٌّ بَعْدَ الْوُجُودِ فَإِذَا تَعَارَضَا كَانَ الْوُجُودُ أَحَقَّ مِنْ الْبَقَاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَعْنًى مُرَجِّحٌ يَرْجِعُ إلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ زِيَادَةُ الِاتِّصَالِ لِجَدِّهِ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَحَقَّ بِالْعُصُوبَةِ. وَمِثْلُهُ أَيْ، وَمِثْلُ التَّرْجِيحِ الْمَذْكُورِ فِي الْفَرَائِضِ كَثِيرٌ فَإِنَّ ابْنَ الْعَمِّ لِأَبٍ أَوْلَى مِنْ ابْنِ ابْنِ الْعَمِّ لِأَبٍ وَأُمٍّ لِمَا قُلْنَا وَالْجَدُّ، وَإِنْ عَلَا أَوْلَى مِنْ الْعَمِّ وَبِنْتُ الْعَمَّةِ، وَإِنْ سَلَفَتْ أَوْلَى بِالثُّلُثَيْنِ مِنْ الْخَالِ وَالْخَالَةِ لِلرُّجْحَانِ فِي ذَاتِ الْقَرَابَةِ، وَالْعَمَّةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْلَى مِنْ الْعَمَّةِ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ، وَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الذَّاتِ لِلرُّجْحَانِ فِي الْحَالِ، وَقِسْ عَلَى هَذَا. قَوْلُهُ: (وَعَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى أَنَّ التَّرْجِيحَ بِالذَّاتِ أَقْوَى مِنْ التَّرْجِيحِ بِالْحَالِ عِنْدَ تَعَارُضِ التَّرْجِيحَيْنِ قَالَ أَصْحَابُنَا فِي مَسَائِلِ صَنْعَةِ الْغَاصِبِ بِأَنْ أَحْدَثَ فِي الْمَغْصُوبِ صَنْعَةً مُتَقَوِّمَةً، وَهِيَ مَا تَزْدَادُ قِيمَةُ الْعَيْنِ بِهِ فِي الْخِيَاطَةِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي مَسَائِلِ صَنْعَةِ الْغَاصِبِ مَعَ تَكْرِيرِ الْعَامِلِ وَتَفْسِيرٌ لَهُ أَيْ بِأَنْ غَصَبَ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ قَمِيصًا وَخَاطَهُ وَالصِّيَاغَةِ بِأَنْ غَصَبَ نُقْرَةً فَصَاغَهَا حُلِيًّا أَوْ ضَرَبَهَا دَرَاهِمَ وَالطَّبْخِ، وَالشَّيِّ بِأَنْ غَصَبَ طَعَامًا فَطَبَخَهُ أَوْ شَاةً فَذَبَحَهَا وَشَوَاهَا وَنَحْوِهَا بِأَنْ غَصَبَ سَاجَةً أَوْ أَجُرَّةً فَأَدْخَلَهَا فِي بِنَائِهِ أَوْ حَدِيدًا فَضَرَبَهُ سَيْفًا أَوْ صُفْرًا فَضَرَبَهُ آنِيَةً أَنَّهُ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ يَعْنِي مِنْ الْعَيْنِ إلَى الْقِيمَةِ لَا أَنَّهُ يَنْقَطِعُ أَصْلًا، وَهَذَا الْجَوَابُ فِي مَسْأَلَةِ الصِّيَاغَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَلَا يَنْقَطِعُ بِالصِّيَاغَةِ حَقُّ الْمَالِكِ مِنْ الْعَيْنِ لِمَا سَنُبَيِّنُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَصْفَ الْحَادِثَ فِي الْمَغْصُوبِ بِصَنْعَةِ الْغَاصِبِ مُتَقَوِّمٌ، وَهُوَ حَقُّ الْغَاصِبِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ لَا يَأْخُذُ الْعَيْنَ إلَّا وَيُعْطِيهِ مَا زَادَتْ الصَّنْعَةُ فِيهَا مِنْ الْخِيَاطَةِ وَالشَّيِّ، وَالْأَصْلُ مُتَقَوِّمٌ حَقًّا لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَلَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا فِي الشَّيِّ وَالطَّبْخِ وَنَحْوِهِمَا أَصْلًا، وَفِي الْخِيَاطَةِ وَنَحْوِهَا إلَّا بِنَقْضِهَا، وَالنَّقْضُ إبْطَالٌ لِحَقِّ الْغَاصِبِ وَحَقُّهُ مُحْتَرَمٌ لَا يَجُوزُ الْإِبْطَالُ عَلَيْهِ كَحَقِّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ الشَّرِكَةِ لِاخْتِلَافِ الْمِلْكَيْنِ جِنْسًا فَلَا بُدَّ مِنْ تَمَلُّكِ أَحَدِهِمَا بِالْآخِرِ بِالْقِيمَةِ. فَقُلْنَا: حَقُّ الْغَاصِبِ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الصَّنْعَةِ قَائِمٌ؛ لِأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِبَقَائِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي حَدَثَتْ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ قَائِمَةٌ بِذَاتِهَا لَا الْقِيَامُ بِالذَّاتِ الَّذِي يَكُونُ لِلْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّنْعَةِ أَثَرُهَا، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْقِيَامِ بِمَحَلٍّ، وَلَا يُضَافُ حُدُوثُهَا إلَى صَاحِبِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ فِي الثَّوْبِ شَيْئًا، وَالثَّوْبُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ أَيْضًا لِصَيْرُورَتِهِ مَخِيطًا فَثَبَتَ أَنَّهُ مُضَافٌ إلَى فِعْلِ الْغَاصِبِ لَا غَيْرُ، وَكَأَنَّهُ احْتِرَازٌ عَنْ الزَّوَائِدِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ الْعَيْنِ فَإِنَّهَا حَقُّ الْمَالِكِ لِتَوَلُّدِهَا مِنْ مِلْكِهِ، وَعَمَّا إذَا هَبَّتْ الرِّيحُ بِحِنْطَةٍ مَغْصُوبَةٍ، وَأَلْقَتْهَا فِي طَاحُونَةٍ فَطَحَنَتْهَا أَوْ أَلْقَتْهَا فِي أَرْضِ الْغَاصِبِ فَنَبَتَتْ حَيْثُ لَمْ يُقْطَعْ بِهِ حَقُّ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ صَيْرُورَتَهَا دَقِيقًا وَزَرْعًا لَمَّا لَمْ يَكُنْ بِفِعْلٍ أَحَدٍ، وَفِعْلُ الطَّاحُونَةِ وَالرِّيحِ لَا يَصْلُحُ لِلْإِضَافَةِ إلَيْهِ بَقِيَتْ مُضَافَةً إلَى الْحِنْطَةِ فَيَصِيرُ مِلْكًا لِصَاحِبِ الْحِنْطَةِ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْأَسْرَارِ. وَحَقُّ الْمَالِكِ فِي الْمَغْصُوبِ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ هَالِكٌ مِنْ وَجْهٍ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الثَّوْبِ، وَلَمْ يَبْقَ صُورَةً، وَمَعْنًى مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ ثَوْبًا بِالتَّرْكِيبِ، وَقَدْ زَالَ بِالْقَطْعِ مِنْ وَجْهٍ، وَبَعْضُ الْمَنَافِعِ الْقَائِمَةِ بِهِ زَالَتْ بِالْقَطْعِ وَحَدَثَ بِالْخِيَاطَةِ مَا لَمْ يَكُنْ، وَكَذَا حَدَثَ بِفِعْلِ الشَّيِّ صِفَةُ النُّضْجِ، وَهِيَ مُتَقَوِّمَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَزِيدُ فِي قِيمَةِ اللَّحْمِ وَاللَّحْمُ يَصِيرُ بِهَا مُسْتَهْلَكًا صُورَةً، وَمَعْنًى مِنْ وَجْهٍ. أَمَّا الصُّورَةُ فَظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّهُ كَانَ صَالِحًا لِوُجُودِهِ مِنْ الْأَغْذِيَةِ وَالْآنَ لَمْ يَصْلُحْ إلَّا لِمَا آلَ إلَيْهِ

وَكَذَلِكَ عَلَى هَذَا قُلْنَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ وَكُلِّ صَوْمِ عَيْنٍ إنَّهُ يَجُوزُ بِالنِّيَّةِ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ؛ لِأَنَّهُ رُكْنٌ وَاحِدٌ تَعَلَّقَ جَوَازُهُ بِالْعَزِيمَةِ فَإِذَا وُجِدَتْ الْعَزِيمَةُ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ تَعَارَضَا فَرَجَّحْنَا بِالْكَثْرَةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَلْ تَرَجَّحَ الْفَسَادُ احْتِيَاطًا فِي الْعِبَادَةِ وَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا يُؤَدِّي إلَى نَسْخِ الذَّاتِ بِالْحَالِ. وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رَجُلٍ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ مَضَى مِنْ حَوْلِهَا عَشَرَةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ مَلَكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ثُمَّ تَمَّ حَوْلُ الْإِبِلِ فَزَكَّاهَا ثُمَّ بَاعَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَنَّهُ لَا يَضُمَّهَا إلَى الْأَلْفِ الَّتِي عِنْدَهُ لَكِنَّهُ يَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ فَإِنْ وُهِبَتْ لَهُ أَلْفٌ أُخْرَى ضَمَّهَا إلَى الْأَلْفِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ فَإِنْ تَصَرَّفَ فِي ثَمَنِ الْإِبِلِ فَرَبِحَ أَلْفًا ضَمَّ الرِّبْحَ إلَى أَصْلِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعُدَ عَنْ الْحَوْلِ وَلَا يُعْتَبَرُ الرُّجْحَانُ بِالِاحْتِيَاطِ فِي الزَّكَاةِ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْأَلْفَ الرِّبْحَ مُتَّصِلٌ بِأَصْلِهِ ذَاتًا مُتَّصِلٌ بِالْأَلْفِ الْأُخْرَى حَالًا، وَهِيَ الْقُرْبُ إلَى مُضِيِّ الْحَوْلِ، وَالذَّاتُ أَحَقُّ مِنْ الْحَالِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ أَمْثِلَةً مَعْدُودَةً لِتَكُونَ أَصْلًا لِغَيْرِهَا مِنْ الْفَرْعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQوَكَذَا الطَّبْخُ بِالْمَاءِ فَثَبَتَ أَنَّ الْعَيْنَ هَالِكَةٌ مِنْ وَجْهٍ وَلِهَذَا كَانَ لِلْمَالِكِ حَقُّ التَّرْكِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَتَضْمِينُ كُلِّ الْقِيمَةِ، وَهِيَ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ أَيْ الْوَجْهِ الَّذِي صَارَتْ هَالِكَةً تُضَافُ إلَى صَنْعَةِ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ مَتَى أَوْجَبَتْ تَبْدِيلَ الْمَحَلِّ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ يَصِيرُ وُجُودُهُ مُضَافًا إلَى الْفِعْلِ كَمَا إذَا غَصَبَ حِنْطَةً فَزَرَعَهَا فَنَبَتَتْ أَوْ طَحَنَهَا أَوْ بَيْضًا فَحَضَنَهَا تَحْتَ دَجَاجَةٍ حَتَّى أَفْرَخَتْ أَوْ تَالَّةً فَأَنْبَتَهَا حَتَّى غُرِسَتْ فَإِذَا تَغَيَّرَ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ يَصِيرُ الْوُجُودُ فِي حَقِّ الْمَالِكِ مُضَافًا إلَى الْفِعْلِ مِنْ وَجْهٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الثَّوْبَ تَبَدَّلَ مِنْ وَجْهٍ صُورَةً وَمَعْنًى، فَمِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ يَصِيرُ مُضَافًا إلَى فِعْلِ الْغَاصِبِ وُجُودًا، وَالصَّنْعَةُ وُجِدَتْ بِفِعْلِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَيْسَ لَهَا حُكْمُ الْوُجُودِ بِالثَّوْبِ، وَالْوُجُودُ مَعْنًى رَاجِعٌ إلَى الذَّاتِ فَرَجَّحْنَا الصَّنْعَةَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا فِي الْوُجُودِ رَاجِحَةٌ لِكَوْنِهَا مَوْجُودَةً مِنْ وَجْهٍ، وَأَنَّ وُجُودَ الثَّوْبِ مِنْ وَجْهٍ مُضَافٌ إلَيْهَا، وَهِيَ غَيْرُ مُضَافَةٍ إلَيْهِ كَذَا فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا مَا إذَا صَبَغَ الثَّوْبَ أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ أَوْ قَطَعَهُ قَبَاءً وَلَمْ يُخْطِهِ أَوْ ذَبَحَ الشَّاةَ وَسَلَخَهَا، وَأَرَّبَهَا، وَلَمْ يَشْوِهَا حَيْثُ لَمْ يَنْقَطِعْ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ حَقُّ الْمَالِكِ مَعَ وُجُودِ صَنْعَةِ الْغَاصِبِ وَتَغَيَّرَ الْمَغْصُوبُ بِهَا؛ لِأَنَّا نَقُولُ إنْ كَانَ حَقُّ الْغَاصِبِ فِي صُورَةِ الصُّنْعِ قَائِمًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَحَقُّ الْمَالِكِ فِي الثَّوْبِ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفُتْ الِاسْمُ وَالْهَيْئَةُ، وَلَا الْمَعَانِي فَإِنَّ الثَّوْبَ الْأَحْمَرَ يَصْلُحُ لِجَمِيعِ مَا يَصْلُحُ لَهُ الْأَبْيَضُ إلَّا أَنَّ النَّاسَ مَا اعْتَادُوا الِانْتِفَاعَ بِهِ إلَّا بِجِهَةٍ مَخْصُوصَةٍ فَأَمَّا صَلَاحِيَّتُهُ لِجَمِيعِ الِانْتِفَاعَاتِ فَعَلَى مَا كَانَ مِنْ قَبْلُ، وَلَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ تَرَجَّحَ الْأَصْلُ عَلَى الْوَصْفِ، وَفِي قَطْعِ الثَّوْبِ وَذَبْحِ الشَّاةِ بِدُونِ الْخِيَاطَةِ وَالشَّيِّ وُجِدَ الِاسْتِهْلَاكُ مِنْ وَجْهٍ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُعَارِضْهُ فِعْلُ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ فَلَمْ يَبْطُلْ بِهِ حَقُّ الْمَالِكِ لَكِنَّهُ يُخَيَّرُ إنْ شَاءَ مَالَ إلَى جِهَةِ الْهَلَاكِ فَيُضَمِّنَهُ الْقِيمَةَ، وَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى جِهَةِ الْقِيَامِ فَيَأْخُذَ الثَّوْبَ وَيُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَيْضًا مَسْأَلَةُ الصِّيَاغَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّ عِنْدَهُ لَا يَنْقَطِعُ بِهَا حَقُّ مَالِكٍ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْعَيْنَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَضْمَنَ لِلْغَاصِبِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ هُنَاكَ قَائِمَةٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ إذْ هِيَ قَائِمَةٌ صُورَةً لَا مَعْنًى؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ بِانْفِرَادِهَا لَا قِيمَةَ لَهَا فِي أَمْوَالِ الرِّبَا فَصَارَتْ الصَّنْعَةُ وَالْأَصْلُ سَوَاءٌ فَتَرَجَّحَ الْأَصْلُ عَلَى الْوَصْفِ بِخِلَافِ الصَّفْرَاءِ أَوْ الْحَدِيدِ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ بِالصَّنْعَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَالَ الرِّبَا فَإِنَّهُ يُبَاعُ بَعْدَ الصَّنْعَةِ عَدَدًا لَا وَزْنًا فَكَانَتْ الْجَوْدَةُ فِيهِ مُتَقَوِّمَةً فَافْتَرَقَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - صَاحِبُ الْأَصْلِ رَاجِحٌ عَلَى صَاحِبِ الصَّنْعَةِ؛ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ بَاقِيَةٌ بِالْمَصْنُوعِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا لِكَوْنِهَا عَرْضًا تَابِعَةً لَهَا؛ لِأَنَّهَا وَصْفٌ وَالْأَوْصَافُ أَتْبَاعٌ لِمَوْصُوفَاتِهَا. وَالْجَوَابُ مَا قُلْنَا أَنَّ الْبَقَاءَ حَالٌ بَعْدَ الْوُجُودِ فَإِذَا تَعَارَضَا أَيْ التَّرْجِيحُ بِالْوُجُودِ وَالتَّرْجِيحُ بِالْحَالِ كَانَ الْوُجُودُ أَحَقَّ مِنْ الْبَقَاءِ ثُمَّ كَوْنُ الشَّيْءِ تَابِعًا وَوَصْفًا لِغَيْرِهِ لَا يُبْطِلُ حَقَّ صَاحِبِهِ فَإِنَّ حَقَّ الْإِنْسَانِ فِي التَّبَعِ مُحْتَرَمٌ كَمَا أَنَّ حَقَّهُ فِي الْأَصْلِ مُحْتَرَمٌ فَأَمَّا هَلَاكُ الشَّيْءِ فَمُبْطِلٌ لِلْحَقِّ فَمَتَى كَانَ الشَّيْءُ هَالِكًا مِنْ وَجْهٍ فَمِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ فَلَا يُعَارِضُ حَقًّا مُسْتَحَقًّا قَائِمًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ سَوَاءٌ كَانَ تَابِعًا أَوْ أَصْلًا بِنَفْسِهِ فَلِهَذَا رَجَّحْنَا حَقَّ الْغَاصِبِ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ، وَكَمَا قُلْنَا فِي صَنْعَةِ الْغَاصِبِ قُلْنَا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فِي كَذَا فَإِذَا وُجِدَتْ الْعَزِيمَةُ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ تَعَارَضَا أَيْ الْبَعْضُ الَّذِي وُجِدَتْ الْعَزِيمَةُ فِيهِ وَالْبَعْضُ الَّذِي لَمْ تُوجَدْ فِيهِ أَوْ تَعَارَضَ وُجُودُ الْعَزِيمَةِ فِي الْبَعْضِ وَعَدَمُهَا فِي الْبَعْضِ

[القسم الرابع بيان الفاسد من وجوه الترجيح ترجيح القياس بقياس آخر]

وَأَمَّا الرَّابِعُ فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ. تَرْجِيحُ الْقِيَاسِ بِقِيَاسٍ آخَرَ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ عَلَى مَا قُلْنَا، وَالثَّانِي التَّرْجِيحُ بِغَلَبَةِ الْأَشْبَاهِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ إنَّ الْأَخَ يُشْبِهُ الْوَلَدَ بِوَجْهٍ، وَهُوَ الْمَحْرَمِيَّةُ وَيُشْبِهُ ابْنَ الْعَمِّ بِسَائِرِ الْوُجُوهِ مِثْلُ وَضْعِ الزَّكَاةِ وَحِلِّ الْحَلِيلَةِ وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ وَوُجُوبِ الْقِصَاصِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ فَكَانَ أَوْلَى، وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَبَهٍ يَصْلُحُ قِيَاسًا فَيَصِيرُ كَتَرْجِيحِ الْقِيَاسِ بِقِيَاسٍ آخَرَ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَإِنَّ وُجُودَهَا يَقْتَضِي الْجَوَازَ وَعَدَمُهَا يُوجِبُ الْفَسَادَ فَرَجَّحْنَا بِالْكَثْرَةِ أَيْ رَجَّحْنَا الْبَعْضَ الَّذِي وُجِدَتْ الْعَزِيمَةُ فِيهِ أَوْ وُجُودُ الْعَزِيمَةِ بِالْكَثْرَةِ الَّتِي هِيَ مَعْنًى رَاجِعٌ إلَى الذَّاتِ وَحَكَمْنَا بِالصِّحَّةِ وَرَجَّحَ الشَّافِعِيُّ الْبَعْضَ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ فِيهِ الْعَزِيمَةُ فَحَكَمَ بِالْفَسَادِ احْتِيَاطًا فِي الْعِبَادَةِ فَإِنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ فِيهَا جِهَةُ الصِّحَّةِ وَجِهَةُ الْفَسَادِ تَرَجَّحَ جَانِبُ الْفَسَادِ بِالِاتِّفَاقِ، وَمَا اعْتَبَرَهُ مَعْنًى فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ مِنْ الْأَحْوَالِ وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ التَّرْجِيحَ بِالْفَسَادِ يُؤَدِّي إلَى نَسْخِ الذَّاتِ بِالْحَالِ فَإِنَّ اعْتِبَارَ الْكَثْرَةِ يَقْتَضِي الْجَوَازَ وَبِتَرْجِيحِ الْفَسَادِ يَبْطُلُ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَيَكُونُ فِيهِ نَسْخُ الذَّاتِ بِالْحَالِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ لِمَا مَرَّ. وَلَا يُقَالُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ فِيهِ نَسْخُ الْحَالِ بِالْحَالِ؛ لِأَنَّ الْكَثْرَةَ وَالْقِلَّةَ مِنْ الْأَوْصَافِ أَيْضًا؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْكَثْرَةُ تَحْصُلُ بِانْضِمَامِ الْأَجْزَاءِ وَهُوَ مَعْنًى رَاجِعٌ إلَى الذَّاتِ وَالْفَسَادُ حَالٌ طَارِئٌ عَلَى الذَّاتِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى وَعَلَى هَذَا عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ فَإِنْ وُهِبَتْ لَهُ أَلْفٌ ضَمَّهَا إلَى الْأَلْفِ أَوْلَى، وَهِيَ الْأَلْفُ الْمَمْلُوكَةُ دُونَ ثَمَنِ السَّائِمَةِ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ الْأَلْفَيْنِ إلَى الْحَوْلِ يَعْنِي قَدْ اُسْتُحِقَّ عَلَيْهِ الضَّمُّ بِمَعْنَى الْمُجَانَسَةِ، وَقَدْ تَعَارَضَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْأَلْفَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ فَوَجَبَ التَّرْجِيحُ بِالْقُرْبِ إلَى الْحَوْلِ؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الِاحْتِيَاطِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ يُقَوَّمُ بِمَا هُوَ الْأَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ احْتِيَاطًا فَإِنْ تَصَرَّفَ فِي ثَمَنِ الْإِبِلِ فَرَبِحَ أَلْفًا ضَمَّ الرِّبْحَ إلَى أَصْلِهِ، وَإِنْ بَعُدَ أَصْلُهُ عَنْ الْحَوْلِ، وَلَا يُعْتَبَرُ الرُّجْحَانُ بِالِاحْتِيَاطِ فِي الزَّكَاةِ بِأَنْ يُضَمَّ إلَى الْأَلْفِ الْأُخْرَى بِاعْتِبَارِ الْقُرْبِ إلَى الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ التَّبَعِيَّةَ مَعْنًى يَرْجِعُ إلَى ذَاتِ الْمُسْتَفَادِ فَإِنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ مُتَفَرِّعًا مِنْ الشَّيْءِ مَعْنًى يَرْجِعُ إلَى ذَاتِهِ؛ لِأَنَّ ذَاتَه جُزْءٌ مِنْهُ وَالْقُرْبُ إلَى الْحَوْلِ حَالٌ زَائِدَةٌ فِيهِ فَكَانَ التَّرْجِيحُ بِمَعْنًى رَاجِعٍ إلَى الذَّاتِ أَحَقَّ مِنْ التَّرْجِيحِ بِالْحَالِ، وَهَذَا كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ إذَا كَانَتْ مُشْتَرَاةً بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ يُقَوَّمُ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ التَّقْوِيمُ بِالنَّقْدِ الْآخَرِ أَنْفَعَ لِحُصُولِ ذَاتِهَا بِهِ. ثُمَّ اسْتَوْضَحَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْجَامِعِ هَذَا الْكَلَامَ فَقَالَ لَوْ كَانَ بَاعَ الْغَنَمَ بِجَارِيَةٍ تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ فَزَادَتْ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً حَتَّى صَارَتْ تُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَلَوْ قُلْنَا بِضَمِّ الزِّيَادَةِ إلَى الْمَالِ الْآخَرِ إذَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْحَوْلِ لَأَدَّى إلَى أَمْرٍ قَبِيحٍ، وَهُوَ أَنْ يُزَكَّى أَصْلُ الْجَارِيَةِ بِاعْتِبَارِ حَوْلٍ وَصِفَتِهَا بِاعْتِبَارِ حَوْلٍ آخَرَ فَلِهَذَا يَضُمُّ الْمُتَوَلِّدَ إلَى مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ لِشَمْسِ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِيَكُونَ أَصْلًا لِغَيْرِهَا مِنْ الْفُرُوعِ كَمَا إذَا أَحْرَمَ الْمَكِّيُّ لِعُمْرَةٍ وَطَافَ لَهَا شَوْطًا ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ يُرْفَضُ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ أَيْسَرُ قَضَاءً، وَأَقَلُّ أَعْمَالًا وَيُرْفَضُ إحْرَامُ الْحَجِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ رَاجِحَةٌ فِي ذَاتِهَا لِوُجُودِ جُزْءٍ مِنْ أَرْكَانِهَا بِخِلَافِ الْحَجِّ، وَمَا قَالَاهُ تَرْجِيحٌ بِالْحَالِ. [الْقِسْمُ الرَّابِعِ بَيَانُ الْفَاسِدِ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ تَرْجِيحُ الْقِيَاسِ بِقِيَاسٍ آخَرَ] قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الرَّابِعُ يَعْنِي) مِنْ أَقْسَامِ أَوَّلِ الْبَابِ، وَهُوَ بَيَانُ الْفَاسِدِ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ وَتَرْجِيحُ الْقِيَاسِ بِقِيَاسٍ آخَرَ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِثْلُ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ بِالْخَبَرِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ مَتْرُوكٌ بِالْخَبَرِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً فِي مُقَابَلَتِهِ وَالْمَصِيرُ إلَى التَّرْجِيحِ بَعْدَ وُقُوعِ التَّعَارُضِ بِاعْتِبَارِ الْمُمَاثَلَةِ، وَمِثْلُ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ بِنَصِّ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي مُعَارَضَةِ النَّصِّ عَلَى مَا قُلْنَا يَعْنِي فِي أَوَّلِ الْبَابِ إنَّ التَّرْجِيحَ لَا يَقَعُ مِمَّا يَصْلُحُ عِلَّةً بِانْفِرَادِ. وَالثَّانِي مِنْ التَّرْجِيحَاتِ الْفَاسِدَةِ التَّرْجِيحُ بِغَلَبَةِ الْأَشْبَاهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِلْفَرْعِ بِأَحَدِ الْأَصْلَيْنِ شَبَهٌ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَبِالْأَصْلِ الْآخَرِ الَّذِي يُخَالِفُ أَصْلَ الْأَوَّلِ شَبَهٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَوْ مِنْ وُجُوهٍ وَهُوَ صَحِيحٌ عِنْدَ عَامَّةِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ نَقَلَ صَاحِبُ

وَالثَّالِثُ التَّرْجِيحُ بِالْعُمُومِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ إنَّ الطَّعْمَ أَحَقُّ؛ لِأَنَّهُ يَعُمُّ الْقَلِيلَ وَالْكَثْرَةَ، وَهَذَا بَاطِلٌ؛ وَلِأَنَّ الْوَصْفَ فَرْعُ النَّصِّ وَالنَّصُّ الْعَامُّ وَالْخَاصُّ سَوَاءٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَكُمْ الْخَاصُّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ فَكَيْفَ صَارَ الْعَامُّ أَحَقَّ مِنْ الَّذِي هُوَ فَرْعُهُ وَلِأَنَّ التَّعَدِّيَ غَيْرُ مَقْصُودٍ عِنْدَكُمْ فَبَطَلَ التَّرْجِيحُ، وَعِنْدَنَا صَارَ عِلَّةً بِمَعْنَاهُ لَا بِصُورَتِهِ، وَالْعُمُومُ صُورَةٌ. وَالرَّابِعُ التَّرْجِيحُ بِقِلَّةِ الْأَوْصَافِ فَيُقَالُ ذَاتُ وَصْفٍ أَحَقُّ مِنْ ذَاتِ وَصْفَيْنِ، وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فَرْعُ النَّصِّ، وَالنَّصُّ الَّذِي خُصَّ نَظْمُهُ بِضَرْبٍ مِنْ الْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ وَالنَّصُّ الَّذِي أُشْبِعَ بَيَانُهُ سَوَاءٌ إنَّمَا التَّرْجِيحُ فِي هَذَا الْبَابِ بِالْمَعَانِي الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا فَأَمَّا بِالصُّوَرِ فَلَا، وَالْقِلَّةُ وَالْكَثْرَةُ صُورَةٌ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ فِي الَّذِي جُعِلَ نَظْمُهُ حُجَّةً فَفِي هَذَا أَوْلَى. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْقَوَاطِعِ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي: الشَّيْءُ إذَا أَشْبَهَ أَصْلَيْنِ يُنْظَرُ إنْ أَشْبَهَ أَحَدَهُمَا فِي خَصْلَتَيْنِ وَالْآخَرَ فِي خَصْلَةٍ أَلْحَقْته بِاَلَّذِي أَشْبَهَهُ فِي خَصْلَتَيْنِ وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى تَرْجِيحِ إحْدَى الْعِلَّتَيْنِ بِكَثْرَةِ الشَّبَهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَمْ يُجْعَلْ حُجَّةً إلَّا لِإِفَادَتِهِ غَلَبَةَ الظَّنِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الظَّنَّ يَزْدَادُ قُوَّةً عِنْدَ كَثْرَةِ الْأَشْبَاهِ كَمَا يَزْدَادُ عِنْدَ كَثْرَةِ الْأُصُولِ. وَهَذَا بَاطِلٌ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْأَشْبَاهَ أَوْصَافٌ وَأَحْكَامٌ تُجْعَلُ عِلَلًا، وَكَثْرَةُ الْعِلَلِ لَا تُوجِبُ تَرْجِيحًا كَكَثْرَةِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَوْصَافٍ تُسْتَنْبَطُ مِنْ أَصْلٍ أَوْ أُصُولٍ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ أُصُولٍ شَتَّى تُوجِبُ تَرْجِيحًا فَكَذَا هَذَا وَهَذَا بِخِلَافِ كَثْرَةِ الْأُصُولِ فَإِنَّ هُنَاكَ الْوَصْفَ وَاحِدٌ، وَكُلُّ أَصْلٍ يَشْهَدُ بِصِحَّتِهِ فَيُوجِبُ قُوَّتَهُ وَثَبَاتَهُ عَلَى الْحُكْمِ فَأَمَّا هَاهُنَا فَأَصْلٌ وَاحِدٌ، وَالْأَوْصَافُ مُتَعَدِّدَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ شُبْهَةٍ وَصْفٌ عَلَى حِدَةٍ يَصْلُحُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَكَانَ مِنْ قَبِيلِ التَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَرْجِيحُ الْعِلَّةِ بِكَثْرَتِهَا شَبَهًا بِأَصْلِهَا عَلَى الَّتِي هِيَ أَقَلُّ شَبَهًا بِأَصْلِهَا ضَعِيفٌ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى مُجَرَّدَ الشَّبَهِ فِي الْوَصْفِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهِ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ، وَمَنْ رَأَى ذَلِكَ مُوجِبًا فَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ كَعِلَّةٍ أُخْرَى، وَلَا تَجِبُ تَرْجِيحُ عِلَّتَيْنِ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَتَرَجَّحُ بِقُوَّتِهِ لَا بِانْضِمَامِ مِثْلِهِ إلَيْهِ كَمَا لَا يُرَجِّحُ الْحُكْمَ الثَّابِتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْإِجْمَاعُ عَلَى الثَّابِتِ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأُصُولِ. وَالثَّالِثُ مِنْ التَّرْجِيحَاتِ الْفَاسِدَةِ التَّرْجِيحُ بِالْعُمُومِ مِثْلُ تَرْجِيحِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ التَّعْلِيلَ بِوَصْفِ الطَّعْمِ فِي الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى التَّعْلِيلِ بِالْكَيْلِ وَالْجِنْسِ؛ لِأَنَّ وَصْفَ الطَّعْمِ يَعُمُّ الْقَلِيلَ، وَهُوَ الْحَفْنَةُ مَثَلًا وَالْكَثِيرَ، وَهُوَ الْمَكِيلُ، وَالتَّعْلِيلُ بِالْكَيْلِ وَالْجِنْسِ لَا يَتَنَاوَلُ الْكَثِيرَ فَكَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّعْلِيلِ تَعْمِيمُ حُكْمِ النَّصِّ فَكَوْنُهُ أَعَمَّ كَانَ أَوْفَقَ لِمَقْصُودِهِ وَهَذَا بَاطِلٌ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ فَرْعُ النَّصِّ لِكَوْنِهِ مُسْتَنْبَطًا مِنْهُ وَثَابِتًا بِهِ، وَالنَّصُّ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ سَوَاءٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الْخَصْمِ الْخَاصُّ يَقْضِي أَيْ يَتَرَجَّحُ عَلَى الْعَامِّ فَكَيْفَ صَارَ الْعَامُّ أَحَقَّ مِنْ الَّذِي هُوَ فَرْعُهُ هُوَ رَاجِعٌ إلَى الْعَامِّ وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ رَاجِعٌ إلَى الَّذِي يَعْنِي كَيْفَ صَارَ الْعَامُّ فِي الْفَرْعِ أَحَقَّ مِنْ الْخَاصِّ الَّذِي هُوَ أَيْ الْعَامُّ دُونَهُ فِي الرُّتْبَةِ وَيُؤَيِّدُهُ عِبَارَةُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَعِنْدَهُ الْخَاصُّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ كَيْفَ يَقُولُ فِي الْعِلَلِ أَنَّ مَا يَكُونُ أَعَمَّ فَهُوَ مُرَجَّحٌ عَلَى مَا يَكُونُ أَخَصَّ. أَوْ يُقَالُ مَعْنَاهُ كَيْفَ صَارَ الْعَامُّ مِنْ الْوَصْفِ أَحَقَّ أَيْ أَقْوَى مِنْ النَّصِّ الَّذِي هُوَ فَرْعُهُ حَيْثُ لَمْ يَتَرَجَّحْ الْعَامُّ مِنْ النَّصِّ عَلَى الْخَاصِّ مِنْهُ وَتَرَجَّحَ الْعَامُّ مِنْ الْوَصْفِ عَلَى الْخَاصِّ مِنْهُ؛ وَلِأَنَّ التَّعَدِّيَ غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنْ التَّعْلِيلِ عِنْدَ الْخَصْمِ حَيْثُ جَوَّزَ التَّعْلِيلَ بِعِلَّةٍ قَاصِرَةٍ فَكَانَ وُجُودُ التَّعَدِّي وَعَدَمُهُ فِي التَّعْلِيلِ بِمَنْزِلَةٍ لِصِحَّتِهِ بِدُونِهِ قَبْلَ التَّرْجِيحِ بِالْعُمُومِ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ زِيَادَةِ التَّعَدِّي. أَلَا تَرَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لَمْ يُرَجِّحُوا الْمُتَعَدِّيَةَ عَلَى الْقَاصِرَةِ، وَقَالُوا هُمَا سَوَاءٌ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ وَالْغَزَالِيُّ وَرَجَّحَ بَعْضُهُمْ الْقَاصِرَةَ عَلَى الْمُتَعَدِّيَةِ مِنْهُمْ أَبُو إِسْحَاقَ الإِسْفِرايِينِي، وَلَوْ كَانَ الْعُمُومُ مَقْصُودًا لَتَرَجَّحَتْ الْمُتَعَدِّيَةُ بِعُمُومِهَا عَلَى الْقَاصِرَةِ قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَرْجِيحُ الْمُتَعَدِّيَةِ عَلَى الْقَاصِرَةِ ضَعِيفٌ عِنْدَ مَنْ لَا يُفْسِدُ الْقَاصِرَةَ؛ لِأَنَّ كَثْرَةَ الْفُرُوعِ بَلْ وُجُودُ أَصْلِ الْفُرُوعِ لَا تُبَيِّنُ قُوَّةً فِي ذَاتِ الْعِلَّةِ بَلْ يَنْقَدِحُ أَنْ يُقَالَ الْقَاصِرَةُ أَوْفَقُ لِلنَّصِّ وَآمَنُ

[باب وجوه دفع العلل الطردية]

(بَابُ وُجُوهِ دَفْعِ الْعِلَلِ الطَّرْدِيَّةِ) وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْبَابِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ الْقَوْلُ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّهُ رَفْعُ الْخِلَافِ فَهُوَ أَحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ، ثُمَّ الْمُمَانَعَةُ، ثُمَّ بَيَانُ فَسَادِ الْوَضْعِ، ثُمَّ الْمُنَاقَضَةُ أَمَّا الْقَوْلُ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ فَالْتِزَامُ مَا يَلْزَمُهُ الْمُعَلِّلُ بِتَعْلِيلِهِ وَأَنَّهُ يُلْجِئُ أَصْحَابَ الطَّرْدِ إلَى الْقَوْلِ بِالْمَعَانِي الْفِقْهِيَّةِ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ أَنَّهُ رُكْنٌ فِي وُضُوءٍ فَيُسَنُّ تَثْلِيثُهُ كَغَسْلِ الْوَجْهِ فَيُقَالُ لَهُمْ عِنْدَنَا: يُسَنُّ تَثْلِيثُهُ؛ لِأَنَّ فَرْضَهُ يَتَأَدَّى بِقَدْرِ الرُّبْعِ عِنْدَنَا وَعِنْدَكُمْ بِأَقَلَّ مِنْهُ فَمَا يُجَاوِزُهُ إلَى اسْتِيعَابِهِ فَتَثْلِيثٌ وَزِيَادَةٌ إذْ لَيْسَ مُقْتَضَى التَّثْلِيثِ اتِّحَادَ الْمَحَلِّ لَا مَحَالَةَ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ دَخَلَ ثَلَاثَةَ دُورٍ كَانَ ثَلَاثُ دَخَلَاتٍ بِمَنْزِلِهَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ الزَّلَلِ فَكَانَتْ أَوْلَى. وَعِنْدَنَا صَارَ الْوَصْفُ عِلَّةً بِمَعْنَاهُ وَهُوَ التَّأْثِيرُ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْعُمُومِ فِي ذَلِكَ بَلْ الْعُمُومُ صُورَةٌ وَلَا اعْتِبَارَ لَهَا فِي الْعِلَلِ. وَالرَّابِعُ مِنْ التَّرْجِيحَاتِ الْفَاسِدَةِ التَّرْجِيحُ بِقِلَّةِ الْأَوْصَافِ مِثْلُ تَرْجِيحِ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَصْفَ الطَّعْمِ فِي بَابِ الرِّبَا عَلَى الْكَيْلِ وَالْجِنْسِ بِوَحْدَةِ الْوَصْفِ إذْ الْجِنْسُ شَرْطٌ عِنْدَهُمْ قَالُوا عِلَّةٌ هِيَ ذَاتُ وَصْفٍ وَاحِدٍ أَقْرَبُ إلَى الضَّبْطِ، وَأَبْعَدُ عَنْ الْخِلَافِ، وَأَكْثَرُ تَأْثِيرًا مِنْ ذَاتِ وَصْفَيْنِ لِعَدَمِ تَوَقُّفِهَا فِي إثَارَةِ الْحُكْمِ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ فَكَانَتْ أَوْلَى وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الَّتِي هِيَ أَكْثَرُ وَصْفًا أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ شَبَهًا بِالْأَصْلِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ فَرْعٌ لِثُبُوتِهِ بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ الْمُوجَزُ لَا يَتَرَجَّحُ عَلَى الْمُطَوَّلِ فِي الْبَيَانِ فَكَذَا الْعِلَّةُ. وَلَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ أَيْ الرُّجْحَانُ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ فِي النَّصِّ الَّذِي جُعِلَ نَظْمُهُ حُجَّةً مَعَ تَحَقُّقِ الِاخْتِصَارِ وَالْإِشْبَاعِ فِيهِ، وَمَعَ كَوْنِهِ أَصْلًا. فَفِي هَذَا أَيْ فِي التَّعْلِيلِ الَّذِي هُوَ فَرْعُ النَّصِّ، وَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الِاخْتِصَارُ وَالْإِشْبَاعُ أَوْلَى أَنْ لَا يَعْتَبِرَ الْقِلَّةَ وَالْكَثْرَةَ إذْ الِاعْتِبَارُ فِيهِ لِلتَّأْثِيرِ لَا لِلْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ بِخِلَافِ اعْتِبَارِ الْكَثْرَةِ فِي الصَّوْمِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ إنَّمَا صَارَ صَوْمًا بِاعْتِبَارِ صُورَتِهِ، وَمَعْنَاهُ فَكَانَ اعْتِبَارُ الْكَثْرَةِ فِيهِ اعْتِبَارًا لِلذَّاتِ فِي مُقَابَلَةِ الْحَالِ فَأَمَّا هَاهُنَا فَلَا اعْتِبَارَ لِلصُّورَةِ إذْ الْعِلَّةُ صَارَتْ عِلَّةً بِمَعْنَاهَا لَا بِصُورَتِهَا فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا اعْتِبَارُ الْكَثْرَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ ذَكَرُوا وُجُوهًا كَثِيرَةً فِي التَّرْجِيحِ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ بِحَيْثُ لَا تَكَادُ تُضْبَطُ؛ لِأَنَّ الشَّيْخَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اقْتَصَرَ فِي بَيَانِ الْوُجُوهِ الصَّحِيحَةِ عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى الْمَعَانِي الْفِقْهِيَّةِ وَالْمُتَدَاوِلَةُ بَيْنَ أَهْلِ الْفِقْهِ؛ وَلِأَنَّ مَا سِوَاهَا مِنْ الْوُجُوهِ الصَّحِيحَةِ قَدْ انْدَرَجَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَبْوَابِ وَاقْتَصَرَ فِي بَيَانِ الْوُجُوهِ الْفَاسِدَةِ عَلَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُتَدَاوَلَةُ بَيْنَ أَهْلِ النَّظَرِ، وَقَدْ يَحْصُلُ الْوُقُوفُ بِبَيَانِ فَسَادِهَا عَلَى فَسَادِ مَا سِوَاهَا مِنْ الْوُجُوهِ الْفَاسِدَةِ، فَنَقْلُ الْفَائِدَةِ فِي الِاشْتِغَالِ بِتَفَاصِيلِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ وُجُوهِ دَفْعِ الْعِلَلِ الطَّرْدِيَّةِ] [الْقَوْلُ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ] (بَابُ وُجُوهِ دَفْعِ الْعِلَلِ الطَّرْدِيَّةِ) الْأَوْصَافُ الطَّرْدِيَّةُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ مِنْهَا أَوْصَافٌ فَاسِدَةٌ فِي ذَوَاتِهَا لِخُلُوِّهَا عَنْ التَّأْثِيرِ وَالْمُلَاءَمَةِ وَنَوْعٌ مِنْهَا أَوْصَافٌ صَحِيحَةٌ فِي أَنْفُسِهَا لِكَوْنِهَا مُلَائِمَةً وَمُؤَثِّرَةً إلَّا أَنَّ أَهْلَ الطَّرْدِ تَمَسَّكُوا بِاطِّرَادِهَا لَا بِتَأْثِيرِهَا وَمُنَاسَبَتِهَا إذْ الْمَنْظُورُ عِنْدَهُمْ نَفْسُ الِاطِّرَادِ لَا غَيْرُ فَهَذَا الْبَابُ لِبَيَانِ وُجُوهِ الِاعْتِرَاضِ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْأَوْصَافِ الطَّرْدِيَّةِ وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْ هَذَا الْبَابُ هُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ بَابِ دَفْعِ الْعِلَلِ فَإِنَّهُ قَدْ ذُكِرَ فِي أَوَّلِ ذَلِكَ الْبَابِ أَنَّ الْعِلَلَ نَوْعَانِ: مُؤَثِّرَةٌ وَطَرْدِيَّةٌ وَعَلَى كُلِّ قِسْمٍ ضُرُوبٌ مِنْ الدَّفْعِ وَقَدْ فَرَغَ مِنْ بَيَانِ وُجُوهِ دَفْعِ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فَشَرَعَ فِي بَيَانِ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ؛ لِأَنَّهُ يَرْفَعُ الْخِلَافَ أَيْ عَمَّا أَوْجَبَهُ عِلَّةُ الْمُسْتَدِلِّ لَا عَنْ الْحُكْمِ الْمَقْصُودِ فَهُوَ أَحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ يَعْنِي لَمَّا كَانَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الِاعْتِرَاضِ رَافِعًا لِلْخِلَافِ كَانَ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ؛ لِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَى النِّزَاعِ مَعَ إمْكَانِ الْوِفَاقِ وَحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُفِيدُ وَنَوْعٌ مِنْ السَّفَهِ، ثُمَّ الْحُجَّةُ عَلَى الْخَصْمِ بِمَا يَكُونُ مُنَاقِضًا لِدَعْوَاهُ فَإِذَا وَافَقَهُ الْخَصْمُ فِيمَا قَالَ لَمْ يَكُنْ مُنَاقِضًا لِدَعْوَاهُ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْقَوْلُ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ فَالْتِزَامُ مَا يَلْزَمُهُ الْمُعَلِّلُ بِتَعْلِيلِهِ) أَيْ أَنَّهُ قَبُولُ السَّائِلِ مَا يُوجِبُ الْمُعَلِّلُ عَلَيْهِ بِتَعْلِيلِهِ يَعْنِي مَعَ بَقَاءِ الْخِلَافِ فِي الْحُكْمِ الْمَقْصُودِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ عِبَارَةُ عَامَّةِ.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ ضَمَّ إلَى الْفَرْضِ أَمْثَالُهُ فَكَانَ تَثْلِيثًا وَزِيَادَةً فَإِنْ غَيَّرَ الْعِبَارَةَ فَقَالَ وَجَبَ أَنْ يُسَنَّ تَكْرَارُهُ لَمْ يُسَلَّمْ ذَلِكَ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ التَّكْرَارَ فِي الْأَصْلِ غَيْرُ مَسْنُونٍ وَلَكِنَّ الْمَسْنُونَ تَكْمِيلُهُ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْأَرْكَانِ وَتَكْمِيلُهُ بِإِطَالَتِهِ فِي مَحَلِّهِ إنْ أَمْكَنَ بِمَنْزِلَةِ إطَالَةِ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَلَكِنَّ الْفَرْضَ لَمَّا اسْتَغْرَقَ مَحَلَّهُ اُضْطُرِرْنَا إلَى التَّكْرَارِ خَلَفًا عَنْ الْأَصْلِ وَالْأَصْلُ هَا هُنَا مَقْدُورٌ عَلَيْهِ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ لِاتِّسَاعِ مَحَلِّهِ فَبَطَلَ الْخُلْفُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْأُصُولِيِّينَ هُوَ تَسْلِيمُ مَا اتَّخَذَهُ الْمُسْتَدِلُّ حُكْمًا لِدَلِيلِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَسْلِيمُ الْحُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الِاعْتِرَاضِ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ فِيمَا إذَا ثَبَتَ الْمُعَلِّلُ بِعِلَّتِهِ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مَحَلُّ النِّزَاعِ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَيُمْكِنُ لِلسَّائِلِ دَفْعُهُ بِالْتِزَامِ مُوجِبِهِ مَعَ بَقَاءِ مَقْصُودِهِ فِي الْحُكْمِ. أَوْ أَثْبَتَ الْمُعَلِّلُ بِدَلِيلِهِ إبْطَالَ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مَأْخَذُ الْخَصْمِ فَبِالْتِزَامِ السَّائِلِ مُوجِبَ دَلِيلِهِ مَعَ بَقَاءِ نِزَاعِهِ فِي الْحُكْمِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مَأْخَذَهُ فَمَسْأَلَةُ التَّثْلِيثِ وَمَسْأَلَةُ التَّعْيِينِ مِنْ أَمْثِلَةِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَالْمَسَائِلُ الْبَاقِيَةُ إلَى آخِرِ الْفَصْلِ مِنْ أَمْثِلَةِ الْقِسْمِ الثَّانِي وَأَكْثَرُ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ يَتَحَقَّقُ فِي هَذَا الْقِسْمِ لِخَفَاءِ مَأْخَذِ الْأَحْكَامِ لِكَثْرَتِهَا وَتَشَعُّبِهَا وَعَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى مَا هُوَ مُعْتَمَدُ الْخَصْمِ مِنْ جُمْلَتِهَا بِخِلَافِ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَهُوَ الْأَحْكَامُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا فَإِنَّهُ قَلَّ مَا يَتَّفِقُ الذُّهُولُ عَنْهَا وَلِهَذَا يَشْتَرِكُ فِي مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْخَوَاصِّ وَالْعَوَامِّ دُونَ مَعْرِفَةِ الْمُدَارِكِ وَأَنَّهُ أَيْ الْقَوْلَ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ يُلْجِئُ أَيْ يَضْطَرُّ أَصْحَابَ الطَّرْدِ إلَى الْقَوْلِ بِالْمَعَانِي الْفِقْهِيَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ يَعْنِي لَمَّا رَأَوْا أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالطَّرْدِ لَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا أَعْرَضُوا عَنْهُ وَذَكَرُوا بَعْدُ فِي الْمُنَاظَرَةِ أَوْصَافًا مُؤَثِّرَةً وَمَعَانِيَ فِقْهِيَّةً لَا يُمْكِنُ رَدُّهَا بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الِاعْتِرَاضِ أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَمَّا تَمَسَّكُوا بِاطِّرَادِ وَصْفٍ وَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الِاعْتِرَاضِ اُضْطُرُّوا إلَى بَيَانِ التَّأْثِيرِ لِذَلِكَ الْوَصْفِ لِيَصِيرَ حُجَّةً عَلَى الْخَصْمِ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ لَمَّا تَوَجَّهَ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ صَارَ مُنْقَطِعًا عِنْدَ عَامَّةِ الْأُصُولِيِّينَ لِتَبَيُّنِ أَنَّ مَا يُصِيبُهُ مِنْ الدَّلِيلِ لَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّقًا بِمَحَلِّ النِّزَاعِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَنْفَعْهُ بَيَانُ التَّأْثِيرِ لِلْوَصْفِ بَعْدَمَا صَارَ مُنْقَطِعًا فَكَانَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْلَى وَذَلِكَ أَيْ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ يَتَحَقَّقُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فَمَا تَجَاوَزَهُ أَيْ تَجَاوَزَ الْمِقْدَارَ الْمَفْرُوضَ إلَى اسْتِيعَابِ الرَّأْسِ الَّذِي هُوَ سُنَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ تَثْلِيثٌ وَزِيَادَةٌ وَلَكِنْ فِي غَيْرِ الْمَحَلِّ الَّذِي أَدَّى فِيهِ الْفَرْضُ وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَانِعٍ عَنْ التَّثْلِيثِ إذْ لَيْسَ مُقْتَضَى التَّثْلِيثِ اتِّحَادَ الْمَحَلِّ لِمَا ذُكِرَ وَإِذَا كَانَ أَيْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ أَيْ كَمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اتِّحَادَ الْمَحَلِّ لَيْسَ مُقْتَضَى التَّثْلِيثِ فَقَدْ ضَمَّ الْمَاسِحُ إلَى الْفَرْضِ أَمْثَالَهُ فَكَانَ هَذَا الضَّمُّ تَثْلِيثًا وَزِيَادَةً إذْ التَّثْلِيثُ ضَمُّ الْمِثْلَيْنِ إلَى الْأَوَّلِ وَهَذَا ضَمُّ ثَلَاثَةِ أَمْثَالٍ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنْ غَيَّرَ أَيْ الْمُسْتَدِلُّ الْعِبَارَةَ بِطَرِيقِ الْعِنَايَةِ فَقَالَ: وَجَبَ أَنْ يُسَنَّ تَكْرَارُهُ أَيْ أَرَدْت بِالتَّثْلِيثِ التَّكْرَارَ الَّذِي هُوَ مُقْتَضًى لِاتِّحَادِ الْمَحَلِّ لَا مَحَالَةَ أَوْ بِطَرِيقِ الِانْتِقَالِ مِنْ حُكْمٍ إلَى حُكْمٍ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ يَعْنِي هَذَا الْوَصْفُ كَمَا اقْتَضَى التَّثْلِيثَ اقْتَضَى التَّكْرَارَ أَيْضًا فَيَثْبُتُ بِهِ هَذَا الْحُكْمُ لَمْ نُسَلِّمْ ذَلِكَ أَيْ سُنِّيَّةَ التَّكْرَارِ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْغُسْلُ فَيَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّكْرَارَ فِي الْأَصْلِ مَسْنُونٌ قَصْدًا بَلْ الْمَسْنُونُ تَكْمِيلُهُ إذْ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْأَرْكَانِ وَتَكْمِيلُهُ أَيْ تَكْمِيلُ الْأَصْلِ أَوْ تَكْمِيلُ الرُّكْنِ أَوْ الْفَرْضِ بِإِطَالَتِهِ فِي مَحَلِّهِ بِمَنْزِلَةِ إطَالَةِ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَا بِتَكْرَارِهِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ الَّذِي يُوجِبُهُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَلَكِنَّهُ يَقْتَضِي الْكَمَالَ فَيَكُونُ فِي الْإِطَالَةِ امْتِثَالٌ بِهِ، لَكِنَّ الْفَرْضَ لَمَّا اسْتَغْرَقَ فِي الْغُسْلِ مَحَلَّهُ لَمْ يُمْكِنْ التَّكْمِيلُ بِالْإِطَالَةِ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ إكْمَالًا فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ اُضْطُرِرْنَا إلَى الْمَصِيرِ إلَى التَّكْرَارِ لِيَحْصُلَ التَّكْمِيلُ بِالزِّيَادَةِ مِنْ جِنْسِهِ فِي مَحَلِّهِ خَلَفًا عَنْ الْأَصْلِ وَهُوَ التَّكْمِيلُ بِالْإِطَالَةِ. وَالْأَصْلُ هَاهُنَا مَقْدُورٌ عَلَيْهِ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ لِاتِّسَاعِ مَحَلِّهِ فَبَطَلَ الْخَلَفُ وَهُوَ التَّكْمِيلُ بِالتَّكْرَارِ وَقَوْلُهُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ بَدَلٌ مِنْ هَاهُنَا قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: التَّكْمِيلُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِزِيَادَةٍ مِنْ جِنْسِ الْأَصْلِ فِي مَحَلِّ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ لَا يَكُونُ إكْمَالًا وَهَاهُنَا التَّكْمِيلُ بِهَذَا الطَّرِيقِ يُمْكِنُ مِنْ غَيْرِ.

وَظَهَرَ بِهَا فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنْ لَا أَثَرَ لِلرُّكْنِيَّةِ فِي التَّكْرَارِ أَصْلًا كَمَا فِي أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَلَا أَثَرَ لَهَا فِي التَّكْمِيلِ لَا مَحَالَةَ أَلَا يُرَى أَنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ يُشَارِكُهُ مَسْحُ الْخُفِّ فِي الِاسْتِيعَابِ سُنَّةً وَهُوَ رُخْصَةٌ وَكَذَلِكَ الْمَضْمَضَةُ فَأَمَّا الْمَسْحُ فَلَهُ أَثَرٌ فِي التَّخْفِيفِ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى طُهْرٍ مَعْقُولٍ فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْإِطَالَةُ فِيهِ سُنَّةً لَا التَّكْمِيلُ بِالتَّكْرَارِ أَلَا يُرَى أَنَّ التَّكْمِيلَ بِالتَّكْرَارِ رُبَّمَا يُلْحِقُهُ بِالْمَحْظُورِ وَهُوَ الْغُسْلُ فَكَيْفَ يَصْلُحُ تَكْمِيلًا وَأَمَّا الْغُسْلُ فَقَدْ شُرِعَ لِطُهْرٍ مَعْقُولٍ فَكَانَ التَّكْرَارُ تَكْمِيلًا وَلَمْ يَكُنْ مَحْظُورًا فَقَدْ أَدَّى الْقَوْلُ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ إلَى الْمُمَانَعَةِ وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ فِي الْمَسْحِ يَتَأَدَّى بِبَعْضِ الرَّأْسِ لَا مَحَالَةَ وَذَلِكَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عَلَى مَذْهَبِهِمْ بَلْ الْفَرْضُ يَتَأَدَّى بِكُلِّهِ وَلَكِنَّ الشَّرْعَ رَخَّصَ فِي الْحَطِّ إلَى أَدْنَى الْمَقَادِيرِ وَذَلِكَ كَالْقِرَاءَةِ عِنْدَكُمْ وَإِنْ طَالَتْ كَانَتْ فَرْضًا وَقَدْ تَتَأَدَّى بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ هَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] وَقَدْ يَتَنَافَى أَبْوَابُ حُرُوفِ الْمَعَانِي أَنَّ الِاسْتِيعَابَ غَيْرُ مُرَادٍ بِالنَّصِّ فَصَارَ الْبَعْضُ هُوَ الْمُرَادَ ابْتِدَاءً بِالنَّصِّ فَصَارَ أَصْلًا لَا رُخْصَةً فَصَارَ اسْتِيعَابُهُ تَكْمِيلًا لِلْفَرْضِ وَالْفَضْلُ عَلَى نِصَابِ التَّكْمِيلِ بِدْعَةٌ بِالْإِجْمَاعِ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ أَنَّهُ صَوْمُ فَرْضٍ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ فَقُلْنَا نَحْنُ بِمُوجِبِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ يُوجِبُ التَّعْيِينَ لَكِنَّهُ لَا يَمْنَعُ وُجُودَ مَا يُعَيِّنُهُ فَيَكُونُ إطْلَاقُهُ تَعْيِينًا؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا إلَّا بِتَعَيُّنِ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّا إنَّمَا نُجَوِّزُهُ بِإِطْلَاقِ النِّيَّةِ عَلَى أَنَّهُ تَعْيِينٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــQمَاءٍ جَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِالِاسْتِيعَابِ تَكْمِيلُ الطَّهَارَةِ الْمَطْلُوبَةِ بِالْمَسْحِ فَرْضًا بِمَاءٍ طَهُورٍ يَسْتَعْمِلُهُ فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ كُلَّهُ مَحَلُّ الْمَسْحِ وَالْبَلَلُ طَهُورٌ مَا لَمْ يَسْتَوْعِبْ الْعُضْوَ كَالْمَاءِ فِي الْغُسْلِ يَبْقَى طَهُورًا فِي آخِرِ الْعُضْوِ عَلَى حُكْمِ الِابْتِدَاءِ فَيَزْدَادُ بِالْأَمْدَادِ طَهَارَةً قَدْرَ الْفَرْضِ الَّذِي لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ أَجْزَأَهُ بِطَهَارَةٍ مِثْلِهَا بِمَاءٍ مِثْلِ مَاءِ الْأَصْلِ فِي مَحَلٍّ مِثْلِ مَحَلِّ الْأَصْلِ فَيُلْحَقُ بِالْغُسْلِ إذَا ثُلِّثَ فَيُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بِمَاءٍ طَهُورٍ كَمَا كُرِهَ فِي الْغُسْلِ بَعْدَ الثَّلَاثِ وَيَظْهَرُ بِهَذَا أَيْ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ وَالْمُمَانَعَةِ فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ الْمُعَلِّلَ يُضْطَرُّ إلَى الرُّجُوعِ إلَى طَلَبِ التَّأْثِيرِ لِوَصْفِ الرُّكْنِيَّةِ فِي التَّكْرَارِ وَإِلَى التَّأَمُّلِ فِي وَصْفِ الْمَسْحِ الَّذِي هُوَ مُعْتَمَدُ خَصْمِهِ فَتَبَيَّنَ حِينَئِذٍ أَنْ لَا أَثَرَ لِلرُّكْنِيَّةِ فِي التَّكْرَارِ أَصْلًا فَإِنَّ فِي أَرْكَانِ الصَّلَاةِ لَمْ يُشْرَعْ التَّكْرَارُ فَرْضًا وَلَا سُنَّةً مَعَ قِيَامِ وَصْفِ الرُّكْنِيَّةِ وَلَا أَثَرَ لَهَا أَيْ لِلرُّكْنِيَّةِ فِي التَّكْمِيلِ لَا مَحَالَةَ يَعْنِي لَيْسَ التَّكْمِيلُ مُخْتَصًّا بِالرُّكْنِيَّةِ مَعَ كَوْنِهَا مُؤَثِّرَةً فِيهِ بَلْ هُوَ ثَابِتٌ فِيمَا هُوَ رُخْصَةٌ وَفِيمَا هُوَ سُنَّةٌ أَيْضًا فَلَا يَكُونُ هَذَا الْوَصْفُ مُنْعَكِسًا أَلَا تَرَى أَنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ شَارَكَهُ مَسْحُ الْخُفِّ فِي الِاسْتِيعَابِ سُنَّةً يَعْنِي يُسَنُّ الِاسْتِيعَابُ فِي مَسْحِ الْخَلْفِ بِالْمُدِّ إلَيَّ السَّاقِ الَّتِي هِيَ مُنْتَهًى بِهَا مَحَلُّ الْغُسْلِ كَمَا يُسَنُّ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ. وَهُوَ أَيْ مَسْحُ الْخُفِّ رُخْصَةٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ نَزَعَ خُفَّيْهِ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ جَازَ وَكَانَ أَفْضَلَ وَلَوْ كَانَ رُكْنًا لَا يَتَأَدَّى الْوُضُوءُ بِدُونِهِ كَمَسْحِ الرَّأْسِ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَمَسْحِ الْخُفِّ الْمَضْمَضَةُ فِي أَنَّهَا لَيْسَتْ بِرُكْنٍ وَقَدْ شُرِعَ التَّكْمِيلُ فِيهَا أَيْضًا بِالتَّكْرَارِ كَغُسْلِ الْوَجْهِ فَثَبَتَ أَنَّ وَظَائِفَ الْوُضُوءِ أَرْكَانُهَا وَرُخَصُهَا وَسُنَنُهَا سَوَاءٌ فِي مَعْنَى التَّكْمِيلِ لَا اخْتِصَاصَ لِلرُّكْنِيَّةِ بِهِ فَأَمَّا الْمَسْحُ فَقَدْ ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ فِي التَّخْفِيفِ وَثَبَتَ اخْتِصَاصُ التَّخْفِيفِ بِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ لَا مَحَالَةَ فَكَانَ مُنْعَكِسًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي لِطُهْرٍ مَعْقُولٍ يَعْنِي إنَّمَا كَانَ مُؤَثِّرًا فِي التَّخْفِيفِ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ لَا يُعْقَلُ فِيهِ مَعْنَى التَّطْهِيرِ بِدَلِيلِ أَنَّ الطَّهَارَةَ لَا تَحْصُلُ بِالْمَسْحِ أَوْ تَحَقَّقَتْ نَجَاسَةٌ فِي الْمَحَلِّ فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ كَانَ الْمَسْحُ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يُؤَدِّي لِطُهْرٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ يَعْنِي لَمَّا كَانَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ طَهَارَةً حُكْمِيَّةً لَا حَقِيقِيَّةً كَانَتْ الْإِطَالَةُ فِيهِ سُنَّةً لِيَزْدَادَ بِهَا طُهْرٌ حُكْمِيٌّ مِثْلُ الْأَوَّلِ مَعَ رِعَايَةِ صِفَةِ التَّخْفِيفِ. لَا التَّكْمِيلِ بِالتَّكْرَارِ؛ لِأَنَّ التَّكْمِيلَ بِهِ شُرِعَ فِيمَا عُقِلَ مَعْنَى التَّطْهِيرِ فِيهِ وَهُوَ التَّطْهِيرُ بِتَسْيِيلِ الْمَاءِ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ كَمَا فِي غُسْلِ النَّجَاسَةِ الْعَيْنِيَّةِ مِنْ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ وَهَذَا كُلُّهُ أَيْ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْتِيعَابَ تَثْلِيثٌ وَزِيَادَةٌ وَأَنَّ إكْمَالَ الْمَسْحِ بِطَرِيقِ السُّنَّةِ يَحْصُلُ بِالْإِطَالَةِ دُونَ التَّكْرَارِ بِنَاءً عَلَى كَذَا يَتَأَدَّى بِبَعْضِ الرَّأْسِ لَا مَحَالَةَ أَيْ بِكُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ اسْتَوْعَبَ أَوْ اقْتَصَرَ عَلَى مِقْدَارِ الْفَرْضِ. وَذَلِكَ أَيْ التَّأَدِّي بِالْبَعْضِ بِكُلِّ حَالٍ وَذَلِكَ أَيْ تَأَدِّي الْفَرْضِ بِالْكُلِّ وَالْحَطُّ إلَى الْأَدْنَى بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ مِثْلُ الْقُرَاةِ عِنْدَكُمْ فَإِنَّهَا وَإِنْ طَالَتْ كَانَتْ فَرْضًا مَعَ أَنَّ فَرْضَهَا يَتَأَدَّى بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَذَا الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَيْ عَمَّا ذَكَرُوا أَنَّ الْفَرْضَ يَتَأَدَّى بِالْكُلِّ وَالْحَطُّ إلَى الْأَدْنَى رُخْصَةٌ فَصَارَ الْبَعْضُ هُوَ الْمُرَادُ ابْتَدَأَ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ النَّصِّ الْمُوجِبِ لِلْقِرَاءَةِ فَإِنَّهُ لَا يَقْتَضِي تَبْعِيضًا بَلْ هُوَ دَالٌّ عَلَى وُجُوبِ مُطْلَقِ الْقِرَاءَةِ فَيَتَأَدَّى الْفَرْضُ بِمُطْلَقِ مَا يُسَمَّى قِرَاءَةً وَالْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ دَاخِلَانِ تَحْتَ الْمُطْلَقِ فَلِذَلِكَ يَتَأَدَّى الْفَرْضُ بِالْكَثِيرِ كَمَا يَتَأَدَّى بِالْقَلِيلِ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بَاشَرَ نَفْلَ قُرْبَةٍ لَا يَمْضِي فِي فَاسِدٍ فَلَا يَلْزَمُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ كَمَا قِيلَ فِي الْوُضُوءِ فَقُلْنَا لَهُمْ: لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ عِنْدَنَا بِالْإِفْسَادِ حَتَّى أَنَّهُ يَجِبُ إذَا فَسَدَ لَا بِاخْتِيَارِهِ بِأَنْ وَجَدَ الْمُتَيَمِّمُ فِي النَّفْلِ مَاءً لَكِنَّهُ بِالشُّرُوعِ يَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَفَوَاتُ الْمَضْمُونِ فِي ضَمَانِهِ يُوجِبُ الْمِثْلَ فَإِنْ قِيلَ وَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ بِالشُّرُوعِ وَلَا بِالْإِفْسَادِ قُلْنَا: عِنْدَنَا الْقُرْبَةُ بِهَذَا الْوَصْفِ لَا تُضْمَنُ وَإِنَّمَا تُضْمَنُ بِوَصْفٍ أَنَّهُ يَلْتَزِمُ بِالنَّذْرِ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ الْعَبْدُ مَالٌ فَلَا يَتَقَدَّرُ بَدَلُهُ بِالْقَتْلِ كَالدَّابَّةِ عِنْدَنَا لَا يَتَقَدَّرُ بَدَلُهُ بِهَذَا الْوَصْفِ بَلْ بِوَصْفِ الْآدَمِيَّةِ وَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ أَلَا يُرَى أَنَّ الْمَوْجُودَ قَدْ يَكُونُ بِبَعْضِ صِفَاتِهِ حَسَنًا وَبِبَعْضِ صِفَاتِهِ رَدِيًّا فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْقُرْبَةُ مَضْمُونَةً بِوَصْفٍ خَاصٍّ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ بِسَائِرِ الْأَوْصَافِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْفَضْلُ عَلَى نِصَابِ التَّكْمِيلِ بِدْعَةٌ كَالْفَضْلِ عَلَى الثَّلَاثِ فِي الْغُسْلِ وَالْفَضْلُ عَلَى الِاسْتِيعَابِ فِي مَسْحِ الْخُفِّ قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ وَهُوَ الْفَرْضِيَّةُ يُوجِبُ التَّعْيِينَ؛ لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْوَصْفِ وَاجِبٌ كَتَحْصِيلِ الْأَصْلِ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ نِيَّةِ الْفَرْضِ لِتَمَيُّزِهِ عَنْ غَيْرِهِ بِالتَّعْيِينِ. ، لَكِنَّهُ وَإِنْ أَوْجَبَ التَّعْيِينَ لَا يَمْنَعُ وُجُودَ مَا يُعَيِّنُهُ وَقَدْ وُجِدَ الْمُعَيِّنُ وَهُوَ انْفِرَادُهُ بِالشَّرْعِيَّةِ وَعَدَمُ الْمُزَاحِمِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَشْرَعْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ صَوْمًا سِوَى صَوْمِ الْفَرْضِ فَيَكُونُ مُتَعَيِّنًا بِتَعْيِينِ الشَّارِعِ فَإِذَا أَطْلَقَ صَارَ كَأَنَّهُ نَوَى الصَّوْمَ الْمَشْرُوعَ فِيهِ وَثَمَّةَ يَجُوزُ بِدُونِ التَّعْيِينِ فَكَذَا هَاهُنَا يَنْصَرِفُ مُطْلَقُ الِاسْمِ إلَيْهِ فَيَكُونُ إطْلَاقُهُ تَعْيِينًا أَيْ إصَابَةً لِلْمَشْرُوعِ الْمُعَيَّنِ وَلِأَنَّهُ أَيْ صَوْمَ رَمَضَانَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ مِنْ الْعَبْدِ ابْتِدَاءً كَمَا قُلْتُمْ، وَلَكِنَّ التَّعْيِينَ قَدْ وُجِدَ مِنْ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ النِّيَّةِ مِنْهُ تَعْيِينٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا أَنَّ التَّعْيِينَ سَاقِطٌ عَنْهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ النُّكْتَتَيْنِ أَنَّ النُّكْتَةَ الْأُولَى تُشِيرُ إلَى أَنَّ التَّعْيِينَ سَاقِطٌ عَنْ الْعَبْدِ لِحُصُولِ التَّعْيِينِ بِتَعْيِينِ الشَّارِعِ وَالنُّكْتَةُ الثَّانِيَةُ تُشِيرُ إلَى أَنَّ التَّعْيِينَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ، وَلَكِنَّ إطْلَاقَ النِّيَّةِ مِنْهُ تَعْيِينٌ فَكَانَ التَّعْيِينُ مُضَافًا إلَى الْعَبْدِ فَفِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ إنَّمَا أَمْكَنَ لِلسَّائِلِ الْقَوْلُ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ فِيهِمَا وَهُوَ التَّثْلِيثُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَالتَّعْيِينُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ لَيْسَ مَحَلَّ النِّزَاعِ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّ الِاسْتِيعَابَ تَثْلِيثٌ وَأَنَّ الْإِطْلَاقَ تَعْيِينٌ قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِمَّا يَتَأَتَّى فِيهِ الْقَوْلُ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ الشُّرُوعَ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ أَوْ صَوْمِ النَّفْلِ غَيْرُ مُلْزِمٍ بَاشَرَ نَفْلَ قُرْبَةٍ إلَى آخِرِهِ. حَتَّى إنَّهُ أَيْ الْقَضَاءَ يَجِبُ إذَا فَسَدَ لَا بِاخْتِيَارِهِ بِأَنْ شَرَعَ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ بِالتَّيَمُّمِ نَاسِيًا الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ، ثُمَّ وَجَدَهُ أَيْ تَذَكَّرَهُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ أَوْ شَرَعَ فِي صَوْمِ النَّفْلِ فَصَبَّ الْمَاءَ فِي حَلْقِهِ فِي النَّوْمِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَنَا وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِفْسَادُ وَلَمَّا وَجَبَ الْقَضَاءُ بِالْفَسَادِ كَمَا وَجَبَ بِالْإِفْسَادِ عُلِمَ أَنَّهُ مُضَافٌ إلَى مَعْنًى آخَرَ شَامِلٍ لَهُمَا وَهُوَ الشُّرُوعُ الَّذِي يَصِيرُ الْأَدَاءُ بِهِ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَفَوَاتُ الْمَضْمُونِ مُوجِبٌ لِلْمِثْلِ فَإِنْ قِيلَ: أَيْ غَيْرُ الْمُعَلَّلِ الْعِبَارَةُ فَقَالَ: بَاشَرَ نَفْلَ قُرْبَةٍ لَا يَمْضِي فِي فَاسِدِهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ بِالشُّرُوعِ وَلَا بِالْإِفْسَادِ كَالْوُضُوءِ. قُلْنَا كَذَا يَعْنِي نَلْتَزِمُ هَذَا الْمُوجِبَ أَيْضًا وَنَقُولُ لَا تُضْمَنُ الْقُرْبَةُ بِالشُّرُوعِ الْمُضَافِ إلَى عِبَادَةٍ لَا يَمْضِي فِي فَاسِدِهَا وَإِنَّمَا تُضْمَنُ بِالشُّرُوعِ فِي عِبَادَةٍ تُلْتَزَمُ بِالنُّذُورِ وَلَا بُدَّ مِنْ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَى هَذَا الْوَصْفِ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ إنَّمَا يُذْكَرُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ وَمَا ذُكِرَ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِلْوُجُوبِ فَلَا بُدَّ مِنْ إضَافَتِهِ إلَى وَصْفٍ يَصْلُحُ عِلَّةً لِلْوُجُوبِ وَهُوَ أَنَّهُ مِمَّا يُلْتَزَمُ بِالنَّذْرِ وَعَدَمُ اللُّزُومِ بِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يَمْتَنِعُ اللُّزُومُ بِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَإِذَا آلَ الْكَلَامُ إلَى مَا قُلْنَا يُضْطَرُّ الْمُعَلِّلُ إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الشُّرُوعَ غَيْرُ مُلْزِمٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ نَظِيرَ النَّذْرِ فِي كَوْنِهِ مُلْزِمًا فَيَظْهَرُ بِهِ فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ وَذَلِكَ أَيْ قَوْلُهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّهُ بَاشَرَ نَفْلَ قُرْبَةٍ لَا يَمْضِي فِي فَاسِدِهَا فَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ مِثْلُ قَوْلِهِمْ فِي الْعَبْدِ إلَى آخِرِهِ وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ مَا إذَا قَتَلَ الْعَبْدَ خَطَأً يَجِب عَلَى الْقَاتِلِ قِيمَتُهُ وَلَا تُزَادُ عَنْ دِيَةِ الْحُرِّ وَتُنْقَصُ مِنْهَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَعِنْدَهُمْ تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ قَالُوا: الْعَبْدُ مَالٌ فَلَا يَتَقَدَّرُ بَدَلُهُ بِالْقَتْلِ كَالدَّابَّةِ وَغَيْرِهَا. وَقُلْنَا: لَا يَتَقَدَّرُ بَدَلُهُ بِهَذَا الْوَصْفِ وَهُوَ الْمَالِيَّةُ، وَلَكِنَّهُ لَا يَمْنَعُ وُجُودَ وَصْفٍ آخَرَ يَتَقَدَّرُ بَدَلُهُ بِهِ وَهُوَ وَصْفُ الْآدَمِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ بِهَذَا الْوَصْفِ لَيْسَ بِمَالٍ بَلْ هُوَ مَبْقِيّ عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ عَلَى مَا عُرِفَ فَيُقَدَّرُ بَدَلُهُ بِهَذَا الْوَصْفِ كَدِيَةِ الْحُرِّ لَا بِوَصْفِ الْمَالِيَّةِ وَأَمَّا

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ أَسْلَمَ مَذْرُوعًا فِي مَذْرُوعٍ فَجَازَ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهَذَا الْوَصْفِ لَا يَفْسُدُ عِنْدَنَا وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ وُجُودَ الْفَسَادِ بِدَلِيلِهِ كَمَا إذَا قُرِنَ بِهِ شَرْطٌ فَاسِدٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي الْمُخْتَلِعَةِ أَنَّهَا مُنْقَطِعَةُ النِّكَاحِ فَلَا يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ كَمُنْقَضِيَةِ الْعِدَّةِ وَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَلْحَقُهَا بِهَذَا الْوَصْفِ بَلْ بِوَصْفِ أَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ عَنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ تَحْرِيرٌ فِي تَكْفِيرٍ فَلَا يَقَعُ بِهِ التَّكْفِيرُ إلَّا بِإِيمَانِ الْمُحَرَّرِ وَنَحْنُ نَقُولُ هَذَا الْوَصْفُ يُوجِبُ الْإِيمَانَ عِنْدَنَا لَكِنَّ قِيَامَ الْمُوجِبِ لَا يَمْنَعُ مُعَارَضَةَ مَا يُسْقِطُهُ وَهُوَ إطْلَاقُ صَاحِبِ الشَّرْعِ الَّذِي هُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ كَالدَّيْنِ يَسْقُطُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي السَّرِقَةِ إنَّهَا أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ بِلَا تَدَيُّنٍ فَيُوجِبُ الضَّمَانَ قُلْنَا: نَحْنُ نَقُولُ بِهِ لَكِنْ لَا يَمْنَعُ اعْتِرَاضَ مَا يُسْقِطُهُ كَالْإِبْرَاءِ فَكَذَلِكَ اسْتِيفَاءُ الْحَدِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــQتَنْقِيصُ دِيَتِهِ مِنْ دِيَةِ الْحُرِّ بِعَشْرَةٍ فَسَيَأْتِيك بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ الْعَوَارِضِ. وَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ أَيْ الْتِزَامُ السَّائِلِ مَا ذَكَرَهُ الْمُعَلِّلُ مِنْ الْحُكْمِ بِنَاءً عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرَهُ وَإِثْبَاتُ مَقْصُودِهِ بِوَصْفٍ آخَرَ طَرِيقٌ حَسَنٌ فَإِنَّ الْمَوْجُودَ قَدْ يَكُونُ بِبَعْضِ صِفَاتِهِ حَسَنًا وَبِبَعْضِ صِفَاتِهِ رَدِيًّا أَيْ قَبِيحًا مَعَ أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ مُتَضَادَّانِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ فِي الْمَحْسُوسَاتِ وَالْمَشْرُوعَاتِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُوصَفُ بِالْحُسْنِ بِاعْتِبَارِ حُسْنِ وَجْهِهِ وَبِالْقُبْحِ بِاعْتِبَارِ قِصَرِ قَامَتِهِ وَقَتْلُ الْجَانِي حَسَنٌ بِاعْتِبَارِ جِنَايَتِهِ قَبِيحٌ بِاعْتِبَارِ تَخْرِيبِ بُنْيَانِ الرَّبِّ وَكَذَا الصَّوْمُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ وَالصَّلَاةُ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا وَكَذَا الْعَبْدُ بَيْنَ اثْنَيْنِ إذَا أَمَرَهُ أَحَدُهُمَا بِفِعْلٍ وَنَهَاهُ الْآخَرُ عَنْ عَيْنِ ذَلِكَ الْفِعْلِ كَانَ إقْدَامُهُ عَلَيْهِ وَانْتِهَاؤُهُ عَنْهُ حَسَنًا مِنْ وَجْهٍ قَبِيحًا مِنْ وَجْهٍ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْقُرْبَةُ مَضْمُونَةً بِوَصْفٍ خَاصٍّ وَهُوَ أَنَّهُ تُلْتَزَمُ بِالنَّذْرِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ بِسَائِرِ الْأَوْصَافِ وَهِيَ كَوْنُهَا قُرْبَةً وَكَوْنُهَا مِمَّا لَا يَمْضِي فِي فَاسِدِهَا وَكَوْنُهَا غَيْرَ وَاجِبَةٍ بِالْأَمْرِ وَنَحْوُهَا قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِمَّا قِيلَ فِيهِ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ قَوْلُهُمْ فِيمَا إذَا أَسْلَمَ مَذْرُوعًا فِي جِنْسِهِ بِأَنْ أَسْلَمَ هَرَوِيًّا فِي هَرَوِيٍّ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ أَسْلَمَ مَذْرُوعًا فِي مَذْرُوعٍ فَيَجُوزُ كَمَا إذَا أَسْلَمَ هَرَوِيًّا فِي هَرَوِيٍّ وَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ فَإِنَّ بِهَذَا الْوَصْفِ وَهُوَ أَنَّ هَذَا إسْلَامُ مَذْرُوعٍ فِي مَذْرُوعٍ لَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ عِنْدَنَا، وَلَكِنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ لَا يَمْنَعُ وُجُودَ الْفَسَادِ بِمَعْنًى آخَرَ مُوجِبٍ لِلْفَسَادِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْبِضْ رَأْسَ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ قُرِنَ بِهَذَا الْعَقْدِ شَرْطٌ فَاسِدٌ بِأَنْ أَسْلَمَ بِذِرَاعِ رَجُلٍ عَيْنَهُ كَانَ فَاسِدًا بِالِاتِّفَاقِ مَعَ وُجُودِ هَذَا الْوَصْفِ فَيَجُوزُ أَنْ يَفْسُدَ بِمَعْنَى الْجِنْسِيَّةِ أَيْضًا فَإِنَّهَا أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ الرِّبَا فَتَصْلُحُ مُحَرِّمَةً لِلنَّسِيئَةِ كَالْوَصْفِ الْآخَرِ وَهُوَ الْكَيْلُ فَإِنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ حِنْطَةً فِي شَعِيرٍ لَا يَجُوزُ لِمَا قُلْنَا مِنْ وُجُودِ أَحَدِ وَصْفَيْ عِلَّةِ الرِّبَا كَذَا هَاهُنَا فَحِينَئِذٍ يُضْطَرُّ الْمُعَلِّلُ إلَى بَيَانِ أَنَّ الْجِنْسِيَّةَ لَا تَصْلُحُ عِلَّةً لِفَسَادِ هَذَا الْعَقْدِ بِهَا إنْ أَمْكَنَهُ. وَكَذَلِكَ أَيْ وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُهُمْ فِي الْمُخْتَلِعَةِ إلَى آخِرِهِ وَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهِ أَيْ بِمُوجِبِ هَذَا التَّعْلِيلِ فَإِنَّ عِنْدَنَا لَا يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ بِوَصْفِ أَنَّهَا مُنْقَطِعَةُ النِّكَاحِ وَلَكِنْ بِوَصْفِ أَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ عَنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ فَإِنَّ الْعِدَّةَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ النِّكَاحِ وَبِبَقَائِهَا يَبْقَى مِلْكٌ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا حَتَّى كَانَ لَهُ وِلَايَةُ مَنْعِهَا عَنْ الْخُرُوجِ فَتَكُونُ الْمَرْأَةُ بِهَذَا الْوَصْفِ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ نِكَاحٌ صَحِيحٌ عَنْ الْمُعْتَدَّةِ عَنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِلطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهَا فِي حَالِ عَدَمِ الْمُتَارَكَةِ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِلطَّلَاقِ فَفِي حَالِ الْمُتَارَكَةِ الَّتِي هِيَ حَالَةُ الْعِدَّةِ أَوْلَى وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي اشْتِرَاطِ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالصَّوْمِ تَحْرِيرٌ فِي تَكْفِيرٌ. وَنَحْنُ نَقُولُ هَذَا الْوَصْفُ وَهُوَ كَوْنُهُ تَحْرِيرًا فِي تَكْفِيرٍ يُوجِبُ اشْتِرَاطَ إيمَانِ الْمُحَرَّرِ كَمَا قُلْتُمْ، لَكِنَّ قِيَامَ الْمُوجِبِ لِاشْتِرَاطِ الْإِيمَانِ لَا يَمْنَعُ مُعَارَضَةَ مَا يُسْقِطُ اشْتِرَاطَهُ وَهُوَ إطْلَاقُ صَاحِبِ الشَّرْعِ الَّذِي هُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ بِقَوْلِهِ {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] كَالدَّيْنِ يُسْقِطُ يَعْنِي قِيَامُ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ يُوجِبُ الْأَدَاءَ، وَلَكِنَّهُ لَا يَمْنَعُ وُجُودَ مَا يُسْقِطُهُ كَمَا إذَا أَبْرَأَ صَاحِبُ الْحَقِّ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ عَنْ حَقِّهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ حَصَلَ الِامْتِثَالُ بِالْأَمْرِ بِإِعْتَاقِ الْكَافِرَةِ كَمَا حَصَلَ بِإِعْتَاقِ الْمُؤْمِنَةِ فَيَخْرُجُ بِهِ عَنْ الْعُهْدَةِ فَيُضْطَرُّ الْمُعَلِّلُ عِنْدَ ذَلِكَ إلَى الرُّجُوعِ إلَى فِقْهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنَّ الِامْتِثَالَ لَا يَحْصُلُ بِتَحْرِيرِ الْكَافِرَةِ كَمَا لَا يَحْصُلُ بِهِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ

[الممانعة]

(الْفَصْلُ الثَّانِي) وَهُوَ الْمُمَانَعَةُ وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ مُمَانَعَةٌ فِي نَفْسِ الْوَصْفِ وَالثَّانِي فِي نَفْسِ الْحُكْمِ وَالثَّالِثُ فِي صَلَاحِهِ لِلْحُكْمِ وَالرَّابِعُ فِي نِسْبَةِ الْحُكْمِ إلَى الْوَصْفِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَمِثْلُ قَوْلِهِمْ عُقُوبَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْجِمَاعِ فَلَا يَجِبُ بِالْأَكْلِ كَحَدِّ الزِّنَا وَهَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ كَفَّارَةَ الْفِطْرِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْفِطْرِ دُونَ الْجِمَاعِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ. وَكَذَلِكَ وَكَقَوْلِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ الْكَفَّارَةِ قَوْلُهُمْ فِي السَّرِقَةِ يُغْنِي فِي أَنَّ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ ضَمَانِ الْمَسْرُوقِ عَنْ السَّارِقِ أَنَّهُمَا أَخَذَ مَالَ الْغَيْرِ بِلَا تَدَيُّنٍ أَيْ بِلَا اعْتِقَادِ إبَاحَةٍ وَتَأْوِيلٍ فِي الْأَخْذِ فَيُوجِبُ الضَّمَانَ كَالْغَصْبِ بِخِلَافِ أَخْذِ الْحَرْبِيِّ مَالَ الْمُسْلِمِ وَأَخَذَ الْبَاغِي مَالَ الْعَادِلِ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ؛ لِأَنَّهُ أَخْذٌ بِطَرِيقِ التَّدَيُّنِ إذْ الْحَرْبِيُّ يَعْتَقِدُ إبَاحَتَهُ وَالْبَاغِي يَأْخُذُ بِتَأْوِيلٍ فَيُعْتَبَرُ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُتْعَةِ وَإِنَّا نَقُولُ بِهِ أَيْ نُسَلِّمُ أَنَّ مَا ذَكَرُوا مِنْ الْوَصْفِ وَهُوَ أَنَّهُ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَمْنَعُ اعْتِرَاضَ مَا يُسْقِطُهُ. كَالْإِبْرَاءِ أَيْ كَإِبْرَاءِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَهُوَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ السَّارِقُ عَنْ الضَّمَانِ فَكَذَلِكَ أَيْ فَكَالْإِبْرَاءِ اسْتِيفَاءُ الْحَدِّ عِنْدَنَا فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ فَيَئُولُ الْكَلَامُ حِينَئِذٍ إلَى أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْحَدِّ هَلْ يُوجِبُ الضَّمَانَ أَمْ لَا فَيَظْهَرُ فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ فَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ قَصَدَ الْمُعَلِّلُ بِالتَّعْلِيلِ إبْطَالَ مَذْهَبِ خَصْمِهِ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ مِنْ الْحُكْمِ فَالسَّائِلُ بِالْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ بَيْنَ أَنَّ مَا ذَكَرْت لَيْسَ بِمَأْخَذِ الْحُكْمِ عِنْدِي وَإِنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ لَا يَقْدَحُ فِيمَا ذَهَبْت إلَيْهِ مِنْ الْحُكْمِ، ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ عَلَى السَّائِلِ بَعْدَمَا رَدَّ الْمَأْخَذَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُعَلِّلُ بَيَانَ مَأْخَذِهِ فَقِيلَ: يَجِبُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْمَأْخَذَ عِنْدَهُ وَلِعِلْمِهِ بِعَدَمِ التَّكْلِيفِ يَقُولُ بِهِ عِنَادًا قَصْدًا لِاتِّفَاقِ كَلَامِ خَصْمِهِ وَلَا كَذَلِكَ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ فَكَأَنَّ الْوُجُوبَ أَفْضَى إلَى صِيَانَةِ الْكَلَامِ عَنْ الْخَبْطِ وَالْعِنَادِ فَكَانَ أَوْلَى. وَقِيلَ: لَا يَجِبُ إذْ لَا وَجْهَ لِتَكْلِيفِهِ بِذَلِكَ بَعْدَ الْوَفَاءِ بِشَرْطِ الْمُوجِبِ وَهُوَ اسْتِبْقَاءُ مَحَلِّ النِّزَاعِ؛ لِأَنَّهُ عَاقِلٌ مُتَدَيِّنٌ وَهُوَ أَعْرَفُ بِمَأْخَذِ نَفْسِهِ أَوْ بِمَأْخَذِ إمَامِهِ فَكَانَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ الصِّدْقَ فِيمَا ادَّعَاهُ فَوَجَبَ تَصْدِيقُهُ كَيْفَ وَلَوْ لَمْ يُصَدَّقْ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ بَيَانَ الْمَأْخَذِ فَإِنْ أَمْكَنَ لِلْمُسْتَدِلِّ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ انْقَلَبَ الْمُسْتَدِلُّ مُعْتَرِضًا وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الْخَبْطِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَا فَائِدَةَ فِي إبْدَاءِ الْمَأْخَذِ لِإِمْكَانِ ادِّعَائِهِ مَا لَا يَصْلُحُ لِلتَّعْلِيلِ تَرْوِيجًا لِكَلَامِهِ ثِقَةً مِنْهُ بِامْتِنَاعِ وُرُودِ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ: الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ فِي هَذَا الْقِسْمِ وَهُوَ مَا إذَا كَانَ التَّعْلِيلُ لِإِبْطَالِ مَأْخَذِ الْخَصْمِ يُؤَدِّي إلَى الْقَوْلِ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ السَّائِلَ لَمَّا سَلَّمَ أَنَّ عِلَّةَ الْمُعَلِّلِ تُوجِبُ مَا رَتَّبَ عَلَيْهَا مِنْ الْحُكْمِ كَانَ يَخْلُفُ الْحُكْمُ عَنْهَا لِمَانِعٍ ثَبَتَ عِنْدَهُ فَيَكُونُ تَخْصِيصًا فَيَسْتَقِيمُ الْقَوْلُ بِهِ مِمَّنْ جَوَّزَ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ وَلَا يَسْتَقِيمُ مِمَّنْ أَنْكَرَهُ وَالشَّيْخُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ هَذِهِ الْفِرْقَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ مِنْهُ تَصْحِيحُ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ فِي هَذَا الْقِسْمِ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ تَخْصِيصٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ يَتَرَاءَى أَنَّهُ تَخْصِيصٌ صُورَةً؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّخْصِيصِ دَفْعُ النَّقْضِ عَنْ الْعِلَّةِ الَّتِي رَامَ الْمُعَلِّلُ تَصْحِيحَهَا بِبَيَانِ مَانِعِ الْمُخَصِّصِ وَلَيْسَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مَقْصُودُ السَّائِلِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ تَصْحِيحُ عِلَّةِ الْمُعَلِّلِ بَلْ الْمَقْصُودُ مِنْهُ إفْحَامُهُ وَإِيقَافُ كَلَامِهِ لَا غَيْرُ فَلَمْ يَكُنْ تَخْصِيصًا بَلْ كَانَ إبْطَالًا لِكَلَامِهِ مَعْنًى فَلِذَلِكَ صَحَّ مِنْ الْكُلِّ. [الْمُمَانَعَةُ] (الْفَصْلُ الثَّانِي) وَهُوَ الْمُمَانَعَةُ قَوْلُهُ (وَالرَّابِعُ فِي نِسْبَةِ الْحُكْمِ إلَى الْوَصْفِ) ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَ الطَّرْدِ يَشْتَرِطُونَ صَلَاحَ الْوَصْفِ وَتَعَلُّقَ الْحُكْمِ بِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا فَإِذَا انْقَطَعَتْ نِسْبَةُ الْحُكْمِ عَنْهُ كَانَ فَاسِدًا وَقِيلَ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي بَيْعِ التُّفَّاحَةِ بِالتُّفَّاحَةِ أَنَّهُ بَيْعُ مَطْعُومٍ بِمَطْعُومٍ مُجَازَفَةً فَيَبْطُلُ كَبَيْعِ الصُّبْرَةِ بِالصُّبْرَةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ مُجَازَفَةُ ذَاتٍ أَوْ وَصْفٍ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَوْلِ بِالذَّاتِ، ثُمَّ نَقُولُ مُجَازَفَةٌ فِي الذَّاتِ بِصُورَتِهِ أَوْ بِمِعْيَارِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَوْلِ بِالْمِعْيَارِ؛ لِأَنَّ الْمَطْعُومَ بِالْمَطْعُومِ كَيْلًا بِكَيْلٍ جَائِزٌ وَإِنْ تَفَاوَتَا فِي الذَّاتِ فَإِنْ قَالَ: لَا حَاجَةَ إلَى هَذَا لَمْ نُسَلِّمْ لَهُ الْمُجَازَفَةَ مُطْلَقَةً فَيُضْطَرُّ إلَى إثْبَاتِ أَنَّ الطُّعْمَ عِلَّةٌ لِتَحْرِيمِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْجِنْسِ مَعَ أَنَّ الْكَيْلَ الَّذِي يَظْهَرُ بِهِ الْجَوَازُ لَا يَعْدَمُ إلَّا الْفَضْلَ عَلَى الْمِعْيَارِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا الْقِسْمِ وَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ: إنَّ الْمُمَانَعَةَ فِي الْوَصْفِ هِيَ عَدَمُ تَسْلِيمِ وُجُودِ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ وَالْمُمَانَعَةُ فِي نِسْبَةِ الْحُكْمِ إلَى الْوَصْفِ هِيَ عَدَمُ تَسْلِيمِ كَوْنِ الْحُكْمِ مَنْسُوبًا إلَى الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ مَعَ تَسْلِيمِ وُجُودِ ذَلِكَ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ وَقِيلَ الْمُمَانَعَةُ فِي نَفْسِ الْوَصْفِ هِيَ مَنْعُ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ فِي الْفَرْعِ مَعَ تَسْلِيمِ تَعَلُّقِهِ بِهِ فِي الْأَصْلِ وَالْمُمَانَعَةُ فِي نِسْبَةِ الْحُكْمِ إلَى الْوَصْفِ هِيَ مَنْعُ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ فِي الْأَصْلِ. أَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ الْمُمَانَعَةُ فِي نَفْسِ الْوَصْفِ فَمِثْلُ قَوْلِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ إنَّهَا عُقُوبَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْجِمَاعِ فَلَا تَجِبُ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ كَحَدِّ الزِّنَا وَهَذَا الْوَصْفُ وَهُوَ كَوْنُهَا مُتَعَلِّقَةً بِالْجِمَاعِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عِنْدَنَا بَلْ هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْإِفْطَارِ إذَا كَمَّلَ جِنَايَةً لَا بِالْجِمَاعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ جَامَعَ نَاسِيًا لِصَوْمِهِ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ لِعَدَمِ الْفِطْرِ وَإِنْ كَانَ الْوَطْءُ زِنًا يُوجِبُ الْحَدَّ وَلَوْ جَامَعَ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ يَفْسُدُ لِوُجُودِ الْفِطْرِ وَإِنْ كَانَ الْوَطْءُ حَلَالًا فِي نَفْسِهِ. وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ آلَةُ الْفِطْرِ وَالْحُكْمُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْآلَةِ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَاصِلِ بِالْآلَةِ كَمَا فِي الْجُرْحِ فَإِنَّ مَنْ جَرَحَ إنْسَانًا وَمَاتَ الْمَجْرُوحُ بِهِ يَجِبُ الْقِصَاصُ وَلَا يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهُ بِالْآلَةِ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْجُرْحِ الْحَاصِلِ بِالْآلَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْإِفْطَارِ عَلَى وَجْهِ الْجِنَايَةِ وَهَذَا الْوَصْفُ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الْجِمَاعَ وَالْأَكْلَ وَالشُّرْبَ عَلَى السَّوَاءِ فَيَثْبُت الْحُكْمُ بِكُلِّ وَاحِدٍ وَعِنْدَ إلْحَاقِ هَذَا الْمَنْعِ يُضْطَرُّ إلَى بَيَانِ حَرْفِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنَّ الْفِطْرَ بِالْجِمَاعِ فَوْقَ الْفِطْرِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي الْجِنَايَةِ فَلَا يُمْكِنُ إلْحَاقُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِهِ قِيَاسًا وَلَا دَلَالَةَ، ثُمَّ قِيلَ: إيرَادُ هَذَا الْمِثَالِ هَاهُنَا غَيْرُ مُلَائِمٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَمْثِلَةِ الْقِسْمِ الرَّابِعِ فَإِنَّ السَّائِلَ مَنَعَ فِيهِ نِسْبَةَ الْحُكْمِ إلَى الْجِمَاعِ وَأَضَافَهُ إلَى وَصْفٍ آخَرَ وَهُوَ الْفِطْرُ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُمَانَعَةٌ فِي الْوَصْفِ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُعَلِّلَ جَعَلَ كَوْنَ الْكَفَّارَةِ مُتَعَلِّقَةً بِالْجِمَاعِ عِلَّةً لِلْمَنْعِ مِنْ الْوُجُوبِ فِي الْأَكْلِ وَالسَّائِلُ مَنَعَ كَوْنَهُ مُتَعَلِّقًا بِالْجِمَاعِ فَيَكُونُ مَانِعًا لِنَفْسِ الْوَصْفِ عَنْ كَوْنِهِ عِلَّةً فَيَصِحُّ إيرَادُهُ هَاهُنَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِمَّا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مُمَانَعَةً نَفْسَ الْوَصْفِ قَوْلُهُمْ فِي بَيْعِ التُّفَّاحَةِ بِالتُّفَّاحَةِ أَنَّهُ بَيْعُ مَطْعُومٍ بِمَطْعُومٍ مِنْ جِنْسِهِ مُجَازَفَةً فَيَبْطُلُ كَبَيْعِ الصُّبْرَةِ مِنْ الْحِنْطَةِ بِصُبْرَةٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّا نَقُولُ تُرِيدُونَ بِالْمُجَازَفَةِ مُجَازَفَةَ ذَاتٍ أَوْ وَصْفٍ أَيْ تُرِيدُونَ مُجَازَفَةً تَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْبَدَلَيْنِ أَوْ إلَى وَصْفِهِمَا مِنْ الرَّدَاءَةِ وَالْجَوْدَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَوْلِ بِالذَّاتِ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ وَالتَّسَاوِيَ فِي الْوَصْفِ سَاقِطَا الِاعْتِبَارِ فِي الْأَحْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ نَقُولُ مُجَازَفَةٌ فِي الذَّاتِ أَيْ تُرِيدُونَ مُجَازَفَةً فِي الذَّاتِ أَوْ تَقُولُونَ: هِيَ مُجَازَفَةٌ فِي الذَّاتِ بِاعْتِبَارِ صُورَتِهَا الَّتِي بِهَا عُرِفَتْ تُفَّاحَةٌ أَمْ هِيَ مُجَازَفَةٌ بِالنَّظَرِ إلَى الْمِعْيَارِ الَّذِي وُضِعَ لِمَعْرِفَةِ الْقَدْرِ مِنْ الْأَشْيَاءِ وَالضَّمِيرُ فِي صُورَتِهِ رَاجِعٌ إلَى الْمَبِيعِ أَوْ إلَى الذَّاتِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ. فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَوْلِ بِالْمِعْيَارِ أَيْ بِالْمُجَازَفَةِ مِنْ حَيْثُ الْمِعْيَارُ؛ لِأَنَّ الْمُجَازَفَةَ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ لَا تَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ بِالِاتِّفَاقِ فَإِنَّ بَيْعَ قَفِيزٍ مِنْ حِنْطَةٍ بِقَفِيزٍ مِنْهَا جَائِزٌ مَعَ وُجُودِ الْمُجَازَفَةِ فِي الذَّاتِ صُورَةً فَرُبَّمَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَكْبَرَ مِنْ الْآخَرِ فِي عَدَدِ الْحَبَّاتِ وَالْأَجْزَاءِ فَإِنْ قِيلَ: أَيْ إنْ ذَكَرَ الْمُعَلِّلُ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ لِي إلَى هَذَا التَّفْصِيلِ بَلْ أُرِيدُ بِهَا مُطْلَقَ الْمُجَازَفَةِ لَمْ نُسَلِّمْ لَهُ الْمُجَازَفَةَ مُطْلَقَةً أَيْ لَا نُسَلِّمُ لَهُ أَنَّ مُطْلَقَ الْمُجَازَفَةِ مَانِعٌ مِنْ صِحَّةِ هَذَا الْبَيْعِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مِنْ الْمُجَازَفَةِ مَا لَا يَمْنَعُ بَيْعَ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ أَنَّهَا ثَيِّبٌ تُرْجَى مَشُورَتُهَا فَلَا تُنْكَحُ إلَّا بِرَأْيِهَا كَالثَّيِّبِ الْبَالِغَةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ بِرَأْيٍ حَاضِرٍ أَمْ بِرَأْيٍ مُسْتَحْدَثٍ فَأَمَّا الْحَاضِرُ فَلَمْ يُوجَدْ فِي الْفَرْعِ وَأَمَّا الْمُسْتَحْدَثُ فَلَا يُوجَدُ فِي الْأَصْلِ فَإِنْ قَالَ: لَا حَاجَةَ إلَى هَذَا قُلْنَا لَهُ: عِنْدَنَا لَا تُنْكَحُ إلَّا بِرَأْيِهَا؛ لِأَنَّ رَأْيَ الْوَلِيِّ رَأْيُهَا فَإِنْ قَالَ: بِأَيِّهِمَا كَانَ انْتَقَضَ بِالْمَجْنُونَةِ؛ لِأَنَّ لَهَا رَأْيًا مُسْتَحْدَثًا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْجُنُونَ يَحْتَمِلُ الزَّوَالَ لَا مَحَالَةَ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَطْعُومِ بِالْمَطْعُومِ بِالْإِجْمَاعِ فَإِذًا لَا يَجِدُ الْمُعَلِّلُ بُدًّا مِنْ أَنْ يُفَسِّرَ الْمُجَازَفَةَ بِالْمُجَازَفَةِ فِي الْمِعْيَارِ وَهُوَ الْكَيْلُ وَإِذَا فَسَّرَهَا بِهَا لَمْ نُسَلِّمْ فِي وُجُودِهَا بَيْعَ التُّفَّاحَةِ بِالتُّفَّاحَةِ؛ لِأَنَّ التُّفَّاحَةَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ كَيْلِ الْمِعْيَارِ وَالْمُجَازَفَةُ فِيمَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ لَا تُتَصَوَّرُ فَقَدْ أَدَّى الِاسْتِفْسَارُ إلَى الْمُمَانَعَةِ فِي الْوَصْفِ فَيُضْطَرُّ الْمُعَلِّلُ بَعْدَ الِاسْتِفْسَارِ وَالْمُمَانَعَةِ إلَى الرُّجُوعِ إلَى حَرْفِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْحُرْمَةُ فِي بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِالْمَطْعُومِ؛ لِأَنَّ الطُّعْمَ عِنْدَهُ عِلَّةٌ لِتَحْرِيمِ الْبَيْعِ فِي الْمَطْعُومَاتِ وَالْجِنْسِيَّةُ شَرْطٌ وَالْمُسَاوَاةُ كَيْلًا مُخَلِّصٌ عَنْ الْحُرْمَةِ فَفِي بَيْعِ التُّفَّاحَةِ بِالتُّفَّاحَةِ قَدْ وُجِدَتْ الْعِلَّةُ وَالشَّرْطُ وَلَمْ يُوجَدْ الْمُخَلِّصُ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الْمُسَاوَاةِ فِيهِمَا كَيْلًا فَثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ كَمَا لَوْ فَاتَتْ الْمُسَاوَاةُ بِالْفَصْلِ عَلَى أَحَدِ الْكَيْلَيْنِ وَعِنْدَنَا الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ جَوَازُ الْعَقْدِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ وَالْفَسَادُ بِاعْتِبَارِ فَضْلٍ هُوَ حَرَامٌ وَهُوَ الْفَضْلُ عَلَى الْمِعْيَارِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا فِيمَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمِعْيَارِ إذْ الْفَضْلُ يَكُونُ بَعْدَ تِلْكَ الْمُسَاوَاةِ وَلَا تَتَحَقَّقُ هَذِهِ الْمُسَاوَاةُ فِيمَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْمِعْيَارِ أَصْلًا فَيَجُوزُ بَيْعُ التُّفَّاحَةِ بِالتُّفَّاحَةِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ وَقَوْلُهُ مَعَ أَنَّ الْكَيْلَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ لَا نُسَلِّمُ لَهُ الْمُجَازَفَةَ مُطْلَقَةً يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُطْلَقَ الْمُجَازَفَةِ مَانِعٌ مِنْ صِحَّةِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُسَاوَاةِ كَيْلًا بِالْإِجْمَاعِ وَبِهَا يَقَعُ الْمُخَلِّصُ عَنْ فَضْلٍ هُوَ رِبًا وَلَا يَزُولُ بِالْمُسَاوَاةِ كَيْلًا إلَّا فَضْلٌ عَلَى الْكَيْلِ فَثَبَتَ أَنَّ الْحُرْمَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمُجَازَفَةِ كَيْلًا لَا بِمُطْلَقِ الْمُجَازَفَةِ. أَوْ هُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ الطَّعْمُ عِلَّةٌ لِتَحْرِيمِ الْبَيْعِ يَعْنِي أَنَّهُ يَجْعَلُ الطَّعْمَ عِلَّةً لِتَحْرِيمِ الْبَيْعِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْجِنْسِ وَهُوَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْبَيْعِ فِي الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرِ عِنْدَ فَوَاتِ التَّسَاوِي كَيْلًا مَعَ أَنَّ الْكَيْلَ أَيْ التَّسَاوِيَ فِي الْكَيْلِ الَّذِي يَظْهَرُ بِهِ الْجَوَازُ لَا يُعْدَمُ إلَّا الْفَضْلَ عَلَى الْمِعْيَارِ أَيْ لَا يَقْتَضِي إلَّا الِاحْتِرَازَ عَنْ الْفَضْلِ عَلَى الْمِعْيَارِ فَكَانَ إثْبَاتُ الْعِلَّةِ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ مُطْلَقَةً فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى النَّصِّ قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِمَّا يُمْكِنُ فِيهِ مُمَانَعَةُ الْوَصْفِ قَوْلُهُمْ كَذَا الْوَلِيُّ يَمْلِكُ تَزْوِيجَ الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ عِنْدَنَا كَمَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَ الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ تَزْوِيجَهَا أَصْلًا حَتَّى تَبْلُغَ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَيْهَا زَالَتْ بِالثِّيَابَةِ فَإِذَا بَلَغَتْ فَحِينَئِذٍ يُزَوِّجُهَا بِمَشُورَتِهَا وَإِنْ كَانَتْ الثَّيِّبُ مَجْنُونَةً يَجُوزُ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ تَزْوِيجُهَا صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ تَزْوِيجُهَا إنْ كَانَتْ صَغِيرَةً. فَإِنْ بَلَغَتْ زَوَّجَهَا السُّلْطَانُ بِمَشُورَةِ الْأَوْلِيَاءِ أَوْ يَأْذَنُ لَهُمْ فِي تَزْوِيجِهَا كَذَا فِي التَّهْذِيبِ قَالُوا هَذِهِ ثَيِّبٌ يُرْجَى مَشُورَتُهَا وَاحْتَرَزُوا بِهِ عَنْ الْمَجْنُونَةِ فَإِنَّ مَشُورَتَهَا لَا تُرْجَى فِي الْغَالِبِ فَلَا تُنْكَحُ إلَّا بِرَأْيِهَا كَالثَّيِّبِ الْبَالِغَةِ النَّائِمَةِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهَا وَالْغَائِبَةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ مِنْ ذَلِكَ بِرَأْيٍ حَاضِرٍ أَمْ بِرَأْيٍ مُسْتَحْدَثٍ أَيْ تُرِيدُونَ بِقَوْلِكُمْ لَا تُنْكَحُ إلَّا بِرَأْيِهَا رَأَيَا قَائِمًا فِي الْحَالِ أَوْ رَأْيًا سَيَحْدُثُ فَإِنْ أَرَدْتُمْ الْأَوَّلَ فَلَا نُسَلِّمُ وُجُودَهُ فِي الْفُرُوعِ وَهُوَ الصَّغِيرَةُ إذْ لَيْسَ لَهَا رَأْيٌ قَائِمٌ فِي الْحِلِّ لَا فِي الْمَنْعِ وَلَا فِي الْإِطْلَاقِ فَإِنَّ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ تَزْوِيجَهَا لَمْ يَفْصِلْ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ بِرَأْيِهَا وَبِدُونِ رَأْيِهَا وَمَنْ جَوَّزَ الْعَقْدَ فَكَذَلِكَ لَمْ يَفْصِلْ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا رَأْيٌ قَائِمٌ. وَإِنْ عَنَيْتُمْ الثَّانِيَ فَلَا نُسَلِّمُ وُجُودَهُ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الثَّيِّبُ الْبَالِغَةُ؛ لِأَنَّ لَهَا رَأْيًا قَائِمًا لَا مُسْتَحْدَثًا وَلِهَذَا كَانَ لِلْوَلِيِّ تَزْوِيجُهَا بِمَشُورَتِهَا فِي الْحَالِ بِالِاتِّفَاقِ وَكَانَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِنَفْسِهَا أَيْضًا عِنْدَنَا فَكَانَ هَذَا مُمَانَعَةً لِنَفْسِ.

فَيَظْهَرُ بِهِ فَقْدُ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنَّ الْوِلَايَةَ ثَابِتَةٌ فَلَا يَمْنَعُهَا إلَّا الرَّأْيُ الْقَائِمُ فَأَمَّا الْمَعْدُومُ قَبْلَ الْوُجُودِ فَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا مَانِعًا أَوْ دَلِيلًا قَاطِعًا وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا أَمْثِلَةُ مَا يَدْخُلُ فِي الْفَرْعِ وَفِيهِ قِسْمٌ آخَرُ وَهُوَ مَا يَدْخُلُ فِي الْأَصْلِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ: إنَّهُ طَهَارَةُ مَسْحٍ فَيُسَنُّ تَثْلِيثُهُ كَالِاسْتِنْجَاءِ فَنَقُولُ: إنَّ الِاسْتِنْجَاءَ لَيْسَ بِطَهَارَةِ الْمَسْحِ بَلْ طَهَارَةٌ عَنْ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فَيُضْطَرُّ إلَى الرُّجُوعِ إلَى فِقْهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ بَيَانُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْرَارُ وَهُوَ الْغُسْلُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّخْفِيفُ وَهُوَ الْمَسْحُ وَهُمَا فِي طَرَفَيْ نَقِيضِ التَّكْرَارِ فِي أَحَدِهِمَا يُحَقَّقُ غَرَضُهُ وَفِي الثَّانِي يُفْسِدُهُ وَيَلْحَقُهُ بِالْمَحْظُورِ وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى. وَأَمَّا الْمُمَانَعَةُ فِي الْحُكْمِ فَمِثْلُ قَوْلِهِمْ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ إنَّهُ رُكْنٌ فِي وُضُوءٍ فَيُسَنُّ تَثْلِيثُهُ كَغَسْلِ الْوَجْهِ فَنَقُولُ: إنَّ غَسْلَ الْوَجْهِ لَا يُسَنُّ تَثْلِيثُهُ بَلْ يُسَنُّ تَكْمِيلُهُ بَعْدَ تَمَامِ فَرْضِهِ وَقَدْ حَصَلَ التَّكْمِيلُ هَا هُنَا وَلَكِنَّ التَّكْرَارَ صَيَّرَ إلَيْهِ فِي الْغُسْلِ لِضَرُورَةِ أَنَّ الْفَرْضَ اسْتَغْرَقَ مَحَلَّهُ وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ فِي هَذَا أَوْ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي الْأَصْلِ وَجَبَ بِالضَّرُورَةِ لِمَا قُلْنَا مِنْ الْأَرْكَانِ لَكِنَّ التَّكْرَارَ إطَالَتُهُ لَا تَكْرَارُهُ كَمَا فِي غَيْرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْوَصْفَ فِي الْفَرْعِ أَوْ الْأَصْلِ فَإِنْ قَالَ الْمُعَلِّلُ: لَا حَاجَة لِي إلَى التَّفْصِيلِ بَلْ اُشْتُرِطَ رَأْيُهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ قُلْنَا لَهُ نَحْنُ نَقُولُ: بِمُوجِبِ مَا ذَكَرْت فَإِنَّ عِنْدَنَا لَا تُنْكَحُ إلَّا بِرَأْيِهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ رَأْيَ الْوَلِيِّ قَائِمٌ مَقَامَ رَأْيِهَا كَمَا فِي عَامَّةِ التَّصَرُّفَاتِ فَإِنْ قَالَ: بِأَيِّهِمَا كَانَ يَعْنِي لَا أُرِيدُ بِإِطْلَاقِ الرَّأْيِ رَأْيَ الْغَيْرِ بَلْ أُرِيدُ رَأْيَ نَفْسِهَا قَائِمًا كَانَ أَوْ مُسْتَحْدَثًا انْتَقَضَ بِالثَّيِّبِ الْمَجْنُونَةُ الْبَالِغَةُ فَإِنَّهَا تُزَوَّجُ وَإِنْ كَانَ رَأْيُهَا مَرْجُوًّا بِالْإِفَاقَةِ إذْ الْجُنُونُ مُحْتَمِلٌ لِلزَّوَالِ لَا مَحَالَةَ كَالصَّبِيِّ، لَكِنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونَةِ بِأَنَّ الصَّغِيرَةَ بِالْبُلُوغِ تَصِيرُ مِنْ أَهْلِ الْإِذْنِ وَلِبُلُوغِهَا أَوَانٌ مُنْتَظَرٌ وَلَيْسَ لِإِفَاقَةِ الْمَجْنُونَةِ أَوَانٌ مُنْتَظَرٌ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي التَّهْذِيبِ. فَيَظْهَرُ بِهِ أَيْ بِمَا قُلْنَا مِنْ الْمُمَانَعَةِ فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنَّ وِلَايَةَ الْوَلِيِّ ثَابِتَةٌ فَلَا يَقْطَعُهَا إلَّا رَأْيٌ قَائِمٌ وَهُوَ رَأْيُ الْبَالِغَةِ فَأَمَّا الْمَعْدُومُ قَبْلَ الْوُجُودِ وَهُوَ الرَّأْيُ الَّذِي سَيَحْدُثُ لِلصَّغِيرَةِ فَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا مَانِعًا لِوِلَايَةِ الْوَلِيِّ مِنْ الثُّبُوتِ أَوْ دَلِيلًا قَاطِعًا لِوِلَايَتِهِ عَنْهَا بَعْدَ الثُّبُوتِ؛ لِأَنَّ مَا سَيَحْدُثُ مِنْ مَانِعٍ أَوْ عِلَّةٍ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا فِي الْحُكْمِ قَبْلَ ثُبُوتِهِ فِي الْمَنْعِ وَلَا فِي الْإِثْبَاتِ إذْ الْحُكْمُ لَا يَسْبِقُ عِلَّتَهُ فَكَيْفَ يَصْلُحُ الرَّأْيُ الْمَعْدُومُ مَانِعًا أَوْ قَاطِعًا. وَلَوْ كَانَ الرَّأْيُ الْمَعْدُومُ الَّذِي سَيَحْدُثُ قَاطِعًا لِلْوِلَايَةِ لَمَا ثَبَتَ الْوِلَايَةُ عَلَى صَبِيٍّ وَصَبِيَّةٍ وَرَأَيْت بِخَطِّ شَيْخِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَعَلَ الرَّأْيَ الْمُسْتَحْدَثَ غَالِبًا دَلِيلًا عَلَى قَطْعِ اسْتِبْدَادِ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ وَفِي نُكْتَةٍ جَعَلَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ النَّفَاذِ فَصَارَ مَحْجُوزًا بِسَبَبِ رَأْيِهَا فَالشَّيْخُ بِقَوْلِهِ شَرْطًا مَانِعًا أَوْ دَلِيلًا قَاطِعًا أَشَارَ إلَى الْمَعْنَيَيْنِ وَالْمَذْكُورُ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَعْدُومَ وَهُوَ الرَّأْيُ الْمُسْتَحْدَثُ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنْ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ لِلْجَدِّ فِيمَا إذَا مَاتَ أَبُو الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ وَانْتَقَلَتْ الْوِلَايَةُ إلَى الْجَدِّ أَوْ دَلِيلًا قَاطِعًا لِوِلَايَةِ الْوَلِيِّ فِيمَا إذَا ثَابَتَ وَالْوَلِيُّ بَاقٍ وَهَذَا الَّذِي قُلْنَا أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مُمَانَعَةِ الْوَصْفِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَمْثِلَةُ مُمَانَعَةِ الْوَصْفِ فِي الْفَرْعِ فَإِنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى كَوْنَ الْحُكْمِ مُتَعَلِّقًا بِالْجِمَاعِ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْجَدُّ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنَّهُ فِي الْفَرْعِ وَهُوَ كَفَّارَةُ الصَّوْمِ مَمْنُوعٌ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ الْمُجَازَفَةُ فِي بَيْعِ الصُّبْرَةِ بِالصُّبْرَةِ مُسَلَّمٌ وَلَكِنَّهَا فِي التُّفَّاحَةِ بِالتُّفَّاحَةِ مَمْنُوعَةٌ وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ مَنْعُ رَجَاءِ الْمَشُورَةِ عَنْ صِحَّةِ النِّكَاحِ مُسَلَّمٌ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْبَالِغَةُ دُونَ الْفَرْعِ وَهُوَ الصَّغِيرَةُ وَفِيهِ أَيْ فِي هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ مُمَانَعَةُ الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ فَإِنَّ فِي مَسْأَلَةِ التَّثْلِيثِ الْوَصْفَ وَهُوَ قَوْلُهُ طَهَارَةُ مَسْحٍ مُسَلَّمٌ فِي الْفَرْعِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الِاسْتِنْجَاءُ بَلْ هُوَ طَهَارَةٌ عَنْ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَلِهَذَا كَانَ الْغُسْلُ فِيهِ أَفْضَلَ وَلَوْ أَحْدَثَ وَلَمْ يَحْصُلْ التَّلْوِيثُ بِأَنْ خَرَجَ مِنْهُ رِيحٌ لَا يَلْزَمُهُ الْمَسْحُ وَلَا يُسَنُّ أَيْضًا فَعُلِمَ أَنَّهُ إزَالَةُ نَجَاسَةٍ حَقِيقِيَّةٍ. فَيُضْطَرُّ الْمُعَلِّلُ إلَى الرُّجُوعِ إلَى فِقْهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ بَيَانُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْرَارُ إلَى آخِرِهِ يَعْنِي فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ يَدُورُ عَلَى مَعْرِفَةِ مَعْنَى الْغُسْلِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ التَّكْرَارُ وَعَلَى مَعْرِفَةِ مَعْنَى الْمَسْحِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ التَّخْفِيفُ وَهُمَا أَيْ الْمَسْحُ وَالْغَسْلُ فِي اقْتِضَاءِ التَّكْرَارِ فِي طَرَفَيْ نَقِيضٍ يَعْنِي لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا مُتَنَاقِضَانِ فِي اقْتِضَاءِ التَّكْرَارِ فَإِنَّ التَّكْرَارَ فِي أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْغَسْلُ يُحَقِّقُ غَرَضَهُ وَهُوَ التَّنْظِيفُ وَالتَّطْهِيرُ الَّذِي وُضِعَ الْغَسْلُ لَهُ فَيَصْلُحُ التَّكْرَارُ مُكَمِّلًا لَهُ وَفِي الثَّانِي وَهُوَ الْمَسْحُ يُفْسِدُهُ أَيْ يُفْسِدُ التَّكْرَارَ حَقِيقَتَهُ وَيُلْحِقُهُ بِالْمَحْظُورِ وَهُوَ الْغُسْلُ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْغَسْلَ فِي مَوْضِعِ الْمَسْحِ مَكْرُوهٌ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ

وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ أَنَّهُ صَوْمُ فَرْضٍ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ يُقَالُ لَهُ بَعْدَ التَّعْيِينِ أَوْ قَبْلَهُ فَإِنْ قَالَ بَعْدَهُ لَمْ نَجِدْهُ فِي الْأَصْلِ فَصَحَّتْ الْمُمَانَعَةُ فَإِنْ قَالَ قَبْلَهُ لَمْ نَجِدْهُ فِي الْفَرْعِ فَصَحَّتْ الْمُمَانَعَةُ أَيْضًا فَإِنْ قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي إلَى هَذَا قُلْنَا: عِنْدَنَا لَا يَصِحُّ إلَّا بِالتَّعْيِينِ غَيْرَ أَنَّ إطْلَاقَهُ تَعْيِينٌ وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ فِي بَيْعِ التُّفَّاحَةِ بِالتُّفَّاحَةِ أَنَّهُ بَيْعُ مَطْعُومٍ بِجِنْسِهِ مُجَازَفَةً فَيَحْرُمُ كَالصُّبْرَةِ بِالصُّبْرَةِ يُقَالُ لَهُ: يَحْرُمُ حُرْمَةً مُؤَقَّتَةً أَوْ مُطْلَقَةً فَإِنْ قَالَ: مُؤَقَّتَةً لَمْ نَجِدْهَا فِي الْفَرْعِ لِعَدَمِ الْمُخَلِّصِ وَإِنْ قَالَ: مُطْلَقَةً لَمْ نَجِدْهَا فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ عِنْدَنَا فِي الْأَصْلِ مُتَنَاهِيَةٌ فَصَحَّتْ الْمُمَانَعَةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQأَحَدِهِمَا بِالْآخِرِ فِي شَرْعِيَّةِ التَّكْرَارِ عِبَارَةُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ فَيُضْطَرُّ الْمُعَلِّلُ عِنْدَ هَذَا الْمَنْعِ إلَى الرُّجُوعِ إلَى حَرْفِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ إثْبَاتُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمَمْسُوحِ وَالْمَغْسُولِ بِوَصْفٍ صَالِحٍ لِتَعَلُّقِ حُكْمِ التَّكْرَارِ بِهِ أَوْ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا بِوَصْفِ الْمَسْحِ وَالْغَسْلِ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِيعَابِ وَالْآخَرُ يَدُلُّ عَلَى التَّخْفِيفِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْمُمَانَعَةُ فِي الْحُكْمِ) وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنْ وُجُوهِ الْمُمَانَعَةِ فَنَقُولُ كَذَا يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَسْنُونَ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ التَّثْلِيثُ بَلْ الْمَسْنُونُ فِيهِ التَّكْمِيلُ بَعْدَ تَمَامِ فَرْضِهِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ فِي مَحَلِّهِ مِنْ جِنْسِهِ كَمَا فِي أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ إكْمَالَ رُكْنِ الْقِرَاءَةِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ فِي مَحَلِّهِ مِنْ جِنْسِهِ وَهُوَ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ وَقَدْ حَصَلَ التَّكْمِيلُ هَاهُنَا أَيْ فِي الْمَسْحِ بِالِاسْتِيعَابِ الَّذِي هُوَ سُنَّةٌ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى الْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ فِي مَحَلِّهِ مِنْ جِنْسِهِ، وَلَكِنَّ التَّكْرَارَ الِاسْتِدْرَاكُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ لَا يُسَنُّ تَثْلِيثُهُ بَلْ يُسَنُّ تَكْمِيلُهُ يَعْنِي التَّكْرَارُ فِي الْغُسْلِ لَيْسَ بِأَمْرٍ مَقْصُودٍ بَلْ الْمَقْصُودُ هُوَ التَّكْمِيلُ إلَّا أَنَّ الْفَرْضَ لَمَّا اسْتَغْرَقَ مَحَلَّهُ فِي الْغُسْلِ لَا يُمْكِنُ تَكْمِيلُهُ بِزِيَادَةٍ مِنْ جِنْسِهِ فِي مَحَلِّهِ إلَّا بِالتَّكْرَارِ فَكَانَ شَرْعِيَّةُ التَّكْرَارِ سُنَّةً ضَرُورَةَ فَرْضِيَّةِ الِاسْتِيعَابِ لَا لِغَيْرِ التَّكْرَارِ قَصْدًا وَهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ اسْتِيعَابُ الْفَرْضِ مَحَلُّهُ مَعْدُومٌ فِي الْمَسْحِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيعَابَ فِيهِ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى التَّكْرَارِ لِإِقَامَةِ سُنَّةِ التَّكْمِيلِ فِيهِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِاسْتِيعَابِ جَمِيعِ الرَّأْسِ مَرَّةً وَاحِدَةً. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: التَّكْرَارُ مَشْرُوعٌ لِغَيْرِهِ وَهُوَ تَحْصِيلُ الْإِكْمَالِ بِهِ لَا لِعَيْنِهِ وَمَا كَانَ مَشْرُوعًا لِغَيْرِهِ قَائِمًا يُشْرَعُ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْغَيْرِ فِي مَوْضِعٍ يَتَحَقَّقُ الْحَاجَةُ إلَيْهِ فَإِمَّا إذَا كَانَ مَا شُرِعَ لِأَجْلِهِ يَحْصُلُ بِدُونِهِ لَا يُفِيدُ اعْتِبَارُهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَرَّرَ الْمَسْحَ فِي رُبْعِ الرَّأْسِ أَوْ أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ لَا يَحْصُلُ بِهِ كَمَالُ السُّنَّةِ مَا لَمْ يَسْتَوْعِبْ جَمِيعَ الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ فَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ التَّكْمِيلَ هَاهُنَا بِالِاسْتِيعَابِ وَأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ إلَّا فِي مَوْضِعٍ يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ عَنْهُ بِأَنْ يَكُونَ الِاسْتِيعَابُ رُكْنًا فِي الْمَغْسُولَاتِ فَحِينَئِذٍ يُصَارُ إلَى الْإِكْمَالِ بِالتَّكْرَارِ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَسْحُ الْأُذُنَيْنِ فَإِنَّهُ شُرِعَ لِإِكْمَالِ الْمَسْحِ بِالرَّأْسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ حَتَّى لَمْ يَتَأَدَّ فَرْضُ الْمَسْحِ بِهِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَسْحَ لِإِكْمَالِ السُّنَّةِ فِي الْمَسْحِ بِالرَّأْسِ وَلِهَذَا لَا يَأْخُذُ لِأُذُنَيْهِ مَاءً جَدِيدًا عِنْدَنَا وَلَكِنْ يَمْسَحُ مُقَدِّمَهُمَا وَمُؤَخِّرَهُمَا مَعَ الرَّأْسِ وَالْمَسْحُ فِيهِمَا أَفْضَلُ مِنْ الْغَسْلِ إلَّا أَنَّ كَوْنَ الْأُذُنَيْنِ مِنْ الرَّأْسِ لَمَّا كَانَ ثَابِتًا بِالسُّنَّةِ دُونَ نَصِّ الْكِتَابِ يَثْبُتُ اتِّحَادُ الْمَحَلِّ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إكْمَالِ السُّنَّةِ بِهِ وَلَا يُثْبِتُ الْمَحَلِّيَّةَ فِيمَا يَتَأَدَّى بِهِ الْفَرْضُ الثَّابِتُ بِالنَّصِّ فَقُلْنَا: لَا يَنُوبُ مَسْحُ الْأُذُنَيْنِ عَنْ الْمَسْحِ بِالرَّأْسِ لِهَذَا وَلِأَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْغَسْلُ إطَالَتُهُ الْفَرْقُ بَيْنَ النُّكْتَتَيْنِ أَنَّ الْأُولَى لِبَيَانِ مَشْرُوعِيَّةِ نَفْسِ التَّكْمِيلِ فِي الْأَصْلِ أَيْ التَّكْمِيلُ سُنَّةٌ فِيهِ دُونَ التَّثْلِيثِ وَالثَّانِيَةُ لِبَيَانِ مَشْرُوعِيَّةِ سَبَبِ التَّكْمِيلِ فِيهِ فَإِنَّ بِالْإِطَالَةِ يَحْصُلُ التَّكْمِيلُ كَمَا فِي أَرْكَانِ الصَّلَاةِ لِمَا قُلْنَا مِنْ اسْتِغْرَاقِ الْفَرْضِ مَحَلَّهُ قَوْلُهُ. (وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ) أَيْ فِي مَنْعِ جَوَازِهِ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ إنَّهُ صَوْمُ فَرْضٍ فَلَا يَصِحُّ أَدَاؤُهُ إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ كَصَوْمِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ يُقَالُ لَهُ أَيْ لِلْمُعَلِّلِ بَعْدَ التَّعَيُّنِ أَوْ قَبْلَهُ أَيْ أَتُرِيدُ بِوُجُوبِ التَّعَيُّنِ وُجُوبَهُ بَعْدَ تَعَيُّنِ الصَّوْمِ أَوْ قَبْلَهُ فَإِنْ قَالَ: بَعْدَهُ لَمْ نَجِدْهُ أَيْ هَذَا الْحُكْمُ وَهُوَ وُجُوبُ التَّعْيِينِ بَعْدَ التَّعْيِينِ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ صَوْمُ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ بَعْدَ التَّعَيُّنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهِ فَيَكُونُ هَذَا مُمَانَعَةَ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ وَإِنْ قَالَ قَبْلَهُ أَيْ قَالَ

وَمِثْلُهُ مَا قُلْنَا فِي قَوْلِهِمْ ثَيِّبٌ تُرْجَى مَشُورَتُهَا فَلَا تُنْكَحُ كُرْهًا يُقَالُ لَهُ مَا مَعْنَى الْكُرْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُقَالَ: عَدَمُ رَأْيِهَا فَيُقَالُ فِي الْأَصْلِ عَدَمُ الرَّأْيِ غَيْرُ مَانِعٍ لَكِنَّ الرَّأْيَ الْقَائِمَ الْمُعْتَبَرَ مَانِعٌ وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْفَرْعِ رَأْيٌ مُعْتَبَرٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــQأُرِيدُ بِوُجُوبِ التَّعْيِينِ وُجُوبَهُ قَبْلَ تَعَيُّنِ الصَّوْمِ. لَمْ يَجِدْهُ أَيْ لَمْ يُمْكِنْهُ إيجَابُهُ قَبْلَ التَّعَيُّنِ فِي الْفَرْعِ وَهُوَ صَوْمُ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ التَّعَيُّنَ حَاصِلٌ فِيهِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ فِي هَذَا الزَّمَانِ إذْ الْمَشْرُوعُ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَيْسَ إلَّا صَوْمُ الْوَقْتِ فَصَحَّتْ الْمُمَانَعَةُ أَيْضًا أَيْ صَحَّتْ مُمَانَعَةُ هَذَا الْحُكْمِ وَهُوَ وُجُوبُ التَّعْيِينِ فِي الْفَرْعِ كَمَا صَحَّتْ فِي الْأَصْلِ فَإِنْ قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي إلَى هَذَا أَيْ إلَى بَيَانِ أَنَّ التَّعْيِينَ وَجَبَ قَبْلَ التَّعْيِينِ أَوْ بَعْدَهُ بَلْ التَّعْيِينُ وَاجِبٌ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى أَنَّهُ قَبْلَ التَّعَيُّنِ أَوْ بَعْدَهُ قُلْنَا لَهُ كَذَا نَعْنِي بِدَفْعِهِ حِينَئِذٍ بِالْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ فَنَقُولُ: لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا إلَّا بِالتَّعْيِينِ أَيْضًا غَيْرَ أَنَّ إطْلَاقَهُ أَيْ إطْلَاقَ النِّيَّةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْعَزْمِ تَعْيِينٌ لِلصَّوْمِ أَوْ إطْلَاقُ الصَّائِمِ النِّيَّةَ تَعْيِينٌ فَيُضْطَرُّ إلَى الرُّجُوعِ إلَى حَرْفِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ هَلْ يَسْقُطُ اشْتِرَاطُهُ بِكَوْنِ الْمَشْرُوعِ مُتَعَيِّنًا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَمْ لَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ فِي بَيْعِ التُّفَّاحَةِ بِالتُّفَّاحَةِ أَنَّهُ أَيْ هَذَا الْبَيْعَ كَذَا يُقَالُ لَهُ أَيْ لِلْمُسْتَدِلِّ حُرْمَةٌ مُطْلَقَةٌ أَيْ يَثْبُتُ بِهَذَا الْبَيْعِ حُرْمَةٌ مُطْلَقَةٌ أَوْ مُوَقَّتَةٌ أَيْ مُغَيَّاةٌ إلَى غَايَةِ وُجُودِ التَّسَاوِي. فَإِنْ قَالَ: مُوَقَّتَةٌ أَيْ يَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةٌ مُوَقَّتَةٌ لَمْ نَجِدْهَا فِي الْفَرْعِ وَهُوَ بَيْعُ التُّفَّاحَةِ بِالتُّفَّاحَةِ لِعَدَمِ الْمُخَلِّصِ إذْ لَيْسَ لِلتُّفَّاحَةِ حَالَةُ مُسَاوَاةٍ يَجُوزُ الْبَيْعُ فِيهَا عِنْدَ الْخَصْمِ لِعَدَمِ دُخُولِهَا تَحْتَ الْكَيْلِ فَيَكُونُ هَذَا مُمَانَعَةَ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ وَإِنْ قَالَ: يَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةٌ مُطْلَقَةٌ لَمْ نَجِدْهَا فِي الْأَصْلِ وَهُوَ بَيْعُ الصُّبْرَةِ بِالصُّبْرَةِ فَيَكُونُ مُمَانَعَةَ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مُتَنَاهِيَةٌ مُوَقَّتَةٌ إلَى غَايَةٍ وَهِيَ الْمُسَاوَاةُ فِي الْقَدْرِ فَإِنَّ الْبَدَلَيْنِ إذَا كُيِّلَا وَلَمْ يَظْهَرْ فَضْلٌ فِي أَحَدِهِمَا يَعُودُ الْعَقْدُ إلَى الْجَوَازِ عِنْدَنَا لِزَوَالِ الْمَعْنَى الْمُفْسِدِ كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ فَصَحَّتْ الْمُمَانَعَةُ أَيْ مُمَانَعَةُ الْحُكْمِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ. فَإِنْ قَالَ: لَا حَاجَةَ إلَى بَيَانِ أَنَّهَا مُطْلَقَةٌ أَوْ مُوَقَّتَةٌ لَا نُسَلِّمُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ الْمُوَقَّتَةَ إلَى غَايَةٍ غَيْرُ الْحُرْمَةِ الْمُطْلَقَةِ وَالْحُكْمُ الَّذِي يَقَعُ التَّعْلِيلُ لَهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا مُتَّحِدًا فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَيَظْهَرُ حِينَئِذٍ حَرْفُ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ حُرْمَةُ نُزُولٍ بِالْمُسَاوَاةِ كَيْلًا لَا حُرْمَةٌ مُطْلَقَةٌ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لِلْمُفَاضَلَةِ الْحُرْمَةُ وَالْمُسَاوَاةُ فَلَا تُنْكَحُ كُرْهًا يَعْنِي قِيَاسًا عَلَى الثَّيِّبِ الْبَالِغَةِ يُقَالُ لَهُ: مَا مَعْنَى الْكُرْهِ أَيْ مَا تَعْنِي بِقَوْلِك لَا تُنْكَحُ كُرْهًا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَقُولَ: أُرِيدُ أَنَّهَا لَا تُنْكَحُ بِدُونِ رَأْيِهَا إذْ لَيْسَ هُنَاكَ إكْرَاهُ تَخْوِيفٍ. فَيُقَالُ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْبَالِغَةُ عَدَمُ رَأْيِهَا غَيْرُ مَانِعٍ عَنْ صِحَّةِ التَّزْوِيجِ وَنُفُوذِ وِلَايَةِ الْغَيْرِ عَلَيْهَا فَيَكُونُ هَذَا مُمَانَعَةَ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ، لَكِنَّ الرَّأْيَ الْقَائِمَ الْمُعْتَبَرَ مَانِعٌ وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْفَرْعِ رَأْيٌ مُعْتَبَرٌ فَيَكُونُ هَذَا مُمَانَعَةَ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ. وَتَبَيَّنَ بِهِ حَرْفُ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ هُوَ الصِّغَرُ عِنْدَنَا دُونَ الْبَكَارَةِ وَعِنْدَهُ عَلَى الْعَكْسِ وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ النِّكَاحَ مِنْ الْمَضَارِّ وَضْعًا فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ إثْبَاتُ الْمِلْكِ عَلَيْهَا وَسَلْبُ مُوجِبِ الْحُرِّيَّةِ وَهُوَ إرْقَاقٌ مِنْ وَجْهٍ وَلِهَذَا صِينَتْ الْأُمُّ عَنْ نِكَاحِ الِابْنِ وَالْمُسْلِمَةُ عَنْ نِكَاحِ الْكَافِرِ وَإِنَّمَا تُحْمَلُ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ حَاجَتِهَا إلَى اقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ كَمَا يُتَحَمَّلُ قَطْعُ الْيَدِ عِنْدَ وُقُوعِ الْأَكْلَةِ وَلَا حَاجَةَ إلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتَ الْجَوَازُ قَبْلَهُ إلَّا أَنَّهُ جُوِّزَ فِي حَقِّ الْبِكْرِ قَبْلَ الْبُلُوغِ لِدَلِيلٍ قَامَ لَنَا عَلَى أَنَّ إجْبَارَهَا عَلَى النِّكَاحِ جَائِزٌ فَلَا مَعْنَى لِلتَّوْقِيفِ عَلَى حَالِ الْبُلُوغِ إذَا لَمْ يُعْتَبَرْ إذْنُهَا بَعْدَهُ وَفِي حَقِّ الثَّيِّبِ التَّوَقُّفُ مُفِيدٌ فَيُؤَخَّرُ إلَى حَالِ الْبُلُوغِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى تَفْوِيتِ الْإِذْنِ عَلَيْهَا وَعِنْدَنَا النِّكَاحُ مِنْ الْمَصَالِحِ وَضْعًا فِي جَانِبِهَا؛ لِأَنَّهُ لِتَحْصِيلِ

وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ مَا يَثْبُتُ مَهْرًا دَيْنًا يَثْبُتُ سَلَمًا كَالْمُقَدَّرِ فَيُقَالُ: ثَبَتَ مَعْلُومًا بِوَصْفِهِ أَمْ بِقِيمَتِهِ فَإِنْ قَالَ بِوَصْفِهِ لَمْ يُسَلَّمْ فِي الْفَرْعِ وَإِنْ قَالَ بِقِيمَتِهِ لَمْ يُسَلَّمْ فِي الْفَرْعِ وَإِنْ قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي إلَى هَذَا قُلْنَا بَلْ إلَيْهِ حَاجَةٌ لِبَيَانِ اسْتِوَائِهِمَا فِي طَرِيقِ الثُّبُوتِ وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ أَحَدُهُمَا يَحْتَمِلُ جَهَالَةَ الْوَصْفِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالسَّكَنِ وَالِازْدِوَاجِ وَالْوَلَدِ وَاقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ وَكُلُّهَا مِنْ الْمَصَالِحِ وَمَا أَثْبَتَ مِنْ الْمِلْكِ فَلَمَّا كَانَ الْحَجْرُ عَلَيْهَا لِتَحْقِيقِ الْمَصْلَحَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ أَصْلًا فَيَخْرُجُ بِهِ عَنْ عِدَادِ الْمَصَالِحِ إلَى مَا هُوَ مِنْ الْمَضَارِّ بَلْ نَجْعَلُ الْمِلْكَ تَابِعًا لِإِقَامَةِ الْمَصْلَحَةِ وَمَتَى كَانَ النِّكَاحُ مَصْلَحَةً كَانَ الْأَصْلُ فِيهِ التَّحْصِيلَ وَهِيَ عَاجِزَةٌ عَنْ التَّحْصِيلِ لِصِغَرِهَا فَأُقِيمَ الْوَلِيُّ مُقَامَهَا كَمَا فِي الْبِكْرِ قَوْلُهُ (وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ) أَيْ مِثْلُ قَوْلِهِمْ فِيمَا مَضَى مِنْ الْمَسَائِلِ قَوْلُهُمْ فِي تَجْوِيزِ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ مَا يُثْبِتُ دَيْنًا مَهْرًا فِي الذِّمَّةِ يُثْبِتُ دَيْنًا سَلَمًا كَالْمُقَدَّرِ الْمَذْرُوعِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ سِوَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. فَيُقَالُ لَهُ أُثْبِتَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ مَعْلُومٌ بِوَصْفِهِ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ سَبَبُ وَصْفِهِ أَوْ بِسَبَبِ قِيمَتِهِ أَوْ هِيَ صِلَةُ مَعْلُومًا أَوْ زَائِدَةٌ أَيْ يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ مَعْلُومَ الْوَصْفِ أَوْ مَعْلُومَ الْقِيمَةِ فَإِنْ قَالَ: يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مَعْلُومًا بِوَصْفِهِ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ ذَلِكَ فِي الْفَرْعِ وَهُوَ السَّلَمُ وَفِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْمَهْرُ يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحَيَوَانَ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِالْوَصْفِ فِي السَّلَمِ وَلَا فِي الْمَهْرِ بَلْ يَبْقَى مَجْهُولًا إلَّا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْجَهَالَةِ مُتَحَمَّلَةٌ فِي الْمَهْرِ دُونَ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ مَبْنَى النِّكَاحِ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ دُونَ الْمُضَايَقَةِ فَلَا يُؤَدِّي مِثْلُ هَذِهِ الْجَهَالَةِ فِيهِ إلَى الْمُنَازَعَةِ وَمَبْنَى الْبَيْعِ عَلَى الْمُضَايَقَةِ وَالْمُمَاكَسَةِ فَيُحْتَرَزُ فِيهِ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْجَهَالَةِ لِإِفْضَائِهَا فِيهِ إلَى الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ عَنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ الْمَقْصُودَيْنِ فِي الْبَيْعِ وَفِي تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ أَصْلًا نَوْعُ تَسَامُحٍ فَإِنَّ الشَّيْخَ جَعَلَ ثُبُوتَ الْحَيَوَانِ دَيْنًا مَهْرًا وَصْفَ الْقِيَاسِ وَالْمُقَدَّرَ أَصْلًا لَهُ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ النِّكَاحُ أَصْلَ الْقِيَاسِ لِيَسْتَقِيمَ لَهُ هَذَا الْكَلَامُ كَمَا جَعَلَهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي الْأَسْرَارِ فَقَالَ: الْبَيْعُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَسْتَحِقُّ بِهِ الْحَيَوَانُ دَيْنًا قِيَاسًا عَلَى النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ إلَّا أَنَّ حُكْمَ السَّلَمِ لَمَّا كَانَ مُسْتَفَادًا مِنْ الْمَهْرِ عِنْدَ الْخَصْمِ إذْ الْحُكْمُ يَثْبُتُ بِالْوَصْفِ سَمَّاهُ أَصْلًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَإِنْ قَالَ بِقِيمَتِهِ أَيْ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِقِيمَتِهِ لَمْ يُسْلَمْ فِي الْفَرْعِ فَإِنَّ الْحَيَوَانَ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَوْصَافِ يَتَفَاوَتُ فِي الْمَالِيَّةِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا فَلَا يَصِيرُ قِيمَتُهُ مَعْلُومَةً بِذِكْرِ الْوَصْفِ وَإِنَّمَا خَصَّ الْفَرْعَ؛ لِأَنَّ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْمَهْرُ يَصِيرُ الْحَيَوَانُ مَعْلُومًا بِالْقِيمَةِ فَإِنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى عَبْدٍ أَوْ فَرَسٍ يَجِبُ الْوَسَطُ وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِالْقِيمَةِ وَلِهَذَا لَوْ أَتَاهَا بِالْقِيمَةِ تُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ كَمَا لَوْ أَتَاهَا بِالْمُسَمَّى فَثَبَتَ أَنَّهُ يَصِيرُ مَعْلُومًا فِيهِ بِالْقِيمَةِ فَأَمَّا السَّلَمُ فَلَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِالْقِيمَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَصِيرُ مَعْلُومَ الْمَالِيَّةِ بِالْوَصْفِ وَلَا اعْتِبَارَ لِلْقِيمَةِ فِي بَابِ السَّلَمِ أَصْلًا وَلِهَذَا يَجِبُ تَسْلِيمُ الْحَيَوَانِ عِنْدَهُ فِي السَّلَمِ وَلَا يَجُوزُ أَدَاءُ الْقِيمَةِ. وَرَأَيْت فِي نُسْخَةٍ أَظُنُّهَا لِلشَّيْخِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ فَيُقَالُ لَهُ: يَثْبُتُ الْحَيَوَانُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ مَعْلُومَ الْوَصْفِ وَالْقِيمَةِ أَمْ مَعْلُومَ الْوَصْفِ مَجْهُولَ الْقِيمَةِ أَمْ مَجْهُولَ الْوَصْفِ مَعْلُومَ الْقِيمَةِ فَإِنْ قَالَ: مَعْلُومَ الْوَصْفِ فَلَا يُوجَدُ فِي الْأَصْلِ فَإِنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ مَعْلُومَ الْوَصْفِ وَإِنْ قَالَ: مَعْلُومَ الْقِيمَةِ فَلَا يُوجَدُ فِي الْفَرْعِ فَإِنَّ إعْلَامَ الْقِيمَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ عَقْدِ السَّلَمِ وَإِنْ قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي إلَى هَذَا أَيْ إلَى تَعْيِينِ أَنَّهُ يَصِيرُ دَيْنًا بِالْوَصْفِ أَوْ بِالْقِيمَةِ قُلْنَا: بَلْ إلَيْهِ أَيْ إلَى التَّعْيِينِ حَاجَةٌ لِأَجْلِ بَيَانِ اسْتِوَاءِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي طَرِيقِ الثُّبُوتِ يَعْنِي لَا بُدَّ مِنْ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي طَرِيقِ الثُّبُوتِ لِيَصِحَّ الْقِيَاسُ وَقَدْ اعْتَبَرْت أَحَدَ الدَّيْنَيْنِ بِالْآخَرِ وَلَا يَصِحُّ مَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُمَا يَظْهَرَانِ وَلَا طَرِيقَ لِثُبُوتِ ذَلِكَ إلَّا الِاتِّحَادُ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّيْنَيْنِ فِي الذِّمَّةِ وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ أَيْ لَمْ يُوجَدْ الِاتِّحَادُ هَاهُنَا بَلْ الْأَصْلُ وَالْفَرْعُ مُخْتَلِفَانِ فِي الثُّبُوتِ. أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْمَهْرُ

وَالثَّانِي لَا يَحْتَمِلُهُ عِنْدَنَا وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ إنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ لِمَا قُلْنَا كَالْأَثْمَانِ؛ لِأَنَّ عِنْدَنَا الشَّرْطَ فِي الْأَثْمَانِ التَّعْيِينُ لَا الْقَبْضُ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ فِيمَنْ اشْتَرَى أَبَاهُ يَنْوِي عَنْ الْكَفَّارَةِ إنَّ الْعَتِيقَ أَبٌ فَصَارَ كَالْمِيرَاثِ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَحْتَمِلُ جَهَالَةَ الْوَصْفِ فِي الثُّبُوتِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بِمُجَرَّدِ ذِكْرِ اسْمِ الْجِنْسِ كَالْعَبْدِ وَالشَّاةِ وَالْفَرَسِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ وَصْفٍ وَالثَّانِي وَهُوَ السَّلَمُ لَا يَحْتَمِلُهُ أَيْ لَا يَحْتَمِلُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ جَهَالَةُ الْوَصْفِ فَإِنَّ إعْلَامَ الْمُسَلَّمِ فِيهِ عِنْدَ الْعَقْدِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى فِيهِ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْمَالِيَّةُ عَلَى وَجْهٍ يَلْتَحِقُ بِذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فِي صِفَةِ الْمَالِيَّةِ شَرْطٌ لِجَوَازِ عَقْدِ السَّلَمِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْحَيَوَانِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخِرِ وَقَوْلُهُ عِنْدَنَا مُتَعَلِّقٌ بِالْمَجْمُوعِ أَيْ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْمَهْرِ وَالسَّلَمِ فِي أَنَّ الْمَهْرَ يَحْتَمِلُ جَهَالَةَ الْوَصْفِ وَالسَّلَمُ لَا يَحْتَمِلُهَا مَذْهَبُنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُمَا مُتَمَاثِلَانِ إذْ الْمَهْرُ لَا يَحْتَمِلُ جَهَالَةَ الْوَصْفِ أَيْضًا كَالسَّلَمِ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ أَوْ فَرَسٍ غَيْرِ مَوْصُوفٍ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ عِنْدَهُ دُونَ الْمُسَمَّى كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى دَابَّةٍ فَيَصِحُّ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخِرِ عَلَى أَصْلِهِ لِتَمَاثُلِهِمَا إلَّا أَنَّ هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِفَضْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ فَلَا يَصْلُحُ مُلْزَمًا عَلَى الْخَصْمِ وَبَعْدَ هَذِهِ الْمُمَانَعَةِ لَا يَجِدُ الْمُعَلِّلُ بُدًّا مِنْ الرُّجُوعِ إلَى فِقْهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ إثْبَاتُ أَنَّ الْحَيَوَانَ يَصِيرُ مَعْلُومًا بَيَانُ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ فَإِنَّهُ مَتَى ذُكِرَ التَّعَيُّنُ امْتَازَ عَنْ سَائِرِ أَجْنَاسِ الْحَيَوَانَاتِ وَمَتَى ذُكِرَ أَنَّهُ بُخْتِيٌّ امْتَازَ عَنْ سَائِرِ أَنْوَاعِهِ وَإِذَا قَالَ حِقَّةٌ وَسَمِينٌ مِنْ نَسْلِ إبِلٍ فَلَأَنْ امْتَازَ عَنْ سَائِرِ أَسْنَانِهِ وَأَوْصَافِهِ فَلَا يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا جَهَالَةٌ لَا يُمْكِنُ الْعِبَارَةُ عَنْهَا فَسَقَطَ اعْتِبَارُهَا كَمَا فِي الثِّيَابِ فَإِنَّ الثَّوْبَ وَإِنْ اسْتَقْصَى فِي وَصْفِهِ يَبْقَى بَيْنَ الْأَمْثَالِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْوَصْفِ ضَرْبُ جَهَالَةٍ حَتَّى لَوْ اسْتَهْلَكَ أَحَدٌ تِلْكَ الْأَمْثَالَ عَلَى آخَرَ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ لَا الْمِثْلَ لِلْآخَرِ ثَوْبًا مِثْلَهُ فِي السَّلَمِ فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْحَيَوَانِ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّمَا يَثْبُتُ جَوَازُ السَّلَمِ عِنْدَ ذِكْرِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ إذَا ارْتَفَعَتْ الْجَهَالَةُ عَنْ الْمُسَلَّمِ فِيهِ وَالْتَحَقَ بِبَيَانِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ تَفَاوُتٌ فَمَتَى بَقِيَ بَعْد ذِكْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ لَمْ يَكُنْ ذِكْرُهَا مُغْنِيًا لِبَقَاءِ الْجَهَالَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْمُنَازَعَةِ وَالْحَيَوَانُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَإِنَّا نَرَى بَعِيرَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْهَيْئَةِ وَالسِّنِّ وَالسِّمَنِ وَاللَّوْنِ وَبَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ عَظِيمٌ فِي الْمَالِيَّةِ وَكَذَا الْعَبِيدُ وَالْأَفْرَاسُ فَتَبْقَى الْجَهَالَةُ فِيهِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَتَمْنَعُ جَوَازَ السَّلَمِ كَمَا فِي اللَّآلِي وَالْخَلِفَاتِ بِخِلَافِ الثِّيَابِ إذَا وُصِفَتْ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِيهَا لَيْسَ بِفَاحِشٍ؛ لِأَنَّهَا مَصْنُوعَةُ الْعَبْدِ وَهُوَ يَصْنَعُ بِآلَةٍ وَمَتَى اتَّحَدَتْ الْآلَةُ وَالصَّانِعُ يَتَّحِدُ الْمَصْنُوعُ فِي الْوَصْفِ فَأَمَّا مَا يَحْدُثُ بِإِحْدَاثِ اللَّهِ تَعَالَى فَبِقُدْرَتِهِ مِنْ غَيْرِ آلَةٍ وَمِثَالٍ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْأَسْرَارِ وَمِثْلٌ قَوْلِهِمْ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ إنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي الْمَجْلِسِ لِمَا قُلْنَا فِي بَابِ التَّرْجِيحِ إنَّهُمَا مَالَانِ لَوْ قُوبِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ يُحَرِّمُ رِبَا الْفَضْلِ فَكَانَ الْقَبْضُ شَرْطًا فِيهِ كَمَا لَوْ بَاعَ ثَمَنًا بِثَمَنٍ؛ لِأَنَّ عِنْدَنَا اللَّامَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ أَيْ هَذَا الْحُكْمُ وَهُوَ اشْتِرَاطُ الْقَبْضِ مَمْنُوعٌ فِي بَيْعِ الثَّمَنِ بِالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ عِنْدَنَا الشَّرْطَ فِي الْأَثْمَانِ التَّعْيِينُ لِإِزَالَةِ صِفَةِ الدِّينِيَّةِ لَا الْقَبْضِ إلَّا أَنَّ التَّعْيِينَ لَا يَحْصُلُ فِي الْأَثْمَانِ مَا لَمْ تُقْبَضْ فَشُرِطَ الْقَبْضُ فِيهَا لِحُصُولِ التَّعْيِينِ لَا لِذَاتِهِ وَهَاهُنَا التَّعْيِينُ حَصَلَ بِالْإِشَارَةِ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ. فَيَرْجِعُ الْمُعَلِّلُ إذًا بِالضَّرُورَةِ إلَى مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ بَيَانُ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْقَبْضِ فِي الصَّرْفِ لَيْسَ لِإِزَالَةِ صِفَةِ الدِّينِيَّةِ بَلْ لِلصِّيَانَةِ عَنْ مَعْنَى الرِّبَا بِمَنْزِلَةِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْقَدْرِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ فِيمَنْ اشْتَرَى أَبَاهُ إذَا اشْتَرَى أَبَاهُ نَاوِيًا عَنْ كَفَّارَةٍ يَجِبُ فِيهَا الْإِعْتَاقُ يَجُوزُ وَيَخْرُجُ بِهِ عَنْ الْعُهْدَةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ

فَيُقَالُ لَهُمْ مَا حُكْمُ الْعِلَّةِ فَإِنْ قَالَ: وَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِئَ عَنْ الْكَفَّارَةِ قِيلَ لَهُ: مَاذَا لَا يُجْزِئُ وَإِنَّمَا سَبَقَ ذِكْرُ الْعَتِيقِ وَالْأَبِ وَذَلِكَ لَا يُجْزِئُ عِنْدَنَا فَإِنْ قَالَ: وَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِئَ عِتْقُهُ قُلْنَا بِهِ وَإِنْ قَالَ: إعْتَاقُهُ لَمْ نَجِدْهُ فِي الْأَصْلِ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ فِي الْفَرْعِ وَيَظْهَرُ بِهِ فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ. وَأَمَّا صَلَاحُ الْوَصْفِ فَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِمَعْنَاهُ وَهُوَ الْأَثَرُ فَكُلُّ مَا لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهُ مَنَعْنَاهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَتَقَ الْأَبُ وَلَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْفِيرِ وَكَذَا حُكْمُ سَائِرِ الْمَحَارِمِ عِنْدَنَا إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْأَبِ لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ قَالُوا: الْعَتِيقُ أَبٌ فَصَارَ كَالْمِيرَاثِ أَيْ الْعَتِيقُ مَوْصُوفٌ بِصِفَةِ الْأُبُوَّةِ فَكَانَ شِرَاؤُهُ كَمِيرَاثِهِ فِي أَنَّهُ لَا يَنُوبُ عَنْ الْكَفَّارَةِ إذَا نَوَى فَيُقَال لَهُمْ: مَا حُكْمُ الْعِلَّةِ وَهِيَ قَوْلُهُمْ الْعَتِيقُ أَبٌ فَإِنْ قَالَ أَيْ الْمُعَلِّلُ وَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِئَ شِرَاؤُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ وَقَعَ بِالْأُبُوَّةِ لَا لِأَجْلِ الْكَفَّارَةِ كَالْمَحْلُوفِ بِعِتْقِهِ قِيلَ لَهُ: مَاذَا لَا يُجْزِئُ أَيْ أَيُّ شَيْءٍ لَا يُجْزِئُ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَلَمْ يَسْبِقْ إلَّا ذِكْرُ الْعَتِيقِ وَالْأَبِ فَإِنْ عَنَيْت أَنَّ الْعَتِيقَ لَا يُجْزِئُ أَوْ الْأَبَ لَا يُجْزِئُ أَوْ كِلَيْهِمَا لَا يُجْزِئُ فَنَحْنُ نَقُولُ بِذَلِكَ أَيْضًا فَإِنْ قَالَ: وَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِئَ عِتْقُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ قُلْنَا بِهِ أَيْ بِأَنَّ عِتْقَهُ لَا يُجْزِئُ عَنْهَا؛ لِأَنَّ عِنْدَنَا لَا يَتَأَدَّى الْكَفَّارَةُ بِالْعِتْقِ إذْ هِيَ إنَّمَا تَتَأَدَّى بِفِعْلٍ مَنْسُوبٍ إلَى الْمُكَفِّرِ وَالْعِتْقُ وَصْفٌ ثَابِتُ الْمَحَلِّ شَرْعًا بَلْ تَتَأَدَّى بِالْإِعْتَاقِ وَإِنْ قَالَ وَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِئَ إعْتَاقُهُ لَهُ أَيْ إعْتَاقُ الْمُكَفِّرِ لِلْأَبِ عَنْ الْكَفَّارَةِ لَمْ نَجِدْهُ أَيْ الْإِعْتَاقَ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْمِيرَاثُ؛ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لِلْوَارِثِ فِي الْإِرْثِ حَتَّى يَصِيرَ بِهِ مُعْتَقًا فَكَانَ هَذَا مُمَانَعَةَ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِيِّ. وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَيْ لَمْ يَقُلْ الْمُعَلِّلُ بِالْإِعْتَاقِ فِي الْفَرْعِ فَكَانَ هَذَا مُمَانَعَةَ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ أَيْضًا فَيَظْهَرُ بِهِ أَيْ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ السُّؤَالِ وَالْمُمَانَعَةِ فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنَّ الشِّرَاءَ عِنْدَ الْخَصْمِ لَيْسَ بِإِعْتَاقٍ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ لِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ وَالْإِعْتَاقُ لِإِزَالَتِهِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَا هُوَ مُثْبِتٌ لِلْحُكْمِ مُزِيلًا لَهُ وَإِنَّمَا الْمُؤَثِّرُ فِي الْعِتْقِ هُوَ الْقَرَابَةُ الْمُوجِبَةُ لِلصِّلَةِ وَالْمِلْكُ شَرْطٌ إذْ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي إيجَابِ الْعِتْقِ بِحَالٍ، ثُمَّ الْعِتْقُ لَمَّا لَمْ يَحْصُلْ إلَّا عِنْدَ الْمِلْكِ سُمِّيَ الْمُشْتَرِي مُعْتِقًا مَجَازًا؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ شَرْطٍ كَحَافِرِ الْبِئْرِ يُسَمَّى قَاتِلًا؛ لِأَنَّهُ بَاشَرَ الشَّرْطَ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الشِّرَاءُ إعْتَاقًا وَكَانَ الْعِتْقُ مُسْتَحَقَّ الثُّبُوتِ بِالْقَرَابَةِ عِنْدَ الدُّخُولِ فِي الْمِلْكِ لَا يَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ إذْ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ الْإِعْتَاقِ. كَمَا لَوْ قَالَ الْغَيْرُ: إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ يَنْوِي بِهِ الْكَفَّارَةَ وَعِنْدَنَا شِرَاءُ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ بِطَرِيقِ أَنَّهُ مُتَمِّمٌ عِلَّةَ الْعِتْقِ إذْ الْعِتْقُ عِنْدَنَا مُضَافٌ إلَى الْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ صِلَةٌ وَلِلْقَرَابَةِ تَأْثِيرٌ فِي إيجَابِ الصِّلَاتِ بِلَا خِلَافٍ وَكَذَا لِمِلْكٍ مُؤَثَّرٍ فِي إيجَابِ الصِّلَةِ حَتَّى وَجَبَ الزَّكَاةُ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ صِلَةً لِلْفُقَرَاءِ وَاسْتِحْقَاقُ الْعَبْدِ عَلَى مَالِكِهِ النَّفَقَةَ صِلَةٌ لِلْمِلْكِ وَمَتَى تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِعِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ يُضَافُ إلَى أَحَدِهِمَا وُجُودًا لِمَا عُرِفَ وَهُوَ الْمِلْكُ هَاهُنَا وَالشِّرَاءُ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْمِلْكِ فَكَانَ الْعِتْقُ الْمُضَافُ إلَيْهِ مُضَافًا إلَى الشِّرَاءِ بِوَاسِطَتِهِ فَيَنْقَلِبُ الشِّرَاءُ إعْتَاقًا بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ وَقَدْ اقْتَرَنَتْ نِيَّةُ التَّكْفِيرِ بِالْإِعْتَاقِ فَيَصِحُّ بِخِلَافِ الْمَحْلُوفِ بِعِتْقِهِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ هُنَاكَ شَرْطٌ لَا أَثَرَ لَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ الْعِتْقِ فَيَكُونُ مُعْتَقًا بِيَمِينِهِ وَلَمْ تَقْتَرِنْ نِيَّةُ الْكَفَّارَةِ بِهَا حَتَّى لَوْ اقْتَرَنَتْ جَازَ أَيْضًا كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. قَوْلُهُ (أَمَّا صَلَاحُ الْوَصْفِ فَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ) يَعْنِي فِي بَابِ الْقِيَاسِ أَنَّ الْوَصْفَ بِمُجَرَّدِهِ غَيْرُ صَالِحٍ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ حُجَّةً بِوَاسِطَةِ التَّأْثِيرِ فَكُلُّ وَصْفٍ لَمْ يَظْهَرْ تَأْثِيرُهُ مَنَعْنَاهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا وَحُجَّةً وَهَذَا كَالْجُرْحِ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ بِوَصْفِ السِّرَايَةِ فَقَبْلَ ثُبُوتِ هَذَا الْوَصْفِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ حَتَّى لَوْ أُقِيمَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالْجُرْحِ دُونَ السِّرَايَةِ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِالْقِصَاصِ مَا لَمْ يَشْهَدُوا أَنَّ الْجِرَاحَةَ سَرَتْ - كَذَا هُنَا وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي.

فَإِنْ قَالَ عِنْدِي الْأَثَرُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ الِاحْتِجَاجُ بِمَا لَمْ يَكُنْ حُجَّةً عَلَى الْخَصْمِ كَمِثْلِ كَافِرٍ أَقَامَ بَيِّنَةَ كُفَّارٍ عَلَى مُسْلِمٍ لَمْ تُقْبَلْ لِمَا قُلْنَا. وَأَمَّا نِسْبَةُ الْحُكْمِ إلَى الْوَصْفِ فَلِأَنَّ نَفْسَ الْوُجُودِ لَا يَكْفِي بِالْإِجْمَاعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ أَقْسَامِ الْمُمَانَعَةِ فَإِنْ قَالَ عِنْدِي الْأَثَرُ لَيْسَ بِشَرْطٍ بَلْ الطَّرْدُ عِنْدِي حُجَّةٌ بِدُونِ التَّأْثِيرِ فَلَا حَاجَةَ لِي إلَى بَيَانِ التَّأْثِيرِ نَقُولُ إنَّكَ تَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الْحُكْمِ عَلَى الْخَصْمِ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ الْوَصْفُ بِدُونِ التَّأْثِيرِ حُجَّةً عِنْدَ الْخَصْمِ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَيْهِ كَمِثْلِ كَافِرٍ الْكَافُ زَائِدَةٌ مِثْلُهَا فِي قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] أَيْ عَلَى مِثَالِ كَافِرٍ أَقَامَ بَيِّنَةَ كُفَّارٍ عَلَى مُسْلِمٍ أَنَّ عَلَيْهِ كَذَا لَمْ تُقْبَلْ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَقُولَ إنَّهُ أَثْبَتَ حَقِّي بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عِنْدِي لِمَا قُلْنَا إنَّ الِاحْتِجَاجَ عَلَى الْخَصْمِ بِمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ. قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ تَقْوِيمِ: وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ كَلَامُ الْمُتَكَلِّمِ وَكَلَامُهُ لَا يَصْلُحُ لِإِثْبَاتِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ إلَّا إذَا كَانَ لَهُ أَثَرٌ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ كَلَامَهُ مُوجِبٌ لِلْحُكْمِ عَلَى الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ مَعْنًى يُعْقَلُ فَإِنَّهُ دَرَجَةُ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - فَتَبَيَّنَ بِمَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ صَلَاحِ الْوَصْفِ هَاهُنَا صَلَاحُهُ لِلْإِلْزَامِ عَلَى الْخَصْمِ وَذَلِكَ بِالتَّأْثِيرِ وَالْمُرَادُ مِنْ صَلَاحِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ صَلَاحُهُ لِلْعَمَلِ بِهِ وَذَلِكَ بِمُوَافَقَتِهِ الْعِلَلَ الْمَنْقُولَةَ عَنْ السَّلَفِ وَمُنَاسَبَتُهُ لِلْحُكْمِ وَأَهْلُ الطَّرْدِ يُوَافِقُونَنَا فِي اشْتِرَاطِ الصَّلَاحِ بِهَذَا الْمَعْنَى دُونَ الْأَوَّلِ فَكَانَتْ هَذِهِ الْمُمَانَعَةُ مُمَانَعَةً فِي التَّأْثِيرِ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الشَّيْخُ. وَقِيلَ: مِثَالُ هَذِهِ الْمُمَانَعَةِ قَوْلُنَا فِي تَعْلِيلِهِمْ إثْبَاتُ وِلَايَةِ الْأَبِ بِوَصْفِ الْبَكَارَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا جَاهِلَةٌ بِأَمْرِ النِّكَاحِ لِعَدَمِ الْمُمَارَسَةِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ وَصْفَ الْبَكَارَةِ صَالِحٌ لِهَذَا الْحُكْمِ وَهُوَ إثْبَاتُ وِلَايَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ سِوَى مَحَلِّ النِّزَاعِ وَإِنْ فَسَّرَ الصَّلَاحَ بِالْمَعْنَى الثَّانِي فَمِثَالُ الْمُمَانَعَةِ فِيهِ قَوْلُنَا فِي تَعْلِيلِهِمْ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ بِالطُّعْمِ وَالثَّمَنِيَّةِ لِإِثْبَاتِ شَرْطِ الْمُمَاثَلَةِ وَالتَّقَابُضِ فِيهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَصْفَيْنِ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ يُنْبِئُ عَنْ الْخَطَرِ وَالْعِزَّةِ فَيَخْتَصُّ جَوَازُ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِزِيَادَةِ شَرْطٍ إظْهَارًا لِلْخَطَرِ كَالنِّكَاحِ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ صَالِحٌ لِمَا رُتِّبَ عَلَيْهِ مِنْ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ السَّبِيلَ فِيمَا تَشُدُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ الْإِطْلَاقُ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ دُونَ التَّضْيِيقِ بِزِيَادَةِ الشَّرْطِ. وَمِثَالٌ آخَرُ قَوْلُنَا فِي تَعْلِيلِهِمْ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ بِأَنَّ هَذِهِ طَهَارَةُ مَسْحٍ فَيُسَنُّ فِيهَا التَّثْلِيثُ كَالِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَحْجَارِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ وَصْفَ الْمَسْحِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى التَّخْفِيفِ صَالِحٌ لِتَعْلِيقِ حُكْمِ التَّثْلِيثِ الَّذِي يُنْبِئُ عَنْ التَّغْلِيظِ بِهِ إلَيْهِ أَشَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا وَإِنْ كَانَ رَدًّا لِلْمُخْتَلِفِ إلَى الْمُخْتَلِفِ، لَكِنَّ الْمَقْصُودَ إيرَادُ الْمِثَالِ وَبَيَانُهُ لَا تَصْحِيحُ الْقِيَاسِ وَلَوْ قِيلَ طَهَارَةُ مَسْحٍ فَيُشْرَعُ فِيهِ التَّكْرَارُ كَالِاسْتِنْجَاءِ يَكُونُ رَدًّا لِلْمُخْتَلِفِ إلَى الْمُتَّفِقِ فَيَصِحُّ، ثُمَّ مُمَانَعَةُ صَلَاحِ الْوَصْفِ بِهَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ يَئُولُ إلَى فَسَادِ الْوَضْعِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَلِهَذَا أَشَارَ الشَّيْخُ إلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي إلَّا أَنَّهَا غَيْرُ فَسَادِ الْوَضْعِ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ رُبَّمَا يَكُونُ صَالِحًا فِي نَفْسِهِ وَلَكِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لِلسَّائِلِ صَلَاحُهُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْمُعَلِّلَ بِبَيَانِ الصَّلَاحِ كَمَا فِي الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ كَانَ لِلسَّائِلِ مُطَالَبَةُ بَيَانِ التَّأْثِيرِ فَإِذَا بَيَّنَ صَلَاحَهُ قَبِلَهُ السَّائِلُ وَيُجَاوِزُ إلَى سُؤَالٍ آخَرَ وَلَمَّا صَحَّتْ هَذِهِ الْمُمَانَعَةُ بِدُونِ فَسَادِ الْوَضْعِ كَانَتْ قِسْمًا آخَرَ غَيْرَ فَسَادِ الْوَضْعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا نِسْبَةُ الْحُكْمِ) أَيْ صِحَّةُ مُمَانَعَةِ نِسْبَةِ الْحُكْمِ إلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُعَلِّلُ فَلِأَنَّ نَفْسَ الْوُجُودِ لَا يَكْفِي بِالْإِجْمَاعِ يَعْنِي أَنَّ أَصْحَابَ الطَّرْدِ يُضِيفُونَ الْحُكْمَ إلَى الْوَصْفِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ يُوجِبُ إضَافَتَهُ إلَيْهِ سِوَى أَنَّهُ يُوجَدُ عِنْدَ وُجُودِهِ وَيَنْعَدِمُ عِنْدَ عَدَمِهِ وَنَفْسُ الْوُجُودِ عِنْدَ الْوُجُودِ غَيْرُ كَافٍ

[فساد الوضع]

وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ فِي الْأَخِ إنَّهُ لَا يُعْتَقُ عَلَى أَخِيهِ لِعَدَمِ الْبَعْضِيَّةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ لَمْ يَثْبُتْ لِعَدَمِ الْبَعْضِيَّةِ وَكَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ كَالْحَدِّ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ عِنْدَنَا لَا يَثْبُتُ بِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ وَكَذَلِكَ كُلُّ نَفْيٍ وَعَدَمٍ جُعِلَ وَصْفًا لَزِمَهُ هَذَا الِاعْتِرَاضُ؛ لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَصْلُحُ وَصْفًا مُوجَبًا وَنَفْسُ الْوُجُودِ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً؛ لِأَنَّهُمْ يُسَلِّمُونَ شَرْطَ الصَّلَاحِ فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى نِسْبَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ. النَّوْعُ الثَّالِثُ وَهُوَ فَسَادُ الْوَضْعِ وَهَذَا يَنْقُضُ الْقَاعِدَةَ أَصْلًا وَهُوَ فَوْقَ الْمُنَاقَضَةِ؛ لِأَنَّهَا خَجْلَةُ مَجْلِسٍ يَحْتَمِلُ الِاحْتِرَازَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي صِحَّةِ إضَافَةِ الْحُكْمِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الِاتِّفَاقِ فَإِنَّ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ قَدْ يَكُونُ أَوْصَافٌ يُوجَدُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهَا وَلَا تَكُونُ مَنَاطَ الْحُكْمِ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا الْعَدَمُ لَا يَصْلُحُ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ يُوجِبُ نِسْبَةَ الْحُكْمِ إلَى الْوَصْفِ فَمَتَى أَضَافَهُ الْمُعَلِّلُ إلَى وَصْفٍ مِنْ غَيْرِ دَلِيلِ صِحَّةِ مُمَانَعَةِ السَّائِلِ نِسْبَةَ الْحُكْمِ إلَيْهِ كَمَا صَحَّ الْقَوْلُ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ فَإِنَّهُ فِي التَّحْقِيقِ مَنَعَ إضَافَةَ الْحُكْمِ إلَى الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ وَهَذِهِ الْمُمَانَعَةُ مُخْتَصَّةٌ بِالْأَصْلِ فَإِنْ قَالَ: لَا أَعْرِفُ فِي الْأَصْلِ مَعْنَى آخَرَ سِوَى مَا ذَكَرْتُهُ قُلْنَا لَهُ: هَذَا جَهْلٌ مِنْك فَلَا يَصْلُحُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِك. عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَصْلِ مَعْنًى آخَرُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحُكْمَ ثَابِتٌ بِهِ لِجَوَازِ ثُبُوتِهِ بِالْإِجْمَاعِ أَوْ بِالنَّصِّ وَذَكَر الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ إنْ كَانَ مُجْتَهِدًا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِمَا ظَهَرَ عِنْدَهُ مَتَى عَجَزَ عَنْ إبْرَازِ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ مُنَاظِرًا يَكْفِيه أَنْ يَقُولَ هَذَا مُنْتَهَى قُدْرَتِي فِي اسْتِخْرَاجِ الْوَصْفِ فَإِنْ شَارَكَتْنِي فِي الْجَهْلِ بِغَيْرِ مُلْزَمِك مَا لَزِمَنِي وَإِنْ طَلَعْت عَلَى غَيْرِهِ لَزِمَك التَّنْبِيهُ حَتَّى أَنْظُرَ فِيهِ فَإِنْ قَالَ: لَا يَلْزَمُنِي ذَلِكَ وَلَا أُظْهِرُهُ وَإِنْ كُنْت أَعْرِفُهُ فَهَذَا عِنَادٌ مُحَرَّمٌ وَصَاحِبُهُ إمَّا كَاذِبٌ أَوْ فَاسِقٌ بِكِتْمَانِ حُكْمٍ مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى إظْهَارِهِ وَمِثْلُ هَذَا الْجَدَلِ حَرَامٌ وَلَيْسَ مِنْ الدِّينِ. قَوْلُهُ (وَذَلِكَ) أَيْ مَنْعٌ مَعَ نِسْبَةِ الْحُكْمِ إلَى الْوَصْفِ يَتَحَقَّقُ فِي قَوْلِهِمْ فِي الْأَخِ أَنَّهُ يُعْتَقُ عَلَى أَخِيهِ عِنْدَ الدُّخُولِ فِي مِلْكِهِ لِعَدَمِ الْبَعْضِيَّةِ كَابْنِ الْعَمّ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ وَهُوَ عَدَمُ الْعِتْقِ فِي ابْنِ الْعَمِّ لَمْ يَثْبُتْ لِعَدَمِ الْبَعْضِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا حُكْمًا بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ وَهُوَ بَعْدَ الْقَرَابَةِ وَكَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ أَيْ وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ فِي الْأَخِ كَذَا قَوْلُهُمْ لَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ لَمْ يَثْبُتْ بِهَا أَيْ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ لَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ لَيْسَ بِمَالٍ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِامْتِنَاعِ ثُبُوتِهِ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ بَلْ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ شُبْهَةٌ زَائِدَةٌ وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ فَكَيْفَ يَثْبُتُ بِمَا فِيهِ شُبْهَةٌ وَكَذَلِكَ أَيْ وَمِثْلُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمِثَالَيْنِ كُلُّ نَفْيٍ وَعَدَمِ تَرَادُفٍ أَوْ النَّفْيُ تَعَرُّضٌ لِجَانِبِ الْمُعَلِّلِ وَالْعَدَمُ تَعَرُّضٌ لِجَانِبِ الْوَصْفِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ الْمَبْتُوتَةُ لَا يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَنْكُوحَةٍ؛ لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَصْلُحُ وَصْفًا مُوجِبًا لِلْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَنَفْسُ الْوُجُودِ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً مُتَعَلِّقٌ بِأَوَّلِ الْكَلَامِ أَيْ نَفْسُ وُجُودِ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ الْوَصْفِ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ حُجَّةً بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْنِي أَصْحَابَ الطَّرْدِ يُسَلِّمُونَ أَنَّ صَلَاحَ الْوَصْفِ شَرْطٌ لِيَكُونَ حُجَّةً مَعَ أَنَّ الْوُجُودَ يَتَحَقَّقُ بِدُونِهِ فَثَبَتَ أَنَّ نَفْسَ الْوُجُودِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ بِالْإِجْمَاعِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ دَلِيلٍ عَلَى نِسْبَةِ الْحُكْمِ إلَى الْوَصْفِ وَمِثَالُهُ تَعْلِيقُ كَفَّارَةِ الصَّوْمِ بِوَصْفِ الْجِمَاعِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا تُوجَدُ عِنْدَ وُجُودِهِ لِتَعَدِّي الْحُكْمِ بِهِ إلَى جِمَاعِ الْمَيْتَةِ وَالْبَهِيمَةِ أَوْ لَتَمَنَّعَ عَنْ تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ إلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لَا يَكُونُ حُجَّةً؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحُكْمَ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ بَلْ إلَى الْفِطْرِ الْكَامِلِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ. [فَسَادُ الْوَضْعِ] قَوْلُهُ (وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ) يَعْنِي مِنْ أَقْسَامِ أَوَّلِ الْبَابِ هُوَ فَسَادُ الْوَضْعِ وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ فِي بَابِ بَيَانِ دَفْعِ الْعِلَلِ وَهَذَا يَنْقُضُ الْقَاعِدَةَ أَصْلًا أَيْ الْقَاعِدَةَ الَّتِي بَنَى عَلَيْهَا الْمُجِيبُ كَلَامَهُ وَهُوَ فَوْقَ الْمُنَاقَضَةِ فِي الدَّفْعِ؛ لِأَنَّ الْمُنَاقَضَةَ خَجَلُ مَجْلِسٍ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ بِالتَّقَصِّي عَنْ عُهْدَةِ النَّقْضِ بِالْجَوَابِ أَوْ بِزِيَادَةِ قَيْدٍ يَنْدَفِعُ بِهِ النَّقْضُ فَأَمَّا فَسَادُ الْوَضْعِ فَيُفْسِدُ الْقَاعِدَةَ أَصْلًا.

وَأَمَّا فَسَادُ الْوَضْعِ فَيُفْسِدُ الْقَاعِدَةَ أَصْلًا مِثَالُهُ تَعْلِيلُهُمْ لِإِيجَابِ الْفُرْقَةِ بِإِسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ وَلَا بَقَاءَ النِّكَاحِ مَعَ ارْتِدَادِ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ فِي الْوَضْعِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَصْلُحُ قَاطِعًا لِلْحُقُوقِ وَالرِّدَّةُ لَا يَصْلُحُ عَفْوًا. ـــــــــــــــــــــــــــــQلِأَنَّ بَعْدَ ظُهُورِهِ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ وَلَا فِي مَجْلِسٍ آخَرَ وَلَا وَجْهَ سِوَى الِانْتِقَالِ إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ الْمُنَاقَضَةَ بَيَانُ أَنَّ الْمُجِيبَ بَنَى الْكَلَامَ فِي مَحَلِّهِ لَكِنْ غَيْرَ مُحَكَّمٍ حَتَّى قَبْلَ النَّقْضِ وَفَسَادُ الْوَضْعِ بَيَانُ أَنَّهُ وَضَعَ الْكَلَامَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَكَانَ أَقْوَى فِي الدَّفْعِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَسَادُ الْوَضْعِ فِي الْعِلَلِ بِمَنْزِلَةِ فَسَادِ الْأَدَاءِ فِي الشَّهَادَةِ وَأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّقْضِ؛ لِأَنَّ الِاطِّرَادَ إنَّمَا يُطْلَبُ بَعْدَ صِحَّةِ الْعِلَّةِ كَمَا أَنَّ الشَّاهِدَ إنَّمَا يَسْتَقِلُّ لِتَعْدِيلِهِ بَعْدَ صِحَّةِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ مِنْهُ فَأَمَّا مَعَ فَسَادٍ فِي الْأَدَاءِ فَلَا يُصَارُ إلَى التَّعْدِيلِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُفِيدٍ وَرَأَيْت فِي بَعْضِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ حَاصِلَ الْقَوْلِ فِي فَسَادِ الْوَضْعِ يَحْصُرُهُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُبَيِّنَ الْمُعْتَرِضُ أَنَّ الْقِيَاسَ مَوْضُوعٌ عَلَى خِلَافِ مَا يَقْتَضِيهِ تَرْتِيبُ الْأَدِلَّةِ. وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: إنَّ التَّعْلِيلَ عَلَى خِلَافِ الْكِتَابِ أَوْ عَلَى خِلَافِ السُّنَّةِ أَوْ يَقُولَ: إنَّهُ بِالْقِيَاسِ حَاوَلَ الْجَمْعَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَرَّقَ الشَّرْعُ بَيْنَهُمَا أَوْ حَاوَلَ التَّفْرِيقَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ جَمَعَ الشَّرْعُ بَيْنَهُمَا وَمُلَخَّصُ هَذَا النَّوْعِ أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ يُخَالِفُ وَضْعَهُ مُوجِبٌ مُتَمَسَّكٌ فِي الشَّرْعِ هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْقِيَاسُ فَاسِدَ الْوَضْعِ مَرْدُودًا. وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ مُشْعِرًا بِخِلَافِ الْحُكْمِ الَّذِي رُبِطَ بِهِ وَهَذَا زَائِدٌ فِي الْفَسَادِ عَلَى فَسَادِ الطَّرْدِ؛ لِأَنَّ الطَّرْدَ مَرْدُودٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ الْحُكْمَ وَلَا يُشْعِرُ بِهِ فَاَلَّذِي لَا يُشْعِرُ بِهِ وَيُخَيَّلُ خِلَافُهُ يَكُونُ أَوْلَى بِالرَّدِّ وَمِثَالُهُ ذِكْرُ وَصْفٍ يُشْعِرُ بِالْغَلِيظِ فِي رُومِ تَخْفِيفٍ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ فَإِذَا اعْتَبَرَ الْقَايِسُ الْحَدَّ عَلَى الْمَهْرِ فِي طَلَبِ الثَّوْبِ أَوْ الْمَهْرِ عَلَى الْحَدِّ فِي مُحَاوَلَةِ السُّقُوطِ يَكُونُ فَاسِدًا فِي الْوَضْعِ؛ لِأَنَّ الْعُقُوبَاتِ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وَالْأَمْوَالُ تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ فَاعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فِي الثُّبُوتِ أَوْ السُّقُوطِ يَكُونُ فَاسِدًا فِي الْوَضْعِ وَدَفْعُ هَذَا السُّؤَالِ بِإِظْهَارِ الْمُلَاءَمَةِ وَالتَّأْثِيرِ فِي الْقِيَاسِ وَبَيَانُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ فَإِنْ تَيَسَّرَ وَإِلَّا صَارَ مُنْقَطِعًا. مِثَالُهُ أَيْ مِثَالُ فَسَادِ الْوَضْعِ تَعْلِيلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لِإِيجَابِ الْفُرْقَةِ بِإِسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَيْ بِسَبَبِ إسْلَامِ أَحَدِهِمَا أَوْ الْبَاءُ صِلَةُ التَّعْلِيلِ أَيْ جَعَلُوا نَفْسَ الْإِسْلَامِ عِلَّةً لِإِيجَابِ الْفُرْقَةِ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا حَيْثُ قَالُوا: إسْلَامُ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الدِّينِ فَوَجَبَ الْفُرْقَةُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي وَعَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا كَرِدَّةِ أَحَدِهِمَا وَلِإِبْقَاءِ النِّكَاحِ أَيْ وَتَعْلِيلُهُمْ لِإِبْقَاءِ النِّكَاحِ مَعَ ارْتِدَادِ أَحَدِهِمَا إلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا حَيْثُ قَالُوا: هَذِهِ فُرْقَةٌ وَجَبَتْ بِسَبَبٍ طَارِئٍ عَلَى النِّكَاحِ غَيْرِ مُنَافٍ إيَّاهُ فَوَجَبَ أَنْ يَتَأَجَّلَ إلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا كَالطَّلَاقِ. فَأَوْجَبُوا الْفُرْقَةَ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَحَكَمُوا بِبَقَاءِ النِّكَاحِ مَعَ الرِّدَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ فَاسِدٌ أَيْ تَعْلِيلُهُمْ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَاسِدٌ فِي وَضْعِهِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ حَصَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا وَبَقَاءِ الْآخَرِ عَلَى الْكُفْرِ وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ حَصَلَ بِرِدَّةِ أَحَدِهِمَا وَبَقَاءِ الْآخَرِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الْحَادِثِ أَبَدًا أَوْ إلَى آخِرِ الْأَوْصَافِ وُجُودًا وَالْحَادِثُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى هُوَ الْإِسْلَامُ وَكَذَا آخِرُ الْوَصْفَيْنِ وُجُودًا هُوَ الْإِسْلَامُ لَا غَيْرُ فَلَوْ أَثْبَتْنَا الْفُرْقَةَ لَوَجَبَتْ إضَافَتُهَا إلَى الْإِسْلَامِ الَّذِي حَدَثَ الِاخْتِلَافُ بِهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ شُرِعَ عَاصِمًا لِلْحُقُوقِ وَالْأَمْلَاكِ لَا قَاطِعًا لَهَا وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ الْحَادِثُ هُوَ الِارْتِدَادُ وَهُوَ آخِرُ الْوَصْفَيْنِ وُجُودًا فَوَجَبَ إضَافَةُ الْفُرْقَةِ إلَيْهِ.

وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ فِي الصَّرُورَةِ إذَا حَجَّ بِنِيَّةِ النَّفْلِ أَنَّهُ جَائِزٌ عَنْ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَدَّى بِإِطْلَاقِ النِّيَّةِ فَكَذَلِكَ نِيَّةُ النَّفْلِ وَهَذَا فَاسِدٌ فِي الْوَضْعِ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ إنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَاعْتِبَارِهِ بِهِ وَهَذَا حَمْلُ الْمُقَيَّدِ عَلَى الْمُطْلَقِ وَاعْتِبَارُهُ بِهِ وَهُوَ فَاسِدٌ فِي وَضْعِ الشَّرْعِ وَمِثْلُهُ التَّعْلِيلُ بِالطُّعْمِ لِتَحْرِيمِ الرِّبَا اعْتِبَارًا بِالنِّكَاحِ فَاسِدٌ فِي الْوَضْعِ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ يَقَعُ بِهِ الْقِوَامُ فَلَا يَصْلُحُ لِلتَّحْرِيمِ وَالْحُرِّيَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ الْخُلُوصِ فَصَلَحَ لِلتَّحْرِيمِ إلَّا بِعَارِضٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــQوَهُوَ مُنَافٍ لِلنِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ يُبْطِلُ عِصْمَةَ النَّفْسِ وَالْمَالِ جَمِيعًا وَالنِّكَاحُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعِصْمَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ التَّعْلِيلُ لِإِبْقَاءِ النِّكَاحِ إلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الِارْتِدَادِ فَاسِدًا فِي وَضْعِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِإِبْقَاءِ الشَّيْءِ مَعَ مَا يُنَافِيهِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَالرِّدَّةُ لَا يَصْلُحُ عَفْوًا يَعْنِي لَوْ بَقَّيْنَا النِّكَاحَ مَعَ الرِّدَّةِ الَّتِي هِيَ مُنَافِيَةٌ لَهُ لَزِمَ أَنْ يَجْعَلَ الرِّدَّةَ عَفْوًا أَيْ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ لِيُمْكِنَ الْحُكْمُ بِبَقَاءِ النِّكَاحِ كَمَا جُعِلَ الْأَكْلُ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ النَّاسِي وَهُوَ لَا يَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مَعْفُوَّةً لِكَوْنِهَا فِي نِهَايَةِ الْقُبْحِ. قَوْلُهُ (وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ فِي الضَّرُورَةِ) الضَّرُورَةُ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ إذَا حَجَّ عَنْ نَفْلٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ عَنْ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ يَقَعُ عَمَّا نَوَى عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ يَتَأَدَّى بِإِطْلَاقِ النِّيَّةِ فَكَذَا يَتَأَدَّى بِنِيَّةِ النَّفْلِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ النِّيَّةِ لِلْعِبَادَةِ الَّتِي تَتَنَوَّعُ إلَى نَفْلٍ وَفَرْضٍ يَكُونُ نِيَّةَ النَّقْلِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ فَإِذَا اسْتَحَقَّ الْمُطْلَقُ لِلْفَرْضِ دَلَّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ نِيَّةِ النَّفْلِ لِلْفَرْضِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَمَّا تَأَدَّتْ بِتَصَدُّقِ النِّصَابِ عَلَى الْفَقِيرِ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ تَأَدَّتْ بِنِيَّةِ النَّفْلِ أَيْضًا وَهَذَا فَاسِدٌ أَيْ اعْتِبَارُهُمْ نِيَّةَ النَّفْلِ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ فَاسِدٌ فِي الْوَضْعِ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ إنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّد وَاعْتِبَارُ الْمُطْلَقِ بِالْمُقَيَّدِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي حَادِثَتَيْنِ أَوْ فِي حُكْمَيْنِ وَعِنْدَنَا فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ حَمَلْنَا مُطْلَقَ الْكِتَابِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِالتَّتَابُعِ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاحِدٌ لَمْ يَقُلْ بِأَنَّ الْمُقَيَّدَ يُحْمَلُ عَلَى الْمُطْلَقِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إلْغَاءَ صِفَةٍ زَائِدَةٍ مَنْصُوصَةٍ فَكَانَ نَسْخًا وَمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَكَانَ فَاسِدًا فِي وَضْعِهِ لِمُخَالَفَتِهِ وَضْعَ الشَّرْعِ يُوَضِّحُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ مُطْلَقَ النَّقْدِ يَنْصَرِفُ إلَى نَقْدِ الْبَلَدِ الْمَعْرُوفِ لِدَلَالَةِ الْعُرْفِ فَأَمَّا الْمُقَيَّدُ بِنَقْدٍ آخَرَ فَإِنَّهُ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُطْلَقِ لِيَنْصَرِفَ إلَى نَقْدِ الْبَلَدِ. وَمِثْلُهُ أَيْ مِثْلُ التَّعْلِيلِ الْمُتَقَدِّمِ التَّعْلِيلُ بِالطَّعْمِ لِتَحْرِيمِ الرِّبَا فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ الطَّعْمَ فِي الْمَطْعُومَاتِ بِمَعْنَى لَهُ خَطَرٌ لِتَعَلُّقِ بَقَاءِ النَّفْسِ وَقِوَامِهَا بِهِ فَيُوجِبُ ذَلِكَ حُرْمَةَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَحَلِّ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهِ إلَّا بِشَرْطٍ زَائِدٍ وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمِعْيَارِ إظْهَارُ الْخَطَرِ كَالنِّكَاحِ لَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ بَقَاءُ الْجِنْسِ شُرِطَ فِيهِ مِنْ الشُّرُوطِ مَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْعُقُودِ مِنْ الشُّهُودِ وَالْوَلِيِّ وَغَيْرِهِمَا إظْهَارُ الْخَطَرِ الْمَحَلِّ وَهَذَا فَاسِدٌ فِي الْوَضْعِ؛ لِأَنَّ الطُّعْمَ لَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ قِوَامُ النَّفْسِ كَانَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْحَاجَةِ وَلِمَسَاسِ الْحَاجَةِ أَثَرٌ فِي الْإِطْلَاقِ وَالتَّوْسِعَةِ دُونَ التَّحْرِيمِ وَالتَّضْيِيقِ كَمَا فِي إبَاحَةِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَاعْتُبِرَ هَذَا بِالْهَوَاءِ وَالْمَاءِ وَالطَّعَامِ وَالدَّوَاءِ فَإِنْ تَيَسَّرَ الْوُصُولُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَلِهَذَا حَلَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَانِمِينَ تَنَاوُلُ مِقْدَارِ الْحَاجَةِ مِنْ الطَّعَامِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَكَانَتْ الْعِلَّةُ فَاسِدَةً وَضْعًا مَعَ أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي إثْبَاتِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الْعِوَضَيْنِ الَّتِي هِيَ شَرْطُ جَوَازِ الْعَقْدِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ يَرُدُّ عَلَى الْحُرَّةِ وَالْحُرِّيَّةُ تُنْبِئُ عَنْ الْخُلُوصِ يُقَالُ: طِينٌ حُرٌّ أَيْ خَالِصٌ وَفِي التَّنْزِيلِ {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران: 35] أَيْ مُخَلَّصًا مِنْ أَعْمَالِ الدُّنْيَا وَالْخُلُوصُ يَمْنَعُ وُرُودَ الْمِلْكِ عَلَيْهَا فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ فِيهِ التَّحْرِيمَ فَيَثْبُتُ الْحِلُّ بِعَارِضِ الْحَاجَةِ إلَى بَقَاءِ الْجِنْسِ وَمَا ثَبَتَ بِالْعَارِضِ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى أَشْيَاءَ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَصْلِ وَالطَّعْمُ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ مَصْدَرُ طَعِمَ الشَّيْءَ أَكَلَهُ.

وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ فِي الْجُنُونِ لَمَّا نَافَى تَكْلِيفَ الْأَدَاءِ نَافَى تَكْلِيفَ الْقَضَاءِ وَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي كُلِّ الشَّرَائِعِ بِطَرِيقِ الْجَبْرِ وَالْأَدَاءُ بِطَرِيقِ الِاخْتِيَارِ كَمَا قِيلَ فِي النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْقَضَاءُ الَّذِي هُوَ بَدَلٌ يَعْتَمِدُ انْعِقَادَ السَّبَبِ لِلْأَدَاءِ عَلَى الِاحْتِمَالِ فَصَارَ هَذَا التَّعْلِيلُ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ مَا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ إذَا اسْتَغْرَقَ شَهْرَ رَمَضَانَ يَمْنَعُ بِقَدْرِ مَا يُوجَدُ هَذَا فَاسِدٌ أَيْضًا فِي الْوَضْعِ؛ لِأَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ الْيُسْرِ وَالْحَرَجِ فِي حُقُوقِ صَاحِبِ الشَّرْعِ مُسْتَمِرٌّ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ كَالْحَيْضِ أَسْقَطَ الصَّلَاةَ دُونَ الصَّوْمِ وَالسَّفَرُ أَثَّرَ فِي الظُّهْرِ دُونَ الْفَجْرِ وَكَالْحَيْضِ إذَا تَخَلَّلَ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ لَا يُوجِبُ الِاسْتِقْبَالَ بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ عِنْدَنَا وَبِخِلَافِ مَا إذَا نَذَرَتْ أَنْ تَصُومَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــQوَذَاتُهُ إلَّا أَنَّ الْجَارِيَ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ فِي عِلَّةِ الرِّبَا الْفَتْحُ وَمُرَادُهُمْ كَوْنُ الشَّيْءِ مَطْعُومًا أَوْ مِمَّا يُطْعَمُ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ. 1 - قَوْلُهُ (وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ فِي الْجُنُونِ) الْجُنُونُ يُنَافِي وُجُوبَ الْأَدَاءِ بِالِاتِّفَاقِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ حَتَّى لَا يَأْثَمَ بِتَرْكِ الْأَدَاءِ فِي حَالَةِ الْجُنُونِ وَيُنَافِي وُجُوبَ الْقَضَاءِ أَيْضًا بِالِاتِّفَاقِ إذَا كَثُرَ بِأَنْ زَادَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ أَوْ اسْتَغْرَقَ الشَّهْرَ فِي حَقِّ الصَّوْمِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي الصَّلَاةِ أَوْ مَا دُونَ الشَّهْرِ فِي الصَّوْمِ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ عِنْدَنَا إذَا أَفَاقَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ الْجُنُونَ يُنَافِي تَكْلِيفَ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالْخِطَابِ سَاقِطٌ عَنْ الْمَجْنُونِ أَصْلًا فَيُنَافِي وُجُوبَ الْقَضَاءِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَبْتَنِي عَلَى وُجُوبِ الْأَدَاءِ وَهُوَ أَيْ اعْتِبَارُهُمْ انْتِفَاءَ الْقَضَاءِ بِانْتِفَاءِ الْأَدَاءِ فَاسِدٌ فِي الْوَضْعِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ أَيْ نَفْسَ الْوُجُوبِ فِي كُلِّ الشَّرَائِعِ أَيْ الْمَشْرُوعَاتِ ثَابِتٌ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى قُدْرَةِ الْعَبْدِ وَاخْتِيَارِهِ وَالْأَدَاءُ بِطَرِيقِ الِاخْتِيَارِ يَعْنِي وُجُوبَ الْأَدَاءِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَالٍ يُمْكِنُ لِلْعَبْدِ اخْتِيَارُ الْفِعْلِ وَتَرْكُهُ وَهِيَ حَالَةُ الْقُدْرَةِ فَإِنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ أَيْضًا، لَكِنَّهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْقُدْرَةِ بِخِلَافِ نَفْسِ الْوُجُوبِ كَمَا قِيلَ فِي النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ فَإِنَّ أَصْلَ الْوُجُوبِ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِمَا وَإِنْ كَانَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ مُتَرَاخِيًا عَنْهُمَا إلَى حَالَتَيْ الِانْتِبَاهِ وَالْإِفَاقَةِ. وَالْقَضَاءُ الَّذِي هُوَ بَدَلُ الْأَدَاءِ يَعْتَمِدُ انْعِقَادَ السَّبَبِ لِلْأَدَاءِ عَلَى الِاحْتِمَالِ أَيْ عَلَى احْتِمَالِ الْأَدَاءِ يَعْنِي لَيْسَ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ أَنْ يَثْبُتَ وُجُودُ الْأَدَاءِ حَقِيقَةً، ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَ فَوَاتِهِ بَلْ الشَّرْطُ فِيهِ أَنْ يَنْعَقِدَ السَّبَبُ مُوجِبًا لِلْأَدَاءِ عَلَى وَجْهٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يُفْضِيَ إلَى الْأَدَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَأَمَسَّنَّ السَّمَاءَ تَنْعَقِدُ مُوجِبَةً لِلْبِرِّ بِطَرِيقِ الِاحْتِمَالِ فَيَكْفِي ذَلِكَ وُجُوبُ الْخَلْفِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَصْلُ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَصْلُ الْوُجُوبِ ثَابِتٌ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ تَحَقُّقَ السَّبَبِ وَقِيَامُ الْأَهْلِيَّةِ وَبِالْجُنُونِ لَا تَزُولُ الْأَهْلِيَّةُ؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْعِبَادَةِ تَبْتَنِي عَلَى كَوْنِهِ أَهْلًا لِثَوَابِهَا وَأَهْلِيَّةُ الثَّوَابِ بِكَوْنِهِ مُؤْمِنًا وَبِالْجُنُونِ لَا يَبْطُلُ الْإِيمَانُ وَلِهَذَا يَرِثُ قَرِيبُهُ الْمُسْلِمُ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَجْنُونَةِ وَزَوْجِهَا الْمُسْلِمِ وَلَا يَبْطُلُ صَوْمُهُ بِهِ حَتَّى لَوْ جُنَّ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ بَقِيَ صَائِمًا فَثَبَتَ أَنَّ الْوُجُوبَ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْمَجْنُونِ وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ بِالْأَدَاءِ سَاقِطًا عَنْهُ لِعَجْزِهِ عَنْ فَهْمِ الْخِطَابِ كَمَا فِي حَقِّ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَاحْتِمَالُ الْأَدَاءِ قَائِمٌ فِي حَقِّهِ أَيْضًا بِزَوَالِ الْجُنُونِ سَاعَةً فَسَاعَةً كَمَا فِي النَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ فَيَكْفِي ذَلِكَ وُجُوبُ الْقَضَاءِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ مُنَافَاةِ الْجُنُونِ وُجُوبَ الْأَدَاءِ مُنَافَاتُهُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ عِنْدَ الْإِفَاقَةِ فَصَارَ هَذَا التَّعْلِيلُ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ وَهِيَ أَنَّ الْوُجُوبَ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ أَصْلٌ وَأَنَّ الْجُنُونَ لَا يُنَافِي أَصْلَ الْوُجُوبِ وَأَنَّ الْقَضَاءَ يَعْتَمِدُ انْعِقَادَ السَّبَبِ لِلْوُجُوبِ عَلَى احْتِمَالِ الْأَدَاءِ لَا حَقِيقَةَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ فَكَانَ فَاسِدًا فِي الْوَضْعِ. وَأَشَارَ الْقَاضِي الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى أَنَّ أَثَرَ الْجُنُونِ فِي تَأْخِيرِ لُزُومِ الْفِعْلِ حَتَّى لَا يَأْثَمَ دُونَ أَصْلِ الْإِيجَابِ كَالنَّوْمِ فَجُعِلَ مَا يَسْقُطُ الْخِطَابُ بِالْفِعْلِ عِلَّةً لِإِسْقَاطِ أَصْلِ الْإِيجَابِ حُكِمَ بِخِلَافِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فَيَكُونُ فَاسِدًا وَأَرَادَ بِالنَّصِّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا» الْحَدِيثُ وَبِالْإِجْمَاعِ اتِّفَاقُ الْعُلَمَاءِ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى النَّائِمِ كَمَا هُوَ مُوجِبُ الْحَدِيثِ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُهُمْ فِيهَا أَيْضًا مَا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ إلَى آخِرِهِ يَعْنِي لَوْ عَلَّلُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

لِمَا ذَكَرْنَا فَكَذَلِكَ هَا هُنَا فِي الِاسْتِغْرَاقِ حَرَجٌ وَلَيْسَ فِي الْقَلِيلِ حَرَجٌ مِثْلُهُ وَلَا كَلَامَ فِي الْحُدُودِ الْفَاصِلَةِ وَلَا حَرَجَ فِي اسْتِغْرَاقِ الْإِغْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَمْتَدُّ شَهْرًا وَفِي الصَّلَوَاتِ اسْتَوَى الْإِغْمَاءُ وَالْجُنُونُ فِي الْفَتْوَى وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْأَصْلِ فَكَانَ الْقِيَاسُ فِي الْإِغْمَاءِ أَنْ لَا يَسْقُطَ وَاسْتَحْسَنَّا فِي الْكَثِيرِ وَكَانَ الْقِيَاسُ فِي الْجُنُونِ أَنْ يَسْقُطَ وَاسْتَحْسَنَّا فِي الْقَلِيلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِأَنَّ مَا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ إذَا اسْتَغْرَقَ شَهْرَ رَمَضَانَ مَنَعَهُ بِقَدْرِ مَا يُوجَدُ كَمَا فِي الصِّبَاءِ وَالْكُفْرِ لِشُمُولِ الْعِلَّةِ وَهِيَ عَدَمُ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ كَانَ فَاسِدًا فِي الْوَضْعِ أَيْضًا مِثْلُ التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ الْيُسْرِ وَالْحَرَجِ أَيْ بَيْنَ مَا تَيَسَّرَ أَدَاؤُهُ مِنْ حُقُوقِ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَبَيْنَ مَا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ أَصْلٌ مُسْتَمِرٌّ أَيْ جَارٍ مُطَّرِدٌ فِي قَوَاعِدِ الشَّرْعِ حَتَّى سَقَطَ مَا أَدَّى إلَى الْحَرَجِ وَلَمْ يَسْقُطْ مَا لَمْ يُؤَدِّ إلَيْهِ كَالْحَيْضِ أَسْقَطَ الصَّلَاةَ دُونَ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّهَا تُبْتَلَى بِالْحَيْضِ فِي كُلِّ شَهْرٍ فِي الْغَالِبِ وَالصَّلَاةُ تَلْزَمُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسُ مَرَّاتٍ فَلَوْ أَوْجَبْنَا الْقَضَاءَ لَأَدَّى إلَى الْحَرَجِ بِتَضَاعُفِ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا فِي زَمَانِ الطُّهْرِ وَلَمْ يَسْقُطْ بِالْحَيْضِ قَضَاءُ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّ فَرْضِيَّةَ الصَّوْمِ فِي السَّنَةِ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ وَأَكْثَرُ الْحَيْضِ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ عَشْرَةُ أَيَّامٍ فَإِيجَابُ قَضَاءِ عَشْرَةِ أَيَّامٍ أَوْ دُونَهَا فِي أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا لَا يَكُونُ فِيهِ كَثِيرُ حَرَجٍ وَلَا يُؤَدِّي إلَى تَضَاعُفِ الْوَاجِبِ فِي وَقْتِهِ وَالسَّفَرُ أَثَرٌ فِي الظُّهْرِ دُونَ الْفَجْرِ؛ لِأَنَّ فِي أَدَاءِ الْأَرْبَعِ حَالَةَ السَّيْرِ مِنْ حَرَجِ الِانْقِطَاعِ عَنْ الرُّفْقَةِ مَا لَيْسَ فِي أَدَاءِ الرَّكْعَتَيْنِ. وَكَالْحَيْضِ أَدَاءٌ يَمْلِكُ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ الْوَاجِبِ بِصِفَةِ التَّتَابُعِ لَمْ يُوجِبْ الِاسْتِقْبَالَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجِدُ شَهْرَيْنِ خَالِيَيْنِ عَنْ الْحَيْضِ فِي الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ فَلَوْ أَلْزَمْنَاهَا الِاسْتِقْبَالَ رِعَايَةً لِلتَّتَابُعِ لَوَقَعَتْ فِي الْحَرَجِ بِخِلَافِ كَفَّارَاتِ الْيَمِينِ عِنْدَنَا وَبِخِلَافِ مَا إذَا أَنْذَرَتْ أَنْ تَصُومَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةً؛ لِأَنَّهَا تَجِدُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ عَشْرَةَ أَيَّامٍ خَالِيَةً عَنْ الْحَيْضِ فَلَا تَخْرُجُ فِي الِاسْتِقْبَالِ وَإِنَّمَا قَالَ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ التَّتَابُعَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلِهَذَا ضُمَّ إلَيْهَا مَسْأَلَةُ الْبَذْرِ بِعَشْرَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ؛ لِأَنَّهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا قَوْلُهُ (لِمَا ذَكَرْنَا) دَلِيلُ الْمَجْمُوعِ أَيْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ ثَابِتَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ الْيُسْرِ وَالْحَرَجِ ثَابِتٌ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا فِي الِاسْتِغْرَاقِ حَرَجٌ أَيْ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ فِيمَا إذَا اسْتَغْرَقَ الْجُنُونُ الشَّهْرَ حَرَجٌ بِتَضَاعُفِ الْعِبَادَةِ الْمَشْرُوعَةِ فِي وَقْتِهَا فَإِنَّ وَظِيفَةَ السَّنَةِ صَوْمُ شَهْرٍ وَاحِدٍ فَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْقَضَاءَ صَارَ فَرْضُ السَّنَةِ شَهْرَيْنِ وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي التَّضَاعُفِ حَرَجًا فَيَسْقُطُ بِعُذْرِ الْحَرَجِ وَلَيْسَ فِي الْقَضَاءِ أَيْ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ فِي الْجُنُونِ الْقَلِيلِ وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَوْعِبًا حَرَجٌ مِثْلُ الْحَرَجِ الثَّابِتِ فِي الِاسْتِغْرَاقِ فَلَمْ يَسْقُطْ فَثَبَتَ أَنَّ سُقُوطَ الْقَضَاءِ فِي الْكَثِيرِ لِلْحَرَجِ لَا لِلْجُنُونِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِهِ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ حَرَجٌ. وَلَا كَلَامَ فِي الْحُدُودِ الْفَاصِلَةِ يَعْنِي لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ الْيُسْرِ وَالْحَرَجِ ثَابِتٌ عَلَى حُدُودٍ اعْتَبَرَهَا الشَّرْعُ إنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ الْجُنُونِ لَيْسَ مِثْلَ الْكَثِيرِ فِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْكَثِيرَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحَرَجِ دُونَ الْقَلِيلِ فَكَانَ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخِرِ فَاسِدًا فِي الْوَضْعِ. وَقَوْلُهُ وَلَا حَرَجَ فِي اسْتِغْرَاقِ الْإِغْمَاءِ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ سُقُوطُ الْقَضَاءِ الْمُسْتَغْرِقِ لِلْحَرَجِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ إذْ لَوْ كَانَ لِلْحَرَجِ لَسَقَطَ فِي اسْتِغْرَاقِ الْإِغْمَاءِ أَيْضًا لِاسْتِلْزَامِهِ تَضَاعُفَ الْوَاجِبِ كَالْجُنُونِ وَحَيْثُ لَمْ يَسْقُطْ فِيهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ السُّقُوطَ لِلْجُنُونِ لَا لِلْحَرَجِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ السُّقُوطُ فِي الْقَلِيلِ أَيْضًا فَقَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اسْتِغْرَاقَ الْإِغْمَاءِ لِلشَّهْرِ مُوجِبٌ لِلْحَرَجِ؛ لِأَنَّ الْحَرَجَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا هُوَ غَالِبُ الْوُجُودِ وَامْتِدَادُ الْإِغْمَاءِ شَهْرًا قَلَّمَا يَقَعُ إذْ الْإِنْسَانُ لَا يَعِيشُ فِي الْغَالِبِ شَهْرًا مُغْمَى عَلَيْهِ بِدُونِ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَلَوْ وَقَعَ كَانَ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ فَيَلْحَقُ بِالْعَدَمِ بِخِلَافِ الْجُنُونِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَمْتَدُّ شَهْرًا أَوْ سَنَةً وَسِنِينَ وَإِلَى آخِرِ الْعُمْرِ فَيَصْلُحُ عُذْرًا مُسْقِطًا وَفِي الصَّلَوَاتِ اسْتَوَى الْإِغْمَاءُ وَالْجُنُونُ فِي الْفَتْوَى أَيْ فِي الْحُكْمِ حَتَّى كَانَ الْإِغْمَاءُ الزَّائِدُ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مُسْقِطًا.

لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الطُّولِ وَالِامْتِدَادِ الدَّاعِي إلَى الْحَرَجِ وَالصِّبَا مُمْتَدٌّ أَيْضًا وَبِخِلَافِ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ وَيُنَافِي اسْتِحْقَاقَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ بِخِلَافِ الْجُنُونِ وَكَذَلِكَ التَّعْلِيلُ لِتَعْيِينِ النُّقُودِ اعْتِبَارًا بِالسِّلَعِ وَلِفَسْخِ الْبَيْعِ بِإِفْلَاسِ الْمُشْتَرِي اعْتِبَارًا بِالْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ فَاسِدًا فِي الْوَضْعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQلِقَضَائِهَا كَالْجُنُونِ الزَّائِدِ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؛ لِأَنَّ الْإِغْمَاءَ يُوجَدُ غَالِبًا فِي هَذَا الْمِقْدَارِ مِنْ الزَّمَانِ كَالْجُنُونِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْأَصْلِ فَإِنَّ الْجُنُونَ مِمَّا يَمْتَدُّ غَالِبًا كَالصَّبِيِّ وَالْإِغْمَاءُ مِمَّا لَا يَمْتَدُّ، وَلَكِنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ فِي غَلَبَةِ الْوُجُودِ أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي ذَاتَيْهِمَا فَإِنَّ بِالْجُنُونِ يَزُولُ الْعَقْلُ وَبِالْإِغْمَاءِ لَا يَزُولُ بَلْ هُوَ فَتْرَةٌ وَمَرَضٌ يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ وَيَمْنَعُهُ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْقُدْرَةِ وَلِهَذَا اُبْتُلِيَ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - بِالْإِغْمَاءِ دُونَ الْجُنُونِ. فَكَانَ الْقِيَاسُ فِي الْإِغْمَاءِ فِي الصَّلَاةِ أَنْ لَا يُسْقِطَ وَإِنْ كَثُرَ لِوُجُودِ أَصْلِ الْعَقْلِ فِيهِ كَمَا فِي النَّوْمِ وَاسْتَحْسَنَّا فِي الْكَثِيرِ وَهُوَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ فَجَعَلْنَاهُ مُسْقِطًا لِلْحَرَجِ وَكَانَ الْقِيَاسُ فِي الْجُنُونِ أَنْ يُسْقِطَ الْوَاجِبَ قَلَّ الْجُنُونُ أَوْ كَثُرَ لِزَوَالِ الْعَقْلِ فِيهِ وَاسْتَحْسَنَّا فِي الْقَلِيلِ فَلَمْ نَجْعَلْهُ مُسْقِطًا لِعَدَمِ الْحَرَجِ وَأَلْحَقْنَاهُ بِالْعَدَمِ فَحَصَلَ مِنْ هَذَا اسْتِوَاءُ الْإِغْمَاءِ وَالْجُنُونِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ حَتَّى كَانَ قَلِيلُ الْجُنُونِ فِيهَا كَقَلِيلِ الْإِغْمَاءِ وَكَثِيرُ الْإِغْمَاءِ فِيهَا كَكَثِيرِ الْجُنُونِ وَقَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ اسْتَوَى الْإِغْمَاءُ وَالْجُنُونُ فِي الْفَتْوَى أَيْ هُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي الِامْتِدَادِ فِي الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّ الْجُنُونَ فِيهِ مُمْتَدٌّ دُونَ الْإِغْمَاءِ وَقَوْلُهُ وَالصِّبَا مُمْتَدٌّ أَيْضًا إلَى آخِرِهِ جَوَابٌ عَنْ اعْتِبَارِهِمْ الْجُنُونَ بِالصِّبَا وَالْكُفْرِ حَيْثُ قَالُوا: الصَّبِيُّ إذَا بَلَغَ فِي خِلَالِ الشَّهْرِ أَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ لَمْ يَلْزَمْهُمَا قَضَاءُ مَا مَضَى فَكَذَا الْمَجْنُونُ إذَا أَفَاقَ فَقَالَ الصَّبِيُّ لَيْسَ بِمُتَنَوِّعٍ إلَى مُمْتَدٍّ وَغَيْرِ مُمْتَدٍّ بَلْ هُوَ مُمْتَدٌّ فِي نَفْسِهِ كَالْجُنُونِ فِي حَقِّ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْإِغْمَاءُ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ أَيْضًا فَلَا يُمْكِنُ إلْحَاقُهُ بِالْعَدَمِ بِوَجْهٍ وَيَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الْحَرَجِ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ فَكَانَ اسْتِغْرَاقُهُ لِلشَّهْرِ وَعَدَمُ اسْتِغْرَاقِهِ بِمَنْزِلَةٍ وَبِخِلَافِ الْكُفْرِ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ وَالصِّبَا مُمْتَدٌّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إذْ مَعْنَاهُ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ فَإِنَّهُ مُمْتَدٌّ لَيْسَ إلَّا وَبِخِلَافِ الْكُفْرِ حَيْثُ لَا يَجِبُ فِيهِ الْقَضَاءُ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ أَهْلِيَّةَ الْعِبَادَةِ بِأَهْلِيَّةِ ثَوَابِهَا وَالْكُفْرُ يُنَافِي اسْتِحْقَاقَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ فَيَنْتَفِي عَنْهُ أَصْلُ الْوُجُوبِ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْجُنُونِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْعِبَادَةِ لِعَدَمِ مُنَافَاتِهِ اسْتِحْقَاقَ الثَّوَابِ وَلِهَذَا بَقِيَتْ عِبَادَاتُهُ الَّتِي أَدَّاهَا فِي حَالِ الْإِفَاقَةِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَكَالتَّعْلِيلِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ التَّعْلِيلُ لِكَذَا وَلِكَذَا. جَمَعَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ لِابْتِنَائِهِمَا عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ وَنَحْنُ نُبَيِّنُ كُلَّ مَسْأَلَةٍ عَلَى حِدَةٍ. أَمَّا بَيَانُ الْأُولَى فَهُوَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ تَتَعَيَّنَانِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ بِالتَّعْيِينِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ هَذَا تَعْيِينٌ مُقَيَّدٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ فَيَصِحُّ كَمَا فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَسَائِرِ السِّلَعِ وَكَمَا فِي عَقْدِ الْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالْمُضَارَبَةِ أَمَّا الْأَهْلِيَّةُ فَظَاهِرَةٌ وَلِهَذَا لَوْ عَيَّنَ عَرَضًا يَتَعَيَّنُ. وَأَمَّا الْمَحَلِّيَّةُ فَلِأَنَّهَا أَعْيَانٌ مَوْجُودَةٌ بِذَوَاتِهَا قَابِلَةٌ لِلتَّعْيِينِ حَتَّى تَعَيَّنَتْ فِي الْعُقُودِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَهُوَ مُفِيدٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْمِلْكُ فِي الْعَيْنِ وَمِلْكُ الْعَيْنِ أَكْمَلُ مِنْ مِلْكِ الدَّيْنِ وَنَحْنُ نَقُولُ هَذَا التَّعْلِيلُ فَاسِدٌ فِي الْوَضْعِ؛ لِأَنَّهُ اعْتِبَارُ الثَّمَنِ بِالثَّمَنِ وَتَسْوِيَةٌ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ وَالشَّرْعُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَجَعَلَ حُكْمَ الْعَقْدِ فِي جَانِبِ الْمَبِيعِ ثُبُوتَ الْمِلْكِ وَاسْتِحْقَاقَ الْيَدِ لَا غَيْرُ وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ فَكَانَ وُجُودُهُ شَرْطًا لِجَوَازِ الْعَقْدِ إلَّا فِي مَوْضِعٍ سَقَطَ ضَرُورَةً وَهُوَ الْمُسَلَّمُ فِيهِ بِحُكْمِ النَّصِّ وَجُعِلَ حُكْمُ الْعَقْدِ فِي جَانِبِ الثَّمَنِ

لِمَا عُرِفَ مِنْ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ فِي أَصْلِ وَضْعِ الشَّرْعِ وَالْبَيَّاعَاتُ تُخَالِفُ التَّبَرُّعَاتِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ هَذِهِ لِلْإِيثَارِ بِالْأَعْيَانِ وَهَذِهِ لِالْتِزَامِ الدُّيُونِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282] أَيْ تَبَايَعْتُمْ بِنَسِيئَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــQوُجُودَهُ وَوُجُوبَهُ فَإِنَّهُ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا يَجِبُ الثَّمَنُ فِي الذِّمَّةِ وَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا قَبْلَ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا صَارَ مَوْجُودًا بِالْعَقْدِ وَمَمْلُوكًا بِهِ وَهَذَا حُكْمٌ أَصْلِيٌّ فِي جَانِبِ الثَّمَنِ لَا يَتَغَيَّرُ إلَّا لِضَرُورَةٍ كَمَا فِي السَّلَمِ بِدَلِيلِ جَوَازِ الشِّرَاءِ بِدَرَاهِمَ فِي الذِّمَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّعَيُّنِ وَبِدَلِيلِ جَوَازِ الِاسْتِبْدَالِ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَمَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ فِي جَانِبِ الثَّمَنِ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي مَوْجُودٍ وَكَانَ ثُبُوتُهُ دَيْنًا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ لَبَقِيَ مُلْحَقًا بِالْأَعْيَانِ فِيمَا وَرَاءَ تِلْكَ الضَّرُورَةِ وَهُوَ حُكْمُ الِاسْتِبْدَالِ كَمَا فِي السَّلَمِ وَلَمَّا ثَبَتَتْ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا فِي وَضْعِ الشَّرْعِ كَانَ التَّعْلِيلُ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ فَاسِدًا فِي الْوَضْعِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَغْيِيرَ حُكْمِ الشَّرْعِ بِجَعْلِ مَا هُوَ حُكْمُ الْعَقْدِ وَهُوَ صَيْرُورَةُ الثَّمَنِ مَوْجُودًا بِهِ شَرْطٌ لَهُ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ لِمَا عُرِفَ أَيْ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي بَابِ شُرُوطِ الْقِيَاسِ أَوْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ هَذَا إذَا اعْتَبَرُوا النُّقُودَ بِالسِّلَعِ فَإِنْ اعْتَبَرُوهَا بِالتَّبَرُّعَاتِ مَشْرُوعَةً لِلْإِيثَارِ بِالْعَيْنِ لَا لِإِيجَابِ شَيْءٍ مِنْهَا فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَكُونُ التَّعْيِينُ فِيهَا تَغْيِيرًا لِحُكْمِ الْعَقْدِ وَالْمُعَاوَضَاتِ لِإِيجَابِ بَدَلٍ بِهَا فِي الذِّمَّةِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ عَقْدُهَا بِلَا إشَارَةٍ إلَى الْأَثْمَانِ بَلْ تَسْمِيَةٌ مُطْلَقَةٌ وَأَنَّهَا تُوجَبُ فِي الذِّمَّةِ ابْتِدَاءً فَكَانَ اعْتِبَارُ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ لِنَقْلِ الْمِلْكِ وَالْيَدِ فِي الْعَيْنِ مِنْ شَخْصٍ إلَى شَخْصٍ فِي صِحَّةِ التَّعْيِينِ فَاسِدًا وَضْعًا لِعَدَمِ مُصَادَفَةِ التَّعْيِينِ مَحَلَّهُ وَمَا كَانَ تَعْيِينُ النَّقْدِ فِي الْمُعَاوَضَةِ إلَّا نَظِيرَ الْإِيجَابِ فِي الذِّمَّةِ ابْتِدَاءً بِعَقْدِ الْهِبَةِ فَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ يُنَافِي صِحَّةَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ نَقْلُ الْمِلْكِ وَالْيَدِ فِي الْعَيْنِ فَبِدُونِ مُوجِبِهِ لَا يَكُونُ صَحِيحًا كَذَا التَّعْيِينُ هَاهُنَا يُنَافِي صِحَّةَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ بِهِ مَا هُوَ مُوجِبُ هَذَا الْعَقْدِ فِي الثَّمَنِ وَهُوَ الْإِلْزَامُ فِي الذِّمَّةِ ابْتِدَاءً وَأَمَّا بَيَانُ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فَهُوَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا أَفْلَسَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ لَمْ يَثْبُتْ لِلْبَائِعِ حَقٌّ بِقَبْضِ الْبَيْعِ وَاسْتِرْدَادِ السِّلْعَةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَنَا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِ يُثْبِتُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ أَحَدُ عِوَضَيْ الْعَقْدِ فَالْعَجْزُ عَنْ تَسْلِيمِهِ يُوجِبُ حَقَّ الْفَسْخِ لِلْبَائِعِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ كَالْعِوَضِ الْآخَرِ وَهُوَ الْمَبِيعُ إذَا كَانَ عَيْنًا فَعَجَزَ الْبَائِعُ عَنْ تَسْلِيمِهِ بِالْإِبَاقِ وَنَحْوِهِ أَوْ كَانَ دَيْنًا كَالسَّلَمِ فَعَجَزَ الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ عَنْ تَسْلِيمِهِ بِانْقِطَاعِهِ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ. وَنَحْنُ نَقُولُ هَذَا التَّعْلِيلُ فَاسِدٌ وَضْعًا؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ فِي الْمَبِيعِ اسْتِحْقَاقُ مِلْكِ الْعَيْنِ وَالْيَدِ عَلَى الْبَائِعِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ثَابِتًا لَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ وَكَذَا فِي الْمَبِيعِ الدَّيْنُ بِشَرْطِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ حُكْمًا بِاشْتِرَاطِ الْأَجَلِ الَّذِي هُوَ مُؤَثِّرٌ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى التَّسْلِيمِ بِاكْتِسَابِهِ أَوْ إدْرَاكِ غَلَّاتِهِ وَبِاشْتِرَاطِ عَدَمِ انْقِطَاعِهِ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ أَمَّا الْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِمَا قُلْنَا: إنَّ الثَّمَنَ يَصِيرُ مَوْجُودًا بِالْعَقْدِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ قَبْلَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَا يُتَصَوَّرُ تَسْلِيمُهُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الْقُدْرَةَ عَلَى الثَّمَنِ بَعْدَ الْعَقْدِ شَرْطًا لِجَوَازِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ أَبَدًا يَكُونُ سَابِقًا عَلَى الْأَصْلِ كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ وَلِأَنَّ الثَّمَنَ وَصْفٌ وَالْأَوْصَافُ لَا تَقْبَلُ التَّسْلِيمَ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ بِالْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ يَتَمَكَّنُ خَلَلٌ فِيمَا هُوَ مُوجِبُ الْعَقْدِ فِيهِ وَبِسَبَبِ الْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ لَا يَتَمَكَّنُ خَلَلٌ فِيمَا هُوَ مُوجِبُ الْعَقْدِ فِيهِ وَلِهَذَا جَازَ إسْقَاطُ حَقِّ قَبْضِ الثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِالْإِبْرَاءِ وَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي الْمَبِيعِ الْمُعَيَّنِ قَبْلَ الْقَبْضِ حَتَّى إذَا وَهَبَهُ مِنْ الْبَائِعِ وَقَبِلَهُ كَانَ فَسْخًا لِلْبَيْعِ بَيْنَهُمَا فَإِثْبَاتُ حَقِّ الْفَسْخِ مِنْ غَيْرِ تَمَكُّنِ خَلَلٍ فِي مُوجِبِ الْعَقْدِ اعْتِبَارًا بِثُبُوتِهِ عِنْدَ تَمَكُّنِ الْخَلَلِ فِي

[المناقضة]

فَيَطْلُبُ وُجُوهَ الْمَقَايِيسِ فِي ذَلِكَ جُمْلَةً عَلَى مَا عُرِفَ شَرْحُهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا النَّوْعُ الرَّابِعُ وَهُوَ الْمُنَاقَضَةُ فَيُلْجِئُ إلَى الْقَوْلِ بِالْأَثَرِ أَيْضًا مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ أَنَّهُمَا طَهَارَتَانِ فَكَيْفَ افْتَرَقَتَا؛ لِأَنَّهُ إنْ قَالَ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا كَانَ بَاطِلًا بِلَا شُبْهَةٍ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ افْتَرَقَا فِي عَدَدِ الْأَعْضَاءِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQمُوجِبِ الْعَقْدِ يَكُونُ فَاسِدًا وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ تَمَكُّنُ الْمَوْلَى مِنْ الْفَسْخِ عِنْدَ عَجْزِ الْمُكَاتَبِ عَنْ أَدَاءِ الْبَدَلِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ عَجُزٌ عَنْ أَدَاءِ ثَمَنِهِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ لُزُومُ الْبَدَلِ عَلَى أَنْ يَصِيرَ مِلْكًا لِلْمَوْلَى بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ بِالْأَدَاءِ فَإِنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا وَلِهَذَا لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمِلْكَ هُنَاكَ لَا يَسْبِقُ الْأَدَاءَ فَإِذَا عَجَزَ عَنْ الْأَدَاءِ فَقَدْ تَمَكَّنَ الْخَلَلُ فِي الْمِلْكِ الَّذِي هُوَ مُوجِبُ الْعَقْدِ فِيهِ. فَأَمَّا مُوجِبُ الْعَقْدِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَمَلَكَ الثَّمَنَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ ابْتِدَاءً. وَذَلِكَ قَدْ تَمَّ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَبِسَبَبِ الْإِفْلَاسِ لَا يَتَمَكَّنُ الْخَلَلُ فِيمَا هُوَ مُوجِبُ الْعَقْدِ فَلَا يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي بِهِ حَقُّ الْفَسْخِ كَذَا ذَكَر شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ لِمَا عُرِفَ مِنْ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ فِي الْأَصْلِ وَضَعَ الشَّرْعُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَسْأَلَتَيْنِ وَأَنَّ قَوْلَهُ وَالْبَيَّاعَاتُ إلَى آخِرِهِ مُتَعَلِّقُ بِالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَوَجْهُ إيرَادِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى التَّبَايُعَ مُدَايَنَةً فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَعْنَى الدَّيْنِيَّةِ لِيَصِحَّ تَسْمِيَتُهُ بِهَا وَلَيْسَ مَعْنَى الدَّيْنِيَّةِ فِي جَانِبِ الْمَبِيعِ إذْ الشَّرْطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ عَيْنًا فَثَبَتَ أَنَّهُ فِي جَانِبِ الثَّمَنِ فَكَانَ فِي الْآيَةِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الثَّمَنِ الدَّيْنِيَّةُ وَأَنَّ الْمُبَايَعَةَ لِالْتِزَامِ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ هُوَ بَيْعُ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ فِي أَكْثَرِ الْأَقَاوِيلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فَيُطْلَبُ وُجُوهُ الْمَقَايِيسِ فِي ذَلِكَ أَيْ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَعْيِينِ النُّقُودِ فَإِنَّهُمْ اعْتَبَرُوا النُّقُودَ بِالسِّلَعِ فِي الْبَيْعِ وَبِالتَّبَرُّعَاتِ وَبِالْغَصْبِ وَالْقِيَاسُ عَلَى الْكُلِّ فَاسِدُ الْوَضْعِ أَوْ أُرِيدَ بِوُجُوهِ الْمَقَايِيسِ الْقِيَاسُ الظَّاهِرُ وَالِاسْتِحْسَانُ وَالْقِيَاسُ الطَّرْدِيُّ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ فَاسِدًا فِي وَضْعِهِ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ هَذِهِ الْأَقْيِسَةُ؛ لِأَنَّهَا تَفْتَقِرُ إلَى صَلَاحِ الْوَصْفِ وَمَعَ فَسَاد الْوَصْفِ لَا يَكُونُ الْوَصْفُ صَالِحًا كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنْوَاعَ الْمَقَايِيسِ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ أَمْثِلَةِ فَسَادِ الْوَضْعِ جُمْلَةً كَمَا صَرَّحَ الْقَاضِي الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِهِ فِي التَّقْوِيمِ فَقَالَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ أَحْسَنُ عِلَلِهِمْ وَأَظْهَرُهَا لِلْقُلُوبِ صِحَّةً وَأَبْيَنُهَا فِقْهًا فَيُعْرَفُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ أَكْثَرَ عِلَلِهِمْ لَا يَخْلُو عَنْ فَسَادِ الْوَضْعِ وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْقَوْلِ بِالتَّأْثِيرِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ بِلَا خِلَافٍ وَهَكَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَيْضًا. وَالْمَقَايِيسُ جَمْعُ مِقْيَاسٍ وَهُوَ مِنْ أَوْزَانِ الْآلَةِ فَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي هِيَ آلَاتُ الْأَقْيِسَةِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ بَاطِلَةٌ أَوْ الْمُرَادُ بِالْمَقَايِيسِ نَفْسُ الْأَقْيِسَةِ وَالضَّمِيرُ فِي شَرْحِهِ رَاجِعٌ إلَى الْبُطْلَانِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ فَبَطَلَتْ وَفِي مَوْضِعِهِ إلَى الشَّرْعِ وَمَوْضِعُ الشَّرْحِ الْكُتُبُ الطِّوَالُ مِثْلُ الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ وَغَيْرِهِمَا. [الْمُنَاقَضَةُ] قَوْلُهُ (وَأَمَّا النَّوْعُ الرَّابِعُ) مِنْ أَقْسَامِ أَوَّلِ الْبَابِ وَهُوَ الْمُنَاقَضَةُ وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهَا فَيُلْجِئُ أَصْحَابُ الطَّرْدِ إلَى الْقَوْلِ بِالْأَثَرِ أَيْضًا مِثْلُ الْأَقْسَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ لِأَنَّ الطَّرْدَ الَّذِي تَمَسَّكَ بِهِ الْمُجِيبُ لَمَّا انْتَقَضَ بِمَا أَوْرَدَهُ السَّائِلُ مِنْ النَّقْضِ لَا يَجِدُ الْمُجِيبُ بُدًّا مِنْ الْمُخْلِصِ عَنْهُ بِبَيَانِ الْفَرْقِ وَعَدَمِ وُرُودِهِ بِقَضَاءٍ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِالْعُدُولِ عَنْ ظَاهِرِ الطَّرْدِ إلَى بَيَانِ الْمَعْنَى. وَهَذَا إنْ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ انْقِطَاعًا لَوْ سَامَحَهُ السَّائِلُ وَلَمْ يُنَاقِشْهُ فِي الشُّرُوعِ فِي بَيَانِ الْفَرْقِ وَالتَّأْثِيرِ فَأَمَّا إذَا جُعِلَ انْقِطَاعًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْبَعْضِ وَلَمْ يُسَامِحْهُ السَّائِلُ فِي ذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ: احْتَجَجْت عَلَيَّ بِاطِّرَادِ هَذَا الْوَصْفِ وَقَدْ انْتَقَضَ ذَلِكَ بِمَا أَوْرَدْتُهُ فَلَمْ يَبْقَ حُجَّةً فَلَا يَنْفَعُهُ بَيَانُ التَّأْثِيرِ وَالشُّرُوعُ فِي الْفَرْقِ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ انْتِفَالٌ عَنْ حُجَّةٍ وَهِيَ الطَّرْدُ إلَى حُجَّةٍ أُخْرَى وَهِيَ التَّأْثِيرُ لِإِثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ الْأَوَّلِ فَلَا يُسْمَعُ مِنْهُ فَيُضْطَرُّ إلَى التَّمَسُّكِ بِالتَّأْثِيرِ وَالرُّجُوعِ عَنْ الطَّرْدِ فِيمَا بَعْدُ مِنْ الْمَجَالِسِ مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ أَنَّهُمَا طَهَارَتَا صَلَاةٍ فَكَيْفَ افْتَرَقَتَا.

وَفِي قَدْرِ الْوَظِيفَةِ وَفِي نَفْسِ الْفِعْلِ وَإِنْ قَالَ: وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي النِّيَّةِ انْتَقَضَ ذَلِكَ بِغَسْلِ الثَّوْبِ وَغَسْلِ الْبَدَنِ عَنْ النَّجَاسَةِ فَيُضْطَرُّ إلَى بَيَانِ فِقْهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنَّ الْوُضُوءَ تَطْهِيرٌ حُكْمِيٌّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْقَلُ بِالْعَيْنِ نَجَاسَةٌ فَكَانَ كَالتَّيَمُّمِ فِي شَرْطِ النِّيَّةِ لِتَحْقِيقِ التَّعَبُّدِ بِخِلَافِ غَسْلِ النَّجَسِ وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ الْمَاءَ فِي هَذَا الْبَابِ عَامِلٌ بِطَبْعِهِ وَكَانَ الْقِيَاسُ غَسْلَ كُلِّ الْبَدَنِ؛ لِأَنَّ مَخْرَجَ النَّجَاسَةِ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِالْحَدَثِ وَإِنَّمَا الْبَدَنُ مَوْصُوفٌ فَوَجَبَ غَسْلُ كُلِّهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQهُوَ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ أَيْ فَلَا تَفْتَرِقَانِ وَهَذِهِ نُكْتَةٌ مَنْقُولَةٌ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ إنْ قَالَ: وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا يَعْنِي أَنَّهُ أَنْكَرَ التَّفْرِقَةَ بَيْنَهُمَا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَمْ يُبَيِّنْ الْحُكْمَ فَإِنْ فَسَّرَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ: وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا عَلَى الْإِطْلَاقِ كَانَ بَاطِلًا بِلَا شُبْهَةٍ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ وَالْوُضُوءَ قَدْ افْتَرَقَا فِي عَدَدِ الْأَعْضَاءِ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا يُؤَدَّى فِي الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَالْأُخْرَى يُؤَدَّى فِي عُضْوَيْنِ. وَفِي قَدْرِ الْوَظِيفَةِ حَتَّى سُنَّ التَّكْرَارُ إلَى الثَّلَاثِ فِي الْوُضُوءِ وَكُرِهَ ذَلِكَ فِي التَّيَمُّمِ بِالْإِجْمَاعِ أَوْ الْمُرَادُ أَنَّ وَظِيفَةَ الْوُضُوءِ الِاسْتِيعَابُ بِالْمَاءِ وَالِاسْتِيعَابُ بِالتُّرَابِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي التَّيَمُّمِ بِالْإِجْمَاعِ إنَّمَا الْخِلَافُ فِي الِاسْتِيعَابِ بِمَسْحٍ فَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَيْضًا بَلْ مَسْحُ الْأَكْثَرِ كَافٍ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يُشْتَرَطُ أَوْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْإِلْزَامِ عَلَى مَذْهَبِ الْخَصْمِ فَإِنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - التَّيَمُّمُ إلَى الرُّسْغِ فِي قَوْلِهِ التَّقْوِيمُ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الْأَعْمَشِ وَفِي نَفْسِ الْفِعْلِ يَعْنِي الْفِعْلُ وَاجِبٌ فِي أَحَدِهِمَا مَسْحٌ وَهُوَ الْإِصَابَةُ وَفِي الْآخَرِ غَسْلٌ وَهُوَ الْإِسَالَةُ وَهُمَا مُفْتَرَقَانِ أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّ الْفِعْلَ فِي أَحَدِهِمَا تَلْوِيثٌ حَقِيقَةً وَفِي الْآخَرِ تَطْهِيرٌ وَتَنْظِيفٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا أَوْ الْمُرَادُ أَنَّ نَفْسَ الْفِعْلِ فِي التَّيَمُّمِ شَرْطٌ دُونَ الْوُضُوءِ حَتَّى لَوْ قَامَ فِي مَهَبِّ الرِّيحِ أَوْ مَوْضِعِ هَدْمِ حَائِطٍ فَأَصَابَ الْغُبَارُ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ أَوْ ذَرَّ رَجُلٌ عَلَى وَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ تُرَابًا لَمْ يُجْزِهِ عَنْ التَّيَمُّمِ حَتَّى يَمْسَحَ وَيَنْوِيَ التَّيَمُّمَ وَلَوْ وَقَعَ فِي مَاءٍ وَأَصَابَهُ مَطَرٌ وَسَالَ عَلَى أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ يَصِيرُ مُتَوَضِّئًا مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ. وَإِنْ قَالَ: وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي النِّيَّةِ أَيْ قَيَّدَ الِاسْتِوَاءَ بِالنِّيَّةِ وَهُوَ الْغَرَضُ مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ انْتَفَضَ ذَلِكَ بِغَسْلِ الثَّوْبِ أَوْ الْبَدَنِ عَنْ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فَإِنَّهُ طَهَارَةٌ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ النِّيَّةُ فَيُضْطَرُّ الْمُجِيبُ عِنْدَ ذَلِكَ إلَى بَيَانِ التَّأْثِيرِ الَّذِي يَنْدَفِعُ بِهِ النَّقْضُ وَيَقَعُ بِهِ الْفَرْقُ وَهُوَ أَنَّ الْوُضُوءَ تَطْهِيرٌ حُكْمِيٌّ أَيْ تَعَبُّدِيٌّ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْقَلُ فِي الْعَيْنِ أَيْ مَحَلِّ وُجُوبِ الْغُسْلِ نَجَاسَةٌ تَزُولُ بِهَذِهِ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ صَلَّى وَهُوَ حَامِلٌ مُحْدِثٌ جَازَتْ صَلَاتُهُ وَالْمَحَلُّ الَّذِي قَامَ بِهِ النَّجَاسَةُ وَهُوَ الْمَخْرَجُ لَمْ يَجِبْ غَسْلُهُ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَبُّدِيٌّ كَانَ مِثْلَ التَّيَمُّمِ إلَّا أَنَّ مَعْنَى التَّعَبُّدِ فِي التَّيَمُّمِ فِي الْآلَةِ وَفِي الْوُضُوءِ فِي الْمَحَلِّ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ النِّيَّةُ كَمَا فِي التَّيَمُّمِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى التَّعَبُّدِ إذْ الْعِبَادَةُ لَا تَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ. بِخِلَافِ غَسْلِ النَّجَسِ؛ لِأَنَّهُ مَعْقُولُ الْمَعْنَى إذْ الْمَقْصُودُ فِيهِ إزَالَةُ عَيْنِ النَّجَاسَةِ عَنْ الْمَحَلِّ لَا مَعْنَى التَّعَبُّدِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى النِّيَّةِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ النِّيَّةُ شَرْطًا فِي الْأَصْلِ لَمَا كَانَتْ شَرْطًا فِي الْبَدَلِ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ لِتَحْصِيلِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَمَتَى لَمْ يَكُنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ ثَابِتًا فِي الْأَصْلِ لَا يَثْبُتُ فِي الْبَدَلِ كَمَا فِي إبْدَالِ الْغُصُوبِ وَعَكْسُهُ إبْدَالُ الْكَفَّارَاتِ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ الْمَاءَ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْ فِي الْغُسْلِ عَامِلٌ أَيْ فِي التَّطْهِيرِ بِطَبْعِهِ كَمَا أَنَّهُ مُزِيلٌ وَمُرٌّ بِطَبْعِهِ؛ لِأَنَّهُ خُلِقَ طَهُورًا فِي الْأَصْلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] وَالطَّهُورُ هُوَ الطَّاهِرُ بِنَفْسِهِ الْمُطَهِّرُ لِغَيْرِهِ كَذَا فَسَّرَهُ ثَعْلَبٌ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ أَوْ هُوَ مُبَالَغَةٌ فِي صِفَةِ الطَّهَارَةِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا فِي غَيْرِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَعْمَلُ فِي التَّطْهِيرِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ كَمَا يَعْمَلُ فِي الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَكَمَا تَعْمَلُ النَّارُ فِي الْإِحْرَاقِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، ثُمَّ أَشَارَ إلَى الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِ هُوَ تَطْهِيرٌ حُكْمِيٌّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْقَلُ بَالِغِينَ نَجَاسَةً فَقَالَ وَكَانَ الْقِيَاسُ غَسْلَ كُلِّ الْبَدَنِ اعْتِبَارًا بِمَا لَوْ تَنَجَّسَ بَدَنُهُ حَقِيقَةً وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِخُرُوجِ

إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ اقْتَصَرَ عَلَى أَطْرَافِ الْبَدَنِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي هِيَ مِثْلُ حُدُودِ الْبَدَنِ وَأُمَّهَاتِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى تَيْسِيرًا فِيمَا يَكْثُرُ وُقُوعُهُ وَيُعْتَادُ تَكْرَارُهُ وَأَقَرَّ عَلَى الْقِيَاسِ فِيمَا لَا حَرَجَ فِيهِ وَهُوَ الْمَنِيُّ وَدَمُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ فَلَمْ يَكُنْ التَّعَدِّي عَنْ مَوْضِعِ الْحَدَثِ إلَّا قِيَاسًا وَإِنَّمَا نَعْنِي بِالنَّصِّ الَّذِي لَا يُعْقَلُ وَصْفُ مَحَلِّ الْغُسْلِ مِنْ الطَّهَارَةِ إلَى الْخَبَثِ فَأَمَّا الْمَاءُ فَعَامِلٌ بِطَبْعِهِ وَالنِّيَّةُ لِلْفِعْلِ الْقَائِمِ بِالْمَاءِ لَا لِلْوَصْفِ بِالْمَحَلِّ فَكَانَ مِثْلَ غَسْلِ النَّجَسِ بِخِلَافِ التُّرَابِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْقَلْ مُطَهِّرًا وَإِنَّمَا صَارَ عِنْدَ إرَادَةِ الصَّلَاةِ وَبَعْدَ صِحَّةِ الْإِرَادَةِ وَصَيْرُورَتِهِ مُطَهِّرًا يَسْتَغْنِي عَنْ النِّيَّةِ أَيْضًا. ـــــــــــــــــــــــــــــQالنَّجَاسَةِ يَثْبُتُ صِفَةُ الْحَدَثِ بِلَا شُبْهَةٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَخْرَجَ النَّجَاسَةِ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِالْحَدَثِ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ دُبُرُ مُحْدِثٍ وَلَا فَرْجُ حَائِضٍ وَإِنَّمَا الْبَدَنُ كُلُّهُ مَوْصُوفٌ بِهِ أَيْ بِالْحَدَثِ شَرْعًا وَعُرْفًا وَحَقِيقَةً. أَمَّا شَرْعًا فَلِأَنَّهُ يَمْنَعُهُ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ وَإِنْ غَسَلَ الْمَخْرَجَ وَأَمَّا عُرْفًا فَلِأَنَّهُ يُقَالُ: رَجُلٌ مُحْدِثٌ وَامْرَأَةٌ حَائِضٌ كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ عَالِمٌ وَمُؤْمِنٌ وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ وَالْإِيمَانُ قَائِمَيْنِ بِالْقَلْبِ وَأَمَّا حَقِيقَةً فَلِأَنَّ نَفْيَهُ لَا يَصِحُّ لَا يُقَالُ إنَّهُ لَيْسَ بِمُحْدِثٍ وَإِنَّهُ لَيْسَ بِعَالِمٍ وَإِنَّمَا الْمُحْدِثُ فَرْجُهُ وَالْعَالِمُ قَلْبُهُ بَلْ يُكَذَّبُ نَافِيهِ كَذَا قِيلَ فَثَبَتَ أَنَّ الْبَدَنَ كُلَّهُ مَوْصُوفٌ بِالْحَدَثِ دُونَ مَوْضِعِ الْخُرُوجِ أَلَا تَرَى أَنَّ غَسْلَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَلَوْ كَانَ هُوَ الْمَوْصُوفَ بِالْحَدَثِ لَكَانَ هُوَ أَوْلَى بِوُجُوبِ الْغَسْلِ. وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ غَسْلُ كُلِّ الْبَدَنِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ اقْتَصَرَ إلَى آخِرِهِ يَعْنِي، لَكِنَّ الشَّرْعَ اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِ الْأَعْضَاءِ تَيْسِيرًا وَدَفْعًا لِلْحَرَجِ فِي الْحَدَثِ الَّذِي يَكْثُرُ وُقُوعُهُ وَعَيَّنَ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ؛ لِأَنَّهَا حُدُودُ الْبَدَنِ فَإِنَّ بِالرَّأْسِ وَالرِّجْلِ يَنْتَهِي طَرَفَا الطُّولِ وَبِالْيَدَيْنِ يَنْتَهِي طَرَفَا الْعَرْضِ وَهِيَ أُمَّهَاتُ الْبَدَنِ أَيْ أُصُولٌ فِي مَعْنَى الْغَسْلِ؛ لِأَنَّهَا مَوَاقِعُ النَّظَرِ إلَيْهَا وَمَحَالُّ إصَابَةِ الْغُبَارِ وَغَيْرِهِ لِظُهُورِهَا وَكَذَا إقَامَةُ الْغَسْلِ فِيهَا أَيْسَرُ مِنْ إقَامَتِهِ فِي غَيْرِهَا فَكَانَتْ أَوْلَى بِالتَّنْظِيفِ وَالتَّطْهِيرِ فَلَمْ يَكُنْ التَّعَدِّي أَيْ تَعَدِّي وُجُوبِ الْغَسْلِ عَنْ مَوْضِعِ الْحَدَثِ وَهُوَ الْمَخْرَجُ إلَى الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ بَلْ إلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ إلَّا مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ لِاتِّصَافِ جَمِيعِ الْبَدَنِ بِالْحَدَثِ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ كَمَا بَيَّنَّا إلَّا أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ مَعَ الْمُقْتَضِي لِغَسْلِ جَمِيعِ الْبَدَنِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ وَذَلِكَ لَا يَجْعَلُ الْغَسْلَ فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بَلْ عَدَمُ غَسْلِ غَيْرِهَا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ وَإِنَّمَا يَعْنِي بِالنَّصِّ الَّذِي لَا يُعْقَلُ كَذَا يَعْنِي إنَّمَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِنَا النَّصُّ الْمُوجِبُ لِلْوُضُوءِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] الْآيَةُ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى أَنَّ الثَّابِتَ بِهِ وَهُوَ وَصْفُ مَحَلِّ الْغَسْلِ بِالْخَبَثِ غَيْرُ مَعْقُولٍ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَإِنَّمَا تَغَيَّرَ بِالنَّصِّ الَّذِي لَا يُعْقَلُ يَعْنِي الثَّابِتُ بِهَذَا النَّصِّ تَغَيُّرُ وَصْفِ مَحَلِّ الْغَسْلِ مِنْ الطَّهَارَةِ إلَى الْخَبَثِ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَدَثِ وَإِنْ ثَبَتَ فِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ عُرْفًا وَشَرْعًا، لَكِنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ حِسًّا وَإِنَّمَا يَثْبُتُ ضَرُورَةُ الْأَمْرِ بِالتَّطْهِيرِ إذْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ثُبُوتِ خَبَثٍ فِي الْمَحَلِّ لِيَكُونَ الْغَسْلُ فِيهِ إزَالَةُ الْخَبَثِ فَكَانَ إثْبَاتُهُ فِي الْمَحَلِّ أَمْرًا حُكْمِيًّا غَيْرَ مَعْقُولٍ لِطَهَارَةِ الْأَعْضَاءِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا فَإِنَّ الْمُحْدِثَ لَوْ غَمَسَ يَدَهُ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ لَا يَتَنَجَّسُ. وَهَذِهِ النُّسْخَةُ أَصَحُّ فَإِنَّ الشَّيْخَ قَدْ ذَكَرَ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ أَنَّ الثَّابِتَ بِالنَّصِّ تَغَيُّرُ مَحَلِّ الطَّهَارَةِ مِنْ صِفَةٍ إلَى صِفَةٍ حَتَّى أَعْطَى لَهُ حُكْمَ النَّجَاسَةِ نَصًّا غَيْرُ مَعْقُولٍ فَلَمْ يَكُنْ تَغْيِيرًا لِصِفَةِ الْمُطَهِّرِ وَهُوَ الْمَاءُ فَبَقِيَ الْمَاءُ مُطَهِّرًا بِطَبْعِهِ مَعْقُولًا عَلَى مَا كَانَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الشَّيْخُ قَوْلَهُ وَإِنَّمَا تَغَيَّرَ بِالنَّصِّ كَذَا دَفْعًا لِسُؤَالٍ يُرَدُّ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّ تَطْهِيرَ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ لَمَّا كَانَ مَعْقُولَ الْمَعْنَى يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ بِسَائِرِ الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةِ عَلَى أَصْلِكُمْ كَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فَقَالَ: النَّجَاسَةُ فِي الْأَعْضَاءِ ثَبَتَ بِالنَّصِّ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى وَالشَّرْعُ أَثْبَتَ النَّجَاسَةَ فِي حَقِّ الْمَاءِ فَبَقِيَتْ النَّجَاسَةُ عَدَمًا فِي حَقِّ سَائِرِ الْمَائِعَاتِ فَأَمَّا الْمَاءُ فَعَامِلٌ بِطَبْعِهِ أَيْ مُطَهِّرٌ وَمُزِيلٌ لِلْخَبَثِ بِطَبْعِهِ لَا يَتَوَقَّفُ عَمَلُهُ عَلَى قَصْدٍ وَإِرَادَةٍ. وَالنِّيَّةُ لِلْفِعْلِ الْقَائِمِ بِالْمَاءِ وَهُوَ التَّطْهِيرُ يَعْنِي لَوْ شُرِطَتْ النِّيَّةُ إنَّمَا تُشْتَرَطُ لِيَصِيرَ الْمَاءُ مُطَهِّرًا إلَّا لَأَنْ يَثْبُتَ خَبَثٌ فِي الْمَحَلِّ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ

وَمَسْحُ الرَّأْسِ مُلْحَقٌ بِالْغَسْلِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ وَانْتِقَالِهِ إلَيْهِ بِضَرْبٍ مِنْ الْحَرَجِ فَثَبَتَ أَنَّ النِّيَّةَ لَا يُشْتَرَطُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي الْمَحَلِّ قَبْلَ النِّيَّةِ وَلِهَذَا كَانَ الشَّرْطُ عِنْدَ الْخَصْمِ نِيَّةَ رَفْعِ الْحَدَثِ لَا إثْبَاتِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْفِعْلَ الْقَائِمَ بِالْمَاءِ غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى النِّيَّةِ بَلْ هُوَ عَامِلٌ بِطَبْعِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْخَبَثُ فِي الْمَحَلِّ مَعْقُولًا أَوْ غَيْرَ مَعْقُولٍ فَكَانَ أَيْ غَسْلُ هَذَا الْمَحَلِّ الَّذِي ثَبَتَ فِيهِ الْحَدَثُ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى مِثْلَ غَسْلِ النَّجَسِ فِي عَدَمِ افْتِقَارِهِ إلَى النِّيَّةِ. بِخِلَافِ التُّرَابِ فَإِنَّهُ مُلَوَّثٌ بِطَبْعِهِ فَكَانَ إثْبَاتُ التَّطْهِيرِ بِهِ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَيُحْتَاجُ فِيهِ إلَى النِّيَّةِ لِيَظْهَرَ فِعْلُهُ عَلَى خِلَافِ طَبْعِهِ وَيَصِيرَ مُطَهَّرًا أَوْ بَعْدَمَا صَارَ مُطَهَّرًا بِالنِّيَّةِ وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ اسْتَغْنَى عَنْ النِّيَّةِ كَمَا اسْتَغْنَى الْمَاءُ عَنْهَا وَتَحْصُلُ الطَّهَارَةُ بِاسْتِعْمَالِهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ كَمَا فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَثَبَتَ أَنَّهَا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ إنَّمَا الْمُفَارَقَةُ فِي صِفَةِ الطَّهُورِيَّةِ لِلْآلَةِ وَأَنَّهُ لَا مُتَمَسَّكَ لِلْخَصْمِ فِي مَسْأَلَةِ التَّيَمُّمِ بَلْ هُوَ دَلِيلٌ لَنَا قَوْلُهُ (وَمَسْحُ الرَّأْسِ مُلْحَقٌ بِالْغَسْلِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّ الْمَسْحَ شُرِعَ فِي الْوُضُوءِ مُطَهِّرًا أَوْ هُوَ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فِي التَّطْهِيرِ؛ لِأَنَّ أَثَرَهُ فِي تَكْثِيرِ النَّجَاسَةِ لَا فِي إزَالَتِهَا فَكَانَ مِثْلَ التُّرَابِ فِي أَنَّهُ مُلَوِّثٌ لَا مُطَهِّرٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُشْرَطَ فِيهِ النِّيَّةُ كَمَا فِي التَّيَمُّمِ فَقَالَ: هُوَ مُلْحَقٌ بِالْغَسْلِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْغَسْلِ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْغُسْلُ لِسِرَايَةِ الْحَدَثِ إلَيْهِ كَسِرَايَتِهِ إلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ إلَّا أَنَّ الْحُكْمَ انْتَقَلَ مِنْ الْغَسْلِ إلَى الْمَسْحِ بِسَبَبِ ضَرْبٍ مِنْ الْحَرَجِ فَإِنَّ فِي غَسْلِ الرَّأْسِ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ خُصُوصًا فِي أَيَّامِ الشِّتَاءِ لِمَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ كَثِيرٌ حَرَجًا عَظِيمًا وَفِيهِ إفْسَادُ الثِّيَابِ وَالْعَمَائِمِ وَالْقَلَانِسِ فَشُرِعَ فِيهِ الْمَسْحُ ابْتِدَاءً تَخْفِيفًا وَتَيْسِيرًا وَلَمَّا قَامَ الْمَسْحُ فِي هَذَا الْمَحَلِّ مَقَامَ الْغَسْلِ أَخَذَ حُكْمَهُ فَاسْتَغْنَى عَنْ النِّيَّةِ كَالْغَسْلِ وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ غُسْلٌ فَيُعْتَبَرُ الْجُزْءُ فِيهِ بِالْكُلِّ. وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي الْأَسْرَارِ فِي جَوَابِ هَذَا السُّؤَالِ أَنَّ الْمَاءَ مُطَهِّرٌ بِنَفْسِهِ لَا بِفِعْلِنَا إلَّا أَنَّهُ إذَا قَالَ حَتَّى لَمْ يَكُنْ سَيَّالًا ضَعُفَ عَنْ التَّطْهِيرِ لِلنَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ؛ لِأَنَّ تَطْهِيرَهَا بِإِزَالَةِ عَيْنِهَا وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ النَّجَاسَةُ ضَعِيفَةٌ؛ لِأَنَّهَا حُكْمِيَّةٌ دُونَ الْعَيْنِ فَاسْتُغْنِيَ عَنْ الْإِزَالَةِ لِإِفَادَةِ الطُّهْرِ فَصَارَ الْبَلَلُ كَالسَّائِلِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْإِزَالَةِ فِي إفَادَةِ الطُّهْرِ قَوْلُهُ (وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُشْتَرَطَ) أَيْ النِّيَّةُ لِيَصِيرَ الْوُضُوءُ قُرْبَةً جَوَابٌ عَنْ طَرِيقَةٍ أُخْرَى سَلَكَهَا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ أَنَّ الْوُضُوءَ عِبَادَةٌ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِفِعْلٍ يُؤْتَى بِهِ تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى بِأَمْرِهِ وَحُكْمُهُ الثَّوَابُ وَكُلُّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْوُضُوءِ وَقَالَ النَّبِيُّ «الطَّهَارَةُ عَلَى الطَّهَارَةِ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ عِبَادَةً لَا يَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَهُ بِشَرْطِ الْإِخْلَاصِ وَالْإِخْلَاصُ عَمَلُ الْقَلْبِ بِالنِّيَّةِ بِجِهَةِ الْأَمْر إلَّا أَنَّ هَذِهِ الطَّهَارَةَ تَتَأَدَّى بِالتُّرَابِ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الطَّهَارَةَ الْحَقِيقِيَّةَ غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ بَلْ الْمَطْلُوبُ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ النِّيَّةِ فَقَالَ: إنَّا نُسَلِّمُ أَنَّ النِّيَّةَ لِيَصِيرَ الْوُضُوءُ قُرْبَةً شَرْطٌ وَإِنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهِ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ النِّيَّةِ. ، لَكِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ أَيْ الْوُضُوءَ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا قُرْبَةً بَلْ الْوُضُوءُ الْمَشْرُوعُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ شُرِعَ بِطَرِيقِ الْقُرْبَةِ وَهُوَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ النِّيَّةِ وَنَوْعٌ شُرِعَ تَطْهِيرًا مُجَرَّدًا وَهُوَ حَاصِلٌ بِدُونِ النِّيَّةِ كَغَسْلِ الثَّوْبِ يَعْنِي إذَا نَوَى غَسْلَ الثَّوْبِ لِلصَّلَاةِ وَقَعَ عِبَادَةً مُوجِبَةً لِلثَّوَابِ وَإِذَا لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ وَقَعَ مُعْتَبَرًا أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَقَعْ عِبَادَةً حَتَّى جَازَ أَدَاءُ الصَّلَاةِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الطَّهَارَةُ دُونَ الْقُرْبَةِ وَالصَّلَاةُ فِي ذَلِكَ أَيْ فِي كَوْنِ الْوُضُوءِ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا يَسْتَغْنِي عَنْ وَصْفِ الْقُرْبَةِ فِي الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ الَّتِي أَوْجَبَتْ اشْتِرَاطَ الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ لَا تَدُلُّ عَلَى تَعَلُّقِ جَوَازِ الصَّلَاةِ بِوَصْفِ الْقُرْبَةِ

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ لِتَصِيرَ قُرْبَةً؛ لِأَنَّا نُسَلِّمُ أَنَّ النِّيَّةَ لِتَصِيرَ قُرْبَةً شَرْطٌ لَكِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا قُرْبَةٌ بَلْ شُرِعَ بِوَصْفِ الْقُرْبَةِ وَبِوَصْفِ التَّطْهِيرِ أَيْضًا كَغَسْلِ الثَّوْبِ وَالصَّلَاةُ تَسْتَغْنِي فِي ذَلِكَ عَنْ وَصْفِ الْقُرْبَةِ وَإِنَّمَا تَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى وَصْفِ التَّطْهِيرِ حَتَّى إنَّ مَنْ تَوَضَّأَ لِلنَّفْلِ صَلَّى بِهِ الْفَرَائِضَ وَمَنْ تَوَضَّأَ لِلْفَرْضِ صَلَّى بِهِ غَيْرَهُ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ فِي النِّكَاحِ إنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْبَكَارَةِ وَكُلُّ مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فَيَضْطَرُّهُ إلَى الْفِقْهِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ إنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ فَكَانَ حُجَّةً فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَمَا يُبْتَذَلُ فِي الْعَادَةِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَيَظْهَرُ بِهِ فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ ضَرُورِيَّةٌ بَلْ هِيَ أَصْلِيَّةٌ إلَّا أَنَّ فِيهَا ضَرْبَ شُبْهَةٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــQوَلِأَنَّهَا لَا نِهَايَةَ فِي الْعِبَادَاتِ فَلَا تَحْتَاجُ إلَى قُرْبَةٍ أُخْرَى لِيَصِيرَ عِبَادَةً كَذَا فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ فِيهِ أَيْ فِي كَوْنِ الْوُضُوءِ مِنْ شَرْطِهَا إلَى وَصْفِ التَّطْهِيرِ لِيَصِيرَ الْعَبْدُ بِهِ أَهْلًا لِلْقِيَامِ فِي مَقَامِ الْمُنَاجَاةِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] . وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ» وَكَذَا فِي تَسْمِيَتِهِ وُضُوءًا وَطَهَارَةً دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَهَذَا الْوَصْفُ يَحْصُلُ بِدُونِ النِّيَّةِ حَتَّى إنَّ مَنْ تَوَضَّأَ لِكَذَا صَلَّى بِهِ غَيْرَهُ لِبَقَاءِ صِفَةِ الطَّهَارَةِ إذْ لَوْ احْتَاجَتْ الصَّلَاةُ إلَى وَصْفِ الْقُرْبَةِ لَمْ تَجُزْ الصَّلَاةُ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْقُرْبَةِ قَدْ انْتَهَى بِفَرَاغِهِ عَنْ الصَّلَاةِ الَّتِي قَصَدَهَا فِي حَالَةِ الْوُضُوءِ وَإِنَّمَا النَّافِي وَصْفُ الطَّهَارَةِ لَا غَيْرُ وَلَمَّا جَازَتْ بِالْإِجْمَاعِ عَرَفْنَا أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِوَصْفِ التَّطْهِيرِ لَا بِوَصْفِ الْقُرْبَةِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي الْأَسْرَارِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ مَشَايِخِنَا يَظُنُّونَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مِنْ الْوُضُوءِ يَتَأَدَّى بِغَيْرِ نِيَّةٍ وَذَلِكَ غَلَطٌ فَإِنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ عِبَادَةٌ وَالْوُضُوءُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ، وَلَكِنَّ الْعِبَادَةَ مَتَى لَمْ تَكُنْ مَقْصُودَةً سَقَطَتْ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِدُونِ الْعِبَادَةِ كَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ وَالْجِهَادِ وَنَحْوِهِمَا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عِبَادَةٌ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ بَلْ الْمَقْصُودُ مِنْهَا التَّمَكُّنُ مِنْ إقَامَةِ الصَّلَاةِ بِالطَّهَارَةِ فَإِذَا طَهُرَتْ الْأَعْضَاءُ بِأَيِّ سَبَبٍ كَأَنْ سَقَطَ الْأَمْرُ كَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ يَسْقُطُ بِسَعْيٍ لَا لِلْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْجُمُعَةِ بِالْحُصُولِ فِي الْمَسْجِدِ فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ حَصَلَ سَقَطَ الْأَمْرُ قَوْلُهُ (وَمِثْلُهُ) أَيْ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَوْلُهُ فِي النِّكَاحِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ اعْتِبَارًا بِالْحُدُودِ. وَهُوَ أَيْ هَذَا التَّعْلِيلُ بَعْدَ كَوْنِهِ تَعْلِيلًا بِالْعَدَمِ الَّذِي هُوَ احْتِجَاجٌ بِلَا دَلِيلٍ بَاطِلٌ أَيْ مُنْتَقِضٌ بِالْبَكَارَةِ وَكُلُّ مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ مِنْ الْوِلَادَةِ وَالْعُيُوبِ الَّتِي فِي مَوَاضِعِ الْعَوْرَةِ فَإِنَّ شَهَادَتَهُنَّ فِيهَا مَقْبُولَةٌ مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ فَيُضْطَرُّ وُرُودُ هَذَا النَّقْضِ الْمُعَلَّلِ الطَّارِدِ إلَى الْفِقْهِ أَيْ إلَى الرُّجُوعِ إلَى الْمَعْنَى الْفِقْهِيِّ الَّذِي بَنَى الشَّافِعِيُّ هَذَا الْحُكْمُ عَلَيْهِ وَهُوَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَةً أَوْ مُنْضَمَّةً إلَى شَهَادَةِ الرِّجَالِ حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ عِنْدَ الْخَصْمِ وَأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا عَدَمُ الْقَبُولِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَقَلَ الْأَمْرَ إلَى النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ بِشَرْطِ عَدَمِ الرِّجَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] كَمَا نَقَلَ أَمْرَ الطَّهَارَةِ إلَى التَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ فَدَلَّ ذَلِكَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ أَصْلِيَّةٍ وَإِنَّمَا صِيرَ إلَيْهَا لِلضَّرُورَةِ وَكَذَا نُقْصَانُ عَقْلِهِنَّ كَمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَقِلَّةُ ضَبْطِهِنَّ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ وَاخْتِلَالُ وِلَايَتِهِنَّ فِي الْإِمَارَاتِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مُخِلَّةٌ بِمَا هُوَ الرُّكْنُ فِي الشَّهَادَةِ فَكَانَ الْأَصْلُ فِيهَا عَدَمَ الْقَبُولِ فَكَانَتْ حُجَّةً بِانْفِرَادِهَا فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ مِثْلَ الْبَكَارَةِ وَمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ وَمُنْضَمَّةً إلَى شَهَادَةِ الرِّجَالِ فِيمَا يُبْتَذَلُ فِي الْعَادَةِ وَهُوَ أَمْوَالٌ؛ لِأَنَّهَا لِلْبِذْلَةِ وَالتِّجَارَةُ دَائِمَةٌ بَيْنَ النَّاسِ وَأَكْثَرَ مَا يَقَعُ فِي بَابِهَا وَكَذَا الْمُبَايَعَاتُ تَقَعُ بَغْتَةً وَرُبَّمَا يَتَعَذَّرُ إحْضَارُ الذُّكُورِ فَلَوْ لَمْ يَقْبَلْ شَهَادَتَهُنَّ فِي ذَلِكَ الْبَابِ لَضَاقَ الْأَمْرُ فَقُبِلَتْ تَوْسِعَةً وَدَفْعًا لِلضَّرُورَةِ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ السَّبَبُ الْمُؤَدِّي إلَيْهِ كَوْنَ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ مَالًا أُقِيمَ هَذَا السَّبَبُ مُقَامَ الْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِنَّ عِنْدَ الْعَدَمِ فَقُبِلَتْ وَإِنْ فُقِدَتْ الْحَاجَةُ بِوُجُودِ الرِّجَالِ تَوْسِعَةً كَمَا أُقِيمَ السَّفَرُ مُقَامَ الْمَشَقَّةِ. بِخِلَافِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى الْأَبْضَاعِ وَلَمْ يَجُزْ الِابْتِذَالُ وَالْإِبَاحَةُ فِيهَا فَكَانَتْ أَعْظَمَ خَطَرًا مِنْ الْأَمْوَالِ وَلِهَذَا اخْتَصَّ النِّكَاحُ بِشَرْطِ الشَّهَادَةِ وَالْوَلِيِّ وَلَا يُوجَدُ فِيهِ الضَّرُورَةُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ بَغْتَةً وَفِي كُلِّ وَقْتٍ وَإِنَّمَا يَقَعُ بَعْدَ تَدَبُّرٍ وَتَشَاوُرٍ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَاعْتِبَارُ شَهَادَتِهِنَّ فِيمَا فِيهِ

[باب وجوه الانتقال]

وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ أَصْلِيَّةٌ؛ لِأَنَّ عَامَّةَ حُقُوقِ الْبَشَرِ نَظِيرُ هَذِهِ الْحُجَّةِ فِي احْتِمَالِ الشُّبْهَةِ وَالنِّكَاحُ مِنْ جِنْسِ مَا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ فَكَانَ فَوْقَ مَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ فَبَطَلَ الْقِيَاسُ بِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الْهَزْلِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ بِهِ الْمَالُ فَلَأَنْ يَثْبُتَ بِمَا يَثْبُتُ بِهِ الْمَالُ أَوْلَى. وَإِذَا ثَبَتَ دَفْعُ الْعِلَلِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوهِهِ كَانَتْ غَايَتُهُ أَنْ يُلْجِئَ إلَى الِانْتِقَالِ (وَهَذَا بَابُ وُجُوهِ الِانْتِقَالِ) : وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ:. الْأَوَّلُ الِانْتِقَالُ مِنْ عِلَّةٍ إلَى أُخْرَى لِإِثْبَاتِ الْعِلَّةِ الْأُولَى وَالثَّانِي الِانْتِقَالُ مِنْ حُكْمٍ إلَى حُكْمٍ آخَر بِالْعِلَّةِ الْأُولَى وَالثَّالِثُ الِانْتِقَالُ إلَى حُكْمٍ آخَرَ وَعِلَّةٍ أُخْرَى هَذِهِ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ وَالرَّابِعُ الِانْتِقَالُ مِنْ عِلَّةٍ إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ لَا لِإِثْبَاتِ الْعِلَّةِ الْأُولَى وَهَذَا الْوَجْهُ بَاطِلٌ عِنْدَنَا وَمِنْ النَّاسِ مَنْ اسْتَحْسَنَ هَذَا أَيْضًا أَمَّا الْوُجُوهُ الْأُولَى فَإِنَّمَا صَحَّتْ ـــــــــــــــــــــــــــــQضَرُورَةٌ وَيُبْتَذَلُ عَادَةً لَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِهَا فِيمَا لَا ضَرُورَةَ فِيهِ وَلَهُ خَطَرٌ لَيْسَ لِغَيْرِهِ فَيَظْهَرُ بِهِ أَيْ بِسَبَبِ بَيَانِهِ أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ إلَى آخِرِهِ فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ لِأَصْحَابِنَا أَيْضًا؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ كَذَا يَعْنِي أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهَا حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ احْتَجْنَا إلَى الْمَنْعِ وَإِلَى بَيَانِ مُسْتَنَدِهِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِبَيَانِ الْمَعْنَى فَيَظْهَرُ الْفِقْهُ مِنْ جَانِبِ أَصْحَابِنَا أَيْضًا وَهُوَ أَنَّ شَهَادَتَهُنَّ أَصْلِيَّةٌ كَشَهَادَةِ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَصِيرُ شَاهِدًا بِالْوِلَايَةِ وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحُرِّيَّةِ وَالْعَقْلِ وَالنِّسَاءُ فِيهِمَا مِثْلُ الرِّجَالِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ نُقْصَانِ الْعَقْلِ سَاقِطُ الْعِبْرَةِ؛ لِأَنَّ عَقْلَهُنَّ اُعْتُبِرَ كَامِلًا فِي التَّكَالِيفِ بِالْإِجْمَاعِ وَالْقَبُولُ يُبْتَنَى عَلَى الْعَدَالَةِ وَانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ وَلَهُنَّ عَدَالَةٌ مِثْلُ الرِّجَالِ وَلِهَذَا قُبِلَتْ مِنْهُنَّ رِوَايَةُ الْأَخْبَارِ وَالضَّلَالُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ مَجْبُورٌ بِضَمِّ امْرَأَةٍ أُخْرَى إلَيْهَا فَلَئِنْ نُفِيَ نَوْعُ شُبْهَةٍ بَعْدَ الْخَبَرِ وَهِيَ شُبْهَةُ ظَاهِرِ الْبَدَلِيَّةِ لَا حَقِيقَةِ الْبَدَلِيَّةِ فَإِنَّ شَهَادَتَهُنَّ حُجَّةٌ مَعَ وُجُودِ الرِّجَالِ بِالْإِجْمَاعِ تُعْتَبَرُ فِيمَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ وَغَيْرِهَا فَأَمَّا فِيمَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ فَلَا وَعَلَى هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ حُجَّةٌ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَقْبَلْ شَهَادَتَهُنَّ مُنْفَرِدَةً عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ. فَعِنْدَ الْخَصْمِ قَبُولُ شَهَادَتِهِنَّ حُكْمٌ مَخْصُوصٌ ثَابِتٌ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْقَبُولِ فَيَتَبَيَّنُ حَقِيقَةً ذَلِكَ بِالتَّحَاكُمِ إلَى الْأُصُولِ فَمَتَى ثَبَتَ لِلْخَصْمِ ظُهُورُ الْخَلَلِ فِيمَا هُوَ رُكْنُ الشَّهَادَةِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَبُولَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ وَمَتَى قَامَ الدَّلِيلُ لَنَا أَنَّ مَا هُوَ الرُّكْنُ كَامِلٌ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَبُولَ أَصْلٌ وَعَدَمَ الْقَبُولِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَقَدْ قَامَ كَمَا بَيَّنَّا قَوْلُهُ (وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ) أَيْ مَعَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِيهَا أَصْلِيَّةٌ غَيْرُ ضَرُورِيَّةٍ؛ لِأَنَّ عَامَّةَ حُقُوقِ الْبَشَرِ أَيْ حُجَجُ عَامَّةِ حُقُوقِهِمْ يَعْنِي الْحُجَجَ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا أَكْثَرُ الْحُقُوقِ نَظِيرُ هَذِهِ الْحُجَّةِ فِي احْتِمَالِ الشُّبْهَةِ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ وَهِيَ لَا تَخْلُو عَنْ احْتِمَالِ كَذِبٍ وَسَهْوٍ وَغَلَطٍ وَإِنْ تَرَجَّحَ فِيهَا جَانِبُ الصِّدْقِ، ثُمَّ إنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ بِاحْتِمَالِ الشُّبْهَةِ عَنْ كَوْنِهِ أَصْلِيَّةً وَلَمْ تَصِرْ ضَرُورِيَّةً فَكَذَا هَذِهِ وَالنِّكَاحُ مِنْ جِنْسِ مَا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ أَيْ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ الْمُقَارِنَةِ إيَّاهُ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الْهَزْلِ وَالْكُرْهِ وَالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ وَلَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ الطَّارِئَةِ فَإِنَّ رَجُلًا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ الْغَيْرِ وَدَخَلَ بِهَا وَيَثْبُتُ لَهُ شُبْهَةُ النِّكَاحِ حَتَّى سَقَطَ بِهِ الْحَدُّ وَجَبَتْ الْعِدَّةُ لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ الثَّابِتُ بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ الطَّارِئَةِ فَكَانَ أَيْ النِّكَاحُ فِي الثُّبُوتِ فَوْقَ مَا لَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ وَلَا يَثْبُتُ مَعَهَا أَيْضًا وَهُوَ الْمَالُ فَبَطَلَ الْقِيَاسُ بِهِ أَيْ بِمَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَا يَسْتَقِيمُ قِيَاسُهُ بِهِ بِوَجْهٍ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إلَى الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّ الْمَقِيسَ عَلَيْهِ فِي قِيَاسِ الشَّافِعِيِّ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَلَكِنَّهُ مَعْلُومٌ فَيَجُوزُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَكَانَ فَوْقَ مَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ أَيْ النِّكَاحُ الَّذِي يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ فَوْقَ الْحَدِّ الَّذِي يَسْقُطُ بِهَا فِي الثُّيُوبِ فَبَطَلَ قِيَاسُ النِّكَاحِ بِالْحَدِّ فِي اشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ لِثُبُوتِهِ أَلَا تَرَى تَوْضِيحًا لِقَوْلِهِ النِّكَاحُ مِنْ جِنْسِ مَا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ وُجُوهِ الِانْتِقَالِ] (بَابُ الِانْتِقَالِ) الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ الِانْتِقَالِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمُمَانَعَةِ؛ لِأَنَّ السَّائِلَ لَمَّا مَنَعَ وَصْفَ الْمُجِيبِ عَنْ كَوْنِهِ عِلَّةً لَمْ يَجِدْ مِنْ إثْبَاتِهِ بِدَلِيلٍ آخَرَ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ مِنْهُ فِي الْقَوْلِ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَلَّمَ الْحُكْمَ الَّذِي رَتَّبَهُ

لِأَنَّهُ لَمْ يَدَعْ إلَّا الْحُكْمَ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ فَمَا دَامَ يَسْعَى فِي إثْبَاتِ تِلْكَ الْعِلَّةِ لَمْ يَكُنْ مُنْقَطِعًا وَذَلِكَ مِثْلُ مَنْ عَلَّلَ بِوَصْفٍ مَمْنُوعٍ فَقَالَ فِي الصَّبِيِّ الْمُودَعِ إذَا اسْتَهْلَكَ الْوَدِيعَةَ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَى الِاسْتِهْلَالِ فَلَمَّا أَنْكَرَهُ الْخَصْمُ احْتَاجَ إلَى إثْبَاتِهِ وَهَذَا هُوَ الْفِقْهُ بِعَيْنِهِ وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى حُكْمًا بِوَصْفٍ فَسَلَّمَ لَهُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ انْقِطَاعًا؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ إثْبَاتُ مَا ادَّعَاهُ وَالتَّسْلِيمُ يُحَقِّقُهُ فَلَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ فَإِذَا أَمْكَنَهُ إثْبَاتُ حُكْمٍ آخَرَ بِذَلِكَ الْوَصْفِ كَانَ ذَلِكَ آيَةَ كَمَالِ الْفِقْهِ وَصِحَّةِ الْوَصْفِ مِثْلُ قَوْلِنَا إنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدٌ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِالْإِقَالَةِ فَلَا يَمْنَعُ الصَّرْفَ إلَى الْكَفَّارَةِ كَالْإِجَارَةِ وَالْبَيْعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُجِيبُ عَلَى الْعِلَّةِ وَادَّعَى النِّزَاعَ فِي حُكْمٍ آخَرَ لَمْ يَتِمَّ مَرَامُ الْمُجِيبِ فَيَنْتَقِلُ إلَى إثْبَاتِ الْحُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ إنْ أَمْكَنَهُ أَوْ بِعِلَّةٍ أُخْرَى إنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ وَالرَّابِعُ فِي فَسَادِ الْوَضْعِ وَالْمُنَاقَضَةِ إنْ لَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُهُمَا بِبَيَانِ الْمُلَاءَمَةِ وَالتَّأْثِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدَّعَ أَيْ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ أَيْ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ الِانْتِفَالِ مِثْلُ مَنْ عَلَّلَ بِوَصْفٍ مَمْنُوعٍ أَيْ غَيْرِ مُسَلَّمٍ عِنْدَ السَّائِلِ فَقَالَ فِي نَفْيِ الضَّمَانِ عَنْ الصَّبِيِّ الْمُودَعِ إذَا اسْتَهْلَكَ الْوَدِيعَةَ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَى الِاسْتِهْلَاكِ فَلَمَّا أَنْكَرَ الْخَصْمُ كَوْنَهُ اسْتِهْلَاكًا احْتَاجَ الْمُجِيبُ إلَى إثْبَاتِهِ وَهَذَا أَيْ إثْبَاتُ مَا ادَّعَاهُ حُجَّةً بِدَلِيلٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ إعْرَاضٍ عَنْ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ وَاشْتِغَالٍ بِعِلَّةٍ أُخْرَى مِنْ بَابِ الْفِقْهِ فَيَكُونُ حَسَنًا مُسْتَقِيمًا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعَلَى هَذَا اشْتَغَلَ بِإِثْبَاتِ الْأَصْلِ الثَّانِي تَفَرَّعَ مِنْهُ مَوْضِعُ الْخِلَافِ حَتَّى يَرْتَفِعَ الْخِلَافُ بِإِثْبَاتِ الْأَصْلِ فَإِنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ صَحِيحٌ نَحْوُ مَا إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْجَهْرِ بِالتَّسْمِيَةِ فَإِذَا قَالَ الْمُعَلِّلُ: هَذَا يَبْتَنِي عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْ الْفَاتِحَةِ، ثُمَّ يَشْتَغِلُ بِإِثْبَاتِ ذَلِكَ الْأَصْلِ حَتَّى يُثْبِتَ الْفَرْعَ بِثُبُوتِ الْأَصْلِ يَكُونُ مُسْتَقِيمًا. وَكَذَا إذَا عُلِّلَ بِقِيَاسٍ فَقَالَ خَصْمُهُ: الْقِيَاسُ عِنْدِي لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَاشْتَغَلَ لِإِثْبَاتِ كَوْنِهِ حُجَّةً بِقَوْلِ صَحَابِيٍّ فَيَقُولُ خَصْمُهُ: قَوْلُ الْوَاحِدِ مِنْ الصَّحَابَةِ عِنْدِي لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَاشْتَغَلَ بِإِثْبَاتِ كَوْنِهِ حُجَّةً بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَيَقُولُ خَصْمُهُ: خَبَرُ الْوَاحِدِ عِنْدِي لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَيُحْتَجُّ بِالْكِتَابِ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ فَإِنَّهُ يَكُونُ طَرِيقًا مُسْتَقِيمًا وَيَكُونُ هَذَا كُلُّهُ سَعْيًا فِي إثْبَاتِ مَا رَامَ إثْبَاتَهُ فِي الِابْتِدَاءِ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَمِثْلُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الْقِسْمُ الثَّانِي فِي أَنَّهُ لَيْسَ بِانْقِطَاعٍ كَانَ ذَلِكَ آيَةَ كَمَالِ الْفِقْهِ أَيْ فِي الْمُجِيبِ حَيْثُ عَلَّلَ عَلَى وَجْهٍ أَمْكَنَهُ إثْبَاتُ حُكْمٍ آخَرَ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ وَصِحَّةُ الْوَصْفِ فِي نَفْسِهِ حَيْثُ أَمْكَنَ إجْرَاؤُهُ فِي الْفُرُوعِ مِثْلُ قَوْلِنَا فِي جَوَازِ إعْتَاقِ الْمُكَاتَبِ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عَنْ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ إنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدٌ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِالْإِقَالَةِ عِنْدَ التَّرَاضِي وَعِنْدَ عَجْزِ الْمُكَاتَبِ عَنْ أَدَاءِ الْبَدَلِ وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ التَّدْبِيرِ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَحْتَمِلْ الْفَسْخَ لَمْ يَجُزْ إعْتَاقُ الْمُدَبَّرِ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَكَذَا الِاسْتِيلَادُ فَلَا يَمْنَعُ صَرْفَ الرَّقَبَةِ إلَى الْكَفَّارَةِ كَالْإِجَازَةِ وَالْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَوْ أَجَّرَ الْعَبْدَ أَوْ بَاعَهُ بِشَرْطِ الْخِيَار لِنَفْسِهِ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ الْبَيْعَ تَصَرُّفٌ لَا يُخْرِجُ الْعَبْدَ الْمَبِيعَ عَنْ صَلَاحِيَّتِهِ لِلصَّرْفِ إلَى الْكَفَّارَةِ لِاحْتِمَالِهِ الْفَسْخَ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي عَنْ الْكَفَّارَةِ أَوْ عَادَ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ بِإِقَالَةٍ أَوْ رُدَّ بِعَيْبٍ أَوْ شِرَاءٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَعْتِقَهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ فَكَذَا فِي الْكِتَابَةِ فَإِنْ قَالَ السَّائِلُ: أَنَا أَقُولُ بِمُوجِبِ هَذِهِ الْعِلَّةِ فَعِنْدِي لَا يَمْنَعُ هَذَا الْعَقْدَ عَنْ الصَّرْفِ إلَى الْكَفَّارَةِ، وَلَكِنَّ الْمَانِعَ نُقْصَانُ تَمَكُّنٍ فِي الرِّقِّ بِسَبَبِ هَذَا الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ مُسْتَحَقٌّ لِلْعَبْدِ بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ كَعِتْقِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ. قِيلَ لَهُ: وَجَبَ هَذِهِ الْعِلَّةُ أَنْ لَا يُوجِبَ هَذَا الْعَقْدَ نُقْصَانًا مَانِعًا مِنْ الصَّرْفِ إلَى الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ مَا يُمْكِنُ نُقْصَانًا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِوَجْهٍ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الرِّقِّ ثُبُوتُ الْحُرِّيَّةِ مِنْ وَجْهٍ وَكَمَا أَنَّ ثُبُوتَ الْحُرِّيَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ لَا يَحْتَمِلُهُ ثُبُوتُهَا مِنْ وَجْهٍ فَهَذَا إثْبَاتُ الْحُكْمِ الثَّانِي بِالْعِلَّةِ الْأُولَى أَيْضًا قَوْلُهُ (أَوْ لَا يَتَضَمَّنُ مَا يَمْنَعُ) الْخَصْمَ يَقُولُ: عَقْدُ الْكِتَابَةِ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْعَبْدِ لِلْعِتْقِ فَوْقَ الِاسْتِيلَادِ وَالتَّدْبِيرِ وَلِهَذَا يَصِيرُ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ وَيَمْتَنِعُ عَلَى الْمَوْلَى التَّصَرُّفَاتُ فِيهِ، ثُمَّ إمَّا أَنْ يُقَالَ تَمَكَّنَ بِهَذَا السَّبَبِ نُقْصَانٌ فِي رِقِّهِ أَوْ يُقَالُ صَارَ هُوَ كَالزَّائِلِ عَنْ ذَلِكَ الْمَوْلَى مِنْ وَجْهٍ.

فَإِنْ قَالَ: عِنْدِي لَا يَمْنَعُ هَذَا الْعَقْدَ قِيلَ لَهُ: وَجَبَ أَنْ لَا يُوجِبَ فِي الرِّقِّ نَقْصًا مَانِعًا مِنْ الصَّرْفِ إلَى الْكَفَّارَةِ أَوْ لَا يَتَضَمَّنُ مَا يَمْنَعُ وَإِذَا عَلَّلَ بِوَصْفٍ آخَرَ لِحُكْمٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا ادَّعَاهُ صَارَ مُسَلَّمًا فَلَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ لَكِنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يَخْلُو عَنْ ضَرْبِ غَفْلَةٍ. وَأَمَّا الرَّابِعُ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ اسْتَحْسَنَهُ وَاحْتَجَّ بِقِصَّةِ إبْرَاهِيمَ فِي مُحَاجَّةِ اللَّعِينِ فَإِنَّهُ انْتَقَلَ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ لِإِثْبَاتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ كَمَا قَصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258] وَالصَّحِيحُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا يُعَدُّ انْقِطَاعًا؛ لِأَنَّ النَّظَرَ شُرِعَ لِبَيَانِ الْحَقِّ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَنَاهِيًا لَمْ يَقَعْ بِهِ الْإِبَانَةُ كَمَا إذَا لَزِمَهُ النَّقْضُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ الِاحْتِرَازُ بِوَصْفٍ زَائِدٍ فَلَأَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ التَّعْلِيلُ الْمُبْتَدَأُ أَوْلَى ـــــــــــــــــــــــــــــQوَهَذَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ الْأَرْشُ وَلَوْ أَتْلَفَهُ تَضَمَّنَ قِيمَتَهُ وَلَوْ وَطِئَ مُكَاتَبَتَهُ تَضَمَّنَ الْعُقْرَ وَثُبُوتُ حُكْمِ الزَّوَالِ عَنْ مِلْكِهِ مِنْ وَجْهٍ كَافٍ لِلْمَنْعِ مِنْ التَّكْفِيرِ بِهِ أَوْ يُقَالُ هُوَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى كَفَائِتِ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِمَنَافِعِهِ وَمَكَاسِبِهِ فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَى الْكَفَّارَةِ كَالرَّقَبَةِ الْعَمْيَاءِ كَذَا فِي ظِهَارِ الْمَبْسُوطِ فَالشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَجَبَ أَنْ لَا تُوجِبُ نُقْصَانًا فِي الرِّقِّ رَدَّ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَبِقَوْلِهِ أَوْ لَا يَتَضَمَّنُ مَا يَمْنَعُ رَدَّ الْوَجْهَيْنِ الْآخَرَيْنِ يَعْنِي لَوْ قَالَ: إنَّا نُسَلِّمُ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي الرِّقِّ، وَلَكِنَّهُ تَضَمَّنَ مَعْنًى يَمْنَعُ الصَّرْفَ وَهُوَ صَيْرُورِيَّةُ كَالزَّائِلِ عَنْ ذَلِكَ أَوْ كَفَائِتِ الْمَنْفَعَةِ نَقُولُ: لَمَّا كَانَ هَذَا الْعَقْدُ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ وَجَبَ أَنْ لَا يَتَضَمَّنَ مَعْنًى يَمْنَعُهُ مِنْ صَرْفِهِ إلَى الْكَفَّارَةِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فَإِنَّ بِالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ زَوَالًا عَنْ مِلْكِهِ مِنْ وَجْهٍ لِانْعِقَادِ سَبَبِ الزَّوَالِ وَهَذَا لَوْ مَاتَ مِنْ الْخِيَارِ لَزِمَ الْبَيْعُ وَبِالْإِجَارَةِ فَاتَتْ الْمَنَافِعُ عَنْ مِلْكِهِ، ثُمَّ إنَّهُمَا لَا يُمْنَعَانِ عَنْ الصَّرْفِ إلَى الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّهُمَا يَحْتَمِلَانِ الْفَسْخَ وَكَذَا الْكِتَابَةُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى تَضَمَّنَ هَذَا الْعَقْدَ مَا يَمْنَعُ الصَّرْفَ إلَى الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الْخَصْمِ تَضَمُّنَهُ اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ وَإِنْ لَمْ تُوجِبْ نُقْصَانًا فِي الرِّقِّ فَنَقُولُ: إنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِهِ الْفَسْخَ وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ لَا يَتَمَكَّنُ نُقْصَانٌ فِي رِقِّ الْمُكَاتَبِ وَلَا يَصِيرُ الْعِتْقُ مُسْتَحَقًّا لَهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعِتْقِ فِي الْكِتَابَةِ مُتَعَلِّقٌ بِشَرْطِ الْأَدَاءِ وَلَوْ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِشَرْطٍ آخَرَ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ فَكَذَلِكَ بِهَذَا الشَّرْطِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ يَمْنَعُ الْفَسْخَ وَهَذَا الشَّرْطُ لَا يَمْنَعُ بِخِلَافِ الِاسْتِيلَادِ؛ لِأَنَّ بِهِ يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ فِي الرِّقِّ حَتَّى لَا تَعُودَ إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى بِحَالٍ وَبِخِلَافِ التَّدْبِيرِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ بِالتَّدْبِيرِ صَارَ مُسْتَحَقًّا لِلْمُدَبَّرِ وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُ التَّدْبِيرُ الْفَسْخَ وَإِذَا عُلِّلَ بِوَصْفٍ آخَرَ لِحُكْمٍ آخَرَ يَعْنِي إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ بِالْعِلَّةِ الْأُولَى فَانْتَقَلَ إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى لِإِثْبَاتِهِ فَهُوَ صَحِيحٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَا ادَّعَاهُ مِنْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ الَّذِي زَعَمَ أَنَّ خَصْمَهُ يُنَازِعُهُ فِيهِ بِالْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ صَارَ مُسْلِمًا فَإِذَا احْتَاجَ إلَى إثْبَاتِ حُكْمٍ آخَرَ كَانَ لَهُ أَنْ يُثْبِتَ بِعِلَّةٍ أُخْرَى وَلَا يُعَدَّ ذَلِكَ انْقِطَاعًا. وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ نَقُولَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَمَا سَلَّمَ الْخَصْمُ إنَّ هَذَا الْعَقْدَ بِنَفْسِهِ لَا يَمْنَعُ الصَّرْفَ إلَى الْكَفَّارَةِ هَذِهِ رَقَبَةٌ مَمْلُوكَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ صَرْفُهَا إلَى الْكَفَّارَةِ قِيَاسًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلَكِنَّ مِثْلَ ذَلِكَ التَّعْلِيلِ الَّذِي يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الِانْتِقَالِ إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى وَحُكْمٍ آخَرَ لَا يَخْلُو عَنْ ضَرْبِ غَفْلَةٍ حَيْثُ لَمْ يَعْرِفْ الْمُعَلِّلُ مَوْضِعَ الْخِلَافِ فِي ابْتِدَاءِ تَعْلِيلِهِ. قَوْلُهُ (أَمَّا الرَّابِعُ) وَهُوَ الِانْتِقَالُ عَنْ عِلَّةٍ إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ فَصَحِيحٌ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ النَّظَرِ؛ لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه حِينَ حَاجَّ اللَّعِينَ وَهُوَ نُمْرُودُ بْنُ كَنْعَانَ وَكَانَ يَدَّعِي الْأُلُوهِيَّةَ بِقَوْلِهِ {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] وَعَارَضَهُ اللَّعِينُ بِقَوْلِهِ {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] انْتَقَلَ إلَى حُجَّةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258] وَكَانَ هَذَا مِنْهُ انْتِقَالًا إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى لِإِثْبَاتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ الَّذِي رَامَ بِالْحُجَّةِ الْأُولَى هُوَ بَيَانُ أَنَّ الْأُلُوهِيَّةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِيهَا وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْمَدْحِ لَهُ بِهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ صَحِيحٌ وَكَذَلِكَ الْمُدَّعِي إذَا أَقَامَ شَاهِدَيْنِ فَعُورِضَ بِجُرْحٍ فِيهِمَا كَانَ لَهُ أَنْ يُقِيمَ شَاهِدَيْنِ آخَرَيْنِ لِإِثْبَاتِ مُدَّعَاهُ وَالصَّحِيحُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِانْتِقَالِ يُعَدُّ انْقِطَاعًا؛ لِأَنَّ الْمُنَاظَرَةَ شُرِعَتْ لِإِبَانَةِ الْحَقِّ فَإِنَّ تَفْسِيرَ الْمُنَاظَرَةِ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي النِّسْبَةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ لِإِظْهَارِ الصَّوَابِ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ

عَلَيْهِ فَلَيْسَ مَا فِي قِصَّةِ الْحُجَّةِ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ الْأُولَى كَانَتْ لَازِمَةً أَلَا يُرَى أَنَّهُ عَارِضٌ بِأَمْرٍ بَاطِلٍ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ اللَّعِينُ مُنْقَطِعًا إلَّا أَنَّ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه لَمَّا خَافَ الِاشْتِبَاهَ وَالتَّلْبِيسَ عَلَى الْقَوْمِ انْتَقَلَ إلَى دَفْعٍ آخَرَ دَفْعًا لِلِاشْتِبَاهِ إلَى مَا هُوَ حَالٌ عَمَّا يُوجِبُ لَبْسًا وَذَلِكَ حَسَنٌ عِنْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ وَخَوْفِ الِاشْتِبَاهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQأَيْ النَّظَرُ أَوْ الدَّلِيلُ مُتَنَاهِيًا لَمْ يَقَعْ بِهِ إبَانَةُ الْحَقِّ يَعْنِي لِوُجُودِ الِانْتِقَالِ وَلَمْ يُجْعَلْ انْقِطَاعًا لَطَالَ مَجْلِسُ الْمُنَاظَرَةِ مِنْ غَيْرِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ إبَانَةُ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ الْمُعَلِّلَ كُلَّمَا رُدَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ يَتَعَلَّقُ بِآخَرَ فَلَا يَنْتَهِي الْمُنَاظَرَةُ وَلَا يَحْصُلُ الْمَرَامُ وَهَذَا نَظِيرُ نَقْضٍ يَتَوَجَّهُ عَلَى الْعِلَّةِ فَإِنَّهُ يُعَدُّ انْقِطَاعًا وَلَا يَصِحُّ مِنْ الْمُعَلِّلِ إدْرَاجُ وَصْفٍ زَائِدٍ يَحْصُلُ بِهِ الِاحْتِرَازُ عَنْ النَّقْضِ مَعَ أَنَّهُ سَاعٍ فِي تَصْحِيحِ الْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا وَإِنَّ الْوَصْفَ الزَّائِدَ لَيْسَ بِعِلَّةٍ بِنَفْسِهِ فَلَأَنْ يُعَدَّ انْقِطَاعًا مَعَ أَنَّهُ تَعْلِيلٌ مُسْتَبِدٌّ تَامٌّ بِنَفْسِهِ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ الْأُولَى غَيْرُ صَالِحَةٍ أَصْلًا لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ بِهَا كَانَ أَوْلَى فَأَمَّا قِصَّةُ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَيْ مِنْ قَبِيلِ الِانْتِقَالِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ الْأُولَى الَّتِي ذَكَرَهَا كَانَتْ لَازِمَةً عَلَى اللَّعِينِ؛ لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَرَادَ بِقَوْلِهِ {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] حَقِيقَةَ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَعَارَضَهُ اللَّعِينُ بِأَمْرٍ بَاطِلٍ وَهُوَ إطْلَاقُ أَحَدِ الْمَسْجُونَيْنِ وَقَتْلِ الْآخَرِ وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ فِي شَيْءٍ إلَّا بِطَرِيقِ الشُّبْهَةِ وَالْمَجَازِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْحُجَّةَ الْأُولَى لَازِمَةٌ وَأَنَّ الْمُعَارَضَةَ بَاطِلَةٌ كَانَ اللَّعِينُ مُنْقَطِعًا أَيْ مَحْجُوجًا بِتِلْكَ الْحُجَّةِ وَكَانَ يُمْكِنُ لِإِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه أَنْ يَقُولَ: إنِّي أَرَدْتُ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ حَقِيقَتَهُمَا لَا مَا أَرَيْتُ مِنْ الْإِطْلَاقِ وَالْقَتْلِ بَلْ أَنَا أَفْعَلُ كَمَا فَعَلْتَ وَلَكِنْ أَنْ قَدَرْت عَلَى الْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ فَأَمِتْ هَذَا الَّذِي أَطْلَقْتَهُ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةِ آلَةٍ وَسَبَبٍ وَأَحْيِ هَذَا الَّذِي قَتَلْتَهُ فَيَظْهَرُ بِهِ بُهْتُ اللَّعِينِ إلَّا أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا كَانُوا أَصْحَابَ الظَّوَاهِرِ وَكَانُو لَا يَتَأَمَّلُونَ فِي حَقَائِقِ الْمَعَانِي خَافَ الْخَلِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الِاشْتِبَاهَ وَالِالْتِبَاسَ عَلَيْهِمْ فَضَمَّ إلَى الْحُجَّةِ الْأُولَى حُجَّةً ظَاهِرَةً لَا يَكَادُ يَقَعُ فِيهَا الِاشْتِبَاهُ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ. وَذَلِكَ أَيْ الِانْتِقَالُ إلَى حُجَّةٍ أُخْرَى حَسَنٌ عِنْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ الْأُولَى وَخَوْفِ الِاشْتِبَاهِ فَإِنَّ الْمُجِيبَ إذَا تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ دَقِيقٍ يَخْفَى عَلَى الْقَوْمِ وَالْخَصْمُ يُلْبِسُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ إلَى ظَاهِرٍ يُدْرِكُهُ الْقَوْمُ وَالْمُعَلِّلُ إذَا ثَبَتَ عِلَّتُهُ قَدْ يَقُومُ وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ مَا ذَكَرْت فَيَأْتِي بِكَلَامٍ أَوْضَحَ مِنْ الْأَوَّلِ فِي إثْبَات مَا رَامَهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ حِجَجَ الشَّرْعِ أَنْوَارٌ فَضَمَّ حُجَّةً إلَى حُجَّةٍ كَضَمِّ سِرَاجِ إلَى سِرَاجٍ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى ضَعْفِ أَحَدِهِمَا أَوْ بُطْلَانِ أَثَرِهِ فَكَذَلِكَ ضَمُّ حُجَّةٍ إلَى حُجَّةٍ وَإِنَّمَا جَعَلْنَا هَذَا انْقِطَاعًا فِي وَضْعٍ يَكُونُ الِانْتِقَالُ لِلْعَجْزِ عَنْ إثْبَاتِ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ وَأَمَّا الِانْتِقَالُ إلَى بَيِّنَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الْجَرْحِ فِي الَّتِي أَقَامَهَا فَإِنَّمَا يَجُوزُ صِيَانَةً لِحُقُوقِ النَّاسِ إذْ لَوْ لَمْ يَجُزْ الِانْتِقَالُ ضَاعَ حُقُوقُ النَّاسِ بِلَا تَدَارُكٍ وَذَكَرَ فِي عَيْنِ الْمَعَانِي أَنَّ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَجَّحَ حُجَّتَهُ بِمَا يُشَاكِلُهَا دَفْعًا لِلتَّلْبِيسِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ إمَاتَةٌ، ثُمَّ إحْيَاءٌ وَالثَّانِي إزَالَةٌ، ثُمَّ إنْشَاءٌ فَالنَّفْسُ مُشْرِقَةٌ بِرُوحِهَا، ثُمَّ زَائِلُهُ عِنْدَ زُهُوقِهَا وَالشَّمْسُ مُشْرِقَةٌ بِنُورِهَا، ثُمَّ هِيَ بَاطِلَةٌ عِنْدَ غُرُوبِهَا فَكَانَتْ تَأْكِيدًا لَا انْتِقَالًا وَلَمْ يَقُلْ اللَّعِينُ فَلْيَأْتِ رَبُّك؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُعَانِدًا خَافَ الْفَضِيحَةَ أَوْ صَرَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَاعْلَمْ أَنَّ الِانْقِطَاعَ كَمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ جَانِبِ الْمُعَلِّلِ يَتَحَقَّقُ مِنْ جَانِبِ السَّائِلِ فَإِنَّ تَفْسِيرَهُ عَجْزُ الْمُنَاظِرِ وَقُصُورُهُ عَنْ بُلُوغِ مَا هَمَّ فِي أَوَّلِ مَا شَرَعَ فِيهِ مِنْ تَصْحِيحِ مَذْهَبِهِ وَذَلِكَ فِي جَانِبِ الْمُعَلِّلِ بِالْعَجْزِ عَنْ الْوَفَاءِ بِمَا ضَمِنَ مِنْ تَحْقِيقِ قَوْلِهِ بِالْحُجَّةِ الَّتِي أَبْرَزَهَا وَأَرَى تَصْدِيقَ قَوْلِهِ بِهَا وَفِي جَانِبِ السَّائِلِ بِالْعَجْزِ عَنْ الْمَنْعِ أَوْ عَنْ تَصْحِيحِ مَنْعِهِ بِإِسْنَادِهِ إلَى مُسْتَنَدٍ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمَّا شَرَعَ

[باب معرفة أقسام الأسباب والعلل والشروط]

بَابُ مَعْرِفَةِ أَقْسَامِ الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ وَالشُّرُوطِ جُمْلَةِ مَا يَثْبُتُ بِالْحُجَجِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا سَابِقًا عَلَى بَابِ الْقِيَاسِ شَيْئَانِ الْأَحْكَامُ الْمَشْرُوعَةُ وَالثَّانِي مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ الْمَشْرُوعَةُ وَإِنَّمَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ لِلْقِيَاسِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَأَلْحَقْنَاهَا بِهَذَا الْبَابِ لِيَكُونَ وَسِيلَةً بَعْدَ أَحْكَامِ طُرُقِ التَّعْلِيلِ أَمَّا الْأَحْكَامُ فَأَنْوَاعٌ حُقُوقُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: خَالِصَةً وَحُقُوقُ الْعِبَادِ خَالِصَةً وَالثَّالِثُ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْحَقَّانِ وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى غَالِبٌ وَالرَّابِعُ مَا اجْتَمَعَا وَحَقُّ الْعَبْدِ فِيهِ غَالِبٌ. وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى ثَمَانِيَةُ أَنْوَاعٍ. عِبَادَاتٌ خَالِصَةٌ، وَعُقُوبَاتٌ خَالِصَةٌ، وَعُقُوبَاتٌ قَاصِرَةٌ وَحُقُوقٌ دَائِرَةٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَعِبَادَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ وَمُؤْنَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَمُؤْنَةٌ فِيهَا شُبْهَةُ الْعُقُوبَةِ وَحَقٌّ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ. وَالْعِبَادَاتُ نَوْعَانِ الْإِيمَانُ وَفُرُوعُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي التَّعْلِيلِ أَوْ الْمَنْعِ فَقَدْ أَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ تَصْحِيحَهُ فَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ فَقَدْ انْقَطَعَ وَأَنَّهُ أَنْوَاعٌ أَرْبَعَةٌ عَلَى مَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَحَدُهُمَا وَهُوَ أَظْهَرُهَا السُّكُوتُ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَنْ اللَّعِينِ عِنْدَ إظْهَارِ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حُجَّتَهُ بِقَوْلِهِ {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258] . وَالثَّانِي جَحْدُ مَا يُعْلَمُ ضَرُورَةً أَوْ بِطَرِيقِ الْمُشَاهَدَةِ جَحْدُ مِثْلِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا عَجْزُهُ عَنْ دَفْعِ عِلَّةِ الْمُعَلِّلِ فَكَانَ انْقِطَاعًا. وَالثَّالِثُ الْمَنْعُ بَعْدَ تَسْلِيمٍ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَحْمِلُهُ عَلَى الْمَنْعِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَتَنَاقُضِ الْكَلَامِ إلَّا عَجْزُهُ عَنْ الدَّفْعِ لِمَا اسْتَدَلَّ بِهِ خَصْمُهُ وَلَا يُقَالُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَسْلِيمُهُ عَنْ سَهْوٍ أَوْ غَفْلَةٍ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ وَجْهُ الدَّفْعِ بِطَرِيقِ التَّسْلِيمِ، ثُمَّ يَبْتَنِي عَلَيْهِ اسْتِدْرَاكُ مَا سَهَا فِيهِ فَأَمَّا أَنْ يَرْجِعَ عَنْ التَّسْلِيمِ إلَى الْمَنْعِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الدَّفْعِ بِطَرِيقِ التَّسْلِيمِ فَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا لِلْعَجْزِ. وَالرَّابِعُ عَجْزُ الْمُعَلِّلِ عَنْ تَصْحِيحِ الْعِلَّةِ الَّتِي قَصَدَ إثْبَاتَ الْحُكْمِ بِهَا حَتَّى انْتَقَلَ مِنْهَا إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ انْقِطَاعٌ؛ لِأَنَّهُ عَجْزٌ عَنْ إظْهَارِ مُرَادِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعَجْزِ ابْتِدَاءً عَنْ إقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْحُكْمِ الَّذِي ادَّعَاهُ، ثُمَّ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الِانْتِقَالِ إنَّمَا يَكُونُ انْقِطَاعًا فِي حَقِّ الْمُعَلِّلِ دُونَ السَّائِلِ فَإِنَّهُ لَوْ انْتَقَلَ مِنْ دَلِيلٍ إلَى دَلِيلٍ لَا يَكُونُ بِهِ بَأْسٌ؛ لِأَنَّهُ مُعَارِضٌ لِكَلَامِ الْمُجِيبِ فَمَا دَامَ فِي الْمُعَارَضَةِ بِدَلِيلٍ يَصْلُحُ مُعَارِضًا لَا يَكُونُ مُنْقَطِعًا بِخِلَافِ الْمُجِيبِ إلَيْهِ أُشِيرُ فِي الْمِيزَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ مَعْرِفَةِ أَقْسَامِ الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ وَالشُّرُوطِ] (بَابُ مَعْرِفَةِ أَقْسَامِ الْإِثْبَاتِ وَالْعِلَلِ وَالشُّرُوطِ) لَمْ يَذْكُرْ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَحْكَامَ فِي تَلْقِيبِ الْبَابِ كَمَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ الْأَحْكَامَ فِي هَذَا الْبَابِ؛ لِأَنَّ عَرْضَهُ مِنْ عَقْدِ الْبَابِ بَيَانُ الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ وَالشُّرُوطِ دُونَ الْأَحْكَامِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ بِالْحُجَجِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا سَابِقًا أَيْ مَرَّ ذِكْرُهَا قَبْلَ بَابِ الْقِيَاسِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَوْ هُوَ سِيقَ مِنْ السَّوْقِ لَا مِنْ السَّبْقِ وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِقَوْلِهِ سَابِقًا عَلَى بَابِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ بِالْقِيَاسِ لَا يَثْبُتُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ عِنْدَ الشَّيْخِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ حُكْمِ الْعِلَّةِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ لِلْقِيَاسِ أَيْ لِأَجْلِ الْقِيَاسِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَهِيَ الْأَحْكَامُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لِتَعْدِيَةِ حُكْمٍ مَعْلُومٍ بِسَبَبِهِ وَشَرْطِهِ بِوَصْفٍ مَعْلُومٍ عَلَى مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي أَوَّلِ بَابِ حُكْمِ الْعِلَّةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَأَلْحَقْنَاهَا أَيْ تِلْكَ الْجُمْلَةَ يَعْنِي بَيَانَهَا بِهَذَا الْبَابِ وَهُوَ بَابُ الْقِيَاسِ لِيَكُونَ مَعْرِفَتُهَا وَسِيلَةً إلَيْهِ أَيْ إلَى الْقِيَاسِ بَعْدَ أَحْكَامِ طَرَفِ التَّعْلِيلِ وَالْوَسِيلَةُ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى الْغَيْرِ وَالْجَمْعُ الْوُسُلُ وَالْوَسَائِلُ. وَلَا يُقَالُ لَمَّا كَانَتْ مَعْرِفَةُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَسِيلَةً إلَى الْقِيَاسِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُذْكَرَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ قَبْلَ الْقِيَاسِ إذْ الْوَسَائِلُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَقَاصِدِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ كَوْنُ الْقِيَاسِ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ وَحُجَّةً مِنْ حُجَجِهِ أَوْجَبَ وَصْلَهُ بِالْحُجَجِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَتَرْتِيبَهُ عَلَيْهَا فَلِذَلِكَ لَزِمَ تَأْخِيرُ بَيَانِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إلَى الْفَرَاغِ وَإِلْحَاقُهُ بِهِ قَوْلُهُ (حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى خَالِصَةً) بِالنَّصْبِ عَلَى التَّمْيِيزِ قَالَ السَّيِّدُ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أُصُولِ الْفِقْهِ: الْحَقُّ الْمَوْجُودُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ فِي وُجُودِهِ وَمِنْهُ السِّحْرُ حَقٌّ وَالْعَيْنُ حَقٌّ أَيْ مَوْجُودٌ بِأَثَرِهِ وَهَذَا الدَّيْنُ حَقٌّ أَيْ مَوْجُودٌ صُورَةً وَمَعْنًى وَلِفُلَانِ حَقٌّ فِي ذِمَّةِ فُلَانٍ أَيْ شَيْءٌ مَوْجُودٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ قَالَ: وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْعُ الْعَامُّ لِلْعَالَمِ فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ أَحَدٌ وَيُنْسَبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا أَوْ لِئَلَّا يَخْتَصَّ بِهِ أَحَدٌ

وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ أَصْلٌ وَمُلْحَقٌ بِهِ وَزَوَائِدُ أَمَّا الْأَصْلُ فَالتَّصْدِيقُ فِي الْإِيمَانِ أَصْلٌ مُحْكَمٌ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِحَالٍ بِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ وَبِغَيْرِهِ مِنْ الْأَعْذَارِ وَلَا يَبْقَى مَعَ التَّبْدِيلِ بِحَالٍ وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ رُكْنٌ فِي الْإِيمَانِ مُلْحَقٌ بِالتَّصْدِيقِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ دَلِيلٌ عَلَى التَّصْدِيقِ فَانْقَلَبَ رُكْنًا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا أَيْضًا حَتَّى إذَا أُكْرِهَ الْكَافِرُ عَلَى الْإِيمَانِ فَآمَنَ صَحَّ إيمَانُهُ بِنَاءً عَلَى وُجُودِ أَحَدِ الرُّكْنَيْنِ بِخِلَافِ الرِّدَّةِ فِي الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ فِي الرِّدَّةِ دَلِيلٌ مَحْضٌ لَا رُكْنٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ الْجَبَابِرَةِ لِحُرْمَةِ الْبَيْتِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةُ الْعَالَمِ بِاتِّحَادِهِ قِبْلَةً لِصَلَوَاتِهِمْ وَمَثَابَةً لِاعْتِذَارِ أَجْرَامِهِمْ وَكَحُرْمَةِ الزِّنَا لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ عُمُومِ النَّفْعِ فِي سَلَامَةِ الْإِنْسَانِ وَصِيَانَةِ الْفُرُشِ وَارْتِفَاعِ السَّيْفِ بَيْنَ الْعَشَائِرِ بِسَبَبِ التَّنَازُعِ بَيْنَ الزُّنَاةِ وَإِنَّمَا يُنْسَبُ إلَيْهِ تَعْظِيمًا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَتَعَالَى عَنْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ حَقًّا لَهُ بِهَذَا الْوَجْهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا لَهُ بِجِهَةِ التَّخْلِيقِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ بَلْ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ لِتَشْرِيفِ مَا عَظُمَ خَطَرُهُ وَقَوِيَ نَفْعُهُ وَشَاعَ فَضْلُهُ بِأَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ النَّاسُ كَافَّةً وَحَقُّ الْعَبْدِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةٌ خَاصَّةٌ كَحُرْمَةِ مَالِ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ لِيَتَعَلَّقَ صِيَانَةُ مَالِهِ بِهَا فَلِهَذَا يُبَاحُ مَالُ الْغَيْرِ بِإِبَاحَةِ الْمِلْكِ وَلَا يُبَاحُ الزِّنَا بِإِبَاحَتِهَا وَلِإِبَاحَةِ أَهْلِهَا. وَعُقُوبَاتٌ قَاصِرَةُ الْمُرَادِ بِالْوَاحِدَةِ إذْ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ إلَّا حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ وَلِهَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: وَعُقُوبَةٌ قَاصِرَةٌ وَكَذَا فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمُنْتَخَبِ أَيْضًا وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ يَعْنِي هَذِهِ الْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ مَوْجُودَةٌ فِي مَجْمُوعِ النَّوْعَيْنِ لَا أَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مُنْقَسِمٌ إلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ لَا يُحْتَمَلُ السُّقُوطُ بِحَالٍ كَمَا يَحْتَمِلُهُ الْإِقْرَارُ بِعُذْرِ الْكُرْهِ وَبِغَيْرِهِ مِنْ الْأَعْذَارِ مِثْلُ إنْ صَارَ مُثْقَلَ اللِّسَانِ. وَلَا يَبْقَى أَيْ الْإِيمَانُ مَعَ تَبْدِيلِ التَّصْدِيقِ بَعْدَهُ بِحَالٍ سَوَاءٌ كَانَ بِالْإِكْرَاهِ أَوْ بِغَيْرِهِ وَالْإِقْرَارُ مُلْحَقٌ بِالتَّصْدِيقِ وَالزَّوَائِدُ فِي الْإِيمَانِ تَكْرَارُ الشَّهَادَةِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى كَذَا قِيلَ وَهُوَ أَيْ الْإِقْرَارُ فِي الْأُصُولِ دَلِيلٌ عَلَى التَّصْدِيقِ؛ لِأَنَّ اللِّسَانَ مُعَبِّرٌ عَمَّا فِي الضَّمِيرِ فَانْقَلَبَ أَيْ الْإِقْرَارُ مُنْضَمًّا إلَى التَّصْدِيقِ رُكْنًا مِنْ الْإِيمَانِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِمَنْزِلَةِ عِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ حَتَّى لَوْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يُقِرَّ بِلِسَانِهِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ فَيَكُونُ مُؤْمِنًا فِي الْحُكْمِ وَلَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَوْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَعِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ الْإِقْرَارُ شَرْطُ إجْرَاءِ الْأَحْكَامِ وَرُكْنُ الْإِيمَانِ هُوَ التَّصْدِيقُ لَا غَيْرُ وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ بَيَانِ حُسْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَهُوَ أَصْلٌ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا يَعْنِي التَّصْدِيقَ وَالْإِقْرَارَ وَإِنْ كَانَا رُكْنَيْنِ فِي مُطْلَقِ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الْكَيْلِ وَالْجِنْسِ فِي بَابِ الرِّبَا، لَكِنَّ الْإِقْرَارَ صَارَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا بِمَنْزِلَةِ التَّصْدِيقِ إعْلَاءً لِلْإِسْلَامِ كَمَا جُعِلَ أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ الرِّبَا عِلَّةَ الْحُرْمَةِ رِبَا النَّسِيئَةِ وَلِهَذَا حَكَمْنَا بِالْإِيمَانِ بِوُجُودِ الْإِقْرَارِ وَإِنْ فَاتَ التَّصْدِيقُ حَتَّى لَوْ أُكْرِهَ الْحَرْبِيُّ أَوْ الذِّمِّيُّ عَلَى الْإِيمَانِ فَإِنْ صَحَّ إيمَانُهُ بِنَاءً عَلَى وُجُودِ الْإِقْرَارِ مَعَ أَنَّ قِيَامَ السَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى عَدَمِ التَّصْدِيقِ كَمَا حَكَمْنَا بِبَقَاءِ الْإِيمَانِ بِنَاءً عَلَى بَقَاءِ التَّصْدِيقِ مَعَ فَوَاتِ الْإِقْرَارِ بِالْإِكْرَاهِ إعْلَاءً لِلْإِسْلَامِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الدُّنْيَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الظَّوَاهِرِ وَالْإِقْرَارُ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى مَا فِي الضَّمِيرِ وَالضَّمِيرُ أَمْرٌ بَاطِنٌ فَبُنِيَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَجُعِلَ هُوَ أَصْلًا فِيهِ وَفِي اعْتِبَارِ مُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ إعْلَاءُ الْإِسْلَامِ وَتَكْثِيرُ سَوَادِ الْمُسْلِمِينَ وَتَحْمِيلٌ لِلْكَافِرِ عَلَى الْإِيمَانِ الْحَقِيقِيِّ فَإِنَّهُ لَمَّا مُنِعَ عَنْ إظْهَارِ الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ رُبَّمَا يَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى الْإِيمَانِ بِطَرِيقِ الْإِخْلَاصِ كَمَا أَنَّ الْجِزْيَةَ وُضِعَتْ عَلَيْهِ لِتَحْمِلَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ إذَا عَايَنَ عِزَّةَ الْإِسْلَامِ وَمَذَلَّةَ الْكُفْرِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ يَثْبُتُ الْإِيمَانُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَعْرِفُ الْمُنَافِقِينَ بِالْوَحْيِ كَمَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ وَالْخَبَرُ ثُمَّ كَانَ يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا بِنَاءً عَلَى الْإِقْرَارِ الْمُجَرَّدِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا بِخِلَافِ الرِّدَّةِ حَيْثُ لَمْ يَثْبُتْ بِمُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ حَتَّى لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَيَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ بِلِسَانِهِ لَا يَصِيرُ مُرْتَدًّا؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ أَيْ الْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ فِي الرِّدَّةِ دَلِيلٌ مَحْضٌ عَلَى مَا فِي الضَّمِيرِ

وَالْأَصْلُ فِي فُرُوعِ الْإِيمَانِ هِيَ الصَّلَاةُ وَهِيَ عِمَادُ الدِّينِ شُرِعَتْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْبَدَنِ الَّذِي يَشْمَلُ ظَاهِرَ الْإِنْسَانِ وَبَاطِنَهُ إلَّا أَنَّهَا لَمَّا صَارَتْ أَصْلًا بِوَاسِطَةِ الْكَعْبَةِ كَانَتْ دُونَ الْإِيمَانِ الَّذِي صَارَ قُرْبَةً بِلَا وَاسِطَةٍ، ثُمَّ الزَّكَاةُ الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِأَحَدِ ضَرْبَيْ النِّعْمَةِ وَهُوَ الْمَالُ وَهِيَ دُونَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ نِعْمَةَ الْبَدَنِ أَصْلٌ وَنِعْمَةُ الْمَالِ فَرْعٌ وَالْأُولَى صَارَتْ قُرْبَةً هِيَ بِوَاسِطَةِ الْقِبْلَةِ الَّتِي هِيَ جَمَادٌ وَهَذِهِ صَارَتْ قُرْبَةً بِوَاسِطَةِ الْفَقِيرِ الَّذِي لَهُ ضَرْبُ اسْتِحْقَاقٍ فِي الصَّرْفِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ الِاعْتِقَادِ كَمَا هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّكَلُّمِ لَا رُكْنٌ فَإِنَّ الرُّكْنَ فِي الرِّدَّةِ تَبْدِيلُ الِاعْتِقَادِ لَا غَيْرُ وَهَذَا لَوْ اعْتَقَدَ الْكُفْرَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يُقِرَّ بِلِسَانِهِ يَكْفُرُ وَتَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَلَوْ جَعَلْنَا الْإِقْرَارَ فِي الرِّدَّةِ رُكْنًا لَكَانَ ذَلِكَ سَعْيًا مِنَّا فِي إثْبَاتِ الْكُفْرِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ كَمَا كَانَ جَعْلُ الْإِقْرَارِ فِي الْإِيمَانِ رُكْنًا سَعْيًا فِي إعْلَاءِ الْإِسْلَامِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ دَلِيلٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ كَانَ قِيَامُ السَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ دَلِيلًا مُعَارِضًا لَهُ فَلَمْ يُثْبِتْ الرِّدَّةَ. قَوْلُهُ (وَالْأَصْلُ فِي فُرُوعِ الْإِيمَانِ) الَّتِي هِيَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْعِبَادَاتِ الصَّلَاةُ وَهَذَا لَمْ تَخْلُ عَنْهَا شَرِيعَةٌ مِنْ شَرَائِعِ الْمُرْسَلِينَ وَهِيَ عِمَادُ الدِّينِ كَمَا وَقَعَتْ إلَيْهِ الْإِشَارَةُ النَّبَوِيَّةُ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الصَّلَاةُ عِمَادُ الدِّينِ مَنْ أَقَامَهَا فَقَدْ أَقَامَ الدِّينَ وَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ هَدَمَ الدِّينَ» شُرِعَتْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْبَدَنِ الَّذِي يَشْمَلُ ظَاهِرَ الْإِنْسَانِ وَبَاطِنَهُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ دَرَجَاتِ الشُّكْرِ أَنْ يَعْرِفَ النِّعْمَةَ، ثُمَّ لَا يَسْتَعْمِلَهَا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ فِي عِصْيَانِ النِّعَمِ، ثُمَّ يُظْهِرَهَا بِمَقَالِهِ وَأَفْعَالِهِ لِكَوْنِ كِتْمَانِهَا كُفْرَانًا لَهَا. ، ثُمَّ أَوَّلُ دَرَجَاتِ الشُّكْرِ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ بِالنِّعْمَةِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِكَوْنِ الشُّكْرِ مِنْ جِنْسِ النِّعَمِ وَنِعْمَةُ الْبَدَنِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى نِعَمٍ ظَاهِرَةٍ مِنْ الْأَعْضَاءِ السَّلِيمَةِ وَمَا يَحْصُلُ لَهُ بِهَا مِنْ التَّقَلُّبِ مِنْ حَالَةٍ إلَى حَالَةٍ مِنْ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالِانْحِنَاءِ وَعَلَى نِعَمٍ بَاطِنَةٍ مِنْ الْقُوَى النَّفْسَانِيَّةِ الْمُدْرِكَةِ لِلْمَعَانِي فَشُرِعَتْ الصَّلَاةُ شُكْرًا لِنِعَمِ ظَاهِرِ الْبَدَنِ وَبَاطِنِهِ فَأَرْكَانُ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ الصُّورَةِ لَهَا تَعَلُّقٌ بِظَاهِرِ الْبَدَنِ وَجُعِلَ أَفْضَلَ أَرْكَانِهَا طُولُ الْقُنُوتِ لِيُعْرَفَ مِمَّا يَلْحَقُهُ مِنْ الْمَشَقَّةِ قَدْرُ الرَّاحَةِ الَّتِي يَنَالُهَا بِالتَّقَلُّبِ عَلَى حَسَبِ الْإِرَادَةِ وَمُوَافَقَةِ مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ وَالنِّيَّةُ وَالْإِخْلَاصُ وَالْخُضُوعُ وَالْخُشُوعُ الَّتِي هِيَ رُوحُ الصَّلَاةِ وَمَعْنَاهَا تَتَعَلَّقُ بِالْبَاطِنِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا شُرِعَتْ بِطَرِيقِ الشُّكْرِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ فَقِيلَ لَهُ: إنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ: أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» أَخْبَرَ أَنَّهُ يُصَلِّي لِلَّهِ تَعَالَى شُكْرًا عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهَا أَيْ، لَكِنَّهَا كَذَا وَتَقْرِيرُهُ مَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الصَّلَاةَ صَارَتْ قُرْبَةً بِوَاسِطَةِ الْبَيْتِ الَّذِي عَظَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأُمِرْنَا بِتَعْظِيمِهِ لِإِضَافَتِهِ إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} [البقرة: 125] الْآيَةَ حَتَّى لَا تَتَأَدَّى هَذِهِ الْقُرْبَةُ إلَّا بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي حَالَةِ الْإِمْكَانِ وَفِي ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى التَّعْظِيمِ مَا أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] لِيَعْلَمَ بِهِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَوَجْهُ اللَّهِ لَا جِهَةَ لَهُ فَجَعَلَ الشَّرْعُ اسْتِقْبَالَ جِهَةِ الْكَعْبَةِ فَإِنَّمَا مَقَامُ مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ لِأَدَاءِ هَذِهِ الْقُرْبَةِ وَأَصْلُ الْإِيمَانِ فِيهِ تَقَرُّبٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِلَا وَاسِطَةٍ وَفِي الصَّلَاةِ تَقَرُّبٌ بِوَاسِطَةِ الْبَيْتِ فَكَانَتْ مِنْ شَرَائِعِ الْإِيمَانِ لَا مِنْ نَفْسِ الْإِيمَانِ. قَوْلُهُ (ثُمَّ الزَّكَاةُ) أَيْ بَعْدَ الصَّلَاةِ فِي الرُّتْبَةِ الزَّكَاةُ الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِأَحَدِ ضَرْبَيْ النِّعْمَةِ وَهُوَ الْمَالُ فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ مَشْرُوعَةٌ لِإِظْهَارِ شُكْرِ النِّعْمَةِ بِهَا فِي الدِّينَا وَنَيْلِ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ فَكَمَا أَنَّ شُكْرَ نِعْمَةِ الْبَدَنِ بِعِبَادَةٍ تُؤَدَّى بِجَمِيعِ الْبَدَنِ وَهِيَ الصَّلَاةُ فَشُكْرُ نِعْمَةِ الْمَالِ بِعِبَادَةٍ مُؤَدَّاةٍ بِجِنْسِ تِلْكَ النِّعْمَةِ لِيَعْرِفَ بِزَوَالِ الْمَحْبُوبِ مِنْ الْمَالِ الْمَرْغُوبِ فِي اقْتِنَائِهِ إلَى مَنْ لَا يَصِلُ إلَيْهِ مِنْهُ نَفْعٌ وَبِمَا يَلْحَقُ طَبِيعَةٌ مِنْ الْمَشَقَّةِ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ بَعْضُ الْأَجْوَادِ إنَّا نَجِدُ فِي بَذْلِ الْمَالِ مَا يَجِدُهُ الْبُخَلَاءُ، وَلَكِنَّا نَتَصَبَّرُ وَلِهَذَا كَانَ الْجُودُ قَرِينَ الشُّجَاعَةِ وَقَلَّمَا يَفْتَرِقَانِ لِتَوَلُّدِهِمَا مِنْ قُوَّةِ الْقَلْبِ قَدْرَ مَا أَزَالَ إلَيْهِ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ وَأَتَى مِنْ الْبَسِيطَةِ فِي فَنُونِهَا إلَّا أَنَّ الزَّكَاةَ دُونَ الصَّلَاةِ فِي الرُّتْبَةِ؛ لِأَنَّ نِعْمَةَ الْبَدَنِ أَصْلٌ.

ثُمَّ الصَّوْمُ قُرْبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِنِعْمَةِ الْبَدَنِ مُلْحَقَةٌ بِالْأَصْلِ كَأَنَّهَا وَسِيلَةٌ إلَى الْأَصْلِ وَهُوَ لَا يَصِيرُ قُرْبَةً إلَّا بِوَاسِطَةِ النَّفْسِ وَهِيَ دُونَ الْوَاسِطَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ حَتَّى صَارَتْ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQوَنِعْمَةُ الْمَالِ فَرْعٌ؛ لِأَنَّ الْمَالَ وِقَايَةُ النَّفْسِ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ بِدُونِهَا وَيُنْتَفَعُ بِالنَّفْسِ بِدُونِ الْمَالِ فَكَانَ الْمُتَعَلِّقُ بِالنِّعْمَةِ الَّتِي هِيَ أَصْلٌ أَعْلَى رُتْبَةً مِمَّا تَعَلَّقَ بِالنِّعْمَةِ الَّتِي هِيَ فَرْعٌ وَقَوْلُهُ وَالْأَوْلَى صَارَتْ قُرْبَةً دَلِيلٌ آخَرُ أَيْ وَلِأَنَّ الْأُولَى صَارَتْ قُرْبَةً بِوَاسِطَةِ الْقِبْلَةِ الَّتِي هِيَ جَمَادٌ لَا اسْتِحْقَاقَ لَهَا فِي التَّوَجُّهِ إلَيْهَا بِوَجْهٍ وَقَدْ يَسْقُطُ التَّوَجُّهُ إلَيْهَا عِنْدَ خَوْفِ الْعَدُوِّ وَالسَّبُعِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الدَّابَّةِ. وَهَذِهِ أَيْ الزَّكَاةُ صَارَتْ قُرْبَةً بِوَاسِطَةِ الْفَقِيرِ الَّذِي لَهُ ضَرْبُ اسْتِحْقَاقٍ فِي الصَّرْفِ إلَيْهِ فَإِنَّ الْمُؤَدِّيَ يَجْعَلُ الْمَالَ الْمُؤَدَّى خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي ضِمْنِ صَرْفِهِ إلَى الْمُحْتَاجِ لِيَكُونَ كِفَايَةً لَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَتْ الزَّكَاةُ دُونَ الصَّلَاةِ بِدَرَجَةٍ؛ لِأَنَّ الْخُلُوصَ فِي الْأُولَى أَزْيَدُ مِنْهُ فِي الثَّانِيَةِ فَكَانَ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهَا أَكْمَلَ؛ لِأَنَّهَا بِهِ صَارَتْ عِبَادَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وَفِي قَوْلِهِ ضَرْبُ اسْتِحْقَاقٍ فِي الصَّرْفِ إشَارَةٌ إلَى نَفْيِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّ عِنْدَهُ لِلْفَقِيرِ حَقِيقَةَ اسْتِحْقَاقِ الْمَالِ حَتَّى صَارَ الْمَالُ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَقِيرِ وَلِهَذَا كَانَ لِلْفَقِيرِ عِنْدَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِقْدَارَ الزَّكَاةِ مِنْ الْمَالِ إذَا ظَفِرَ بِهِ فَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَحِقٍّ لَهُ حَقِيقَةً وَلَكِنْ لَهُ صَلَاحِيَّةُ أَنْ يَصْرِفَ إلَيْهِ وَيَسْتَحِقَّ هَذَا الْقَدْرَ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إذَا أَرَادَ الْأَدَاءَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى الْفَقِيرِ دَفْعًا لِحَاجَتِهِ وَلَا يُقَالُ لِمَا وَجَبَ الصَّرْفُ إلَيْهِ لِفَقْرِهِ كَانَ الْمَالُ حَقَّهُ فَيَكُونُ هُوَ مُسْتَحِقًّا لَهُ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّا نَقُولُ مَا يَجِبُ لِفَقْرِهِ يَجِبُ رِزْقًا لَهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الضَّامِنُ لِلرِّزْقِ دُونَ الْعَبِيدِ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِصَرْفِ هَذَا الْوَاجِبِ إلَيْهِ فَلَا يَصِيرُ الْمَالُ حَقَّهُ قَبْلَ الصَّرْفِ إلَيْهِ وَلَا يَخْرُجُ الزَّكَاةُ بِهِ عَنْ كَوْنِهَا عِبَادَةً خَالِصَةً قَوْلُهُ (ثُمَّ الصَّوْمُ قُرْبَةٌ) يَعْنِي بَعْدَ هَاتَيْنِ الْعِبَادَتَيْنِ فِي الرُّتْبَةِ الصَّوْمُ فَإِنَّهُ قُرْبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْبَدَنِ كَالصَّلَاةِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالصَّلَاةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بَدَنِيٌّ خَالِصٌ، لَكِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ بِطَرِيقِ الرِّيَاضَةِ لِلرُّكُوبِ لَا مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ وَلَا يَشْتَمِلُ أَيْضًا عَلَى أَفْعَالٍ مُتَفَرِّقَةٍ عَلَى أَعْضَاءِ الْبَدَنِ بَلْ يَتَأَدَّى بِرُكْنٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْكَفُّ عَنْ اقْتِضَاءِ الشَّهْوَتَيْنِ فَكَانَ دُونَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَرْكَانٍ تَتَأَدَّى بِجَمِيعِ الْبَدَنِ. وَدُونَ الزَّكَاةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ قُرْبَةً إلَّا بِوَاسِطَةِ النَّفْسِ وَهِيَ دُونَ الْوَاسِطَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ يَعْنِي فِي الْمَنْزِلَةِ لَا فِي كَوْنِهَا وَاسِطَةً فَإِنَّ الْبَيْتَ مُعَظَّمٌ بِتَعْظِيمِ صَاحِبِ الشَّرْعِ إيَّاهُ وَالْفَقِيرُ مُسْتَحِقٌّ لِلصَّرْفِ إلَيْهِ بِفَقْرِهِ وَلَا قُبْحَ فِي صِفَةِ الْفَقْرِ، لَكِنَّ النَّفْسَ تَسْتَحِقُّ الْقَهْرَ لِمَيْلِهَا إلَى الشَّهَوَاتِ وَمُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ وَكَوْنِهَا أَمَّارَةً بِالسُّوءِ وَهَذِهِ صِفَةُ قُبْحٍ فَيَكُونُ هَذِهِ الْوَاسِطَةُ دُونَ الْأُولَيَيْنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَكَانَتْ أَقْوَى فِي كَوْنِهَا وَاسِطَةً وَأَقْرَبَ إلَى كَوْنِهَا مَقْصُودَةً وَلِهَذَا صَارَتْ هَذِهِ الْقُرْبَةُ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ؛ لِأَنَّهُ قَهْرُ عَدُوِّ اللَّهِ وَعَدُوِّهِ الْبَاطِنِ كَمَا أَنَّ الْجِهَادَ قَهْرُ عَدُوِّ اللَّهِ وَعَدُوِّهِ الظَّاهِرِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَعْدَى عَدُوِّك نَفْسُك الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْك» . وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَفْضَلُ الْجِهَادِ أَنْ تُجَاهِدَ نَفْسَك وَهَوَاك» وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ وَهِيَ دُونَ الْوَاسِطَتَيْنِ أَنَّهَا دُونَهُمَا فِي كَوْنِهَا وَاسِطَةً؛ لِأَنَّ الْوَاسِطَةَ هَاهُنَا ذَاتُ الْفَاعِلِ وَفِي الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ الْوَاسِطَةُ غَيْرُهُمَا وَخَارِجَةٌ عَنْ ذَاتِهِمَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ ذَاتُهُ وَاسِطَةً؛ لِأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْإِيمَانِ أَيْضًا إذْ الْإِيمَانُ لَا يُوجَدُ بِدُونِ الذَّاتِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ هَذِهِ الْوَاسِطَةُ دُونَ الْأُولَيَيْنِ لِكَوْنِهَا فِي حُكْمِ الْعَدَمِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ أَعْلَى رُتْبَةً مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةُ مِثْلُ الْإِيمَانِ، لَكِنَّ الصَّوْمَ شُرِعَ وَسِيلَةً إلَى الصَّلَاةِ كَمَا بَيَّنَّا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ التَّبَعِ لَهَا فَكَانَ دُونَهَا وَكَذَا الزَّكَاةُ أَصْلٌ بِنَفْسِهَا لَيْسَتْ بِتَبَعٍ.

ثُمَّ الْحَجُّ عِبَادَةُ هِجْرَةٍ وَسَفَرٍ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِأَفْعَالٍ تَقُومُ بِبِقَاعٍ مُعَظَّمَةٍ فَكَانَتْ دُونَ الصَّوْمِ كَأَنَّهَا وَسِيلَةٌ إلَيْهِ وَالْعُمْرَةُ سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ تَابِعَةٌ لِلْحَجِّ، ثُمَّ الْجِهَادُ شُرِعَ لِإِعْلَاءِ الدِّينِ فَرْضٌ فِي الْأَصْلِ لَكِنَّ الْوَاسِطَةَ هَا هُنَا هِيَ الْمَقْصُودَةُ فَصَارَتْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاسِطَةَ كُفْرُ الْكَافِرِ وَذَلِكَ جِنَايَةٌ قَائِمَةٌ بِالْكَافِرِ مَقْصُودَةٌ بِالرَّدِّ وَالْمَحْوِ وَالِاعْتِكَافُ شُرِعَ لِإِدَامَةِ الصَّلَاةِ عَلَى مِقْدَارِ الْإِمْكَانِ فَكَانَ مِنْ التَّوَابِعِ وَلِذَلِكَ اُخْتُصَّ بِالْمَسَاجِدِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQلِشَيْءٍ فَكَانَتْ فَوْقَ الصَّوْمِ فِي الرُّتْبَةِ، وَلَكِنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ أَوْجَهُ وَأَوْفَقُ لِسِيَاقِ الْكَلَامِ قَوْلُهُ (ثُمَّ الْحَجُّ عِبَادَةُ هِجْرَةٍ) أَيْ عَنْ الْأَوْلَادِ وَالْأَوْطَانِ وَالْأَقْرَانِ وَالْإِخْوَانِ وَسَفَرٌ إلَى زِيَارَةِ بَيْتِ الرَّحْمَنِ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِأَفْعَالٍ تَقُومُ أَيْ تَخْتَصُّ بِبِقَاعٍ أَوْ تَقَعُ فِي بِقَاعٍ مُعَظَّمَةٍ وَأَوْقَاتٍ شَرِيفَةٍ مِنْ الطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ وَالسَّعْيِ وَالرَّمْيِ وَغَيْرِهَا فَكَانَ الْحَجُّ دُونَ الصَّوْمِ فِي الرُّتْبَةِ كَأَنَّهَا أَيْ كَأَنَّ عِبَادَةَ الْحَجِّ وَسِيلَةٌ إلَى الصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا هَجَرَ الْأَوْطَانَ وَجَانَبَ الْأَهْلَ وَالْأَوْلَادَ وَانْقَطَعَ عَنْهُ مَوَادُّ الشَّهَوَاتِ فِي الْبَوَادِي وَانْسَدَّ عَلَيْهِ طَرِيقُ الْوُصُولِ إلَيْهَا فِي الْفَيَافِي ضَعَّفَ نَفْسَهُ وَزَالَ عَنْهَا الْجَمُوحَةَ وَقَدَرَ عَلَى قَهْرِهَا بِالصَّوْمِ فَكَانَ الْحَجُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَسِيلَةِ إلَى الصَّوْمِ فَكَانَ دُونَهُ (فَإِنْ قِيلَ) الْوَسَائِطُ فِي الْحَجُّ جَمَادَاتٌ لَيْسَتْ لَهَا صَلَاحِيَّةُ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْوَاسِطَةُ فِي الصَّوْمِ مُسْتَحَقَّةٌ لِلْقَهْرِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ فَوْقَ الصَّوْمِ وَمِثْلَ الصَّلَاةِ قُلْنَا: الْوَسَائِطُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَالِحَةً لِلِاسْتِحْقَاقِ، لَكِنَّ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ مَعْنَى التَّعْظِيمِ لِتِلْكَ الْبِقَاعِ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الصَّلَاةِ لِلْكَعْبَةِ إذْ التَّوَجُّهُ إلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ لَيْسَ لِتَعْظِيمِهَا وَكَذَا مَعْنَى قَهْرِ النَّفْسِ الَّذِي فِي الصَّوْمِ مَوْجُودٌ فِي الْحَجِّ مَعَ هَذِهِ الْوَسَائِطِ فَلِذَلِكَ كَانَ دُونَ الصَّوْمِ وَالْعُمْرَةُ سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ أَيْ قُرْبَةٌ مُؤَكَّدَةٌ فَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَرَ بِهَا تَابِعَةٌ لِلْحَجِّ كَسُنَنِ الصَّلَاةِ لِلصَّلَاةِ وَلَيْسَتْ بِفَرِيضَةٍ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ أَفْعَالَهَا مِنْ جِنْسِ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَمَا بَيَّنَّا مِنْ الْوَسِيلَةِ لَا يُوجِبُ عَدَدًا مِنْ الْقُرْبَةِ وَلِهَذَا لَا يَتَكَرَّرُ فَرْضِيَّةُ الْحَجِّ فِي الْعُمْرِ فَعَرَفْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِفَرِيضَةٍ، ثُمَّ الْجِهَادُ يَعْنِي بَعْدَ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ فِي الرُّتْبَةِ الْجِهَادُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ. فَرْضٌ فِي الْأَصْلِ أَيْ أَصْلُهُ فَرْضٌ عَلَى الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ إعْلَاءَ الدِّينِ فَرْضٌ عَلَى الْكُلِّ، لَكِنَّ الْوَاسِطَةَ هَاهُنَا وَهِيَ كَسْرُ شَوْكَةِ الْمُشْرِكِينَ وَدَفْعُ شَرِّهِمْ هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالرَّدِّ وَالْإِعْدَامِ؛ لِأَنَّ شَرْعِيَّةَ الْجِهَادِ لِإِزَالَةِ الْكُفْرِ وَإِعْدَامِهِ فَصَارَتْ هَذِهِ الْعِبَادَةُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ بِمَنْزِلَةِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَحْصُلْ كَمَا فِي التَّغَيُّرِ الْعَامِّ يَجِبُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَذَلِكَ أَيْ الْكُفْرُ جِنَايَةٌ قَائِمَةٌ بِالْكَافِرِ ثَابِتَةٌ بِاخْتِيَارِهِ فَكَانَ أَمْرًا عَارِضًا فِيهِ فَالْجِهَادُ الَّذِي شُرِعَ لِأَجْلِهِ لَمْ يَكُنْ عِبَادَةً أَصْلِيَّةً بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ فَإِنَّ الْوَسَائِطَ فِيهَا أَصْلِيَّةٌ ثَابِتَةٌ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا اخْتِيَارَ لِلْعَبْدِ فِيهَا فَكَانَتْ تِلْكَ الْعِبَادَاتُ أَصْلِيَّةً وَالِاعْتِكَافُ أَخَّرَ الِاعْتِكَافَ عَنْ الْجِهَادِ؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ مِنْ الْفُرُوضِ وَالِاعْتِكَافُ مِنْ السُّنَنِ وَهُوَ مَشْرُوعٌ لِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ عَلَى مِقْدَارِ الْإِمْكَانِ إذْ الْعَزِيمَةُ هِيَ الِاشْتِغَالُ بِالْعِبَادَةِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ لِتَوَاتُرِ النِّعَمِ عَلَى الْعَبْدِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَفَضَّلَ عَلَى عِبَادِهِ بِإِسْقَاطِهَا عَنْهُ فِي عَامَّةِ الْأَوْقَاتِ وَرَضِيَ بِأَدَائِهَا فِي أَزْمِنَةٍ قَلِيلَةٍ بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ فَكَانَ الِاعْتِكَافُ أَخْذًا بِالْعَزِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ إدَامَةُ الصَّلَاةِ إمَّا بِالِاشْتِغَالِ بِحَقِيقَةِ الْأَدَاءِ وَبِالِانْتِظَارِ لِلصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ لَهُ حُكْمَ الصَّلَاةِ وَلِذَلِكَ صَحَّ النَّذْرُ بِالِاعْتِكَافِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الشَّرْعِ وَاجِبٌ مِنْ جِنْسهِ؛ لِأَنَّهُ نَذْرٌ بِالصَّلَاةِ مَعْنًى وَالتَّابِعُ لِلشَّيْءِ لَهُ حُكْمُ الْأَصْلِ وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إدَامَةُ الصَّلَاةِ اُخْتُصَّ الِاعْتِكَافُ بِالْمَسَاجِدِ الَّتِي هِيَ أَمْكِنَةُ الصَّلَاةِ وَالْمُعَدَّةُ لَهَا. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الِاعْتِكَافُ قُرْبَةٌ زَائِدَةٌ يَعْنِي عَلَى الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ لِمَا فِيهَا مِنْ تَعْظِيمِ الْمَكَانِ الْمُعَظَّمِ بِالْمُقَامِ فِيهِ وَهُوَ الْمَسْجِدُ

وَالْعِبَادَةُ الَّتِي فِيهَا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ فَلَمْ تَكُنْ خَالِصَةً حَتَّى لَمْ يُشْتَرَطْ لَهَا كَمَالُ الْأَهْلِيَّةِ. وَالْمُؤْنَةُ الَّتِي فِيهَا مَعْنَى الْقُرْبَةِ هِيَ الْعُشْرُ حَتَّى لَا يُبْتَدَأَ عَلَى الْكَافِرِ وَأَجَازَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَقَاءَهُ عَلَى الْكَافِرِ وَالْخَرَاجُ مُؤْنَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ الِاشْتِغَالُ بِالزِّرَاعَةِ وَهِيَ الذُّلُّ فِي الشَّرِيعَةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شُرِعَ مُؤْنَةً لِحِفْظِ الْأَرْضِ وَإِنْزَالِهَا وَلِذَلِكَ لَا يُبْتَدَأُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَجَازَ الْبَقَاءُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا لِمَا تَرَدَّدَ لَا يَجِبُ بِالشَّكِّ وَلَمْ يَبْطُلْ بِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَلِمَا فِي شَرْطِهَا مِنْ مَنْعِ النَّفْسِ عَنْ اقْتِضَاءِ الشَّهْوَتَيْنِ وَهُوَ الصَّوْمُ وَالْمَقْصُودُ بِهَا تَكْثِيرُ الصَّلَوَاتِ إمَّا حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا بِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ فِي مَكَانِهَا عَلَى صِفَةِ الِاسْتِعْدَادِ بِالطَّهَارَةِ. قَوْلُهُ (وَالْعِبَادَةُ الَّتِي فِيهَا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ) الْمَئُونَةُ الثِّقَلُ فَعُولَةٌ مِنْ مَأَنْت الْقَوْمَ أَمْأَنُهُمْ إذَا احْتَمَلْت مَئُونَتَهُمْ وَقِيلَ: الْعُدَّةُ مِنْ قَوْلِهِمْ أَتَانِي فُلَانٌ وَمَا مَأَنْتُ لَهُ مَأْنًا إذَا لَمْ يَسْتَعِدَّ لَهُ وَقِيلَ: إنَّهَا مِنْ مِنْت الرَّجُلَ أَمُونُهُ وَالْهَمْزَةُ فِيهَا كَهِيَ فِي أَدْؤُرٍ وَقِيلَ: هِيَ مُفْعَلَةٌ مِنْ الْأَوْنِ وَهُوَ الْخَرْجُ وَالْعَدْلُ؛ لِأَنَّهُ ثِقَلٌ عَلَى الْإِنْسَانِ أَوْ مِنْ الْأَيْنِ وَهُوَ التَّعَبُ وَالشِّدَّةُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ وَالصِّحَاحِ. وَهَذَا الْوَاجِبُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْمَئُونَةِ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَتَهُ فِي الشَّرْعِ صَدَقَةٌ وَكَوْنُهُ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ عَنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَاعْتِبَارُ صِفَةِ الْغِنَاءِ فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ وَاشْتِرَاطُ النِّيَّةِ فِي أَدَائِهِ حَتَّى لَا يَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ بِحَالٍ وَعَدَمُ صِحَّةِ أَدَائِهِ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ حَتَّى لَوْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ نَفْسِهِ لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ زَكَّى مَالَهُ وَتَعَلَّقَ وُجُوبُهُ بِالْوَقْتِ وَوُجُوبُ صَرْفِهِ إلَى مَصَارِفِ الصَّدَقَاتِ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ عِبَادَةً. وَوُجُوبُهُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِسَبَبِ رَأْسِ الْغَيْرِ وَكَوْنُ الرَّأْسِ فِيهِ سَبَبًا يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْمَئُونَةِ كَالنَّفَقَةِ وَإِلَى مَعْنَى الْمَئُونَةِ أَشَارَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي قَوْلِهِ «أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُونِ» إلَّا أَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ لَمَّا كَانَ رَاجِحًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعَانِي قُلْنَا هَذَا الْوَاجِبُ عِبَادَةٌ فِيهِ مَعْنَى الْمَئُونَةِ وَلَمَّا قَصَرَ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ عِبَادَةً خَالِصَةً لَمْ يُشْتَرَطْ لَهُ كَمَالُ الْأَهْلِيَّةِ كَمَا شُرِطَ لِلْعِبَادَاتِ الْخَالِصَةِ حَتَّى وَجَبَ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ الْغَنِيَّيْنِ فِي مَالِهِمَا كَنَفَقَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَإِنَّ عِنْدَهُمَا تَجِبُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِأَنْفُسِهِمَا وَرَقِيقُهُمَا يَتَوَلَّى أَدَاءَ ذَلِكَ عَنْ مَالِهِمَا الْأَبُ أَوْ وَصِيُّ الْأَبِ أَوْ الْجَدُّ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا أَبٌ وَلَا وَصِيُّ أَبٍ أَوْ وَصِيُّ الْجَدِّ بَعْدَ الْجَدِّ أَوْ وَصِيٌّ نَصَّبَهُ الْقَاضِي لَهُمَا وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا تَجِبُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَلَيْهِمَا فِي مَالِهِمَا فَإِنْ كَانَ الْأَبُ غَنِيًّا يَجِبُ عَلَيْهِ وَلَوْ أَدَّاهَا مِنْ مَالِهِمَا ضَمِنَ وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْأَبِ بِسَبَبِ رَأْسِ الْوَلَدِ كَمَا يَجِبُ بِسَبَبِ رَأْسِ الْعَبْدِ الْكَافِرِ فَإِذَا أَدَّى مَا عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ ضَمِنَ كَمَا إذَا أَدَّى صَدَقَةً وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ عِنْدَهُ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ أَوْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهَا رَاجِحٌ فَلَا تَجِبُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ لِسُقُوطِ الْخِطَابِ عَنْهُمَا وَعَلَيْهِ يُبْنَى الْوُجُوبُ وَاسْتَحْسَنَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَقَالَا: فِي هَذِهِ الصَّدَقَةِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَمَعْنَى الْمَئُونَةِ كَمَا بَيَّنَّا فَبِاعْتِبَارِ مَعْنَى الصَّدَقَةِ لَمْ تَجِبْ مَعَ الْفَقْرِ كَالزَّكَاةِ وَبِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْمَئُونَةِ صَحَّ الْإِيجَابُ عَلَى الصَّغِيرِ كَالْعُشْرِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَعْنَى الصَّدَقَةِ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْأَسْرَارِ وَكَلَامُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَوْضَحُ. قَوْلُهُ (وَالْمَئُونَةُ الَّتِي فِيهَا مَعْنَى الْقُرْبَةِ هِيَ الْعُشْرُ) . لِأَنَّ سَبَبَهُ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ فَبِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهِ بِالْأَرْضِ هُوَ مَئُونَةٌ؛ لِأَنَّ مَئُونَةَ الشَّيْءِ سَبَبُ بَقَائِهِ وَالْعُشْرُ سَبَبُ بَقَاءِ الْأَرْضِ وَبِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهِ بِالنَّمَاءِ وَهُوَ الْخَارِجُ كَتَعَلُّقِ الزَّكَاةِ بِهِ أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَصْرِفَهُ الْفُقَرَاءُ كَمَصْرِفِ الزَّكَاةِ تَحَقَّقَ فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَأَخَذَ شَبَهًا بِالزَّكَاةِ إلَّا أَنَّ الْأَرْضَ أَصْلٌ وَالنَّمَاءُ وَصْفٌ تَابِعٌ وَكَذَا الْمَحَلُّ شَرْطٌ وَالشَّرْطُ تَابِعٌ فَكَانَ مَعْنَى الْمَئُونَةِ فِيهِ أَصْلًا وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ تَبَعًا حَتَّى لَا يُبْتَدَأَ عَلَى الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ وَإِنْ كَانَ تَابِعًا، لَكِنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْقُرْبَةِ بِوَجْهٍ وَأَجَازَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَقَاءَهُ عَلَى الْكَافِرِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْمَئُونَةِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ وَالْخَرَاجُ

وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْعُشْرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَنْقَلِبُ خَرَاجِيًّا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَجِبُ تَضْعِيفُهُ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ يُنَافِي صِفَةَ الْقُرْبَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَبْقَى الْعُشْرُ؛ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ مِنْ وَجْهٍ فَلِهَذَا يَبْقَى الْخَرَاجُ وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَتَانِ فِي صَرْفِ الْعُشْرِ الْبَاقِي عَلَى الْكَافِرِ كَأَنَّهُ جَعَلَهُ خَرَاجِيًّا فِي رِوَايَةٍ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ إلَّا بِشَرْطِ التَّضْعِيفِ لَكِنَّ التَّضْعِيفَ ضَرُورِيٌّ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ مَعَ إمْكَانِ الْأَصْلِ وَهُوَ الْخَرَاجُ فَصَارَ الصَّحِيحُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ـــــــــــــــــــــــــــــQمَئُونَةٌ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ بَقَاءِ الْأَرْضِ كَالْعُشْرِ فِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ أَيْ سَبَبَ شَرْعِيَّتِهِ فِي الْأَصْلِ أَوْ سَبَبُ وَضْعِهِ عَلَى الْأَرْضِ لَا سَبَبُ وُجُوبِهِ فَإِنَّهُ هُوَ الْأَرْضُ عَلَى مَا مَرَّ الِاشْتِغَالُ بِالزِّرَاعَةِ فَإِنَّ الْإِمَامَ إذَا فَتَحَ بَلْدَةً عَنْوَةً وَأَقَرَّ أَهْلَهَا فَلَمْ يُسَلِّمُوا وَاشْتَغَلُوا بِالزِّرَاعَةِ وَضَعَ عَلَى جَمَاجِمِهِمْ الْجِزْيَةَ وَعَلَى أُرَاضِيهِمْ الْخَرَاجَ فَكَانَ سَبَبُ وَضْعِهِ الِاشْتِغَالَ بِالزِّرَاعَةِ وَهُوَ سَبَبُ الذُّلِّ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى مَا «قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حِينَ رَأَى آلَةَ الزِّرَاعَةِ فِي دَارِ قَوْمٍ مَا دَخَلَ هَذَا دَارَ قَوْمٍ إلَّا ذُلُّوا» وَذَلِكَ لِمَا فِي الِاشْتِغَالِ بِالزِّرَاعَةِ عِمَارَةُ الدُّنْيَا وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْجِهَادِ وَهُمَا مِنْ عَادَةِ الْكُفَّارِ فَكَانَ وُجُوبُ الْخَرَاجِ بِاعْتِبَارِ الْأَرْضِ مَئُونَةً وَبِاعْتِبَارِ الِاشْتِغَالِ بِالزِّرَاعَةِ عُقُوبَةً. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ شُرِعَ مَئُونَةً لِحِفْظِ الْأَرْضِ وَإِنْزَالِهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ مُشْبَعًا فِي بَابِ بَيَانِ أَسْبَابِ الشَّرَائِعِ إلَّا أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ جَعَلَ فِي الْعُشْرِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ كَرَامَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَجَعَلَ فِي الْخَرَاجِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ إهَانَةً لِلْكَافِرِينَ وَإِنْزَالُ الْأَرْضِ رِيعَهَا وَمَا يَحْصُلُ مِنْهَا جَمْعٌ نَزَلَ وَهُوَ الزِّيَادَةُ وَالْفَضْلُ وَذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ أَنَّ الْخَرَاجَ فِي الْأَرَاضِي أَصْلٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، لَكِنَّ الشَّرْعَ نَقَلَ عَنْهُ إلَى الْعُشْرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ وَأَوْجَبَ الصَّرْفَ إلَى مَصَارِفِ الزَّكَاةِ لِيَصِيرَ بِهِ نَوْعَ عِبَادَةٍ تَكْرِمَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِكَوْنِ الْخَرَاجِ مُتَضَمِّنًا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَالذُّلِّ لَا يُبْتَدَأُ الْخَرَاجُ عَلَى الْمُسْلِمِ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ طَوْعًا أَوْ قُسِّمَتْ الْأَرَاضِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُوضَعْ الْخَرَاجُ عَلَى أَرَاضِيهمْ وَجَازَ الْبَقَاءُ أَيْ بَقَاءُ الْخَرَاجِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَتَّى لَوْ اشْتَرَى مِنْ كَافِرٍ أَرْضَ خَرَاجٍ أَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَلَهُ أَرْضُ خَرَاجٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْخَرَاجُ دُونَ الْعُشْرِ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ لَمَّا تَرَدَّدَ بَيْنَ الْمَئُونَةِ وَالْعُقُوبَةِ لَمْ يَجِبْ بِالشَّكِّ أَيْ لَمْ يُمْكِنُ إيجَابُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ ابْتِدَاءً بِمَعْنَى الْمَئُونَةِ لِمُعَارَضَةِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ إيَّاهُ وَلَمْ يَبْطُلْ بِهِ يَعْنِي لَا يَسْقُطُ بَعْدَ الْوُجُوبُ بِالشَّكِّ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ سَقَطَ لَسَقَطَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَقَدْ عَارَضَهُ مَعْنَى الْمَئُونَةِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْبَقَاءَ فَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ. وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْعُشْرِ أَيْ وَكَمَا قَالُوا جَمِيعًا فِي الْخَرَاجِ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْعُشْرِ يَعْنِي لَا يُبْتَدَأُ الْعُشْرُ عَلَى الْكَافِرِ وَلَكِنْ يَجُوزُ الْبَقَاءُ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ مَلَكَ الذِّمِّيُّ أَرْضًا عُشْرِيَّةً تَبْقَى عُشْرِيَّةً كَمَا كَانَتْ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ يَجِبُ مَئُونَةً لِلْأَرْضِ النَّامِيَةِ كَالْخَرَاجِ فَيَكُونُ الْكَافِرُ أَهْلًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ تَحَمُّلِ الْمُؤَنِ إلَّا أَنَّ فِي أَدَاءِ الْعُشْرِ لِلْمُؤْمِنِ قُرْبَةً وَثَوَابًا؛ لِأَنَّهُ يُصْرَفُ إلَى مَصَارِفِ الزَّكَاةِ وَيُقْضَى بِهِ رِزْقُ عَبِيدِ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلُ مَا يَكُونُ فِي نَفَقَةِ الْأَبَوَيْنِ وَالْأَوْلَادِ وَإِذَا كَانَ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي الْأَدَاءِ تَابِعًا أَمْكَنَ الْإِيجَابُ عَلَى الْكَافِرِ بِلَا تَضْمِينِ قُرْبَةٍ فِي أَدَائِهَا كَمَا فِي النَّفَقَاتِ وَلِأَنَّا نُوجِبُ الْعُشْرَ وَنَصْرِفُهُ إلَى مَصَارِفِ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجُ كَصَدَقَاتِ بَنِي ثَعْلَبٍ وَهَذَا بِخِلَافِ ابْتِدَاءِ إيجَابِ الْعُشْرِ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ مَانِعٌ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرْبِ كَرَامَةٍ مَعَ إمْكَانِ وَضْعِ الْخَرَاجِ كَمَا أَنَّ الْإِسْلَامَ مَانِعٌ مِنْ وَضْعِ الْخَرَاجِ مَعَ إمْكَانِ وَضْعِ الْعُشْرِ فَأَمَّا بَعْدَمَا صَارَتْ عُشْرِيَّةً فَيَسْتَقِيمُ إيجَابُهُ عَلَى الْكَافِرِ فَلَا تَصِيرُ خَرَاجِيَّةً بِكُفْرِهِ كَالْخَرَاجِيَّةِ لَا تَصِيرُ عُشْرِيَّةً بِإِسْلَامِ الْمَالِكِ وَحَاصِلُ مَذْهَبِهِ أَنَّ مَا صَارَ وَظِيفَةً لِلْأَرْضِ لَا تَتَغَيَّرُ بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَجِبُ تَضْعِيفُهُ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ الْمُسْلِمِ يَجِبُ تَضْعِيفُهُ إذَا وَجَبَ أَخْذُهُ مِنْ الْكَافِرِ كَصَدَقَاتِ بَنِي ثَعْلَبٍ وَمَا يَمُرُّ بِهِ الذِّمِّيُّ عَلَى الْعَاشِرِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَنْقَلِبُ خَرَاجًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ لَا يُمْكِنُ إلْغَاؤُهُ مِنْ الْعُشْرِ؛ لِأَنَّ.

وَأَمَّا الْحَقُّ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ فَخُمُسُ الْمَغَانِمِ وَالْمَعَادِنِ حَقٌّ وَجَبَ لِلَّهِ تَعَالَى ثَابِتًا بِنَفْسِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ حَقُّهُ فَصَارَ الْمُصَابُ بِهِ لَهُ كُلُّهُ لَكِنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ لِلْغَانِمَيْنِ مِنَّةً مِنْهُ فَلَمْ يَكُنْ حَقًّا لَزِمَنَا أَدَاؤُهُ طَاعَةً لَهُ بَلْ هُوَ حَقٌّ اسْتَبَقَاهُ لِنَفْسِهِ فَتَوَلَّى السُّلْطَانُ أَخْذَهُ وَقِسْمَتَهُ وَلِهَذَا جَوَّزْنَا صَرْفَ الْخُمُسِ إلَى مَنْ اسْتَحَقَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ بِخِلَافِ الطَّاعَاتِ مِثْلِ الزَّكَوَاتِ وَالصَّدَقَاتِ فَإِنَّهَا لَا تُرَدُّ إلَى الْمُلَّاكِ بَعْدَ الْأَخْذِ مِنْهُمْ وَلِهَذَا حَلَّ الْخُمُسُ لِبَنِي هَاشِمٍ؛ لِأَنَّهُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مِنْ التَّحْقِيق لَمْ يَصِرْ مِنْ الْأَوْسَاخِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي صَرْفِهِ إلَى مَصَارِفِ الزَّكَاةِ الَّتِي هِيَ عِبَادَةٌ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ فَلَمْ يَجِبْ بِحَيْثُ يَصْرِفُ إلَى الْفُقَرَاءِ فَإِنْ قَالَا: يَصْرِفُهُ إلَى الْمُقَاتِلَةِ فَهُوَ أَدَاءُ حَقٍّ آخَرَ لِمَا تَبَدَّلَ مُسْتَحِقُّهُ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ إنَّمَا عُرِفَ بِوَصْفِ الْعِبَادَةِ فَإِذَا سُلِبَ عَنْهُ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَبْقَ عُشْرًا؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ يُعْرَفْ بِوَصْفِهِ وَإِذَا سَقَطَ الْأَوَّلُ وَوَجَبَ الْآخَرُ كَانَ الْخَرَاجُ بِهِ أَوْلَى مِنْ الْغَيْرِ تَسْمِيَةً كَمَا فِي ابْتِدَاءِ الْمَنِّ عَلَيْهِمْ بِخِلَافِ الْخَرَاجِ يَبْقَى عَلَى الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ مَئُونَةٌ مَالِيَّةٌ بِلَا ثَوَابٍ كَنَفَقَةِ دَابَّتِهِ وَمَا يَجِبُ صَرْفُهُ إلَى الْمُقَاتِلَةِ مِنْ الْجُعَلَاتِ عِنْدَ الْحَاجَةِ. وَلِأَنَّ اسْتِبْقَاءَهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ كَاسْتِبْقَاءِ الْآخِرَةِ بِاعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاع وَمَالُ الْمُسْلِمِ يَصْلُحُ لِذَلِكَ وَقَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ يُنَافِي صِفَةَ الْقُرْبَةِ يَصْلُحُ دَلِيلًا لِكِلَا الْقَوْلَيْنِ يَعْنِي لَمَّا كَانَ الْكُفْرُ يُنَافِي الْقُرْبَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِمُنَافَاتِهِ حُكْمَهَا وَهُوَ الثَّوَابُ يَجِبُ الْخَرَاجُ الَّذِي هُوَ أَخْذُ مُؤْنَتَيْ الْأَرْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِتَعَذُّرِ إيجَابِ الْآخَرِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجِبُ التَّضْعِيفُ الَّذِي هُوَ فِي حُكْمِ الْخَرَاجِ وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ بِوَجْهٍ؛ لِأَنَّ التَّغْيِيرَ فِي الْمَصِيرِ إلَى التَّضْعِيفِ أَقَلُّ مِنْهُ فِي الْمَصِيرِ إلَى الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّ فِي الْخَرَاجِ تَغْيِيرَ الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ جَمِيعًا وَفِي التَّضْعِيفِ تَغْيِيرُ الْوَصْفِ لَا غَيْرُ وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَا يُنَافِي الْعُقُوبَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَيْ لَا يُنَافِي مَا هُوَ عُقُوبَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَالرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ فَلَا يُنَافِي الْمَئُونَةَ الَّتِي فِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِسْلَامَ يُنَافِي الْعُقُوبَةَ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ أَنَّهُ سَبَبٌ فِي الْعِزِّ وَالْكَرَامَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْعُقُوبَةِ الَّتِي هِيَ ذُلٌّ وَهَوَانٌ وَلَا يُنَافِيهَا مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ شَرَعَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ وَهِيَ عُقُوبَاتٌ مَحْضَةٌ فَيَجُوزُ أَنْ يُثْبِتَ فِي حَقِّهِ مَا هُوَ مَئُونَةٌ فِيهِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ قُلْنَا: لَا يُبْتَدَأُ الْخَرَاجُ عَلَى الْمُسْلِمِ عَمَلًا بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَيَجُوزُ أَنْ يَبْقَى عَلَيْهِ عَمَلًا بِالْوَجْهِ الثَّانِي فَأَمَّا الْكُفْرُ فَيُنَافَى الْقُرْبَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يُمْكِنُ شُرُوعُ الْعُشْرِ فِي حَقِّ الْكَافِرِ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَتَانِ فِي الْعُشْرِ الْبَاقِي عَلَى الْكَافِر بَعْدِ تَمَلُّكِهِ لِلْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ فَفِي رِوَايَةِ السِّيَرِ يُوضَعُ مَوْضِعَ الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْفُقَرَاءِ تَعَلَّقَ بِهِ فَهُوَ كَتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُقَاتِلَة بِالْأَرَاضِيِ الْخَرَاجِيَّةِ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْهُ يُوضَعُ فِي بَيْتِ مَالِ الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُصْرَفُ إلَى الْفُقَرَاءِ مَا صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى بِطَرِيقِ الْعِبَادَةِ وَمَالُ الْكَافِرِ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ فَيُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ كَالْمَالِ الَّذِي يَأْخُذُهُ الْعَاشِرُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْجَوَابُ يَعْنِي لِأَبِي حَنِيفَةَ عَمَّا ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ الْعُشْرَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي حَقِّ الْكَافِرِ إلَّا بِشَرْطِ التَّضْعِيفِ فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ عُشْرٍ وَاحِدٍ عَلَيْهِ فَهَذَا رَدٌّ لِكَلَامِ مُحَمَّدٍ. وَقَوْلُهُ: لَكِنَّ التَّضْعِيفَ إلَى آخِرِهِ رَدٌّ لِكَلَامِ أَبِي يُوسُفَ يَعْنِي أَنَّهُ ضَرُورِيٌّ ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ عِنْدَ تَعَذُّرِ إيجَابِ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ عَلَيْهِمْ خَوْفًا مِنْ الْفِتْنَةِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَبَوْا قَبُولَ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ وَمَالُوا إلَى التَّضْعِيفِ وَقَدْ كَانُوا ذَوِي سَعَةٍ وَمَنَعَةٍ حَتَّى قِيلَ: إنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعِينَ أَلْفًا وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ أَرْضِ الرُّومِ قَبِلُوا ذَلِكَ مِنْهُمْ خَوْفًا مِنْ الْتِحَاقِهِمْ بِالرُّومِ وَصَيْرُورَتِهِمْ حَرْبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِنْ الْكُفَّارِ فَلَيْسُوا بِمَنْزِلَتِهِمْ لِإِمْكَانِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ مِنْهُمْ فَلَا يُصَارُ إلَى التَّضْعِيفِ فِي حَقِّهِمْ مَعَ إمْكَانِ إيجَابِ الْأَصْلِ وَهُوَ الْخَرَاجُ فَثَبَتَ أَنَّ الصَّحِيحَ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْحَقُّ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ) أَيْ الْحَقُّ الثَّابِتُ بِذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِذِمَّةِ الْعَبْدِ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ

غَيْرَ أَنَّا جَعَلْنَا النُّصْرَةَ عِلَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْأَفْعَالِ وَالطَّاعَاتِ فَكَانَ أَوْلَى بِالْكَرَامَةِ وَاعْتِبَارًا بِالْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ فَإِنَّهَا بِالنُّصْرَةِ بِالْإِجْمَاعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQيَكُونَ لَهُ سَبَبٌ يَجِبُ بِاعْتِبَارِهِ عَلَى الْعَبْدِ أَدَاؤُهُ بِطَرِيقِ الطَّاعَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا مِثْلُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَسَائِرِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْعِبَادِ فَخُمُسُ الْمَغَانِمِ وَالْمَعَادِنِ وَالْمَغْنَمُ وَالْغَنِيمَةُ مَا يَأْخُذُهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ وَالْمَعْدِنُ اسْمٌ لِمَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ سُمِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يُقِيمُونَ بِهِ الصَّيْفَ وَالشِّتَاءَ مِنْ عَدَنَ بِالْمَكَانِ أَقَامَ بِهِ وَقِيلَ لِإِثْبَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ جَوْهَرَهُمَا وَإِثْبَاتُهُ إيَّاهُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى عَدَنَ فِيهَا أَيْ يَثْبُتُ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ حَقٌّ وَجَبَ أَيْ هُوَ حَقٌّ ثَبَتَ لِلَّهِ تَعَالَى بِحُكْمِ أُلُوهِيَّتِهِ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ حَقُّهُ؛ لِأَنَّهُ إعْزَازُ دِينِهِ وَإِعْلَاءُ كَلِمَتِهِ فَصَارَ الْمُصَابُ بِهِ لَهُ كُلُّهُ أَيْ صَارَ الْمُصَابُ بِالْجِهَادِ كُلُّهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] . وَمَعْنَى الْجَمْعِ بَيْنَ ذِكْرِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ أَنَّ الْحُكْمَ وَالْأَمْرَ فِيهَا لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهِ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ وَالرَّسُولُ يُنَفِّذُهُ فِيمَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ فَثَبَتَ أَنَّ مَجْمُوعَ الْمُصَابِ حَقُّهُ عَلَى الْخُلُوصِ، لَكِنَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ أَوْجَبَ أَيْ أَثْبَتَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْمُصَابِ لِلْغَانِمِينَ مِنَّةً مِنْهُ أَيْ بِطَرِيقِ الْمِنَّةِ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَوْجِبَهَا بِالْجِهَادِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَعْمَلُهُ لِمَوْلَاهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى مَوْلَاهُ شَيْئًا، لَكِنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَهَا لِلْغَانِمِينَ جَزَاءً مُعَجَّلًا فِي الدُّنْيَا فَضْلًا مِنْهُ وَرَحْمَةً فَلَمْ يَكُنْ الْخُمُسُ حَقًّا لَزِمَنَا أَدَاؤُهُ بِطَرِيقِ الطَّاعَةِ بَلْ هُوَ حَقُّ اسْتِبْقَاءٍ لِنَفْسِهِ مِنْ الْمَالِ الَّذِي هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ وَأَمْرٌ بِالصَّرْفِ إلَى مَنْ سَمَّاهُمْ فِي كِتَابِهِ فَتَوَلَّى السُّلْطَانُ أَخْذَهُ وَقِسْمَتَهُ بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُ الشَّرْعِ وَلِهَذَا أَيْ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْنَا عَلَى سَبِيلِ الطَّاعَةِ جَوَّزْنَا صَرْفَ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ إلَى مَنْ اسْتَحَقَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهَا مِنْ الْغَانِمِينَ وَإِلَى آبَائِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَكَذَا جَازَ صَرْفُ خُمُسِ الْمَعْدِنِ إلَى الْوَاحِدِ عِنْدَ حَاجَتِهِ أَيْضًا بِخِلَافِ مَا وَجَبَ عَلَى سَبِيلِ الطَّاعَةِ مِثْلُ الزَّكَوَاتِ وَالصَّدَقَاتِ فَإِنَّ صَرْفَهَا لَا يَجُوزُ إلَى مَنْ أَدَّاهَا وَإِنْ افْتَقَرَ حَتَّى لَوْ سَلَّمَ الزَّكَاةَ إلَى السَّاعِي بَعْدَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ فَافْتَقَرَ قَبْلَ صَرْفِهَا إلَى الْفَقِيرِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا مِنْ السَّاعِي وَيَصْرِفَهَا إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ وَكَذَا لَوْ لَزِمَهُ كَفَّارَةٌ وَهُوَ فَقِيرٌ فَمَلَكَ مِنْ الطَّعَامِ مِقْدَارَ مَا يُؤَدِّي بِهِ الْكَفَّارَةَ مَثَلًا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى نَفْسِهِ أَوْ إلَى أَبَوَيْهِ أَوْ أَوْلَادِهِ. وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا وَجَبَتْ عَلَى سَبِيلِ الطَّاعَةِ كَانَ فِعْلُ الْإِيتَاءِ هُوَ الْمَقْصُودَ وَلَا يَحْصُلُ الْإِيتَاءُ أَوْ لَا يَتِمُّ بِالصَّرْفِ إلَى نَفْسِهِ وَإِلَى وَلَدِهِ وَأَبَوَيْهِ فَأَمَّا هَاهُنَا فَالْفِعْلُ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَى سَبِيلِ الطَّاعَةِ بَلْ هُوَ مَالُ اللَّهِ تَعَالَى أَمَرَ بِصَرْفِهِ إلَى جِهَةٍ فَإِذَا وُجِدَتْ تِلْكَ الْجِهَةُ فِي الْغَانِمِ كَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ سَوَاءً وَلِهَذَا أَيْ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ لَزِمَنَا أَدَاؤُهُ بِطَرِيقِ الطَّاعَةِ حَلَّ خُمُسُ الْخُمُسِ لِبَنِي هَاشِمٍ؛ لِأَنَّهُ أَيْ خُمُسَ الْخَمْسِ عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ التَّحْقِيقِ أَيْ أَثْبَتْنَا أَنَّهُ حَقٌّ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَصِرْ مِنْ الْأَوْسَاخِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ إنَّمَا يَصِيرُ وَسَخًا بِصَيْرُورَتِهِ آلَةً لِأَدَاءِ الْوَاجِبِ وَمَحَلًّا لِانْتِقَالِ الْآثَامِ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَنِ فِي الْبَدَنِ إلَيْهِ فَيَصِيرُ خَبِيثًا كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْبَدَنِ يَصِيرُ خَبِيثًا طَبْعًا بِانْتِقَالِ الْأَوْسَاخِ إلَيْهِ أَوْ شَرْعًا بِانْتِقَالِ الْحَدَثِ أَوْ الْآثَامِ إلَيْهِ وَهَذَا الْمَالُ لَمْ يُؤَدِّ بِهِ وَاجِبٌ فَبَقِيَ طَيِّبًا كَمَا كَانَ فَحَلَّ لِبَنِي هَاشِمٍ بِخِلَافِ مَالِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ صَارَ خَبِيثًا لِمَا ذَكَرْنَا فَلَمْ يَحِلَّ لِبَنِي هَاشِمٍ لِفَضِيلَتِهِمْ قَوْلُهُ (غَيْرَ أَنَّا) أَيْ، لَكِنَّا جَعَلْنَا النُّصْرَةَ عِلَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ فِي حَقِّ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عِلَّةُ الِاسْتِحْقَاقِ الْقَرَابَةُ فِي حَقِّهِمْ وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ فِي سُقُوطِ سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى فَعِنْدَنَا يَسْقُطُ بِوَفَاةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِانْتِهَاءِ الْعِلَّةِ وَهِيَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQالنُّصْرَةُ بِوَفَاتِهِ كَمَا سَقَطَ نَصِيبُ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ الزَّكَاةِ لِانْتِهَاءِ عِلَّةِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهِيَ ضَعْفُ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ مِنْ مَشَايِخِنَا سَقَطَ هَذَا السَّهْمُ بِمَوْتِهِ فِي حَقِّ الْأَغْنِيَاءِ مِنْهُمْ دُونَ الْفُقَرَاءِ وَهُوَ مُخْتَارُ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ فِي الْأَسْرَارِ وَعِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيِّ سَقَطَ فِي حَقِّ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ جَمِيعًا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ ثَابِتٌ لِبَقَاءِ الْعِلَّةِ وَهِيَ الْقَرَابَةُ فَيُقَسَّمُ عِنْدَنَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ وَيَدْخُلُ مَنْ اتَّصَفَ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فِيهِمْ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَسَهْمُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَاقِطٌ عِنْدَنَا بِوَفَاتِهِ أَيْضًا كَسَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى. وَعِنْدَهُ يُقَسَّمُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ كَمَا كَانَ يُقَسَّمُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَهْمٌ لِلْإِمَامِ يَصْرِفُهُ إلَى مَصَالِحِ الدِّينِ وَسَهْمٌ لِذَوِي الْقُرْبَى يُقَسَّمُ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُمْ قَالَ: وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْقَرَابَةُ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] وَالْمُرَادُ قَرَابَةُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَا فَسَّرَهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَهِيَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ الْقَرَابَةِ فَيَكُونُ مَأْخَذُ الِاشْتِقَاقِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] وَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ «يَا بَنِي هَاشِمٍ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِهَ لَكُمْ غُسَالَةَ النَّاسِ وَعَوَّضَكُمْ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ» سُمِّيَ حَقُّهُمْ فِي الْخُمُسِ عِوَضًا عَنْ حِرْمَانِ الصَّدَقَةِ وَالْعِوَضِيَّةُ إنَّمَا تَثْبُتُ إذَا جَمَعَتْهُمَا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ خَلَفٌ عَنْ الْمُعَوَّضِ فَيَثْبُتُ بِمَا ثَبَتَ بِهِ الْأَصْلُ وَعِلَّةُ حِرْمَانِ الصَّدَقَةِ هِيَ الْقَرَابَةُ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْقَرَابَةُ عِلَّةً لِاسْتِحْقَاقِ خُمُسِ الْخُمُسِ الَّذِي هُوَ عِوَضٌ أَيْضًا يُوَضِّحُهُ أَنَّ حِرْمَانَهُمْ عَنْ الصَّدَقَةِ كَانَ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْكَرَامَةُ إذَا حُرِمُوا عَنْ الصَّدَقَةِ الَّتِي هِيَ مَالٌ خَبِيثٌ وَأُعْطُوا مِنْ مَالٍ طَيِّبٍ فَأَمَّا الْحِرْمَانُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَخَلَّفَهُ شَيْءٌ آخَرُ يَكُونُ إهَانَةً لَا كَرَامَةً وَمَا ذَكَرْتُمْ مُؤَدٍّ إلَيْهِ إذْ الْحِرْمَانُ ثَابِتٌ مِنْ غَيْرِ خَلَفٍ عَلَى أَصْلِكُمْ. وَالدَّلِيلُ لَنَا عَلَى أَنَّ النُّصْرَةَ عِلَّةُ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ النَّصِّ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَمَ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى يَوْمَ خَيْبَرَ بَيْنَ بَنِي هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ فَجَاءَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَجُبَيْرُ بْنِ مُطْعِمٍ وَهُوَ مِنْ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ فَقَالَا: إنَّا لَا نُنْكِرُ فَضْلَ بَنِي هَاشِمٍ لِمَكَانِك الَّذِي وَضَعَك اللَّهُ فِيهِمْ وَلَكِنْ نَحْنُ وَبَنُو مُطَّلِبٍ إلَيْك سَوَاءٌ فِي النَّسَبِ فَمَا بَالُك أَعْطَيْتَهُمْ وَحَرَمْتَنَا فَقَالَ: إنَّهُمْ لَنْ يَزَالُوا مَعِي هَكَذَا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَإِسْلَامٍ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» فَهُمَا سَأَلَا عَنْ تَخْصِيصِ بَنِي الْمُطَّلِبِ مَعَ اسْتِوَائِهِمْ فِي الْقَرَابَةِ وَقِيلَ بَنُو نَوْفَلٍ وَبَنُو عَبْدِ شَمْسٍ كَانُوا أَقْرَبَ إلَيْهِ مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ؛ لِأَنَّ نَوْفَلًا وَعَبْدَ شَمْسٍ كَانَا أَخَوَيْ هَاشِمٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْمُطَّلِبُ كَانَ أَخَا هَاشِمٍ لِأَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ، ثُمَّ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَنِي الْمُطَّلِبِ وَلَمْ يُعْطِ بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ فَأُشْكِلَ عَلَيْهِمَا فَلِهَذَا سَأَلَاهُ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالنُّصْرَةِ وَالِانْضِمَامِ إلَيْهِ صُحْبَةٌ لَا بِالْقَرَابَةِ وَالصُّحْبَةُ مُنْقَطِعَةٌ بِوَفَاتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَبَطَلَ الِاسْتِحْقَاقُ وَلَا يُقَالُ: الْكِتَابُ يَقْتَضِي الِاسْتِحْقَاقَ بِالْقَرَابَةِ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُ مَا ثَبَتَ بِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مِنْ الْآحَادِ بَلْ هُوَ خَبَرٌ مَشْهُورٌ عَمِلَ بِهِ الْأُمَّةُ فَإِنَّ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى عِنْدَ مَنْ قَالَ بِبَقَائِهِ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَقْسُومٌ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ غَيْرِهِمْ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْخَبَرِ فَيَجُوزُ الزِّيَادَةُ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ، ثُمَّ أَمَّا أَنْ يُقَالَ: ثَبَتَ أَنَّ النُّصْرَةَ عِلَّةٌ بِهَذَا الْخَبَرِ فَتُضَمُّ إلَى الْقَرَابَةِ الثَّابِتَةِ عِلَّةً بِالْكِتَابِ وَصَارَتَا عِلَّةً وَاحِدَةً.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQوَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَى آخِرِهِمَا وُجُودًا كَمَا هُوَ طَرِيقُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا أَوْ يُقَالُ: لَفْظُ الْقُرْبَى مُطْلَقٌ فَيَتَقَيَّدُ بِالنُّصْرَةِ كَتَقَيُّدِ الْأَيَّامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِالتَّتَابُعِ أَوْ هُوَ مُجْمَلٌ فَيَلْتَحِقُ الْخَبَرُ بَيَانًا بِهِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ الْبَيَانِ وَمِنْ الْمَعْقُولِ أُشِيرَ إلَيْهِ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ أَنَّ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى ثَبَتَ لَهُمْ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ فَتَعْلِيقُ هَذِهِ الْكَرَامَةِ بِنُصْرَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وُجِدَ مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ أَوْلَى مِنْ تَعْلِيقِهِ بِالنَّسَبِ؛ لِأَنَّ النُّصْرَةَ فِعْلٌ هُوَ طَاعَةٌ فِي الْأَصْلِ وَالْقَرَابَةُ أَمْرٌ ثَبَتَ خِلْقَةً لَا صُنْعَ فِيهِ لِأَحَدٍ وَتَعَلُّقُ الْكَرَامَاتِ بِالطَّاعَاتِ أَكْثَرُ مِنْ تَعَلُّقِهَا بِمَا ثَبَتَ خِلْقَةً وَاعْتِبَارٌ بِالْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ فَإِنَّهَا لَمْ تُسْتَحَقَّ إلَّا بِالنُّصْرَةِ حَتَّى لَا يَمْلِكَهَا مَنْ دَخَلَ تَاجِرًا أَوْ يَمْلِكُهَا مَنْ دَخَلَ غَازِيًا وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى قَصْدِ النُّصْرَةِ وَإِنَّهَا تَحْصُلُ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ فَثَبَتَ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا تَعْلِيلٌ بِوَصْفٍ ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ فِي الشَّرْعِ وَلَا يُقَالُ لَوْ كَانَ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِالنُّصْرَةِ لَمَا ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ لِلنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ كَمَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْمُرَادُ مِنْ النُّصْرَةِ الِاجْتِمَاعُ إلَيْهِ فِي الشِّعْبِ وَالْوَادِي لَا نُصْرَةُ الْقِتَالِ وَمِثْلُهَا يَكُونُ مِنْ النِّسْوَانِ وَالْوِلْدَانِ وَإِلَيْهَا أُشِيرَ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونِي فِي جَاهِلِيَّةٍ وَإِسْلَامٍ» . وَقِصَّةُ ذَلِكَ «أَنَّ قُرَيْشًا حِينَ أَرَادُوا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُوءًا قَامَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ بِالذَّبِّ عَنْهُ فَتَضَافَرَتْ قُرَيْشٌ عَلَى نَصْبِ الْعَدَاوَةِ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَكَتَبُوا صَحِيفَةً تَعَاقَدُوا فِيهَا عَلَى قَطْعِ الرَّحِمِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَأَنْ لَا يُصَاهِرُوهُمْ وَلَا يُبَايِعُوهُمْ وَلَا يُخَالِطُوهُمْ حَتَّى تُسَلِّمُوا رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَيْهِمْ لِيَقْتُلُوهُ وَعَلَّقُوهَا فِي الْكَعْبَةِ فَلَمَّا رَأَى أَبُو طَالِبٍ ذَلِكَ دَخَلَ شِعْبَهُ الَّذِي كَانَ لَهُ بِأَسْفَلِ مَكَّةَ بِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ غَيْرَ أَبِي لَهَبٍ فَإِنَّهُ دَخَلَ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ فَتَحَصَّنُوا بِالشِّعْبِ وَبَقُوا فِيهِ ثَلَاثَ سِنِينَ مَقْطُوعًا عَنْهُمْ الْمِيرَةُ وَالتَّفَقُّدُ حَتَّى ضَاقَتْ بِهِمْ الْحَالُ وَجَعَلَ صِبْيَانُهُمْ يَتَضَاغَوْنَ مِنْ الْجُوعِ، ثُمَّ سَلَّطَ اللَّهُ الْأَرَضَةَ عَلَى الصَّحِيفَةِ فَأَكَلَتْ مِنْهَا كُلَّ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ ذِكْرِ جَوْرٍ وَقَطِيعَةٍ وَتَرَكَتْ مَا كَانَ مِنْ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَأُوحِيَ بِذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَهُ لِعَمِّهِ فَاجْتَمَعُوا وَلَبِسُوا أَحْسَنَ ثِيَابِهِمْ وَخَرَجُوا إلَى الْحِجْرِ فَجَلَسُوا مَجَالِسَ ذَوِي الْأَقْدَارِ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ قَالَ أَبُو طَالِبٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إنَّا قَدْ جَاءَكُمْ لِأَمْرٍ فَأَجِيبُوا فِيهِ بِالْمَعْرُوفِ فَقَالُوا مَرْحَبًا بِك فَقُلْ مَا تُحِبُّ فَعِنْدَنَا مَا يَسُرُّك فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: إنَّ مُحَمَّدًا أَخْبَرَنِي وَلَمْ يَكْذِبْنِي قَطُّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَلَّطَ عَلَى صَحِيفَتِكُمْ الْأَرَضَةَ فَلَحِسَتْ كُلَّ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ جَوْرٍ وَقَطِيعَةٍ وَتَرَكَتْ مَا كَانَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ صَادِقًا نَزَعْتُمْ عَنْ سُوءِ رَأْيِكُمْ وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا دَفَعْتُهُ إلَيْكُمْ فَقَتَلْتُمُوهُ أَوْ اسْتَبْقَيْتُمُوهُ فَقَالُوا: قَدْ أَنْصَفْتَنَا، ثُمَّ تَمَالَأَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِي تَقَصِّي شَأْنِ الصَّحِيفَةِ فَلَمَّا أُحْضِرَتْ وَنُشِرَتْ إذْ هِيَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعِنْدَ ذَلِكَ سُقِطَ فِي أَيْدِيهمْ وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا ظَالِمِينَ، ثُمَّ مُزِّقَتْ الصَّحِيفَةُ وَخَرَجَ النَّاسُ مِنْ الشِّعْبِ وَأَمِنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا» . وَفِي رِوَايَةٍ «أَنَّهُمْ لَمَّا جَهَدُوا جَهْدًا شَدِيدًا رَقَّ لَهُمْ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْهُمْ مُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ وَأَظْهَرُوا الْكَرَاهَةَ لِمَا نَالَهُمْ مِنْ الضُّرِّ وَالْبُؤْسِ فَأَجْمَعُوا عَلَى نَقْضِ تِلْكَ الصَّحِيفَةِ الْقَاطِعَةِ الظَّالِمَةِ فَقَامَ مُطْعِمٌ إلَى الصَّحِيفَةِ فَوَجَدَ الْأَرَضَةَ قَدْ أَكَلَتْهَا إلَّا بِاسْمِك اللَّهُمَّ فَلَمَّا مُزِّقَتْ وَبَطَلَ مَا فِيهَا فَرَّجَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فَخَرَجُوا مِنْ الشِّعْبِ فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنَّهُمْ لَنْ يَزَالُوا مَعِي فِي جَاهِلِيَّةٍ وَإِسْلَامٍ» فَإِنْ قِيلَ فَإِذًا هَذِهِ.

فَأَمَّا قَرَابَةُ النَّبِيِّ فَخِلْقَةٌ وَلِتَكُونَ لَهَا صِيَانَةٌ عَنْ أَعْوَاضِ الدُّنْيَا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ النُّصْرَةُ وَصْفًا يَتِمُّ بِهَا الْقَرَابَةُ عِلَّةُ مَا سَبَقَ فِي بَابِ التَّرْجِيحِ أَنَّ مَا يَصْلُحُ عِلَّةً بِنَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ وَلِأَنَّهَا تُخَالِفُ جِنْسَ الْقَرَابَةِ فَلَمْ يَصْلُحْ وَصْفًا لَهَا ـــــــــــــــــــــــــــــQالنُّصْرَةُ الَّتِي هِيَ الْعِلَّةُ عِنْدَكُمْ لَا تَكُونُ مِنْ الطَّاعَاتِ؛ لِأَنَّهَا وُجِدَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْكُفْرُ مُنَافٍ لِجَمِيعِ الطَّاعَاتِ فَلَا تَصْلُحُ سَبَبًا لِلْكَرَامَةِ قُلْنَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْفِعْلُ مِنْهُمْ مَخْصُوصًا بِالصِّيَانَةِ عَنْ الْفَسَادِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لِتَعَلُّقِهِ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا رُوِيَ «أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ نَفَعْت عَمَّك أَبَا طَالِبٍ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ فِي طَمْطَامٍ مِنْ النَّارِ فَأَخْرَجْتُهُ إلَى ضَحْضَاحٍ مِنْهَا» وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ التَّخْفِيفُ إلَّا بِإِحْسَانِهِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنُصْرَتِهِ لَهُ وَلَمْ يَبْطُلْ بِسَبَبِ الْكُفْرِ وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ الْعَذَابَ يُخَفَّفُ عَنْ أَبِي لَهَبٍ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ بِذَبْحِهِ نَسِيكَةً اسْتِبْشَارًا بِمَوْلِدِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَكَانَ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ فَلَمَّا صَلَحَ مِثْلُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مَعَ الْكُفْرِ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ فِي الْآخِرَةِ لَأَنْ يَصْلُحَ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ سَهْمِ الْغَنِيمَةِ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَانَ أَوْلَى. قَوْلُهُ (وَلِيَكُونَ) عُطِفَ عَلَى الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ أَيْ جَعَلْنَا النُّصْرَةَ عِلَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ دُونَ الْقَرَابَةِ لِكَذَا وَلِيَكُونَ جَعَلْنَا النُّصْرَةَ عِلَّةَ صِيَانَةٍ لِقَرَابَةِ الرَّسُولِ عَنْ أَعْوَاضِ الدُّنْيَا أَصْلًا؛ لِأَنَّ دَرَجَةَ قَرَابَتِهِ أَعْلَى مِنْ أَنْ تُجْعَلَ عِلَّةً لِاسْتِحْقَاقِ شَيْءٍ مِنْ الدُّنْيَا وَلِهَذَا صَارَتْ سَبَبًا لِلْحِرْمَانِ عَنْ الزَّكَاةِ وَلَمْ تَصْلُحْ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ حَتَّى لَمْ يَرِثْ أَقْرِبَاءُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْهُ فَثَبَتَ أَنَّ جَعْلَ النُّصْرَةِ عِلَّةً أَوْلَى قَوْلُهُ (وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ النُّصْرَةُ وَصْفًا يَتِمُّ بِهَا الْقَرَابَةُ عِلَّةً) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَمَّا قَالَ الْخَصْمُ أَنَا لَا أَهْدِرُ وَصْفَ النُّصْرَةِ وَلَكِنْ أَجْعَلُ الْقَرَابَةَ عِلَّةً كَمَا اقْتَضَاهُ النَّصُّ وَأَجْعَلُ النُّصْرَةَ وَصْفًا يَتِمُّ بِهَا الْقَرَابَةُ عِلَّةً وَيَتَرَجَّحُ بِهَا عَلَى الْقَرَابَةِ الَّتِي لَمْ يُوجَدْ فِيهَا وَصْفُ النُّصْرَةِ كَالْعَدَالَةِ فِي الشَّاهِدِ وَالنَّمَاءِ فِي النِّصَابِ وَالتَّأْثِيرِ فِي الْوَصْفِ الْمُلَائِمِ فَإِنَّ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ تَتِمُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ عِلَّةً تَتَرَجَّحُ عَلَى مَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ هَذِهِ الْأَوْصَافُ وَلِهَذَا أَعْطَيْنَا بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ غَيْرِهِمْ لِوُجُودِ هَذَا الْوَصْفِ فِي قَرَابَتِهِمْ دُونَ قَرَابَةٍ مِنْ سِوَاهُمْ. فَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ النُّصْرَةَ وَصْفًا مُتَمِّمًا لِلْقَرَابَةِ عِلَّةً وَمُرَجِّحًا لَهَا لِمَا مَرَّ أَنَّ مَا يَصْلُحُ عِلَّةً بِنَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ وَالنُّصْرَةُ بِنَفْسِهَا تَصْلُحُ عِلَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ كَمَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ فَلَا يَصْلُحُ وَصْفًا مُرَجِّحًا لِلْقَرَابَةِ؛ لِأَنَّهَا أَيْ وَلِأَنَّ النُّصْرَةَ تُخَالِفُ جِنْسَ الْقَرَابَةِ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ ذَاتٌ لَيْسَ فِيهَا صُنْعٌ لِأَحَدٍ وَالنُّصْرَةُ فِعْلٌ مِنْ جِنْسِ الطَّاعَاتِ فِي الْأَصْلِ. وَأَثَرُهُمَا مُخْتَلِفٌ أَيْضًا فَإِنَّ الْقَرَابَةَ سَبَبٌ لِإِيجَابِ الصِّلَةِ فِي مَالِ الْقَرِيبِ دُونَ غَيْرِهِ وَالنُّصْرَةُ سَبَبٌ لِإِيجَابِ الصِّلَةِ فِي مَالِ الْغَيْرِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَصْلُحْ النُّصْرَةُ وَصْفًا لِلْقَرَابَةِ لِتَتَرَجَّحَ الْقَرَابَةُ بِهِ كَمَا فِي ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ أَوْ زَوْجٌ لَا يَصْلُحُ الزَّوْجِيَّةُ أَوْ الْأُخُوَّةُ وَصْفًا مُرَجِّحًا لِقَرَابَةِ الْعُمُومَةِ لِلِاخْتِلَافِ بِخِلَافِ أَخَوَيْنِ لِأَبٍ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ حَيْثُ يَصْلُحُ الْأُخُوَّةُ لِأُمٍّ وَصْفًا مُرَجِّحًا لِلْإِخْوَةِ لِأَبٍ لِاتِّحَادِ جِنْسِ الْقَرَابَةِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ النُّصْرَةَ تَصْلُحُ مُرَجِّحَةً لِلْقَرَابَةِ فَإِنَّمَا تَصْلُحُ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا بَعْدَ وَفَاتِهِ لِفَوَاتِ هَذَا الْوَصْفِ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَكَانَتْ الْقَرَابَةُ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِمَنْزِلَةِ نِصَابٍ لَمْ يَبْقَ نَمَاؤُهُ وَبِمَنْزِلَةِ شَاهِدٍ لَمْ تَبْقَ عَدَالَتُهُ فَسَارَتْ قَرَابَةُ بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تُجْعَلَ النُّصْرَةُ وَصْفًا لِلْقَرَابَةِ نَجْعَلُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عِلَّةً عَلَى حِدَةٍ فَإِنَّ الْحُكْمَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّلًا بِعِلَّتَيْنِ. قُلْنَا: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ بِانْفِرَادِهَا لَا تَصْلُحُ عِلَّةً بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّ بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ لَا يَسْتَحِقُّونَ شَيْئًا وَإِذَا لَمْ تَصْلُحْ الْقَرَابَةُ عِلَّةً وَلَمْ يَصْلُحْ النُّصْرَةُ وَصْفًا لَهَا كَانَتْ الْعِلَّةُ هِيَ النُّصْرَةَ لَا غَيْرُ كَمَا بَيَّنَّا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَدًّا لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ

وَعَلَى مَسَائِلِ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي أَنَّ الْغَنِيمَةَ تُمْلَكُ عِنْدَ تَمَامِ الْجِهَادِ حُكْمًا بِالْأَخْذِ مَقْصُودًا وَيُبْتَنَى عَلَيْهِ مَسَائِلُ لَا تُحْصَى. ـــــــــــــــــــــــــــــQبَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْقُرْبَى وَحَقِيقَتِهَا لِلْقَرَابَةِ وَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالنُّصْرَةِ فَصَارَ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِعِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا تَابِعًا لِلْآخَرِ وَقَدْ عُدِمَ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ وَهُوَ النُّصْرَةُ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَلَا يَبْقَى الْحُكْمُ كَمَا أَنَّهُ لَمَّا عُدِمَ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ فِي حَقِّ بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ فِي حَيَاتِهِ لَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِحْقَاقُ فَبَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِمَنْزِلَةِ بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ فِي حَيَاتِهِ. فَقَالَ: لَمَّا صَلَحَتْ النُّصْرَةُ عِلَّةً بِنَفْسِهَا لِمَا بَيَّنَّا لَا يَصْلُحُ قَرِينَةً لِلْقَرَابَةِ مُتَمِّمَةً لِكَوْنِهَا عِلَّةً لِمَا سَبَقَ أَنَّ مَا يَصْلُحُ عِلَّةً بِنَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ تَابِعًا لِعِلَّةٍ أُخْرَى فَلَأَنْ لَا يَصْلُحَ جُزْءَ الْعِلَّةِ أَوْلَى كَانَ؛ لِأَنَّ فِي جُزْءِ الْعِلَّةِ إبْطَالَ كَوْنِهِ عِلَّةً وَلَيْسَ فِي التَّرْجِيحِ بِهِ ذَلِكَ وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَلِأَنَّهَا يُخَالِفُ جِنْسَ الْقَرَابَةِ فَلَمْ يَصْلُحْ وَصْفًا لَا يُلَائِمُ هَذَا الْوَجْهَ. وَأَمَّا تَمَسُّكُ الْخَصْمِ بِخَبَرِ التَّعْوِيضِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الصَّدَقَةِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ لِكَرَامَتِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا عَلَيْهِمْ نُقْصَانٌ يَحْتَاجُ إلَى جَبْرِهِ بِالتَّعْوِيضِ وَلَوْ كَانَ هَذَا السَّهْمُ ثَبَتَ لَهُمْ عِوَضًا عَنْ حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحِقَّ مَنْ يَسْتَحِقُّ الصَّدَقَةَ لَوْلَا قَرَابَةُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُمْ الْفُقَرَاءُ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَحِقَّهُ بَنُو الْمُطَّلِبِ لِعَدَمِ الْحُرْمَةِ فِي حَقِّهِمْ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَةَ التَّعْوِيضِ عَنْ الصَّدَقَةِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ تَطْيِيبَ قُلُوبِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنْ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الصَّدَقَةَ كَرَامَةً فَقَدْ أَعْطَاكُمْ مَالًا آخَرَ أَطْيَبَ مِنْهُ إلَّا أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَمَّاهُ تَعْوِيضًا مَجَازًا بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ فَقَدْ ذَهَبَ مَالٌ وَحَضَرَ آخَرُ كَمَا سُمِّيَ بَيْعُ الْحُرِّ بَيْعًا بِحُكْمِ الصُّورَةِ عَلَى أَنَّ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا الِاسْتِحْقَاقُ فِي حَقِّ مَنْ ثَبَتَ التَّعْوِيضُ فِي حَقِّهِمْ وَهُمْ الْفُقَرَاءُ بَاقٍ وَالْخِلَافُ فِي الْأَغْنِيَاءِ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إنَّ حَدِيثَ التَّعْوِيضِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمْ هَذَا السَّهْمَ عَلَى نَحْوِ اسْتِحْقَاقِ الصَّدَقَةِ لَوْلَا الْقَرَابَةُ وَاسْتِحْقَاقُهُمْ لِلصَّدَقَةِ لَوْلَا الْقَرَابَةُ كَانَ عَلَى وَجْهِ جَوَازِ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ لَا وُجُوبِ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ فَكَذَلِكَ هَذَا السَّهْمُ وَنَحْنُ نُجَوِّزُ صَرْفَ بَعْضِ الْخُمُسِ إلَيْهِمْ وَإِنَّمَا نُنْكِرُ وُجُوبَ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا مُتَمَسَّكَ لِلْخَصْمِ فِي حَدِيثِ التَّعْوِيضِ وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْأَسْرَارِ أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - احْتَجَّ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَسَّمُوا الْخُمُسَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ وَلَا مُعَدَّلَ عَنْ إجْمَاعِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ غَيْرِ إنْكَارِ أَحَدٍ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ أَصْحَابِنَا) أَيْ عَلَى أَنَّ الْغَنَائِمَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ لِابْتِنَائِهَا عَلَى الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ بُنِيَتْ مَسَائِلُ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّ الْغَنِيمَةَ تُمْلَكُ عِنْدَ تَمَامِ الْجِهَادِ حُكْمًا يَعْنِي يُبْتَنَى عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْغَنِيمَةَ تُمْلَكُ عِنْدَ تَمَامِ الْجِهَادِ حُكْمًا وَذَلِكَ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ. وَيُبْتَنَى عَلَى أَنَّ الْغَنِيمَةَ تُمْلَكُ بِكَذَا مَسَائِلُ أَصْحَابِنَا فَكَانَتْ الْمَسَائِلُ مَبْنِيَّةً عَلَى الْأَصْلِ الْأَوَّلِ بِوَاسِطَةِ الْأَصْلِ الثَّانِي وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْغَنَائِمِ لَا يَتِمُّ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَتِمُّ بِنَفْسِ الْأَخْذِ إذَا اسْتَقَرَّتْ الْهَزِيمَةُ وَمِمَّا يَبْتَنِي عَلَيْهِ أَنَّ قِسْمَةَ الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا تَجُوزُ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ وَإِنْ وَاحِدًا مِنْ الْغَانِمِينَ لَوْ مَاتَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْهَزِيمَة قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يُوَرِّثْ نَصِيبَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ وَإِنَّ الْمَدَدَ إذَا لَحِقَ الْجَيْشَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ قَرَارِ الْهَزِيمَةِ شَارَكُوهُمْ فِي الْغَنَائِمِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ وَإِنَّ الْإِمَامَ إذَا نَقَلَ جَارِيَةً لَمْ يَحِلَّ

وَأَمَّا الزَّوَائِدُ فَالنَّوَافِلُ كُلُّهَا وَالسُّنَنُ وَالْآدَابُ. . وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ الْكَامِلَةُ فَمِثْلُ الْحُدُودِ وَأَمَّا الْقَاصِرَةُ فَنُسَمِّيهَا أَجْزِيَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــQلِلْمُنْقِلِ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا مَا لَمْ يُحْرِزْهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَيَبْتَنِي عَلَيْهِ مَسَائِلُ لَا تُحْصَى أَيْ كَثِيرَةٌ هُوَ يَقُولُ: الِاسْتِيلَاءُ سَبَبُ الْمِلْكِ فِي الْمَالِ الْمُبَاحِ بِلَا خِلَافٍ وَالْعَاصِمُ مَفْقُودٌ فِي أَمْوَالِهِمْ وَقَدْ سَلَّطْنَا الشَّرْعَ عَلَى تَمَلُّكِ مَا فِي أَيْدِيهمْ فَكَانَتْ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَقَدْ تَمَّ الِاسْتِيلَاءُ بِكَوْنِ الْمَحَلِّ فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ حِسًّا وَعِيَانًا وَكَوْنُهُمْ فِي دَارِهِمْ لَا يَمْنَعُ كَوْنَ الشَّيْءِ فِي يَدِ الْمُسْتَوْلِي الْمُتَصَرِّفِ فِيهِ حِسًّا وَحَقِيقَةً. وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّا حَكَمْنَا بِزَوَالِ مِلْكِهِمْ عَنْ الْغَنَائِمِ وَمَتَى لَمْ تَمْنَعْ الدَّارُ زَوَالَ مِلْكِهِمْ لَمْ تَمْنَعْ تَمَامَ الِاسْتِيلَاءِ وَأَنَّا نَقُولُ: تَمَلُّكُ الْغَنَائِمِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ تَمَلُّكِ الْمُبَاحَاتِ فَإِنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى وُجُوبِ الْخُمُسِ وَثُبُوتِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُبَاشِرِ وَالرَّدْءِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعَرُّفِ عَنْ سَبَبِهِ فَنَقُولُ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْوَضْعِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الْجِهَادِ وَاقِعًا لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِتَمَلُّكِ مَالٍ؛ لِأَنَّهُ يَتَرَدَّدُ حِينَئِذٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً وَاقِعَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِتَمَلُّكِ الْمَالِ كَالْبَيْعِ فَيَتَحَقَّقُ فِي الْفِعْلِ مَعْنَى الشَّرِكَةِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَيَجِبُ تَجْرِيدُ الْفِعْلِ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ مَشْرُوعًا لِقَهْرِ الْكُفَّارِ وَإِعْلَاءِ الدِّينِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَالِانْتِزَاعُ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَاقِعٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ لِأَعْدَائِهِ، ثُمَّ أَنَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ جَعَلَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ جُزْءًا مُعَجَّلًا لِلْمُجَاهِدِ فَكَانَ الْجِهَادُ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ مِنْ حَيْثُ الْجَزَاءُ وَالثَّوَابُ لَا بِاعْتِبَارِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} [آل عمران: 148] وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَغَانِمُ وَفِعْلُ الْجِهَادِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِقَهْرِ جَمِيعِ أَهْلِ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُمْ انْتَصَبُوا لِلذَّبِّ عَمَّا يَعْتَقِدُونَ فَصَارُوا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا بُدَّ مِنْ اتِّصَالِ الْقَهْرِ بِالْكُلِّ بِأَقْصَى مَا يُتَصَوَّرُ وَمَعْنَى الْقَهْرِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا إذَا لَزِمَ بِحَيْثُ عَجَزُوا عَنْ دَفْعِهِ وَمُقَاوَمَتِهِ، ثُمَّ أُخِذَ الْمَالُ وَإِنْ وَقَعَ مِنَّا عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ لَكِنْ مَا دَامُوا يَقْدِرُونَ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنَّا لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْقَهْرِ وَمَتَى وُجِدَ الْإِحْرَازُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ عَجَزُوا عَنْ الدَّفْعِ فَلَزِمَ الْقَهْرُ فِي حَقِّ الْكُلِّ فَتَمَّ الْجِهَادُ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُ فَيَسْتَحِقُّهُ جَزَاءً عَلَيْهِ. فَهَذَا بَيَانُ بِنَاءِ هَذَا الْأَصْلِ وَهُوَ أَنَّ الْغَنِيمَةَ تَمَلُّكٌ عَنْ تَمَامِ الْجِهَادِ حُكْمًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْغَنَائِمِ ثَبَتَ عَلَى سَبِيلِ الْجَزَاءِ عَلَى الْجِهَادِ وَأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ عَلَى الْمَالِ وَأَخْذَهُ عَمَلٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَعُرِفَ بِهِ وَجْهُ التَّمْشِيَةِ فِي الْمَسَائِلِ وَعُرِفَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي وُقُوعِ الِاسْتِيلَاءِ تَامًّا وَغَيْرَ تَامٍّ مُسْتَغْنًى عَنْهُ وَقَوْلُهُ إنَّا حَكَمْنَا بِزَوَالِ مِلْكِهِمْ قُلْنَا نَحْنُ: إنَّمَا نُثْبِتُ الْمِلْكَ لَهُمْ بِاعْتِبَارِ وُقُوعِ الشَّيْءِ فِي تَصَرُّفِهِمْ حَقِيقَةً فَأَمَّا فِي التَّحْقِيقِ فَلَا مِلْكَ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَرِقَّاءُ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْوَاتِ فِي حَقِّنَا عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا كَذَا ذَكَّرَنَا الشَّيْخُ أَبُو الْفَضْلِ فِي إشَارَاتِ الْأَسْرَارِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الزَّوَائِدُ) وَهِيَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَقْسَامِ الْعِبَادَاتِ فَنَوَافِلُ الْعِبَادَاتِ كُلُّهَا وَسُنَنُهَا وَآدَابُهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ بَلْ شُرِعَتْ مُكَمِّلَاتٍ لِلْفَرَائِضِ زِيَادَةً عَلَيْهَا فَلَمْ تَكُنْ مَقْصُودَةً. وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ الْكَامِلَةُ أَيْ الْمَحْضَةُ التَّامَّةُ فِي كَوْنِهَا عُقُوبَةً فَمِثْلُ الْحُدُودِ نَحْوُ حَدِّ الزِّنَا وَحَدِّ السَّرِقَةِ وَحَدِّ الشُّرْبِ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِجِنَايَاتٍ كَامِلَةٍ لَا يَشُوبُهَا مَعْنَى الْإِبَاحَةِ فَاقْتَضَى كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ لَهَا عُقُوبَةٌ زَاجِرَةٌ عَنْ ارْتِكَابِهَا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ وَعَنْ الْمُبَرِّدِ أَنَّهَا إنَّمَا سُمِّيَتْ عُقُوبَةً؛ لِأَنَّهَا يَتْلُو الذَّنْبَ مِنْ عَقَبَهُ يَعْقُبُهُ إذَا تَبِعَهُ وَأَمَّا الْقَاصِرَةُ أَيْ الْعُقُوبَاتُ الْقَاصِرَةُ فَنُسَمِّيهَا أَجْزِئَةً. فَرْقًا بَيْنَ مَا هُوَ كَامِلٌ وَقَاصِرٌ وَالْجَزَاءُ لَفْظٌ يُطْلَقُ عَلَى مَا هُوَ عُقُوبَةٌ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] وَعَلَى.

مِثْلَ حِرْمَانِ الْمِيرَاثِ بِالْقَتْلِ وَلِذَلِكَ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالتَّقْصِيرِ بِخِلَافِ الْخَاطِئِ الْبَالِغِ؛ لِأَنَّهُ مُقَصِّرٌ فَلَزِمَهُ الْجُزْءُ الْقَاصِرُ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْكَامِلُ وَالصَّبِيُّ غَيْرُ مُقَصِّرٍ فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْقَاصِرُ وَلَا الْكَامِلُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا هُوَ مَثُوبَةٌ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] فَلِقُصُورِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ سُمِّيَتْ أَجْزِئَةً إذْ مُطْلَقُ اسْمِ الْعُقُوبَةِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْكَامِلِ مِنْهَا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَمْعِ الْوَاحِدُ إذْ لَيْسَ فِي هَذَا النَّوْعِ إلَّا هَذَا الْمِثَالُ وَيَجُوزُ أَنْ يُلْحَقَ حِرْمَانُ الْوَصِيَّةِ بِالْقَتْلِ وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِيهَا قَاصِرٌ هَذَا الْقِسْمُ فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى حَمْلِهِ عَلَى الْوَاحِدِ مِثْلُ حِرْمَانِ الْإِرْثِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هِيَ مِثْلُ حِرْمَانِ الْإِرْثِ وَلَوْ قِيلَ وَأَمَّا الْقَاصِرَةُ وَنُسَمِّيهَا أَجْزِئَةً فَمِثْلُ حِرْمَانِ الْإِرْثِ لَكَانَ أَحْسَنَ وَأَوْفَقَ لِمَا تَقَدَّمَ وَأَكْثَرَ مُطَابَقَةً لِلْمَقْصُودِ وَمَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِي الْحِرْمَانِ مَعَ وُجُودِ عِلَّةِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهِيَ الْقَرَابَةُ ظَاهِرٌ فَإِنَّهُ غُرْمٌ لَحِقَ الْقَاتِلَ بِجِنَايَتِهِ وَفِي الْغُرْمِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَلِأَنَّ مَا يَجِبُ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّعَدِّي يَجِبُ لِمَنْ وَقَعَ التَّعَدِّي عَلَيْهِ لَا لِغَيْرِهِ وَلَيْسَ فِي حِرْمَانِ الْإِرْثِ نَفْعٌ عَائِدٌ إلَى الْمَقْتُولِ الْمُتَعَدَّى عَلَيْهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ وَجَبَ جَزَاءً لِلَّهِ تَعَالَى زَاجِرًا عَنْ ارْتِكَابِ مَا حَرَّمَهُ كَالْحُدُودِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَجِبُ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى ضَرُورَةً وَمَعْنَى الْقُصُورِ فِيهِ أَنَّهُ عُقُوبَةٌ مَالِيَّةٌ لَا يَتَّصِلُ بِسَبَبِهِ أَلَمٌ بِظَاهِرِ بَدَنِهِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ وَكَذَا لَا يَلْحَقُهُ نُقْصَانٌ فِي مَالِهِ بَلْ يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ مِلْكٍ لَهُ فِي تَرِكَةِ الْمَقْتُولِ فَكَانَ عُقُوبَةً قَاصِرَةً. وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِكَوْنِ الْحِرْمَانِ عُقُوبَةً لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ حَتَّى لَوْ قَتَلَ مُوَرِّثَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً لَا يُحْرَمُ عَنْ الْمِيرَاثِ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يُحْرَمُ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَتْلِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا مِيرَاثَ لِقَاتِلٍ» وَالصَّبِيُّ مِثْلُ الْبَالِغِ فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَفْعَالِ وَمَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِيهِ غَيْرُ لَازِمٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْخَاطِئِ وَالْخَطَاءُ يَنْفِي الْعُقُوبَةَ كَالصَّبِيِّ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَمْكَنَ إيجَابُهُ عَلَى الصَّبِيِّ وَإِنْ عَقَلَ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِيهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا لُزُومَ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِيهِ فَالصِّبَا لَا يُنَافِي الْعُقُوبَةَ الْمَالِيَّةَ كَالْخَرَاجِ؛ لِأَنَّ مَالَهُ كَامِلٌ بِخِلَافِ الْعُقُوبَةِ الْبَدَنِيَّةِ؛ لِأَنَّ بَدَنَهُ نَاقِصٌ وَنَحْنُ نَقُولُ: الْحِرْمَانُ عُقُوبَةٌ ثَبَتَتْ جَزَاءً عَلَى ارْتِكَابِ الْقَتْلِ الْمَحْظُورِ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ كَمَا لَا يَثْبُتُ جَزَاءُ الشُّرْبِ وَالزِّنَا. وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْجَزَاءِ قَاصِرًا كَانَ أَوْ كَامِلًا يَسْتَدْعِي حَظْرَ الْإِحَالَةِ وَالْحَظْرُ يَثْبُتُ بِالْخِطَابِ وَلَا خِطَابَ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ فَلَا يُوصَفُ فِعْلُهُ بِالْحَظْرِ وَلَا بِالتَّقْصِيرِ أَصْلًا فَلَا يُمْكِنُ تَعْلِيقُ الْجَزَاءِ بِهِ بِخِلَافِ الْخَاطِئِ إذَا كَانَ بَالِغًا عَاقِلًا؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ إذْ الْخَطَأُ جَائِزُ الْمُؤَاخَذَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَقَعُ إلَّا عَنْ تَقْصِيرٍ مِنْهُ فَكَانَ الْخِطَابُ مُتَوَجِّهًا عَلَيْهِ فِي التَّثَبُّتِ فِيهِ وَالْغُرْمِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ تَعْلِيمًا {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] غَيْرَ أَنَّهُ تَعَالَى رَفَعَ حُكْمَ الْخَطَاءِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ تَفَضُّلًا مِنْهُ وَلَمْ يَرْفَعْ فِي الْقَتْلِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الدَّمِ فَعَلَّقَ بِهِ الدِّيَةَ وَالْكَفَّارَةَ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْجَزَاءُ الْقَاصِرُ وَهُوَ الْحِرْمَانُ لِلْقَصِيرِ فِي التَّثَبُّتِ كَمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْكَفَّارَةُ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَزَاءُ الْكَامِلُ وَهُوَ الْقِصَاصُ لِعُذْرِ الْخَطَاءِ فَأَمَّا الصِّبَا فَيُنَافِي الْخِطَابَ أَصْلًا لِقُصُورِ الْآلَةِ فَلَا يُوصَفُ فِعْلُ الصَّبِيِّ بِالتَّقْصِيرِ الْكَامِلِ وَالنَّاقِصِ فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ الْعُقُوبَةُ الْكَامِلَةُ وَالْقَاصِرَةُ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَا إذَا ارْتَدَّ الصَّبِيُّ حَيْثُ يُحْرَمُ عَنْ الْمِيرَاثِ مَعَ أَنَّهُ لَا تَعَاقُبَ عَلَى الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ الْحِرْمَانَ لَيْسَ بِجَزَاءِ الرِّدَّةِ فَإِنَّ الرِّدَّةَ تَبْدِيلُ الدِّينِ وَلَوْ أَسْلَمَ يُحْرَمُ عَنْ مِيرَاثِ أَبِيهِ الْكَافِرِ وَهُوَ تَبْدِيلٌ مَأْمُورٌ بِهِ وَلَوْ كَانَ جَزَاءً لَمْ يَثْبُتْ بِالْحَلَالِ فَعُرِفَ أَنَّ الْحِرْمَانَ بِسَبَبٍ آخَرَ تَحْتَ اخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ وَهُوَ انْقِطَاعُ الْوِلَايَةِ الثَّابِتَةِ بِالْقَرَابَةِ كَانْقِطَاعِهَا بِالرِّقِّ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ.

وَحَافِرُ الْبِئْرِ وَوَاضِعُ الْحَجَرِ وَالْقَائِدُ وَالسَّائِقُ وَالشَّاهِدُ إذَا رَجَعَ لَمْ يَلْزَمْهُمْ الْحِرْمَانُ؛ لِأَنَّهُ جَزَاءُ الْمُبَاشَرَةِ فَلَا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الشَّرْطِ أَبَدًا كَالْقِصَاصِ. . وَالْحُقُوقُ الدَّائِرَةُ هِيَ الْكَفَّارَةُ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي الْأَدَاءِ وَفِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ حَتَّى لَمْ يَجِبْ مُبْتَدَأَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــQوَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْأَوْزَاعِيُّ إلَى أَنَّ الْحِرْمَانَ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْخَاطِئِ إلَّا فِي الدِّيَةِ وَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِنْدَ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ لَا يَحْرُمُ مِنْ الدِّيَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ حِرْمَانَ الْمِيرَاثِ شُرِعَ عُقُوبَةً عَلَى قَصْدِهِ اسْتِعْجَالَ الْمِيرَاثِ قَبْلَ أَوَانِهِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْمُخْطِئِ فَإِنَّهُ قَصَدَ قَتْلَ الصَّيْدِ لَا قَتْلَ مُوَرِّثِهِ كَمَا لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ إلَّا أَنَّا لَمْ نُوَرِّثْهُ مِنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِ وَتَتَحَمَّلُ عَنْهُ الْعَاقِلَةُ فَلَوْ وَرَّثْنَاهُ مِنْهَا، لَكُنَّا أَوْجَبْنَا الدِّيَةَ عَلَيْهِ لَهُ وَهُوَ فَاسِدٌ، لَكِنَّ الْجَوَابَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ جَزَاءُ الْقَتْلِ الْمَحْظُورِ وَالْقَتْلُ مِنْ الْخَاطِئِ مَعَ أَنَّ الْخَطَأَ عُذْرٌ شَرْعًا مَحْظُورٌ وَلِهَذَا تَعَلَّقَ بِهِ الْكَفَّارَةُ وَهِيَ سَتَّارَةٌ لِلذَّنْبِ فَمَا جَازَ مَعَ كَوْنِ الْخَطَأِ عُذْرًا أَنْ يُؤَاخَذَ بِالْكَفَّارَةِ جَازَ أَنْ يُؤَاخَذَ بِحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ وَقَدْ تَأَيَّدَ مَا ذَكَرْنَا بِآثَارِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا رَمَى رَجُلًا بِحَجَرٍ فَأَصَابَ أُمَّهُ خَطَأً فَقَتَلَهَا فَغَرَّمَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الدِّيَةَ وَنَفَاهُ مِنْ الْمِيرَاثِ. وَقَالَ لِلْقَاتِلِ: إنَّمَا حَظُّك مِنْ مِيرَاثِهَا الْحَجْرُ وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ أَخَاهُ خَطَأً فَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مِيرَاثًا وَرُوِيَ أَنَّ عَرْفَجَةَ الْمُدْلِجِيَّ قَذَفَ ابْنَهُ بِالسَّيْفِ فَأَصَابَ رِجْلَيْهِ بِغَيْرِ قَصْدِهِ وَمَاتَ فَغَرَّمَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الدِّيَةَ مُغَلَّظَةً وَنَفَاهُ مِنْ مِيرَاثِهِ وَجَعَلَ مِيرَاثَهُ لِأُمِّهِ وَأَخِيهِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ خِلَافُ ذَلِكَ يَحِلُّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ قَوْلُهُ (وَحَافِرُ الْبِئْرِ) يَعْنِي إذَا حَصَلَ الْقَتْلُ بِمُبَاشَرَةِ الشَّرْطِ أَوْ بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ بِأَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَوَقَعَ فِيهَا مُوَرِّثُهُ فَهَلَكَ أَوْ وَضَعَ حَجَرًا عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَمَاتَ بِهِ مُوَرِّثَةُ أَوْ أَخْرَجَ ظُلَّةً أَوْ جُنَاحًا فَسَقَطَ عَلَى مُوَرِّثِهِ فَقَتَلَهُ أَوْ قَادَ دَابَّةً فَوَطِئَتْ مُوَرِّثَهُ فَمَاتَ أَوْ شَهِدَ عَلَى مُوَرَّثِهِ بِقَتْلٍ فَقُتِلَ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ شَهَادَةٍ لَا يَثْبُتُ الْحِرْمَانُ عِنْدَنَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَثْبُتُ؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ كَالْقَتْلِ خَطَأً وَلِهَذَا وَجَبَتْ فِيهِ الدِّيَةُ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقُلْنَا: الْحِرْمَانُ ثَبَتَ عُقُوبَةً عَلَى مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ الْمَحْظُورِ فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ «لَا مِيرَاثَ لِقَاتِلٍ» بَعْدَ صَاحِبِ الْبَقَرَةِ رَتَّبَ الْحُكْمَ عَلَى الْقَتْلِ وَهَذَا لَيْسَ بِقَتْلٍ بَلْ هُوَ مُبَاشَرَةُ شَرْطِ الْقَتْلِ أَوْ تَسْبِيبٌ لَهُ فَلَا يَسْتَقِيمُ إثْبَاتُ مَا شُرِعَ عُقُوبَةً فِي الْقَتْلِ فِيمَا دُونَهُ بِالْقِيَاسِ فَأَمَّا الدِّيَةُ فَلَمْ تَجِبْ بِطَرِيقِ الْجَزَاءِ إنَّمَا هِيَ بَدَلُ الْمَحَلِّ وَتَلَفُ الْمَحَلِّ بِالْمُبَاشَرَةِ وَالتَّسْبِيبِ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ فَلَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُهَا بِالتَّسْبِيبِ أَمَّا فِعْلُ الْمُسَبَّبِ فَلَيْسَ كَفِعْلِ الْمُبَاشِرِ فَلَا يُجَازَى بِمَا يُجَازَى بِهِ الْمُبَاشِرُ. أَلَا تَرَى أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلَا يَثْبُتُ الْحِرْمَانُ فِي حَقِّهِمْ، ثُمَّ قِيلَ: حَدُّ الْمُبَاشَرَةِ أَنْ يَتَّصِلَ فِعْلُ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِهِ وَيَحْدُثَ مِنْهُ التَّلَفُ كَمَا لَوْ جَرَحَهُ أَوْ ضَرَبَهُ فَمَاتَ وَحَدُّ التَّسْبِيبِ أَنْ يَتَّصِلَ أَثَرُ فِعْلِهِ بِغَيْرِهِ لَا حَقِيقَةُ فِعْلِهِ فَيَتْلَفُ بِهِ كَمَا فِي حَفْرِ الْبِئْرِ فَإِنَّ الْمُتَّصِلَ بِالْوَاقِعِ أَثَرُ فِعْلِهِ وَهُوَ الْعُمْقُ فَإِنَّهُ تَلِفَ بِهِ لَا حَقِيقَةً فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ اتَّصَلَتْ بِالْمَكَانِ لَا بِالْوَاقِعِ فَلَا يَجِبُ أَيْ جَزَاءُ الْمُبَاشَرَةِ وَهُوَ الْحِرْمَانُ عَلَى صَاحِبِ الشَّرْطِ كَحَفْرِ الْبِئْرِ وَلَا عَلَى صَاحِبِ السَّبَبِ أَيْضًا كَالْبَاقِينَ إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ لَمْ يَذْكُرْ صَاحِبَ السَّبَبِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ يُعْرَفُ مِنْ ذِكْرِ صَاحِبِ الشَّرْطِ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْحُكْمِ. قَوْلُهُ (وَالْحُقُوقُ الدَّائِرَةُ) يَعْنِي بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ هِيَ الْكَفَّارَاتُ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي الْأَدَاءِ يَعْنِي أَنَّهَا يَتَأَدَّى بِمَا هُوَ عِبَادَةٌ كَالصَّوْمِ وَالْإِعْتَاقِ وَالصَّدَقَةِ فَكَانَ فِي أَدَائِهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَدَاءَهَا يَجِبُ بِطَرِيقِ الْعِبَادَةِ فَإِنَّهَا تَجِبُ بِطَرِيقِ الْفَتْوَى وَيُؤْمَرُ مَنْ عَلَيْهِ بِالْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ

وَجِهَةُ الْعِبَادَةِ فِيهَا غَالِبَةٌ عِنْدَنَا وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ جَزَاءُ الْفِعْلِ حَتَّى رَاعَيْنَا فِيهَا صِفَةَ الْفِعْلِ فَلَمْ نُوجِبْ عَلَى قَاتِلِ الْعَمْدِ وَصَاحِبِ الْغَمُوسِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِشَيْءٍ مِنْ الْإِبَاحَةِ وَقُلْنَا: لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسَبِّبِ الَّذِي قُلْنَا وَلَا عَلَى الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْأَجْزِيَةِ وَالشَّافِعِيُّ جَعَلَهَا ضَمَانَ الْمُتْلَفِ وَذَلِكَ غَلَطٌ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ الدِّيَةِ وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَاتُ كُلُّهَا وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْكَافِرِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنْ تَسْتَوْفِيَ مِنْهُ خَبَرًا كَالْعِبَادَاتِ وَالشَّرْعُ لَمْ يُفَوِّضْ إلَى الْمُكَلَّفِ إقَامَةَ شَيْءٍ مِنْ الْعُقُوبَاتِ عَلَى نَفْسِهِ بَلْ هِيَ مُفَوَّضَةٌ إلَى الْأَئِمَّةِ وَتُسْتَوْفَى بِطَرِيقِ الْخَبَرِ فَكَانَ فِي أَدَائِهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ مَعَ أَنَّهَا تَتَأَدَّى بِمَا هُوَ مَحْضُ الْعِبَادَةِ وَفِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فَإِنَّهَا لَمْ تَجِبْ الْأَجْزِئَةُ عَلَى أَفْعَالٍ تُوجَدُ مِنْ الْعِبَادِ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ كَفَّارَاتٍ؛ لِأَنَّهَا سَتَّارَاتٌ لِلذُّنُوبِ وَلَمْ تَجِبْ مُبْتَدَأَةً كَمَا تَجِبُ الْعِبَادَةُ بَلْ تَتَوَقَّفُ عَلَى أَسْبَابٍ تُوجَدُ مِنْ الْعَبْدِ فِيهَا مَعْنَى الْحَظْرِ فِي الْأَصْلِ كَالْعُقُوبَاتِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ فِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فَإِنَّ الْعُقُوبَةَ هِيَ الَّتِي تَجِبُ جَزَاءً عَلَى ارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْمَأْثَمَ بِهِ وَجِهَةُ الْعِبَادَةِ فِيهَا أَيْ فِي الْكَفَّارَاتِ غَالِبَةٌ عِنْدَنَا بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى أَصْحَاب الْأَعْذَارِ مِثْلِ الْخَاطِئِ وَالنَّاسِي وَالْمُكْرَهِ وَكَذَا الْمُحْرِمُ إذَا اُضْطُرَّ إلَى الِاصْطِيَادِ لِمَخْمَصَةٍ أَصَابَتْهُ أَوْ إلَى حَلْقِ الرَّأْسِ لِأَذًى بِهِ مِنْ رَأْسِهِ جَازَ لَهُ الِاصْطِيَادُ وَالْحَلْقُ وَتَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَلَوْ كَانَتْ جِهَةُ الْعُقُوبَةِ فِيهَا غَالِبَةً لَامْتَنَعَ وُجُوبُهَا بِسَبَبِ الْعُذْرِ إذْ الْمَعْذُورُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ وَكَذَا لَوْ كَانَتْ مُسَاوِيَةً؛ لِأَنَّ جِهَةَ الْعِبَادَةِ إنْ لَمْ تَمْنَعْ الْوُجُوبَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمَعْذُورِينَ فَجِهَةُ الْعُقُوبَةِ تَمْنَعُ ذَلِكَ وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْوُجُوبِ فَلَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ بِالشَّكِّ. يَصِحُّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِجَانٍ فِي الْيَمِينِ وَلَا فِي الْحِنْثِ بِأَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الْكَافِرَ فَإِنَّهُ فِي الْيَمِينِ لَيْسَ بِجَانٍ؛ لِأَنَّ هِجْرَانَ الْكَافِرِ وَتَرْكَ التَّكَلُّمِ مَعَهُ أَمْرٌ حَسَنٌ فَإِذَا أَسْلَمَ هَذَا الْكَافِرُ فَكَلَّمَهُ حَنِثَ وَهُوَ فِي الْحِنْثِ غَيْرُ جَانٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هِجْرَانَ الْمُؤْمِنِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَمَعَ ذَلِكَ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ فَعَرَفْنَا أَنَّ جِهَةَ الْعِبَادَةِ فِيهَا رَاجِحَةٌ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جِهَةُ الْعُقُوبَةِ فِيهَا رَاجِحَةً عِنْدَ الشَّافِعِيِّ حَيْثُ أَوْجَبَهَا عَلَى قَاتِلِ الْعَمْدِ وَصَاحِبِ الْغَمُوسِ فَلِذَلِكَ قُيِّدَ بِقَوْلِهِ عِنْدَنَا وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ أَيْ الْكَفَّارَةُ مَعَ أَنَّ جِهَةَ الْعِبَادَةِ فِيهَا غَالِبَةٌ جَزَاءَ الْفِعْلِ يَعْنِي جِهَةَ الْعُقُوبَةِ مَعَ كَوْنِهَا مَغْلُوبَةً فِيهَا مُعْتَبَرَةٌ غَيْرُ مُهْدَرَةٍ أَيْضًا حَتَّى رَاعَيْنَا أَيْ فِي إيجَابِهَا صِفَةَ الْفِعْلِ الَّذِي وَجَبَتْ هِيَ جَزَاءً عَلَيْهِ مِنْ كَوْنِهِ دَائِرًا بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ كَالْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالْقَتْلُ بِصِفَةِ الْخَطَأِ فَلَمْ تُوجَبْ الْكَفَّارَةُ عَلَى قَاتِلِ الْعَمْدِ وَصَاحِبِ الْغَمُوسِ لِخُلُوِّ فِعْلِهِمَا عَنْ مَعْنَى الْإِبَاحَةِ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِمَا هُوَ عِبَادَةٌ. وَقُلْنَا: لَا تَجِبُ يَعْنِي كَفَّارَةَ الْقَتْلِ عَلَى الْمُسَبِّبِ الَّذِي قُلْنَا وَهُوَ حَافِرُ الْبِئْرِ وَوَاضِعُ الْحَجَرِ وَمَنْ بِمَعْنَاهُمَا وَلَا عَلَى الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْأَجْزِئَةِ فَتَقْتَضِي مُبَاشَرَةَ فِعْلٍ فِيهِ مَعْنَى الْحَظْرِ وَالْفِعْلُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمُسَبَّبِ أَصْلًا وَفِعْلُ الصَّبِيِّ لَا يُوصَفُ بِالْحَظْرِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَثْبُتُ بِالْخِطَابِ وَهُوَ مَعْدُومٌ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَعَلَهَا أَيْ كَفَّارَةَ الْقَتْلِ ضَمَانَ الْمُتْلَفِ كَالدِّيَةِ فَأَدَارَ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ عَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ وَالْقِصَاصِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي الْمَحَلِّ حَقَّيْنِ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ الِاسْتِعْبَادُ وَحَقَّ الْعَبْدِ فَيُجْبَرُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى بِالْكَفَّارَةِ كَمَا يُجْبَرُ حَقُّ الْعَبْدِ بِالدِّيَةِ وَلِهَذَا جَمَعَ الشَّارِعُ بَيْنَهُمَا فَقَالَ. {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وَهُوَ كَالصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ فِي الْحَرَمِ إذَا قَتَلَ تَجِبُ قِيمَةٌ لِمَالِكِهِ جَبْرًا لِحَقِّهِ وَقِيمَةٌ أُخْرَى لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ أَوْ الْمُبَاشَرَةِ وَتَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ كَالدِّيَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إلَى جَمِيعِ الْكَفَّارَاتِ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ عِبَارَةُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ قَالَ: وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هَذِهِ الْكَفَّارَاتُ وُجُوبُهَا بِطَرِيقِ الضَّمَانِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَجَبَتْ فِيهِ كَفَّارَةٌ حَقًّا ثَابِتًا لِصَاحِبِ الشَّرْعِ يَفُوتُ بِمُبَاشَرَةِ فِعْلٍ يُضَادُّهُ فَكَانَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ ضَمَانًا لِذَلِكَ الْحَقِّ الْفَائِتِ كَمَا أَنَّ وُجُوبَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ ضَمَانٌ لِنُقْصَانٍ تَمَكَّنَ فِي حَقِّهِ فِي الصَّلَاةِ.

مَا خَلَا كَفَّارَةَ الْفِطْرِ فَإِنَّهَا عُقُوبَةٌ وُجُوبًا وَعِبَادَةُ أَدَاءً حَتَّى سَقَطَ بِالشُّبْهَةِ عَلَى مِثَالِ الْحُدُودِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَذَلِكَ أَيْ جَعْلُهَا ضَمَانَ الْمُتْلِفِ غَلَطٌ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مَا أَوْجَبَ الضَّمَانَ عَلَى سَبِيلِ الْجَبْرِ إذْ النَّقْصُ لَا يَتَمَكَّنُ فِي حُقُوقِهِ مِنْ حَيْثُ يَسْتَدْعِي جَبْرًا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَلْحَقَهُ جَبْرٌ أَنْ يَقَعَ الْحَاجَةُ إلَى جَبْرِهِ، لَكِنَّ تَفْوِيتَ حَقِّهِ يُوجِبُ ضَمَانًا هُوَ جَزَاءٌ فَيَكُونُ بِمُقَابَلَةِ الْفِعْلِ لَا بِمُقَابَلَةِ الْمَحَلِّ. لِهَذَا تَعَدَّدَتْ الْكَفَّارَةُ بِتَعَدُّدِ الْأَفْعَالِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ كَالْجِنَايَةِ عَلَى الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ بِخِلَافِ الدِّيَةِ فَإِنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْمَحَلِّ بِطَرِيقِ الْجَبْرِ وَلِهَذَا وَجَبَتْ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ الْجِنَايَةُ كَمَا فِي صَيْدِ الْحَرَمِ وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَاتُ أَيْ وَمِثْلُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ سَائِرُ الْكَفَّارَاتِ فِي أَنَّ جِهَةَ الْعِبَادَةِ فِيهَا رَاجِحَةٌ وَلِهَذَا أَيْ وَلِرُجْحَانِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهَا لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى الْكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِوُجُوبِ الْعِبَادَةِ عَلَيْهِ وَهَذَا لَمْ يَصِحَّ ظِهَارُ الذِّمِّيِّ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِكَفَّارَةٍ صَارَتْ الْحُرْمَةُ فِي حَقِّهِ مُؤَبَّدَةً لَوْ صَحَّ ظِهَارُهُ وَهُوَ خِلَافُ مَشْرُوعِ الظِّهَارِ قَوْلُهُ (مَا خَلَا كَفَّارَةَ الْفِطْرِ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ وَجِهَةُ الْعِبَادَةِ فِيهَا غَالِبَةٌ وَأَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَاتُ كُلُّهَا يَعْنِي جِهَةُ الْعِبَادَةِ فِي الْكَفَّارَاتِ رَاجِحَةٌ عَلَى جِهَةِ الْعُقُوبَةِ مَا خَلَا كَفَّارَةَ الْفِطْرِ فَإِنَّ جِهَةَ الْعُقُوبَةِ فِيهَا رَاجِحَةٌ عَلَى جِهَةِ الْعِبَادَةِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي نَفْسِهَا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ صَالِحَةٌ لِلتَّكْفِيرِ بِهَا إذْ الْعِبَادَاتُ مَوْضُوعَةٌ لِمَحْوِ السَّيِّئَاتِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وَهِيَ بِآثَرِهَا صَالِحَةٌ لِلزَّجْرِ فَإِنَّ مَنْ دَعَتْهُ نَفْسُهُ إلَى الْإِفْطَارِ طَلَبًا لِلرَّاحَةِ وَدَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ، ثُمَّ تَأَمَّلَ أَنَّهُ لَوْ أَقْدَمَ عَلَيْهِ لَزِمَتْهُ هَذِهِ الْكَفَّارَةُ الْعَظِيمَةُ عَلَى وَجْهٍ لَوْ امْتَنَعَ عَنْ أَدَائِهَا يَرْتَهِنُ بِالنَّارِ إلَّا أَنْ يُتَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِالْعَفْوِ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَنْزَجِرُ عَنْهُ أَشَدَّ الِانْزِجَارِ فَكَانَتْ بِأَثَرِهَا صَالِحَةً أَنْ تَكُونَ زَاجِرَةً كَالْعُقُوبَاتِ الْمُعَجَّلَةِ وَهَذِهِ عِبَادَةٌ تَحْتَاجُ تَفْوِيتُهَا إلَى الزَّاجِرِ؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَهَا يَتَحَقَّقُ عَلَى وَجْهٍ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْمُفَوِّتِ اسْتِدْرَاكُهُ وَدَعْوَةُ الطَّبِيعَةِ إلَى الْجَنَابَةِ عَلَيْهَا بِالْإِفْطَارِ أَمْرٌ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ فَيَحْتَاجُ فِي صِيَانَتِهَا إلَى الزَّاجِرِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ صَالِحَةٌ لِلزَّجْرِ فَعَرَفْنَا أَنَّهَا شُرِعَتْ زَاجِرَةً عَنْ الْإِفْطَارِ كَمَا شُرِعَتْ مَاحِيَةً لِلْجَرِيمَةِ فَكَانَتْ بِوُجُودِهَا مُكَفِّرَةً لِلذَّنْبِ مَاحِيَةً لَهُ وَبِوُجُوبِهَا وَالْخَوْفِ عَنْ لُزُومِهَا زَاجِرَةٌ وَقَدْ تَرَجَّحَ مَعْنَى الزَّجْرِ فِيهَا عَلَى مَعْنَى التَّكْفِيرِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَسْقُطُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ تَحَقَّقَتْ فِيهِ شُبْهَةُ إبَاحَةٍ كَالْحُدُودِ فَإِنَّ مَنْ جَامَعَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ أَوْ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَابَتْ وَقَدْ تَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا الْإِفْطَارُ بِعُذْرِ الْمَرَضِ أَوْ السَّفَرِ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ وَإِنْ كَانَ بِالْجِمَاعِ فَلَمَّا سَقَطَتْ بِالشُّبْهَةِ عَرَفْنَا أَنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِالْعُقُوبَاتِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ فَإِنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ بَيْنَ مَحَلٍّ وَمَحَلٍّ بَلْ يَجِبُ فِي مَوْضِعٍ يُنْدَبُ إلَى تَحْصِيلِ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْكَفَّارَةُ تَعَلُّقَ الْأَحْكَامِ بِالْعِلَلِ كَالْعَوْدِ فِي بَابِ الظِّهَارِ أَوْ يَجِبُ تَحْصِيلُ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ تَعَلُّقَ الْأَحْكَامِ بِالشُّرُوطِ كَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ أَبَاهُ وَشَرَعَ الزَّاجِرُ فِيمَا يُنْدَبُ إلَى تَحْصِيلِهِ أَوْ يَجِبُ تَحْصِيلُهُ لَا يَلِيقُ بِالْحِكْمَةِ وَكَذَا تَعَلُّقُ الْكَفَّارَةِ بِمَا يَتَعَذَّرُ الِانْزِجَارُ عَنْهُ وَهُوَ الْخَطَأُ فِي بَابِ الْقَتْلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الزَّجْرِ فِيهَا غَيْرُ مَقْصُودٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ الَّذِي بِهِ يَحْصُلُ التَّكْفِيرُ مَقْصُودٌ وَمَعْنَى الزَّجْرِ وَالْعُقُوبَةِ تَابِعٌ وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ مَعْنَى الزَّجْرِ وَالْعُقُوبَةِ مَقْصُودٌ وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ تَابِعٌ يَزِيدُ بِمَا ذَكَرْنَا إيضَاحًا أَنَّ عِنْدَ عَدَمَ الْحَاجَةِ إلَى الزَّاجِرِ لَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ وَإِنْ تَحَقَّقَ الْمَأْثَمُ كَمَا فِي ابْتِلَاعِ الْحَصَاةِ أَوْ النَّوَاةِ وَالْإِفْطَارُ فِي غَيْرِ الشَّهْرِ فَإِنَّ الْمَأْثَمَ وَإِنْ اخْتَلَّ لَيْسَ بِمَعْدُومٍ وَمَا شُرِعَ مَاحِيًا لِنَوْعِ إثْمٍ يَبْقَى مَشْرُوعًا لِمَحْوِ مَا دُونَهُ وَإِنْ قَلَّ فِي نَفْسِهِ كَالْحَانِثِ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحِنْثُ وَكَذَا جَانِبُ الزَّجْرِ أَهَمُّ مِنْ جَانِبِ التَّكْفِيرِ فَإِنَّ.

وَقُلْنَا: تَسْقُطُ بِاعْتِرَاضِ الْحَيْضِ وَالْمَرَضِ وَتَسْقُطُ بِالسَّفَرِ الْحَادِثِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ إذَا اعْتَرَضَ الْفِطْرُ عَلَى السَّفَرِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّكْفِيرَ يَحْصُلُ بِالتَّوْبَةِ إذْ هِيَ مَاحِيَةٌ لِكُلِّ ذَنْبٍ وَلَا شَيْءَ يَقُومُ مَقَامَ الْكَفَّارَةِ فِي حَقِّ الزَّجْرِ مَعَ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الزَّجْرِ أَمَسُّ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ تَفْوِيتِ مَا لَا اسْتِدْرَاكَ لَهُ أَلْبَتَّةَ فَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَتُكَفِّرُ مَا لَوْ لَمْ تَكُنْ هِيَ لِكُفْرٍ بِالتَّوْبَةِ وَالنَّدَمِ أَوْ بِعَفْوِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ بِفَضْلِهِ أَوْ بِشَفَاعَةِ الْأَخْيَارِ مِنْ عِبَادِهِ فَثَبَتَ أَنَّ جَانِبَ الزَّجْرِ وَالْعُقُوبَةِ فِيهَا رَاجِحٌ وَأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ الْمُعَظَّمُ دُونَ الْعِبَادَةِ وَالتَّكْفِيرِ فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ فَإِنَّهَا عُقُوبَةٌ وُجُوبًا وَعِبَادَةٌ أَدَاءً مَعَ أَنَّ سَائِرَ الْكَفَّارَاتِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ أَنَّ وُجُوبَهَا بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ قَصْدًا وَإِنْ كَانَتْ عِبَادَةً مِنْ حَيْثُ الْأَدَاءُ حَتَّى سَقَطَ يَعْنِي هَذَا الْوَاجِبُ بِالشُّبْهَةِ عَلَى مِثَالِ الْحُدُودِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ فَإِنَّ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِيهَا تَابِعٌ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَةِ رَاجِحٌ بَلْ هِيَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ وَرُكْنُهَا الْإِعْتَاقُ وَالصِّيَامُ وَالْإِطْعَامُ كَمَا فِي سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ وَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الصَّوْمُ مَشْرُوعٌ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ أَنَّهُ لَوْ أَفْطَرَ بِجِمَاعِ الْأَهْلِ أَوْ بِطَعَامِ مَمْلُوكٍ لَهُ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَلَوْ كَانَتْ عُقُوبَةً تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ لَسَقَطَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ مُبِيحٌ لِلْجِمَاعِ وَمِلْكُ الطَّعَامِ مُبِيحٌ لِلْأَكْلِ فَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ الْإِبَاحَةُ الْحَالَّةُ ثَبَتَ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ فَتُوجِبُ السُّقُوطَ كَمَا لَوْ زَنَى بِجَارِيَتِهِ الَّتِي هِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ يَسْقُطُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا لِقِيَامِ الْمِلْكِ الَّذِي هُوَ مُبِيحٌ يُورِثُ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ وَلَمَّا لَمْ يَسْقُطْ عَرَفْنَا أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ قُلْنَا: قَدْ أَقَمْنَا الدَّلِيلَ عَلَى رُجْحَانِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَةِ وَبَيَّنَّا أَنَّهَا تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ بِالْإِجْمَاعِ مَعَ كَوْنِهَا عِبَادَةً فِي نَفْسِهَا فَلَا مَعْنَى لِلْمَنْعِ وَالِاسْتِبْعَادِ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ وَمَا ذُكِرَ أَنَّ الْإِفْطَارَ بِجِمَاعِ الْأَهْلِ وَالطَّعَامِ الْمَمْلُوكِ لَا يَصِيرُ شُبْهَةً غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هِيَ الشُّبْهَةُ الَّتِي تُورِثُ جِهَةَ إبَاحَةٍ فِيمَا هُوَ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ وَمِلْكُ الطَّعَامِ وَالْجِمَاعِ لَا يُورِثُ إبَاحَةً فِي إفْطَارِ صَوْمِ رَمَضَانَ بِوَجْهٍ كَمِنْ قَتَلَ غَيْرَهُ بِسَيْفٍ مَمْلُوكٍ لَهُ أَوْ شَرَّبَ خَمْرًا مَمْلُوكَةً لَهُ لَا يَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً تُؤَثِّرُ فِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ وَالْحَدِّ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمِلْكَ لَا يُؤَثِّرُ فِي إبَاحَةِ الْقَتْلِ وَالشُّرْبِ بِوَجْهٍ بِخِلَافِ وَطْءِ الْجَارِيَةِ الَّتِي هِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ؛ لِأَنَّ فِي الزِّنَا مَحَلَّ الْجِنَايَةِ مَنَافِعُ الْبُضْعِ وَالْمِلْكُ ثَابِتٌ فِي الْبُضْعِ فَيَصْلُحُ شُبْهَةً مُسْقِطَةً لِلْحَدِّ قَوْلُهُ (وَقُلْنَا يُسْقِطُ) أَيْ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ بِاعْتِرَاضِ الْحَيْضِ وَالْمَرَضِ إذَا جَامَعَ الصَّائِمُ الصَّائِمَةَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَمْدًا لَزِمَتْهُمَا الْكَفَّارَةُ فَحَاضَتْ الْمَرْأَةُ وَمَرِضَ الرَّجُلُ مَرَضًا يُبِيحُ الْإِفْطَارَ فِي آخِرِ النَّهَارِ سَقَطَتْ الْكَفَّارَةُ عَنْهُمَا عِنْدَنَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيُّ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْمَرْأَةِ لَا تَسْقُطُ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْكَفَّارَةِ وَهُوَ الْجِنَايَةُ الْكَامِلَةُ عَلَى الصَّوْمِ قَدْ تَمَّ فَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ دَيْنًا وَبِوُجُودِ الْعُذْرِ بَعْدَ الْفِطْرِ لَا يَخْتَلُّ مَعْنَى الْجِنَايَةِ فَيَبْقَى حُكْمُ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا كَانَ كَمَا لَوْ أَفْطَرَ، ثُمَّ سَافَرَ وَكَمَا لَوْ زَنَى بِامْرَأَةٍ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَنَحْنُ نَقُولُ هَذَا إفْطَارٌ عَنْ شُبْهَةٍ فَلَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ قِيَاسًا عَلَى مَنْ جَامَعَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ، ثُمَّ تَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ وَذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ وَالْمَرَضُ فِي آخِرِ النَّهَارِ يُزِيلُ اسْتِحْقَاقَ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ لَوْ كَانَ صَائِمًا وَزَوَالُ الِاسْتِحْقَاقِ لَا يَتَجَزَّأُ فَيَصِيرُ زَائِلًا مِنْ أَوَّلِهِ وَالْحَيْضُ يُعْدِمُ الصَّوْمَ مِنْ أَوَّلِهِ وَإِنْ وُجِدَ فِي آخِرِهِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَتَجَزَّأُ فِي الْيَوْمِ وَالْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ إلَّا بِالْفِطْرِ فِي صَوْمٍ مُسْتَحَقٍّ وَقَدْ تَحَقَّقَ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَا يُنَافِي الصَّوْمَ أَوْ مَا يُنَافِي

وَيَسْقُطُ بِشُبْهَةِ الْقَضَاءِ وَظَاهِرُ السُّنَّةِ فِيمَنْ أَبْصَرَ هِلَالَ رَمَضَانَ وَحْدَهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQصِفَةَ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْهُ فَتَمَكَّنَتْ شُبْهَةُ مُنَافَاةِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي أَوَّلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا سَافَرَ فِي آخِرِ النَّهَارِ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ لَا يُزِيلُ الِاسْتِحْقَاقَ فَإِنَّ الصَّائِمَ إذَا سَافَرَ لَا يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ فَلَا يَتَمَكَّنُ بِالسَّفَرِ فِي آخِرِ النَّهَارِ شُبْهَةً فِي أَوَّلِهِ وَلِأَنَّ السَّفَرَ فِعْلُهُ وَالْكَفَّارَةُ تَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا تَسْقُطُ بِفِعْلِ الْعَبْدِ بِاخْتِيَارِهِ بِخِلَافِ الْمَرَضِ وَالْحَيْضِ فَإِنَّهُمَا سَمَاوِيَّانِ لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهِمَا فَإِذَا كَانَا مِنْ قِبَلِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ بِهِمَا الْكَفَّارَةُ حَتَّى لَوْ أُكْرِهَ السُّلْطَانُ عَلَى السَّفَرِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ لَا صُنْعَ لَهُ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا تَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ صُنْعِ الْعِبَادِ وَلَيْسَ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَتَسْقُطُ بِالسَّفَرِ الْحَادِثِ إذَا أَصْبَحَ الْمُقِيمُ صَائِمًا فِي رَمَضَانَ، ثُمَّ سَافَرَ لَا يُبَاحُ لَهُ الْإِفْطَارُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِالِاتِّفَاقِ فَإِنْ أَفْطَرَ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا خُرُوجٌ لَا يُبِيحُ لَهُ الْإِفْطَارَ فَلَا يَصِيرُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ كَالْخُرُوجِ إلَى مَا دُونَ السَّفَرِ وَإِنَّا نَقُولُ: السَّفَرُ مُبِيحٌ فِي نَفْسِهِ لِلْإِفْطَارِ بِالنَّصِّ إلَّا أَنَّا لَمْ نَعْمَلْ بِهِ لِدَلِيلٍ آخَرَ أَوْلَى مِنْهُ وَهُوَ الْإِقَامَةُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَإِنَّهَا تَقْتَضِي وُجُوبَ الصَّوْمِ وَأَنَّهُ مِمَّا لَا يَتَجَزَّأُ ثُبُوتُهُ فَكَانَ الْعَمَلُ مِمَّا يُوجِبُهُ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِمَا يُسْقِطُهُ احْتِيَاطًا فَبَقِيَ السَّفَرُ الْمُبِيحُ فِي نَفْسِهِ مُؤَثِّرًا فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ فَيَسْقُطُ بِهِ الْكَفَّارَةُ بِخِلَافِ الْخُرُوجِ إلَى مَا دُونَ السَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُبِيحٍ فِي نَفْسِهِ فَلَا يُورِثُ شُبْهَةً كَمَا بَيَّنَّا قَوْلُهُ (وَتَسْقُطُ بِشُبْهَةِ الْقَضَاءِ) إلَى آخِرِهِ إذَا رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ وَحْدَهُ وَالسَّمَاءُ مُصْحِيَةٌ أَوْ مُتَغَيِّمَةٌ فَشَهِدَ عِنْدَ الْإِمَامِ فَرَدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ لِتَفَرُّدِهِ أَوْ لِفِسْقِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ إلَّا عَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ عَمَلًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ» وَهَذَا لَيْسَ بِيَوْمِ الصَّوْمِ فِي حَقِّ الْجَمَاعَةِ فَكَذَا فِي حَقِّ الْوَاحِدِ وَتَمَسَّكَ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» وَأَنَّهُ قَدْ رَأَى الْهِلَالَ حَقِيقَةً فَلَزِمَهُ الصَّوْمُ، ثُمَّ وُجُوبُ الصَّوْمِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْحُكْمُ وَقَدْ كَانَ لَزِمَهُ الصَّوْمُ قَبْلَ أَنْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ فَإِنْ أَفْطَرَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا إذَا أَفْطَرَ بِالْجِمَاعِ فَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عِنْدَ الْإِمَامِ وَشَرَعَ فِي الصَّوْمِ، ثُمَّ أَفْطَرَ فَقَدْ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ لِاخْتِلَافِ الطَّرِيقِ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ هَذَا الْيَوْمِ مِنْ رَمَضَانَ حَصَلَ قَطْعًا لِوُجُودِ دَلِيلِهِ وَهُوَ الرُّؤْيَةُ حَقِيقَةً إذْ لَا دَلِيلَ فَوْقَ الْعِيَانِ وَلِهَذَا كَانَ مُخَاطَبًا بِالْأَدَاءِ آثِمًا بِالتَّرْكِ فَتَكَامَلَ بِالْإِفْطَارِ فِيهِ مَعْنَى الْجِنَايَةِ وَلَمْ يَصِرْ جَهْلُ غَيْرِهِ بِكَوْنِهِ مِنْ رَمَضَانَ شُبْهَةً فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْجَهْلِ لَا يَعْدُو مَحَلَّهُ وَلَا يُؤَثِّرُ فِي يَقِينِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ جَمَاعَةً لَوْ شَرِبُوا الْخَمْرَ عَلَى مَائِدَةٍ وَعَلِمَ بِهِ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْعَالِمِ وَجَهْلُ الْجَاهِلِ لَا يُورِثُ شُبْهَةً فِي حَقِّهِ وَكَذَا لَوْ زُفَّتْ إلَى رَجُلٍ غَيْرُ امْرَأَتِهِ فَوَطِئَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ غَيْرُهُ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ وَلَمْ يَصِرْ جَهْلُ غَيْرِهِ شُبْهَةً فِي حَقِّهِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحَدَّ أَسْرَعُ سُقُوطًا مِنْ الْكَفَّارَةِ وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّهُ أَفْطَرَ عَنْ شُبْهَةٍ فَلَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ كَمَا بَيَّنَّا وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحَقُّقِ الشُّبْهَةِ شَيْئَانِ أَشَارَ إلَيْهِمَا الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ: أَحَدُهُمَا الْقَضَاءُ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا قَضَى بِرَدِّ شَهَادَتِهِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ تُهْمَةُ الْكَذِبِ أَوْ الْغَلَطِ فَإِنَّ تَفَرُّدَهُ بِالرُّؤْيَةِ مَعَ اسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي النَّظَرِ وَالْمَنْظَرِ يُوجِبُ ذَلِكَ أَوْرَثَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي رُؤْيَتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَضَاءٌ بِأَنَّهُ كَاذِبٌ أَوْ غَالِطٌ وَأَنَّ هَذَا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQالْيَوْمَ مِنْ شَعْبَانَ وَلَوْ كَانَ حُكْمُهُ هَذَا حَقًّا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لَكَانَ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ فَإِذَا كَانَ نَافِذًا ظَاهِرًا يُورِثُ شُبْهَةَ إبَاحَةٍ فَتَسْقُطُ بِهِ الْكَفَّارَةُ فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْقَضَاءَ مَوْجُودٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْعِبَادَاتِ وَهِيَ مِمَّا يُفْتَى فِيهِ وَلَا يُقْضَى بِهِ وَلَوْ أَفْتَاهُ مُفْتٍ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ مِنْ شَعْبَانَ لَمْ تَصِرْ فَتْوَاهُ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ عَنْهُ كَذَا هَذَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِشَيْءٍ بَلْ يَمْتَنِعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَمِنْ الْقَضَاءِ بِهَا وَالِامْتِنَاعُ مِنْ الْقَضَاءِ وَعَدَمُ الِالْتِفَاتِ إلَى الشَّهَادَةِ لَا يَكُونُ قَضَاءً وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ قَضَاءٌ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَصِيرُ شُبْهَةً فِي حَقِّ هَذَا الرَّجُلِ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ الْقَاضِيَ مُخْطِئٌ فِي قَضَائِهِ وَأَنَّ قَضَاءَهُ بَاطِلٌ كَمَا إذَا رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْ شُهُودِ الزِّنَا بَعْدَمَا رُجِمَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ حَدُّ الْقَذْفِ وَقَضَاءُ الْقَاضِي بِكَوْنِ الرَّجُلِ رَائِيًا قَائِمٌ وَلَمْ يَصِرْ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِهِ أَنَّ قَضَاءَهُ بَاطِلٌ قُلْنَا هَذَا مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ إنْ ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي صِدْقُ الشَّاهِدِ بِأَنْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُتَغَيِّمَةً فَشَهِدَ وَحْدَهُ أَوْ جَاءَ مِنْ بَعْضِ الْقُرَى وَهُوَ عَدْلٌ يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ بِشَهَادَتِهِ وَيَصِيرَ الْيَوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ حَتَّى يَلْزَمَهُمْ الصَّوْمُ وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ الْكَفَّارَةُ بِالْإِفْطَارِ وَتَحِلُّ آجَالُ الدُّيُونِ وَيَنْزِلُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ الْمُعَلَّقَانِ بِمَجِيءِ رَمَضَانَ فَإِنْ اتَّهَمَهُ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ وَيَبْقَى الْيَوْمُ مِنْ شَعْبَانَ فَثَبَتَ أَنَّهُ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقَضَاءِ. وَقَوْلُهُ: الِامْتِنَاعُ مِنْ الْقَضَاءِ لَا يَكُونُ قَضَاءً غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْقَاضِي مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ لِتُهْمَةٍ دَخَلَتْ فِي الشَّهَادَةِ قَضَاءٌ يَرُدُّ الشَّهَادَةَ كَالْفَاسِقِ إذَا شَهِدَ فَلَمْ يَقْبَلْ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ فَأَعَادَهَا بَعْدَ التَّوْبَةِ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا رُدَّتْ مَرَّةً كَانَ ذَلِكَ قَضَاءً بِبُطْلَانِهَا كَذَا هَاهُنَا وَقَوْلُهُ لَا يَصِيرُ الْقَضَاءُ شُبْهَةً فِي حَقِّهِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ حُجَّةٌ مِنْ حُجَجِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ نَائِبُ الشَّرْعِ فِيمَا يَقْضِي وَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ إذَا أَخْطَأَ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ حُجَجِهِ فَيَصْلُحُ شُبْهَةً وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْمُولًا بِهِ وَزَعَمَهُ أَنَّهُ خَطَأٌ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ شُبْهَةً كَمَا إذَا شَهِدُوا بِالْقِصَاصِ عَلَى رَجُلٍ فَقَضَى الْقَاضِي بِهِ فَقَبِلَهُ الْوَلِيُّ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الشُّهُودَ كَذَبَةٌ، ثُمَّ جَاءَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْوَلِيِّ عِنْدَنَا لِلشُّبْهَةِ الثَّابِتَةِ بِالْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِدَلِيلٍ ظَاهِرٍ أَوْجَبَ الشَّرْعُ الْعَمَلَ بِهِ فَأَوْجَبَ الشُّبْهَةَ فِي حَقِّ الْوَلِيِّ وَإِنْ كَانَ عِنْده أَنَّهُ مُخْطِئٌ بِيَقِينٍ فَأَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الرُّجُوعِ فَلَمْ يَجْعَلْ الْقَضَاءَ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ حَدِّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ لَمَّا رَجَعَ انْفَسَخَ الْقَضَاءُ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُ قَدْ انْفَسَخَتْ وَالْقَضَاءُ مَبْنِيٌّ عَلَيْهَا وَالْقَضَاءُ الْمَفْسُوخُ لَا يَصْلُحُ شُبْهَةً كَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً، ثُمَّ فُسِخَ الْبَيْعُ، ثُمَّ زَنَى بِهَا يُحَدُّ وَلَا يَصِيرُ الْبَيْعُ السَّابِقُ شُبْهَةً وَهَاهُنَا لَمْ يَنْفَسِخْ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ دَلِيلَهُ وَهُوَ التَّفَرُّدُ بِالرُّؤْيَةِ قَائِمٌ فَيَصْلُحُ شُبْهَةً. أَلَا تَرَى أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الرُّجُوعِ لَوْ قَذَفَهُ رَجُلٌ آخَرُ لَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّ الرَّاجِعَ لَا يُصَدَّقُ عَلَى غَيْرِهِ فَيَكُونُ الْقَضَاءُ بَاقِيًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ بِبَقَاءِ الشَّهَادَةِ فَيَصِيرُ قَاذِفَ زَانٍ فَلَا يُحَدُّ فَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ لَوْ أَفْطَرَ قَبْلَ الرَّفْعِ إلَى الْقَاضِي يَجِبُ الْكَفَّارَةُ وَذَكَرَ فِي طَرِيقَةِ الصَّدْرِ الْحَجَّاجِ قُطْبِ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَوْ لَمْ يَشْهَدْ عِنْدَ الْقَاضِي فَأَفْطَرَ إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْبَلُ شَهَادَتَهُ قَالُوا: يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ شَهَادَتَهُ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ. وَالثَّانِي ظَاهِرُ السُّنَّةِ وَهِيَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ فِيهِ وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ» أَيْ وَقْتُ صَوْمِكُمْ الْمَفْرُوضِ يَوْمَ تَصُومُونَ فِيهِ جَمِيعًا فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّ يَوْمَ الصَّوْمِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ مَا يَصُومُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ لَكِنْ عَارَضَهُ قَوْلُهُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQ- عَلَيْهِ السَّلَامُ - «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ» وَأَنَّهُ قَدْ رَأَى أَيْ الْهِلَالَ فَيَقْتَضِي أَنْ يَلْزَمَهُ الصَّوْمُ فَعَمِلْنَا بِمُوجَبِ هَذَا الْخَبَرِ وَأَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الصَّوْمَ احْتِيَاطًا وَبَقِيَ ظَاهِرُ النَّصِّ الْأَوَّلِ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّهَا مِمَّا يُحْتَالُ لِدَرْئِهِ كَمَا بَقِيَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْ الْأَبِ بِوَطْئِهِ جَارِيَةَ ابْنِهِ وَسَرِقَةِ مَالِهِ وَإِنْ كَانَ الْمَعْمُولُ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الرَّجُلُ أَحَقُّ بِمَالِهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» وَإِنَّمَا لَمْ يَصِرْ ذَلِكَ الْحَدِيثُ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْ الْأَبِ إذَا زَنَى بِابْنَتِهِ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ حُرَّةٌ لَيْسَتْ بِمَحَلِّ الْمِلْكِ فَلَمْ يَكُنْ الْإِضَافَةُ لِلتَّمْلِيكِ لِعَدَمِ قَبُولِ الْمَحَلِّ ذَلِكَ بَلْ كَانَتْ إضَافَةَ كَرَامَةٍ وَنَسَبٍ فَلَا يُوجِبُ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ. 1 - وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْأَبِ إذَا قَتَلَ وَلَدَهُ فَلَيْسَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ أَوْجَبَ حَقًّا أَوْ شُبْهَةً فِي النَّفْسِ وَلَكِنْ إنَّمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الِابْنَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِأَبِيهِ بِمَا يُوجِبُ إتْلَافَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ سَبَبَ وُجُودِهِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّعَرُّضُ لِإِتْلَافِهِ وَإِعْدَامِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَتَلَ الْأَبُ إنْسَانًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، ثُمَّ وَرِثَ ابْنُهُ الْقِصَاصَ سَقَطَ لِمَا قُلْنَا وَلَمْ يَصِرْ هَذَا الْحَدِيثُ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَلَا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ» ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِمَعْرِفَةِ التَّارِيخِ وَلَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ، لَكِنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ مِمَّا يُحْتَاطُ فِيهِ فَعِنْدَ قِيَامِ الْمُعَارَضَةِ عَمِلْنَا بِالدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِلصَّوْمِ احْتِيَاطًا وَبِالدَّلِيلِ الْمُسْقِطِ لِلْكَفَّارَةِ احْتِيَاطًا أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ يُحْتَاطُ فِي دَرْئِهَا وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] فَلَمْ يَصِرْ شُبْهَةً مُسْقِطَةً لِلْقِصَاصِ عَمَّنْ قَتَلَ مُشْرِكًا ذِمِّيًّا مَعَ أَنَّ ظَاهِرَهُ يُوجِبُ إبَاحَةَ قَتْلِ الْمُشْرِكِ؛ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ قَدْ انْتَهَتْ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ وَانْتَسَخَتْ فَلَمْ تَبْقَ أَصْلًا وَهَاهُنَا بِخِلَافِهِ وَلِأَنَّ الْمُشْرِكَ صَارَ مَجَازًا لِلْمُحَارِبِ كَأَنَّهُ قِيلَ: اُقْتُلُوا الْمُحَارِبِينَ وَاللَّفْظُ مَتَى صَارَ مَجَازًا لَمْ يَبْقَ حَقِيقَةً أَصْلًا وَلَا أَوْرَثَ شُبْهَةً فِي مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّهُ انْتَقَلَ عَنْ مَحَلِّهِ بِيَقِينِ حَيْثُ صَارَ مَجَازًا وَلَوْ بَقِيَ فِي مَحَلِّهِ لَمَا انْتَقَلَتْ مَجَازًا وَهَذَا الطَّرِيقُ يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَمَا إذَا أَفْطَرَ بَعْدَ الْقَضَاءِ وَقَبْلَهُ فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ» مُتَعَرِّضٌ لِوُجُودِ الصَّوْمِ دُونَ الْوَقْتِ فَإِنَّ الصَّوْمَ اسْمٌ لِلْعِبَادَةِ الْمَعْهُودَةِ دُونَ الْوَقْتِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: وُجُودُ صَوْمِكُمْ فِي الْيَوْمِ الَّذِي تَصُومُونَ فِيهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَرْوِيٌّ بِنَصَبِ الْمِيمِ مِنْ يَوْمٍ عَلَى الظَّرْفِ وَالْيَوْمُ يَكُونُ ظَرْفًا لِلْفِعْلِ وَهُوَ الصَّوْمُ دُونَ الْوَقْتِ وَإِذَا كَانَ الْخَبَرُ بَيَانًا لِوُجُودِ الصَّوْمِ لَا لِلْوَقْتِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الصَّوْمُ لَا يَكُونُ مُعَارِضًا لِلْحَدِيثِ الْآخَرِ فَلَا يَصْلُحُ شُبْهَةً قُلْنَا: حَمْلُهُ عَلَيْهِ يُؤَدِّي إلَى إلْغَاءِ كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَإِخْلَائِهِ عَنْ الْفَائِدَةِ إذْ لَا يَخْفَى عَلَى مَجْنُونٍ فَضْلًا عَنْ الْعَاقِلِ أَنَّ وُجُودَ الصَّوْمِ يَوْمَ يُوجَدُ فِيهِ وَهَلْ يَلِيقُ بِعَاقِلٍ أَنْ يَقُولَ ذَهَابُك عَنْ الْبَلْدَةِ يَوْمَ تَذْهَبُ وَانْتِصَابُ الْيَوْمِ لَيْسَ بِطَرِيقِ الظَّرْفِ بَلْ الزَّمَانُ فَارَقَ جَمِيعَ أَجْنَاسِ الْأَسْمَاءِ فِي صِحَّةِ إضَافَتِهِ إلَى الْأَفْعَالِ وَامْتِنَاعِ إضَافَةِ غَيْرِهِ إلَى الْأَفْعَالِ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ أُضِيفَ إلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي فَاخْتِيَارُ الْجُمْهُورِ مِنْ أَهْلِ النَّحْوِ أَنْ يُبْنَى عَلَى الْفَتْحَةِ وَيَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُعْرَبًا لِاتِّحَادِهِ بِمَا لَيْسَ بِمُعْرَبٍ فِي نَفْسِهِ إذْ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إلَيْهِ نَوْعُ اتِّحَادٍ وَإِنْ أُضِيفَ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَالْمُتَكَلِّمُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْرَبَهُ لِكَوْنِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ مُعْرَبًا فِي نَفْسِهِ وَإِنْ شَاءَ بَنَاهُ لِاتِّحَادِهِ بِالْفِعْلِ وَالِاسْمُ يُبْنَى لِشَبَهِهِ بِالْفِعْلِ إذَا تَأَكَّدَتْ الْمُشَابَهَةُ فَلَأَنْ يُبْنَى عِنْدَ اتِّحَادِهِ بِهِ أَوْلَى هَذَا التَّخْيِيرُ ظَاهِرٌ لِلْمُتَكَلِّمِ وَإِنْ كَانَتْ الْعَرَبُ تُؤْثِرُ الْإِعْرَابَ لِذِي الْإِضَافَةِ إلَى

لِشُبْهَةٍ فِي الرُّؤْيَةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ أَلْحَقَهَا بِسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ إلَّا أَنَّا أَثْبَتْنَا مَا قُلْنَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ «مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ» وَلِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى الْخَاطِئِ وَلِأَنَّا وَجَدْنَا الصَّوْمَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا تَدْعُو الطِّبَاعُ إلَى الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُسْتَقْبَلِ عَلَى الْبِنَاءِ وَتُؤْثِرُ الْبِنَاءَ عَلَى الْإِعْرَابِ لِذِي الْإِضَافَةِ إلَى الْمَاضِي عَلَى مَا رَوَى الْفَرَّاءُ عَنْ الْكِسَائِيّ عَنْ الْعَرَبِ، وَلَكِنَّ الْبِنَاءَ فِي الْأَوَّلِ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ وَالْإِعْرَابُ فِي الثَّانِي عِنْدَ الْكِسَائِيّ فَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ إنْ كَانَتْ الرِّوَايَةُ بِالنَّصْبِ فَوَرَدَتْ عَلَى طَرِيقِ الْبِنَاءِ لَا أَنَّ الْمِيمَ انْتَصَبَتْ لِكَوْنِ الْيَوْمِ ظَرْفًا تَحَقَّقَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ صَوْمَ هَذَا الْيَوْمِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ لَمْ يَبْقَ فَرْضًا حَتَّى إنَّ مُنْكِرَهُ لَا يُضَلَّلُ وَلَوْ كَانَ الْحَدِيثُ بَيَانًا لِوُجُودِ الصَّوْمِ لَا لِوَقْتِ الْوُجُوبِ بَقِيَ الصَّوْمُ بِقَضِيَّةِ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] فَرْضًا وَلَضُلِّلَ جَاحِدُهُ وَلَمَّا لَمْ يُضَلَّلْ دَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ بَيَانُ وَقْتِ الصَّوْمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي طَرِيقَتِهِ وَهَذَا مَيْلٌ مِنْهُ إلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ فَإِنَّ عِنْدَهُمْ يَجُوزُ بِنَاءُ الظَّرْفِ عَلَى الْفَتْحِ بِالْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِ الْفِعْلِ وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ إنَّمَا يُبْنَى الظَّرْفُ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْفِعْلِ إذَا كَانَ الْفِعْلُ مَبْنِيًّا فَأَمَّا إذَا كَانَ مُعْرَبًا فَلَا يُبْنَى الظَّرْفُ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ فَيَكُونُ انْتِصَابُ يَوْمٍ عِنْدَهُمْ عَلَى الظَّرْفِ بِعَامِلٍ مُضْمِرٍ هُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَالتَّقْدِيرُ وَقْتُ صَوْمِكُمْ وَاقِعٌ أَوْ ثَابِتٌ يَوْمَ تَصُومُونَ فِيهِ جَمِيعًا وَقَوْلُهُ لِشُبْهَةٍ فِي الرُّؤْيَةِ مُتَعَلِّقٌ بِشُبْهَةِ الْقَضَاءِ يَعْنِي لَمَّا قَضَى الْقَاضِي بِرَدِّ شَهَادَتِهِ أَوْجَبَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي رُؤْيَتِهِ وَهِيَ احْتِمَالُ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي الرُّؤْيَةِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَمَّا قَالَ الْخَصْمُ إنَّهُ رَأَى الْهِلَالَ حَقِيقَةً وَثَبَتَ فِي حَقِّهِ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ فَطَعَنَ الْقَاضِي فِي رُؤْيَتِهِ وَجَهْلُ سَائِرِ النَّاسِ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي حَقِّهِ كَمَا فِي مَسْأَلَتَيْ الْخَمْرِ وَالزِّفَافِ مَعَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ تَلْزَمُهُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى صَوْمِ نَفْسِهِ لَا بِالْجِنَايَةِ عَلَى صَوْمِ غَيْرِهِ فَيَعْتَبِرُ مَا عِنْدَهُ لَا مَا عِنْدَ غَيْرِهِ فَلَا يَصِيرُ الْقَضَاءُ شُبْهَةً فَقَالَ: بِالْقَضَاءِ يَتَحَقَّقُ شُبْهَةٌ فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنَّ بُعْدَ الْمَسَافَةِ وَدِقَّةَ الْمَرْئِيِّ وَعَدَمَ رُؤْيَةِ سَائِرِ النَّاسِ تُوجِبُ شُبْهَةَ التَّخَيُّلِ وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُ هَذَا التَّخَيُّلِ أَصْلًا وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ فِي زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَظَهَرَ مِنْ بَعْدُ أَنَّهُ كَانَ تَخَيُّلًا مِنْ الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ رَأَى وَلِهَذَا إذَا شُكِّكَ يَتَشَكَّكُ وَالْإِنْسَانُ لَا يَتَشَكَّكُ فِيمَا عَايَنَهُ، لَكِنَّ الشَّرْعَ أَعْرَضَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ لَا تُقَاوِمُ الْحَقِيقَةَ وَقَدْ تَعَذَّرَ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا فَسَقَطَ اعْتِبَارُهَا فَإِذَا رَدَّ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ فَقَدْ اُعْتُبِرَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ فَتُؤَثِّرُ فِيمَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ بِخِلَافِ مَسْأَلَتَيْ الْخَمْرِ وَالزِّفَافِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ فِيهِمَا غَيْرُ مُشْتَبَهٍ وَلَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَعْرِفَ الْبَعْضُ الْخَمْرَ وَلَا يَعْرِفَهَا الْبَعْضُ لِعَدَمِ التَّجْزِئَةِ وَأَنْ يَعْرِفَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَلَا يَعْرِفُهَا غَيْرُهُ لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ وَالْمُمَارَسَةِ فَلَا يُؤَثِّرُ جَهْلُ الْغَيْرِ فِي عِلْمِهِ فَأَمَّا هَاهُنَا فَالْكُلُّ سَوَاءٌ فِي دَلِيلِ الْمَعْرِفَةِ وَتَفَرُّدُهُ يُوجِبُ خَلَلًا فِي الرُّؤْيَةِ فَإِذَا اعْتَبَرَهُ الْحَاكِمُ يَصْلُحُ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ. وَقَوْلُهُ: خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ يَتَّصِلُ بِقَوْلِهِ مَا خَلَا كَفَّارَةَ الْفِطْرِ فَإِنَّهَا عُقُوبَةٌ وُجُوبًا أَيْ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِيهَا رَاجِحٌ حَتَّى سَقَطَتْ بِالشُّبْهَةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ أَلْحَقَ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ بِسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ فِي أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ وَأَنَّهَا ضَمَانُ مَا تَلِفَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِجِنَايَتِهِ إلَّا أَنَّا أَيْ لَكِنَّا أَثْبَتْنَا مَا قُلْنَا مِنْ تَرْجِيحِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِيهَا اسْتِدْلَالًا بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ «مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ» قَيَّدَ الْإِفْطَارَ بِصِفَةِ التَّعَمُّدِ الَّذِي بِهِ يَتَكَامَلُ مَعْنَى الْجِنَايَةِ، ثُمَّ رَتَّبَ وُجُودَ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ

فَاسْتَدْعَى زَاجِرًا لَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ حَقًّا مُسَلَّمًا تَامًّا صَارَ قَاصِرًا فَأَوْجَبْنَاهُ بِالْوَصْفَيْنِ وَقَدْ وَجَدْنَا مَا يَجِبُ عُقُوبَةً وَيُسْتَوْفَى عِبَادَةً كَالْحُدُودِ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ السُّلْطَانِ عِبَادَةٌ وَلَمْ نَجِدْ مَا يُوجِبُ عِبَادَةً وَيُسْتَوْفَى عُقُوبَةً فَصَارَ الْأَوَّلُ أَوْلَى وَلِهَذَا قُلْنَا بِتَدَاخُلِ الْكَفَّارَاتِ فِي الْفِطْرِ وَحُقُوقُ الْعِبَادِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى. ـــــــــــــــــــــــــــــQوُجُوبَهَا يَسْتَدْعِي جِنَايَةً كَامِلَةً وَأَنَّ وُجُوبَهَا بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ إذْ الْجِنَايَةُ الْكَامِلَةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ الْوَاجِبُ عَلَيْهَا عُقُوبَةً وَكَذَا الْإِجْمَاعُ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا تَسْقُطُ بِعُذْرِ الِاشْتِبَاهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا عُلِمَ أَنَّ صِفَةَ التَّعَمُّدِ شَرْطٌ لِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ كَمَا فِي الْقَتْلِ لِإِيجَابِ الْقَوَدِ وَأَنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِالْعُقُوبَاتِ وَكَانَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَرَادَ بِالْخَاطِئِ فِي قَوْلِهِ وَلِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى الْخَاطِئِ الَّذِي جَامَعَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ أَوْ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ؛ لِأَنَّهُ خَاطِئٌ فِي هَذَا الظَّنِّ فَيَصِحُّ الِاسْتِدْلَال فَأَمَّا لَوْ أَرَادَ بِهِ الْخَاطِئَ الَّذِي سَبَقَ الْمَاءُ أَوْ الطَّعَامُ حَلْقَهُ فِي الْمَضْمَضَةِ أَوْ الْمَضْغِ لِلصَّبِيِّ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ فَلَا يَخْلُوا الِاسْتِدْلَال بِهِ عَنْ نَوْعِ ضَعْفٍ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْخَصْمِ لَا يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ فَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ لِيَمْتَنِعَ بِسَبَبِ الْخَطَأِ. أَلَا تَرَى أَنَّ صَوْمَهُ لَوْ فَسَدَ بِأَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ عَمْدًا لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَهُ فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَفْسُدْ وَإِذَا كَانَ امْتِنَاعُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لِعَدَمِ الْفَسَادِ لَا لِلْخَطَأِ لَا يَتِمُّ الْإِلْزَامُ بِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْخَصْمِ إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَكَذَا الْمَعْقُولُ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّا وَجَدْنَا الصَّوْمَ حَقًّا خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى تَدْعُو الطِّبَاعُ الْجِنَايَةَ عَلَيْهِ وَقَدْ ظَهَرَ فِي الشَّرْعِ أَثَرُ صِيَانَةِ هَذَا الْحَقِّ عَلَى الْعِبَادِ بِتَجْوِيزِهِ بِنِيَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ مَعَ وُجُودِ مَا طَرَأَ عَلَيْهَا وَأَثَّرَ فِيهَا بِالْإِعْدَامِ وَجَعَلَ الرُّكْنَ الْمَعْدُومَ مَوْجُودًا فِي حَقِّ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ فَاسْتَدْعَى زَاجِرًا يَمْنَعُ الْمُكَلَّفَ عَنْ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ وَيَبْقَى هُوَ مَصُونًا بِهِ عَنْ الْإِبْطَالِ وَالْكَفَّارَةُ تَصْلُحُ زَاجِرَةً فَعَرَفْنَا أَنَّهَا شُرِعَتْ بِطَرِيقِ الزَّجْرِ وَالْعُقُوبَةِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الزَّاجِرُ مِنْ الْعُقُوبَاتِ الْمَحْضَةِ كَالْحُدُودِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَةَ مَعْصِيَةٌ خَالِصَةٌ كَالْجِنَايَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلْحُدُودِ، لَكِنَّ الصَّوْمَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ حَقًّا مُسَلَّمًا إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ تَامًّا وَقْتَ الْجِنَايَةِ إذْ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ بِالْإِفْطَارِ لَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ التَّمَامِ صَارَ أَيْ التَّعَدِّي بِالْإِفْطَارِ قَاصِرًا فِي كَوْنِهِ جِنَايَةً فَيَتَمَكَّنُ بِاعْتِبَارِ الْقُصُورِ شُبْهَةَ إبَاحَةٍ فِيهِ فَتَعَذَّرَ إيجَابُ الزَّاجِرِ الَّذِي هُوَ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ فَأَوْجَبْنَاهُ أَيْ الزَّاجِرَ بِالْوَصْفَيْنِ وَهُمَا الْعِبَادَةُ وَالْعُقُوبَةُ وَجَعَلْنَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِي الْوُجُوبِ وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي الْأَدَاءِ دُونَ عَكْسِهِ؛ لِأَنَّا وَجَدْنَا مَا يَجِبُ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ وَيُسْتَوْفَى بِطَرِيقِ الْعِبَادَةِ كَالْحُدُودِ؛ لِأَنَّ إقَامَتَهَا مِنْ السُّلْطَانِ عِبَادَةٌ إذْ هُوَ مَأْمُورٌ بِإِقَامَتِهَا حَتَّى يُثَابُ عَلَى الْإِقَامَةِ وَيُعَاقَبَ عَلَى تَرْكِهَا وَلَمْ نَجِدْ مَا يَجِبُ بِطَرِيقِ الْعِبَادَةِ وَيُسْتَوْفَى بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ أَصْلًا فَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْجَوَابِ عَمَّا إذَا زَنَى فِي نَهَارِ رَمَضَانَ أَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ عَمْدًا حَيْثُ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ الْقُصُورَ فِي الْجِنَايَةِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ مَوْجُودٌ فَيُمْكِنُ إيجَابُ الْكَفَّارَةِ الَّتِي هِيَ عُقُوبَةٌ قَاصِرَةٌ عَلَيْهِ وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي دَلَالَةِ النَّصِّ يَحْتَاجُ إلَى الْجَوَابِ عَنْهُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ هُنَاكَ وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي طَرِيقَتِهِ أَنَّ تَعَلُّقَ الْعِبَادَةِ بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ فِي نَفْسِهِ جَائِزٌ إذَا كَانَ وُجُوبُهَا بِطَرِيقِ التَّكْفِيرِ وَكَانَتْ جِهَةُ الزَّجْرِ فِيهَا رَاجِحَةً إذْ لَا اسْتِحَالَةَ فِي ذَلِكَ إنَّمَا الِاسْتِحَالَةُ فِي جَعْلِ الْمَعْصِيَةِ سَبَبًا لِوُجُوبِ عِبَادَةٍ يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْجَنَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ مَعَ حُكْمِهَا وَهُوَ الثَّوَابُ الْمُوَصِّلُ إلَى الْجَنَّةِ يَصِيرَانِ مِنْ أَحْكَامِ الْمَعْصِيَةِ فَتَصِيرُ الْمَعْصِيَةُ بِوَاسِطَةِ حُكْمِهَا سَبَبًا لِلْوُصُولِ إلَى الْجَنَّةِ وَهُوَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّهَا جُعِلَتْ مِنْ أَسْبَابِ اسْتِيجَابِ النَّارِ فَأَمَّا عِبَادَةٌ حُكْمُهَا تَكْفِيرُ الْمَعْصِيَةِ وَمَحْوُ أَثَرِهَا فَلَا اسْتِحَالَةَ فِي جَعْلِ الْمَعْصِيَةِ سَبَبًا لَهَا خُصُوصًا إذَا صَارَ مَعْنَى الزَّجْرِ فِيهَا مَقْصُودًا وَلَا يُقَالُ لَوْ جَوَّزْنَا هَذَا لَصَارَتْ الْمَعْصِيَةُ مَاحِيَةً أَثَرَ نَفْسِهَا بِوَاسِطَةٍ وَهِيَ الْعِبَادَةُ وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ

وَالْمُشْتَمِلُ عَلَيْهِمَا وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى غَالِبُ حَدِّ الْقَذْفِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQمُوجِبًا بُطْلَانَ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لَا اسْتِحَالَةَ فِي كَوْنِ الشَّيْءِ بِوَاسِطَةِ حُكْمِهِ مُوجِبًا عَدَمَ نَفْسِهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْمُوجِبُ يَتَعَقَّبُهُ وَإِنَّمَا يَسْتَحِيلُ إذَا كَانَ يُقَارِنُهُ؛ لِأَنَّ اقْتِرَانَ مَا يُوجِبُ عَدَمَهُ بِحَالَةِ وُجُودِهِ يُؤَدِّي إلَى الْمُنَاقَضَةِ وَحُكْمُ الْمَعْصِيَةِ هَاهُنَا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ لَا وُجُودُهَا وَالْمُوجِبُ لِمَحْوِ أَثَرِ الْمَعْصِيَةِ وُجُودُ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ حُصُولَ الثَّوَابِ الَّذِي بِهِ يَحْصُلُ الْمَحْوُ يَتَعَلَّقُ بِالْوُجُودِ وَبِالْوُجُوبِ وَهُوَ مُتَعَقِّبٌ عَنْ الْمَعْصِيَةِ لَا مَحَالَةَ لِتَعَقُّبِ وُجُودِ الْكَفَّارَةِ وُجُوبَهَا فَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا اسْتِحَالَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْحُدُودُ أَحْكَامًا لِلْمَعَاصِي وَإِنْ كَانَتْ هِيَ كَفَّارَاتٍ لَهَا بِشَهَادَةِ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ اسْتِحَالَةٌ فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ لِوُجُوبِ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ حَتَّى سَقَطَتْ بِالشُّبْهَةِ قُلْنَا بِتَدَاخُلِ الْكَفَّارَاتِ فِي الْفِطْرِ حَتَّى لَوْ أَفْطَرَ مِرَارًا فِي رَمَضَانَ وَاحِدٌ مِنْ غَيْرِ تَكْفِيرٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَيْنِ وَلَمْ يُكَفِّرْ لِلْمَرَّةِ الْأُولَى فَكَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ عَنْ أَصْحَابِنَا وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْمَشَايِخِ وَرُوِيَ فِي الْكَيْسَانِيَّاتِ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَتَيْنِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ لِكُلِّ فِطْرٍ كَفَّارَةٌ عَلَى حِدَةٍ كَمَا إذَا ظَاهَرَ مِرَارًا أَوْ قَتَلَ إنْسَانًا خَطَأً؛ لِأَنَّ التَّدَاخُلَ مِنْ خَصَائِصِ الْعُقُوبَاتِ الْمَحْضَةِ وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِعُقُوبَةٍ مَحْضَةٍ بَلْ هِيَ عِبَادَةٌ فَلَا يُمْكِنُ إلْحَاقُهَا بِمَا تَمَحَّضَ عُقُوبَةً وَنَحْنُ نَقُولُ لَمَّا خُصَّتْ هَذِهِ الْكَفَّارَةُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ فِي إسْقَاطِهَا بِالشُّبْهَةِ لِتَرَجُّحِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِيهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ السَّبِيلَ فِيهَا الدَّرْءُ وَالتَّدَاخُلُ مِنْ بَابِ الدَّرْءِ كَمَا فِي الْحُدُودِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ لَوَجَبَتْ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شُرِعَتْ فَإِنَّهَا زَاجِرَةٌ وَقَدْ حَصَلَ الزَّجْرُ بِالْمَرَّةِ الْأُولَى فَكَانَ مَعْنَى الزَّجْرِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ مَعْدُومًا أَوْ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ فَلَا وَجْهَ لِإِيجَابِهَا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ كَمَا فِي الْحُدُودِ وَلِهَذَا قُلْنَا: إذَا كَفَّرَ لِلْمَرَّةِ الْأُولَى، ثُمَّ أَفْطَرَ تَلْزَمُهُ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الِانْزِجَارَ لَمْ يَحْصُلْ بِالْأُولَى فَكَانَ فِي الثَّانِيَةِ فَائِدَةٌ كَمَا فِي الْحَدِّ سَوَاءً فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَا سِوَى الْمَرَّةِ الْأُولَى لَمْ يَنْعَدِمْ سَبَبًا فَكَانَ مَعْنَى التَّدَاخُلِ امْتِنَاعَ الْوُجُوبِ بَعْدَمَا وَجَبَ مَرَّةً وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إنَّ الشَّرْعَ قَدَّرَ الزَّاجِرَ فِي كُلِّ بَابٍ بِالْجِنَايَاتِ وَإِنْ كَثُرَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَاسْتِيفَاءُ الزَّوَاجِرِ يُؤَدِّي إلَى جَعْلِ الزَّاجِرِ زِيَادَةً عَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَلِذَا لَمْ يَتَكَرَّرْ الِاسْتِيفَاءُ فِي الْحُدُودِ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: يَنْعَقِدُ الْجِنَايَاتُ عِلَلًا فِي أَنْفُسِهَا وَالزَّاجِرُ الْمُسْتَوْفَى يَكُونُ حُكْمًا لِكُلِّ عِلَّةٍ كَحُرْمَةِ صَيْدِ الْحَرَمِ عَلَى الْمُحْرِمِ وَحُرْمَةِ الْمُقَدَّرِ الْمَبِيعِ بِجِنْسِهِ نَسِيئَةً فَإِنَّهَا تَكُونُ ثَابِتَةً بِالْجِنْسِ وَالْقَدْرِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِلَّةٌ تَامَّةٌ فِي تَحْرِيمِ النَّسَاءِ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعِلَلِ يُسَمَّى عِلَلًا مُتَعَاوِرَةً عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ فَكَانَ مَعْنَى التَّدَاخُلِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الِاكْتِفَاءَ بِحُكْمٍ وَاحِدٍ عَنْ عِلَلٍ مُتَعَدِّدَةٍ إلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَحُقُوقُ الْعِبَادِ أَيْ الْحُقُوقُ الْخَالِصَةُ لَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى نَحْوُ ضَمَانِ الدِّيَةِ وَبَدَلِ الْمُتْلَفِ وَالْمَغْصُوبِ وَمِلْكِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ وَمِلْكِ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَمَا أَشْبَهَهَا. قَوْلُهُ (وَالْمُشْتَمِلُ عَلَيْهِمَا) أَيْ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْعَبْدِ وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى غَالِبٌ حَدُّ الْقَذْفِ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْحَقَّيْنِ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّ شَرْعَهُ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ وَشَرْعَهُ حَدًّا زَاجِرًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَالْأَحْكَامُ تَشْهَدُ لِذَلِكَ أَيْضًا كَمَا سَتَقِفُ عَلَيْهِ أَلَا أَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ غَالِبٌ عِنْدَنَا كَمَا فِي سَائِرِ الْحُدُودِ حَتَّى لَا يَجْرِيَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQفِيهِ الْإِرْثُ وَلَا يَسْقُطُ بِعَفْوِ الْمَقْذُوفِ إلَّا فِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَيَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ حَتَّى لَوْ قَذَفَ جَمَاعَةً فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي كَلِمَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَقُّ الْعَبْدِ فِيهِ غَالِبٌ فَيَجْرِي فِيهِ الْعَفْوُ وَالْإِرْثُ وَلَا يَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ وَرَأَيْت فِي التَّهْذِيبِ أَنَّهُ إنْ قَذَفَ شَخْصًا وَاحِدًا مِرَارًا بِزِنَا وَاحِدٍ لَا يَجِبُ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ وَإِنْ قَذَفَهُ بِزَنَيَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَفِي قَوْلٍ يَتَجَدَّدُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَلَا يَقَعُ فِيهِ التَّدَاخُلُ وَفِي قَوْلٍ وَهُوَ الْأَصَحُّ لَا يَجِبُ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهَا حُدُودٌ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لِمُسْتَحِقٍّ وَاحِدٍ كَحُدُودِ الزِّنَا فَيَتَدَاخَلُ وَلَوْ قَذَفَ جَمَاعَةً كُلَّ وَاحِدٍ بِكَلِمَةٍ عَلَى حِدَةٍ يَجِبُ عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ كَامِلٌ وَإِنْ قَذَفَهُمْ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ بِأَنْ قَالَ: أَنْتُمْ زُنَاةٌ أَوْ زَنَيْتُمْ فَفِي الْقَدِيمِ لَا يَجِبُ لِكُلٍّ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ اعْتِبَارًا لِاتِّحَادِ اللَّفْظِ وَفِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الْأَصَحُّ يَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ كَامِلٌ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مَعَرَّةً فَصَارَ كَمَا لَوْ قَذَفَهُمْ بِكَلِمَاتٍ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِإِثْبَاتِ هَذَا الْأَصْلِ بِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ التَّنَاوُلُ مِنْ عِرْضِهِ وَعِرْضُهُ حَقُّهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ أَبِي ضَمْضَمٍ إذَا أَصْبَحَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي تَصَدَّقْت بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِك» وَالْمَدْحُ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ عَلَى التَّصَدُّقِ بِمَا هُوَ حَقُّهُ وَكَذَا الْمَقْصُودُ دَفْعُ عَارِ الزِّنَا عَنْ الْمَقْذُوفِ وَذَلِكَ حَقُّهُ وَإِذَا كَانَ سَبَبُهُ الْجِنَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ وَمَنْفَعَتُهُ تَعُودُ إلَيْهِ عَلِمَ أَنَّهُ حَقُّهُ كَالْقِصَاصِ وَكَذَا الْحُكْمُ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّ خُصُومَةَ الْعَبْدِ شَرْطٌ فِي نَفْسِ الْحَدِّ فَإِنَّهُ يَدَّعِي أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ حَدَّ الْقَذْفِ كَمَا يَدَّعِي أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ قِصَاصًا وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ السَّرِقَةُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ هُنَاكَ الْخُصُومَةُ فِي الْمَالِ دُونَ الْحَدِّ حَتَّى لَوْ خَاصَمَ فِي الْحَدِّ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَكَذَا لَا يَعْمَلُ الرُّجُوعُ فِيهِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَلَا يَبْطُلُ بِالتَّقَادُمِ وَيُقَامُ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْمُسْتَأْمَنُ بِمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ إلَّا أَنَّ الْمَقْذُوفَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ كَمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ يَخْتَلِفُ شِدَّةً وَخِفَّةً وَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ مِنْ حَيْثُ اعْتِبَارُ الْخِفَّةِ لِفَرْطِ غَضَبِهِ فَفُوِّضَ إلَى الْإِمَامِ دَفْعًا لِلْمَوْهُومِ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ بِحَدِّهِ وَهُوَ جُزْءُ الرَّقَبَةِ وَلَا يَجْرِي فِيهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ فَفُوِّضَ إلَيْهِ وَنَحْنُ نَسْتَدِلُّ عَلَى مَا قُلْنَا بِالسَّبَبِ وَبِالْحُكْمِ أَمَّا السَّبَبُ فَإِنَّ هَذَا الْحَدَّ يَجِبُ بِالْقَذْفِ بِالزِّنَا فَإِنَّهُ لَمَّا قَذَفَ مُحْصَنًا فَقَدْ أَلْحَقَ بِهِ تُهْمَةَ الزِّنَا فَأَوْجَبَ الْحَدَّ عَلَى الْقَاذِف لِيَكُونَ بِوُجُوبِهِ زَاجِرًا عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ وَلِيَزُولَ بِاسْتِيفَائِهِ عَنْ الْمَقْذُوفِ تِلْكَ التُّهْمَةُ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَقْذُوفُ مَجْنُونًا لَمْ يَلْحَقْهُ التُّهْمَةُ لَمْ يُحَدَّ الْقَاذِفُ وَلَمَا وَجَبَ لِتَعْفِيَةِ أَثَرِ الزِّنَاءِ وَحُرْمَةُ الزِّنَا خَالِصَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى حَتَّى كَانَ الْحَدُّ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ خَالِصًا لَهُ وَجَبَ أَنْ يَخْلُصَ الْحَدُّ عَلَى إظْهَارِهِ بِوَجْهٍ حَرَامٍ يَجِبُ الْكَفُّ عَنْهُ لِلَّهِ تَعَالَى أَيْضًا وَلَكِنْ هَتَكَ بِهَذِهِ التُّهْمَةِ حُرْمَةَ عِرْضِ الْمَقْذُوفِ وَلِلَّهِ تَعَالَى فِي عِرْضِ الْمَقْذُوفِ حَقٌّ وَلِلْمَقْذُوفِ حَقٌّ فَثَبَتَ لِلْعَبْدِ ضَرْبُ حَقٍّ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ. فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوَجَبَ فِيهِ الْحَقَّ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَوْجَبَ الْحَقَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِلْعَبْدِ فَقُلْنَا مُعْظَمُ الْحَقِّ فِيهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ فَإِنَّهُ سَبَبُهُ لَيْسَ إلَّا لِقَتْلِ الَّذِي هُوَ جِنَايَةٌ عَلَى النَّفْسِ وَفِيهَا لِلَّهِ تَعَالَى حَقٌّ وَهُوَ حَقُّ الِاسْتِعْبَادِ وَلِلْعَبْدِ حَقٌّ وَحَقُّ الْعَبْدِ أَرْجَحُ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ ذَلِكَ فَصَارَ مُعْظَمُ الْحَقِّ فِيهِ لَهُ وَأَمَّا الْحُكْمُ فَهُوَ أَنَّ حُرْمَةَ الْقَذْفِ لَا تَسْقُطُ بِجِنَايَاتِ الْعَبْدِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْكَبَائِرِ كَمَا لَا يَسْقُطُ حُرْمَةُ الزِّنَا بِالْمَرْأَةِ الَّتِي ثَبَتَتْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى بِكُفْرِهَا وَجِنَايَتِهَا وَلَوْ كَانَ مُعْظَمُ الْحَقِّ لِلْعَبْدِ لَسَقَطَ بِكُفْرِهِ الَّذِي يَسْقُطُ بِهِ حُرْمَةُ دَمِهِ وَحَيَاتِهِ وَكَذَا تَنْصِيفُهُ بِالرِّقِّ مِنْ أَظْهَرِ الدَّلَائِلِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى مَا قُلْنَا؛ لِأَنَّ مَا يَجِبُ لِلْعِبَادِ لَا يَنْتَصِفُ بِالرِّقِّ كَإِتْلَافِ الْمَالِ وَإِنَّمَا يَنْتَصِفُ مَا يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي تَقْبَلُ التَّنْصِيفَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْجَرِيمَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى تَزْدَادُ بِزِيَادَةِ النِّعْمَةِ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ النِّعْمَةِ تُوجِبُ زِيَادَةَ الشُّكْرِ فَتَزْدَادُ حُرْمَةُ تَرْكِ الشُّكْرِ بِالْمَعْصِيَةِ بِحَسَبِ زِيَادَةِ وُجُوبِ الشُّكْرِ وَإِذَا ازْدَادَتْ الْعُقُوبَةُ وَالنِّعْمَةُ فِي حَقِّ الْحُرِّ كَامِلَةٌ وَفِي حَقِّ الْعَبْدِ نَاقِصَةٌ فَيَتَكَامَلُ الْعُقُوبَةُ وَتَنْتَقِصُ بِحَسَبِهَا فَأَمَّا مَا يَجِبُ لِلْعَبْدِ فَيَجِبُ جَبْرًا لِمَا فُوِّتَ عَلَيْهِ وَالتَّفْوِيتُ لَا يَخْتَلِفُ بِجِنَايَةِ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ فَلَا تُنْتَقَصُ الْوَاجِبُ بِكَوْنِهِ عَبْدًا يُوَضِّحُهُ أَنَّ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ يُعْتَبَرُ الْمُمَاثَلَةُ الَّتِي تُشِيرُ إلَى مَعْنَى الْجَبْرِ كَمَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ وَلِهَذَا مَا وَجَبَ مِنْ الْعُقُوبَاتِ حَقًّا لِلْعَبْدِ وَجَبَ بِاسْمِ الْقِصَاصِ الَّذِي يُنْبِئُ عَنْ الْمُمَاثَلَةِ لِيَكُونَ إشَارَةً إلَى الْمَعْنَى الْجَبْرِ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ النِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا وَبَيْنَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى كَمَا لَا مُشَابَهَةَ بَيْنَ الْحَدِّ وَالزِّنَا فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَسَائِرِ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّ مَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَجِبُ مَثَلًا مَعْقُولًا لِمَعْصِيَةٍ كَعَذَابِ الْآخِرَةِ مَعَ الْكُفْرِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ اسْتِيفَاءَهُ إلَى الْإِمَامِ وَهُوَ إنَّمَا يَتَعَيَّنُ ثَانِيًا فِي اسْتِيفَاءِ حَقّ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا مَا كَانَ حَقًّا لِلْعَبْدِ فَاسْتِيفَاؤُهُ إلَيْهِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِتَوَهُّمِ التَّفَاوُتِ فَإِنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُعَزِّرَ زَوْجَتَهُ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ حَقًّا لَهُ وَلَا يُنْظَرُ إلَى تَوَهُّمِ التَّفَاوُتِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ كَمَا تُتَوَهَّمُ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ تُتَوَهَّمُ مِنْ الْجَلَّادِ وَيُمْكِنُ مَنْعُ صَاحِبِ الْحَقِّ تُتَوَهَّمُ مِنْ الْجَلَّادِ وَيُمْكِنُ مَنْعُ صَاحِبِ الْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ إذَا ظَهَرَ أَثَرُهُ كَمَا يُمْنَعُ الْجَلَّادُ مِنْهُ مَعَ أَنَّهُ يَتَوَهَّمُ الزِّيَادَةَ لَا يَمْتَنِعُ صَاحِبُ الْحَقِّ عَنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ كَتَوَهُّمِ السِّرَايَةِ فِي حَقِّ الْقِصَاصِ وَتَمَسُّكُ الْخَصْمِ بِحَدِيثِ أَبِي ضَمْضَمٍ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَةَ التَّصَدُّقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الصِّدْقَ وَلَكِنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنِّي لَا أُطَالِبُهُمْ بِمُوجِبِ الْجِنَايَةِ وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَقًّا وَنَحْنُ سَلَّمْنَا ذَلِكَ وَادَّعَيْنَا أَنَّ مُعْظَمَ الْحَقِّ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَثْبَتْنَاهُ بِدَلِيلِهِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَقٌّ مُعْتَبَرٌ وَأَنَّ الْمُعَظِّمَ لِلَّهِ تَعَالَى شَرْطُ الدَّعْوَى فِي نَفْسِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ دَعْوَاهُ وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَخْتَلُّ بِاشْتِرَاطِهَا فَإِنَّ الدَّعْوَى لَا تُنَافِي الْحَدَّ كَمَا فِي السَّرِقَةِ وَبَعْدَ مَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ لَا يَعْمَلُ فِيهِ الرُّجُوعُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ مُصَدِّقٌ لَهُ فِي الْإِقْرَارِ مُكَذِّبٌ لَهُ فِي الرُّجُوعِ بِالدَّعْوَى السَّابِقَة بِخِلَافِ مَا كَانَ مَحْضَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ هُنَاكَ لَيْسَ لَهُ مُكَذِّبٌ ظَاهِرٌ أَفَثَبَتَ فِيهِ شُبْهَةُ الصِّدْقِ وَالْحَدُّ يَبْطُلُ بِالشُّبْهَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَعْمَلُ فِيهِ الْإِنْكَارُ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ تَرُدُّ إنْكَارَهُ وَكَذَلِكَ لَا يَبْطُلُ بِالتَّقَادُمِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْقِطٍ لِلْحَدِّ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِزِنًا مُتَقَادِمٍ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَكِنَّ التَّقَادُمَ إنَّمَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّاهِدِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ السِّتْرِ وَالْإِظْهَارِ فَمَتَى سَكَتَ فَقَدْ اخْتَارَ مَعْنَى السِّتْرِ فَلَمْ يَجُزْ الْإِظْهَارُ بَعْدَ ذَلِكَ فَمَتَى أَظْهَرَ دَلَّ أَنَّ ضَغِينَتَهُ حَمَلَتْهُ عَلَى ذَلِكَ وَفِي حَدِّ الْقَذْفِ لَمَّا شُرِطَتْ الدَّعْوَى لَا يَتَمَكَّنُ الشَّاهِدُ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ حِسْبَةً قَبْلَ طَلَبِ الْمُدَّعِي فَلَا يَصِيرُ مُتَّهَمًا بِالضَّغِينَةِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الشَّهَادَةُ بِالسَّرِقَةِ الْمُتَقَادِمَةِ فَإِنَّهَا لَا تُقْبَلُ مَعَ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ بِدُونِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ عَدَمَ قَبُولِهَا لِبُطْلَانِ الدَّعْوَى فَإِنَّ الْمُدَّعِيَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَحْتَسِبَ بِدَعْوَاهُ إقَامَةَ الْحَدِّ لِيُقَامَ الْحَدُّ وَبَيْنَ أَنْ يَخْتَارَ السَّتْرَ فَيَدَّعِي الْأَخْذَ فَإِنْ اخْتَارَ الْحِسْبَةَ حَرُمَ عَلَيْهِ التَّأْخِيرُ فَإِذَا أَخَّرَ كَأَنْ بَنَاهُ عَلَى تَرْكِ جِهَةِ الْحِسْبَةِ فَإِذَا عَادَ يَدَّعِي السَّرِقَةَ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَاهُ السَّرِقَةَ بَعْدَمَا لَزِمَتْهُ التُّهْمَةُ فَبَطَلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى السَّرِقَةِ وَبَقِيَتْ دَعْوَى الْمَالِ وَالشَّهَادَةِ بِهِ فَوَجَبَ الْقَضَاءُ بِالْمَالِ.

161 - < 159 161 > وَاَلَّذِي يَغْلِبُ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ الْقِصَاصُ. فَأَمَّا حَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ فَخَالِصٌ لِلَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا وَهَذَا مِمَّا يَطُولُ بِهِ الْكِتَابُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQفَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَعِنْدَنَا لَا يَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ؛ لِأَنَّهُ خِلَافَةٌ وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجْرِي فِيهِ الْخِلَافَةُ وَلَا يَسْقُطُ بِالْعَفْوِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ مَا يَتَمَحَّضُ حَقًّا لَهُ أَوْ مَا غَلَبَ فِيهِ حَقُّهُ فَأَمَّا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ وَإِنْ كَانَ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَقٌّ كَالْعِدَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ الزَّوْجِ لِمَا فِيهَا مِنْ حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَالْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِمَا. قَوْلُهُ (وَاَلَّذِي يَغْلِبُ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ الْقِصَاصُ) الْقِصَاصُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْحَقَّيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَتْلَ جِنَايَةٌ عَلَى النَّفْسِ وَلِلَّهِ تَعَالَى فِيهَا حَقُّ الِاسْتِعْبَادِ كَمَا أَنَّ لِلْعَبْدِ حَقَّ الِاسْتِمْتَاعِ بِبَقَائِهَا فَكَانَتْ الْعُقُوبَةُ الْوَاجِبَةُ بِسَبَبِهِ مُشْتَمِلَةً عَلَى الْحَقَّيْنِ وَإِنْ كَانَ حَقُّ الْعَبْدِ رَاجِحًا بِلَا خِلَافٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ فِيهِ حَقَّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ الْخَالِصَةِ وَأَنَّهُ يَجِبُ جَزَاءُ الْفِعْلِ فِي الْأَصْلِ لَا ضَمَانِ الْمَحَلِّ حَتَّى يَقْتُلَ الْجَمَاعَةَ بِالْوَاحِدِ وَلَوْ كَانَ ضَمَانُ الْمَحَلِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَالدِّيَةِ لَا يُقْتَلُونَ بِهِ وَأَجْزِئَةُ الْأَفْعَالِ تَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ وُجُوبُهُ بِطَرِيقِ الْمُمَاثَلَةِ الَّتِي تُنْبِئُ عَنْ مَعْنَى الْجَبْرِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَفِيهِ مَعْنَى الْمُقَابِلَةِ بِالْمَحَلِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عُلِمَ أَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ رَاجِحٌ وَكَذَا تَفْوِيضُ اسْتِيفَائِهِ إلَى الْوَلِيِّ وَجَرَيَانُ الْإِرْثِ فِيهِ وَصِحَّةُ الِاعْتِيَاضِ عَنْهُ بِالْمَالِ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ دَلِيلٌ عَلَى رُجْحَانِ حَقِّهِ أَيْضًا. قَوْلُهُ (وَأَمَّا حَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ فَخَالِصٌ) أَيْ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا قَطْعًا كَانَ أَوْ قَتْلًا كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ وَالرَّجْمِ فِي الزِّنَا وَلِهَذَا لَا يُوجِبُهُ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ إذَا ارْتَكَبَ سَبَبَهُ فِي دَارِنَا بِمَنْزِلَةِ حَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْقَتْلُ الْوَاجِبُ فِيهِ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْحَقَّيْنِ وَفِيهِ مَعْنَى الْحُدُودِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالْعَفْوِ وَيَسْتَوْفِيهِ الْإِمَامُ دُونَ الْوَلِيِّ وَفِيهِ مَعْنَى الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِالْقَتْلِ وَالْقَتْلُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْقَتْلِ يَكُونُ قِصَاصًا وَمَعْنَى الْقِصَاصِ غَالِبٌ عِنْدَهُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّ الْقَتِيلَ مَعْصُومٌ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ فِي غَيْرِ حَالِ الْمُحَارَبَةِ فَفِي حَالِ الْمُحَارَبَةِ أَوْلَى، ثُمَّ الْقِصَاصُ حَقُّ الْعَبْدِ فَيَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا عُرِفَ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَوْ قَتَلَ حُرٌّ عَبْدًا أَوْ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا أَوْ قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ لَا يَجِبُ الْقَتْلُ وَتَجِبُ الدِّيَةُ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ وَلَوْ قَتَلَ وَاحِدٌ جَمَاعَةً قُتِلَ بِالْأَوَّلِ وَلِلْبَاقِينَ الدِّيَةُ وَإِنْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ غَيْرُ الْإِمَامِ يَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ لِوَرَثَتِهِ وَإِنْ مَاتَ تُؤْخَذُ الدِّيَةُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَإِنْ قَتَلَ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ بِمُثْقَلٍ أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ يُقْتَلُ بِذَلِكَ الطَّرِيقِ كَذَا ذُكِرَ فِي التَّهْذِيبِ وَنَحْنُ نَقُولُ: الْقَتْلُ وَالْقَطْعُ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ حَدٌّ وَاحِدٌ، ثُمَّ الْقَطْعُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُصُوصِ فَكَذَلِكَ الْقَتْلُ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُ جَزَاءً وَالْجَزَاءُ الْمُطْلَقُ مَا يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى بِمُقَابَلَةِ الْفِعْلِ فَأَمَّا الْقِصَاصُ فَوَاجِبٌ بِطَرِيقِ الْمُسَاوَاةِ وَفِيهِ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ بِالْمَحَلِّ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ سَبَبَ هَذَا الْقَتْلِ مُحَارَبَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِقَوْلِهِ {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] وَمَا يَجِبُ بِمِثْلِ هَذَا السَّبَبِ يَكُونُ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ وَسَمَّاهُ خِزْيًا فِي قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} [المائدة: 33] فَعَرَفْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّهُ قَتْلٌ يُسْتَحَقُّ بِالْقَتْلِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ عِنْدَنَا بَلْ السَّبَبُ هُوَ الْمُحَارَبَةُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ النَّصُّ أَلَا أَنَّهَا مُتَنَوِّعَةٌ فَالْقَطْعُ جَزَاءُ الْمُحَارَبَةِ الْمُتَأَكَّدَةِ بِأَخْذِ الْمَالِ وَالْقَتْلُ جَزَاءُ الْمُحَارَبَةِ الْكَامِلَةِ بِالْقَتْلِ لِأَجْزَاءِ الْقَتْلِ وَلِهَذَا جَعَلْنَا رِدْأَهُ كَالْمُبَاشِرِ حَتَّى لَوْ وُلِّيَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ الْقَتْلَ قُتِلُوا جَمِيعًا عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ إذَا دَخَلَ قَطْعَ الطَّرِيقِ قَتْلٌ صَارَ كَامِلًا وَصَارَ نِصْفُ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQالْكَمَالِ مُضَافًا إلَى الْجَمِيعِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الرِّدْءُ وَالْمُبَاشِرُ وَلَمَّا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّ أَصْلَهُ قِصَاصٌ وَإِنَّ خِتَامَهُ حَدٌّ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقْتَلَ إلَّا الْمُبَاشِرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَهَذَا أَيْ بَيَانُ مَا ذَكَرْنَا وَتَحْقِيقُهُ مِمَّا يَطُولُ بِهِ الْكِتَابُ قَوْلُهُ (وَهَذِهِ الْحُقُوقُ) أَيْ الْحُقُوقُ الْمَذْكُورَةُ كُلُّهَا تَنْقَسِمُ إلَى أَصْلٍ وَخَلَفٍ وَذَلِكَ أَيْ الِانْقِسَامُ إلَى الْأَصْلِ وَالْخَلَفِ فِي الْإِيمَانِ أَوَّلًا أَصْلُهُ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ، ثُمَّ صَارَ الْإِقْرَارُ بِنَفْسِهِ أَصْلًا مُسْتَبِدًّا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا خَلَفًا عَنْ التَّصْدِيقِ أَيْ عَنْ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ جَمِيعًا كَمَا قُلْنَا فِي الْمُكْرَهِ عَلَى الْإِسْلَامِ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِمُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ حَتَّى لَوْ رَجَعَ عَنْ الْإِقْرَارِ عِنْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ يَصِيرُ مُرْتَدًّا ، ثُمَّ صَارَ أَدَاءُ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ ثَابِتًا فِي حَقِّ الصَّغِيرِ خَلَفًا عَنْ أَدَاءِ الصَّغِيرِ بِنَفْسِهِ لِعَجْزِهِ عَنْ ذَلِكَ وَقُصُورِ عَقْلِهِ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَمَا يَثْبُتُ الْإِيمَانُ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ بِأَدَاءِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمَعْتُوهِ وَالْمَجْنُونِ فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَبَعًا لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ كَالصَّغِيرِ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ أَيْ أَدَاءُ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ مَعَ أَدَاءِ الصَّغِيرِ بِنَفْسِهِ يَعْنِي إذَا كَانَ عَاقِلًا بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ فَإِنَّ أَدَاءَهُ بِنَفْسِهِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ تَبَعِيَّةِ الْأَبَوَيْنِ لِصُدُورِهِ لَا عَنْ عَقْلٍ بِخِلَافِ أَدَاءِ الصَّغِيرِ وَرَأَيْت فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي أَنَّ الْمَعْتُوهَ كَالْمَجْنُونِ فِي عَدَمِ صِحَّةِ أَدَائِهِ بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ كَالصَّبِيِّ دُونَ الْمَجْنُونِ إذْ هُوَ نَاقِصُ الْعَقْلِ دُونَ عَدِيمِ الْعَقْلِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَفَائِدَةُ اعْتِبَارِ أَدَاءِ الصَّبِيِّ بِنَفْسِهِ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ، ثُمَّ أَسْلَمَ الصَّغِيرُ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ ارْتَدَّ الَّذِي أَسْلَمَ مِنْ أَبَوَيْهِ لَا يَصِيرُ الصَّبِيُّ مُرْتَدًّا بَلْ يَبْقَى مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ نَفْسِهِ وَلَوْ أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ يَصِحّ وَإِنْ كَانَ أَبَوَاهُ كَافِرَيْنِ، ثُمَّ صَارَتْ تَبَعِيَّةُ أَهْلِ الدَّارِ وَالْغَانِمِينَ أَيْ أَدَاءُ الْغَانِمِينَ خَلَفًا عَنْ تَبَعِيَّةِ الْأَبَوَيْنِ وَجَعَلَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَبَعِيَّةَ الدَّارِ خَلَفًا عَنْ تَبَعِيَّةِ الْأَبَوَيْنِ وَتَبَعِيَّةُ الْغَانِمِينَ خَلَفًا عَنْ تَبَعِيَّةِ الدَّارِ فَقَالَ: ثُمَّ تَبَعِيَّةُ الدَّارِ فِيمَنْ سَبَى صَغِيرًا وَأُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَحْدَهُ خَلَفٌ عَنْ تَبَعِيَّةِ الْأَبَوَيْنِ فِي ثُبُوتِ حُكْمِ الْإِيمَانِ لَهُ، ثُمَّ تَبَعِيَّةُ السَّابِي إذَا قُسِّمَ أَوْ بِيعَ مِنْ مُسْلِمٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ خَلَفٌ عَنْ تَبَعِيَّةِ الدَّارِ فِي ثُبُوتِ حُكْمِ الْإِيمَانِ لَهُ حَتَّى إذَا مَاتَ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ خَلْفِيَّةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ كَوْنَ تَبَعِيَّةِ الْغَانِمِينَ أَوْ الدَّارِ خَلَفًا عَنْ تَبَعِيَّةِ الْأَبَوَيْنِ، ثُمَّ كَوْنُ تَبَعِيَّتِهِمَا خَلَفًا عَنْ أَدَاءِ الصَّغِيرِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي حِينَئِذٍ إلَى أَنْ يَكُونَ لِلْخَلَفِ خَلَفٌ وَهُوَ فَاسِدٌ لِصَيْرُورَةِ شَيْءٍ وَاحِدٍ أَصْلًا وَخَلَفًا بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ خَلَفٌ عَنْ أَدَاءِ الصَّغِيرِ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّ الْبَعْضَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْبَعْضِ كَابْنِ الْمَيِّت خَلَفٌ عَنْهُ فِي الْمِيرَاثِ وَعِنْدَ عَدَمِهِ يَكُونُ ابْنُ الِابْنِ خَلَفًا عَنْ الْمَيِّتِ لَا عَنْ ابْنِهِ وَكَالْفِدْيَةِ فِي بَابِ الصَّوْمِ خَلَفٌ عَنْ الصَّوْمِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْقَضَاءِ لَا أَنَّهَا خَلَفٌ عَنْ الْقَضَاءِ هَكَذَا قِيلَ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِي الْعُدُولِ عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَجَعْلُ تَبَعِيَّةِ الدَّارِ وَالْغَانِمِينَ خَلَفًا عَنْ أَدَاءِ الصَّغِيرِ دُونَ تَبَعِيَّةِ الْأَبَوَيْنِ إذْ لَا اسْتِحَالَةَ فِي أَنْ يَكُونَ لِلْخَلَفِ خَلَفٌ وَلَا فَسَادَ فِي أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ خَلَفًا مِنْ وَجْهٍ أَصْلًا مِنْ وَجْهٍ وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَعَ حَقِيقَةِ الْأَدَاءِ لَا يُعْتَبَرُ تَبَعِيَّةُ شَيْءٍ مَعَ تَبَعِيَّةِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ لَا يُعْتَبَرُ دَارُ الْإِسْلَامِ أَوْ السَّابِي حَتَّى لَوْ سُبِيَ الصَّبِيُّ مَعَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِالدُّخُولِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ تَبَعِيَّةَ الْأَبَوَيْنِ أَقْوَى مِنْ تَبَعِيَّةِ الدَّارِ وَمَعَ تَبَعِيَّةِ دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يُعْتَبَرُ تَبَعِيَّةُ السَّابِي حَتَّى لَوْ سَرَقَ ذِمِّيٌّ صَبِيًّا.

وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَعْتُوهِ وَالْمَجْنُونِ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مَعَ أَدَاءِ الصَّغِيرِ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ صَارَ تَبَعِيَّةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَالْغَانِمِينَ خَلَفًا عَنْ تَبَعِيَّةِ الْأَبَوَيْنِ فِي إثْبَاتِ الْإِسْلَامِ فِي صَغِيرٍ أُدْخِلَ دَارَنَا وَوَقَعَ فِي سَهْمِ الْمُسْلِمِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدُ أَبَوَيْهِ وَكَذَلِكَ فِي شُرُوطِ الصَّلَاةِ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ أَصْلٌ وَالتَّيَمُّمُ خَلَفٌ عَنْهُ لَكِنَّ هَذَا الْخَلَفَ عِنْدَنَا مُطْلَقٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ خَلَفُ ضَرُورَةٍ حَتَّى لَمْ يُجَوِّزْ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ وَقَالَ فِي إنَاءَيْنِ نَجَسٍ وَطَاهِرٍ فِي السَّفَرِ: إنَّ التَّحَرِّيَ فِيهِ جَائِزٌ وَلَمْ يَجْعَلْ التُّرَابَ طَهُورًا لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ وَقُلْنَا نَحْنُ: هُوَ خَلَفٌ مُطْلَقٌ حَتَّى جَوَّزْنَا جَمِيعَ الصَّلَوَاتِ بِهِ وَقُلْنَا فِي الْإِنَاءَيْنِ لَا يَتَحَرَّى؛ لِأَنَّ التُّرَابَ طَهُورٌ مُطْلَقٌ عِنْدَ الْعَجْزِ وَقَدْ ثَبَتَ الْعَجْزُ بِالتَّعَارُضِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَأَدْخَلَهُ دَارَ الْإِسْلَامِ يَصِيرُ مُسْلِمًا بِتَبَعِيَّةِ الدَّارِ وَلَا يُعْتَبَرُ تَبَعِيَّةُ الْآخِذِ حَتَّى وَجَبَ تَخْلِيصُهُ مِنْ يَدِهِ وَلَوْ مَاتَ يَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَكَمَا أَنَّ فِي الْإِيمَانِ التَّصْدِيقَ وَالْإِقْرَارَ أَصْلٌ وَالْإِقْرَارُ الْمُجَرَّدُ وَتَبَعِيَّةُ الْأَبَوَيْنِ وَالدَّارِ وَالسَّابِي خَلَفٌ عَنْهُ فِي شُرُوطِ الصَّلَاةِ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ وَهِيَ أَيْ الِاغْتِسَالُ أَصْلٌ وَالتَّيَمُّمُ خَلَفٌ عَنْهَا بِلَا خِلَافٍ، لَكِنَّ هَذَا الْخَلَفَ عِنْدَنَا مُطْلَقٌ يَعْنِي بِهِ أَنَّ الْحَدَثَ يَرْتَفِعُ بِالتَّيَمُّمِ إلَى غَايَةِ وُجُودِ الْمَاءِ فَيَثْبُتُ إبَاحَةُ الصَّلَاةِ بِنَاءً عَلَى ارْتِفَاعِ الْحَدَثِ وَحُصُولِ الطَّهَارَةِ كَمَا فِي الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ خَلَفٌ ضَرُورَةً أَيْ يَثْبُتُ خَلْفِيَّتُهُ ضَرُورَةَ الْحَاجَةِ إلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ وَإِسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنْ الذِّمَّةِ فَيَكُونُ التَّيَمُّمُ خَلَفًا عَنْ الْوُضُوءِ لِإِبَاحَةِ الصَّلَاةِ مَعَ قِيَامِ الْحَدَثِ حَقِيقَةً كَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ حَتَّى لَمْ يُجَوَّزْ أَدَاءَ الْفَرَائِضِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ ضَرُورِيًّا يُشْتَرَطُ قِيَامُ الضَّرُورَةِ لِصِحَّتِهِ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْأَدَاءِ قَدْ انْتَهَتْ الضَّرُورَةُ فَلَمْ يَبْقَ الْخَلَفُ صَحِيحًا فَلَا يَجُوزُ أَدَاءُ فَرْضٍ آخَرَ بِهِ كَمَا قَالَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ إنَّ الضَّرُورَةَ لَمَّا انْتَهَتْ بِالْفَرَاغِ مِنْ الْأَدَاءِ لَا يَجُوزُ أَدَاءُ فَرْضٍ آخَرَ بِتِلْكَ الطَّهَارَةِ لِانْقِضَائِهَا بِانْقِضَاءِ الضَّرُورَةِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ التَّيَمُّمُ لِأَدَاءِ فَرْضٍ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهِ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ كَمَا قَالَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ وَقَالَ فِي إنَاءَيْنِ نَجَسٍ وَطَاهِرٍ فِي سَفَرٍ يَعْنِي فِي مَوْضِعٍ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى مَاءٍ آخَرَ سِوَاهُمَا: إنَّ التَّحَرِّيَ فِيهِ أَيْ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ جَائِزٌ وَلَمْ يُجْعَلْ التُّرَابَ طَهُورًا أَيْ لَمْ يُجْعَلْ التَّيَمُّمُ طَهَارَةً فِي هَذَا الْمَوْضِعُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَحَقَّقُ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ الطَّاهِرِ وَمَعَهُ مَاءٌ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ وَيُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهِ بِالتَّحَرِّي؛ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ حَالَةَ الْعَجْزِ كَمَا فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْمَصِيرُ إلَى التَّيَمُّمِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ الطَّاهِرِ وَلِهَذَا شُرِطَ الطَّلَبُ لِصِحَّةِ التَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تَتَحَقَّقُ قَبْلَ الطَّلَبِ وَاحْتُجَّ لِإِثْبَاتِ هَذَا الْأَصْلِ بِأَنَّ الْمَسْحَ بِالتُّرَابِ تَلْوِيثٌ وَلَيْسَ بِتَطْهِيرٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ إذَا رَأَى الْمَاءَ يَعُودُ الْحَدَثُ السَّابِقُ مِنْ جَنَابَةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَرْتَفِعْ إذْ لَوْ ارْتَفَعَ لَمْ يَعُدْ إلَّا بِحَدَثٍ جَدِيدٍ كَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ تَنْتَقِضُ بِالْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ أَوْ بِذَهَابِ الْوَقْتِ عِنْدَكُمْ وَهُوَ لَيْسَ بِحَدَثٍ فَعُلِمَ أَنَّ الْحَدَثَ الْأَوَّلَ بَاقٍ وَلَكِنْ أُبِيحَتْ لَهَا الصَّلَاةُ مَعَ الْحَدَثِ لِلضَّرُورَةِ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ الْجِنَايَةِ عَلَى الصَّوْمِ بِالْإِفْطَارِ يُبَاحُ الْإِقْدَامُ عَلَى أَجْزَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَالْإِفْطَارُ لِدَفْعِ الضَّرُورَةِ مَعَ قِيَامِ حُرْمَةِ الْكُفْرِ وَالْفِطْرِ وَقُلْنَا نَحْنُ هَذَا أَيْ هَذَا الْخَلَفُ مُطْلَقٌ فِي حَالِ الْعَجْزِ عَنْ الْأَصْلِ بِاتِّفَاقٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فَيَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَثْبُتُ بِالْأَصْلِ مَا بَقِيَ الْعَجْزُ فَيَجُوزُ جَمْعُ الصَّلَاةِ بِهِ وَيَجُوزُ الْإِيتَانُ بِهِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ كَالطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ وَلَا يَجُوزُ التَّحَرِّي فِي الْإِنَاءَيْنِ؛ لِأَنَّ التُّرَابَ طَهُورٌ مُطْلَقٌ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَقَدْ تَحَقَّقَ الْعَجْزُ بِالتَّعَارُضِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ التَّعَارُضِ التَّسَاقُطُ فَصَارَ كَأَنَّ الْإِنَاءَيْنِ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا خَلَفٌ مُطْلَقٌ رَافِعٌ لِلْحَدَثِ سَوَاءٌ جُعِلَتْ الْخَلَفِيَّةُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ أَوْ بَيْنَ التَّوَضُّؤِ وَالتَّيَمُّمِ أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ إفَادَةُ الطَّهَارَةِ وَإِزَالَةُ الْحَدَثِ فَكَذَا مَا شُرِعَ خَلَفًا عَنْهُ يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْأَصْلِ كَالصَّوْمِ فِي الْكَفَّارَاتِ لَهُ حُكْمُ الْإِعْتَاقِ وَكَالْأَشْهُرِ فِي الْعِدَّةِ لَهَا حُكْمُ الْقُرْءِ وَكَالصَّوْمِ فِي بَابِ الْمُتْعَةِ لَهُ حُكْمُ الْهَدْيِ وَهَذَا ظَاهِرٌ إذَا جُعِلَتْ الْخَلَفِيَّةُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَإِنْ جُعِلَتْ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مِنْ حُكْمِ الْوُضُوءِ إبَاحَةَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ بِوَاسِطَةِ رَفْعِ

لَكِنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْحَدَثِ بِطَهَارَةٍ حَصَلَتْ بِهِ لَا مَعَ الْحَدَثِ فَهَذَا الَّذِي جَعَلَ خَلَفًا مُطْلَقًا لَا يُبِيحُ بِدُونِ تِلْكَ الْوَاسِطَةِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ حُكْمًا آخَرَ وَلِلْخَلَفِ حُكْمُ الْأَصْلِ لَا حُكْمٌ آخَرُ فَمَنْ قَالَ هُوَ خَلَفٌ فِي حَقِّ الْإِبَاحَةِ مَعَ الْحَدَثِ جَعَلَهُ غَيْرَ خَلَفٍ عَنْ التَّوَضُّؤِ إذْ التَّوَضُّؤُ لَا يُبِيحُ الْأَدَاءَ مَعَ قِيَامِ الْحَدَثِ الْمَوْجُودِ قَبْلَ التَّوَضُّؤِ بِحَالٍ وَإِنَّمَا يُبِيحُ بِوَاسِطَةِ رَفْعِهِ فَيَكُونُ الْإِبَاحَةُ مِنْ غَيْرِ رَفْعٍ حُكْمًا آخَرَ غَيْرَ حُكْمِ الْأَصْلِ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ خَلَفًا عَنْهُ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ قَوْلُهُ (لَكِنَّ الْخِلَافَ) اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ وَقُلْنَا نَحْنُ هُوَ خَلَفٌ مُطْلَقٌ أَيْ هُوَ خَلَفٌ مُطْلَقٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا، لَكِنَّ الْخِلَافَةَ بَيْنَ الْآلَتَيْنِ وَهُمَا الْمَاءُ وَالتُّرَابُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ وَهُمَا الْوُضُوءُ وَالِاغْتِسَالُ وَالتَّيَمُّمُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْوُضُوءِ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الْآيَةُ وَبِالِاغْتِسَالِ بِقَوْلِهِ فَاغْتَسِلُوا، ثُمَّ أَمَرَ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ الْعَجْزِ بِقَوْلِهِ {فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] فَكَانَتْ الْخِلَافَةُ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَالِاغْتِسَالِ وَالتَّيَمُّمِ لَا بَيْنَ التُّرَابِ وَالْمَاءِ إلَّا أَنَّهُمَا يَقُولَانِ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى عَدَمِ الْمَاءِ عِنْدَ النَّقْلِ إلَى التَّيَمُّمِ بِقَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] فَدَلَّ أَنَّ الْخَلَفِيَّةُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالصَّعِيدِ لَا بَيْنَ التَّوَضُّؤِ وَالتَّيَمُّمِ كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَصَّ عَلَى الْمَحِيضِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} [الطلاق: 4] الْآيَةُ عُلِمَ أَنَّ الْأَشْهُرَ خَلَفٌ عَنْ الْحِيَضِ لَا عَنْ التَّرَبُّصِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُتْرَكُ ظَاهِرُ النَّصِّ إلَّا بِدَلِيلٍ يَمْنَعُنَا عَنْ الْعَمَلِ بِهِ وَلَمْ يُوجَدْ وَلَا يُقَالُ قَدْ وُجِدَ الدَّلِيلُ؛ لِأَنَّ الصَّعِيدَ لَيْسَ بِطَهُورٍ بَلْ هُوَ مُلَوَّثٌ فَلَا يَصْلُحُ خَلَفًا عَنْ الْمَاءِ فِي كَوْنِهِ طَهُورًا فَنَجْعَلُ الْخِلَافَةَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْفِعْلِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ لَيْسَ بِطَهُورٍ حَقِيقَةً، وَلَكِنَّ النَّجَاسَةَ فِي الْمَحَلِّ حُكْمِيَّةٌ وَهَذِهِ طَهَارَةٌ حُكْمِيَّةٌ فَجَازَ إثْبَاتُهَا بِالصَّعِيدِ فَكَانَ الصَّعِيدُ طَهُورًا حُكْمًا فَيَصْلُحُ خَلَفًا عَنْ الْمَاءِ فِي إثْبَاتِ الطَّهَارَةِ الْحُكْمِيَّةِ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ» . وَقَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» نَصَّ عَلَى طَهُورِيَّةِ التُّرَابِ وَالْأَرْضِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التُّرَابَ خَلَفٌ عَنْ الْمَاءِ فِي الطَّهُورِيَّةِ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَتَبَيَّنَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَعَلَ التَّيَمُّمَ بَدَلًا عَنْ الْوُضُوءِ لِإِبَاحَةِ الصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ لَا لِرَفْعِ الْحَدَثِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ بَدَلٌ عَنْهُ فِي حَقِّ رَفْعِ الْحَدَثِ مُطْلَقًا فِي حَقِّ الصَّلَاةِ وَانْقِطَاعِ الرَّجْعَةِ وَقُرْبَانِ الزَّوْجِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ جَعَلَا الصَّعِيدَ بَدَلًا عَنْ الْمَاءِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ فِي إفَادَةِ الطَّهَارَةِ الْحُكْمِيَّةِ لِلصَّلَاةِ لَا غَيْرُ وَهُوَ الْأَصَحُّ قَوْلُهُ (وَيَبْتَنِي عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا مَسْأَلَةُ إمَامَةِ الْمُتَيَمِّمِ لِلْمُتَوَضِّئِينَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَؤُمُّ الْمُتَيَمِّمُ الْمُتَوَضِّئِينَ مَا لَمْ يَجِدْ الْمُتَوَضِّئُ الْمَاءَ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -؛ لِأَنَّ التُّرَابَ لَمَّا كَانَ خَلَفًا عَنْ الْمَاءِ فِي حُصُولِ الطَّهَارَةِ كَانَ شَرْطُ الصَّلَاةِ بَعْدَ حُصُولِ الطَّهَارَةِ مَوْجُودًا فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهِ فَيَجُوزُ بِنَاءُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ الْمَاسِحِ يَؤُمُّ الْغَاسِلِينَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْخُفَّ بَدَلٌ عَنْ الرِّجْلِ فِي قَبُولِ الْحَدَثِ لَا أَنَّ الْمَسْحَ خَلَفٌ عَنْ الْغَسْلِ بَلْ الْمَسْحُ أَصْلٌ كَالْمَسْحِ بِالرَّأْسِ فَكَانَتْ طَهَارَةُ الْمَاسِحِ طَهَارَةً أَصْلِيَّةً غَيْرَ مَنْقُولَةٍ إلَى بَدَلٍ فَكَذَا هَاهُنَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَؤُمُّ الْمُتَيَمِّمُ الْمُتَوَضِّئَ بِحَالٍ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّ عِنْدَهُ لَمَّا كَانَ التَّيَمُّمُ خَلَفًا عَنْ الْوُضُوءِ كَانَ الْمُتَيَمِّمُ صَاحِبَ الْخَلَفِ وَالْمُتَوَضِّئُ صَاحِبَ الْأَصْلِ وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْأَصْلِ الْقَوِيِّ أَنْ يَبْنِيَ صَلَاتَهُ عَلَى صَلَاةِ صَاحِبِ الْخَلَفِ كَمَا لَا يَبْنِي الْمُصَلِّي بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ عَلَى الصَّلَاةِ الْمُومِئِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَ الْمُتَوَضِّئِ مَاءٌ لَا يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُ بِالْمُتَيَمِّمِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْأَصْلِ فَكَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ

وَعِنْدَ زُفَرَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَالْوُضُوءِ. وَيُبْتَنَى عَلَيْهِ مَسْأَلَةُ إمَامَةِ الْمُتَيَمِّمِ لِلْمُتَوَضِّئِ وَقَدْ يَكُونُ الْخَلَفُ ضَرُورِيًّا وَهُوَ التُّرَابُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ إذَا خِيفَ فَوْتُ الصَّلَاةِ حَتَّى إنَّ مَنْ تَيَمَّمَ لِجِنَازَةٍ فَصَلَّى، ثُمَّ جِيءَ بِأُخْرَى لَمْ يُعِدْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَأَعَادَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى مَا قُلْنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQمَعَهُ مَاءٌ؛ لِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِلطَّهَارَةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ وَإِنْ كَانَ الْمُتَوَضِّئُ قَادِرًا عَلَى الْمَاءِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ قُدْرَتَهُ عَلَى الْمَاءِ لَا تُغَيِّرُ وَلَا حَالَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ شَرْطٌ فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَهُوَ بَاقٍ فِي حَقِّهِ وَلِهَذَا جَازَتْ صَلَاتُهُ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي وَلِهَذَا لَمْ يَنْتَقِضْ طَهَارَتُهُ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْبِنَاءِ كَمَا إذَا لَمْ يَقْدِر عَلَى الْمَاءِ إلَّا أَنَّا نَقُولُ لَمَّا قَدَرَ الْمُقْتَدِي عَلَى الْمَاءِ كَانَ فِي زَعْمِهِ أَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّ الْإِمَامِ فَفَسَدَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ فِي زَعْمِهِ فَلَمْ يَصْلُح اقْتِدَاؤُهُ بِهِ كَمَا لَوْ كَانَ فِي زَعْمِهِ أَنَّ إمَامَهُ مُخْطِئٌ فِي تَحَرِّيهِ لِلْقِبْلَةِ لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ صَحِيحَةً فِي نَفْسِهَا وَكَالصَّحِيحِ يَقْتَدِي بِصَاحِبِ الْجُرْحِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ طَهَارَتَهُ لَيْسَتْ بِطَهَارَةٍ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً فِي حَقِّ الْإِمَامِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُقْتَدِي الْمُتَوَضِّئُ قَادِرًا عَلَى الْمَاءِ؛ لِأَنَّ الْعَدَمَ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَالْمُقْتَدِي جَمِيعًا فَكَانَ الصَّعِيدُ طَهُورًا فِي حَقِّ الْكُلِّ إلَّا أَنَّ الْمُقْتَدِيَ اسْتَغْنَى عَنْهُ لِكَوْنِهِ عَلَى طُهْرٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلِهَذَا لَوْ أَحْدَثَ الْمُقْتَدِي جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ فَكَانَتْ طَهَارَةُ الْإِمَامِ طَهَارَةً فِي حَقِّهِ فَصَلُحَ إمَامًا لَهُ. 1 - وَمِثَالُهُ قَوْمٌ بِهِمْ جُرُوحٌ سَائِلَةٌ أَمَّهُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ سَالَ مِنْهُ الدَّمُ بَعْدَ الطَّهَارَةِ وَلَمْ يَسِلْ مِنْ الْبَاقِينَ، ثُمَّ سَالَ الدَّمُ فِي الْوَقْتِ مِنْهُمْ بَعْدَ الصَّلَاةِ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ الَّذِي مَنَعَ الدَّمَ أَنْ يَكُونَ حَدَثًا ثَابِتٌ فِي حَقِّهِمْ جَمِيعًا فَصَحَّ الِاقْتِدَاءُ وَإِنْ كَانَ الْقَوْمُ صَلَّوْا صَلَاتَهُمْ بِطَهَارَةٍ صَحِيحَةٍ لَا دَمَ بَعْدَهَا هَكَذَا ذَكَرَ قَوْلُ زُفَرَ فِي الْأَسْرَارِ وَالْمَبْسُوطِ وَعَامَّةِ الْكُتُبِ. وَسِيَاقُ كَلَامِ الشَّيْخِ هَاهُنَا حَيْثُ ضَمَّ زُفَرَ إلَى مُحَمَّدٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ كَمَا هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ عَلَى خِلَافِ مَا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ فَلَعَلَّهُ ظَفِرَ بِرِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ أَنَّهُ قَوْلُهُ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَأَوْرَدَ قَوْلَهُ مُوَافِقًا لِقَوْلِ مُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ كَمَا ذَكَرَ الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْمَبْسُوطِ فَقَالَ: وَيَؤُمُّ الْمُتَيَمِّمُ الْمُتَوَضِّئِينَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: لَا يَؤُمُّ فَإِنْ كَانَ مَعَ الْمُتَوَضِّئِينَ مَاءٌ لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ بِلَا خِلَافٍ فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَاتِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ فَلَا يَصِحُّ ذِكْرُهُ مَعَ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَيْهِمَا مُتَنَاقِضَانِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى كَانَ ذِكْرُ زُفَرَ هَاهُنَا سَهْوًا مِنْ الْكَاتِبِ قَوْلُهُ (وَقَدْ يَكُونُ الْخَلَفُ) أَيْ هَذَا الْخَلَفُ الَّذِي هُوَ مُطْلَقٌ وَهُوَ التُّرَابُ أَوْ التَّيَمُّمُ ضَرُورِيًّا عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ يَعْنِي شَرْطُ ثُبُوتِهِ عَدَمُ الْأَصْلِ، ثُمَّ إنَّهُ قَدْ يَثْبُتُ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ ضَرُورَةُ الِاحْتِرَازِ عَنْ فَوْتِ الصَّلَاةِ بِأَنْ فَاتَتْ أَصْلًا إلَى بَدَلٍ فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ فِي الْمِصْرِ إذَا خِيفَ فَوْتُهَا لَوْ اشْتَغَلَ بِالْوُضُوءِ وَكَذَلِكَ لِصَلَاةِ الْعِيدِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ لَهُمَا قِيَاسًا عَلَى الْجُمُعَةِ وَسَائِرِ الصَّلَاةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةٌ شَرْعًا عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ فَمَعَ وُجُودِهِ لَا يَكُونُ طَهَارَةً وَلَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهَارَةٍ. إلَّا أَنَّا نَقُولُ: إنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ لَا تُقْضَى وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْعِيدِ وَالظِّهَارُ بِالْمَاءِ شُرِعَتْ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ فَإِذَا خَافَ الْفَوْتَ أَصْلًا لَوْ اشْتَغَلَ بِالْوُضُوءِ صَارَ عَادِمًا لِلْمَاءِ فِي حَقِّ هَذِهِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الصَّلَاةُ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ قَطُّ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ فَأُبِيحَ لَهُ التَّيَمُّمُ كَمَا لَوْ خَافَ عَطَشًا بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّهَا تَفُوتُ إلَى خَلَفٍ وَبِخِلَافِ الْوَلِيِّ حَيْثُ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخَافُ الْفَوْتَ فَإِنَّ النَّاسَ وَإِنْ صَلَّوْا عَلَيْهِ كَانَ لَهُ حَقُّ الْإِعَادَةِ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إذَا فَجَأَتْك.

وَهَذَا إنَّمَا يُسْتَقْصَى فِي مَبْسُوطِ أَصْحَابِنَا وَإِنَّمَا غَرَضُنَا الْإِشَارَةُ إلَى الْأَصْلِ وَذَلِكَ أَنَّ الْخِلَافَةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالنَّصِّ أَوْ دَلَالَةِ النَّصِّ وَشَرْطُهُ عَدَمُ الْأَصْلِ لِلْحَالِ عَلَى احْتِمَالِ الْوُجُودِ لِيَصِيرَ السَّبَبُ مُنْعَقِدًا لِلْأَصْلِ فَيَصِحُّ الْخَلَفُ فَإِذَا لَمْ يَحْتَمِلْ أَصْلَ الْوُجُودِ فَلَا مِثْلُ الْبِرِّ فِي الْغَمُوسِ لَمَّا لَمْ يَحْتَمِلْ الْوُجُودَ لَمْ يُثْبِتْ الْكَفَّارَةَ خَلَفًا عَنْهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQجِنَازَةٌ فَخَشِيَتْ فَوْتَهَا فَصَلِّ عَلَيْهَا بِالتَّيَمُّمِ وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي صَلَاةِ الْعِيدِ مِثْلُهُ حَتَّى إنَّ مَنْ تَيَمَّمَ لِجِنَازَةٍ فَجِيءَ بِأُخْرَى يَعْنِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يُدْرِكَ وَقْتًا بَيْنَ الْجِنَازَتَيْنِ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ الْوُضُوءِ لَمْ يُعِدْ التَّيَمُّمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِبَقَاءِ الضَّرُورَةِ وَأَعَادَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِنَاءً عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي الْخِلَافَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْخِلَافَةَ هَاهُنَا وَإِنْ كَانَتْ ضَرُورِيَّةً، لَكِنَّهَا بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَالْوُضُوءِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَتَيَمُّمُهُ الْأَوَّلُ كَانَ لِحَاجَتِهِ إلَى إحْرَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ الْأُولَى وَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُهُ بِالْفَرَاغِ مِنْهَا فَانْتَهَى حُكْمُ ذَلِكَ التَّيَمُّمِ، ثُمَّ حَدَثَتْ بِهِ حَاجَةٌ جَدِيدَةٌ إلَى إحْرَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ الثَّانِيَةِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لَهَا وَأَنْ يَجِدَ بَيْنَ الْجِنَازَتَيْنِ مِنْ الْوَقْتِ مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا وَيَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِهَا وَقَاسَ بِمَا لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ الْوُضُوءِ بَيْنَ الْجِنَازَتَيْنِ. وَعِنْدَهُمَا هَذِهِ الْخِلَافَةُ وَإِنْ ثَبَتَتْ ضَرُورَةً إلَّا أَنَّهَا بَيْنَ التُّرَابِ وَالْمَاءِ كَمَا إذَا كَانَتْ مُطْلَقَةً فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْجَنَائِزِ مَا لَمْ يُدْرِكْ مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارَ مَا يُمَكِّنُهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ لَا تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ عَلَى جِنَازَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي صَارَ التُّرَابُ طَهُورًا لِأَجْلِهِ وَهُوَ ضَرُورَةُ خَوْفِ الْفَوْتِ قَائِمٌ بَعْدَ فَيَبْقَى تَيَمُّمُهُ بِبَقَاءِ الْمَعْنَى بِخِلَافِ مَا إذَا تَمَكَّنَ مِنْ الطَّهَارَةِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ انْتَهَتْ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ خَوْفِ فَوْتٍ يُوَضِّحُهُ أَنَّ التَّيَمُّمَ بَعْدَمَا صَحَّ لَا يُنْتَقَضُ أَلَا بِالْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَأَنَّهُ لَمْ يَقْدِر عَلَيْهِ بِالْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ الْأُولَى إذَا كَانَ يَخَافُ فَوْتَ الثَّانِيَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ يَتَمَكَّنُ مِنْ الطَّهَارَةِ بَيْنَهُمَا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِعْمَالِهِ كَانَ فَرْضُ اسْتِعْمَالِهِ سَاقِطًا عَنْهُ فَيَكُونُ وُجُودُ الْمَاءِ وَعَدَمُهُ فِي حَقِّهِ سَوَاءً كَذَا فِي نَوَادِرِ الْمَبْسُوطِ قَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ بَيَانٌ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَتَحْقِيقُ هَذِهِ الْفُرُوعِ إنَّمَا يُسْتَقْصَى أَيْ يُبْلَغَ أَقْصَاهُ فِي مَبْسُوطِ أَصْحَابِنَا أَوْ بَيَانُ الْأَصْلِ وَالْخَلَفِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْحُقُوقِ الْمَذْكُورَة فَإِنَّ لِكُلٍّ مِنْهَا خَلَفًا إنَّمَا يُعْرَفُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّحْقِيقِ فِي مَبْسُوطِ أَصْحَابِنَا فَإِنَّ الْفِدْيَةَ خَلَفٌ عَنْ الصَّوْمِ عِنْدَ الْعَجْزِ وَكَذَا عَنْ الصَّلَاةِ وَالْقَضَاءُ خَلَفٌ عَنْ الْأَدَاءِ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ الَّتِي شُرِعَ فِيهَا الْقَضَاءُ وَإِحْجَاجُ الْغَيْرِ خَلَفٌ عَنْ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الْعَجْزِ وَالْكَفَّارَةُ فِي الْيَمِين خَلَفٌ عَنْ الْبِرِّ وَكَذَا فِي أَدَاءِ الْقَيِّمِ فِي الزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْعُشْرِ وَسَائِرِ الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ مَعْنَى الْخَلَفِيَّةِ وَكَذَا قَيِّمُ الْمُتْلَفَاتِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَهَذَا مِمَّا يَكْثُرُ تَعْدَادُهُ وَيَطُولُ بِهِ الْكِتَابُ وَإِنَّمَا عَرَضْنَا الْإِشَارَةَ إلَى الْأَصْلِ وَذَلِكَ الْأَصْلُ أَنَّ الْخِلَافَةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالنَّصِّ أَوْ دَلَالَةِ النَّصِّ لَمْ يُرِدْ الشَّيْخُ الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِمَا بَلْ يَثْبُتُ بِإِشَارَةِ النَّصِّ وَبِاقْتِضَائِهِ أَيْضًا وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ انْتِفَاءَ ثُبُوتِ الْخِلَافَةِ بِالرَّأْيِ يَعْنِي أَنَّ الْخَلَفَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِمَا يَثْبُتُ بِهِ الْأَصْلُ وَالْأَصْلُ لَا يَثْبُتُ بِالرَّأْيِ فَكَذَلِكَ خَلَفُهُ. وَشَرْطُهُ أَيْ شَرْطُ ثُبُوتِ الْخَلَفِ عَدَمُ الْأَصْلِ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ لَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَى الْخَلَفِ لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَدَمًا مُحْتَمِلًا لِلْوُجُودِ لِيَصِيرَ السَّبَبُ الْمُثْبِتُ لِلْأَصْلِ، ثُمَّ بِالْعَجْزِ عَنْهُ يَتَحَوَّلُ الْحُكْمُ إلَى الْخَلَفِ كَمَا بَيَّنَّا فِي التَّيَمُّمِ أَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْوُضُوءِ وَهُوَ إرَادَةُ الصَّلَاةِ قَدْ انْعَقَدَ مُوجِبًا لَهُ لِاحْتِمَالِ حُدُوثِ الْمَاءِ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ، ثُمَّ بِالْعَجْزِ انْتَقَلَ الْحُكْمُ إلَى التَّيَمُّمِ فَإِذَا لَمْ يَحْتَمِلْ الْأَصْلُ الْوُجُودَ فَلَا أَيْ فَلَا يَثْبُتُ الْخَلَفُ كَالْخَارِجِ مِنْ الْبَدَنِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْوُضُوءِ كَالدَّمْعِ وَالْعَرَقِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْخَلَفِ وَهُوَ التَّيَمُّمُ وَكَالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْأَصْلِ وَهُوَ الِاعْتِدَادُ بِالْأَقْرَاءِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِمَا هُوَ خَلَفٌ عَنْهُ وَهُوَ الِاعْتِدَادُ بِالْأَشْهُرِ وَمِثْلُ الْبِرِّ فِي الْغَمُوسِ.

بِخِلَافِ مَسِّ السَّمَاءِ وَسَائِرِ الْإِبْدَالِ فَإِنَّهَا لَمْ تُشْرَعْ إلَّا عِنْدَ احْتِمَالِ وُجُودِ الْأَصْلِ أَكْثَرَ وَالْمَسَائِلُ عَلَى هَذَا أَكْثَرُ الْأَصْلِ مِنْ أَنْ تُحْصَى وَقَدْ سَبَقَ بَعْضُهَا فِيمَنْ أَسْلَمَ فِي آخِرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْمَشْهُودِ بِقَتْلِهِ إذَا جَاءَ حَيًّا وَقَدْ قُتِلَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَاخْتَارَ الْوَلِيُّ تَضْمِينَ الشُّهُودِ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَلَى الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ التَّعَدِّي وَالضَّمَانُ وَالْمَضْمُونُ وَهُوَ الدَّمُ مُحْتَمَلٌ لِلْمِلْكِ فِي الشَّرْعِ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ مِثْلُ مَسِّ السَّمَاءِ فَعُمِلَ فِي بَدَلِهِ وَهُوَ الدِّيَةُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِالْأَصْلِ كَمَا قِيلَ فِي غَاصِبِ الْمُدَبَّرِ مِنْ الْغَاصِبِ إذَا مَاتَ الْمُدَبَّرُ عِنْدَ الثَّانِي أَوْ أَبَقَ إنَّ الْأَوَّلَ إذَا ضَمِنَ رَجَعَ عَلَى الثَّانِي وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ الْمُدَبَّرَ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَمَّا لَمْ يَحْتَمِلْ الْوُجُودَ؛ لِأَنَّهَا أُضِيفَتْ إلَى مَا لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْبِرُّ لَا يَنْعَقِدُ مُوجِبُهُ لِمَا هُوَ خَلَفٌ عَنْ الْبِرِّ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ مَسِّ السَّمَاءِ أَيْ الْيَمِينَ عَلَى مَسِّ السَّمَاءِ فَإِنَّهَا لَمَّا انْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِلْبِرِّ لِمُصَادَفَتِهَا مَحَلَّ الْبِرِّ كَانَتْ مُوجِبَةً لِلْخَلَفِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ وَسَائِرُ الْأَبْدَالِ كَمَسْحِ الْخُفِّ وَالتَّيَمُّمِ وَالْفِدْيَةِ فِي الصَّوْمِ وَالصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَغَيْرِهِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَهُوَ اشْتِرَاطُ احْتِمَالِ وُجُودِ الْأَصْلِ لِثُبُوتِ الْخَلَفِ. وَقَدْ سَبَقَ بَعْضُهَا أَيْ بَيَانُ بَعْضِهَا فِيمَنْ أَسْلَمَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ فَإِنَّا أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْقَضَاءَ لِاحْتِمَالِ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجَزَاءَ لَمَّا صَلُحَ مُوجِبًا لِلْأَدَاءِ صَلُحَ مُوجِبًا لِمَا هُوَ خَلَفٌ عَنْهُ وَهُوَ الْقَضَاءُ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ؛ وَلِأَنَّ الْخَلَفَ يَثْبُت عِنْدَ احْتِمَالِ وُجُودِ الْأَصْلِ وَإِنْ بَعُدَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إلَى آخِرِهِ إذَا شَهِدَتْ الشُّهُودُ عَلَى رَجُلٍ بِقَتْلٍ عَمْدٍ وَقَتَلَهُ الْوَلِيُّ بِشَهَادَتِهِمْ، ثُمَّ رَجَعَ الشُّهُودُ وَالْوَلِيُّ جَمِيعًا أَوْ جَاءَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا فَلِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَضْمَنَ الشُّهُودُ الدِّيَةَ وَبَيْنَ أَنْ يَضْمَنَهَا الْقَاتِلُ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ مُتْلِفٌ لِلْمَقْتُولِ حَقِيقَةً وَالشُّهُودُ مُتْلِفُونَ لَهُ حُكْمًا وَالْإِتْلَافُ الْحُكْمِيُّ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ مِثْلُ الْإِتْلَافِ الْحَقِيقِيِّ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَضْمَنَ أَيَّهُمَا شَاءَ فَإِنْ اخْتَارَ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ تَضْمِينَ الْقَاتِلِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الشُّهُودِ بِشَيْءٍ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ بِفِعْلٍ بَاشَرَهُ لِنَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الشُّهُودِ لَمْ يَرْجِعُوا عَلَى الْقَاتِلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إنَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَلَى الْوَلِيِّ أَيْ لَهُمْ وِلَايَةُ الرُّجُوعِ عَلَى الْقَاتِلِ إنْ شَاءُوا؛ لِأَنَّهُمْ ضَمِنُوا بِشَهَادَتِهِمْ وَقَدْ كَانُوا عَامِلِينَ فِيهَا لِلْوَلِيِّ فَيَرْجِعُونَ عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ الضَّمَانِ كَمَا لَوْ شَهِدُوا بِالْقَتْلِ خَطَأً أَوْ بِالْمَالِ فَقَضَى الْقَاضِي بِهِ وَاسْتَوْفَاهُ الْمَشْهُودُ لَهُ، ثُمَّ رَجَعُوا جَمِيعًا وَضَمِنَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ وَتَعْلِيلُ الشَّيْخِ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ إلَى آخِرِهِ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَمَّا يُقَالُ: إنَّ الشُّهُودَ إنَّمَا يَرْجِعُونَ إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ قَابِلًا لِلْمِلْكِ فَيَمْلِكُونَهُ بِالضَّمَانِ فَيَرْجِعُونَ بَعْدَمَا صَارَ مِلْكًا لَهُمْ إلَى الْمَشْهُودِ لَهُ وَهَاهُنَا الْمَشْهُودُ بِهِ الْقِصَاصُ وَهُوَ لَا يُمْلَكُ بِالضَّمَانِ فَلَا يَكُونُ لَهُمْ وِلَايَةُ الرُّجُوعِ فَقَالَ: لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ أَيْ مِلْكِ الْمَشْهُودِ بِهِ لِلشُّهُودِ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ التَّعَدِّي بِالشَّهَادَةِ كَذِبًا. وَالضَّمَانُ أَيْ وُجُوبُ الضَّمَانِ أَوْ أَدَاءُ الضَّمَانِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا وَالْمَضْمُونُ وَهُوَ الدَّمُ مُحْتَمِلٌ لِلْمِلْكِ أَيْ لِلْمَمْلُوكِيَّةِ فِي الشَّرْعِ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ أَيْ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ تَمَلُّكُهُ فَإِنَّ الشَّرْعَ لَوْ وَرَدَ بِتَمَلُّكِ الدَّمِ لَا يَسْتَحِيلُهُ الْعَقْلُ. أَلَا تَرَى أَنَّ نَفْسَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ كَالْمَمْلُوكِ لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ حَتَّى كَانَ لَهُ وِلَايَةُ إهْلَاكِهِ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ مِنْهُ وَوِلَايَةُ إبْقَائِهِ بِالْعَفْوِ كَالْعَبْدِ كَانَ لِلْمَوْلَى وِلَايَةُ إبْقَائِهِ فِي مِلْكِهِ وَوِلَايَةُ إخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ وَالْإِعْتَاقِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ السَّبَبُ وَهُوَ الضَّمَانُ الَّذِي لَزِمَهُمْ بِتَعَدِّيهِمْ مُنْعَقِدَ الْمِلْكِ الْمَضْمُونِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ، وَلَكِنْ تَعَذُّرَ الْعَمَلُ بِهِ لِعَدَمِ وُرُودِ الشَّرْعِ بِهِ حَقِيقَةً فَعَمِلَ أَيْ السَّبَبُ فِي بَدَلِ الْمَضْمُونِ وَهُوَ الدِّيَةُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِالْأَصْلِ كَمَا قِيلَ فِي غَاصِبِ الْمُدَبَّرِ مِنْ الْغَاصِبِ إنَّ الْغَاصِبَ الْأَوَّلَ إذَا ضَمِنَ رَجَعَ بِهِ أَيْ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْغَاصِبِ الثَّانِي وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ الْغَاصِبُ الْأَوَّلُ الْمُدَبَّرَ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ وَهُوَ التَّعَدِّي وَالضَّمَانُ قَدْ وُجِدَ وَالْمُدَبَّرُ مُحْتَمِلٌ لِلْمِلْكِ فِي الشَّرْعِ فَإِنَّ الشَّرْعَ لَوْ وَرَدَ بِهِ لَا يَكُونُ مُسْتَحِيلًا فَيَنْعَقِدُ السَّبَبُ

وَكَذَلِكَ شُهُودُ الْكِتَابَةِ إذَا رَجَعُوا بَعْدَ الْحُكْمِ وَضَمِنُوا قِيمَتَهُ رَجَعُوا بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ عَلَى الْمَكَاتِبِ وَلَمْ يَمْلِكُوا رَقَبَتَهُ لِمَا قُلْنَا: إنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ وُجِدَ وَالْأَصْلُ يَحْتَمِلُ الْمِلْكَ فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ قَامَ الْبَدَلُ مَقَامَهُ وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَدْ قَالَ: إنَّ الشُّهُودَ مُتْلِفُونَ حُكْمًا بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ وَالْوَلِيُّ مُتْلِفٌ حَقِيقَةً بِالْمُبَاشَرَةِ وَهُمَا سَوَاءٌ فِي ضَمَانِ الدَّمِ وَإِذَا كَانَ الْوَلِيُّ لَا يَرْجِعُ لَمْ يَرْجِعْ الشُّهُودُ أَيْضًا بِخِلَافِ الشُّهُودِ الْخِطَاءِ فَإِنَّهُمْ إذَا ضَمِنُوا وَقَدْ جَاءَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا رَجَعُوا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَ بِالْإِتْلَافِ لَكِنْ بِمَا أَوْجَبُوا لِلْوَلِيِّ فَإِذَا ضَمِنُوا صَارَ الْوَلِيُّ مُتْلِفًا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ ثَمَّةَ الْمَالُ وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْمِلْكِ وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمَا إنَّ مِلْكَ الْأَصْلِ الْمُتْلَفِ وَهُوَ الدَّمُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ أَصْلًا وَلَا يُحْتَمَلُ فَلَا يَنْعَقِدُ السَّبَبُ لَهُ فَيَبْطُلُ الْخَلَفُ وَلِأَنَّ الْخَلَفَ يَحْكِي الْأَصْلَ وَالْأَصْلُ هُوَ الدَّمُ الْمُتْلَفُ وَمِلْكُ الدَّمِ هُوَ مِلْكُ الْقِصَاصِ وَالْأَصْلُ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مَضْمُونٍ لَوْ صَارَ مِلْكًا فَكَذَلِكَ خَلَفُهُ وَفِي الْمُدَبَّرِ الْأَصْلُ مَضْمُونٌ مَتَى كَانَ مِلْكًا لَا مَحَالَةَ فَكَذَلِكَ بَدَلُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQمُوجِبًا لِمِلْكِ الْأَصْلِ وَهُوَ الْمُدَبَّرُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ فِي بَدَلِهِ وَهُوَ الْقِيمَةُ فَيَمْلِكُ مِثْلَ مَا ضَمِنَهُ عَلَى الْغَاصِبِ الثَّانِي فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَغَاصِبِ الْمُدَبَّرِ مِنْ الْغَاصِبِ شُهُودُ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُمْ إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كَاتَبَ عَبْدَهُ هَذَا بِأَلْفٍ إلَى سَنَةٍ فَقُضِيَ بِذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعُوا وَالْعَبْدُ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ أَوْ أَلْفًا يَضْمَنُونَ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُمْ حَالُوا بَيْنَ الْمَوْلَى وَبَيْنَ مَالِيَّةِ الْعَبْدِ بِشَهَادَتِهِمْ عَلَيْهِ بِالْكِتَابَةِ فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِينَ ضَامِنِينَ لِلْقِيمَةِ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ عَلَى الْمُكَاتَبِ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ عَلَى نُجُومِهَا وَإِنْ لَمْ يَمْلِكُوا رَقَبَتَهُ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يَقْبَلُ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ كَالْمُدَبَّرِ وَلِهَذَا لَوْ عَجَزَ وَرُدَّ فِي الرِّقِّ كَانَ لِمَوْلَاهُ دُونَ الشُّهُودِ. وَقَوْلُهُ لِمَا قُلْنَا دَلِيلُ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَيْ لِمَا قُلْنَا إنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ وَهُوَ التَّعَدِّي وَالضَّمَانُ قَدْ وُجِدَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَالْأَصْلُ وَهُوَ الْمُدَبَّرُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَالْمُكَاتَبُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَحْتَمِلُ الْمِلْكَ لِعَدَمِ اسْتِحَالَةِ وُرُودِ الشَّرْعِ بِهِ كَالدَّمِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لِلشُّهُودِ فِي الرَّقَبَةِ لِقِيَامِ الْمَانِعِ وَهُوَ التَّدْبِيرُ وَالْكِتَابَةُ قَامَ الْبَدَلُ وَهُوَ الْقِيمَةُ فِي الْمُدَبَّرِ وَبَدَلِ الْكِتَابَةِ فِي الْمُكَاتَبِ مَقَامَ الْأَصْلِ وَإِنَّمَا يَرْجِعُونَ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ دُونَ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ اسْتَحَقَّ الْعِتْقَ عَلَى الْمَوْلَى بِإِزَاءِ الْبَدَلِ وَأَنَّهُمْ قَامُوا مَقَامَ الْمَوْلَى فِي قَبْضِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ حِينَ ضَمِنُوا قِيمَتَهُ فَلَا يَكُونُ لَهُمْ وِلَايَةُ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِمَا زَادَ عَلَى الْبَدَلِ كَمَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى ذَلِكَ وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَدْ قَالَ يَعْنِي فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنَّ الشُّهُودَ مُتْلِفُونَ حُكْمًا بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُونُوا مُتْلِفِينَ لَمَا كَانُوا ضَامِنِينَ مَعَ مُبَاشِرِ الْإِتْلَافِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ التَّسْبِيبِ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ فِي مُقَابَلَةِ الْمُبَاشَرَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ إنْسَانًا فِي بِئْرٍ حَفَرَهَا غَيْرُهُ مِنْ الطَّرِيقِ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الدَّافِعِ دُونَ الْحَافِرِ وَلَمَّا ضَمِنَ الشُّهُودَ هَاهُنَا عَرَفْنَا أَنَّهُمْ جُنَاةٌ مُتْلِفُونَ لِلنَّفْسِ حُكْمًا وَإِنْ كَانَ تَمَامُ ذَلِكَ الْإِتْلَافِ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الْوَلِيِّ فَإِنَّ اسْتِيفَاءَهُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ لِتَمَامِ جِنَايَتِهِمْ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ يَضْمَنُونَ بِإِتْلَافٍ بَاشَرُوهُ حُكْمًا وَالْوَلِيُّ ضَامِنٌ بِإِتْلَافٍ بَاشَرَهُ حَقِيقَةً وَهُمَا أَيْ الْمُتْلَفُ حُكْمًا وَالْمُتْلَفُ حَقِيقَةً أَوْ الْمُتْلَفُ بِالتَّسْبِيبِ وَالْمُتْلَفُ بِالْمُبَاشَرَةِ سَوَاءٌ فِي ضَمَانِ الدِّيَةِ وَإِنْ لَمْ يَتَسَاوَيَا فِي ضَمَانِ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلُ الْمَحَلِّ وَبَدَلُ الْمَحَلِّ يَعْتَمِدُ فَوَاتَ الْمَحَلِّ فَبِأَيِّ طَرِيقٍ حَصَلَ الْفَوَاتُ تَجِبُ الدِّيَةُ سَوَاءٌ كَانَ مُبَاشَرَةً أَوْ تَسْبِيبًا. وَلِهَذَا كَانَ وَلِيُّ الْقَتِيلِ مُخَيَّرًا بَيْنَ تَضْمِينِ الْوَلِيِّ وَبَيْنَ تَضْمِينِ الشُّهُودِ، ثُمَّ وَلِيُّ الْقَتِيلِ إذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُبَاشِرِ الْمُتْلِفِ وَهُوَ الْوَلِيُّ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الشُّهُودِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ بِجِنَايَتِهِ وَهِيَ الْإِتْلَافُ حَقِيقَةً فَكَذَلِكَ إذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ الشُّهُودِ لَا يَكُونُ لَهُمْ وِلَايَةُ الرُّجُوعِ عَلَى الَّذِي بَاشَرَ الْقَتْلَ؛ لِأَنَّهُمْ ضَمِنُوا بِجِنَايَتِهِمْ وَمَنْ ضَمِنَ بِجِنَايَةِ نَفْسَهُ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْكِتَابِ وَإِذَا كَانَ الْوَلِيُّ الَّذِي بَاشَرَ الْقَتْلَ وَلَا يَرْجِعُ يَعْنِي عَلَى الشُّهُودِ عِنْدَ التَّضْمِينِ لَمْ يَرْجِعْ الشُّهُودُ أَيْضًا عَلَيْهِ عِنْدَ التَّضْمِينِ بِخِلَافِ شُهُودِ الْخَطَأِ يَعْنِي إذَا شَهِدُوا بِالْقَتْلِ خَطَأً وَأَخَذَ الْمَشْهُودُ لَهُ الدِّيَةَ مِنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا فَإِنَّ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَنْ يَضْمَنَ الشُّهُودَ فَإِذَا ضَمِنَهُمْ كَانَ لَهُمْ وِلَايَةُ الرُّجُوعِ عَلَى الْآخِذِ وَهُوَ الْمَشْهُودُ لَهُ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَ بِالْإِتْلَافِ إذْ لَمْ يَحْصُلْ بِشَهَادَتِهِمْ تَلَفُ نَفْسٍ، لَكِنَّهُمْ إنَّمَا يَضْمَنُونَ بِمَا أَوْجَبُوا لِلْوَلِيِّ أَيْ لِوَلِيِّ الْمَشْهُودِ بِقَتْلِهِ خَطَأً مِنْ الْمَالِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَإِذَا ضَمِنُوا ذَلِكَ الْمَالَ مَلَكُوهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ قَابِلٌ لِلْمِلْكِ بِسَائِرِ الْأَسْبَابِ فَيُمْلَكُ بِهَذَا السَّبَبِ أَيْضًا، ثُمَّ إنَّهُ إنْ كَانَ قَائِمًا فِي يَدِ الْوَلِيِّ يَأْخُذُونَهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ أَحَقُّ بِمِلْكِهِمْ. 1 -

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَأَرْبَعَةٌ السَّبَبُ وَالْعِلَّةُ وَالشَّرْطُ وَالْعَلَامَةُ أَمَّا السَّبَبُ فَإِنَّهُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الطَّرِيقُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا - فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف: 84 - 85] أَيْ طَرِيقًا وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْبَابُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} [غافر: 36] {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} [غافر: 37] يُرِيدُ بِهِ أَبْوَابَهَا وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: وَلَوْ نَالَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْحَبْلُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ} [الحج: 15] أَيْ بِحَبْلٍ إلَى السَّقْفِ وَمَعْنَى ذَلِكَ وَاحِدٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ يَرْجِعُونَ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْإِتْلَافَاتِ وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمَا أَيْ عَمَّا قَالَا: إنَّ الْأَصْلَ مُحْتَمِلٌ لِلْمِلْكِ فَانْعَقَدَ السَّبَبُ مُوجِبًا لَهُ إلَى آخِرِهِ إنَّ مِلْكَ الْأَصْلِ الْمُتْلَفِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ أَصْلًا فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ قَدْ أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ أَيْضًا وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَصِيرَ مَشْرُوعًا؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْمَشْرُوعِيَّةِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِاحْتِمَالِ الْوَحْيِ وَقَدْ انْقَطَعَ احْتِمَالُ الْوَحْيِ بِوَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَنْعَقِدُ السَّبَبُ مُوجِبًا لِلْأَصْلِ بِوَجْهٍ كَمَا فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ فَيُبْطَلُ الْخَلَفُ بِخِلَافِ الْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ عَلَى مَسِّ السَّمَاءِ؛ لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ قَائِمٌ فِي الْحَالِ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ فَيَنْعَقِدُ السَّبَبُ مُوجِبًا لِلْأَصْلِ فَيَعْمَلُ فِي الْخَلَفِ وَبِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْمِلْكِ فِيهِمَا قَائِمٌ فِي الْحَالِ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي جَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ وَلِهَذَا لَوْ قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِهِ يَنْفُذُ وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمُكَاتَبِ أَيْضًا بِرِضَاهُ وَأَصْلُ الْمِلْكِ فِي رَقَبَتِهِ ثَابِتٌ لِلْمَوْلَى وَيَجُوزُ رَدُّهُ إلَى الرِّقِّ بِالْعَجْزِ وَيَصِيرُ مِلْكًا لِلْمَوْلَى يَدًا وَرَقَبَةً كَمَا كَانَ وَإِذَا كَانَ احْتِمَالُ الْمِلْكِ ثَابِتًا فِي الْحَالِ جَازَ أَنْ يَنْعَقِدَ السَّبَبُ مُوجِبًا لِلْأَصْلِ لِيَعْمَلَ فِي الْخَلَفِ وَلِأَنَّ الْخَلَفَ يَحْكِي الْأَصْلَ يَعْنِي وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الدَّمَ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ قَابِلٌ لِلْمِلْكِ وَمُحْتَمِلٌ لَهُ لَمْ يَكُنْ لِلشُّهُودِ وِلَايَةُ إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الْوَلِيِّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْخَلَفَ يَحْكِي الْأَصْلَ أَيْ يُشَابِهُهُ وَيَثْبُتُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ الْأَصْلُ وَالْأَصْلُ هُوَ الدَّمُ الْمُتْلَفُ وَمِلْكُ الدَّمِ عِبَارَةٌ عَنْ مِلْكِ الْقِصَاصِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ الْقِصَاصُ مِلْكًا لَهُمْ لَمْ يَضْمَنْهُ الْمُتْلِفُ عَلَيْهِمْ سَوَاءٌ كَانَ الْإِتْلَافُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا كَمَا إذَا قَتَلَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إنْسَانٌ آخَرُ أَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِالْعَفْوِ. ثُمَّ رَجَعُوا لَمْ يَجِبْ لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ ضَمَانٌ عَلَى الْقَاتِلِ وَالشُّهُودِ وَانْعِقَادُ السَّبَبِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ ثُبُوتِ الْمِلْكِ حَقِيقَةً وَإِذَا امْتَنَعَ ضَمَانُ الْأَصْلِ لَمْ يُتَصَوَّرْ زَمَانُ خَلَفِهِ وَهُوَ الدِّيَةُ وَفِي الْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ الْأَصْلُ وَهُوَ الرَّقَبَةُ مَضْمُونٌ مَتَى كَانَ مَمْلُوكًا لَا مَحَالَةَ يَعْنِي مَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَكُونُ ثَابِتًا يَكُونُ مُوجِبًا ضَمَانَ خَلَفِهِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ فَكَذَلِكَ إذَا انْعَقَدَ السَّبَبُ مُوجِبًا لِلْأَصْلِ، ثُمَّ لَمْ يَعْمَلْ بِعَارِضِ التَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ يَكُونُ مُوجِبًا لِخَلَفِهِ وَهُوَ الْقِيمَةُ فِي الْمُدَبَّرِ وَبَدَلِ الْكِتَابَةِ فِي الْمُكَاتَبِ فَيَكُونُ لَهُمْ وِلَايَةُ الرُّجُوعِ بِهِمَا كَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي) يَعْنِي مِنْ التَّقْسِيمِ الْمَذْكُورِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ وَهُوَ الْقِسْمُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ الْمَشْرُوعَةُ فَأَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ كَمَا ذَكَرْت وَالدَّلِيلُ عَلَى الْحَصْرِ الِاسْتِقْرَاءُ لَا غَيْرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف: 84] أَيْ آتَيْنَا ذَا الْقَرْنَيْنِ مِنْ أَسْبَابِ كُلِّ شَيْءٍ إرَادَةً مِنْ أَغْرَاضِهِ وَمَقَاصِدِهِ فِي مِلْكِهِ سَبَبًا أَيْ طَرِيقًا مُوَصِّلًا إلَيْهِ وَالسَّبَبُ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْمَقْصُودِ مِنْ عِلْمٍ أَوْ قُدْرَةٍ أَوْ آلَةٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} [غافر: 36] {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} [غافر: 37] أَيْ أَبْوَابَهَا فِي قَوْلِ السُّدِّيَّ وَطُرُقَهَا فِي قَوْلِ أَبِي صَالِحٍ وَأَبْهَمَ الْأَسْبَابَ، ثُمَّ أَوْضَحَهَا بِأَسْبَابِ السَّمَاوَاتِ؛ لِأَنَّهُ فَخَّمَ مَا أَمَّلَ بُلُوغَهُ مِنْ أَسْبَابِهَا وَهُوَ فَائِدَةُ الْإِيضَاحِ بَعْدَ الْإِبْهَامِ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ بُلُوغُهَا أَمْرًا عَجِيبًا زَادَ فِي تَعْجِيبِهِ إلَى هَامَانَ وَمَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُ بِالْإِيضَاحِ بَعْدَ الْإِبْهَامِ لِيُعْطِيَهُ حَقَّهُ مِنْ التَّعَجُّبِ وَمِنْهُ أَيْ وَمِمَّا أُرِيدَ بِالسَّبَبِ الْبَابُ قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى: وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ ... وَلَوْ نَالَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ يَعْنِي وَمَنْ خَافَ الْمَوْتَ وَاحْتَرَزَ عَنْ الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إلَيْهِ لَا يَنْفَعُهُ الِاحْتِرَازُ وَالْحِيلَةُ فَهُوَ مُصِيبُهُ لَا مَحَالَةَ وَلَوْ نَالَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ أَيْ أَبْوَابَهَا بِسُلَّمٍ أَيْ صَعِدَ عَلَيْهَا فِرَارًا مِنْهُ وَمَعْنَى

وَهُوَ مَا يَكُونُ طَرِيقًا إلَى الشَّيْءِ وَهُوَ فِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَمَّا هُوَ طَرِيقٌ إلَى الشَّيْءِ مَنْ سَلَكَهُ وَصَلَ إلَيْهِ فَنَالَهُ فِي طَرِيقِهِ ذَلِكَ لَا بِالطَّرِيقِ الَّذِي سَلَكَ كَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا إلَى مِصْرَ بَلَغَهُ مِنْ ذَلِكَ الطَّرِيقِ لَا بِهِ لَكِنْ يَمْشِيهِ. وَأَمَّا الْعِلَّةُ فَإِنَّهَا فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُغَيِّرِ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْمَرَضُ عِلَّةً وَالْمَرِيضُ عَلِيلًا فَكُلُّ وَصْفٍ حَلَّ بِمَحَلٍّ فَصَارَ بِهِ الْمَحَلُّ مَعْلُولًا وَتَغَيَّرَ حَالُهُ مَعًا فَهُوَ عِلَّةٌ كَالْجُرْحِ بِالْمَجْرُوحِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــQذَلِكَ أَيْ الْجَمِيعُ يَرْجِعُ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ السَّبَبَ مَا يَكُونُ مُوَصِّلًا إلَى الشَّيْءِ فَإِنَّ الْبَابَ مُوَصِّلٌ إلَى الْبَيْتِ وَالْحَبْلُ مُوَصِّلٌ إلَى الْمَاءِ وَهُوَ فِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَمَّا هُوَ طَرِيقٌ إلَى الشَّيْءِ أَيْ إلَى الْحُكْمِ يَعْنِي هُوَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا هُوَ مَوْضُوعُهُ لُغَةً أَيْضًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ طَرِيقًا لِلْوُصُولِ إلَى الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْوُصُولُ بِهِ كَالطَّرِيقِ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْمَقْصِدِ وَإِنْ كَانَ الْوُصُولُ بِالْمَشْيِ وَكَالْحَبْلِ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْمَاءِ وَإِنْ كَانَ يَحْصُلُ الْوُصُولُ بِالِاسْتِقَاءِ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: السَّبَبُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَمَّا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَقْصُودٍ مَا، وَفِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الشَّرْعِ: عِبَارَةٌ عَمَّا هُوَ أَخَسُّ مِنْ الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ وَهُوَ كُلُّ وَصْفٍ ظَاهِرٍ مُنْضَبِطٍ دَلَّ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ عَلَى كَوْنِهِ مُعَرِّفًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَفَائِدَةُ نَصْبِهِ سَبَبًا مُعَرِّفًا لِلْحُكْمِ سُهُولَةُ وُقُوفِ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى خِطَابِ الشَّارِعِ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ مِنْ الْوَقَائِعِ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ حَذَرًا مِنْ تَعْطِيلِ أَكْثَرِ الْوَقَائِعِ عَنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. فَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ السَّبَبُ اسْمًا عَامًّا مُتَنَاوِلًا لِكُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ وَيُوَصِّلُ إلَيْهِ مِنْ الْعِلَلِ وَغَيْرِهَا فَيَكُونُ تَسْمِيَةُ الْوَقْتِ وَالشَّهْرِ وَالْبَيْتِ وَالنِّصَابِ وَسَائِرِ مَا مَرَّ ذِكْرُهَا فِي بَابِ بَيَانِ أَسْبَابِ الشَّرَائِعِ أَسْبَابًا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَعَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ لَا يَتَنَاوَلُ الْعِلَلَ بَلْ يَكُونُ اسْمًا لِنَوْعٍ مِنْ الْمَعَانِي الْمُفْضِيَةِ إلَى الْحُكْمِ فَيَكُونُ تَسْمِيَةُ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ أَسْبَابًا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْعِلَّةُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ كَذَا) ذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي اللُّغَةِ عِنْدَ الْبَعْضِ اسْمٌ لِعَارِضٍ يَتَغَيَّرُ وَصْفُ الْمَحَلِّ بِحُلُولِهِ فِيهِ مِنْ وَصْفِ الصِّحَّةِ وَالْقُوَّةِ إلَى الضَّعْفِ وَالْمَرَضِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْعِلَّةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْعَلَلِ وَهُوَ الشَّرْبَةُ بَعْدَ الشَّرْبَةِ وَسُمِّيَ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِلْحُكْمِ فِي الشَّرْعِ عِلَّةً؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهَا فِي اللُّغَةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِيمَا يُؤَثِّرُ فِي أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُؤَثِّرُ صِفَةً أَوْ ذَاتًا وَسَوَاءٌ أَثَّرَ فِي الْفِعْلِ أَوْ فِي التَّرْكِ يُقَالُ مَجِيءُ زَيْدٍ عِلَّةٌ لِخُرُوجِ عَمْرٍو وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجِيءُ زَيْدٍ عِلَّةً لِامْتِنَاعِ خُرُوجِ عَمْرٍو قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: وَالظُّلْمُ فِي خُلُقِ النُّفُوسِ وَإِنْ تَجِدْ ... ذَا عِفَّةٍ فَلَعَلَّهُ لَا يَظْلِمْ سَمَّى الْمَعْنَى الْمَانِعَ مِنْ الظُّلْمِ عِلَّةً وَسَمَّى الْمَرَضَ عِلَّةً؛ لِأَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي ضَعْفِ الْمَرِيضِ وَيُؤَثِّرُ فِي مَنْعِهِ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ. فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ سُمِّيَ الْوَصْفُ الْمُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ عِلَّةً؛ لِأَنَّهُ يَتَغَيَّرُ بِهِ حَالُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِنْ الْخُصُوصِ إلَى الْعُمُومِ فَإِنَّ الْحُكْمَ كَانَ مُخْتَصًّا بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَبَعْدَ مَعْرِفَةِ الْوَصْفِ بِالْمُؤَثِّرِ تَغَيَّرَ حُكْمُ ظَاهِرِ النَّصِّ مِنْ الْخُصُوصِ إلَى الْعُمُومِ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ وُجِدَتْ الْعِلَّةُ فِيهِ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي سُمِّيَ عِلَّةً لِثُبُوتِ الْحُكْمِ بِهِ عَلَى الدَّوَامِ وَالتَّكَرُّرِ عِنْدَ تَكَرُّهٍ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ سُمِّيَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ مُؤَثِّرٌ فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ إمَّا فِي الْأَصْلِ أَوْ فِي الْفَرْعِ قَالَ: وَهَذَا لَا خَيْرَ هُوَ الصَّحِيحُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الشَّخْصَ إذَا وُلِدَ مَرِيضًا سُمِّيَ عَلِيلًا وَالْمَرَضُ فِيهِ عِلَّةٌ وَلَيْسَ بِمُغَيِّرٍ لِوَصْفِ الصِّحَّةِ وَبِخِلَافِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ يُسَمَّى عِلَّةً فِي أَوَّلِ مَا ثَبَتَ بِهِ الْحُكْمُ مِنْ غَيْرِ تَكَرُّرٍ فَكَيْفَ يَصِحُّ اشْتِقَاقُهُ مِنْ الْعِلَلِ وَأَنَّهُ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ إنَّمَا سُمِّيَ عَلِيلًا بِالنَّظَرِ إلَى الْأَصْلِ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَوْلُودِ هُوَ الصِّحَّةُ وَالسَّلَامَةُ وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْوَصْفَ إنَّمَا يُسَمَّى عِلَّةً بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَوْ تَكَرَّرَ تَكَرَّرَ الْحُكْمُ بِهِ وَهَذَا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ وَقَوْلُهُ وَتَغَيَّرَ بِهِ أَيْ بِذَلِكَ الْوَصْفِ حَالُ الْمَحَلِّ مَعًا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْعِلَّةَ وَإِنْ كَانَتْ مُقَدَّمَةً عَلَى الْمَعْلُولِ رُتْبَةً فَهِيَ مُقَارِنَةٌ لَهُ فِي الْوُجُودِ.

وَهُوَ فِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَمَّنْ يُضَافُ إلَيْهِ وُجُوبُ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً مِثْلُ الْبَيْعِ لِلْمِلْكِ وَالنِّكَاحُ لِلْحِلِّ وَالْقَتْلِ لِلْقِصَاصِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لَكِنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ غَيْرُ مُوجِبَةٍ بِذَوَاتِهَا وَإِنَّمَا الْمُوجِبُ لِلْأَحْكَامِ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَكِنَّ إيجَابَهُ لَمَّا كَانَ غَيْبًا نُسِبَ الْوُجُوبُ إلَى الْعِلَلِ فَصَارَتْ مُوجِبَةً فِي حَقِّ الْعِبَادِ وَبِجَعْلِ صَاحِبِ الشَّرْعِ إيَّاهَا كَذَلِكَ وَفِي حَقِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ هِيَ أَعْلَامٌ خَالِصَةٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــQفَإِنَّ حَرَكَةَ الْإِصْبَعِ الَّتِي هِيَ عِلَّةُ حَرَكَةِ الْخَاتَمِ مُقَارِنَةٌ لِحَرَكَةِ الْخَاتَمِ إذْ لَوْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَزِمَ تَدَاخُلُ الْأَجْسَامِ وَهُوَ مُحَالٌ عَلَى مَا عُرِفَ وَكَذَا الْحَرَكَةُ عِلَّةُ صَيْرُورَةِ الشَّخْصِ مُتَحَرِّكًا وَالسَّوَادُ عِلَّةٌ لِصَيْرُورَةِ الشَّيْءِ أَسْوَدَ وَهُمَا يُوجَدَانِ مَعًا وَلِهَذَا جَعَلْنَا الِاسْتِطَاعَةَ الَّتِي هِيَ عِلَّةُ الْفِعْلِ مُقَارِنَةً لَهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ أَيْ الْجُرْحَ كَالْكَسْرِ وَالْهَدْمِ وَالْقَطْعِ عِلَلٌ لِلِانْكِسَارِ وَالِانْهِدَامِ وَالِانْقِطَاعِ مُقَارِنَةٌ فِي الْوُجُودِ إيَّاهَا وَهُوَ أَيْ الْمَذْكُورُ وَهُوَ الْعِلَّةُ أَوْ لَفْظُ الْعِلَّةِ عِبَارَةٌ عَمَّا يُضَافُ إلَيْهِ وُجُوبُ الْحُكْمِ أَيْ ثُبُوتُهُ ابْتِدَاءً اُحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ يُضَافُ إلَيْهِ وُجُوبُ الْحُكْمِ عَنْ الشَّرْطِ فَإِنَّ الشَّرْطَ يُضَافُ إلَيْهِ وُجُودُ الْحُكْمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ وُجِدَ عِنْدَهُ لَا وُجُوبُهُ وَبِقَوْلِهِ ابْتِدَاءً عَنْ السَّبَبِ وَالْعَلَامَةِ وَعِلَّةُ الْعِلَّةِ وَالشَّرْطِ أَيْضًا فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالثُّبُوتِ ابْتِدَاءُ الثُّبُوتِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَبِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِلَا وَاسِطَةٍ وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْحَدِّ الْعِلَلُ الْوَضْعِيَّةُ الَّتِي جَعَلَهَا الشَّرْعُ عِلَلًا كَالْبَيْعِ لِلْمِلْكِ وَالنِّكَاحِ لِلْحِلِّ وَالْقَتْلِ لِلْقِصَاصِ وَالْأَوْقَاتِ لِلْعِبَادَاتِ وَالْعِلَلُ الْمُسْتَنْبَطَةُ بِالِاجْتِهَادِ كَالْمَعَادِنِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْأَقْيِسَةِ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مُضَافٌ إلَى الْعِلَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَرْعِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا التَّعْرِيفِ مَا ذَكَرَ السَّيِّدُ الْإِمَامُ الشَّهِيدُ أَبُو الْقَاسِمِ السَّمَرْقَنْدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ عِبَارَةٌ عَمَّا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِهِ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ احْتِمَالِ تَخَلُّفٍ قَالَ وَبِهَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ يُفَارِقُ السَّبَبَ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ وَالسَّبَبَ يَتَنَاوَبَانِ فِي الْأَبْنَاءِ وَالْمُلَاءَمَةِ وَالْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْحُكْمِ غَيْرَ أَنَّ السَّبَبَ قَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ حُكْمُهُ وَقَدْ يَتَخَلَّفُ وَلَا يُتَصَوَّرُ التَّأَخُّرُ وَالتَّخَلُّفُ فِي الْعِلَّةِ. وَعَنْ الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْمَعْنَى الَّذِي إذَا وُجِدَ يَجِبُ الْحُكْمُ بِهِ مَعَهُ وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ مَعَهُ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ الْقَدَرِيَّةِ إنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْأَمْرُ الَّذِي إذَا وُجِدَ وُجِدَ الْحُكْمُ عَقِيبَهُ بِلَا فَصْلٍ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ عِنْدَنَا بِطَرِيقِ الْمُقَارَنَةِ لَا بِطَرِيقِ التَّأَخُّرِ وَلِهَذَا جَعَلْنَا الِاسْتِطَاعَةَ مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ لَا سَابِقَةً عَلَيْهِ قَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ: هَذَا التَّعْرِيفُ هُوَ الصَّحِيحُ فَإِنَّ الْعِلَّةَ مَا يَجِبُ بِهِ الْحُكْمُ فَإِنَّ وُجُوبَ الْحُكْمِ وَثُبُوتَهُ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، لَكِنَّهُ أَوْجَبَ الْحُكْمَ لِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى وَبِسَبَبِ هَذَا الْمَعْنَى وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَجِبُ بِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَفْعَلُ فِعْلًا بِسَبَبٍ وَيَفْعَلُ فِعْلًا ابْتِدَاءً وَيُثْبِتُ حُكْمًا بِسَبَبٍ وَحُكْمًا ابْتِدَاءً بِلَا سَبَبٍ وَحِكْمَةٍ وَفِعْلُهُ قَطُّ لَا يَخْلُو عَنْ الْحِكْمَةِ عَرَفْنَا وَجْهَ الْحِكْمَةِ أَوْ لَمْ نَعْرِفْ قَوْلُهُ (لَكِنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ غَيْرُ مُوجِبَةٍ بِذَوَاتِهَا) اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ عَمَّا يُضَافُ إلَيْهِ وُجُوبُ الْحُكْمِ يَعْنِي الْأَحْكَامَ وَإِنْ أُضِيفَ إلَى الْعِلَلِ فِي الشَّرْعِ، لَكِنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ غَيْرُ مُوجِبَةٍ بِأَنْفُسِهَا فَإِنَّ هَذِهِ الْعِلَلَ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ وَلَمْ يَكُنْ بِمُوجِبَةٍ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ بِخِلَافِ الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ فَإِنَّهَا مُوجِبَةٌ بِأَنْفُسِهَا فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْ كَوْنِ الْعِلَّةِ مُوجِبَةً بِنَفْسِهَا عَدَمُ تَصَوُّرِ انْفِكَاكِ الْحُكْمِ عَنْهَا لَا أَنَّهَا مُوجِبَةٌ لَهُ حَقِيقَةً إذْ الْمُتَوَالِدَاتُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَإِنَّ الْكَسْرَ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الِانْكِسَارِ وَالْحَرَكَةَ بِدُونِ التَّحَرُّكِ وَالْإِحْرَاقَ بِدُونِ الِاحْتِرَاقِ. وَإِنَّمَا الْمُوجِبُ لِلْأَحْكَامِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى إذْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِيجَابِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُشَرِّعَ الْأَحْكَامَ بِلَا عِلَلٍ، وَلَكِنَّ إيجَابَهُ لَمَّا كَانَ غَيْبًا عَنْ الْعِبَادِ وَهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ دَرْكِهَا شَرَعَ الْعِلَلَ الَّتِي يُمْكِنُ لَهُمْ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا مُوجِبَاتٍ لِلْأَحْكَامِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ وَنُسِبَ الْوُجُوبُ إلَيْهَا فِيمَا بَيْنَ الْعِبَادِ تَيْسِيرًا فَصَارَتْ الْعِلَلُ مُوجِبَةً فِي الظَّاهِرِ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهَا كَذَلِكَ أَيْ مُوجِبَةً لَا بِأَنْفُسِهَا وَفِي حَقِّ صَاحِبِ.

وَهَذَا كَأَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْ الطَّاعَاتِ لَيْسَ بِمُوجِبَةٍ لِلثَّوَابِ بِذَوَاتِهَا بَلْ اللَّهُ تَعَالَى بِفَضْلِهِ جَعَلَهَا كَذَلِكَ فَصَارَتْ النِّسْبَةُ إلَيْهَا بِفَضْلِهِ وَكَذَلِكَ الْعِقَابُ يُضَافُ إلَى الْكُفْرِ عَنْ هَذَا الْوَجْهِ فَأَمَّا أَنْ تُجْعَلَ لَغْوًا كَمَا قَالَتْ الْجَبْرِيَّةُ أَوْ مُوجِبَةً بِأَنْفُسِهَا كَمَا قَالَتْ الْقَدَرِيَّةُ فَلَا فَكَذَلِكَ حَالُ الْعِلَلِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ بِعِلَّةِ الْحُكْمِ إذَا رَجَعَ نُسِبَ إلَيْهِ الْإِيجَابُ حَتَّى صَارَ ضَامِنًا. وَأَمَّا الشَّرْطُ فَتَفْسِيرُهُ فِي اللُّغَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالشَّرْعِ هَذِهِ الْعِلَلُ إعْلَامٌ خَالِصَةٌ أَيْ فِي حَقِّهِ هِيَ الْإِعْلَامُ لِلْعِبَادِ عَلَى الْإِيجَابِ لَا أَنَّهَا إعْلَامٌ فِي حَقِّهِ وَهِيَ نَظِيرُ الْإِمَاتَةِ فَإِنَّ الْمُمِيتَ وَالْمُحْيِيَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى حَقِيقَةً، ثُمَّ جُعِلَتْ الْإِمَاتَةُ مُضَافَةً إلَى الْقَاتِلِ بِعِلَّةِ الْقَتْلِ فِيمَا يَبْتَنِي عَلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ مِنْ الْقِصَاصِ وَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ وَالْكَفَّارَةِ وَالدِّيَةِ وَهَذَا أَيْ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا غَيْرُ مُوجِبَةٍ بِذَوَاتِهَا بَلْ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهَا مُوجِبَةً مِثْلَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْ الطَّاعَاتِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِمُوجِبَةِ الثَّوَابِ بِذَوَاتِهَا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى مَوْلَاهُ بِعَمَلِهِ لَهُ ثَوَابًا قَطُّ وَقَدْ يَنْفَكُّ الْأَفْعَالُ عَنْ الثَّوَابِ أَيْضًا كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «رُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إلَّا السَّهَرُ وَرُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ» إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِفَضْلِهِ جَعَلَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ كَذَلِكَ أَيْ مُوجِبَةً لِلثَّوَابِ بِقَوْلِهِ {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 85] فَصَارَتْ النِّسْبَةُ أَيْ نِسْبَةُ الثَّوَابِ إلَى الْأَفْعَالِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} [النبأ: 36] وَالْعَطَاءُ مَا كَانَ مِنْ الْمُعْطِي ابْتِدَاءً بِطَرِيقِ الْإِنْعَامِ وَالْإِحْسَانِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. «يُنْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةُ دَوَاوِينَ دِيوَانُ النِّعَمِ وَدِيوَانُ الْأَعْمَالِ أَيْ الطَّاعَاتِ وَدِيوَانُ الْمَعَاصِي فَيُقَابَلُ دِيوَانُ النِّعَمِ بِدِيوَانِ الْأَعْمَالِ فَيَبْقَى دِيوَانُ الْمَعَاصِي فَيُدْخِلُهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِهِ» وَكَذَلِكَ الْعُقُوبَاتُ تُضَافُ إلَى الْكُفْرِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْ وَكَمَا أَنَّ الثَّوَابَ يُضَافُ إلَى الطَّاعَاتِ تُضَافُ الْعُقُوبَاتُ إلَى الْكُفْرِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَهُوَ أَنَّ الْكُفْرَ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلْعُقُوبَاتِ بِذَاتِهِ بَلْ اللَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ سَبَبًا لِلْعُقُوبَاتِ كَمَا جَعَلَ الطَّاعَاتِ كَذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ مَوْلَانَا حُمَيْدٍ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا الْكَلَامُ يَنْزِعُ إلَى مَذْهَبٍ فَإِنَّ عِنْدَهُ يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ عَقْلًا إلَّا أَنَّ السَّمْعَ وَرَدَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فَأَمَّا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ فَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِي تَعْذِيبَ الْكَافِرِ عَلَى كُفْرِهِ وَتَرْكُ التَّعْذِيبِ لَيْسَ بِحِكْمَةٍ كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي التَّأْوِيلَاتِ فَكَانَ الْكُفْرُ سَبَبًا لِلْعُقُوبَةِ بِذَاتِهِ فَلَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى أَصْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْكُفْرَ وَإِنْ كَانَ سَبَبًا لِلْعُقُوبَةِ بِنَفْسِهِ عَقْلًا إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ بِذَاتِهِ لِلْعُقُوبَاتِ الَّتِي وَرَدَ النُّصُوصُ بِهَا وَإِنَّمَا جُعِلَ سَبَبًا لِتِلْكَ الْعُقُوبَاتِ بِالشَّرْعِ وَلِهَذَا جَازَ التَّخْفِيفُ فِي حَقِّ بَعْضِ الْكُفَّارِ وَالتَّغْلِيظُ فِي حَقِّ الْبَعْضِ فَكَانَ مِثْلَ الطَّاعَاتِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَكَانَتْ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ الْعُقُوبَاتِ لِلْعَهْدِ أَيْ الْعُقُوبَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي النُّصُوصِ فَأَمَّا أَنْ يَجْعَلَ الْأَفْعَالَ لَغْوًا كَمَا قَالَتْ الْجَبْرِيَّةُ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْتَبِرُوا أَفْعَالَ الْعِبَادِ أَصْلًا وَنَفَوْا عَنْهَا تَدْبِيرَ الْخَلْقِ وَجَعَلُوهَا كُلَّهَا اضْطِرَارِيَّةً كَحَرَكَاتِ الْمُرْتَعِشِ وَالْعُرُوقِ النَّابِضَةِ وَجَعَلُوا إضَافَةَ الْأَفْعَالِ إلَى الْعِبَادَةِ مَجَازًا فَقَالُوا: مَشَى زَيْدٌ وَذَهَبَ عَمْرٌو بِمَنْزِلَةِ طَالَ الْغُلَامُ وَمَاتَ زَيْدٌ وَابْيَضَّ شَعْرُ بَكْرٍ وَشَاخَ عَبْدُ اللَّهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ أَفْعَالُ الْعِبَادِ سَبَبًا لِلثَّوَابِ وَلَا لِلْعِقَابِ بِوَجْهٍ بَلْ اللَّهُ تَعَالَى يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ بِحُكْمِ تَصَرُّفِهِ فِي مِلْكِهِ عَلَى حَسَبِ إرَادَتِهِ وَمُوجِبَةٌ بِأَنْفُسِهَا كَمَا قَالَتْ الْقَدَرِيَّةُ فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا تَدْبِيرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ بِالْكُلِّيَّةِ وَقَالُوا: يَخْتَرِعُهَا الْعِبَادُ وَيَتَوَلَّوْنَ إيجَادَهَا شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَشَأْ فَيَكُونُ الْأَفْعَالُ أَسْبَابًا لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ بِأَنْفُسِهَا عِنْدَهُمْ وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ الْعَبْدَ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ بِعَمَلِهِ كَمَا يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ بِفِعْلِهِ لِكَوْنِهِ مُسْتَبِدًّا بِهِ فَلَا أَيْ فَلَا تَجْعَلْ كَمَا قَالُوا بَلْ يُقَالُ: أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَوْجُودَةٌ مِنْهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ بِهَا صَارُوا عُصَاةً وَمُطِيعِينَ وَمَخْلُوقَةُ اللَّهِ تَعَالَى دَاخِلَةٌ تَحْتَ قُدْرَتِهِ فَيُسْتَفَادُ بِالْأَوَّلِ ثُبُوتُ الْعَدْلِ وَنَفْيُ الظُّلْمِ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ {وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] . 1 -

الْعَلَامَةُ اللَّازِمَةُ وَمِنْهُ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ وَمِنْهُ الشُّرُوطُ لِلصُّكُوكِ وَمِنْهُ الشُّرْطِيُّ وَمِنْهُ شَرْطُ الْحَجَّامِ وَهُوَ فِي الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُودُ دُونَ الْوُجُوبِ فَمِنْ حَيْثُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ عَلَامَةٌ وَمِنْ حَيْثُ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُودُ يُشْبِهُ الْعِلَلَ فَسُمِّيَ شَرْطًا. ـــــــــــــــــــــــــــــQوَإِثْبَاتُ الْفَضْلِ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} [النساء: 83] وَيُسْتَفَادُ بِالثَّانِي مَعْرِفَةُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مَحْمُودِيَّةً كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62] فَتَكُونُ الْأَفْعَالُ أَسْبَابًا لِلثَّوَابِ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِذَوَاتِهَا فَكَذَلِكَ حَالُ الْعِلَلِ أَيْ فَكَالْأَفْعَالِ الْعِلَلُ فَلَا يَكُونُ مُوجِبَةً بِذَوَاتِهَا كَالْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ وَلَا تَكُونُ مُهْدَرَةً كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْبَعْضُ بَلْ تَكُونُ مُوجِبَةً بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهَا كَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعَمَلِ قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ لَوْ جَعَلْنَا الْعِلَلَ مُوجِبَةً بِذَوَاتِهَا يُؤَدِّي إلَى الشَّرِكَةِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ فَإِنَّ الْمُوجِبَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ إعْلَامًا مَحْضَةً أَيْضًا؛ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ تَخْرُجُ حِينَئِذٍ عَنْ الْبَيْنِ فَيَصِيرُ الْأَحْكَامُ كُلُّهَا جَبْرِيَّةً بِدُونِ أَسْبَابٍ وَالْقِصَاصُ شُرِعَ جَزَاءً عَلَى الْفِعْلِ وَكَذَلِكَ الْحُدُودُ فَإِذَا جَعَلْنَا الْأَسْبَابَ إعْلَامًا لَا يَكُونُ الْعُقُوبَاتُ أَجْزِيَةً فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ الْعَدْلَ مَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْعِلَلَ مُعْتَبَرَةٌ غَيْرُ مُهْدَرَةٍ فَقَالَ: وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ بِعِلَّةِ الْحُكْمِ إذَا رَجَعَ نُسِبَ إلَيْهِ الْإِيجَابُ حَتَّى صَارَ ضَامِنًا إذَا شَهِدَ الشَّاهِدَانِ عَلَى أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا أَوْ عَتَقَ عَبْدَهُ فَقَضَى الْقَاضِي بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَضَمِنَ الزَّوْجُ نِصْفَ الْمَهْرِ، ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا نِصْفَ الْمَهْرِ لِلزَّوْجِ وَقِيمَةَ الْعَبْدِ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُمَا أَثْبَتَا عِلَّةَ التَّلَفِ فَكَانَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَيْهِمَا فَإِذَا أُضِيفَ التَّلَفُ إلَيْهِمَا مَعَ أَنَّ الشَّهَادَةَ عِلَّةُ الْعِلَّةِ فَأَوْلَى أَنْ يُضَافَ إلَى حَقِيقَةِ الْعِلَّةِ. قَوْلُهُ (الشَّرْطُ الْعَلَامَةُ اللَّازِمَةُ) فَكَأَنَّهُ فَسَّرَهُ بِمَا ذُكِرَ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَلَامَةِ الْحَقِيقِيَّةِ بِهَذَا الْقَيْدِ وَمِنْهُ أَيْ وَمِنْ مَعْنَى الْعَلَامَةِ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ أَيْ عَلَامَاتُهَا اللَّازِمَةُ جَمْعُ شَرَطٍ بِالتَّحْرِيكِ وَجَمْعُ الشَّرْطِ بِالسُّكُونِ الشُّرُوطُ كَذَا فِي الصِّحَاحِ وَمِنْهُ الشُّرُوطُ لِلصُّكُوكِ؛ لِأَنَّهَا عَلَامَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى الصِّحَّةِ وَالتَّوَثُّقِ لَازِمَةٌ. وَالشُّرْطَةُ بِالسُّكُونِ وَالْحَرَكَةِ خِيَارُ الْجُنْدِ وَالْجَمْعُ شُرَطٌ وَالشَّرْطِيُّ بِالسُّكُونِ وَالْحَرَكَةِ مَنْسُوبٌ إلَى الشُّرْطَةِ عَلَى اللُّغَتَيْنِ لَا إلَى الشُّرَطِ؛ لِأَنَّهُ جَمْعٌ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ نَصَبَ نَفْسَهُ عَلَى زِيٍّ وَهَيْئَةٍ لَا يُفَارِقُهُ فِي أَغْلَبِ أَحْوَالِهِ فَكَأَنَّهُ لَازِمٌ لَهُ وَمِنْهُ شُرَطُ الْحَجَّامِ هُوَ مَصْدَرُ شَرَطَ الْحَاجِمُ يَشْرِطُ وَيَشْرُطُ إذَا بَزَغَ وَإِنَّمَا سُمِّيَ فِعْلُهُ شَرْطًا؛ لِأَنَّ بِفِعْلِهِ يَحْصُلُ فِي الْمَحَاجِمِ عَلَامَةٌ لَازِمَةٌ وَالْمِشْرَطُ الْمِبْضَعُ وَهُوَ فِي الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُودُ دُونَ الْوُجُوبِ أَيْ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الشَّيْءِ بِأَنْ يُوجَدَ عِنْدَ وُجُودِهِ لَا بِوُجُودِهِ كَالدُّخُولِ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الدُّخُولِ وَيَصِيرُ الطَّلَاقُ عِنْدَ وُجُودِ الدُّخُولِ مُضَافًا إلَى الدُّخُولِ مَوْجُودًا عِنْدَهُ لَا وَاجِبًا بِهِ بَلْ الْوُقُوعُ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ عِنْدَ الدُّخُولِ. فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا أَثَرَ لِلدُّخُولِ فِي الطَّلَاقِ مِنْ حَيْثُ الثُّبُوتُ بِهِ وَلَا مِنْ حَيْثُ الْوُصُولُ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ الدُّخُولُ سَبَبًا وَلَا عِلَّةً بَلْ كَانَ عَلَامَةً وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُضَافٌ إلَيْهِ كَانَ الدُّخُولُ شَبِيهًا بِالْعِلَلِ وَكَانَ بَيْنَ الْعَلَامَةِ وَالْعِلَّةِ فَسَمَّيْنَاهُ شَرْطًا وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الشَّرْطِ بِحَالٍ وَإِنَّمَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ التَّعْلِيقِ إذَا رَجَعُوا قَالَ السَّيِّدُ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ هُوَ فِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَمَّا يَقِفُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ عَلَى وُجُودِهِ وَلَا يَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ التَّصَرُّفِ، ثُمَّ قَالَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي يَقِفُ الْحُكْمُ عَلَى وُجُودِهَا خَمْسَةُ أَقْسَامٍ الْعِلَّةُ وَوَصْفُ الْعِلَّةِ وَالسَّبَبُ وَالشَّرْطُ وَالرُّكْنُ فَالْعِلَّةُ هِيَ الْمُؤَثِّرَةُ فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ عَنْهَا وَلَهَا تَأْثِيرٌ تَامٌّ. وَوَصْفُ الْعِلَّةِ لَهُ نَوْعُ تَأْثِيرٍ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِتَامٍّ بَلْ يَتِمُّ بِانْضِمَامِ وَصْفٍ آخَرَ أَوْ أَوْصَافٍ إلَيْهِ وَالسَّبَبُ

[باب تقسيم السبب]

وَقَدْ يُقَامُ مُقَامَ الْعِلَلِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الْعَلَامَةُ فَمَا يُعْرَفُ الْوُجُودُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبٌ وَلَا وُجُودٌ مِثْلُ الْمِيلِ وَالْمَنَارَةِ فَكَانَ دُونَ الشَّرْطِ فَهَذَا تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَكُلُّ ضَرْبٍ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُنْقَسِمٌ فِي حَقِّ الْحُكْمِ. (بَابُ تَقْسِيمِ السَّبَبِ) وَقَدْ مَرَّ قَبْلَ هَذَا أَنَّ وُجُوبَ الْأَحْكَامِ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْبَابِهَا وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْخِطَابِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ وَالسَّبَبُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ فِي حَقِّ الْحُكْمِ سَبَبٌ حَقِيقِيٌّ وَسَبَبٌ سُمِّيَ بِهِ مَجَازًا وَسَبَبٌ لَهُ شُبْهَةُ الْعِلَلِ وَسَبَبٌ هُوَ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQكَالْعِلَّةِ فِي الْإِنْبَاءِ عَنْ الْحُكْمِ وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ إلَّا أَنَّ الْعِلَّةَ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهَا الْحُكْمُ وَالسَّبَبُ قَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ الْحُكْمُ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَثْبُتَ بِهِ الْحُكْمُ وَالرُّكْنُ مَا هُوَ غَيْرُ التَّصَرُّفِ وَلَا يَتِمّ بِهِ كَالْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ وَلَفْظُ الْعَاقِدَيْنِ فِي الْعُقُودِ وَالرُّكْنُ لَا يَتَأَتَّى إلَّا فِي التَّصَرُّفَاتِ فَأَمَّا فِي غَيْرِ التَّصَرُّفَاتِ فَلَا وَأَمَّا الشَّرْطُ فَمَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ بِوَجْهٍ كَالطَّهَارَةِ فِي الصَّلَاةِ وَالشُّهُودِ فِي النِّكَاحِ إلَّا أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ شَرْعًا إلَّا عِنْدَهُ. قَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ: تَفْسِيرُ الشَّرْطِ بِأَنَّهُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْحُكْمِ دُونَ وُجُوبِهِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّرْطِ بَلْ الْعِلَّةُ تَقِفُ عَلَيْهِ وَعَدَمُ الْحُكْمِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ لَيْسَ لِعَدَمِ الشَّرْطِ بَلْ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ الَّذِي هُوَ الْعَدَمُ الْأَصْلِيُّ فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ وَوُجِدَتْ الْعِلَّةُ عِنْدَ وُجُودِهِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ فَإِنَّ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ يَقُولُ: إذَا وَجَبَتْ الْعِلَّةُ وَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ امْتَنَعَ وُجُودُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الشَّرْطِ مَعَ بَقَاءِ الْعِلَّةِ فَأَمَّا عِنْد مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ ذَلِكَ كَانَ امْتِنَاعُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ لَا لِعَدَمِ الشَّرْطِ فَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ الشَّرْطُ مَا يُوجَدُ الْحُكْمُ عِنْدَ وُجُودِهِ أَوْ مَا يَقِفُ الْمُؤَثِّرُ عَلَى وُجُودِهِ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْعِلَّةَ إذَا تَوَقَّفَتْ عَلَى الشَّرْطِ كَانَ حُكْمُهُ مُتَوَقِّفًا عَلَيْهِ بِوَاسِطَةِ الْعِلَّةِ فَيَصِحُّ هَذَا التَّعْرِيفُ. وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ مَا يَقِفُ عَلَيْهِ تَأْثِيرُ الْمُؤَثِّرِ وَهُوَ غَيْرُ مُطَّرِدٍ لِصِدْقِهِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ وَمُؤَثَّرِهِ إذْ تَأْثِيرُ الْمُؤَثِّرِ يَتَوَقَّفُ عَلَى ذَاتِ الْمُؤَثَّرِ وَعَلَى الْمُؤَثَّرِ فِيهِ وَقِيلَ: هُوَ مَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيُهُ نَفْيَ أَمْرٍ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُودِهِ وَلَا دَاخِلًا فِيهِ وَيَدْخُلُ فِيهِ شَرْطُ الْحُكْمِ وَشَرْطُ السَّبَبِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِهِ نَفْيُ السَّبَبِ وَلَيْسَ هُوَ السَّبَبَ وَلَا جُزْأَهُ وَفِيهِ احْتِرَازٌ عَنْ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ أَوْ السَّبَبِ كَمَا بَيَّنَّا وَقَدْ يُقَامُ الشَّرْطُ مُقَامَ الْعِلَلِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ يَعْنِي فِي بَابِ تَقْسِيمِ الشُّرُوطِ فِي مَسْأَلَةِ حَفْرِ الْبِئْرِ فَإِنَّهُ شَرَطَ التَّلَفَ دُونَ عِلَّتِهِ وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَيْهِ لِتَعَذُّرِ إضَافَتِهِ إلَى الْعِلَّةِ. وَأَمَّا الْعَلَامَةُ فَهِيَ الْأَمَارَةُ فِي اللُّغَةِ كَالْمَيْلِ لِلطَّرِيقِ وَالْمَنَارَةِ لِلْمَسْجِدِ وَفِي الشَّرْعِ هِيَ مَا يُعْرَفُ وُجُودُ الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ وُجُودُهُ وَلَا وُجُوبُهُ فَيَكُونُ الْعَلَامَةُ دَلِيلًا عَلَى ظُهُورِ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِهَا فَحَسْبُ مِثْلُ التَّكْبِيرَاتِ فِي الصَّلَاةِ إعْلَامًا عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْ رُكْنٍ إلَى رُكْنٍ وَالْأَذَانُ عَلَمُ الصَّلَاةِ وَالتَّلْبِيَةُ شِعَارُ الْحَجِّ. فَهَذَا أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ وَالِاصْطِلَاحِيَّة بَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَهِيَ السَّبَبُ وَالْعَلَامَةُ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذِهِ ضُرُوبٌ مُتَشَابِهَةٌ فَفِي السَّبَبِ مَعْنَى الْعِلَّةِ وَفِي الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَعْنَى الْعَلَامَةِ وَفِي الشَّرْطِ مَعْنَى الْعِلَّةِ وَالْعَلَامَةُ قَدْ تُشْتَبَهُ بِالشَّرْطِ وَالْعِلَّةِ فَفِيهِمَا مَعْنَى الْعَلَامَةِ لَا يَمْتَازُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ إلَّا بِحَدٍّ تَأَمَّلْ [بَابُ تَقْسِيمِ السَّبَبِ] اعْلَمْ أَنَّ تَقْسِيمَ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - السَّبَبَ وَالْعِلَّةَ وَالشَّرْطَ وَالْعَلَامَةَ عَلَى الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ أَنْ حَقَائِقَهَا تَنْقَسِمُ إلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ كَانْقِسَامِ حَقِيقَةِ الْإِنْسَانِ إلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ حَقِيقَةٌ مِنْ كُلِّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَحَدُ أَقْسَامِهَا الْمَذْكُورَةِ فَلَا يَسْتَقِيمُ التَّقْسِيمُ بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ وَلَكِنَّ تَقْسِيمَهُمْ إيَّاهَا بِاعْتِبَارِ مَعْنًى عَامٍّ وَهُوَ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ السَّبَبِ أَوْ الْعِلَّةِ أَوْ الشَّرْطِ سَوَاءٌ كَانَ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ أَوْ بِاعْتِبَارِ مَا يُوجَدُ فِيهِ جِهَةُ السَّبَبِيَّةِ وَالْعِلِّيَّةِ وَالشَّرْطِيَّةِ بِوَجْهٍ فَحِينَئِذٍ يَسْتَقِيمُ التَّقْسِيمُ وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَوْلُهُ قَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَنَّ وُجُوبَ الْأَحْكَامِ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْبَابِهَا يَعْنِي لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَسْبَابِ

مُضَافٌ إلَيْهِ وُجُوبٌ وَلَا وُجُودَ طَرِيقًا إلَى الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ أَمَّا السَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ فَمَا يَكُونُ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ تَقْسِيمِ أَنْوَاعِ السَّبَبِ وَبَيَانِ وُجُوهِ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْسِيمَ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ السَّبَبِ فَإِنَّ الْأَسْبَابَ الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا لَيْسَتْ بِأَسْبَابٍ حَقِيقَةً عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْرِيفِ السَّبَبِ بَلْ هِيَ عِلَلٌ سُمِّيَتْ أَسْبَابًا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْأَحْكَامِ فَعَرَفْنَا أَنَّ وَجْهَ التَّقْسِيمِ مَا قُلْنَاهُ ثُمَّ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَعَلَ السَّبَبَ الْمَجَازِيَّ قِسْمًا وَالسَّبَبَ الَّذِي لَهُ شُبْهَةُ الْعِلَّةِ قِسْمًا وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقِسْمُ غَيْرَ ذَلِكَ الْقِسْمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ السَّبَبُ الَّذِي لَهُ شُبْهَةُ الْعِلَلِ غَيْرُ السَّبَبِ الْمَجَازِيِّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ فِي آخِرِ الْبَابِ فَكَانَتْ الْأَقْسَامُ ثَلَاثَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ فَلَا يَسْتَقِيمُ تَقْسِيمُهَا عَلَى الْأَرْبَعَةِ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْجِهَةِ بِأَنْ يُجْعَلَ أَحَدُ الْأَقْسَامِ قِسْمَيْنِ بِالْجِهَتَيْنِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَنَّ التَّقْسِيمَ بِاعْتِبَارِ الْجِهَةِ مَهْجُورٌ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّقَاسِيمَ بِاعْتِبَارِ التَّعَدُّدِ فِي الْخَارِجِ وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ لَا يَتَعَدَّدُ فِي الْخَارِجِ بِتَعَدُّدِ الْجِهَاتِ وَلَوْ اُعْتُبِرَتْ الْجِهَاتُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَانْقَسَمَ بِاعْتِبَارِهَا لَمْ تَنْحَصِرْ الْأَقْسَامُ عَلَى الْأَرْبَعَةِ بَلْ تَزِيدُ عَلَيْهَا بِأَنْ يُجْعَلَ الْقِسْمُ الرَّابِعُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ سَبَبًا قِسْمًا وَبِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْعِلَّةِ قِسْمًا وَأَنْ يُجْعَلَ السَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ طَرِيقًا قِسْمًا وَبِاعْتِبَارِ عَدَمِ إضَافَةِ الْوُجُوبِ إلَيْهِ قِسْمًا وَهَلُمَّ جَرًّا فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأَقْسَامَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَتْ إلَّا ثَلَاثَةٌ سَبَبٌ حَقِيقِيٌّ كَدَلَالَةِ السَّارِقِ وَسَبَبٌ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ كَقَوْدِ الدَّابَّةِ وَسَبَبٌ مَجَازِيٌّ لَهُ شُبْهَةُ الْعِلَلِ كَالطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ. وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ فِي التَّقْوِيمِ الْقِسْمَ الَّذِي فِيهِ شُبْهَةُ الْعِلَّةِ وَذَكَرَ مَكَانَهُ السَّبَبَ الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ وَهُوَ الْمُوجِبُ لِلْحُكْمِ بِنَفْسِهِ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي كَالنِّصَابِ قَبْلَ الْحَوْلِ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ. قَوْلُهُ (أَمَّا السَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ فَمَا يَكُونُ) طَرِيقًا إلَى الْحُكْمِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْجِنْسِ يَدْخُلُ تَحْتَهُ السَّبَبُ وَالْعِلَّةُ وَالشَّرْطُ وَغَيْرُهَا فَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ وُجُوبٌ عَنْ الْعِلَّةِ، وَبِقَوْلِهِ وَلَا وُجُودٌ عَنْ الشَّرْطِ وَعَنْ الْعِلَّةِ أَيْضًا فَإِنَّ وُجُودَ الْحُكْمِ يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ ثُبُوتًا بِهَا كَمَا يُضَافُ إلَى الشَّرْطِ ثُبُوتًا عِنْدَهُ وَبِقَوْلِهِ وَلَا يُعْقَلُ فِيهِ مَعَانِي الْعِلَلِ أَيْ لَا يُوجَدُ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْحُكْمِ بِوَجْهٍ بِوَاسِطَةٍ وَبِغَيْرِ وَاسِطَةٍ عَنْ السَّبَبِ الَّذِي لَهُ شُبْهَةُ الْعِلَّةِ وَعَنْ السَّبَبِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْعِلَّةِ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا طَرِيقٌ إلَى الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ وُجُودٌ وَلَا وُجُوبٌ وَلَكِنْ لَا يَخْلُو عَنْ مَعْنَى الْعِلَّةِ كَمَا سَتَعْرِفُ وَقَدْ تَمَّ التَّعْرِيفُ ثُمَّ بَيَّنَ خُلُوَّهُ عَنْ مَعْنَى الْعِلَّةِ بِقَوْلِهِ لَكِنْ يَتَخَلَّلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ عِلَّةٌ لَا تُضَافُ أَيْ عِلَّةُ غَيْرُ مُضَافَةٍ إلَى السَّبَبِ إلَى آخِرِهِ مِنْ الْقِسْمِ الرَّابِعِ وَهُوَ السَّبَبُ الَّذِي فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ وَذَلِكَ أَيْ الْقِسْمُ الرَّابِعُ مِثْلُ سَوْقِ الدَّابَّةِ وَقَوْدُهَا هُوَ سَبَبٌ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِمَا يَتْلَفُ بِهَا أَيْ بِالدَّابَّةِ مِنْ الْمَالِ وَالنَّفْسِ حَالَةَ الْقَوْدِ وَالسَّوْقِ لَا عِلَّةٌ؛ لِأَنَّهُ أَيْ السَّوْقُ أَوْ الْقَوْدُ طَرِيقُ الْوُصُولِ إلَى الْإِتْلَافِ لَا أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لَهُ لِيَكُونَ عِلَّةً لَكِنَّهُ بِمَعْنَى الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ السَّوْقَ أَوْ الْقَوْدَ يَحْمِلُ الدَّابَّةَ عَلَى الذَّهَابِ كُرْهًا فَصَارَ فِعْلُهَا مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى بَدَلِ الْمَحَلِّ فَأَمَّا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى جَزَاءِ الْمُبَاشَرَةِ فَلَا حَتَّى لَا يُحْرَمَ مِنْ الْمِيرَاثِ وَلَا يَجِبُ الْكَفَّارَةُ وَالْقِصَاصُ. قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ وَلِهَذَا السَّبَبِ حُكْمُ الْعِلَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الْحُكْمِ لَمَّا حَدَّثَتْ بِالْأُولَى صَارَتْ الْعِلَّةُ الْأَخِيرَةُ حُكْمًا لِلْأُولَى مَعَ حُكْمِهَا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الثَّانِيَةِ مُضَافٌ إلَيْهَا وَهِيَ مُضَافَةٌ إلَى الْأُولَى فَصَارَتْ الْأُولَى بِمَنْزِلَةِ عِلَّةٍ لَهَا حُكْمَانِ وَمِثَالُهُ الرَّمْيُ الْمُصِيبُ الْقَاتِلُ فَإِنَّهُ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلْمَوْتِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الرَّمْيِ يَنْقَطِعُ قَبْلَ الْإِصَابَةِ لَكِنَّهُ أَوْجَبَ حَرَاكًا فِي السَّهْمِ وَصَلَ بِهِ إلَى الْمَرْمَى وَأَوْجَبَ نَقْضَ بِنْيَتِهِ ثُمَّ انْتِقَاضُ الْبِنْيَةِ أَحْدَثَ آلَامًا قَتَلَتْهُ فَكَانَ الرَّمْيُ سَبَبًا مُوجِبًا وَلَهُ حُكْمُ جَزَاءِ

وَلَا يُعْقَلُ فِيهِ مَعَانِي الْعِلَلِ لَكِنْ يَتَخَلَّلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ عِلَّةٌ لَا يُضَافُ إلَى السَّبَبِ فَإِنْ أُضِيفَتْ الْعِلَّةُ إلَيْهِ صَارَ لِلسَّبَبِ حُكْمُ الْعِلَلِ فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ مِنْ الْقِسْمِ الرَّابِعِ وَذَلِكَ مِثْلُ سَوْقِ الدَّابَّةِ وَقَوْدِهَا هُوَ سَبَبٌ لِمَا يَتْلَفُ بِهَا لِأَنَّهُ طَرِيقٌ إلَيْهِ لَكِنْ بِمَعْنَى الْعِلَّةِ وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الشُّهُودِ بِالْقِصَاصِ سَبَبٌ لِقَتْلِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ الْعِلَّةِ لِأَنَّ حَدَّ الْعِلَلِ فِيهِ لَمْ يُوجَدْ لَكِنَّهُ طَرِيقٌ إلَيْهِ مَحْضٌ خَالِصٌ فَكَانَ سَبَبًا وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ بِهِ الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ جَزَاءُ الْمُبَاشَرَةِ وَقَدْ سَلَّمَ الشَّافِعِيُّ هَذَا لَا أَنَّهُ جَعَلَ السَّبَبَ الْمُؤَكَّدَ بِالْعَمْدِ الْكَامِلِ بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاشَرَةِ وَقَدْ وُجِدَ لِأَنَّ الشَّاهِدَ غَيْرُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لَكِنَّا قُلْنَا إنَّ فِعْلَ الشَّهَادَةِ لَيْسَ بِفِعْلِ قَتْلٍ بِلَا شُبْهَةٍ وَإِنَّمَا يَصِيرُ قَتْلًا بِوَاسِطَةٍ لَيْسَتْ فِي يَدِ الشَّاهِدِ وَهُوَ حُكْمُ الْقَاضِي وَاخْتِيَارُ الْوَلِيِّ قَتْلَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالرَّقَبَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَصَارَ الْمَوْتُ وَسِرَايَةُ الْأَلَمِ وَانْتِقَاضُ الْبِنْيَةِ وَنُفُوذُ السَّهْمِ أَحْكَامًا لِلرَّمْيِ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَكَالسَّوْقِ شَهَادَةُ الشُّهُودِ بِالْقِصَاصِ سَبَبٌ لِقَتْلِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ الْعِلَّةِ لَا أَنَّهَا عِلَّةٌ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْعِلَلِ فِيهِ أَيْ فِي فِعْلِ الشَّهَادَةِ أَوْ كَلَامِ الشُّهُودِ لَمْ يُوجَدْ لِتَخَلُّلِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ كَمَا سَنُبَيِّنُ لَكِنَّهُ أَيْ فِعْلَ الشَّهَادَةِ طَرِيقٌ إلَى الْقَتْلِ مَحْضٌ خَالِصٌ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تُوضَعْ لِلْقَتْلِ فِي الْأَصْلِ وَلَمْ يُوجَدْ فِيهَا تَأْثِيرٌ فِي الْقَتْلِ بِوَجْهٍ لِتَوَسُّطِ فِعْلِ الْمُخْتَارِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحُكْمِ فَكَانَ أَيْ فِعْلُ الشَّهَادَةِ سَبَبًا لَا عِلَّةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُبَاشَرَةٍ لِلْقَتْلِ. وَلِهَذَا أَيْ وَلِكَوْنِهِ سَبَبًا لَمْ يَجِبْ بِفِعْلِ الشَّهَادَةِ الْقِصَاصُ عِنْدَ الرُّجُوعِ يَعْنِي إذَا رَجَعَ الشُّهُودُ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْوَلِيِّ الْقِصَاصَ مِنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الشُّهُودِ بِشَهَادَتِهِمْ الْكَاذِبَةِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ جَزَاءُ الْمُبَاشَرَةِ الَّتِي هِيَ عِلَّةٌ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ الْمُبَاشَرَةُ وَقَدْ سَلَّمَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْ سَلَّمَ أَنَّ الشَّهَادَةَ سَبَبٌ لِلْقَتْلِ وَلَيْسَ بِمُبَاشَرَةٍ لَهُ حَقِيقَةً وَأَنَّ الْقِصَاصَ جَزَاءُ الْمُبَاشَرَةِ وَلَكِنَّهُ إنَّمَا أَوْجَبَ الْقِصَاصَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ السَّبَبَ الْمُؤَكَّدَ بِالْعَمْدِ الْكَامِلِ أَيْ الْقَصْدِ الْكَامِلِ إلَى الْقَتْلِ بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاشَرَةِ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ إنَّمَا وَجَبَ لِلزَّجْرِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وَالسَّبَبُ إذَا قَوِيَ وَأَدَّى إلَى الْهَلَاكِ غَالِبًا أُلْحِقَ بِالْقَتْلِ لِوُقُوعِ الِاحْتِيَاجِ حِينَئِذٍ إلَى الزَّجْرِ فَوَجَبَ الْقَوَدُ بِهِ وَإِذَا ضَعُفَ وَلَمْ يُؤَدِّ إلَى الْهَلَاكِ غَالِبًا اسْتَغْنَى عَنْ الزَّجْرِ فَسَقَطَ الْقَوَدُ وَقَدْ قَوِيَ السَّبَبُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ عَيْنُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ يَعْنِي قَصَدَ بِشَهَادَتِهِ إتْلَافَ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ لَا يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ عَنْهُ إلَّا بِالتَّمْكِينِ فَصَارَتْ شَهَادَتُهُ سَبَبًا مُعَيَّنًا لِلْقَتْلِ فِي حَقِّ هَذَا الرَّجُلِ بِخِلَافِ حَفْرِ الْبِئْرِ وَوَضْعِ الْحَجَرِ عَلَى الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِمَا إتْلَافَ إنْسَانٍ بِعَيْنِهِ فَلَا يُوجِبُ الْقَوَدَ وَلِأَنَّ الشُّهُودَ أَلْجَئُوا الْقَاضِي إلَى الْقَضَاءِ بِالْقَتْلِ فَإِنَّهُ يَخَافُ الْعُقُوبَةَ إنْ امْتَنَعَ عَنْهُ وَهُوَ هَلَاكٌ حُكْمِيٌّ شَرٌّ مِنْ الْهَلَاكِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمُلْجِئُ كَالْمُبَاشِرِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُكْرَهِ يُنْسَبُ إلَيْهِ فَصَارَ كَأَنَّ الشُّهُودَ أَتْلَفُوهُ بِالْقَضَاءِ فَإِنَّ الْقَضَاءَ إتْلَافٌ حُكْمًا بِأَنْ صَارَ نَفْسُهُ لِغَيْرِهِ حَتَّى قَتَلَهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ ضَمِنُوا الدِّيَةَ مَعَ مُبَاشَرَةِ الْوَلِيِّ مُخْتَارًا وَلَا يَرْجِعُونَ عَلَى الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّهُمْ ضَمِنُوا بِمُبَاشَرَتِهِمْ الْإِتْلَافَ حُكْمًا ثُمَّ مَعْنَى قَوْلِهِ الْمُؤَكَّدُ بِالْعَمْدِ الْكَامِلِ مَا ذُكِرَ فِي التَّهْذِيبِ أَنَّ الشُّهُودَ إنْ قَالُوا عِنْدَ الرُّجُوعِ تَعَمَّدْنَا وَعَلِمْنَا أَنَّهُ يُقْتَلُ بِشَهَادَتِنَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ تَسَبُّبٌ لَا تَقْطَعُ الْمُبَاشَرَةُ حُكْمَهُ فَكَانَ كَالْإِكْرَاهِ وَكَذَا إنْ قَالُوا تَعَمَّدْنَا وَلَمْ نَعْلَمْ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِقَوْلِنَا وَهُمْ مِمَّنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ يَجِبُ الْقِصَاصُ كَمَنْ رَمَى سَهْمًا إلَى إنْسَانٍ فَأَصَابَهُ ثُمَّ قَالَ لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ يُتْلِفُهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَإِنْ قَالُوا تَعَمَّدْنَا وَلَمْ نَعْلَمْ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِقَوْلِنَا وَهُمْ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ مِثْلَهُ لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْإِسْلَامِ حَلَفُوا عَلَيْهِ وَلَا يَجِبُ بِهِ الْقِصَاصُ وَعُزِّرُوا وَتَجِبُ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ مُؤَجَّلَةٌ فِي أَمْوَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِقَوْلِهِمْ إلَّا أَنْ تُصَدِّقَهُمْ الْعَاقِلَةُ فَتَكُونُ عَلَيْهِمْ. وَإِنْ قَالُوا أَخْطَأْنَا إلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ حَلَفُوا وَتَجِبُ الدِّيَةُ مُخَفَّفَةً فِي أَمْوَالِهِمْ إلَّا أَنْ تُصَدِّقَهُمْ الْعَاقِلَةُ فَتَكُونُ عَلَيْهِمْ لَكِنَّا نَقُول إنَّ فِعْلَ الشَّهَادَةِ لَيْسَ بِفِعْلِ قَتْلٍ بِنَفْسِهِ بِلَا شُبْهَةٍ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَوْضُوعٍ لِلْقَتْلِ وَيَتَخَلَّفُ الْقَتْلُ عَنْهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الصُّوَرِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ قَبْلَ الشَّهَادَةِ قَتْلًا بِوَاسِطَةٍ لَيْسَ فِي يَدِ الشَّاهِدِ تَحْصِيلُهُ وَهُوَ أَيْ تِلْكَ الْوَاسِطَةُ وَتَذْكِيرُ الضَّمِيرِ لِتَذْكِيرِ الْخَبَرِ حُكْمُ الْقَاضِي بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ وَمُبَاشَرَةِ الْوَلِيِّ الصَّادِرَيْنِ عَنْ اخْتِيَارٍ إذَا لَيْسَ فِي وُسْعِ الشَّاهِدِ إيجَادُ مَا يُظْهِرُهُ الْقَاضِي

وَقُلْنَا نَحْنُ بِأَنْ لَا كَفَّارَةَ عَلَى الْمُسَبِّبِ لِمَا سَبَقَ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّمَا صَارَ هَذَا الْقِسْمُ فِي حُكْمِ الْعِلَلِ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ أُضِيفَتْ إلَيْهِ فَصَارَ فِي حُكْمِ الْعِلَّةِ مَعَ كَوْنِهِ سَبَبًا مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ حَادِثَةٌ بِاخْتِيَارِ الْمُبَاشِرِ فَبَقِيَ الْأَوَّلُ سَبَبًا لَهُ حُكْمُ الْعِلَلِ وَلِهَذَا لَمْ يَصْلُحْ لِإِيجَابِ مَا هُوَ جَزَاءُ الْمُبَاشَرَةِ. وَإِذَا اعْتَرَضَ عَلَى السَّبَبِ عِلَّةٌ لَا يُضَافُ إلَيْهِ بِوَجْهٍ كَانَ سَبَبًا مَحْضًا مِثْلُ دَلَالَةِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ عَلَى مَالِ رَجُلٍ لِيَسْرِقَهُ أَوْ لِيَقْطَعَ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ أَوْ لِيَقْتُلَهُ وَمِثْلُ دَلَالَةِ الرَّجُلِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ قَوْمًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حِصْنٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِوَصْفِ طَرِيقِهِ فَأَصَابُوهُ بِدَلَالَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِقَضَائِهِ أَوْ يُوجِبُهُ وَلَا إيجَادَ اخْتِيَارِ الْقَتْلِ مِنْ الْوَلِيِّ فَبَقِيَ فِعْلُهُ تَسْبِيبًا فَلَا يَجِبُ بِهِ مَا يَجِبُ بِالْقَتْلِ؛ لِأَنَّهُ شَرَعَ بِطَرِيقِ الْمُمَاثَلَةِ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ النَّسَبِ وَالْمُبَاشَرَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنْ لَا كَفَّارَةَ عَلَى الْمُسَبِّبِ كَحَافِرِ الْبِئْرِ وَوَاضِعِ الْحَجَرِ مَعَ أَنَّهَا جَزَاءٌ قَاصِرٌ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا يَعْتَمِدُ الْمُبَاشَرَةَ فَالْقِصَاصُ الَّذِي هُوَ جَزَاءٌ كَامِلٌ مُعْتَمِدٌ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ أَوْلَى أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ وَلَا مَعْنَى لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْإِلْجَاءِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا يَخَافُ الْعُقُوبَةَ فِي الْآخِرَةِ وَبِهِ لَا يَصِيرُ مَلْجَأً فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا يُقِيمُ الطَّاعَةَ خَوْفًا مِنْ الْعُقُوبَةِ عَلَى تَرْكِهَا فِي الْآخِرَةِ وَلَا يَصِيرُ بِهِ مُكْرَهًا وَلَئِنْ سَلَّمْنَا الْإِلْجَاءَ فِي حَقِّ الْقَاضِي فَلَا نُسَلِّمُ فِي حَقِّ الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَى الْعَفْوِ شَرْعًا فَثَبَتَ أَنَّ فِعْلَهُمْ تَسْبِيبٌ وَلَيْسَ بِمُبَاشَرَةٍ حُكْمًا وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ مُبَاشَرَةٌ حُكْمًا فَلَا نُسَلِّمُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ عَلَى الْمُبَاشِرِ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ الْوَلِيُّ هَاهُنَا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِشُبْهَةِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَعَلَى الْمُبَاشِرِ حُكْمًا أَوْلَى أَنْ لَا يُلْزَمَ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ بِالْقَتْلِ الَّذِي بَاشَرَهُ الْوَلِيُّ لَا بِالشَّهَادَةِ وَحْدَهَا فَإِنَّ الْوَلِيَّ لَوْ لَمْ يَقْتُلْ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بَعْدَ الشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى أَحَدٍ بِالِاتِّفَاقِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَتَلَ شُهُودَ الْقِصَاصِ بَعْدَمَا رَجَعُوا. وَرُوِيَ أَنَّ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ فَقَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ جِيءَ بِآخَرَ فَقَالَا أُوهِمْنَا إنَّمَا السَّارِقُ هَذَا فَقَالَ لَا أُصَدِّقُكُمَا عَلَى هَذَا وَأُغَرِّمُكُمَا الدِّيَةَ وَلَوْ عَلِمْت أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا عَلَى الْأَوَّلِ لَقَطَعْت أَيْدِيَكُمَا فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ الْأَثَرَيْنِ أَنَّ الْعَمْدَ فِيهِ مُوجِبُ لِلْقِصَاصِ قُلْنَا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غَرِيبٌ جِدًّا لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَلَوْ ثَبَتَ يُحْمَلُ عَلَى السِّيَاسَةِ وَحَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَرَجَ عَلَى وَجْهِ التَّهْدِيدِ فَإِنَّهُ ثَبَتَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْيَدَيْنِ لَا يُقْطَعَانِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ وَلِمَا بَيْنَ جِهَةِ السَّبَبِيَّةِ فِي شَهَادَةِ الشُّهُودِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَعْنَى الْعِلَّةِ فِيهَا فَقَالَ وَإِنَّمَا صَارَ هَذَا الْقِسْمُ يَعْنِي شَهَادَةَ الشُّهُودِ فِي حُكْمِ الْعِلَلِ حَتَّى صَلَحَ مُوجِبًا لِلدِّيَةِ وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الْقَتْلِ أُضِيفَتْ إلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ قَبْلَ شَهَادَتِهِمْ وَإِنَّمَا حَدَثَتْ بِهَا فَكَانَ اسْتِيفَاءً مُرَتَّبًا عَلَى شَهَادَتِهِمْ وَتَمْكِينِهِمْ إيَّاهُ مِنْهُ فَصَارَ أَيْ هَذَا الْقِسْمُ وَهُوَ الشَّهَادَةُ فِي حُكْمِ الْعِلَّةِ بِصَيْرُورَةِ الْمُبَاشَرَةِ الَّتِي هِيَ عِلَّةُ التَّلَفِ مُضَافَةً إلَيْهِ مَعَ كَوْنِهِ فِي نَفْسِهِ سَبَبًا مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ حَادِثَةٌ بِاخْتِيَارِ الْمُبَاشِرِ يَعْنِي بِاخْتِيَارِهِ الصَّحِيحِ. بِخِلَافِ حُدُوثِ مُبَاشَرَةِ الْمُكْرَهِ بِاخْتِيَارِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجْعَلُ الْإِكْرَاهَ سَبَبًا حَتَّى لَمْ يَمْتَنِعْ وُجُوبُ الْقِصَاصِ بِهِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمُبَاشَرَةَ حَادِثَةٌ بِاخْتِيَارٍ فَاسِدٍ فَأَوْجَبَ نَقْلَ الْفِعْلِ إلَى الْأَوَّلِ كَأَنَّهُ بَاشَرَهُ فَبَقِيَ الْأَوَّلُ أَيْ فِعْلُ الشَّهَادَةِ سَبَبًا لَهُ حُكْمُ الْعِلَلِ حَتَّى صَلَحَ لِإِيجَابِ مَا هُوَ ضَمَانُ الْمَحَلِّ وَهُوَ الدِّيَةُ وَلَمْ يَصْلُحْ لِإِيجَابِ مَا هُوَ جَزَاءُ الْمُبَاشَرَةِ مِنْ الْقِصَاصِ وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَحِرْمَانِ الْإِرْثِ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمُبَاشَرَةُ وُجِدَتْ مِنْهُمْ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَقَدْ انْقَطَعَتْ بِالْفَرَاغِ عَنْ الْأَدَاءِ حُكْمُ الْحَاكِمِ وَمَا وَجَبَ بِهِ مُضَافٌ إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَلْزَمُوا الْحَاكِمَ ذَلِكَ إلَّا أَنَّ التَّلَفَ الْوَاقِعَ بِالْحُكْمِ تَلَفٌ حُكْمِيٌّ وَالْإِتْلَافُ الْحَقِيقِيُّ بِمُبَاشَرَةِ الْوَلِيِّ وَهُوَ فِيهِ مُخْتَارٌ غَيْرُ مُلْجَأٍ حُكْمًا فَيَقْتَصِرُ فِعْلُهُ عَلَيْهِ وَلَا يَنْتَقِلُ إلَى الشُّهُودِ فَلَا يَلْزَمُهُمْ ضَمَانُ الْقَتْلِ حَقِيقَةً. قَوْلُهُ (وَإِذَا اُعْتُرِضَ عَلَى السَّبَبِ) أَيْ عَلَى السَّبَبِ الَّذِي هُوَ طَرِيقٌ لِلْوُصُولِ إلَى الْحُكْمِ عِلَّةٌ يُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهَا وَلَا تُضَافُ تِلْكَ

لَمْ يَكُنْ الدَّالُّ شَرِيكًا لِأَنَّهُ صَاحِبُ سَبَبٍ مَحْضٍ وَمِثْلُ رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ تَزَوَّجْ هَذِهِ الْمَرْأَةَ فَإِنَّهَا حُرَّةٌ فَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهَا أَمَةٌ وَقَدْ اسْتَوْلَدَهَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الدَّالِّ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ لِمَا بَيَّنَّا بِخِلَافِ مَا إذَا زَوَّجَهَا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ لِأَنَّهُ صَارَ صَاحِبَ عِلَّةٍ وَكَذَلِكَ قُلْنَا فِي الْمَوْهُوبِ لَهُ إذَا اسْتَوْلَدَ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ لَمْ يَجْعَلْ قِيمَةَ الْوَلَدِ عَلَى الْوَاهِبِ لِأَنَّ هِبَتَهُ سَبَبٌ مَحْضٌ لَا يُضَافُ إلَيْهِ مُبَاشَرَةُ الِاسْتِيلَادِ بِوَجْهٍ وَكَذَلِكَ الْمُسْتَعِيرُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُعِيرِ بِضَمَانِ الِاسْتِحْقَاقِ لِمَا قُلْنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعِلَّةُ إلَى ذَلِكَ السَّبَبِ بِوَجْهٍ كَانَ ذَلِكَ السَّبَبُ مَحْضًا أَيْ سَبَبًا حَقِيقِيًّا وَهُوَ بَيَانُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ الْأَسْبَابِ مِثْلُ دَلَالَةِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ لِيَسْرِقَهُ فَفَعَلَ لَمْ يَضْمَنْ الدَّالُّ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ سَبَبٌ مَحْضٌ إذْ هِيَ طَرِيقُ الْوُصُولِ إلَى الْمَقْصُودِ وَقَدْ تَخَلَّلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ مَا هُوَ عِلَّةٌ غَيْرُ مُضَافَةٍ إلَى السَّبَبِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ الْفِعْلُ الَّذِي يُبَاشِرُهُ الْمَدْلُولُ بِاخْتِيَارِهِ لَمْ يَكُنْ الدَّالُّ شَرِيكًا فِي الْمُصَابِ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ سَبَبٍ مَحْضٍ؛ لِأَنَّ دَلَالَتَهُ طَرِيقٌ لِلْوُصُولِ إلَى الْمَقْصُودِ وَتَخَلَّلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَقْصُودِ عِلَّةٌ غَيْرُ مُضَافَةٍ إلَى الدَّلَالَةِ وَهِيَ فِعْلُ الْقَوْمِ الصَّادِرِ عَنْ اخْتِيَارِهِمْ فَلَمْ يَكُنْ فِي دَلَالَتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَعْنَى الْعِلَّةِ فَلَا يَكُونُ لَهُ شِرْكَةٌ فِي الْمُصَابِ إلَّا إذَا ذَهَبَ مَعَهُمْ وَدَلَّهُمْ عَلَى الْحِصْنِ فَحِينَئِذٍ يُشْرِكُهُمْ فِي الْمُصَابِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ إذًا تَسْبِيبٌ فِيهِ مَعْنَى الْعِلَّةِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَا إذَا سَعَى إنْسَانٌ إلَى سُلْطَانٍ ظَالِمٍ فِي حَقِّ آخَرَ بِغَيْرِ حَقٍّ حَتَّى غَرَّمَهُ مَالًا كَانَ السَّاعِي ضَامِنًا وَهُوَ صَاحِبُ سَبَبٍ مَحْضٍ لِتَخَلُّلِ فِعْلِ الْمُخْتَارِ بَيْنَ فِعْلِهِ وَبَيْنَ الْحُكْمِ كَمَا فِي دَلَالَةِ السَّارِقِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ ذَلِكَ اخْتِيَارُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ لِغَلَبَةِ السُّعَاةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ دُونَ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيُسْرِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ إذَا سَعَى إنْسَانٌ إلَى السُّلْطَانِ فِي حَقِّ آخَرَ حَتَّى غَرَّمَهُ مَالًا بِغَيْرِ حَقٍّ بَعْضُ مَشَايِخِنَا يُفْتُونَ أَنَّ السَّاعِيَ يَضْمَنُ وَبَعْضُهُمْ قَالُوا إنْ كَانَ السُّلْطَانُ مَعْرُوفًا بِالظُّلْمِ وَتَغْرِيمِ مَنْ سُعِيَ بِهِ إلَيْهِ يَضْمَنُ السَّاعِي وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا لَا يَضْمَنُ وَلَكِنْ نَحْنُ لَا نُفْتِي بِهِ فَإِنَّهُ خِلَافُ أُصُولِ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَإِنَّ السَّعْي سَبَبٌ مَحْضٌ لِهَلَاكِ مَالِ صَاحِبِ الْمَالِ فَإِنَّ السُّلْطَانَ يُغَرِّمُهُ اخْتِيَارًا لَا طَبْعًا وَلَكِنْ لَوْ رَأَى الْقَاضِي تَضْمِينَ السَّاعِي لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ الِاجْتِهَادِ فَنَحْنُ نَكِلُ الرَّأْيَ إلَى الْقَاضِي حَتَّى يَنْزَجِرَ السُّعَاةُ عَنْ السَّعْيِ. قَوْلُهُ (وَمِثْلُهُ) أَيْ مِثْلُ الَّذِي دَلَّ السَّارِقُ أَوْ الَّذِي دَلَّ عَلَى الْحِصْنِ رَجُلٌ قَالَ إلَى آخِرِهِ لَمْ يَرْجِعْ إلَى الْمُتَزَوِّجِ عَلَى الدَّالِّ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ الَّتِي أَدَّاهَا إلَى الْمَالِكِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ صَاحِبُ سَبَبٍ مَحْضٍ فَإِنَّ إخْبَارَهُ سَبَبٌ لِلْوُصُولِ إلَى الْمَقْصُودِ وَلَكِنْ تَخَلَّلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الِاسْتِيلَادُ عِلَّةٌ غَيْرُ مُضَافَةٍ إلَى السَّبَبِ وَهِيَ عَقْدُ النِّكَاحِ الَّذِي بَاشَرَهُ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ بِاخْتِيَارِهِمَا بِخِلَافِ مَا إذَا زَوَّجَهَا رَجُلٌ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ أَيْ بِشَرْطِ أَنَّهَا حُرَّةٌ بِأَنْ قَالَ زَوَّجْتُكُمَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ حَيْثُ يَرْجِعُ الْمُسْتَوْلِدُ بِضَمَانِ الْوَلَدِ عَلَى الْمُزَوِّجِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ صَاحِبَ عِلَّةٍ إذْ الِاسْتِيلَادُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّزْوِيجِ وَشَرْطُ الْحُرِّيَّةِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصْفِ اللَّازِمِ لِهَذَا التَّزْوِيجِ فَيَكُونُ الِاسْتِيلَادُ بِنَاءً عَلَى التَّزْوِيجِ وَشَرْطُ الْحُرِّيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْعِلَّةِ كَالتَّزْوِيجِ فَكَانَ الشَّارِطُ لَهَا صَاحِبَ عِلَّةٍ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ أَنَا كَفِيلٌ بِمَا يَلْحَقُك بِسَبَبِ هَذَا الْعَقْدِ أَوْ يُقَالُ مَا لَزِمَهُ مِنْ الضَّمَانِ إنَّمَا لَزِمَ بِالِاسْتِيلَادِ وَالِاسْتِيلَادُ حُكْمُ التَّزْوِيجِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لَهُ فَكَانَ الْمُزَوِّجُ صَاحِبَ الْعِلَّةِ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ. وَكَذَلِكَ قُلْنَا أَيْ وَكَمَا قُلْنَا إنَّ الْمُتَزَوِّجَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُخْبِرِ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ سَبَبٍ قُلْنَا فِي الْمَوْهُوبِ لَهُ الْجَارِيَةُ إذَا اسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ وَضَمِنَ الْمُسْتَوْلِدُ قِيمَةَ الْوَلَدِ لَمْ يَرْجِعْ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْوَاهِبِ؛ لِأَنَّ هِبَةَ الْوَاهِبِ سَبَبٌ مَحْضٌ لِضَمَانِ قِيمَةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ وَجَبَ عَلَيْهِ بِالِاسْتِيلَادِ لَا بِالْهِبَةِ وَالِاسْتِيلَادُ لَيْسَ

بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْبَائِعَ صَارَ كَفِيلًا عَنْهُ بِمَا شَرَطَ عَلَيْهِ مِنْ الْبَدَلِ كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ إنَّ وَلَدَك حُرٌّ بِحُكْمِ بَيْعِي فَإِنْ ضَمِنَك أَحَدٌ بِحُكْمٍ بَاطِلٍ فَأَنَا كَفِيلٌ عَنْهُ وَلِذَلِكَ لَمْ يَرْجِعْ بِالْعُقْرِ لِأَنَّ مَا ضَمِنَهُ فَهُوَ قِيمَةُ مَا سُلِّمَ لَهُ فَلَمْ يَكُنْ غُرْمًا فَلَمْ يَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهِ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا دَلَالَةُ الْمُحْرِمِ عَلَى الصَّيْدِ أَنَّهُ يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ سَبَبٌ لِأَنَّهُ الدَّلَالَةُ فِي إزَالَةِ أَمْنِ الصَّيْدِ مُبَاشَرَةً. أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّيْدَ لَا يَبْقَى آمِنًا عَلَى الْمَدْلُولِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِمُضَافٍ إلَيْهِ أَيْ إلَى السَّبَبِ وَهُوَ الْهِبَةُ إذْ الْهِبَةُ لَيْسَتْ بِمَوْضُوعَةٍ لِلِاسْتِيلَادِ بَلْ هِيَ مَوْضُوعَةٌ لِإِظْهَارِ الْجُودِ وَالسَّمَاحَةِ وَإِثْبَاتِ الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الِاسْتِيلَادِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلِاسْتِيلَادِ وَطَلَبِ النَّسْلِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «تَنَاكَحُوا تَوَالَدُوا تَكْثُرُوا» الْحَدِيثَ. وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَمَا أَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ لَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْوَاهِبِ لَا يَرْجِعُ الْمُسْتَعِيرُ عَلَى الْمُعِيرِ بِضَمَانِ الِاسْتِحْقَاقِ يَعْنِي إذَا أَتْلَفَ الْمُسْتَعِيرُ الْمُسْتَعَارَ بِاسْتِعْمَالِهِ ثُمَّ ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ وَضَمِنَ الْمُسْتَعِيرُ قِيمَتَهُ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا عَلَى الْمُعِيرِ لِمَا قُلْنَا إنَّ السَّبَبَ الْمَحْضَ لَا يُضَافُ إلَيْهِ الْحُكْمُ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ الصَّالِحَةِ لِلْإِضَافَةِ إلَيْهَا وَالْإِعَارَةُ سَبَبٌ مَحْضٌ لَا يُضَافُ الِاسْتِعْمَالُ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ التَّلَفِ إلَيْهِ بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي إذَا اسْتَوْلَدَ الْجَارِيَةَ الْمُشْتَرَاةَ ثُمَّ ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ الَّتِي ضَمِنَهَا لِلْمُسْتَحِقِّ، وَثَمَنُ الْجَارِيَةِ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ صَارَ كَفِيلًا عَنْ الْمُشْتَرِي أَيْ لِلْمُشْتَرِي بِمَا شَرَطَ عَلَيْهِ أَيْ بِسَبَبِ مَا شَرَطَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْ الْبَدَلِ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْبَيْعِ عَلَى مُسَاوَاةِ الْبَدَلَيْنِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ فَلَمَّا كَانَ الثَّمَنُ مِنْ جَانِبِ الْمُشْتَرِي سَالِمًا لِلْبَائِعِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ سَالِمًا لِلْمُشْتَرِي وَذَلِكَ بِأَنْ يُجْعَلَ الْبَائِعُ كَفِيلًا بِسَبَبِ تَمَلُّكِهِ لِلْبَدَلِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لِلْمُشْتَرِي إنَّ الْمِلْكَ قَدْ ثَبَتَ لَك فِي الْجَارِيَةِ بِحُكْمِ بَيْعِي وَأَنَّ وَلَدَك مِنْهَا حُرٌّ بِحُكْمِ بَيْعِي فَإِنْ ضَمَّنَك أَحَدٌ بِحُكْمٍ بَاطِلٍ فَأَنَا كَفِيلٌ لَك بِمَا ضَمَّنَك وَهَذَا الضَّمَانُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ فِي عَقْدِ التَّبَرُّعِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِي عَقْدِ الضَّمَانِ بِاشْتِرَاطِ الْبَدَلِ إنَّمَا قَالَ بِحُكْمٍ بَاطِلٍ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالِاسْتِحْقَاقِ فِي زَعْمِ الْبَائِعِ بَاطِلٌ وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِأَنَّ الرُّجُوعَ عَلَى الْبَائِعِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْكَفَالَةِ لَمْ يَرْجِعْ الْمُشْتَرِي بِالْعُقْرِ الَّذِي ضَمِنَهُ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ مَا ضَمِنَهُ مِنْ الْعُقْرِ قِيمَةُ مَا سَلَّمَ لَهُ مِنْ مَنَافِعِ الْبُضْعِ فَلَمْ يَكُنْ غُرْمًا فَلَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهِ أَيْ لَمْ يَكُنْ تَقْدِيرُ كَفَالَةِ الْبَائِعِ بِمَا ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَرَامَةٍ وَالرُّجُوعُ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ إنَّمَا يَصِحُّ إنْ لَوْ كَانَ الْغُرْمُ لَاحِقًا هَذَا طَرِيقُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَمُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ. وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إنَّمَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْأَوْلَادِ؛ لِأَنَّ بِمُبَاشَرَةِ عَقْدِ الزَّمَانِ قَدْ الْتَزَمَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي صِفَةَ السَّلَامَةِ عَنْ الْعَيْبِ وَلَا عَيْبَ فَوْقَ الِاسْتِحْقَاقِ وَبِمُبَاشَرَةِ عَقْدِ التَّبَرُّعِ لَا يَصِيرُ مُلْتَزِمًا سَلَامَةَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَنْ الْعَيْبِ وَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ بِالْعُقْرِ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ بَدَلًا عَمَّا اسْتَوْفَاهُ وَلَا رُجُوعَ لَهُ بِسَبَبِ الْعَيْبِ فِيمَا اسْتَوْفَاهُ بِنَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ ضَمِنَ لَهُ صِفَةَ السَّلَامَةِ عَنْ الْعَيْبِ قَالَ وَهَذَا أَصَحُّ فَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْعَارِيَّةِ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ إذَا آجَرَ دَابَّةً فَتَلِفَتْ بِاسْتِعْمَالِ الْمُسْتَأْجِرِ ثُمَّ ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ رَجَعَ الْمُسْتَأْجِرُ بِمَا يَضْمَنُ مِنْ قِيمَتِهَا عَلَى الْعَبْدِ فِي الْحَالِ وَالْعَبْدُ لَا يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ الْكَفَالَةِ مَا لَمْ يُعْتَقْ وَهُوَ مُؤَاخَذٌ بِالضَّمَانِ الَّذِي يَكُونُ سَبَبُهُ الْعَيْبُ بَعْدَمَا الْتَزَمَ صِفَةَ السَّلَامَةِ عَنْ الْعَيْبِ بِعَقْدِ الضَّمَانِ فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ هُوَ الْأَصَحُّ. قَوْلُهُ (وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لَا يُضَافُ إلَى السَّبَبِ الْمَحْضِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ دَلَالَةُ الْمُحْرِمِ عَلَى الصَّيْدِ أَيْ أَنَّهُ فِعْلُ الدَّلَالَةِ يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْمُحْرِمِ الدَّالِّ وَإِنْ كَانَ فِعْلُ الدَّلَالَةِ سَبَبًا مَحْضًا؛ لِأَنَّهُ تَخَلَّلَ بَيْنَ الدَّلَالَةِ وَبَيْنَ الْمَقْصُودِ فِعْلُ مُخْتَارٍ وَهُوَ الْقَتْلُ مِنْ الْمَدْلُولِ وَقَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ جَوَابُ السُّؤَالِ يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا سَبَبٌ بَلْ الدَّلَالَةُ فِي إزَالَةٍ أَمْنِ الصَّيْدِ مُبَاشَرَةٌ

إذَا صَحَّتْ بِالدَّلَالَةِ غَيْرَ أَنَّهَا يَعْرِضُ الِانْتِقَاضُ فَلَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ بِنَفْسِ الدَّلَالَةِ حَتَّى يَسْتَقِرَّ وَذَلِكَ بِأَنْ يَتَّصِلَ بِهَا الْقَتْلُ فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْجِرَاحَةِ فَسَيَأْتِي فِيهَا لِمَعْرِفَةِ قَرَارِهَا فَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى مَالِ النَّاسِ فَلَيْسَ بِمُبَاشَرَةِ عُدْوَانٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ بِالْبُعْدِ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ بَلْ مَا لِعِصْمَةِ وَدَفْعِ الْمَالِكِ عَنْ الْمَالِ وَلَا يَلْزَمُ دَلَالَةُ الْمُودَعِ عَلَى الْوَدِيعَةِ لِأَنَّهَا مُبَاشَرَةُ خِيَانَةٍ عَلَى مَا الْتَزَمَهُ مِنْ الْحِفْظِ بِالتَّضْيِيعِ فَصَارَ ضَامِنًا بِالْمُبَاشَرَةِ دُونَ أَنْ يَضْمَنَ بِفِعْلِ الْمَدْلُولِ مُضَافًا إلَيْهِ بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ وَكَانَ حُكْمُ الْمُحْرِمِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مُوجِبِ الْعَقْدِ حُكْمُ الْمُودَعِ وَكَأَنَّ صَيْدَ الْحَرَمِ لِكَوْنِهِ رَاجِعًا إلَى بَقَاءِ الْأَرْضِ مِثْلُ أَمْوَالِ النَّاسِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQأَيْ مُبَاشَرَةُ جِنَايَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَمْنَ يَزُولُ بِهَا عَنْ الصَّيْدِ فَإِنَّهُ أَمِنَ بِبُعْدِهِ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ وَتَوَارِيهِ عَنْ أَعْيُنِهِمْ وَأَنَّهُ قَدْ الْتَزَمَ بِعَقْدِ الْإِحْرَامِ الْأَمْنَ لِلصَّيْدِ عَنْهُ فَصَارَ الدَّالُّ جَانِيًا بِإِزَالَةِ الْأَمْنِ عَنْهُ بِالدَّلَالَةِ فَيَضْمَنُ إذَا صَحَّتْ الدَّلَالَةُ أَيْ وُجِدَتْ شَرَائِطُهَا وَهِيَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَدْلُولُ عَالِمًا بِمَكَانِ الصَّيْدِ إذْ لَوْ كَانَ عَالِمًا بِهِ لَمْ يَحْدُثْ لَهُ تَمَكُّنٌ مِنْ قِبَلِهِ بِدَلَالَتِهِ فَكَانَ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا سَوَاءً وَأَنْ يُصَدِّقَهُ الْمَدْلُولُ فِي الدَّلَالَةِ حَتَّى لَوْ كَذَّبَهُ وَصَدَّقَ غَيْرَهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكَذِّبِ وَأَنْ يَتَّصِلَ الْقَتْلُ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ وَأَنْ يَكُونَ الدَّالُّ مُحْرِمًا عِنْدَ الْقَتْلِ حَتَّى لَوْ كَانَ مُحْرِمًا وَقْتَ الدَّلَالَةِ وَحَلَّ وَقْتَ الْقَتْلِ لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَتَقَرَّرُ عِنْدَ الْقَتْلِ فَيُشْتَرَطُ الْإِحْرَامُ عِنْدَ الْقَتْلِ وَقَوْلُهُ غَيْرَ أَنَّهَا يَعْرِضُ الِانْتِقَالَ أَيْ الدَّلَالَةَ، جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ كَانَتْ الدَّلَالَةُ جِنَايَةً بِنَفْسِهَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَوَقَّفَ وُجُوبُ الْجَزَاءِ عَلَى قَتْلِ الْمَدْلُولِ الصَّيْدَ فَقَالَ غَيْرَ أَنَّهَا يَعْرِضُ الِانْتِقَاضُ وَالْإِبْطَالُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَتَوَارَى الصَّيْدُ عَنْ الْمَدْلُولِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَيَعُودَ آمِنًا كَمَا كَانَ وَصَارَ كَمَا إذَا أَخَذَهُ ثُمَّ أَرْسَلَهُ أَوْ رَمَاهُ فَلَمْ يُصِبْهُ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ حَتَّى يَسْتَقِرَّ فَكَانَ ذَلِكَ أَيْ تَوَقُّفُ الْحُكْمِ إلَى الِاسْتِقْرَارِ بِمَنْزِلَةِ الْجِرَاحَةِ فَيَسْتَأْنِي فِيهَا أَيْ يَنْتَظِرُ مَآلَ أَمْرِهَا لِمَعْرِفَةِ قَرَارِهَا فِي حَقِّ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ انْدِمَالَهَا بِالْبُرْءِ مُتَوَهَّمٌ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى لَهَا أَثَرٌ وَهُوَ كَالْمُضَارِبِ إذَا أَمَرَهُ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ فِي بَلَدِ كَذَا فَجَاوَزَهُ يَجِبُ الضَّمَانُ بِنَفْسِ الْمُجَاوَزَةِ وَلَكِنْ لَا يَتَأَكَّدُ لِاحْتِمَالِ الِانْتِقَاضِ بِالْمُعَاوَدَةِ إلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ قَبْلَ التَّصَرُّفِ فَإِذَا انْصَرَفَ قَبْلَ الْمُعَاوَدَةِ فَحِينَئِذٍ يَتَأَكَّدُ الضَّمَانُ كَذَا هَاهُنَا فَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى مَالِ النَّاسِ فَلَيْسَتْ بِنَفْسِهَا بِمُبَاشَرَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَالَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ بِالْبُعْدِ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ وَأَعْيُنِهِمْ بَلْ هُوَ مَحْفُوظٌ بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ وَبِأَيْدِيهِمْ وَالدَّالُ لَمْ يَلْتَزِمْ الْحِفْظَ أَيْضًا فَلَا يَصِيرُ جَانِيًا بِإِزَالَتِهِ الْحِفْظَ بِدَلَالَتِهِ فَبَقِيَتْ دَلَالَتُهُ سَبَبًا مَحْضًا. قَوْلُهُ (وَلَا يَلْزَمُ دَلَالَةُ الْمُودَعِ) جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ آخَرَ يَرِدُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَيْضًا فَإِنَّ دَلَالَةَ الْمُودَعِ السَّارِقَ عَلَى الْوَدِيعَةِ سَبَبٌ مَحْضٌ كَدَلَالَةِ غَيْرِ الْمُودَعِ لِتَخَلُّلِ فِعْلِ الْمُخْتَارِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ التَّلَفِ ثُمَّ إنَّهَا تُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الدَّالِّ بِالِاتِّفَاقِ فَقَالَ هُوَ ضَامِنٌ بِجِنَايَتِهِ عَلَى مَالِ الْوَدِيعَةِ مِنْ الْحِفْظِ وَتَضْيِيعِهِ إيَّاهَا فَكَانَ ضَامِنًا بِالْمُبَاشَرَةِ دُونَ التَّسْبِيبِ مُضَافًا إلَيْهِ أَيْ إلَى الدَّالِّ عَلَى مُوجِبِ الْعَقْدِ أَيْ مُوجِبِ عَقْدِ الْإِحْرَامِ فَإِنَّهُ تَرَكَ مَا الْتَزَمَهُ بِعَقْدِ الْإِحْرَامِ مِنْ تَرْكِ التَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ وَأَمْنِهِ عَنْهُ كَالْمُودَعِ تَرَكَ مَا الْتَزَمَهُ بِعَقْدِ الْوَدِيعَةِ وَكَانَ صَيْدُ الْحَرَمِ لِكَوْنِهِ رَاجِعًا إلَى بِقَاعِ الْأَرْضِ مِثْلُ أَمْوَالِ النَّاسِ يَعْنِي لَوْ دَلَّ حَلَالٌ فِي الْحَرَمِ عَلَى صَيْدِ الْحَرَمِ فَقُتِلَ بِدَلَالَتِهِ لَمْ يَضْمَنْ الدَّالُّ شَيْئًا كَمَا لَا يَضْمَنُ الدَّالُّ عَلَى مَالِ إنْسَانٍ لِيَسْرِقَهُ؛ لِأَنَّ صَيْدَ الْحَرَمِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ رَاجِعًا إلَى بِقَاعِ الْأَرْضِ مِثْلُ أَمْوَالِ النَّاسِ فَإِنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ الْحَرَمَ مَأْمَنًا آمِنًا لِاسْتِينَاسِ زُوَّارِ الْبَيْتِ وَمُجَاوِرِيهِ لِيَبْقَى مَعْمُورًا إلَى آخِرِ الدَّهْرِ بِمُجَاوَرَتِهِمْ وَزِيَارَتِهِمْ فَإِنَّ الْعِمَارَةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالْأَمْنِ فَكَانَتْ حُرْمَةُ الصَّيْدِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِنْ عِمَارَةِ الْحَرَمِ وَزِينَتِهِ فَأَشْبَهَ تَعَرُّضُ الصَّيْدِ فِيهِ إتْلَافَ الْأَمْوَالِ الْمَمْلُوكَةِ وَإِتْلَافَ مَتَاعِ الْمَسْجِدِ وَالْأَمْوَالِ الْمُحْتَرَمَةِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَالْأَمْوَالِ الْمَوْقُوفَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الضَّمَانَ الْوَاجِبَ فِيهِ ضَمَانُ الْمَحَلِّ كَضَمَانِ الْأَمْوَالِ حَتَّى لَا يَتَعَدَّدَ بِتَعَدُّدِ الْجَانِي وَالضَّمَانُ الْوَاجِبُ بِالْإِحْرَامِ جَزَاءُ الْفِعْلِ حَتَّى تَعَدَّدَ بِتَعَدُّدِ الْجَانِي مَعَ إيجَادِ الْمَحَلِّ كَالْجَزَاءِ الْوَاجِبِ بِالْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ عَمْدًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ بَقِيَتْ دَلَالَتُهُ سَبَبًا مَحْضًا كَدَلَالَةِ غَيْرِ

وَمَنْ دَفَعَ إلَى صَبِيٍّ سِكِّينًا أَوْ سِلَاحًا آخَرَ لِيُمْسِكَهُ لِلدَّافِعِ فَوَجَأَ بِهِ نَفْسَهُ لَمْ يَضْمَنْ الدَّافِعُ لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ مَحْضٌ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ عِلَّةٌ لَا تُضَافُ إلَيْهِ بِوَجْهٍ وَإِذَا سَقَطَ عَنْ يَدِ الصَّبِيِّ عَلَيْهِ فَجَرَحَهُ كَانَ ذَلِكَ الدَّافِعُ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إلَيْهِ الْعَطَبُ هَا هُنَا لِأَنَّ السُّقُوطَ أُضِيفَ إلَى الْإِمْسَاكِ فَصَارَ سَبَبًا لَهُ حُكْمُ الْعِلَلِ وَشُبِّهَ بِهَا ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُودَعِ السَّارِقَ عَلَى مَالِ إنْسَانٍ لِتَخَلُّلِ فِعْلِ مُخْتَارٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ التَّلَفِ وَهُوَ فِعْلُ الصَّائِدِ وَانْعِدَامُ عَقْدِ الْتِزَامٍ لِتَرْكِ التَّعَرُّضِ مِنْ الْحَلَالِ. قَوْلُهُ (وَمَنْ دَفَعَ) مِثَالٌ آخَرُ لِلسَّبَبِ الْمَحْضِ فَوَجَأَ بِهِ نَفْسَهُ أَيْ ضَرَبَ بِذَلِكَ السِّكِّينِ أَوْ السِّلَاحِ نَفْسَهُ فَهَلَكَ مِنْ الْوَجِّ وَهُوَ الضَّرْبُ بِالْيَدِ أَوْ بِالسِّكِّينِ مِنْ بَابِ مَنَعَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْ الدَّفْعَ إلَى الصَّبِيِّ سَبَبٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ إلَى التَّلَفِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ عِلَّةٌ وَهِيَ قَتْلُ الصَّبِيِّ نَفْسَهُ بِاخْتِيَارِهِ لَا تُضَافُ تِلْكَ الْعِلَّةُ إلَى السَّبَبِ بِوَجْهٍ؛ لِأَنَّ الدَّافِعَ أَمَرَهُ بِإِمْسَاكِ السِّلَاحِ لَهُ بِاسْتِعْمَالِهِ وَأَنَّهُ تَلِفَ بِاسْتِعْمَالِهِ وَهُوَ مُخْتَارٌ فِي ذَلِكَ غَيْرُ مَأْمُورٍ مِنْ جِهَةِ الدَّافِعِ فَإِذَا سَقَطَ عَنْ يَدِ الصَّبِيِّ عَلَى الصَّبِيِّ فَجَرَحَهُ كَانَ الضَّمَانُ حِينَئِذٍ عَلَى الدَّافِعِ؛ لِأَنَّهُ الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ أُضِيفَ إلَى الدَّافِعِ الْعَطَبُ أَيْ الْهَلَاكُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ لَمْ يَحْصُلْ بِمُبَاشَرَتِهِ فِعْلَ الْإِهْلَاكِ اخْتِيَارًا بَلْ بِإِمْسَاكِهِ الَّذِي هُوَ حُكْمُ دَفْعِ الدَّافِعِ وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي الدَّفْعِ فَيُضَافُ مَا لَزِمَ مِنْ الْإِمْسَاكِ إلَيْهِ فَيَضْمَنُ فَصَارَ أَيْ الدَّفْعُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ سَبَبًا لَهُ حُكْمُ الْعِلَّةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عِلَّةَ التَّلَفِ وَهِيَ السُّقُوطُ عَنْ يَدِ الصَّبِيِّ تُضَافُ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَدَافِعِ السِّكِّينِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مَنْ حَمَلَ صَبِيًّا يَعْنِي صَبِيًّا حُرًّا لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ. لَيْسَ مِنْهُ بِسَبِيلٍ أَيْ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَيْهِ إلَى بَعْضِ الْمَهَالِكِ فَهَلَكَ بِذَلِكَ الْوَجْهِ أَيْ بِالْحَرِّ فِي مَوْضِعِ الْحَرِّ أَوْ بِالْبَرْدِ فِي مَوْضِعِ الْبَرْدِ أَوْ بِالتَّرَدِّي مِنْ الشَّاهِقِ أَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ مَسْبَعَةً أَوْ مُحَيَّاةً فَهَلَكَ بِافْتِرَاسِ سَبُعٍ أَوْ لَدْغِ حَيَّةٍ كَانَ عَاقِلَةُ الْغَاصِبِ أَيْ الَّذِي حَمَلَهُ إلَى الْمَهْلَكَةِ وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ ضَامِنًا لِلدِّيَةِ اسْتِحْسَانًا وَلَوْ قِيلَ ضَامِنَةً أَوْ ضَامِنِينَ لَكَانَ أَحْسَنَ وَفِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْحَرَّ لَا يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ فَإِنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ يَخْتَصُّ بِمَا هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَالْحَرُّ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَمْ يَكُنْ النَّقْلُ إلَى الْمَهْلَكَةِ غَصْبًا فَصَارَ كَمَا لَوْ نَقَلَهُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ أَوْ حَصَلَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ أَوْ بِمَرَضٍ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ وَكَذَا لَوْ كَانَ لِلصَّبِيِّ مُكَاتَبًا؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ. فَالْحُرُّ حَقِيقَةً أَوْلَى بِذَلِكَ وَكَذَا لَوْ كَانَ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ فَكَذَا لَوْ لَمْ يُعَبِّرْ؛ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي أَنَّهُمَا لَا يُضْمَنَانِ بِالْغَصْبِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ سَبَبٌ لِإِتْلَافِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ بِاسْتِيلَائِهِ عَلَيْهِ وَالْمُسَبِّبُ إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي تَسَبُّبِهِ كَانَ ضَامِنًا لِلدِّيَةِ عَلَى مَا قُلْته كَحَافِرِ الْبِئْرِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ مَحْفُوظٌ بِيَدِ الْوَلِيِّ فَصَارَتْ يَدُهُ عَلَيْهِ مُمْسِكَةً لِحِفْظِهِ فَإِذَا أَزَالَ يَدَهُ بِطَرِيقِ التَّعَدِّي فَقَدْ أَزَالَ الْمُمْسِكَةَ الْحَافِظَةَ وَصَارَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ الْغَاصِبِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا لِوُجُودِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ بِلَا مُعَارَضَةٍ فَإِنَّ الصَّبِيَّ لَا يُعَارِضُهُ بِيَدِهِ وَلَا بِلِسَانِهِ إذْ لَا عِبَارَةَ لَهُ فَصَارَ النَّقْلُ إلَى الْمَهْلَكَةِ مُضَافًا إلَى يَدِ الْغَاصِبِ كَمَا فِي الدَّابَّةِ فَكَانَ تَحْصِيلُهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ تَعَدِّيًا وَالتَّلَفُ مُضَافٌ إلَى حُصُولِهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ إذْ لَوْ كَانَ بِمَكَانٍ آخَرَ لَمَا أَصَابَهُ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلتَّلَفِ فَكَانَ تَقْرِيبُهُ إلَى الْمَهْلَكَةِ سَبَبًا فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ بِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ فَإِنَّهُ يُقَالُ لَوْلَا تَقْرِيبُهُ إيَّاهُ مِنْ هَذِهِ الْمَهْلَكَةِ لَمَا أَصَابَتْهُ الْآفَةُ بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ أَوْ بِمَرَضٍ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْهَلَاكِ أَمْرٌ حَدَثَ مِنْ نَفْسِ الصَّبِيِّ وَلَا يُضَافُ إلَى إزَالَةِ الْوَلِيِّ عَنْهُ وَلَا إلَى نَقْلِهِ إلَى مَكَان آخَرَ بِوَجْهٍ إذْ لَا يُقَالُ لَوْلَا أَخْذُهُ مِنْ يَدِ وَلِيِّهِ وَاسْتِيلَاؤُهُ عَلَيْهِ أَوْ لَوْلَا تَقْرِيبُهُ مِنْ الْمَكَانِ الْفُلَانِيِّ لَمْ يَمُتْ إذْ لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْوَلِيِّ وَفِي الْمَكَانِ الْأَوَّلِ لَأَصَابَهُ الْمَوْتُ أَيْضًا إذْ الْمَوْتُ مَحْتُومٌ عَلَى الْعِبَادِ فَلَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ سَبَبًا فَضْلًا مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الصَّبِيُّ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يُعَارِضُهُ بِلِسَانِهِ فَلَا تَثْبُتُ يَدُهُ حُكْمًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ عَبْدُهُ حَكَّمَ فِيهِ قَوْلَ الصَّبِيِّ لَا يَدَهُ. وَبِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَطَعَ

وَكَذَلِكَ مَنْ حَمَلَ صَبِيًّا لَيْسَ مِنْهُ بِسَبِيلٍ لَهُ إلَى بَعْضِ الْمَهَالِكِ مِثْلُ الْحَرِّ أَوْ الْبَرْدِ أَوْ الشَّوَاهِقِ فَعَطِبَ بِذَلِكَ الْوَجْهِ كَانَ عَاقِلَةُ الْغَاصِبِ ضَامِنًا إذَا قُتِلَ الصَّبِيُّ فِي يَدِهِ رَجُلًا لَمْ يَرْجِعْ عَاقِلَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْغَاصِبِ وَكَذَلِكَ إذَا مَاتَ بِمَرَضٍ لَمْ تَضْمَنْ عَاقِلَةُ غَاصِبِهِ شَيْئًا لِمَا ذَكَرْنَا وَكَذَلِكَ مَنْ حَمَلَ صَبِيًّا لَيْسَ مِنْهُ بِسَبِيلٍ عَلَى دَابَّةٍ كَانَ سَبَبًا لِلتَّلَفِ فَإِنْ سَقَطَ مِنْهَا وَهِيَ وَاقِفَةٌ أَوْ سَارَتْ بِنَفْسِهَا ضَمِنَهُ عَاقِلَةُ الْحَامِلِ إذَا كَانَ صَبِيًّا يَسْتَمْسِكُ أَوْ لَا ـــــــــــــــــــــــــــــQالْوِلَايَةَ عَلَى الْمُكَاتَبِ الصَّغِيرِ وَجُعِلَ بِمَنْزِلَةِ الْكَبِيرِ حُكْمًا حَتَّى لَا يُوَلَّى عَلَى مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْأَكْسَابِ وَلَا عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يُزَوَّجُ وَلَمَّا أُلْحِقَ بِالْكَبِيرِ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ يَدٌ لِلْمُسْتَوْلِي؛ لِأَنَّ يَدَهُ فِي نَفْسِهِ أَقْرَبُ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ فَتَبَيَّنَ بِمَا قُلْنَا أَنَّ هَذَا ضَمَانُ جِنَايَةٍ لَا ضَمَانُ غَصْبٍ وَالْحُرُّ يَضْمَنُ بِالْجِنَايَةِ مُبَاشَرَةً وَتَسْبِيبًا وَإِذَا قَتَلَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ الْغَاصِبِ رَجُلًا عَمْدًا أَوْ خَطَأً حَتَّى ضَمِنَتْ عَاقِلَتُهُ الدِّيَةَ لَمْ يَرْجِعْ عَاقِلَتُهُ بِمَا ضَمِنَتْ عَلَى عَاقِلَةِ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ أَنْشَأَ الْقَتْلَ بِاخْتِيَارِهِ فَلَوْ ثَبَتَ لِلْعَاقِلَةِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْغَاصِبِ كَانَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْحُرُّ لَا يَضْمَنُ بِالْيَدِ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَمَا لَا تَضْمَنُ عَاقِلَةُ الْغَاصِبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمْ تَضْمَنْ إذَا مَاتَ الصَّبِيُّ بِمَرَضٍ لِمَا ذَكَرْنَا دَلِيلُ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ يَعْنِي ذَكَرْنَا فِي مَسْأَلَةِ سُقُوطِ السِّكِّينِ أَنَّ الدَّافِعَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ فِيهَا سَبَبٌ لَهُ حُكْمُ الْعِلَّةِ لِإِضَافَةِ السُّقُوطِ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْحَمْلِ إلَى بَعْضِ الْمَهَالِكِ وَذَكَرْنَا فِي مَسْأَلَةِ قَتْلِ الصَّبِيِّ نَفْسَهُ أَنَّ الدَّافِعَ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا لِاعْتِرَاضِ عِلَّةٍ تَمْنَعُ إضَافَةَ الْحُكْمِ إلَى الدَّفْعِ فَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ قَتْلِ الصَّبِيِّ رَجُلًا فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَفِي مَسْأَلَةِ مَوْتِ الصَّبِيِّ فِي يَدِهِ بِمَرَضٍ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَمِثْلُ مَنْ دَفَعَ سِكِّينًا فِي أَنَّهُ إذَا اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِعْلُ مُخْتَارٍ انْقَطَعَ الْحُكْمُ عَنْهُ وَبَقِيَ سَبَبًا مَحْضًا وَإِلَّا كَانَ سَبَبًا فِي حُكْمِ الْعِلَّةِ مَنْ حَمَلَ صَبِيًّا حُرًّا عَلَى دَابَّةٍ وَقَالَ أَمْسِكْهَا لِي وَلَيْسَ مِنْهُ بِسَبِيلٍ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ كَانَ هَذَا أَيْ حَمْلُهُ سَبَبًا لِلتَّلَفِ؛ لِأَنَّهُ مُفْضٍ إلَيْهِ. فَإِنْ سَقَطَ الصَّبِيُّ مِنْ الدَّابَّةِ وَهَلَكَ وَهِيَ وَاقِفَةٌ وَقَدْ سَارَتْ بِنَفْسِهَا ضَمِنَتْ عَاقِلَةُ الْحَامِلِ أَيْ دِيَةَ الصَّبِيِّ سَوَاءٌ كَانَ الصَّبِيُّ مِمَّنْ يَسْتَمْسِكُ عَلَى الدَّابَّةِ أَيْ يَقْدِرُ عَلَى إمْسَاكِ نَفْسِهِ وَضَبْطِهَا وَالثَّبَاتِ عَلَيْهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الْحَامِلَ سَبَبٌ لِإِتْلَافِهِ حِينَ حَمَلَهُ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ لَوْلَا حَمْلُهُ لَمَا سَقَطَ وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَبِيلٍ مِنْهُ شَرْعًا وَلَمْ تُوجَدْ عِلَّةٌ صَالِحَةٌ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا بَعْدُ فَبَقِيَ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَيْهِ وَصَارَ الْحَامِلُ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُسَبِّبَ كَالْمُبَاشِرِ فِي هَذَا الْبَابِ إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا وَإِنْ سَاقَهَا الصَّبِيُّ وَهُوَ بِحَيْثُ يَصْرِفُهَا أَيْ يَقْدِرُ عَلَى مَنْعِ الدَّابَّةِ مِنْ السَّيْرِ وَعَلَى أَنْ يُسَيِّرَهَا عَلَى وَفْقِ إرَادَتِهِ انْقَطَعَ السَّبَبُ أَيْ لَمْ يَبْقَ السَّبَبُ مُعْتَبَرًا بِهَذِهِ الْمُبَاشَرَةِ الْحَادِثَةِ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ إذَا كَانَ مُسْتَمْسِكًا عَلَى الدَّابَّةِ كَانَ مُحْتَارًا فِي تَسْيِيرِ الدَّابَّةِ وَالتَّلَفُ حَدَثَ تَسْيِيرُهَا فَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَى السَّبَبِ فِعْلٌ مُخْتَارٌ فَانْقَطَعَ بِهِ نِسْبَةُ الْحُكْمِ إلَى السَّبَبِ وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الدَّابَّةِ ضَمِنَ الْحَامِلُ الدِّيَةَ عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ الَّذِي لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الدَّابَّةِ بِمَنْزِلَةِ مَتَاعٍ مَوْضُوعٍ عَلَيْهَا فَلَا يُمْكِنُ نِسْبَةُ السَّيْرِ إلَيْهِ وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ مَا يَقْطَعُ بِهِ نِسْبَةَ الْحُكْمِ عَنْ السَّبَبِ بَقِيَ مُضَافًا إلَيْهِ وَكَذَلِكَ أَيْ وَمِثْلُ دَافِعِ السِّكِّينِ أَوْ الْحَامِلِ عَلَى الدَّابَّةِ فِي التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا رَجُلٌ قَالَ لِصَبِيٍّ اصْعَدْ هَذِهِ الشَّجَرَةَ وَانْفُضْ ثَمَرَتَهَا لِتَأْكُلَ أَنْتَ أَوْ لِنَأْكُلَ نَحْنُ فَفَعَلَ فَعَطِبَ لَمْ يَضْمَنْ الْآمِرُ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ سَبَبٍ فَإِنَّهُ تَخَلَّلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّقُوطِ وَالْهَلَاكِ مَا هُوَ عِلَّةٌ وَهُوَ صُعُودُ الصَّبِيِّ الشَّجَرَةَ بِاخْتِيَارِهِ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ فَيَنْقَطِعُ نِسْبَةُ الْحُكْمِ بِهَا عَنْ السَّبَبِ. فَإِنْ قِيلَ هَذَا الْجَوَابُ مُسْتَقِيمٌ فِي قَوْلِهِ لِتَأْكُلَ أَنْتَ وَلَكِنْ فِي قَوْلِهِ لِنَأْكُلَ نَحْنُ لَا يَسْتَقِيمُ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ نِصْفُ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لِآكُلَ أَنَا يُوجِبُ كُلَّ الدِّيَةِ. وَقَوْلُهُ: لِتَأْكُلَ أَنْتَ لَا يُوجِبُ شَيْئًا فَإِذَا قَالَ لِنَأْكُلَ نَحْنُ كَانَ جَامِعًا بَيْنَ مَا يُوجِبُ الضَّمَانَ وَمَا لَا يُوجِبُهُ فَيُوجِبُ سُقُوطَ نِصْفِهِ كَمَا إذَا لَدَغَتْهُ حَيَّةٌ وَجَرَحَهُ إنْسَانٌ يَسْقُطُ نِصْفُ الضَّمَانِ لِاجْتِمَاعِ الْمُوجِبِ وَغَيْرِ الْمُوجِبِ (قُلْنَا) الْأَصْلُ أَنْ يُضَافَ الْحُكْمُ إلَى الْعِلَّةِ دُونَ السَّبَبِ وَإِنَّمَا يُضَافُ إلَى السَّبَبِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْإِضَافَةِ إلَى الْعِلَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ وَهَاهُنَا لَمْ يَتَعَذَّرْ الْإِضَافَةُ؛ لِأَنَّ صُعُودَ الصَّبِيِّ

لِأَنَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الْعِلَّةِ وَإِنْ سَاقَهَا الصَّبِيُّ وَهُوَ بِحَيْثُ يَصْرِفُهَا انْقَطَعَ التَّسْبِيبُ بِهَذِهِ الْمُبَاشَرَةِ الْحَادِثَةِ وَكَذَلِكَ رَجُلٌ قَالَ لِصَبِيٍّ اصْعَدْ هَذِهِ الشَّجَرَةَ وَانْفُضْ ثَمَرَتَهَا لِتَأْكُلَ أَنْتَ أَوْ لِنَأْكُلَ نَحْنُ فَفَعَلَ فَعَطِبَ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّهُ صَاحِبُ سَبَبٍ وَلَوْ قَالَ لِآكُلَ أَنَا ضَمِنَ دِيَتَهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِأَنَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الْعِلَّةِ لَمَّا وَقَعَتْ الْمُبَاشَرَةُ لَهُ وَمَسَائِلُنَا عَلَى هَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى. فَأَمَّا الَّذِي يُسَمَّى سَبَبًا مَجَازًا فَمِثْلُ قَوْلِ الرَّجُلِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ وَأَنْتَ حُرٌّ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَمِثْلُ النَّذْرِ الْمُعَلَّقِ بِدُخُولِ الدَّارِ وَسَائِرِ الشُّرُوطِ وَمِثْلُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ سُمِّيَ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ مَجَازًا وَسُمِّيَ الْأَوَّلُ لِلطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ سَبَبًا مَجَازًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ أَدْنَى دَرَجَاتِ السَّبَبِ أَنْ يَكُونَ طَرِيقًا وَالْيَمِينُ شُرِعَتْ لِلْبِرِّ وَذَلِكَ قَطُّ لَا يَكُونُ طَرِيقًا لِلْجَزَاءِ وَلَا لِلْكَفَّارَةِ لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَئُولَ إلَيْهِ سُمِّيَ سَبَبًا مَجَازًا ـــــــــــــــــــــــــــــQبِاخْتِيَارِهِ لِمَنْفَعَةِ دُرِّ نَفْسِهِ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ صَالِحٌ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ وَانْقِطَاعِهِ عَنْ السَّبَبِ وَإِنْ كَانَ إشْرَاكُ الْأَمْرِ نَفْسِهِ فِي الْمَنْفَعَةِ بِقَوْلِهِ لِنَأْكُلَ نَحْنُ صَالِحًا لِلْإِضَافَةِ إلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ سَبَبٌ وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ دُونَ السَّبَبِ فَأَمَّا الْجَرْحُ وَاللَّدْغُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِلَّةٌ لِلتَّلَفِ فَإِذَا اجْتَمَعَا وَتَعَذَّرَ التَّرْجِيحُ يُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ أَيْ الْأَمْرَ صَارَ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الْعِلَّةِ لَمَّا وَقَعَتْ الْمُبَاشَرَةُ لَهُ يَعْنِي لَمَّا وَقَعَتْ مُبَاشَرَةُ الصَّبِيِّ عِلَّةَ التَّلَفِ وَهِيَ الصُّعُودُ لِلْأَمْرِ بِحُكْمِ الْأَمْرِ صَارَ الْأَمْرُ مُسْتَعْمَلًا لَهُ فِي التَّلَفِ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ وَأُضِيفَ فِعْلُ الصَّبِيِّ إلَيْهِ فَصَارَ أَمْرُهُ سَبَبًا فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ بِإِضَافَةِ الْعِلَّةِ إلَيْهِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَهُوَ أَنَّ السَّبَبَ الْمَحْضَ لَا يُضَافُ إلَيْهِ الْحُكْمُ وَيُضَافُ إلَى السَّبَبِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْعِلَّةِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الَّذِي يُسَمَّى سَبَبًا مَجَازًا) أَيْ السَّبَبُ الَّذِي يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ السَّبَبِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَإِنَّمَا خُصَّ هَذَا الْقِسْمُ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ مِنْ الْأَقْسَامِ سِوَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مَجَازًا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ خَلَا عَنْ مَعْنَى الْإِفْضَاءِ إلَى الْحُكْمِ فِي الْحَالِ بِخِلَافِ مَا إذَا وُجِدَ فِيهِ مَعْنَى الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِفْضَاءِ فِيهِ مَوْجُودٌ مَعَ زِيَادَةِ مَعْنًى وَهُوَ التَّأْثِيرُ وَمِثْلُ النَّذْرِ الْمُعَلَّقِ بِدُخُولِ الدَّارِ وَسَائِرِ الشُّرُوطِ النَّذْرُ قَدْ يُعَلَّقُ بِشَرْطٍ يُرَادُ كَوْنُهُ مِثْلَ قَوْلِهِ إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ كَذَا وَقَدْ تَعَلَّقَ بِشَرْطِ الْإِيرَادِ كَوْنُهُ مِثْلَ قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَعَلَيَّ كَذَا وَقَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطٍ يُرَادُ كَوْنُهُ سَبَبًا فِي الْحَالِ إذْ الْغَرَضُ مِنْ هَذَا التَّعْلِيقِ حُصُولُ الشَّرْطِ فَكَانَ مَقْضِيًّا إلَى وُجُودِ الْمَشْرُوطِ بِخِلَافِ التَّعْلِيقِ بِشَرْطٍ لَا يُرَادُ كَوْنُهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهِ عَدَمُ الشَّرْطِ فَلَا يَكُونُ مُفْضِيًا إلَى وُجُودِ الْمَشْرُوطِ فَيَكُونُ تَسْمِيَتُهُ سَبَبًا مَجَازًا فَأَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ الْمُعَلَّقُ بِدُخُولِ الدَّارِ وَسَائِرِ الشُّرُوطِ إلَى أَنَّ الْوَجْهَيْنِ سَوَاءٌ فِي عَدَمِ السَّبَبِيَّةِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لِلَّهِ عَلَيَّ لَمَّا تَعَلَّقَ بِالشَّرْطِ فِي الْوَجْهَيْنِ لَمْ يَصِلْ إلَى ذِمَّتِهِ وَالتَّصَرُّفُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ لَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا فَكَانَ تَسْمِيَتُهُ سَبَبًا بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ لَا بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى كَبَيْعِ الْحُرِّ إلَّا أَنَّهُ يَنْعَقِدُ تَصَرُّفٌ آخَرُ وَهُوَ الْيَمِينُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ لِمَقْصُودٍ وَفِي ذَلِكَ الْمَقْصُودِ قَدْ صَادَفَ التَّصَرُّفَ مَحَلَّهُ بِخِلَافِ بَيْعِ الْحُرِّ فَإِنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ أَصْلًا وَكَانَ هَذَا قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِمَنْزِلَةِ الرَّمْيِ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى الْمَرْمَى فَإِنَّهُ يَكُونُ مُعْتَبَرًا عَلَى أَنْ يَصِيرَ قَتْلًا بِالْوُصُولِ إلَيْهِ ثُمَّ السِّرَايَةِ إلَى أَنْ يَمُوتَ فَأَمَّا قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى مَحَلِّهِ فَلَا يَكُونُ قَتْلًا وَإِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا تُرْسٌ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا كَذَا فِي التَّقْوِيمِ. وَمِثْلُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى سُمِّيَ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ يَعْنِي قَبْلَ الْحِنْثِ وَسُمِّيَ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتَ حُرٌّ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَأَنْتَ حُرٌّ إنْ دَخَلْت الدَّارَ سَبَبًا لِلطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ مَجَازًا يَعْنِي سُمِّيَتْ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى لِلْكَفَّارَةِ وَسُمِّيَ الْمُعَلَّقُ فِي الْيَمِينِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى سَبَبًا لِلْجَزَاءِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ لَا أَنَّ الْيَمِينَ أَوْ الْمُعَلَّقَ سَبَبٌ حَقِيقَةً لِمَا بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَابِ أَنَّ أَدْنَى دَرَجَاتِ السَّبَبِ أَنْ يَكُونَ طَرِيقًا إلَى الْحُكْمِ وَإِنَّمَا قَالَ أَدْنَى؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ حَقِيقَةً أَوْ السَّبَبَ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْعِلَّةِ مُوجِبٌ لِلْحُكْمِ أَوْ طَرِيقٌ إلَيْهِ مَعَ نَوْعِ تَأْثِيرٍ فَاَلَّذِي لَا تَأْثِيرَ فِيهِ يَكُونُ أَدْنَى حَالًا مِنْهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحُكْمِ وَإِنْ كَانَ فِي السَّبَبِيَّةِ حَقِيقَةً وَالْيَمِينُ شُرِعَتْ لِلْبِرِّ سَوَاءٌ كَانَتْ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِغَيْرِهِ وَالْبِرُّ قَطُّ لَا يَكُونُ طَرِيقًا لِلْجَزَاءِ فِي الْيَمِينِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا لِلْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّ الْبِرَّ مَانِعٌ مِنْ الْحِنْثِ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّهُ وَبِدُونِ الْحِنْثِ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ وَلَا يَنْزِلُ الْجَزَاءُ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْمَانِعُ عَنْ الْحُكْمِ سَبَبًا لِثُبُوتِهِ وَطَرِيقًا إلَيْهِ فِي الْحَالِ لَكِنَّهُ أَيْ الْحَلِفَ أَوْ الْمَذْكُورَ وَهُوَ الْمُعَلَّقُ أَوْ الْيَمِينُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَئُولَ إلَيْهِ أَيْ يُفْضِيَ إلَى الْحُكْمِ

وَهَذَا عِنْدَنَا وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَعَلَهُ سَبَبًا هُوَ بِمَعْنَى الْعِلَّةِ وَعِنْدَنَا لِهَذَا الْمَجَازِ شُبْهَةُ الْحَقِيقَةِ حُكْمًا خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَذَلِكَ تَبَيَّنَ فِي مَسْأَلَةِ التَّنْجِيزِ هَلْ يُطْلَقُ التَّعْلِيقُ أَمْ لَا فَعِنْدَنَا يُبْطِلُهُ لِأَنَّ الْيَمِينَ شُرِعَتْ لِلْبِرِّ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَصِيرَ الْبِرُّ مَضْمُونًا بِالْجَزَاءِ وَإِذَا صَارَ مَضْمُونًا بِهِ صَارَ لِمَا ضَمِنَ بِهِ الْبِرَّ لِلْحَالِ شُبْهَةُ الْوُجُوبِ كَالْمَغْصُوبِ مَضْمُونٌ بِقِيمَتِهِ فَيَكُونُ لِلْغَصْبِ حَالَ قِيَامِ الْعَيْنِ شُبْهَةُ إيجَابِ الْقِيمَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَبْقَ الشُّبْهَةُ إلَّا فِي مَحَلِّهِ كَالْحَقِيقَةِ لَا يُسْتَغْنَى عَنْ الْمَحَلِّ فَإِذَا فَاتَ الْمَحَلُّ بَطَلَ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَهُوَ الْجَزَاءُ وَالْكَفَّارَةُ عِنْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ سُمِّيَ سَبَبًا مَجَازًا بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ كَتَسْمِيَةِ الْعِنَبِ خَمْرًا فِي قَوْله تَعَالَى إخْبَارًا {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] وَتَسْمِيَةِ الْبَيْضِ صَيْدًا فِي قَوْله تَعَالَى {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} [المائدة: 94] فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْبَيْضُ فِي عَامَّةِ الْأَقَاوِيلِ وَتَسْمِيَةُ الْأَحْيَاءِ أَمْوَاتًا فِي قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] . قَوْلُهُ (وَهَذَا عِنْدَنَا) أَيْ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ وَالْيَمِينِ لَيْسَا بِسَبَبَيْنِ فِي الْحَالِ فَضْلًا مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِمَا مَعْنَى الْعِلَّةِ مَذْهَبُنَا حَتَّى لَمْ يَجُزْ التَّكْفِيرُ بَعْدَ الْيَمِينِ قَبْلَ الْحِنْثِ وَجَوَّزْنَا التَّعْلِيقَ بِالْمِلْكِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَعَلَهُ أَيْ الْمَذْكُورَ وَهُوَ الْيَمِينُ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ سَبَبًا هُوَ بِمَعْنَى الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ هِيَ الَّتِي تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ عِنْدَ الْحِنْثِ وَالْمُعَلَّقَ هُوَ الَّذِي يُوجِبُ الْجَزَاءَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبًا فِي الْحَالِ لَا عِلَّةً بِاعْتِبَارِ تَأَخُّرِ الْحُكْمِ وَلَكِنْ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ لَا غَيْرُ وَإِذَا كَانَ سَبَبًا فِي الْحَالِ بِمَعْنَى الْعِلَّةِ لَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِالْمِلْكِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَا يَنْعَقِدُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ وَالْمَرْأَةُ الْأَجْنَبِيَّةُ وَالْعَبْدُ الَّذِي لَيْسَ فِي مِلْكِهِ لَيْسَا بِمَحَلَّيْنِ لِلطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مِنْ جِهَةِ هَذَا الْمُتَكَلِّمِ وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِيمَا تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ (وَعِنْدَنَا لِهَذَا الْمَجَازِ) يَعْنِي الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ الَّذِي سَمَّيْنَاهُ مَجَازًا وَهُوَ قَوْلُهُ أَنْتَ حُرٌّ أَوْ طَالِقٌ شُبْهَةُ الْحَقِيقَةِ أَيْ جِهَةُ كَوْنِهِ عِلَّةً حَقِيقَةً مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّ عِنْدَهُ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ خَالٍ عَنْ شُبْهَةِ الْحَقِيقَةِ بَلْ هُوَ مَجَازٌ مَحْضٌ وَذَلِكَ أَيْ الْخِلَافُ يَتَبَيَّنُ فِي مَسْأَلَةِ التَّنْجِيزِ هَلْ يُبْطِلُ التَّعْلِيقَ وَهِيَ مَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُلُثًا ثُمَّ طَلَّقَهَا وَالتَّنْجِيزُ تَفْعِيلٌ مِنْ قَوْلِهِمْ نَاجَزَ يُنَاجِزُ أَيْ نَقَدَ يَنْقُدُ وَأَصْلُهُ التَّعْجِيلُ كَذَا فِي الطِّلْبَةِ فَعِنْدَنَا يُبْطِلُ التَّنْجِيزُ التَّعْلِيقَ حَتَّى لَوْ عَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ وُجِدَ الشَّرْطُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ شُرِعَتْ لِلْبِرِّ يَعْنِي الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِيَّةِ الْيَمِينِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِغَيْرِهِ تَحْقِيقُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ مِنْ الْفِعْلِ أَوْ التَّرْكِ فَإِنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْحَلِفِ كَانَ جَائِزَ الْإِقْدَامِ وَالتَّرْكِ فَإِذَا قَصَدَ الْحَالِفُ تَرْجِيحَ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَتَحْقِيقَهُ أَكَّدَهُ بِالْيَمِينِ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُوَّةِ لِيَتَقَوَّى بِهَا عَلَى تَحْقِيقِ مَا قَصَدَهُ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَصِيرَ الْبِرُّ مَضْمُونًا بِالْجَزَاءِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَوْ فَاتَ الْبِرُّ يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ لَا مَحَالَةَ فِي الْيَمِينِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الْيَمِينِ مِنْ الْحَمْلِ وَالْمَنْعِ وَإِذَا صَارَ الْبِرُّ مَضْمُونًا بِالْجَزَاءِ يَعْنِي فِي الْيَمِينِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى صَارَ لِمَا ضَمِنَ بِهِ الْبِرُّ مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهِمَا شُبْهَةُ الْوُجُوبِ أَيْ الثُّبُوتِ فِي الْحَالِ يَعْنِي قَبْلَ فَوَاتِ الْبِرِّ كَالْمَغْصُوبِ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ عِنْدَ فَوَاتِ الْمَغْصُوبِ لَا مَحَالَةَ فَيَكُونُ الْغَصْبُ حَالَ قِيَامِ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ شُبْهَةَ إيجَابِ الْقِيمَةِ حَتَّى صَحَّ الْإِبْرَاءُ عَنْ الْقِيمَةِ وَالرَّهْنِ وَالْكَفَالَةِ بِهَا حَالَ قِيَامِ الْعَيْنِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا ثُبُوتٌ بِوَجْهٍ لَمَا صَحَّتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ كَمَا لَا يَصِحُّ قَبْلَ الْغَصْبِ. وَتَحْقِيقُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْبِرَّ وَجَبَ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الِاحْتِرَازُ عَنْ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ خَوْفِ لُزُومِ الْجَزَاءِ لَا لِعَيْنِهِ إذْ لَيْسَ إلَى الْعَبْدِ إيجَابُ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ شَرْعًا؛ لِأَنَّهُ نَصْبُ شَرِيعَةٍ وَهُوَ نَزَعَ إلَى الشِّرْكَةِ وَمَا ثَبَتَ لِغَيْرِهِ فَهُوَ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَالْبِرُّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ وَاجِبٌ كَانَ ثَابِتًا مَوْجُودًا وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ لِعَيْنِهِ كَانَ مَعْدُومًا فِي نَفْسِهِ فَثَبَتَ لَهُ عَرَضِيَّةُ الْعَدَمِ يَثْبُتُ بِقَدْرِهَا عَرَضِيَّةُ الْوُجُودِ لِلْجَزَاءِ فَثَبَتَ لِسَبَبِهِ عَرَضِيَّةُ الْوُجُودِ أَيْضًا لِيَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا عَنْ قَدْرِ سَبَبِهِ

وَعَلَى قَوْلِهِ لَا شُبْهَةَ لَهُ أَصْلًا وَإِنَّمَا الْمِلْكُ لِلْحَالِ اُعْتُبِرَ لِرُجْحَانِ جَانِبِ الْوُجُودِ لِيَصِحَّ الْإِيجَابُ فَلَمْ يُشْتَرَطْ لِلْبَقَاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَعَرَفْنَا أَنَّ لِهَذَا السَّبَبِ وَهُوَ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ شُبْهَةَ الثُّبُوتِ فِي الْحَالِ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ وَلَا يُقَالُ سَلَّمْنَا أَنَّهُ ثَبَتَ لِلْبِرِّ عَرَضِيَّةُ الْعَدَمِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْتُمْ وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْجَزَاءِ بِقَدْرِهَا عَرَضِيَّةُ الثُّبُوتِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْجَزَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِفَوَاتِ الْبِرِّ بَعْدَ الثُّبُوتِ لَا بِالْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي الْغَمُوسِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْبِرِّ فِيهَا أَصْلِيٌّ بِخِلَافِ الْمُنْعَقِدَةِ وَعَرَضِيَّةُ الْعَدَمِ لِلْبِرِّ لَوْ ثَبَتَتْ إنَّمَا تَثْبُتُ مِنْ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْبِرِّ غَيْرَ وَاجِبٍ لِعَيْنِهِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَرَضِيَّةُ الْعَدَمِ لَهُ مِنْ الْأَصْلِ لَا أَنْ تَثْبُتَ لَهُ عَرَضِيَّةُ الْعَدَمِ بَعْدَ الْوُجُودِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَثْبُتْ عَرَضِيَّةُ الْوُجُودِ لِلْجَزَاءِ بِهَذِهِ الْعَرَضِيَّةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ مَا ذَكَرْت مُسَلَّمٌ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ فِي التَّعْلِيقِ قَدْ يَثْبُتُ الْجَزَاءُ عِنْدَ عَدَمِ الْبِرِّ مِنْ الْأَصْلِ كَمَا يَثْبُتُ عِنْدَ فَوَاتِ الْبِرِّ بَعْدَ الْوُجُودِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ إنْ فَعَلْت أَمْسِ كَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ وَقَدْ كَانَ فَعَلَ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَعَرَضِيَّةُ عَدَمِ الْبِرِّ فِيهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَتْ تُوجِبُ عَرَضِيَّةَ وُجُودِ الْجَزَاءِ بِقَدْرِهَا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا بَيَّنَّا مِنْ ثُبُوتِ شُبْهَةِ السَّبَبِيَّةِ لِلْمُعَلَّقِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ لَمْ يَبْقَ شُبْهَةُ السَّبَبِ إلَّا فِي مَحَلِّهِ أَيْ مَحَلِّ السَّبَبِ وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى الشُّبْهَةِ وَتَذْكِيرُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ التَّأْنِيثَ غَيْرُ مُرَتَّبٍ عَلَى التَّذْكِيرِ إذْ لَا يُقَالُ شَبَهٌ وَشُبْهَةٌ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ هَذَا الْكِتَابِ قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا بُدَّ لِشُبْهَةِ السَّبَبِ مِنْ مَحَلٍّ يَبْقَى فِيهِ كَمَا لَا بُدَّ لِحَقِيقَةِ السَّبَبِ مِنْ الْمَحَلِّ؛ لِأَنَّ شُبْهَةَ الشَّيْءِ لَا تَثْبُتُ فِيمَا لَا تَثْبُتُ حَقِيقَةُ ذَلِكَ الشَّيْءِ. أَلَا تَرَى أَنَّ شُبْهَةَ النِّكَاحِ لَا تَثْبُتُ فِي الرِّجَالِ بِالِاتِّفَاقِ وَلَا فِي حَقِّ الْمَحَارِمِ عِنْدَهُمَا وَأَنَّ شُبْهَةَ الْبَيْعِ لَا تَثْبُتُ فِي حَقِّ الْحُرِّ وَالْمَيْتَةِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ لَا تَثْبُتُ فِيهِمَا فَإِذَا فَاتَ الْمَحَلُّ بِتَنْجِيزِ الثَّلَاثِ بَطَلَ أَيْ التَّعْلِيقُ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بَطَلَتْ أَيْ الْيَمِينُ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ أَوْ الْيَمِينَ يَثْبُتُ بِصِفَةٍ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ لِلْمُعَلَّقِ شُبْهَةُ الثُّبُوتِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَإِذَا بَطَلَتْ تِلْكَ الشُّبْهَةُ بِفَوَاتِ الْمَحَلِّ لَمْ يَبْقَ التَّعْلِيقُ لِبُطْلَانِ مَحَلِّ الْجَزَاءِ كَمَا يَبْطُلُ بِبُطْلَانِ مَحَلِّ الشَّرْطِ بِأَنْ جَعَلَ الدَّارَ بُسْتَانًا وَإِنَّمَا لَمْ يُشْتَرَطْ بَقَاءُ الْمِلْكِ لِبَقَاءِ التَّعْلِيقِ كَمَا شَرَطَ الْحِلَّ؛ لِأَنَّ مَحَلِّيَّةَ الطَّلَاقِ تَثْبُتُ بِمَحَلِّيَّةِ النِّكَاحِ وَمَحَلِّيَّةُ النِّكَاحِ تَفْتَقِرُ إلَى بَقَاءِ الْحِلِّ وَلَا تَفْتَقِرُ إلَى بَقَاءِ الْمِلْكِ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الطَّرِيقَةِ الْبُرْغَرِيَّةِ وَشَرْطُ الْمِلْكِ فِي الِابْتِدَاءِ لِمَا سَنَذْكُرُ. قَوْلُهُ (وَعَلَى قَوْلِهِ) أَيْ قَوْلِ زُفَرَ لَا شُبْهَةَ لَهُ أَصْلًا يَعْنِي لَيْسَ لِهَذَا الْمَجَازِ شُبْهَةُ الْحَقِيقَةِ بِوَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلسَّبَبِ، وَشُبْهَتُهُ مِنْ مَحَلٍّ يَنْعَقِدُ فِيهِ كَالسَّبَبِ الْحِسِّيِّ وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ حَائِلٌ بَيْنَ الْمُعَلَّقِ وَمَحَلِّهِ فَأَوْجَبَ قَطْعَ السَّبَبِيَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ كَالتُّرْسِ إذَا حَالَ بَيْنَ الرَّمْيِ وَالْمَرْمِيِّ إلَيْهِ وَإِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ جِهَةُ السَّبَبِيَّةِ بِوَجْهٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْمَحَلِّ وَاحْتِمَالُ صَيْرُورَتِهِ سَبَبًا فِي الزَّمَانِ الثَّانِي لَا يُوجِبُ اشْتِرَاطَ الْمَحَلِّ فِي الْحَالِ بَلْ يَكْفِيهِ احْتِمَالُ حُدُوثِ الْمَحَلِّيَّةِ وَهُوَ قَائِمٌ لِاحْتِمَالِ عَوْدِهَا إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ وَهُوَ فِي الْحَالِ يَمِينٌ وَمَحَلُّهَا ذِمَّةُ الْحَالِفِ فَتَبْقَى بِبَقَائِهَا. قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا الْمِلْكُ) جَوَابُ سُؤَالٍ يَرِدُ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَمَّا خَلَا الْمُعَلَّقُ عَنْ السَّبَبِيَّةِ حَقِيقَةً وَشُبْهَةً يَنْبَغِي أَنْ لَا يُشْتَرَطَ الْمِلْكُ وَالْحِلُّ فِي ابْتِدَاءِ التَّعْلِيقِ كَمَا لَا يُشْتَرَطُ لِبَقَائِهِ؛ لِأَنَّ مَا يَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ الِابْتِدَاءُ وَالْبَقَاءُ فِيهِ سَوَاءٌ لَمَّا شَرَطَ الْمِلْكَ وَالْحِلَّ فِي ابْتِدَاءٍ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يَحُلْ عَنْ شُبْهَةِ السَّبَبِيَّةِ فَقَالَ اشْتِرَاطُ الْمِلْكِ

فَكَذَلِكَ الْحِلُّ وَذَلِكَ مِثْلُ التَّعْلِيقِ قَبْلَ الْمِلْكِ يَصِحُّ فِي امْرَأَةٍ حَرُمَتْ بِالثَّلَاثِ عَلَى الْحَالِفِ بِالْمِلْكِ وَإِنْ عَدِمَ الْحِلَّ عِنْدَ الْحَلِفِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ الشَّرْطَ فِي حُكْمِ الْعِلَلِ فَصَارَ ذَلِكَ مُعَارِضًا لِهَذِهِ الشُّبْهَةِ السَّابِقَةِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْإِيجَابُ الْمُضَافُ فَهُوَ سَبَبٌ لِلْحَالِ وَهُوَ مِنْ أَقْسَامِ الْعِلَلِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا السَّبَبُ الَّذِي لَهُ شُبْهَةُ الْعِلَلِ فَمِثْلُ مَا قُلْنَا فِي الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي الِابْتِدَاءِ لَيْسَ لِشُبْهَةِ السَّبَبِيَّةِ وَلَكِنْ اشْتِرَاطُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ هَذَا تَصَرُّفُ يَمِينٍ وَهِيَ وُضِعَتْ لِتَحْقِيقِ الْبِرِّ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا كَانَ مَضْمُونًا بِالْجَزَاءِ كَمَا بَيَّنَّا فَإِنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ مَا يَتَضَرَّرُ بِهِ عِنْدَ تَرْكِ الْبِرِّ يَتَحَرَّزُ عَنْهُ وَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ عِنْدَ التَّرْكِ لَا يُبَالِي بِفَوَاتِ الْبِرِّ فَيُفَوِّتُ مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْيَمِينِ فَشَرَطَ الْمِلْكَ فِي الِابْتِدَاءِ لِيَكُونَ الْجَزَاءُ غَالِبَ الْوُجُودِ بِاعْتِبَارِ الْحَالِ الرَّاهِنَةِ ثُمَّ إذَا صَحَّتْ الْيَمِينُ بِوُجُودِ الْمِلْكِ لَمْ يُشْتَرَطْ لِلْبَقَاءِ بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَلِكَ أَيْ فَكَالْمِلْكِ الْحِلُّ يُشْتَرَطُ فِي الِابْتِدَاءِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْبَقَاءِ. ثُمَّ اسْتَوْضَحَ مَا ذَكَرَ بِقَوْلِهِ وَذَلِكَ مِثْلُ التَّعْلِيقِ أَيْ عَدَمُ اشْتِرَاطِ بَقَاءِ الْحِلِّ لِبَقَاءِ التَّعْلِيقِ مِثْلُ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ فِي الِابْتِدَاءِ فَإِنَّ تَعْلِيقَ الثَّلَاثِ بِالْمِلْكِ فِي امْرَأَةٍ حَرُمَتْ عَلَى الْحَالِفِ بِالثَّلَاثِ يَصِحُّ بِأَنْ قَالَ لِلْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَلَأَنْ يَبْقَى بِدُونِ الْحِلِّ كَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ. وَالْجَوَابُ يَعْنِي عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ زُفَرُ وَهُوَ مَسْأَلَةُ التَّعْلِيقِ بِالْمِلْكِ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا أَنَّ ذَلِكَ الشَّرْطَ وَهُوَ النِّكَاحُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الطَّلَاقُ فِي حُكْمِ الْعِلَلِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الطَّلَاقِ يُسْتَفَادُ بِالنِّكَاحِ فَكَانَ النِّكَاحُ بِمَنْزِلَةِ الْعِلَّةِ لَهُ وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِحَقِيقَةِ عِلَّتِهِ يُبْطِلُ حَقِيقَةَ الْإِيجَابِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ حَتَّى لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ أَعْتَقْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ كَانَ بَاطِلًا وَكَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى الطَّلَاقَ الَّذِي هُوَ مُوجِبُ هَذَا التَّطْلِيقِ فَالتَّعْلِيقُ بِشُبْهَةِ الْعِلَّةِ يُبْطِلُ شُبْهَةَ الْإِيجَابِ اعْتِبَارًا لِلشُّبْهَةِ بِالْحَقِيقَةِ فَصَارَ ذَلِكَ أَيْ كَوْنُ هَذَا الشَّرْطِ فِي حُكْمِ الْعِلَلِ مُعَارِضًا لِهَذِهِ الشُّبْهَةِ أَيْ مَانِعًا لَهَا مِنْ الثُّبُوتِ وَهِيَ شُبْهَةُ وُقُوعِ الْجَزَاءِ وَثُبُوتُ السَّبَبِيَّةِ لِلْمُعَلَّقِ قَبْلَ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ السَّابِقَةُ عَلَيْهِ وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى الشَّرْطِ وَمَعْنَى الْمُعَارَضَةِ أَنَّ أَصْلَ التَّعْلِيقِ يُوجِبُ ثُبُوتَ شُبْهَةِ وُقُوعِ الْجَزَاءِ وَكَوْنُ الشَّرْطِ فِي مَعْنَى الْعِلَلِ يَقْتَضِي عَدَمَ ثُبُوتِهَا فَامْتَنَعَ ثُبُوتُهَا بِمُعَارَضَتِهِ وَإِذَا امْتَنَعَ ثُبُوتُهَا بِمُعَارَضَةِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ الَّذِي لَهُ حُكْمُ الْعِلَلِ لَمْ يُشْتَرَطْ قِيَامُ مَحَلِّ الْجَزَاءِ بَعْدُ لِزَوَالِ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لَهُ بَلْ يَبْقَى التَّعْلِيقُ مُطْلَقًا مُجَرَّدًا عَنْ الشُّبْهَةِ وَمَحَلُّهُ ذِمَّةُ الْخَالِفِ؛ لِأَنَّهُ يَمِينٌ مَحْضَةٌ فَتَبْقَى بِبَقَائِهَا. وَبَاقِي الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَدْ مَرَّ فِي فَصْلِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْإِيجَابُ الْمُضَافُ فَهُوَ سَبَبٌ لِلْحَالِ) إذْ الْمَانِعُ مِنْ انْعِقَادِ الْإِيجَابِ سَبَبًا فِيهَا فِيمَا تَقَدَّمَ بَعْدَ صُدُورِهِ مِنْ أَمْثِلَةِ التَّعْلِيقِ الَّذِي هُوَ حَائِلٌ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَبَيْنَ مَحَلِّهِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي الْإِيجَابِ الْمُضَافِ فَيَنْعَقِدُ سَبَبًا إلَّا أَنَّ حُكْمَهُ يَتَأَخَّرُ إلَى الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ لِلْإِضَافَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ إضَافَةَ إيجَابِ الصَّوْمِ عَلَى الْمُسَافِرِ إلَى عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لَا يُخْرِجُ شُهُودَ الشَّهْرِ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا فِي حَقِّهِ حَقِيقَةً مِثْلُهُ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ حَتَّى صَحَّ الْأَدَاءُ مِنْهُ كَمَا يَصِحُّ مِنْ الْمُقِيمِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْإِضَافَةَ غَيْرُ مَانِعَةٍ عَنْ سَبَبِيَّةِ الْإِيجَابِ وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَتَصَدَّقَ بِهِ قَبْلَ مَجِيئِهِ صَحَّ عَنْ الْمَنْذُورِ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ دَخَلَتْ عَلَى الْحُكْمِ فَأَجَّلَهُ لَا عَلَى نَفْسِ السَّبَبِ فَإِذَا عَجَّلَ الْمُؤَجَّلَ صَحَّ كَمَا إذَا عَجَّلَ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ أَوْ عَجَّلَ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إذَا جَاءَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِكَذَا فَعَجَّلَ قَبْلَ مَجِيئِهِ حَيْثُ لَا يَقَعُ عَنْ الْمَنْذُورِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ إذَا لِلشَّرْطِ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ لَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَلَا يَصِحُّ

[باب تقسيم العلة]

بَابُ تَقْسِيمِ الْعِلَّةِ) . وَهِيَ سَبْعَةُ أَقْسَامٍ عِلَّةٌ اسْمًا وَحُكْمًا وَمَعْنًى وَهُوَ الْحَقِيقَةُ فِي الْبَابِ وَعِلَّةٌ اسْمًا لَا حُكْمًا وَلَا مَعْنًى وَهُوَ الْمَجَازُ وَعِلَّةٌ اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا وَعِلَّةٌ هُوَ فِي حَيِّزِ الْأَسْبَابِ لَهَا شَبَهٌ بِالْأَسْبَابِ وَوَصْفٌ لَهُ شُبْهَةُ الْعِلَلِ وَعِلَّةٌ مَعْنًى وَحُكْمًا لَا اسْمًا وَعِلَّةٌ اسْمًا وَحُكْمًا لَا مَعْنًى أَمَّا الْأَوَّلُ فَمِثْلُ الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ لِلْمِلْكِ وَالنِّكَاحِ لِلْحِلِّ وَالْقَتْلِ لِلْقِصَاصِ وَمَا يَجْرِي ذَلِكَ مِنْ الْعِلَلِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَفْسِيرِهَا وَحَقِيقَةُ مَا وُضِعَتْ لَهُ وَإِنَّمَا نَعْنِي بِالْمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ الْأَثَرُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّعْجِيلُ قَبْلَهُ وَسَيَأْتِيك زِيَادَةُ بَيَانٍ لِهَذَا الْفَصْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَمِثْلُ مَا قُلْنَا يَعْنِي السَّبَبَ الَّذِي قُلْنَا إنَّهُ سَبَبٌ مَجَازًا هُوَ السَّبَبُ الَّذِي لَهُ شُبْهَةُ الْعِلَلِ عَلَى مَا قَرَعَ سَمْعَك تَقْرِيرُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ تَقْسِيمِ الْعِلَّةِ] أَيْ تَقْسِيمُ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْعِلَّةِ أَوْ مَا يُوجَدُ فِيهِ مَعْنَى الْعِلَّةِ بِوَجْهٍ لَا تَقْسِيمُ حَقِيقَةِ الْعِلَّةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِمُنْقَسِمَةٍ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ ثُمَّ الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ الْحَقِيقَةُ تَتِمُّ بِأَوْصَافٍ ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا أَنْ تَكُونَ عِلَّةً اسْمًا بِأَنْ تَكُونَ فِي الشَّرْعِ مَوْضُوعَةً لِمُوجِبِهَا وَيُضَافَ ذَلِكَ الْمُوجِبُ إلَيْهَا لَا بِوَاسِطَةٍ وَثَانِيهَا أَنْ تَكُونَ عِلَّةً مَعْنًى بِأَنْ تَكُونَ مُؤَثِّرَةً فِي إثْبَاتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ وَثَالِثُهَا أَنْ تَكُونَ عِلَّةً حُكْمًا بِأَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ بِوُجُودِهَا مُتَّصِلًا بِهَا مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ فَإِذَا تَمَّتْ هَذِهِ الْأَوْجُهُ كَانَتْ عِلَّةً حَقِيقَةً وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ فِيهَا بَعْضُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ كَانَتْ عِلَّةً مَجَازًا أَوْ حَقِيقَةً قَاصِرَةً عَلَى اخْتِيَارِ الشَّيْخِ ثُمَّ إنَّهَا تَنْقَسِمُ بِحَسَبِ اسْتِكْمَالِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ وَعَدَمِ اسْتِكْمَالِهَا إلَى سَبْعَةِ أَقْسَامٍ قِسْمَةً عَقْلِيَّةً: عِلَّةٍ اسْمًا وَمَعْنًى وَحُكْمًا وَفِي نَظَائِرِهَا كَثْرَةٌ، وَعِلَّةٍ اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا كَالْبَيْعِ لِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَعِلَّةٍ اسْمًا وَحُكْمًا لَا مَعْنَى كَالسَّفَرِ، وَعِلَّةٍ مَعْنًى وَحُكْمًا لَا اسْمًا كَالْوَصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ عِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ، وَعِلَّةٍ مَعْنًى لَا اسْمًا وَلَا حُكْمًا كَالْوَصْفِ الْأَوَّلِ مِنْهَا وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ الشَّيْخُ وَصْفًا لَهُ شَبَهُ الْعِلَلِ وَعِلَّةٍ اسْمًا لَا مَعْنًى وَلَا حُكْمًا كَالطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ السِّتَّةُ مَذْكُورَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالْقِسْمُ الْمَذْكُورُ رَابِعًا فِيهِ وَهُوَ الْعِلَّةُ الَّتِي لَهَا شُبْهَةٌ بِالْأَسْبَابِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ خَارِجٍ عَنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ؛ لِأَنَّهَا إمَّا عِلَّةٌ اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا كَالْإِيجَابِ الْمُضَافِ أَوْ عِلَّةٌ مَعْنًى لَا اسْمًا وَلَا حُكْمًا كَعِلَّةِ الْعِلَّةِ وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ شَبَهِهِ بِالْأَسْبَابِ الَّذِي قَدْ يَخْلُو الْقِسْمَانِ عَنْهُ جَعَلَهُ الشَّيْخُ قِسْمًا آخَرَ فَصَارَتْ الْأَقْسَامُ بِهِ سَبْعَةً. وَالْقِسْمُ السَّابِعُ بِالْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَهُوَ الْعِلَّةُ حُكْمًا لَا اسْمًا وَلَا مَعْنًى مَذْكُورٌ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ وَهُوَ الشَّرْطُ الَّذِي سَلِمَ عَنْ مُعَارَضَةِ الْعِلَّةِ وَالضَّمِيرُ فِي وَهُوَ الْحَقِيقَةُ وَهُوَ الْمَجَازُ رَاجِعٌ إلَى الْقِسْمِ مَعْنًى فِي حَيِّزِ الْأَسْبَابِ أَيْ فِي دَرَجَتِهَا وَمَحَلِّهَا وَالْحَيِّزُ كُلُّ مَكَان فَيْعُلُ مِنْ الْحَوْزِ هُوَ الْجَمْعُ وَفِي الصِّحَاحِ الْحَيِّزُ مَا انْضَمَّ إلَى الدَّارِ مِنْ مَرَافِقِهَا وَكُلُّ نَاحِيَةٍ حَيِّزٌ فَمِثْلُ الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ أَيْ الْبَيْعِ الْبَاتِّ الْخَالِي عَنْ شَرْطِ الْخِيَارِ وَنَحْوِهِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ أَيْ مَجْرَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْعِلَلِ مِثْلُ التَّطْلِيقِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَالْإِعْتَاقِ لِإِزَالَةِ الرِّقِّ وَإِثْبَاتِ الْحُرِّيَّةِ وَالنَّذْرِ لِإِيجَابِ الْمَنْذُورِ وَنَحْوِهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَفْسِيرِهَا، اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِكَوْنِ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ يَعْنِي هَذِهِ الْأَشْيَاءُ عِلَلٌ حَقِيقَةً لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَفْسِيرِ الْعِلَّةِ لُغَةً أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ الْمُغَيِّرِ وَحَقِيقَةً مَا وُضِعَتْ لَهُ فِي الشَّرْعِ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَمَّا يُضَافُ إلَيْهِ الْحُكْمُ ابْتِدَاءً وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَتَكُونُ عِلَلًا حَقِيقَةً قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عِلَّةٌ اسْمًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَوْضُوعٌ لِأَجْلِ هَذَا الْمُوجِبِ وَأَنَّ هَذَا الْمُوجِبَ مُضَافٌ إلَيْهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَعِلَّةٌ مَعْنًى مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَشْرُوعٌ لِأَجْلِ هَذَا الْمُوجِبِ وَعِلَّةٌ حُكْمًا مِنْ حَيْثُ إنَّ هَذَا الْحُكْمَ يَثْبُتُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَرَاخَى عَنْهُ فَكَانَ عِلَّةً حَقِيقَةً وَإِنَّمَا فَسَّرَ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ

وَلَيْسَ مِنْ صِفَةِ الْعِلَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ تَقَدُّمُهَا عَلَى الْحُكْمِ بَلْ الْوَاجِبُ اقْتِرَانُهُمَا مَعًا وَذَلِكَ كَالِاسْتِطَاعَةِ مَعَ الْفِعْلِ عِنْدَنَا فَإِذَا تَقَدَّمَ لَمْ يُسَمَّ عِلَّةً مُطْلَقَةً وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ وَقَالَ لَا بَلْ مِنْ صِفَةِ الْعِلَّةِ تَقَدُّمُهَا عَلَى الْحُكْمِ وَالْحُكْمُ يَعْقُبُهَا وَلَا يُقَارِنُهَا بِخِلَافِ الِاسْتِطَاعَةِ مَعَ الْفِعْلِ لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ عَرَضٌ لَا بَقَاءَ لَهَا لِيَكُونَ الْفِعْلُ عَقِيبَهَا فَلِضَرُورَةِ عَدَمِ الْبَقَاءِ تَكُونُ مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ فَأَمَّا الْعِلَلُ الشَّرْعِيَّةُ فَلَهَا بَقَاءٌ وَأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْأَعْيَانِ فَيُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهَا وَتَرَاخِي الْحُكْمِ عَنْهَا بِلَا فَصْلٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَإِنَّمَا نَعْنِي بِالْمَعْنَى كَذَا لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ أَوْ الِاصْطِلَاحِيَّ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ كَلَامُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ. قَوْلُهُ (وَلَيْسَ مِنْ صِفَةِ الْعِلَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ تَقَدُّمُهَا عَلَى الْحُكْمِ) لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْعِلَّةَ عَقْلِيَّةً كَانَتْ أَوْ شَرْعِيَّةً تَتَقَدَّمُ فِي الْمَعْلُولِ رُتْبَةً وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي أَنَّ الْعِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ تُقَارِنُ مَعْلُولَهَا زَمَانًا كَحَرَكَةِ الْأُصْبُعِ تُقَارِنُ حَرَكَةَ الْخَاتَمِ وَفِعْلُ التَّحَرُّكِ يُقَارِنُ صَيْرُورَةَ الْفَاعِلِ مُتَحَرِّكًا وَكَالْكَسْرِ يُقَارِنُ الِانْكِسَارَ وَكَالِاسْتِطَاعَةِ تُقَارِنُ الْفِعْلَ إذْ لَوْ لَمْ يَكُونَا مُتَقَارِنَيْنِ لَزِمَ بَقَاءُ الْأَغْرَاضِ أَوْ وُجُودُ الْمَعْلُولِ بِلَا عِلَّةٍ وَكِلَاهُمَا فَاسِدٌ وَلَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَقَدُّمِ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ عَلَى مَعْلُولِهَا وَتَأَخُّرِ الْحُكْمِ عَنْهَا تَقَدُّمًا وَتَأَخُّرًا زَمَانِيًّا فَذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ إلَى أَنَّهَا مِثْلُ الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ فِي اشْتِرَاطِ الْمُقَارَنَةِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ وَذَلِكَ كَالِاسْتِطَاعَةِ مَعَ الْفِعْلِ وَقَوْلُهُ عِنْدَنَا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ الْوَاجِبُ كَذَا يَعْنِي الْوَاجِبَ فِي الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ اقْتِرَانُ الْعِلَّةِ وَالْحُكْمِ عِنْدَنَا كَمَا أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الِاسْتِطَاعَةِ وَالْفِعْلِ اقْتِرَانُهُمَا عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَإِذَا تَقَدَّمَتْ أَيْ الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى الْحُكْمِ لَمْ تُسَمَّ عِلَّةً مُطْلَقَةً أَيْ تَامَّةً حَقِيقِيَّةً بَلْ تُسَمَّى عِلَّةً مَجَازًا أَوْ سَبَبًا فِيهِ مَعْنَى الْعِلَّةِ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ وَغَيْرِهِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ أَيْ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ أَوْ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ فَلَمْ يُجَوِّزْ تَرَاخِي الْحُكْمِ عَنْ الْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ أَوْ تَرَاخِي الْفِعْلِ عَنْ الِاسْتِطَاعَةِ وَجَوَّزَ ذَلِكَ فِي الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَقَالَ لَا يَجُوزُ خُلُوُّهَا عَنْ الْحُكْمِ وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ لَا يَتَّصِلَ الْحُكْمُ بِهَا وَيَتَأَخَّرَ عَنْهَا لِمَانِعٍ. كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَهَذَا اللَّفْظُ يُشِيرُ إلَى جَوَازِ تَأَخُّرِ الْحُكْمِ عَنْهَا عِنْدَهُمْ دُونَ الْوُجُوبِ وَإِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الِاتِّصَالِ وَلَفْظُ الْكِتَابِ يُشِيرُ إلَى وُجُوبِ التَّأَخُّرِ وَعَدَمِ جَوَازِ الْمُقَارَنَةِ عِنْدَهُمْ وَذَكَرَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيُسْرِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ حُكْمُ الْعِلَّةِ يَثْبُتُ بَعْدَ الْعِلَّةِ بِلَا فَصْلٍ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ بِشَرْطِ الِاتِّصَالِ وَجْهُ قَوْلِهِمْ إنَّ الْعِلَّةَ مَا لَمْ تُوجَدْ بِتَمَامِهَا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ مُوجِبَةً حُكْمَهَا؛ لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يُؤَثِّرُ فِي شَيْءٍ وَإِذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ تُوجِبُ الْحُكْمَ بَعْدَ وُجُودِهَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ عَقِيبَهَا ضَرُورَةً وَإِذَا جَازَ تَقَدُّمُهَا بِزَمَانٍ جَازَ بِزَمَانَيْنِ وَأَزْمِنَةٍ بِخِلَافِ الِاسْتِطَاعَةِ؛ لِأَنَّهَا عَرَضٌ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ فَلَزِمَ الْقَوْلُ بِمُقَارَنَةِ الْفِعْلِ إيَّاهَا لِئَلَّا يَلْزَمَ وُجُودُ الْمَعْلُولِ بِلَا عِلَّةٍ أَوْ خُلُوُّ الْعِلَّةِ عَنْ الْمَعْلُولِ فَأَمَّا الْعِلَلُ الشَّرْعِيَّةُ فَمَوْصُوفَةٌ بِالْبَقَاءِ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْيَانِ أَلَا تَرَى أَنَّ فَسْخَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَالصَّرْفِ وَالسَّلَمِ الْوَدِيعَةِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ جَائِزٌ بَعْدَ أَزْمِنَةٍ مُتَطَاوِلَةٍ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا بَقَاءٌ شَرْعًا لَمَا تُصُوِّرَ فَسْخُهَا بَعْدَ مُدَّةٍ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَأَخُّرِ الْحُكْمِ عَنْهَا مَا لَزِمَ فِي الِاسْتِطَاعَةِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فَيُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهَا وَتَرَاخَى الْحُكْمِ عَنْهَا بِلَا فَصْلٍ أَيْ بِلَا لُزُومِ فَصْلٍ بَيْنَ الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ بَاقِيَةً وَقْتَ وُجُودِ الْحُكْمِ ثَبَتَ الِاتِّصَالُ بَيْنَهُمَا ضَرُورَةً وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ مُقَارَنَةُ الْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ مَعْلُولَهَا وَمُقَارَنَةُ الِاسْتِطَاعَةِ الْفِعْلَ وَالْأَصْلُ اتِّفَاقُ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ مُقَارِنَةً لِحُكْمِهَا أَيْضًا عَلَى أَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ أَعْرَاضٌ فِي الْحَقِيقَةِ فَكَانَتْ كَالِاسْتِطَاعَةِ فِي عَدَمِ قَبُولِ الْبَقَاءِ. وَمَا قَالُوا إنَّهَا

وَأَمَّا الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ اسْمًا فَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنْ الْإِيجَابِ الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ عَلَى مَا مَرَّ ذِكْرُهُ. وَأَمَّا الْعِلَّةُ اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا فَمِثْلُ الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ هُوَ عِلَّةٌ اسْمًا لِأَنَّهُ بَيْعٌ مَشْرُوعٌ وَمَعْنًى لِأَنَّ الْبَيْعَ لُغَةً وَشَرْعًا وُضِعَ لِحِكْمَةٍ وَذَلِكَ مَعْنَاهُ لَا حُكْمًا لِأَنَّ حُكْمَهُ تُرَاخَى لِمَانِعٍ فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ ثَبَتَ الْحُكْمُ بِهِ مِنْ الْأَصْلِ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ عِلَّةً لَا سَبَبًا وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ بِخِيَارِ الشَّرْطِ عِلَّةٌ اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا لِأَنَّ الشَّرْطَ دَخَلَ عَلَى الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ لِأَنَّ دُخُولَ الشَّرْطِ فِيهِ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ وَلَوْ جُعِلَ دَاخِلًا لَا عَلَى السَّبَبِ لَدَخَلَ عَلَى الْحُكْمِ أَيْضًا وَإِذَا دَخَلَ عَلَى الْحُكْمِ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى السَّبَبِ وَكَانَ أَقَلُّهُمَا أَوْلَى فَبَقِيَ السَّبَبُ مُطْلَقًا فَلِذَلِكَ كَانَ عِلَّةً اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا وَدَلَالَةُ كَوْنِهِ عِلَّةً لَا سَبَبًا مَا قُلْنَا أَنَّ الْمَانِعَ إذَا زَالَ وَجَبَ الْحُكْمُ بِهِ مِنْ حِينِ الْإِيجَابِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَوْصُوفَةٌ بِالْبَقَاءِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْفُقَهَاءِ ذَهَبُوا إلَى أَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ كَلَامٌ مَخْلُوقٌ وَلَا بَقَاءَ لَهُ حَقِيقَةً فَلَوْ بَقِيَ لَبَقِيَ حُكْمًا لِحَاجَةِ النَّاسِ وَلَا حَاجَةَ لَهُمْ إلَى بَقَائِهَا؛ لِأَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى الْحُكْمِ وَأَنَّهُ يَبْقَى بِلَا سَبَبٍ؛ لِأَنَّ مَا وُجِدَ يَبْقَى حَتَّى يُوجَدَ مَا يَرْفَعُهُ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ الْفَسْخُ يَرِدُ عَلَى الْحُكْمِ فَيُبْطِلُ الْحُكْمَ لَا عَلَى الْعَقْدِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا مَوْصُوفَةٌ بِالْبَقَاءِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْبَعْضِ فَذَلِكَ ضَرُورِيٌّ ثَبَتَ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ إلَى فَسْخِ أَحْكَامِهَا إذْ فَسْخُ الْحُكْمِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِفَسْخِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ بِمُنْعَقِدٍ حَتَّى يُمْكِنَ فَسْخُهُ فَلَمْ يَثْبُتْ الْبَقَاءُ فِيمَا وَرَاءَ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ إلَيْهِ أَشَارَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ (قَوْلُهُ وَأَمَّا الَّذِي) أَيْ الْقِسْمُ الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ اسْمًا فَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنْ الْإِيجَابِ الْمُعَلَّقِ وَالْيَمِينِ قَبْلَ الْحِنْثِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِلَّةٌ اسْمًا لِوُجُودِ صُورَةِ الْعِلَّةِ وَكَذَا الْحُكْمُ إذَا ثَبَتَ يُضَافُ إلَيْهِ بِلَا وَاسِطَةٍ فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ تُضَافُ إلَى الْيَمِينِ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ الْوَاقِعُ يُضَافُ إلَى التَّطْلِيقِ أَوْ لِلْإِعْتَاقِ السَّابِقِ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ مَعْنًى؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَالْحِنْثِ وَلَا حُكْمًا. وَهُوَ ظَاهِرٌ وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْحُرِّ عِلَّةٌ اسْمًا لِوُجُودِ صُورَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ لَا مَعْنًى وَلَا حُكْمًا لِعَدَمِ التَّأْثِيرِ وَالْحُكْمِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْعِلَّةُ مَعْنًى وَحُكْمًا مَا يَكُونُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ عِنْدَ تَقَرُّرِهِ لَا عِنْدَ ارْتِفَاعِهِ وَبَعْدَ الْحِنْثِ لَا يَبْقَى الْيَمِينُ بَلْ تَرْتَفِعُ وَكَذَا بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فِي الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَا يَبْقَى الْيَمِينُ فَكَيْفَ يَكُونُ عِلَّةً مَعْنًى وَحُكْمًا. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْعِلَّةُ اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا فَمِثْلُ الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ) كَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ هُوَ عِلَّةٌ اسْمًا؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ مَشْرُوعٌ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْمَشْرُوعَ هُوَ أَنْ يُوجَدَ رُكْنُهُ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ وَقَدْ وُجِدَ وَمَعْنًى؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لُغَةً وَشَرْعًا وُضِعَ لِحِكْمَةٍ وَذَلِكَ مَعْنَاهُ أَيْ أَثَرُ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ مُفِيدًا لِلْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لُغَةً وَشَرْعًا مَوْضُوعٌ لِإِفَادَةِ الْمِلْكِ وَهَذَا الْبَيْعُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ لِإِفَادَةِ الْمِلْكِ وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي الْحَالِ فَإِنَّ الْمِلْكَ فِي الْبَيْعِ ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ الْمَبِيعَ بِتَوَقُّفِ إعْتَاقِهِ وَلَا يَبْطُلُ وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ مَوْقُوفًا لَمَا تَوَقَّفَ وَبَطَلَ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الْعَقْدِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ عِلَّةٌ مَعْنًى وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ فَبَاعَ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ يَحْنَثُ كَذَا فِي إجَازَاتِ الْأَسْرَارِ لَا حُكْمًا؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ أَيْ حُكْمَهُ الْأَصْلِيَّ وَهُوَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ الْبَاتِّ تَرَاخَى إلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ لِمَانِعٍ وَهُوَ حَقُّ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ مُحْتَرَمٌ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ الْبَاتُّ قَبْلَ الْإِجَازَةِ لَتَضَرَّرَ بِهِ لِخُرُوجِ الْعَيْنِ عَنْ مِلْكِهِ بِدُونِ رِضَاهُ. فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ بِالْإِجَازَةِ ثَبَتَ الْحُكْمُ بِهَذَا الْبَيْعِ مِنْ الْأَصْلِ أَيْ يَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْعَقْدِ حَتَّى يَمْلِكَهُ الْمُشْتَرِي بِزَوَائِدِهِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ جَمِيعًا فَيَظْهَرُ بِهِ أَنَّهُ كَانَ عِلَّةً لَا سَبَبًا يَعْنِي لَا يُتَوَهَّمُ بِتَأَخُّرِ الْحُكْمِ عَنْهُ أَنَّهُ سَبَبٌ لَا عِلَّةٌ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ قَدْ يَتَأَخَّرُ حُكْمُهَا الْمَانِعُ فَإِنَّ أَصْلَ الْبَيْعِ صَحِيحٌ مِنْ الْمَالِكِ وَالْحُكْمُ مُتَأَخِّرٌ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنْ يَتَفَرَّقَا وَهَذَا تَأَخَّرَ لِمَانِعٍ وَهُوَ الْخِيَارُ وَشَهْرُ رَمَضَانَ سَبَبٌ أَيْ عِلَّةٌ لِوُجُوبِ الصَّوْمِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ وَالْحُكْمُ مُتَأَخِّرٌ إلَى إدْرَاكِ عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامِ أُخَرَ كَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي الْأَسْرَارِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْهُ مُسْتَقِيمٌ؛ لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِجَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَلَكِنْ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ حُكْمَهُ تَرَاخَى لِمَانِعٍ مُشْكِلٌ عَلَى أَصْلِهِ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ وَمَا ذَكَرَهُ يُؤَدِّي إلَى الْقَوْلِ بِالتَّخْصِيصِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ

وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ عِلَّةٌ اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا لِمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ وَلِذَلِكَ صَحَّ تَعْجِيلُ الْأُجْرَةِ لَكِنَّهُ يُشْبِهُ الْأَسْبَابَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْإِضَافَةِ حَتَّى لَا يَسْتَنِدَ حُكْمُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَنْهُ بِأَنَّهُ إنَّمَا أَنْكَرَ التَّخْصِيصَ عَلَى مَعْنَى أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ قَائِمَةً حَقِيقَةً وَتَخَلَّفَ الْحُكْمُ لِمَانِعٍ وَهَاهُنَا وَإِنْ وُجِدَتْ الْعِلَّةُ اسْمًا وَمَعْنًى لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِعِلَّةٍ حَقِيقِيَّةٍ لِتَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْهَا فَلَا يَكُونُ تَخْصِيصًا وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا تَصَوُّرَ لِلتَّخْصِيصِ مَعَ قِيَامِ حَقِيقَةِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا تَخَلَّفَ عَنْهَا لِمَانِعٍ لَمْ يَبْقَ عِلَّةً حَقِيقَةً وَحِينَئِذٍ يَجُوزُ التَّخْصِيصُ وَيَرْتَفِعُ الْخِلَافُ وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ وَكَذَلِكَ أَيْ وَمِثْلُ الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ عِلَّةٌ اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا؛ لِأَنَّ دُخُولَ الشَّرْطِ فِي الْبَيْعِ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ فَإِنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فِيهِ لِكَوْنِهِ مُتَضَمِّنًا تَعْلِيقَ التَّمْلِيكِ بِالْخَطَرِ وَهُوَ قِمَارٌ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ جَوَّزَهُ لِلضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِإِدْخَالِ الشَّرْطِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ أَقَلُّ خَطَرًا فَكَانَ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ إدْخَالِهِ فِي السَّبَبِ الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ خَطَرًا تَقْلِيلًا لِلْخَطَرِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. فَيَبْقَى السَّبَبُ وَهُوَ الْبَيْعُ مُطْلَقًا أَيْ غَيْرُ مُعَلَّقٍ بِالشَّرْطِ كَالْبَيْعِ الْخَالِي عَنْ الْخِيَارِ فَلِذَلِكَ أَيْ لِكَوْنِهِ مُطْلَقًا كَانَ عِلَّةً اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالشَّرْطِ وَدَلَالَةً لِكَوْنِهِ عِلَّةً لَا سَبَبًا مَا قُلْنَا فِي الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ أَنَّ الْمَانِعَ وَهُوَ الْخِيَارُ إذَا زَالَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ أَوْ بِإِسْقَاطِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ وَجَبَ الْحُكْمُ أَيْ ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي بِهَذَا الْبَيْعِ مِنْ وَقْتِ الْإِيجَابِ حَتَّى يَمْلِكَ الْمُشْتَرَى بِزَوَائِدِهِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ إلَّا أَنَّ أَصْلَ الْمِلْكِ لَمَّا صَارَ مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا قَبْلَ الشَّرْطِ فَالْعِتْقُ الْمَوْجُودُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ الْمُشْتَرِي لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ يَنْفُذَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لَهُ إذَا سَقَطَ الْخِيَارُ وَفِي الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ ثَبَتَ فِي الْمِلْكِ صِفَةُ التَّوَقُّفِ لَا التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ وَتَوَقُّفُ الشَّيْءِ لَا يَعْدَمُ أَصْلُهُ فَثَبَتَ إعْتَاقُهُ بِصِفَةِ التَّوَقُّفِ أَيْضًا عَلَى أَنْ يَنْفُذَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لَهُ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنَّمَا ذَكَرَ قَوْلَهُ وَدَلَالَةُ كَوْنِهِ عِلَّةً لَا سَبَبًا إشَارَةً إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ فَإِنَّ لَهُ شَبَهًا بِالسَّبَبِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ وَقَوْلُهُ هَاهُنَا أَيْ الْمَانِعُ إذَا زَالَ يُشِيرُ إلَى تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ الْجَوَابَ مَا مَرَّ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَمِثْلُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ وَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ عَقْدُ الْإِجَارَةِ عِلَّةٌ لِمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ وَالْأُجْرَةِ اسْمًا؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ لَهُ وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَيْهِ وَمَعْنًى؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ دُونَ غَيْرِهِ لَا حُكْمًا لِمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ وَارِدٌ عَلَى الْمَعْدُومِ وَهُوَ الْمَنَافِعُ الَّتِي تُوجَدُ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ وَالْمَعْدُومُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْمِلْكِ وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ فِي الْمَنَافِعِ فِي الْحَالِ لَمْ يَثْبُتْ فِي بَدَلِهَا وَهُوَ الْأُجْرَةُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الثُّبُوتِ كَالثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ حُكْمًا وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ هَذَا الْعَقْدُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِمَحَلِّ الْعَقْدِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْمِلْكِ إلَّا أَنَّ الْعَيْنَ الْمُنْتَفَعَ بِهَا الْمَوْجُودَةَ فِي مِلْكِ الْعَاقِدِ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي حُكْمِ جَوَازِ الْعَقْدِ وَلُزُومِهِ لِحَاجَةٍ كَمَا تُقَامُ عَيْنُ الْمَرْأَةِ مَقَامَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ فِي الْعَقْدِ وَالتَّسْلِيمِ وَتُقَامُ الذِّمَّةُ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْمُسَلَّمِ فِيهِ مَقَامَ تِلْكَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ جَوَازِ السَّلَمِ. وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِكَوْنِهِ عِلَّةً اسْمًا وَمَعْنًى صَحَّ تَعْجِيلُ الْأُجْرَةِ قَبْلَ الْوُجُوبِ وَصَحَّ اشْتِرَاطُ التَّعْجِيلِ كَمَا صَحَّ أَدَاءُ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ وَأَدَاءُ الصَّوْمِ مِنْ الْمُسَافِرِ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ اسْمًا وَمَعْنًى لَكِنَّهُ عَقْدٌ أَيْ عَقْدُ الْإِجَارَةِ يُشْبِهُ الْأَسْبَابَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْإِضَافَةِ يَعْنِي هَذَا الْعَقْدَ وَإِنْ صَحَّ فِي الْحَالِ بِإِضَافَتِهِ إلَى الْعَيْنِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْمَنْفَعَةِ لَكِنَّهُ فِي حَقِّ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُضَافِ إلَى زَمَانِ وُجُودِهَا كَأَنَّهُ يَنْعَقِدُ وَقْتَ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ لِيَقْتَرِنَ الِانْعِقَادُ بِالِاسْتِيفَاءِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مَشَايِخِنَا إنَّ الْإِجَازَةَ عُقُودٌ مُتَفَرِّقَةٌ يَتَجَدَّدُ

وَكَذَلِكَ كُلُّ إيجَابٍ مُضَافٍ إلَى وَقْتٍ فَإِنَّهُ عِلَّةٌ اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا لَكِنَّهُ يُشْبِهُ الْأَسْبَابَ وَذَلِكَ أَنْ يُوجَدَ رُكْنُ الْعِلَّةِ اسْمًا وَمَعْنًى وَتَرَاخَى عَنْهُ وَصْفُهُ فَيَتَرَاخَى الْحُكْمُ إلَى وُجُودِهِ. وَإِذَا وُجِدَ الْوَصْفُ اتَّصَلَ بِالْأَصْلِ لِحُكْمِهِ فَكَانَ بِمَعْنَى الْأَسْبَابِ حَتَّى يَصِحَّ أَدَاءُ الْحُكْمِ قَبْلَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَانْعِقَادُهَا بِحَسَبِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَلِذَلِكَ يَقْتَصِرُ الْمِلْكُ فِي الْأُجْرَةِ عَلَى حَالِ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ وَلَا يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الْغَيْرِ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي حَقِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُضَافِ إلَى مَعْدُومٍ سَيُوجَدُ كَالْوَصِيَّةِ الْمُضَافَةِ إلَى مَا يُثْمِرُ نَخِيلَهُ الْعَامَ وَالطَّلَاقِ الْمُضَافِ إلَى شَهْرٍ وَإِذَا تَحَقَّقَ مَعْنَى الْإِضَافَةِ فِيهِ لِعَدَمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ ثَبَتَ فِيهِ شَبَهُ السَّبَبِ بِقَدْرِهِ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الِانْعِقَادِ إلَى زَمَانٍ سَيُوجَدُ تُوجِبُ عَدَمَ الْعِلِّيَّةِ فِي الْحَالِ وَلَكِنْ مَا وُجِدَ مِنْ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مُفْضٍ إلَى الْحُكْمِ بِوَاسِطَةِ انْعِقَادِهِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ فَكَانَ لَهُ شَبَهٌ بِالْأَسْبَابِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْمَوْقُوف وَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّ انْعِقَادَهُمَا ثَبَتَ فِي الْحَالِ لِقِيَامِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ حَالَةَ الْعَقْدِ فَلَمْ يَحْتَجْ فِيهِمَا إلَى إثْبَاتِ مَعْنَى الْإِضَافَةِ فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُمَا شَبَهٌ بِالْأَسْبَابِ فَاسْتَنَدَ الْحُكْمُ فِيهَا إلَى زَمَانِ الْإِيجَابِ وَاقْتَصَرَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى زَمَانِ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ لِمَا ذَكَرْنَا. وَلَا يُقَالُ لَمَّا ثَبَتَ مَعْنَى الْإِضَافَةِ فِي هَذَا الْعَقْدِ لِعَدَمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ فِي حَقِّهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَثْبُتَ الْإِضَافَةُ فِي حَقِّ الْأُجْرَةِ لِقِيَامِ مَحَلِّهَا وَهُوَ الذِّمَّةُ فَيَثْبُتُ مِلْكُ الْأُجْرَةِ بِهِ فِي الْحَالِ كَمَا يَثْبُتُ مِلْكُ الثَّمَنِ بِالْبَيْعِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ نَحْنُ لَا نُثْبِتُ الْإِضَافَةَ فِي حَقِّ الْأُجْرَةِ وَلَكِنْ لَا نُثْبِتُ مِلْكَ الْأُجْرَةِ فِي الْحَالِ رِعَايَةً لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ وَنَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ فَإِنَّ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ لِلْمُسْتَأْجِرِ لَا يَثْبُتُ مِلْكُ الْأُجْرَةِ لِلْمُؤَاجِرِ أَيْضًا حَتَّى لَوْ شَرَطَ فِي الْعَقْدِ تَعْجِيلَ الْأُجْرَةِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهَا لِلْمُؤَاجِرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُسْتَأْجِرِ سَقَطَ بِقَبُولِ شَرْطِ التَّعْجِيلِ فَلَمْ تَبْقَ الْمُعَادَلَةُ وَاجِبَةَ الرِّعَايَةِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا عَجَّلَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إلَى الْبَائِعِ وَالْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي حَيْثُ لَا يَمْلِكُهُ الْبَائِعُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ ثُبُوتِ الْمِلْكِ وَهُوَ الْخِيَارُ قَائِمٌ فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ مَعَ الْمَانِعِ كَالْمَدْيُونِ إذَا عَجَّلَ الزَّكَاةَ قَبْلَ الْحَوْلِ لَا يَقَعُ زَكَاةً بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ وَهُوَ الدَّيْنُ قَائِمٌ فَأَمَّا الْمَانِعُ هَاهُنَا فَحَقُّ الْمُسْتَأْجِرِ وَقَدْ سَقَطَ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْأُجْرَةِ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَكَعَقْدِ الْإِجَارَةِ كُلُّ إيجَابٍ مُضَافٍ إلَى وَقْتٍ كَالطَّلَاقِ الْمُضَافِ إلَى وَقْتٍ وَكَالنَّذْرِ الْمُضَافِ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عِلَّةٌ اسْمًا لِكَوْنِهِ مَوْضُوعًا لِلْحُكْمِ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَمَعْنًى لِتَأْثِيرِهِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ لَا حُكْمًا لِتَأَخُّرِهِ إلَى الزَّمَانِ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَعَدَمِ ثُبُوتِهِ فِي الْحَالِ لَكِنَّهُ يُشْبِهُ الْأَسْبَابَ لَمَّا قُلْنَا أَنَّ الْإِضَافَةَ تَقْدِيرًا أَوْجَبَتْ شَبَهِيَّةَ السَّبَبِ فَحَقِيقَةُ الْإِضَافَةِ أَوْلَى بِذَلِكَ وَلَمَّا ثَبَتَ مَعْنَى السَّبِيبَةِ فِي هَذَا الْإِيجَابِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ عِنْدَ مَجِيءِ الْوَقْتِ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ لَا مُسْتَنِدًا إلَى أَوَّلِ الْإِيجَابِ وَلَمَّا كَانَ عِلَّةً اسْمًا وَمَعْنًى قَبْلَ مَجِيءِ الْوَقْتِ صَحَّ تَعْجِيلُ الْأَدَاءِ فِيمَا إذَا قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ غَدًا حَتَّى لَوْ تَصَدَّقَ بِهِ قَبْلَ مَجِيءِ الْغَدِ وَقَعَ عَنْ الْمَنْذُورِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَأَدَاءِ الزَّكَاةِ بَعْدَ كَمَالِ النِّصَابِ قَبْلَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ وَكَأَدَاءِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْلَ يَوْمِ الْفِطْرِ وَكَذَا لَوْ أَضَافَ النَّذْرَ بِالصَّوْمِ أَوْ بِالصَّلَاةِ إلَى زَمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ يَجُوزُ تَعْجِيلُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ اسْمًا وَمَعْنًى وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يُجْزِيهِ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهُ قَبْلَهُ فَكَذَا مَا تُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِخِلَافِ الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيَّةِ إلَّا

وَذَلِكَ مِثْلُ زَكَاةِ النِّصَابِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ هُوَ عِلَّةٌ اسْمًا وَمَعْنًى أَمَّا اسْمًا لِأَنَّهُ وُضِعَ لَهُ وَمَعْنًى لِكَوْنِهِ مُؤَثِّرًا فِي حُكْمِهِ لِأَنَّ الْغَنَاءَ يُوجِبُ الْمُوَاسَاةَ لَكِنَّهُ جُعِلَ عِلَّةً بِصِفَةِ النَّمَاءِ فَلَمَّا تَرَاخَى حُكْمُهُ أَشْبَهَ الْأَسْبَابَ أَلَا يُرَى أَنَّهُ إنَّمَا يَتَرَاخَى إلَى مَا لَيْسَ بِحَادِثٍ بِهِ إلَى مَا هُوَ شَبِيهٌ بِالْعِلَلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَقُولَانِ إنَّ النَّاذِرَ يَلْتَزِمُ بِنَذْرِهِ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ دُونَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ لَا فِي تَعْيِينِ الْوَقْتِ فَلَا يَكُونُ الْوَقْتُ فِيهِ مُعْتَبَرًا كَمَا فِي الصَّدَقَةِ. وَلَا يُقَالُ الْعِبَادَةُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ النَّذْرُ لَا يَنْعَقِدُ بِالْفَضِيلَةِ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ يَوْمَ عَرَفَةَ أَوْ عَاشُورَاءَ فَصَامَ بَعْدَ مُضِيِّ ذَلِكَ الْيَوْمِ يَوْمًا دُونَهُ فِي الْفَضِيلَةِ عَنْ مُوجِبِ نَذْرِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ فِيمَا بَعْدُ بِخِلَافِ الصَّوْمِ الْفَرْضِ وَالصَّلَاةِ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْوَقْتَ سَبَبًا فِيهِمَا فَأَدَاؤُهُمَا قَبْلَ الْوَقْتِ كَانَ أَدَاءً قَبْلَ السَّبَبِ فَلَا يَجُوزُ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَكَانَ ذَلِكَ أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ عَقْدِ الْإِجَارَةِ وَالْإِيجَابِ الْمُضَافِ مِنْ الْقِسْمِ الرَّابِعِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْقِسْمِ الرَّابِعِ فَقَالَ ذَلِكَ أَيْ الْقِسْمُ الرَّابِعُ أَنْ يُوجَدَ رُكْنُ الْعِلَّةِ وَيَتَرَاخَى عَنْهُ وَصْفُهُ فَيَتَرَاخَى الْحُكْمُ وَهُوَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ إلَى وُجُودِ الْوَصْفِ فَمِنْ حَيْثُ وُجُودُ الْأَصْلِ كَانَ الْمَوْجُودُ عِلَّة؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ تَابِعٌ لِلْأَصْلِ فَبِعَدَمِهِ لَا يَنْعَدِمُ الْأَصْلُ وَلِهَذَا يُضَافُ الْحُكْمُ إلَى الْأَصْلِ دُونَ الْوَصْفِ مَنْ حَيْثُ إنَّ إيجَابَهُ لِلْحُكْمِ بِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ وَهُوَ مُنْتَظَرٌ بَعْدُ كَانَ الْأَصْلُ قَبْلَ وُجُودِ الْوَصْفِ طَرِيقًا لِلْوُصُولِ إلَى الْحُكْمِ فَكَانَ سَبَبًا فَإِذَا وُجِدَ الْوَصْفُ اتَّصَلَ بِالْأَصْلِ بِحُكْمِهِ أَيْ إذَا وُجِدَ الْوَصْفُ وَثَبَتَ الْحُكْمُ اتَّصَلَا بِالْأَصْلِ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ إذْ الْوَصْفُ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فَيَصِيرُ الْأَصْلُ بِذَلِكَ الْوَصْفِ عِلَّةً فَكَانَ أَيْ الْأَصْلُ قَبْلَ وُجُودِ الْوَصْفِ بِمَعْنَى الْأَسْبَابِ لِتَوَقُّفِ الْحُكْمِ عَلَى وَاسِطَةٍ وَهِيَ الْوَصْفُ وَقَوْلُهُ حَتَّى يَصِحَّ أَدَاءُ الْحُكْمِ أَيْ الْوَاجِبِ قَبْلَهُ أَيْ قَبْلَ الْوَصْفِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ أَنْ يُوجَدَ رُكْنُ الْعِلَّةِ اسْمًا وَمَعْنًى وَيَتَرَاخَى عَنْهُ وَصْفُهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ بِمَعْنَى الْأَسْبَابِ أَيْ لَهُ حُكْمُ الْأَسْبَابِ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ الْوَصْفِ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ حَقِيقَةً بَلْ هُوَ بِدُونِ الْوَصْفِ عِلَّةٌ حَتَّى صَحَّ الْأَدَاءُ قَبْلَهُ. وَذَلِكَ أَيْ مَا يُشْبِهُ الْأَسْبَابَ مِنْ الْعِلَّةِ مِثْلُ نِصَابِ الزَّكَاةِ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ النِّصَابُ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ حُكْمَ الْعِلَّةِ بَلْ كَوْنُهُ نَامِيًا بِالْحَوْلِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ عِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ فَلَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ كَمَا لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ وَتَعْجِيلُ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْوَقْتِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - النِّصَابُ قَبْلَ الْحَوْلِ عِلَّةٌ تَامَّةٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ لَيْسَ فِيهَا شَبَهُ الْأَسْبَابِ بَلْ الْحَوْلُ أَجَلُ آخِرِ الْمُطَالَبَةِ عَنْ صَاحِبِ الْمَالِ تَيْسِيرًا كَالسَّفَرِ فِي حَقِّ الصَّوْمِ وَلِهَذَا صَحَّ التَّعْجِيلُ قَبْلَهُ وَلَوْ كَانَ وَصْفُ كَوْنِهِ حَوْلِيًّا مِنْ الْعِلَّةِ لَمَا صَحَّ التَّعْجِيلُ قَبْلَهُ كَمَا لَوْ عَجَّلَ قَبْلَ تَمَامِ النِّصَابِ وَقَبْلَ أَنْ يَجْعَلَ الْإِبِلَ سَائِمَةً وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَقَعَ الْمُؤَدَّى زَكَاةً غَيْرَ مَوْقُوفٍ عَلَى حُلُولِ الْأَجَلِ كَالْمَدْيُونِ إذَا عَجَّلَ الدَّيْنَ كَالْمُسَافِرِ إذَا صَامَ صَحَّ فَرْضًا كَالْمُقِيمِ إذَا صَلَّى فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَإِذَا وَقَعَ الْمُؤَدَّى زَكَاةً لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْ الْفَقِيرِ وَلَا مِنْ الْإِمَامِ عِنْدَ هَلَاكِ النِّصَابِ قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ عَدَمِ تَمَامِهِ عِنْدَ الْحَوْلِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَلَكِنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْمَبْسُوطِ وَكُتُبِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ النِّصَابَ إذَا هَلَكَ قَبْلَ الْحَوْلِ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمُعَجَّلَ إلَى الْفَقِيرِ مِنْهُ إذَا بَيَّنَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مُعَجَّلًا وَإِنْ أَطْلَقَ عِنْدَ الْأَدَاءِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ فِي الْأَسْرَارِ بَعْضَ أَقْوَالِهِ

وَلَمَّا كَانَ مُتَرَاخِيًا إلَى وَصْفٍ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ أَشْبَهَ الْعِلَلَ وَكَانَ هَذَا الشَّبَهُ غَالِبًا لِأَنَّ النِّصَابَ أَصْلٌ وَالنَّمَاءَ وَصْفٌ وَمِنْ حُكْمِهِ أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ قَطْعًا بِخِلَافِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْبُيُوعِ وَلَمَّا أَشْبَهَ الْعِلَلَ وَكَانَ ذَلِكَ أَصْلًا كَانَ الْوُجُوبُ ثَابِتًا مِنْ الْأَصْلِ فِي التَّقْدِيرِ حَتَّى صَحَّ التَّعْجِيلُ لَكِنْ لِيَصِيرَ زَكَاةً بَعْدَ الْحَوْلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQوَعِنْدَنَا هُوَ عِلَّةٌ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَلَكِنْ لَهُ شَبَهُ الْأَسْبَابِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ أَيْ النِّصَابَ وُضِعَ لَهُ أَيْ لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ شَرْعًا وَلِهَذَا تُضَافُ الزَّكَاةُ إلَيْهِ وَمَعْنًى لِكَوْنِ النِّصَابِ مُؤَثِّرًا فِي حُكْمِهِ وَهُوَ الْوُجُوبُ إذْ الْغَنَاءُ يُوجِبُ الْمُوَاسَاةَ أَيْ الْإِحْسَانَ إلَى الْغَيْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَحْسِنُوا - وَأَنْفِقُوا} [البقرة: 195] وَالْغَنَاءُ فِي النِّصَابِ دُونَ وَصْفِهِ وَهُوَ النَّمَاءُ وَفِي الْمُغْرِبِ يُقَالُ آسَيْته لِمَالِي مُؤَاسَاةً أَيْ جَعَلْته أُسْوَةً أَقْتَدِي بِهِ وَيَقْتَدِي هُوَ بِي أَوْ وَاسَيْته، لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ لَكِنَّهُ أَيْ النِّصَابَ عِلَّةٌ بِصِفَةِ النَّمَاءِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» فَلَمَّا تَرَاخَى حُكْمُهُ أَيْ حُكْمُ النِّصَابِ وَهُوَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ إلَى وُجُودِ وَصْفِ النَّمَاءِ أَشْبَهَ النِّصَابَ قَبْلَ وُجُودِ الْوَصْفِ الْأَسْبَابِ ثُمَّ أَوْضَحَ مُشَابَهَتَهُ بِالْأَسْبَابِ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْحُكْمَ وَهُوَ الْوُجُوبُ إنَّمَا تَرَاخَى عَنْ أَصْلِ النِّصَابِ إلَى مَا لَيْسَ بِحَادِثٍ بِالنِّصَابِ وَهُوَ النَّمَاءُ فَإِنَّ النَّمَاءَ الْحَقِيقِيَّ وَهُوَ الدَّرُّ وَالنَّسْلُ وَالسِّمَنُ فِي الْإِسَامَةِ وَزِيَادَةُ الْمَالِ فِي التِّجَارَةِ وَالنَّمَاءُ الْحُكْمِيُّ وَهُوَ حَوَلَانُ الْحَوْلِ لَا يَثْبُتَانِ بِالنِّصَابِ بَلْ السِّمَنُ وَالدَّرُّ وَالنَّسْلُ فِي الْحَيَوَانِ يَحْصُلُ بِسَوْمِهَا فِي الْمَرْعَى وَسَفَادِهَا، وَزِيَادَةُ الْمَالِ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ يَحْصُلُ بِكَثْرَةِ رَغَبَاتِ النَّاسِ وَتَغَيُّرِ الْأَسْعَارِ الْحَادِثِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَا تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ وَهُوَ النَّمَاءُ حَادِثًا بِالْمَالِ تَأَكَّدَ الِانْفِصَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَقَوِيَ شَبَهُهُ بِالسَّبَبِ وَكَأَنَّهُ احْتَرَزَ بِهِ عَنْ الرَّمْيِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ عِلَّةٌ لِلْجَرْحِ وَإِنْ تَوَقَّفَ الْجَرْحُ عَلَى تَحَرُّكِ السَّهْمِ وَمُضِيِّهِ فِي الْهَوَاءِ وَوُصُولِهِ إلَى الْمَرْمِيِّ إلَيْهِ وَنُفُوذِهِ فِيهِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْوَسَائِطِ لَمَّا حَدَثَتْ بِهِ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ شَبَهٌ بِالْأَسْبَابِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ بَلْ جُعِلَ عِلَّةً لِلْجَرْحِ حَقِيقَةً كَذَلِكَ. وَالثَّانِي أَنَّ الْحُكْمَ تَرَاخَى إلَى مَا هُوَ شَبِيهٌ بِالْعِلَلِ؛ لِأَنَّ النَّمَاءَ الَّذِي هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ فَضْلٌ عَلَى الْغَنَاءِ يُوجِبُ الْمُوَاسَاةَ كَأَصْلِ الْغَنَاءِ وَيَثْبُتُ أَوْ يَزْدَادُ بِهِ الْيُسْرُ فِي الْوَاجِبِ وَهُوَ مَقْصُودٌ فِيهِ عَلَى مَا عُرِفَ فَكَانَ أَثَرًا لَهُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ثُمَّ لَوْ كَانَ الْحُكْمُ مُتَرَاخِيًا إلَى مَا هُوَ عِلَّةٌ حَقِيقَةً غَيْرُ مُضَافَةٍ إلَى النِّصَابِ كَانَ النِّصَابُ سَبَبًا حَقِيقِيًّا كَمَا بَيَّنَّا فِي دَلَالَةِ السَّارِقِ فَإِذَا تَرَاخَى إلَى مَا هُوَ شَبَهٌ بِالْعِلَلِ كَانَ لَهُ شَبَهٌ بِالْأَسْبَابِ أَيْضًا ثُمَّ بَيَّنَ جِهَةَ الْعِلِّيَّةِ فِي النِّصَابِ وَجِهَةَ أَصَالَتِهَا فَقَالَ وَلَمَّا كَانَ أَيْ الْحُكْمُ مُتَرَاخِيًا إلَى وَصْفٍ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ أَشْبَهَ أَيْ النِّصَابُ الْعِلَلَ إذْ السَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ أَنْ يَتَرَاخَى الْحُكْمُ عَنْهُ إلَى مَا هُوَ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى السَّبَبِ كَمَا فِي دَلَالَةِ السَّارِقِ وَلَمْ يُوجَدْ وَكَانَ شَبَهُ الْعِلَّةِ غَالِبًا؛ لِأَنَّ النِّصَابَ أَصْلٌ وَالنَّمَاءَ وَصْفٌ يَعْنِي النِّصَابَ شَبَهُ الْعِلَلِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَشَبَهُ السَّبَبِ مِنْ جِهَةِ تَوَقُّفِ الْحُكْمِ عَلَى النَّمَاءِ الَّذِي هُوَ وَصْفُهُ وَتَابِعٌ لَهُ فَيُرَجَّحُ الشَّبَهُ الَّذِي ثَبَتَ لَهُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ عَلَى الشَّبَهِ الَّذِي ثَبَتَ لَهُ مِنْ جِهَةِ وَصْفِهِ. وَمِنْ حُكْمِهِ أَيْ حُكْمِ النِّصَابِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّهُ عِلَّةٌ تُشْبِهُ الْأَسْبَابَ أَنْ لَا يَظْهَرَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ قَطْعًا فَقَوْلُهُ قَطْعًا دَاخِلٌ تَحْتَ النَّفْيِ يَعْنِي لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهَا فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ بِطَرِيقِ الْقَطْعِ وَإِنْ وُجِدَ أَصْلُ الْعِلَّةِ لِفَوَاتِ الْوَصْفِ عَنْهَا وَهُوَ النَّمَاءُ إذْ الْعِلَّةُ الْمَوْصُوفَةُ بِوَصْفٍ لَا تَعْمَلُ بِدُونِ الْوَصْفِ كَالْأَرْضِ عِلَّةٌ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ أَوْ الْخَرَاجِ بِصِفَةِ النَّمَاءِ تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الزِّرَاعَةِ فَإِذَا فَاتَ هَذَا الْوَصْفُ مِنْ الْأَرْضِ لَمْ تَبْقَ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ

وَكَذَلِكَ مَرَضُ الْمَوْتِ عِلَّةٌ لِتَغَيُّرِ الْأَحْكَامِ اسْمًا وَمَعْنًى إلَّا أَنَّ حُكْمَهُ يَثْبُتُ بِهِ بِوَصْفِ الِاتِّصَالِ بِالْمَوْتِ فَأَشْبَهَ الْأَسْبَابَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ عِلَّةٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِخِلَافِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْبُيُوعِ يَعْنِي الْبَيْعَ الْمَوْقُوفَ وَالْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّ الْعِلَّةَ بِرُكْنِهَا وَوَصْفِهَا مَوْجُودَةٌ قَبْلَ وُجُودِ الْإِجَارَةِ وَالشَّرْطِ إلَّا أَنَّ حَقَّ الْمَالِكِ التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ يَمْنَعَانِ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فَعِنْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ مِنْ أَوَّلِ الْإِيجَابِ بِلَا شُبْهَةٍ فَلِذَلِكَ يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِزَوَائِدِهِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ وَبِخِلَافِ الْمُسَافِرِ إذَا صَامَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَالْمُقِيمِ إذَا صَلَّى فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَإِنَّ الْمُؤَدَّى يَقَعُ عَنْ الْوَاجِبِ بِلَا شُبْهَةٍ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ مُطْلَقَةً بِصِفَتِهَا وَلَمَّا أَشْبَهَ النِّصَابُ الْعِلَلَ وَكَانَ النِّصَابُ أَصْلًا كَانَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ ثَابِتًا مِنْ الْأَصْلِ فِي التَّقْدِيرِ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ مَتَى ثَبَتَ وَالْوَصْفُ لَا يُقَدَّمُ بِنَفْسِهِ بَلْ بِالْمَوْصُوفِ اسْتَنَدَ إلَى أَصْلِ النِّصَابِ وَصَارَ مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ مُتَّصِفًا بِأَنَّهُ حَوْلِيٌّ كَرَجُلٍ يَعِيشُ مِائَةً يَكُونُ الْوَصْفُ بِهَذَا الْبَقَاءِ ذَلِكَ الْوَلِيدَ بِعَيْنِهِ مِنْ أَوَّلِ مَا وُلِدَ إلَى هَذَا الزَّمَانِ وَإِذَا اسْتَنَدَ الْوَصْفُ اسْتَنَدَ الْحُكْمُ وَهُوَ الْوُجُوبُ إلَى أَوَّلِهِ أَيْضًا فَيَصِحُّ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَهُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِوُقُوعِ الْأَدَاءِ بَعْدَ وُجُودِ أَصْلِ الْعِلَّةِ لَكِنْ لِيَصِيرَ الْمُؤَدَّى زَكَاةً بَعْدَ الْحَوْلِ عَلَى خِلَافِ مَا. قَالَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِعَدَمِ وَصْفِ الْعِلَّةِ فِي الْحَالِ فَإِذَا تَمَّ الْحَوْلُ وَنِصَابُهُ كَامِلٌ جَازَ الْمُؤَدَّى عَنْ الزَّكَاةِ لِاسْتِنَادِ الْوَصْفِ إلَى أَوَّلِ الْحَوْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَامِلًا كَانَ الْمُؤَدَّى تَطَوُّعًا حَتَّى لَوْ كَانَ أَدَاؤُهُ إلَى الْفَقِيرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ مِنْهُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ قَدْ تَمَّتْ بِالْوُصُولِ إلَى يَدِهِ وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ زَكَاةً وَإِنْ أَدَّاهُ الْإِمَامَ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْهُ إذَا كَانَ قَائِمًا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَيْهِ لَا يُزِيلُ مِلْكَهُ عَنْ الْمَدْفُوعِ (فَإِنْ قِيلَ) لَوْ عَجَّلَ الزَّكَاةَ إلَى الْفَقِيرِ فَصَارَ غَنِيًّا قَبْلَ الْحَوْلِ وَارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ وَالنِّصَابُ كَامِلٌ جَازَ الْمُؤَدَّى عَنْ الزَّكَاةِ كَذَا فِي التَّجْنِيسِ وَلَوْ صَارَ الْمُؤَدَّى زَكَاةً بَعْدَ الْحَوْلِ لِشَرْطِ أَهْلِيَّةِ الْمَصْرِفِ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ كَمَا شُرِطَ كَمَالُ النِّصَابِ (قُلْنَا) وَصْفُ كَوْنِ النِّصَابِ حَوْلِيًّا وَإِنْ ثَبَتَ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ لَكِنَّهُ يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا إلَى أَوَّلِ السَّبَبِ بِحُكْمِهِ فَيَصِيرُ الْمُؤَدَّى زَكَاةً بَعْدَ الْحَوْلِ مِنْ حِينِ الْأَدَاءِ لَا مُقْتَصِرًا عَلَى تَمَامِ الْحَوْلِ فَيُعْتَبَرُ أَهْلِيَّةُ الْمَصْرِفِ عِنْدَ الْأَدَاءِ لَا عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ فَكَانَ اسْتِغْنَاؤُهُ أَوْ ارْتِدَادُهُ قَبْلَ الْحَوْلِ وَبَعْدَهُ سَوَاءً وَالْحَوْلُ لَيْسَ بِمَعْنَى الْأَجَلِ كَمَا زَعَمَ الْخَصْمُ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ يَسْقُطُ بِمَوْتِ الْمَدْيُونِ وَيَصِيرُ الدَّيْنُ حَالًّا وَيُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَبِمَوْتِ صَاحِبِ الْمَالِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ هَاهُنَا يَسْقُطُ الْوَاجِبُ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَكَذَا الْمَدْيُونُ يَمْلِكُ إسْقَاطَ الْأَجَلِ وَلَا يَمْلِكُ صَاحِبُ الْمَالِ هَاهُنَا إسْقَاطَ الْحَوْلِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْنَى الْأَجَلِ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَمِثْلُ النِّصَابِ مَرَضُ الْمَوْتِ عِلَّةٌ لِتَغَيُّرِ الْأَحْكَامِ مِنْ تَعَلُّقِ حَقِّ الْوَارِثِ بِالْمَالِ وَحَجْرِ الْمَرِيضِ عَنْ التَّبَرُّعِ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْوَارِثِ مِنْ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْمُحَابَاةِ وَالْوَصِيَّةِ وَنَحْوِهَا اسْمًا؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ فِي الشَّرْعِ لِلتَّغَيُّرِ مِنْ الْإِطْلَاقِ إلَى الْحَجْرِ وَمَعْنًى؛ لِأَنَّهُ مُؤَثِّرٌ فِي الْحَجْرِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِيمَا هُوَ حَقُّ الْوَارِثِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّك لَأَنْ تَدَعَ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» . فَمَنَعَهُ عَنْ التَّبَرُّعِ فِيمَا وَرَاءَ الثُّلُثِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ إلَّا أَنَّ أَيْ لَكِنَّ حُكْمَ الْمَرَضِ وَهُوَ الْحَجْرُ عَنْ التَّصَرُّفِ يَثْبُتُ بِالْمَرَضِ بِوَصْفِ اتِّصَالِهِ بِالْمَوْتِ فَأَشْبَهَ الْأَسْبَابَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ تَوَقَّفَ عَلَى أَمْرٍ

وَهَذَا أَشْبَهُ بِالْعِلَلِ مِنْ النِّصَابِ. وَكَذَلِكَ الْجُرْحُ عِلَّةٌ اسْمًا وَمَعْنًى لَكِنْ تَرَاخَى حُكْمُهُ إلَى وَصْفِ السِّرَايَةِ وَذَلِكَ قَائِمٌ بِالْجُرْحِ فَكَانَ عِلَّةً يُشْبِهُ الْأَسْبَابَ. وَكَذَلِكَ مَا هُوَ عِلَّةُ الْعِلَّةِ فَإِنَّهُ عِلَّةٌ يُشْبِهُ الْأَسْبَابَ وَذَلِكَ مِثْلُ شِرَاءِ الْقَرِيبِ لَمَّا كَانَ عِلَّةً لِلْمِلْكِ كَانَ عِلَّةً لِلْعِتْقِ أَيْضًا. ـــــــــــــــــــــــــــــQآخَرَ كَتَوَقُّفِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى النَّمَاءِ وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْوَصْفُ مَعْدُومًا فِي الْحَالِ لَمْ يَثْبُتْ الْحَجْرُ بَاتًّا حَتَّى لَوْ وَهَبَ الْمَرِيضُ جَمِيعَ مَالِهِ سَلَّمَهُ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ يَصِيرُ مِلْكًا لَهُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَمْ تَتِمَّ بِوَصْفِهَا فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ تَمَّتْ الْعِلَّةُ وَاتَّصَفَ الْمَرَضُ بِكَوْنِهِ مَرَضًا مُمِيتًا مِنْ أَوَّلِ وُجُودِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ يَحْدُثُ بِآلَامٍ تَجْتَمِعُ وَعَوَارِضَ مُزِيلَةٍ لِقُوَى الْحَيَاةِ وَهَذِهِ الْعَوَارِضُ ثَابِتَةٌ مِنْ ابْتِدَاءِ الْمَرَضِ فَيُضَافُ إلَيْهَا كُلِّهَا بِمَنْزِلَةِ جِرَاحٍ مُتَفَرِّقَةٍ سَرَتْ إلَى الْمَوْتِ فَإِنَّهُ يُضَافُ إلَى الْكُلِّ دُونَ الْأَخِيرِ. وَإِذَا اسْتَنَدَ الْوَصْفُ إلَى أَوَّلِ الْمَرَضِ اسْتَنَدَ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْحَجْرُ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ تَصَرُّفٌ بَعْدَ الْحَجْرِ فَلَا يَنْفُذُ إلَّا بِإِجَازَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَإِذَا بَرَأَ مِنْ الْمَرَضِ كَانَ تَبَرُّعُهُ نَافِذًا؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَمْ تَتِمَّ بِصِفَتِهَا وَهَذَا أَيْ الْمَرَضُ أَشْبَهُ بِالْعِلَلِ مِنْ النِّصَابِ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي تَرَاخَى الْحُكْمُ إلَيْهِ وَهُوَ الْمَوْتُ حَادِثٌ بِهِ فَإِنَّ تَرَادُفَ الْآلَامِ الَّتِي تَحْدُثُ بِالْمَرَضِ مُفْضٍ إلَى الْمَوْتِ بِخِلَافِ النِّصَابِ فَإِنَّ الْوَصْفَ فِيهِ لَيْسَ بِحَادِثٍ بِهِ كَمَا بَيَّنَّا. وَكَذَلِكَ أَيْ وَمِثْلُ الْمَرَضِ أَوْ النِّصَابِ الْجُرْحُ عِلَّةٌ لِلْهَلَاكِ اسْمًا؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لَهُ وَيُضَافُ الْهَلَاكُ إلَيْهِ يُقَالُ مَاتَ فُلَانٌ بِجَرْحِ فُلَانٍ وَمَعْنًى؛ لِأَنَّهُ مُؤَثِّرٌ فِيهِ وَلَكِنْ تَرَاخَى حُكْمُهُ عَنْهُ وَهُوَ الْهَلَاكُ إلَى وَصْفِ السِّرَايَةِ وَذَلِكَ الْوَصْفُ قَائِمٌ بِالْجَرْحِ أَيْ ثَابِتٌ بِهِ كَثُبُوتِ الْمَوْتِ بِالْمَرَضِ لَا كَوَصْفِ النَّمَاءِ فِي النِّصَابِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِثَابِتٍ بِهِ فَكَانَ الْجَرْحُ قَبْلَ السِّرَايَةِ عِلَّةً تُشْبِهُ الْأَسْبَابَ لِتَوَقُّفِ حُكْمِهِ عَلَى الْوَصْفِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَذَلِكَ الْجَرْحُ عِلَّةٌ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الصَّيْدِ وَالْآدَمِيِّ بِصِفَةِ السِّرَايَةِ وَهِيَ صِفَةٌ مُنْتَظَرَةٌ فَكَانَ الْمَوْجُودُ قَبْلَ السِّرَايَةِ عِلَّةً تُشْبِهُ السَّبَبَ حَتَّى يَجُوزَ أَدَاءُ الْكَفَّارَةِ بِالْمَالِ وَالصَّوْمِ جَمِيعًا وَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ كَانَ الْمُؤَدَّى جَائِزًا عَنْ الْوَاجِبِ قَالَ وَهَذَا كُلُّهُ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَقُومُ بِالْمَوْصُوفِ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْمَوْصُوفِ أَحَدَ وَصْفَيْ الْعِلَّةِ لِيَكُونَ سَبَبًا لَا عِلَّةً وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْوَصْفِ عِلَّةً مَعْنًى وَحُكْمًا بِمَنْزِلَةِ آخِرِ الْوَصْفَيْنِ وُجُودًا مِنْ عِلَّةٍ هِيَ ذَاتُ وَصْفَيْنِ فَلِذَا جَعَلْنَاهَا أَيْ النِّصَابَ وَالْمَرَضَ وَالْجَرْحَ عِلَّةً تُشْبِهُ السَّبَبَ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَمِثْلُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ النِّصَابِ وَغَيْرِهِ مَا هُوَ عِلَّةُ الْعِلَّةِ فَإِنَّهُ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى مَا عِلَّةٌ تُشْبِهُ الْأَسْبَابَ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الْحُكْمِ لَمَّا كَانَتْ مُضَافَةً إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى كَانَ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَى الْأُولَى بِوَاسِطَةِ الثَّانِيَةِ كَحُكْمِ الْمُقْتَضِي مُضَافٌ إلَى الْمُقْتَضَى بِوَاسِطَةِ الْمُقْتَضِي وَكَانَتْ الْعِلَّةُ الْأُولَى بِمَنْزِلَةِ عِلَّةٍ تُوجِبُ الْحُكْمَ بِوَصْفٍ هُوَ قَائِمٌ بِالْعِلَّةِ فَكَمَا أَنَّ الْحُكْمَ هُنَاكَ يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ دُونَ الصِّفَةِ فَهَا هُنَا أَيْضًا يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ دُونَ الْوَاسِطَةِ فَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْعِلَّةَ الْأَخِيرَةَ بِحُكْمِهَا تُضَافُ إلَى الْأُولَى كَانَتْ الْأُولَى عِلَّةً وَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا لَا تُوجِبُ الْحُكْمَ إلَّا بِوَاسِطَةٍ أَخَذَتْ شَبَهًا بِالسَّبَبِ وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الَّذِي سَمَّاهُ الشَّيْخُ سَبَبًا فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ فِي بَابِ تَقْسِيمِ السَّبَبِ أَوْرَدَهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِاعْتِبَارِ الشَّبَهَيْنِ وَذَلِكَ أَيْ مَا هُوَ عِلَّةُ الْعِلَّةِ مِثْلُ شِرَاءِ الْقَرِيبِ فَإِنَّهُ عِلَّةٌ لِلتَّعْلِيقِ بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ إذْ الشِّرَاءُ يُوجِبُ الْمِلْكَ وَالْمِلْكُ فِي الْقَرِيبِ يُوجِبُ الْعِتْقَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ عَلَيْهِ» فَيَصِيرُ الْعِتْقُ مُضَافًا إلَى الشِّرَاءِ لِكَوْنِ الْوَاسِطَةِ وَهِيَ الْمِلْكُ مِنْ مُوجِبَاتِهِ فَكَانَ شِرَاءُ الْقَرِيبِ إعْتَاقًا حَتَّى لَوْ اشْتَرَاهُ نَاوِيًا عَنْ الْكَفَّارَةِ تَتَأَدَّى بِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى الْمَحْلُوفَ بِعِتْقِهِ بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ حَيْثُ لَا يَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ

وَكَذَلِكَ الرَّمْيُ إلَّا أَنَّ الْحُكْمَ لَمَّا تَرَاخَى عَنْهُ أَشْبَهَ الْأَسْبَابَ. وَكَذَلِكَ التَّزْكِيَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَنْزِلَةِ عِلَّةِ الْعِلَّةِ حَتَّى إذَا رَجَعَ الْمُزَكِّي ضَمِنَ لِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا الْوَصْفُ الَّذِي لَهُ شُبْهَةُ الْعِلَلِ فَكُلُّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِوَصْفَيْنِ مُؤَثِّرَيْنِ لَا يَتِمُّ نِصَابُ الْعِلَّةِ إلَّا بِهِمَا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شُبْهَةُ الْعِلَلِ حَتَّى إذَا تَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَرِيقٍ مَوْضُوعٍ وَلَيْسَ بِعِلَّةٍ لَكِنْ لَهُ شُبْهَةُ الْعِلَلِ وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسِيئَةَ وَكَذَلِكَ الْقَدْرُ لِأَنَّ رِبَا النَّسِيئَةِ شُبْهَةُ الْفَضْلِ فَيَثْبُتُ بِشُبْهَةِ الْعِلَّةِ وَهُوَ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْوَاسِطَةَ وَهِيَ الشَّرْطُ يُضَافُ إلَيْهِ الْعِتْقُ وُجُودًا عِنْدَهُ لَا وُجُوبًا بِهِ وَالْعِتْقُ عِنْدَ وُجُودِهِ مُضَافٌ إلَى مَا هُوَ بَاقٍ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ قَوْلُهُ أَنْتَ حُرٌّ وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ نِيَّةُ الْكَفَّارَةِ حَتَّى لَوْ اقْتَرَنَتْ بِهِ النِّيَّةُ عِنْدَ التَّعْلِيقِ بِأَنْ عَنَى بِقَوْلِهِ إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ الْحُرِّيَّةَ عَنْ الْكَفَّارَةِ أَجْزَى عَنْهُ لِاقْتِرَانِ نِيَّةِ الْكَفَّارَةِ بِالْإِعْتَاقِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. وَكَذَلِكَ أَيْ مِثْلُ شِرَاءِ الْقَرِيبِ الرَّمْيُ عِلَّةٌ لِلْقَتْلِ شَبِيهَةٌ بِالْأَسْبَابِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ تَحَرُّكَ السَّهْمِ وَمُضِيَّهُ فِي الْهَوَاءِ وَنُفُوذَهُ فِي الْمَقْصُودِ بِالرَّمْيِ إلَّا أَنَّ هَذِهِ الْوَسَائِطَ لَمَّا كَانَتْ مِنْ مُوجِبَاتِ الرَّمْيِ كَانَ الرَّمْيُ عِلَّةً لِلْقَتْلِ كَالشِّرَاءِ لِلْعِتْقِ حَتَّى وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الرَّامِي وَلَمْ تَصِرْ هَذِهِ الْوَسَائِطُ شُبْهَةً فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَلَمَّا تَرَاخَى الْحُكْمُ عَنْ الرَّامِي إلَى وُجُودِ هَذِهِ الْوَسَائِطِ حَتَّى لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ بِمُجَرَّدِ الرَّمْيِ أَشْبَهَ الْأَسْبَابَ. وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَالرَّمْيِ التَّزْكِيَةُ أَيْ تَعْدِيلُ الشُّهُودِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَنْزِلَةِ عِلَّةِ الْعِلَّةِ لِلْحُكْمِ بِالرَّجْمِ فِيمَا إذَا شَهِدُوا بِالزِّنَا عَلَى مُحْصَنٍ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْحُكْمِ بِالرَّجْمِ شَهَادَةُ الشُّهُودِ وَهِيَ لَا تَكُونُ مُوجِبَةً بِدُونِ التَّزْكِيَةِ فَكَانَتْ التَّزْكِيَةُ عِلَّةَ الْعِلَّةِ حَتَّى إذَا رَجَعَ الْمُزَكُّونَ بِأَنْ قَالُوا تَعَمَّدْنَا الْكَذِبَ ضَمِنُوا الدِّيَةَ عِنْدَهُ لِمَا ذَكَرْنَا يَعْنِي فِي مَسْأَلَةِ شِرَاءِ الْقَرِيبِ أَنَّ عِلَّةَ الْعِلَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْعِلَّةِ فِي إضَافَةِ الْحُكْمِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَصِيرُ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَى التَّزْكِيَةِ وَلَكِنْ مِنْ حَيْثُ إنَّ التَّزْكِيَةَ صِفَةٌ لِلشَّهَادَةِ بَقِيَ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَى الشَّهَادَةِ فَضَمِنَ الشُّهُودُ عِنْدَ الرُّجُوعِ أَيْضًا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ بِحَالٍ أَنَّهُمْ أَثْنَوْا عَلَى الشُّهُودِ خَيْرًا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَثْنَوْا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ خَيْرًا بِأَنْ قَالُوا هُوَ مُحْصَنٌ وَالضَّمَانُ يُضَافُ إلَى السَّبَبِ هُوَ تَعَدٍّ لَا إلَى مَا هُوَ حَسَنٌ وَخَيْرٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الشُّهُودَ لَوْ رَجَعُوا مَعَ الْمُزَكِّينَ لَمْ يَضْمَنْ الْمُزَكُّونَ شَيْئًا. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُزَكِّينَ لَيْسُوا كَشُهُودِ الْإِحْصَانِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا مَا لَيْسَ بِمُوجِبٍ مُوجِبًا إذْ الشُّهُودُ بِالزِّنَا بِدُونِ الْإِحْصَانِ مُوجِبٌ لِلْعُقُوبَةِ وَلَكِنَّهَا لَا تُوجِبُ شَيْئًا بِدُونِ التَّزْكِيَةِ فَالْمُزَكُّونَ بِإِثْنَاءِ الْخَيْرِ كَذِبًا أَعْمَلُوا سَبَبَ التَّلَفِ بِطَرِيقِ التَّعَدِّي فَضَمِنُوا وَأَمَّا إذَا رَجَعَ الشُّهُودُ مَعَهُمْ فَقَدْ انْقَلَبَتْ الشَّهَادَةُ تَعَدِّيًا وَأَمْكَنَ الْإِضَافَةُ إلَيْهَا عَلَى الْقُصُورِ؛ لِأَنَّهَا تَعَدٍّ لَمْ يَحْدُثْ بِالتَّزْكِيَةِ لِاخْتِيَارِهِمْ فِي الْأَدَاءِ فَلَمْ يُضَفْ إلَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْوَصْفُ الَّذِي لَهُ شُبْهَةُ الْعِلَلِ فَكُلُّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِكَذَا) أَيْ الْوَصْفُ الَّذِي كَذَا فَأَحَدُ الْوَصْفَيْنِ الْمُؤَثِّرَيْنِ مِنْ الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ ذَاتُ وَصْفَيْنِ فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شُبْهَةَ الْعِلَّةِ لِتَأْثِيرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْحُكْمِ حَتَّى إذَا تَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَكُنْ سَبَبًا وَهَذَا رَدٌّ لِمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ وُجُودَ بَعْضِ مَا يَتِمُّ عِلَّةً بِانْضِمَامِ مَعْنًى آخَرَ إلَيْهِ كَأَحَدِ شَطْرَيْ الْبَيْعِ وَأَحَدِ وَصْفَيْ عِلَّةِ الرِّبَا مِنْ الْأَسْبَابِ الْمَحْضَةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ مَا لَمْ تَتِمَّ الْعِلَّةُ فَكَانَ الْمَبْدَأُ مُعْتَبَرًا لِتَمَامِهِ وَكَانَ كَالطَّرِيقِ إلَى الْمَقْصُودِ عِنْدَ غَيْرِهِ وَذَلِكَ الْغَيْرُ لَيْسَ بِمُضَافٍ إلَيْهِ فَيَكُونُ سَبَبًا مَحْضًا فَقَالَ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ إذَا تَقَدَّمَ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَرِيقٍ مَوْضُوعٍ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ بِعِلَّتِهِ بَلْ مُؤَثِّرٍ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ وَمِنْ أَرْكَانِ الْعِلَّةِ فَلَمْ يَكُنْ سَبَبًا وَلَيْسَ بِعِلَّةٍ بِنَفْسِهِ أَيْضًا لِفَوَاتِ الشَّطْرِ الثَّانِي مِنْ الْعِلَّةِ لَكِنْ لَهُ شُبْهَةُ الْعِلَلِ لِكَوْنِهِ أَحَدَ رُكْنَيْ الْعِلَّةِ أَوْ أَرْكَانِهَا وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الَّذِي سَمَّيْنَاهُ عِلَّةً مَعْنًى لَا اسْمًا وَلَا حُكْمًا وَكَانَ هَذَا الْخِلَافُ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ الْعِلَّةَ إذَا تَرَكَّبَتْ مِنْ وَصْفَيْنِ أَوْ أَوْصَافٍ كَانَ الْمَجْمُوعُ هُوَ الْعِلَّةُ عِنْدَ

وَأَمَّا الْعِلَّةُ مَعْنًى وَحُكْمًا لَا اسْمًا فَكُلُّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِعِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ مُؤَثِّرَيْنِ فَإِنَّ آخِرَهُمَا وُجُودًا عِلَّةٌ حُكْمًا لِأَنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ تَرَجَّحَ عَلَى الْأَوَّلِ بِالْوُجُودِ وَشَارَكَهُ فِي الْوُجُوبِ وَمَعْنًى لِأَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِيهِ لَا اسْمًا لِأَنَّ الرُّكْنَ يَتِمُّ بِهِمَا فَلَا يُسَمَّى بِذَلِكَ أَحَدُهُمَا ـــــــــــــــــــــــــــــQبَعْضٍ وَصِفَةُ الِاجْتِمَاعِ هِيَ الْعِلَّةُ عِنْدَ قَوْمٍ. وَالْوَصْفُ الزَّائِدُ عَلَى الْمَجْهُولِ الَّذِي لَا يُتَصَوَّرُ انْعِقَادُ الْعِلَّةِ بِدُونِهِ عِنْدَ آخَرِينَ حَتَّى قَالُوا فِي سَفِينَةٍ لَا تَغْرَقُ بِوَضْعِ كُرٍّ وَتَغْرَقُ إذَا زِيدَ عَلَى الْكُرِّ قَفِيزٌ إذَا وُضِعَ فِيهَا كُرٌّ وَقَفِيزٌ حَتَّى غَرِقَتْ كَانَ الْكُرُّ وَالْقَفِيزُ جَمِيعًا عِلَّةً لِلتَّلَفِ عِنْدَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ وَصِفَةُ الِاجْتِمَاعِ عِنْدَ الْفَرِيقِ الثَّانِي وَقَفِيزٌ وَاحِدٌ غَيْرُ عَيْنٍ مِنْ الْجُمْلَةِ عِنْدَ الْفَرِيقِ الثَّالِثِ عَلَى مَا عُرِفَ تَمَامُهُ فِي الْمِيزَانِ فَكَانَ الشَّيْخَيْنِ اخْتَارَا الْقَوْلَ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثَ فَكَانَ الْوَصْفُ الْأَوَّلُ قَبْلَ وُجُودِ الْوَصْفِ الثَّانِي خَالِيًا عَنْ صِفَةِ الِاجْتِمَاعِ وَعَنْ كَوْنِهِ وَاحِدًا مِنْ الْجُمْلَةِ غَيْرَ عَيْنٍ لِكَوْنِهِ عَيْنًا فَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْحُكْمِ فَكَانَ سَبَبًا مَحْضًا وَاخْتَارَ الشَّيْخُ الْمَذْهَبَ الْأَوَّلَ فَكَانَ لِلْوَصْفِ الْأَوَّلِ نَوْعُ تَأْثِيرٍ فِي الْحُكْمِ قَبْلَ وُجُودِ الْآخَرِ فَلَمْ نُجْعَلْ عَنْ مَعْنَى الْعِلَّةِ وَلِهَذَا أَيْ وَلِأَنَّ لِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ شُبْهَةَ الْعِلَّةِ قُلْنَا إنَّ الْجِنْسَ الَّذِي هُوَ أَحَدُ وَصْفَيْنِ لَهُ عِلَّةُ الرِّبَا يَحْرُمُ رِبَا النَّسِيئَةِ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ قُوهِيًّا فِي قُوهِيٍّ لَا يَجُوزُ وَكَذَا الْقَدْرُ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ شَعِيرًا فِي حِنْطَةٍ أَوْ حَدِيدًا فِي رَصَاصٍ لَا يَجُوزُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ رِبَا النَّسِيئَةِ شُبْهَةُ الْفَضْلِ فَإِنَّ لِلنَّقْدِ مَزِيَّةً عَلَى النَّسِيئَةِ عُرْفًا وَعَادَةً حَتَّى كَانَ الثَّمَنُ فِي الْبَيْعِ نَسِيئَةً أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الْبَيْعِ بِالنَّقْدِ فَيَثْبُتُ بِشُبْهَةِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّسِيئَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَهِيَ أَسْرَعُ ثُبُوتًا مِنْ حُرْمَةِ الْفَضْلِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ» وَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ الَّذِي لَهُ شُبْهَةُ الْعِلَّةِ وَلَا يَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الْفَضْلِ؛ لِأَنَّهَا أَقْوَى الْحُرْمَتَيْنِ وَلَهَا عِلَّةٌ مَعْلُومَةٌ فِي الشَّرْعِ فَلَا يَثْبُتُ بِمَا هُوَ دُونَهَا فِي الدَّرَجَةِ. وَلَا يُقَالُ لَوْ ثَبَتَ حُرْمَةُ شُبْهَةِ الْفَضْلِ لِشُبْهَةِ الْعِلَّةِ لَزِمَ تَوْزِيعُ الْحُكْمِ عَلَى أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّا نَقُولُ ثُبُوتُ حُرْمَةِ النَّسِيئَةِ بِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ لِثُبُوتِهَا إلَّا بِاعْتِبَارِ التَّوْزِيعِ إذْ التَّوْزِيعُ أَنْ يَثْبُتَ بِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ بَعْضُ حُرْمَةِ الْفَضْلِ وَلَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْهَا بِهِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْعِلَّةُ مَعْنًى وَحُكْمًا لَا اسْمًا) فَهِيَ الْوَصْفُ الْآخِرُ وُجُودًا مِنْ عِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ مُؤَثِّرَيْنِ وَاحْتَرَزَ بِهَذَا الْقَيْدِ عَمَّا إذَا تَوَقَّفَ الْحُكْمُ عَلَى وَصْفَيْنِ أَحَدُهُمَا مُؤَثِّرٌ فِيهِ دُونَ الْآخَرِ فَإِنَّ الْوَصْفَ الْمُؤَثِّرَ هُوَ الْعِلَّةُ وَالْوَصْفَ الْآخَرَ شَرْطٌ أَمَّا كَوْنُهُ عِلَّةً حُكْمًا فَلِأَنَّ الْحُكْمَ يُوجَدُ عِنْدَهُ وَيُضَافُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَيْ الْوَصْفَ الْمَوْجُودَ آخِرًا شَارَكَ الْأَوَّلَ فِي الْوُجُوبِ أَيْ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ وَلَكِنَّهُ تَرَجَّحَ عَلَى الْأَوَّلِ بِالْوُجُودِ أَيْ بِوُجُودِ الْحُكْمِ عِنْدَهُ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ لَمَّا شَارَكَ الْأَوَّلَ فِي الْوُجُوبِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَيْهِمَا جَمِيعًا قُلْنَا لَمَّا تَرَجَّحَ الْوَصْفُ الْأَخِيرُ بِوُجُودِ الْحُكْمِ عِنْدَهُ عَدِمَ حُكْمُ الْأَوَّلِ تَقْدِيرًا؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ تَارَةً تَنْعَدِمُ بِمُعَارَضَةِ الرَّاجِحِ وَتَارَةً تَنْعَدِمُ لِمَعْنًى فِي ذَاتِهِ فَانْعَدَمَ الْأَوَّلُ بِالرَّاجِحِ وَصَارَ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَى الْوَصْفِ الْأَخِيرِ كَمَا فِي الْمَنِّ الْأَخِيرِ فِي السَّفِينَةِ وَالْقَدَحِ الْأَخِيرِ فِي السُّكْرِ وَرِدَّةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهَا مُضَافٌ إلَى الْوَصْفِ الْأَخِيرِ وَفِي إسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ غَيْرَ أَنَّا مَا أَضَفْنَا الْفُرْقَةَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَاصِمٌ عَلَى مَا عُرِفَ كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ وَذَكَرَ فِي التَّقْوِيمِ أَنَّ الْحُكْمَ إنَّمَا يُضَافُ إلَى آخِرِ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ مَا مَضَى إنَّمَا يَصِيرُ مُوجِبًا بِالْأَخِيرِ ثُمَّ الْحُكْمُ يَجِبُ بِالْكُلِّ فَيَصِيرُ الْوَصْفُ الْأَخِيرُ كَعِلَّةِ الْعِلَّةِ فَكَانَ لَهُ حُكْمُ الْعِلَّةِ. وَذَلِكَ أَيْ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِوَصْفَيْنِ مُؤَثِّرَيْنِ ثُمَّ إضَافَتُهُ إلَى آخِرِهِمَا وُجُودًا مِثْلُ الْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ لِلْعِتْقِ فِي الْقَرِيبِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ

وَذَلِكَ مِثْلُ الْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ لِلْعِتْقِ فَإِنَّ الْمِلْكَ الَّذِي تَأَخَّرَ أُضِيفَ إلَيْهِ حَتَّى يَصِيرَ الْمُشْتَرِي مُعْتِقًا وَمَتَى تَأَخَّرَتْ الْقَرَابَةُ أُضِيفَ إلَيْهَا حَتَّى لَوْ وَرِثَ اثْنَانِ عَبْدًا ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ابْنُهُ غَرِمَ لِشَرِيكِهِ وَأُضِيفَ الْعِتْقُ إلَى الْقَرَابَةِ بِخِلَافِ شَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ فَإِنَّ آخِرَهُمَا شَهَادَةً لَا يُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ إلَّا بِالْقَضَاءِ وَالْقَضَاءُ يَقَعُ بِالْجُمْلَةِ فَلَا يَتَرَجَّحُ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ فِي الْحُكْمِ. فَأَمَّا الْعِلَّةُ اسْمًا وَحُكْمًا لَا مَعْنًى فَمِثْلُ السَّفَرِ لِلرُّخْصَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ الْوَصْفَيْنِ مُؤَثِّرٌ فِيهِ أَمَّا الْقَرَابَةُ فَلِأَنَّ الْعِتْقَ صِلَةٌ وَالْقَرَابَةُ تُؤَثِّرُ فِي إيجَابِ الصِّلَةِ وَالرِّقُّ مُوجِبٌ لِلْقَطْعِ لِاسْتِلْزَامِهِ الِاسْتِدْلَالَ فَوَجَبَ صِيَانَةُ الْقَرَابَةِ عَمَّا يُوجِبُ الْقَطْعَ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا صِينَتْ عَنْ أَدْنَى الرِّقَّيْنِ وَهُوَ النِّكَاحُ احْتِرَازًا عَنْ الْقَطْعِ فَلَأَنْ تُصَانَ عَنْ أَعْلَاهُمَا كَانَ أَوْلَى وَكَذَا الْمِلْكُ مُؤَثِّرٌ فِي إيجَابِ الصِّلَاتِ حَتَّى اسْتَحَقَّ الْعَبْدُ النَّفَقَةَ عَلَى مَوْلَاهُ بِالْمِلْكِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْعَبْدَانِ اثْنَيْنِ يَلْزَمُهُمَا النَّفَقَةُ بِعَدَدِ الْمِلْكِ وَالنَّفَقَةُ صِلَةٌ وَالزَّكَاةُ تَجِبُ صِلَةً لِلْفُقَرَاءِ بِالْمِلْكِ وَكَذَا الْعُشْرُ تُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمِلْكَ عِلَّةٌ لِمِلْكِ الْإِعْتَاقِ كَالنِّكَاحِ عِلَّةٌ لِمِلْكِ الطَّلَاقِ فَكَانَ فِي الْمِلْكِ مَعْنَى الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّهُ مَعْمَلٌ لِلْعِلَّةِ وَإِذَا أَظْهَرَ التَّأْثِيرَ لِلْوَصْفَيْنِ وَعَدَمَ الْحُكْمِ بِفَوَاتِ أَحَدِهِمَا كَانَ الْمَجْمُوعُ عِلَّةً وَاحِدَةً لَا أَنْ تَكُونُ الْقَرَابَةُ عِلَّةً وَالْمِلْكُ شَرْطًا كَمَا زَعَمَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثُمَّ الْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الْوَصْفِ الْأَخِيرِ مِنْهُمَا وُجُودًا لِمَا بَيَّنَّا فَإِذَا كَانَتْ الْقَرَابَةُ سَابِقَةً ثُمَّ وُجِدَ الْمِلْكُ كَانَ الْعِتْقُ مُضَافًا إلَيْهِ حَتَّى صَارَ الْمُشْتَرِي مُعْتِقًا؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ يُوجِبُ الْمِلْكَ وَالْمِلْكَ يُوجِبُ الْعِتْقَ فَكَانَ الْعِتْقُ الثَّابِتُ بِهِ مُضَافًا إلَى الشِّرَاءِ فَيَكُونُ الشِّرَاءُ إعْتَاقًا بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ لَا كِنَايَةً عَنْ الْإِعْتَاقِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَتَغَيَّرُ بِالْوَاسِطَةِ مَتَى كَانَتْ الْوَاسِطَةُ ثَابِتَةً بِالْأَوْلَى كَالرَّمْيِ يَكُونُ قَتْلًا بِوَاسِطَةِ النُّفُوذِ وَالْوُصُولِ إلَى الْمَرْمَى بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ لَا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْأَسْرَارِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الشِّرَاءَ إعْتَاقٌ تَقَعُ عَنْ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ النِّيَّةِ وَيَخْرُجُ بِهِ عَنْ الْعُهْدَةِ؛ لِأَنَّهُ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ عَلَى قَدْرِ مَا لَزِمَهُ بِالنَّصِّ. فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْحُكْمَ مُضَافٌ إلَى الْوَصْفِ الْأَخِيرِ إذْ لَوْ كَانَ مُضَافًا إلَيْهِمَا بَعْدَ وُجُودِ الْوَصْفِ الثَّانِي لَمَا كَانَ الشِّرَاءُ إعْتَاقًا تَامًّا وَلَمَا وَقَعَ عَنْ الْكَفَّارَةِ كَإِعْتَاقِ أُمِّ الْوَلَدِ وَمَتَى تَأَخَّرَتْ الْقَرَابَةُ أُضِيفَ الْعِتْقُ إلَيْهَا حَتَّى لَوْ وَرِثَ اثْنَانِ عَبْدًا مَجْهُولَ النَّسَبِ أَوْ اشْتَرَيَاهُ ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ابْنُهُ غَرِمَ لِشَرِيكِهِ قِيمَةَ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ الَّتِي هِيَ آخِرُ الْوَصْفَيْنِ وُجُودًا حَصَلَتْ بِصُنْعِهِ فَيُضَافُ الْعِتْقُ إلَيْهِ وَيُجْعَلُ الْمُدَّعِي مُعْتِقًا بِوَاسِطَةِ الْقَرَابَةِ كَمَا جُعِلَ الْمُشْتَرِي مُعْتِقًا بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ وَهَذَا كَمَا لَوْ شَهِدَ الرَّجُلَانِ بِنَسَبِ رَجُلٍ فَوَرِثَ بِهِ وَحُجِبَ الْأَبْعَدَ ثُمَّ رَجَعَا فَإِنْ كَانَا شَهِدَا بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ ضَمِنَا بِالْأَبْعَدِ مَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ مِنْ الْإِرْثِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْمَوْتِ لَمْ يَضْمَنَا؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ يَثْبُتُ بِالْمَوْتِ وَالنَّسَبِ جَمِيعًا فَإِنْ كَانَ الْمَوْتُ سَابِقًا أُضِيفَ إلَى النَّسَبِ فَصَارَا مُتْلِفَيْنِ عَلَى الْأَبْعَدِ نَصِيبَهُ بِإِثْبَاتِ نَسَبِ الْأَقْرَبِ وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا كَانَ الْإِرْثُ مُضَافًا إلَى الْمَوْتِ الثَّابِتِ بَعْدَ النَّسَبِ فَلَمْ يَصِرْ الشَّاهِدَانِ مُتْلِفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَمْ يَثْبُتْ بِشَهَادَتِهِمَا فَكَذَا هَاهُنَا كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَرَأَيْت فِي بَعْضِ فَوَائِدِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّهُ لَوْ مَلَكَ عَبْدًا مَجْهُولَ النَّسَبِ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ ابْنُهُ نَاوِيًا عَنْ الْكَفَّارَةِ لَا يَجْزِيهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يُضَافُ إلَى الْقَرَابَةِ وَهِيَ أَمْرٌ جَبْرِيٌّ فَلَا يَصْلُحُ لِلتَّكْفِيرِ بِخِلَافِ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ اخْتِيَارِيٌّ فَيَصْلُحُ لِلتَّكْفِيرِ. وَهَذَا الْفَرْقُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْعِتْقُ فِي الشِّرَاءِ أَمْرٌ جَبْرِيٌّ أَيْضًا كَالْقَرَابَةِ هَاهُنَا وَالدَّعْوَى الَّتِي تُوجِبُ الْقَرَابَةَ هَاهُنَا أَمْرٌ اخْتِيَارِيٌّ كَالشِّرَاءِ هُنَاكَ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ بِالدَّعْوَةِ مُعْتِقًا كَمَا جُعِلَ بِالشِّرَاءِ وَلِهَذَا جُعِلَ مُعْتِقًا بِهَا فِي ضَمَانِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ لَكِنْ أَنْ تَثْبُتَ الرِّوَايَةُ فَالْفَرْقُ الصَّحِيحُ أَنَّ الْقَرَابَةَ وَإِنْ ثَبَتَتْ بِالدَّعْوَةِ لَمْ تَثْبُتْ مُقْتَصِرَةً عَلَى حَالِ الدَّعْوَةِ بَلْ تَثْبُتُ مِنْ حَالِ الْعُلُوقِ فَيَسْتَنِدُ الْعِتْقُ إلَى زَمَانِ الْمِلْكِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَدْ خَلَا عَنْ النِّيَّةِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَلَا يَنُوبُ عَنْ الْكَفَّارَةِ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْمَحْلُوفِ بِعِتْقِهِ فَتَكُونُ الدَّعْوَةُ

وَالْمَرَضِ وَمِثْلُ النَّوْمِ لِلْحَدَثِ وَذَلِكَ أَنَّ السَّفَرَ تَعَلَّقَ بِهِ فِي الشَّرْعِ الرُّخْصُ فَكَانَ عِلَّةً حُكْمًا وَنُسِبَتْ الرُّخْصُ إلَيْهِ فَصَارَ عِلَّةً اسْمًا أَيْضًا أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا ثُمَّ سَافَرَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْفِطْرُ وَمَعَ ذَلِكَ إذَا أَفْطَرَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ وَهَذَا لَيْسَ بِعِلَّةٍ حُكْمًا وَلَا مَعْنًى فَلَمَّا صَارَ شُبْهَةً عَلِمْنَا أَنَّهُ عِلَّةٌ اسْمًا وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ الرُّخْصَةَ تَعَلَّقَتْ بِالْمَشَقَّةِ فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا أَنَّهُ أُضِيفَ إلَى السَّفَرِ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْمَشَقَّةِ فَأُقِيمَ مَقَامَهَا وَكَذَلِكَ الْمَرَضُ إلَّا أَنَّهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQإعْتَاقًا فِي الْحَالِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ بِخِلَافِ الشِّرَاءِ فَإِنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِهِ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَكُونُ الشِّرَاءُ إعْتَاقًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَمَا بَيَّنَّا فَيَصْلُحُ لِلْكَفَّارَةِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَا إذَا وَرِثَ أَبَاهُ يَنْوِي بِهِ الْكَفَّارَةَ حَيْثُ لَا يُجْزِيهِ أَوْ وَرِثَ رَجُلَانِ عَبْدًا هُوَ قَرِيبُ أَحَدِهِمَا حَتَّى عَتَقَ عَلَيْهِ حَيْثُ لَا يَضْمَنُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ يَثْبُتُ لِلْمَرْءِ بِدُونِ صُنْعِ الْعَبْدِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ إعْتَاقًا بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ وَالتَّكْفِيرُ يَتَأَدَّى بِالْإِعْتَاقِ بِخِلَافِ شَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ فَإِنَّ آخِرَهُمَا شَهَادَةً لَا يُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ وَلَا يُجْعَلُ عِلَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ مَعْنًى وَحُكْمًا وَإِنْ كَانَ يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ الْحُكْمِ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ أَيْ الْمَذْكُورَ وَهُوَ الشَّهَادَةُ لَا يَعْمَلُ إلَّا بِالْقَضَاءِ أَنْ لَيْسَ لِلشَّاهِدِ وِلَايَةُ إلْزَامٍ وَالْقَضَاءُ يَقَعُ بِشَهَادَتِهِمَا جُمْلَةً وَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ كَوْنُ أَحَدِهِمَا سَابِقًا وَالْآخَرُ مُتَمِّمًا لِعِلَّةِ الِاسْتِحْقَاقِ وَلِأَنَّ الشَّاهِدَ نَقَلَ عِلْمَهُ إلَى الْقَاضِي وَعِلْمُهُ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا يُتَصَوَّرُ الرُّجْحَانُ فِي حُصُولِ الْعِلْمِ لَهُ وَلِأَنَّ فِي الشَّهَادَةِ وَصْفَ الْكَرَامَةِ لِلشَّاهِدِ فَإِنَّ قَبُولَ قَوْلِهِ كَرَامَةٌ لَهُ وَوَصْفُ الْحُجَّةِ لِلْمَشْهُودِ لَهُ وَالثَّانِي تَبَعٌ لِلْأَوَّلِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ أَحَدُهُمَا أَصْلًا. وَبِخِلَافِ مَا إذَا جَرَحَ رَجُلَانِ رَجُلًا أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ فَمَاتَ الْمَجْرُوحُ كَانَ الْمَوْتُ مُضَافًا إلَى الْجُرْحَيْنِ لَا إلَى الْجُرْحِ الْأَخِيرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ جِرَاحَةٍ عِلَّةٌ تَامَّةٌ بِنَفْسِهَا وَالْحُكْمُ فِي الْعِلَلِ إذَا اجْتَمَعَتْ تُضَافُ إلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ كَأَنْ لَيْسَ مَعَهَا غَيْرُهَا وَكَلَامُنَا فِي عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ لَهَا وَصْفَانِ وَكَذَا لَا يُتَيَقَّنُ بِأَنَّ الْحُكْمَ وَهُوَ الزُّهُوقُ بِأَيِّهِمَا حَصَلَ فَلَا يُمْكِنُ التَّرْجِيحُ حَتَّى لَوْ جَرَحَ أَحَدُهُمَا وَجَزَّ الْآخَرُ رَقَبَتَهُ كَانَ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَى الْجُزْءِ لِاتِّصَالِ الْحُكْمِ بِهِ يَقِينًا وَبِخِلَافِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ حَيْثُ لَمْ يُضَفْ الْحُكْمُ إلَى آخِرِهِمَا وُجُودًا بَلْ يُضَافُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِلَّةٌ عَلَى حِدَةٍ فَالْإِيجَابُ عِلَّةُ مِلْكِ الْمَبِيعِ وَالْقَبُولُ شَرْطٌ فِي حَقِّهِ وَالْقَبُولُ عِلَّةُ مِلْكِ الثَّمَنِ وَالْإِيجَابُ شَرْطٌ فِي حَقِّهِ فَيُضَافُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْحُكْمَيْنِ إلَى عِلَّتِهِ كَذَا فِي الطَّرِيقَةِ الْبُرْغَرِيَّةِ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ عِلَّةُ الْمِلْكِ هِيَ الْعَقْدُ الَّذِي حَكَمَ الشَّرْعُ بِوُجُودِهِ بَعْدَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى بِالْبَيْعِ وَيُوصَفُ بِالْبَقَاءِ وَيَرِدُ عَلَيْهِ الْفَسْخُ فَكَانَ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَيْهِ دُونَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ. قَوْلُهُ (وَالْمَرَضِ) عَطْفٌ عَلَى السَّفَرِ أَيْ السَّفَرُ وَالْمَرَضُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلرُّخْصَةِ الثَّابِتَةِ بِهِ اسْمًا وَحُكْمًا لَا مَعْنًى وَذَلِكَ أَيْ كَوْنُ السَّفَرِ عِلَّةً اسْمًا وَحُكْمًا أَنَّ السَّفَرَ تُعَلَّقُ بِهِ فِي الشَّرْعِ الرُّخْصُ أَيْ ثَبَتَ مُتَّصِلَةً بِهِ حَتَّى إذَا جَاوَزَ ثُبُوتَ الْمِصْرِ قَصَرَ الصَّلَاةَ فَكَانَ عِلَّةً حُكْمًا وَنُسِبَتْ الرُّخْصُ إلَى السَّفَرِ شَرْعًا يُقَالُ رُخْصَةُ السَّفَرِ الْقَصْرُ وَالْإِفْطَارُ فَكَانَ عِلَّةً اسْمًا أَيْضًا أَلَا تَرَى إيضَاحًا لِكَوْنِهِ عِلَّةً اسْمًا لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْفِطْرُ يَعْنِي فِي هَذَا الْيَوْمِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَصْبَحَ مُقِيمًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الصَّوْمِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا أَنْشَأَ السَّفَرَ بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ مَا تَقَرَّرَ وُجُوبُهُ عَلَيْهِ إذْ السَّفَرُ لَيْسَ بِمُنَافٍ لِلِاسْتِحْقَاقِ وَهَذَا أَيْ هَذَا السَّفَرُ فِي حَقِّ هَذَا الْيَوْمِ لَيْسَ بِعِلَّةٍ حُكْمًا لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الرُّخْصَةِ بِهِ حَيْثُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْإِفْطَارُ فِيهِ وَلَا مَعْنًى؛ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ هُوَ الْمَشَقَّةُ لَا نَفْسُ السَّفَرِ فَلَمَّا صَارَ هَذَا السَّفَرُ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ حُكْمًا وَلَا مَعْنًى عَلِمْنَا أَنَّهُ عِلَّةٌ اسْمًا إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ عِلَّةً اسْمًا أَيْضًا لَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ لِوُجُودِ الْإِفْطَارِ بِلَا تَرَخُّصٍ صُورَةً

مُتَنَوِّعٌ فَمَا هُوَ سَبَبٌ لِلْمَشَقَّةِ أُقِيمَ مَقَامَهَا وَمَا لَا فَلَا وَكَذَلِكَ النَّوْمُ مِمَّا كَانَ مِنْهُ سَبَبًا لِاسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ مَقَامَهُ فَصَارَ حَدَثًا وَإِنَّمَا نُقِلَ إلَى السَّبَبِ الظَّاهِرِ لِلتَّيْسِيرِ وَكَذَلِكَ الِاسْتِبْرَاءُ مُتَعَلِّقٌ بِالشَّغْلِ ثُمَّ نُقِلَ إلَى اسْتِحْدَاثِ سَبَبِ الشَّغْلِ تَيْسِيرًا وَأَمْثِلَةُ هَذَا الْأَصْلِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى وَذَلِكَ بِطَرِيقَيْنِ يَكُونُ إقَامَةُ السَّبَبِ الدَّاعِي مَقَامَ الْمَدْعُوِّ مِثْلُ السَّفَرِ وَالْمَرَضِ وَالنَّوْمِ وَالْمَسِّ وَالنِّكَاحِ مَقَامَ الْوَطْءِ. وَالثَّانِي أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ مَقَامَ الْمَدْلُولِ مِثْلُ الْخَبَرِ عَنْ الْمَحَبَّةِ مَقَامَ الْمَحَبَّةِ وَمِثْل الطُّهْرِ مَقَامَ الْحَاجَةِ فِي إبَاحَةِ الطَّلَاقِ وَمِثْلُ مَسَائِلِ الِاسْتِبْرَاءِ، وَطَرِيقُ ذَلِكَ وَفِقْهُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا لِدَفْعِ الضَّرُورَةِ وَالْعَجْزِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ إنْ أَحْبَبْتِينِي أَوْ أَبْغَضْتِينِي فَأَنْتِ طَالِقٌ وَفِي الِاسْتِبْرَاءِ وَفِي قِيَامِ النِّكَاحِ مَقَامَ الْمَاءِ وَلِلِاحْتِيَاطِ كَمَا قِيلَ فِي تَحْرِيمِ الدَّوَاعِي فِي الْحُرُمَاتِ وَالْعِبَادَاتِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَمَعْنًى. وَأَمَّا الْمَعْنَى أَيْ فَوَاتُ مَعْنَى الْعِلَّةِ عَنْ السَّفَرِ فَلِأَنَّ الرُّخْصَةَ تَعَلَّقَتْ بِالْمَشَقَّةِ فِي الْحَقِيقَةِ دُونَ السَّفَرِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُؤَثِّرَةُ فِي إيجَابِ الرُّخْصَةِ الَّتِي مَبْنَاهَا عَلَى الْيُسْرِ وَالسُّهُولَةِ كَمَا أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ بِقَوْلِهِ {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] إلَّا أَنَّهُ أَيْ لَكِنَّ الْحُكْمَ وَهُوَ ثُبُوتُ الرُّخْصَةِ أُضِيفَ إلَى السَّفَرِ دُونَ حَقِيقَةِ الْمَشَقَّةِ؛ لِأَنَّهَا أَمْرٌ بَاطِنٌ يَتَفَاوَتُ أَحْوَالُ النَّاسِ فِيهِ فَلَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَأَقَامَ الشَّرْعُ السَّفَرَ الْمَخْصُوصَ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْمَشَقَّةِ فِي الْغَالِبِ قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُخْتَصَرِ التَّقْوِيمِ السَّفَرُ عِلَّةٌ مُوجِبَةٌ لِلْمَشَقَّةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَإِنَّ الْمُسَافِرَ وَإِنْ كَانَ فِي رَفَاهِيَةٍ لَا يَخْلُو عَنْ قَلِيلِ مَشَقَّةٍ وَقَدْ تَعَذَّرَ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا فَسَقَطَ اعْتِبَارُهَا وَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالسَّفَرِ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ الْعِلَّةِ وَأَبَدًا يُضَافُ لِلْحُكْمِ عِلَّةُ الْعِلَّةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إضَافَتِهِ إلَى الْعِلَّةِ فَلِذَلِكَ دَارَ الْحُكْمُ مَعَ السَّفَرِ وُجُودًا وَعَدَمًا وَكَذَلِكَ أَيْ وَمِثْلُ السَّفَرِ الْمَرَضُ عِلَّةٌ لِلرُّخْصَةِ اسْمًا؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهِ تُنْسَبُ إلَيْهِ كَمَا تُنْسَبُ إلَى السَّفَرِ رُخْصَةً وَحُكْمًا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ مُقْتَرِنًا بِهِ مِنْ غَيْرِ تَأَخُّرٍ لَا مَعْنًى؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الْمَعْنَوِيَّةَ مَالَهَا أَثَرٌ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ وَلَا أَثَرَ لِنَفْسِ الْمَرَضِ فِي إيجَابِ الرُّخْصَةِ بَلْ الْمُوجِبُ الْحَقِيقِيُّ مَعْنًى تَحْتَهُ وَهُوَ خَوْفُ التَّلَفِ وَزِيَادَةُ الْمَرَضِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَعْنَى أَمْرًا بَاطِنًا سَقَطَ اعْتِبَارُهُ فِي إضَافَةِ الْحُكْمَ إلَيْهِ وَصَارَ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِالْمَرَضِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْخَوْفِ وَالْمَشَقَّةِ وَهَذَا دُونَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ يُوجِبُ الْمَشَقَّةَ بِكُلِّ حَالٍ فَأَمَّا الْمَرَضُ فَقَدْ يُوجِبُ خَوْفَ التَّلَفِ وَالْمَشَقَّةِ وَقَدْ لَا يُوجِبُ كَذَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ إلَّا أَنَّهُ أَيْ الْمَرَضَ مَتْبُوعٌ إلَى آخِرِهِ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَمِثْلُ الْمَذْكُورِ سَابِقًا الِاسْتِبْرَاءُ وَهُوَ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ فِي الْأَمَةِ عِنْدَ حُدُوثِ الْمِلْكِ فِيهَا إلَى انْقِضَاءِ حَيْضَةٍ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مُتَعَلِّقٌ بِالشُّغْلِ أَيْ وُجُوبُهُ مُتَعَلِّقٌ بِالشُّغْلِ هُوَ مَصْدَرُ شُغِلَ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ لَا شَغَلَ الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ يَعْنِي هُوَ مُتَعَلِّقٌ فِي الْحَقِيقَةِ بِوَهْمِ اشْتِغَالِ الرَّحِمِ بِمَاءِ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي إيجَابِهِ إذْ الْمَقْصُودُ مِنْهُ صَوْنُ الْمَاءِ عَنْ الْخَلْطِ بِمَاءٍ آخَرَ وَالِاحْتِرَازُ عَنْ سَقْيِ زَرْعِ الْغَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَسْقِيَنَّ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ» وَذَلِكَ يَجِبُ عِنْدَ تَوَهُّمِ الشُّغْلِ لَكِنَّ الشُّغْلَ لَمَّا كَانَ بَاطِنًا سَقَطَ اعْتِبَارُهُ وَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِاسْتِحْدَاثِ مِلْكِ الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الشُّغْلَ يَكُونُ بِالْوَطْءِ وَبِالْمِلْكِ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْوَطْءِ فَمِنْ حَيْثُ إنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ الْوَطْءِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْمِلْكِ كَانَ لِلْمِلْكِ اتِّصَالٌ بِهِ فَأُقِيمَ مَقَامَهُ كَذَا فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ وَأُشِيرَ فِي التَّقْوِيمِ إلَى أَنَّ الْعِلَّةَ صِيَانَةُ الْمَاءِ عَنْ الِاخْتِلَاطِ بِمَاءٍ قَدْ وُجِدَ إلَّا أَنَّهُ لَوْ عَلِقَ بِالْمَاءِ وَهُوَ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَتَعَذَّرَ عَلَيْنَا مُرَاعَاتُهُ فَعَلِقَ بِالسَّبَبِ الْمُؤَدَّى إلَى خَلْطِ الْمِيَاهِ وَهُوَ اسْتِحْدَاثُ مِلْكِ الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ هَذَا الِاسْتِحْدَاثَ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ لَزِمَ الْبَائِعَ وَمِنْ غَيْرِ ظُهُورِ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا عَنْ مَائِهِ فَلَوْ أَبَحْنَا الْوَطْءَ لِلثَّانِي بِنَفْسِ الْمِلْكِ لَأَدَّى إلَى الْخَلْطِ فَكَانَ الْإِطْلَاقُ بِنَفْسِ الْمِلْكِ سَبَبًا مُؤَدِّيًا إلَيْهِ فَوَجَبَ الِاسْتِبْرَاءُ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ الِاسْتِبْرَاءُ بِاسْتِحْدَاثِ مِلْكِ الْوَطْءِ بِالنِّكَاحِ فِي الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ وَإِنْ احْتَمَلَ رَحِمُهَا

وَلِدَفْعِ الْحَرَجِ كَمَا قِيلَ فِي السَّفَرِ وَالطُّهْرِ الْقَائِمِ مَقَامَ الْحَاجَةِ الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ وَالْمُبَاشَرَةُ الْفَاحِشَةُ لِإِيجَابِ الْحَدَثِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالشُّغْلَ بِمَاءِ الْمَوْلَى لِعَدَمِ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ عَلَى الْمَوْلَى قَبْلَ التَّزْوِيجِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ مَا شُرِعَ فِي الْأَصْلِ إلَّا عَلَى رَحِمٍ فَارِغَةٍ أَوْ بَعْدَ الْمُبَالَغَةِ فِي الِاحْتِيَاطِ لِمَعْرِفَةِ الْفَرَاغِ بِتَرَبُّصِ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ الزَّائِدَةِ عَلَى مُدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ وُجُوبُ الِاسْتِبْرَاءِ ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْفَرَاغُ أَمْرًا بَاطِنًا دَارَ الْحُكْمُ عَلَى النِّكَاحِ فَقِيلَ لَا اسْتِبْرَاءَ فِي النِّكَاحِ بِحَالٍ اعْتِبَارًا لِأَصْلِهِ كَمَا أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ وَاجِبٌ فِي حُدُوثِ مِلْكِ الْيَمِينِ وَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ بِكْرًا أَوْ مُشْتَرَاةً مِنْ امْرَأَةٍ اعْتِبَارًا لِأَصْلِهِ وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ وَظِيفَةُ مِلْكِ الْيَمِينِ كَمَا أَنَّ الْعِدَّةَ وَظِيفَةُ مِلْكِ النِّكَاحِ فَكَمَا لَا يُنْقَلُ وَظِيفَةُ مِلْكِ النِّكَاحِ إلَى مِلْكِ الْيَمِينِ لَا يُنْقَلُ وَظِيفَةُ مِلْكِ الْيَمِينِ إلَى مِلْكِ النِّكَاحِ وَأَمْثِلَةُ هَذَا الْأَصْلِ وَهُوَ إقَامَةُ الشَّيْءِ مَقَامَ غَيْرِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى كَإِقَامَةِ الْبُلُوغِ مَقَامَ اعْتِدَالِ الْعَقْلِ وَالنِّكَاحِ مَقَامَ الْعُلُوقِ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ وَالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ مَقَامَ خُرُوجِ الْمَنِيِّ فِي إيجَابِ الْغُسْلِ وَالْخَلْوَةِ مَقَامَ الدُّخُولِ وَغَيْرِهَا وَذَلِكَ أَيْ وَضْعُ الشَّيْءِ مَقَامَ غَيْرِهِ بِطَرِيقَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّسَبَ لَا يَخْلُو عَنْ تَأْثِيرٍ لَهُ فِي الْمُسَبَّبِ أَوْ إفْضَاءٍ إلَيْهِ وَالدَّلِيلُ يَخْلُو عَنْ ذَلِكَ كَذَا قِيلَ وَالْمَسُّ وَالنِّكَاحُ يُقَامُ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقَامَ الْوَطْءِ فِي ثُبُوتِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ دَاعٍ إلَيْهِ مِثْلُ الْخَبَرِ أَيْ الْإِخْبَارِ عَنْ الْمَحَبَّةِ قَامَ مَقَامَ الْمَحَبَّةِ فِيمَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ كُنْت تُحِبِّينِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ أُحِبُّك؛ لِأَنَّ إخْبَارَهَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُودِ مَا جَعَلَهُ شَرْطًا فَأُقِيمَ مَقَامَ الْمَدْلُولِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ مُقْتَصِرٌ عَلَى الْمَجْلِسِ حَتَّى لَوْ أَخْبَرَتْ عَنْ الْمَحَبَّةِ خَارِجَ الْمَجْلِسِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ التَّخْيِيرَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جَعَلَ الْأَمْرَ إلَى إخْبَارِهَا وَمَحَبَّتِهَا وَالتَّخْيِيرُ مُقْتَصِرٌ عَلَى الْمَجْلِسِ. وَلَوْ كَانَتْ كَاذِبَةً فِي الْإِخْبَارِ يَقَعُ الطَّلَاقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَحَبَّةِ لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا مِنْ جِهَةٍ غَيْرِهَا وَلَا مِنْ جِهَتِهَا؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ مُتَقَلِّبٌ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَى شَيْءٍ فَمَا لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ بِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِدَلِيلِهِ كَالسَّفَرِ مَعَ الْمَشَقَّةِ وَالنَّوْمِ مَعَ الْحَدَثِ فَصَارَ الشَّرْطُ الْإِخْبَارَ عَنْ الْمَحَبَّةِ وَقَدْ وُجِدَ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ كَذَا فِي شَرْحِ الْمَبْسُوطِ لِلْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمِثْلُ الطُّهْرِ أَيْ الطُّهْرِ الْخَالِي عَنْ الْجِمَاعِ قَامَ مَقَامَ الْحَاجَةِ إلَى الطَّلَاقِ فِي إبَاحَةِ الطَّلَاقِ وَبَيَانُهُ أَنَّ الطَّلَاقَ أَمْرٌ مَحْظُورٌ فِي الْأَصْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ النِّكَاحِ الْمَسْنُونِ وَلَكِنَّ الْمَحْظُورَ قَدْ يَحِلُّ مُبَاشَرَتُهُ لِلضَّرُورَةِ كَتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَقَدْ يَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الطَّلَاقِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْمُضِيِّ عَلَى مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَإِقَامَةِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنِّكَاحِ فَلَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الطَّلَاقِ لَانْقَلَبَ النِّكَاحُ الْمَشْرُوعُ لِلْمَصَالِحِ مَفْسَدَةً فَشُرِعَ الطَّلَاقُ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ ثُمَّ هِيَ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فَأُقِيمَ دَلِيلُ الْحَاجَةِ وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الطَّلَاقِ فِي زَمَانِ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ إلَيْهَا وَهُوَ الطُّهْرُ الْخَالِي عَنْ الْجِمَاعِ مَقَامَ حَقِيقَةِ الْحَاجَةِ تَيْسِيرًا وَمِثْلُ مَسَائِلِ الِاسْتِبْرَاءِ فَإِنَّ دَلِيلَ الشُّغْلِ فِيهَا وَهُوَ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ أُقِيمَ مَقَامَ الْمَدْلُولِ وَهُوَ الشُّغْلُ حَتَّى دَارَ الْحُكْمُ مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ الِاسْتِبْرَاءُ فِي الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَاةِ مِنْ الْمَرْأَةِ وَمِنْ الصَّغِيرِ بِأَنْ بَاعَهَا لَهُ أَبُوهُ وَالْجَارِيَةِ الْبِكْرِ لِوُجُودِ الِاسْتِحْدَاثِ وَإِنْ تَيَقَّنَّا بِعَدَمِ الشُّغْلِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا تَيَقَّنَ لِفَرَاغِ رَحِمِهَا مِنْ مَاءِ الْبَائِعِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهَا اسْتِبْرَاءٌ؛ لِأَنَّ

[باب تقسيم الشرط]

وَهَذِهِ وُجُوهٌ مُتَقَارِبَةٌ فِي ضَبْطِهَا مَعْرِفَةُ حُدُودِ الْفِقْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (بَابُ تَقْسِيمِ الشَّرْطِ) وَهُوَ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ شَرْطٌ مَحْضٌ وَشَرْطٌ لَهُ حُكْمُ الْعِلَلِ وَشَرْطٌ لَهُ حُكْمُ الْأَسْبَابِ وَشَرْطٌ اسْمًا لَا حُكْمًا فَكَانَ مَجَازًا فِي الْبَابِ وَشَرْطٌ هُوَ بِمَعْنَى الْعَلَامَةِ الْخَالِصَةِ أَمَّا الشَّرْطُ الْمَحْضُ فَمَا يَمْتَنِعُ بِهِ وُجُودُ الْعِلَّةِ فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ وُجِدَتْ الْعِلَّةُ فَيَصِيرُ الْوُجُودُ مُضَافًا إلَى الشَّرْطِ دُونَ الْوُجُوبِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالِاسْتِبْرَاءَ كَاسْمِهِ لِتَبَيُّنِ فَرَاغِ الرَّحِمِ وَقَاسَ بِالْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا الْعِدَّةُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْعِدَّةِ فِي حَالِ الدُّخُولِ تَبَيُّنُ فَرَاغِ الرَّحِمِ. وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذِهِ حِكْمَةُ الِاسْتِبْرَاءِ وَالْحُكْمُ يَتَعَلَّقُ بِالْعِلَّةِ لَا بِالْحِكْمَةِ وَالْعِلَّةُ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ كَمَا بَيَّنَّا ثُمَّ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَمَّى الِاسْتِحْدَاثَ سَبَبًا لِلشُّغْلِ قُبَيْلَ هَذَا بِخُطُوطٍ وَوَجْهُهُ مَا بَيَّنَّا ثُمَّ جَعَلَهُ دَلِيلًا عَلَى الشُّغْلِ حَيْثُ أَوْرَدَهُ فِي هَذَا الْقِسْمِ وَوَجْهُهُ أَنَّ الِاسْتِحْدَاثَ يَدُلُّ عَلَى مِلْكِ مَنْ يُسْتَحْدَثُ مِنْهُ وَيُتَلَقَّى مِنْ جِهَتِهِ وَمِلْكُهُ يُمَكِّنُهُ مِنْ الْوَطْءِ وَالْوَطْءُ سَبَبٌ لِلشُّغْلِ الَّذِي هُوَ الْعِلَّةُ فَكَانَ الِاسْتِحْدَاثُ بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ دَلِيلًا عَلَى عِلَّةِ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ فَأُقِيمَ مَقَامَ الْمَدْلُولِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ سَبَبًا بِالنَّظَرِ إلَى مُطْلَقِ الشُّغْلِ وَكَوْنَهُ دَلِيلًا بِالنَّظَرِ إلَى الشُّغْلِ بِمَاءِ الْمَالِكِ الْأَوَّلِ وَلِهَذَا جَمَعَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فَقَالَ فَقَامَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ الدَّالُّ عَلَيْهِ مَقَامَ كَذَا وَلَكِنْ جَعْلُهُ دَلِيلًا أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ سَبَبًا؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الِاسْتِبْرَاءِ الشُّغْلُ بِمَاءِ الْغَيْرِ لَا مُطْلَقُ الشُّغْلِ وَالِاسْتِحْدَاثُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلشُّغْلِ بِمَاءِ الْغَيْرِ بَلْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا فَكَانَ جَعْلُهُ دَلِيلًا أَوْلَى وَطَرِيقُ ذَلِكَ أَيْ طَرِيقُ وَضْعِ الشَّيْءِ مَقَامَ غَيْرِهِ وَفِقْهُهُ أَيْ الْمَعْنَى الَّذِي جَوَّزَ ذَلِكَ شَرْعًا كَذَا أَحَدُهَا لِدَفْعِ الضَّرُورَةِ أَيْ جَوَّزَ ذَلِكَ لِدَفْعِ الضَّرُورَةِ وَالْعَجْزِ عَنْ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ الْعِلَّةِ كَمَا فِي الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ. وَلِلِاحْتِيَاطِ كَمَا قِيلَ فِي تَحْرِيمِ الدَّوَاعِي فِي الْحُرُمَاتِ فَإِنَّ الزِّنَا حُرِّمَ صَوْنًا لِلْفُرُشِ عَنْ الْفَسَادِ وَحِفْظًا لِلنَّسْلِ عَنْ الضَّيَاعِ ثُمَّ أُقِيمَتْ الدَّوَاعِي مِنْ الْمَسِّ وَالْقُبْلَةِ وَالنَّظَرِ مَقَامَهُ فِي الْحُرْمَةِ وَكَذَلِكَ فِي الظِّهَارِ وَالْعِبَادَاتِ أَيْ أُقِيمَتْ الدَّوَاعِي مَقَامَ الْوَطْءِ فِي الْعِبَادَاتِ فَإِنَّ الْجِمَاعَ فِي حَالَتَيْ الِاعْتِكَافِ وَالْإِحْرَامِ حَرَامٌ ثُمَّ أَحْدَثُ الدَّوَاعِي حِكْمَةً لِلِاحْتِيَاطِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ فِي الْعِبَادَاتِ قَدْ يُقَامُ الشَّيْءُ مَقَامَ غَيْرِهِ لِلِاحْتِيَاطِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ بِالْجَمَاعَةِ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْإِسْلَامِ حَتَّى وَجَبَ لِلْحُكْمِ بِالْإِسْلَامِ بِهَا وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ تَصْدِيقٌ وَلَا إقْرَارٌ وَكَذَا الْإِقْرَارُ الْمُجَرَّدُ أُقِيمَ مَقَامَ الْإِسْلَامِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا حَتَّى وَجَبَ الْعِبَادَاتُ بِهِ احْتِيَاطًا وَإِعْلَاءً لِلدِّينِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَلِدَفْعِ الْحَرَجِ أَيْ الضِّيقِ وَالْمَشَقَّةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَنَّ فِي الْقَسَمِ الْأَوَّلِ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَصْلًا وَفِي هَذَا الْقِسْمِ يُمْكِنُ ذَلِكَ وَلَكِنْ مَعَ نَوْعِ مَشَقَّةٍ وَهُمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْحَرَجَ مَدْفُوعٌ فِي الشَّرْعِ كَالضَّرُورَةِ وَهَذِهِ أَيْ الْأَقْسَامُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي تَقْسِيمِ السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ وُجُوهٌ مُتَقَارِبَةٌ. [بَابُ تَقْسِيمِ الشَّرْطِ] قَوْلُهُ (فَمَا يَمْتَنِعُ بِهِ وُجُودُ الْعِلَّةِ) أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ بِالتَّعْلِيقِ بِهِ وُجُودُ الْعِلَّةِ لَا أَنْ يَمْتَنِعَ بِوُجُودِهِ وُجُودُهَا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ فَإِنَّهَا لَا يَمْتَنِعُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ بَلْ تُوجَدُ بِهِ وَلِهَذَا قَالَ فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ وُجِدَتْ الْعِلَّةُ وَذَلِكَ أَيْ وُجُودُ الشَّرْطِ بِالصِّفَةِ الَّتِي قُلْنَا يُوجَدُ فِي كُلِّ تَعْلِيقٍ بِحَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الشَّرْطِ مِثْلُ قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ وَمَتَى دَخَلْت أَوْ إذَا دَخَلْت فَالدُّخُولُ الَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ الشَّرْطِ شَرْطٌ وَامْتَنَعَتْ الْعِلَّةُ وَهِيَ قَوْلُهُ أَنْتَ حُرٌّ عَنْ الِانْعِقَادِ بَعْدَ وُجُودِ صُورَتِهَا مِنْ حَيْثُ التَّكَلُّمُ لِعَدَمِ الشَّرْطِ فِي الْحَالِ فَإِذَا وُجِدَ الدُّخُولُ يَنْعَقِدُ

وَذَلِكَ فِي كُلِّ تَعْلِيقٍ بِحَرْفِ مِنْ حُرُوفِ الشُّرُوطِ نَحْوُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَكُلَّمَا دَخَلْت وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ أَلَا يُرَى أَنَّ وُجُوبَ الْعِبَادَاتِ يَتَعَلَّقُ بِأَسْبَابِهَا ثُمَّ يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى شَرْطِ الْعِلْمِ حَتَّى إنَّ النَّصَّ النَّازِلَ لَا حُكْمَ لَهُ قَبْلَ الْعِلْمِ مِنْ الْمُخَاطَبِ فَإِنْ أَسْلَمَ مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ مِنْ الشَّرَائِعِ قَبْلَ الْعِلْمِ فَصَارَتْ الْأَسْبَابُ وَالْعِلَلُ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْدُومِ لِعَدَمِ الشَّرْطِ وَكَذَلِكَ رُكْنُ الْعِبَادَاتِ يَنْعَدِمُ لِعَدَمِ شُرُوطِهَا وَهِيَ النِّيَّةُ وَالطَّهَارَةُ لِلصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ رُكْنُ النِّكَاحِ وَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ يَنْعَدِمُ عِنْدَ عَدَمِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَثَرَ الشَّرْطِ عِنْدَنَا انْعِدَامُ الْعِلَّةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَرَاخِي الْحُكْمِ وَكَذَلِكَ هَذَا فِي كُلِّ الشُّرُوطِ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الشَّرْطُ بِصِيغَتِهِ أَوْ دَلَالَتِهِ وَقَطُّ لَا تَنْفَكُّ صِيغَتُهُ عَنْ مَعْنَاهُ فَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] فَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ شَرْطٌ عَادَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَهَذَا قَوْلٌ بِأَنَّهُ لَغْوٌ وَكِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ ـــــــــــــــــــــــــــــQعِلَّةً وَيَصِيرُ تَحْرِيرًا فَيَثْبُتُ بِهِ الْعِتْقُ وَذَلِكَ أَيْ الشَّرْطُ الْمَحْضُ الَّذِي يَتَوَقَّفُ وُجُودُ الْعِلَّةِ عَلَى وُجُودِهِ دَاخِلٌ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ جَمِيعًا أَلَا تَرَى أَنَّ وُجُوبَ الْعِبَادَاتِ يَتَعَلَّقُ بِأَسْبَابِهَا عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ بَيَانِ أَسْبَابِ الشَّرَائِعِ ثُمَّ يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ أَيْ صَيْرُورَةُ السَّبَبِ سَبَبًا عَلَى شَرْطِ عِلْمِ الْعَبْدِ بِالْخِطَابِ الَّذِي بِهِ صَارَ السَّبَبُ سَبَبًا نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] أَوْ عَلَى مَا يَقُومُ مَقَامَ الْعِلْمِ مِنْ شُيُوعِ الْخِطَابِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا شَرَطَ الْعِلْمَ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالْقُدْرَةِ وَهِيَ لَا تَحْصُلُ بِدُونِ الْعِلْمِ فَشَرَطَ الْعِلْمَ لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ. وَلَا يُقَالُ إنَّ الْمُتَوَقِّفَ عَلَى الْعِلْمِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ الَّذِي هُوَ الثَّابِتُ بِالْخِطَابِ لَا كَوْنُهُ سَبَبًا وَلَا نَفْسُ الْوُجُوبِ بِدَلِيلِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَوُجُوبُ الصَّوْمِ عَلَى الْمَجْنُونِ الَّذِي لَمْ يَسْتَغْرِقْ جُنُونُهُ الشَّهْرَ مَعَ عَدَمِ حُصُولِ الْعِلْمِ لِهَؤُلَاءِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْعِلْمُ ثَابِتٌ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ تَقْدِيرًا؛ لِأَنَّ شُيُوعَ الْخِطَابِ وَبُلُوغَهُ إلَى الدَّهْمَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْبُلُوغِ إلَى كُلِّ أَحَدٍ فَإِنَّ مَنْ أَسْلَمَ يَعْنِي مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ مِنْ الشَّرَائِعِ قَبْلَ الْعِلْمِ حَتَّى لَوْ عَلِمَ بِهَا بَعْدَ مُدَّةٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمَّا فَاتَ فِي حَقِّهِ مَنَعَ السَّبَبَ مِنْ الِانْعِقَادِ فَلَمْ يَثْبُتْ الْوُجُوبُ وَلَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالشَّرَائِعِ حَتَّى مَضَى عَلَيْهِ زَمَانٌ ثُمَّ عَلِمَ بِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى لَا لِأَنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَلَكِنْ؛ لِأَنَّ شُيُوعَ الْخِطَابِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَتَيَسُّرَ الْوُصُولِ إلَيْهِ بِأَدْنَى طَلَبٍ يَقُومُ مَقَامَ وُجُودِهِ فَتَصِيرُ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةً حَقِيقَةً بِوُجُودِ الشَّرْطِ حُكْمًا فَصَارَتْ الْأَسْبَابُ مِثْلَ الْوَقْتِ لِلصَّلَاةِ وَشُهُودِ الشَّهْرِ لِلصَّوْمِ وَالْبَيْتِ لِلْحَجِّ وَالْعِلَلُ وَمِثْلُ الْكَيْلِ وَالْجِنْسِ لِلرِّبَا بِمَنْزِلَةِ الْمَعْدُومِ أَيْ الشَّيْءِ الْمَعْدُومِ فِي حَقِّهِ لِعَدَمِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْعِلْمُ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَمَا يَنْعَدِمُ الْأَسْبَابُ وَالْعِلَلُ فِي حَقِّ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِعَدَمِ الشَّرْطِ يَنْعَدِمُ رُكْنُ الْعِبَادَاتِ وَكَذَلِكَ أَيْ وَمِثْلُ انْعِدَامِ رُكْنِ الْعِبَادَاتِ انْعِدَامُ رُكْنِ النِّكَاحِ لِعَدَمِ الشَّرْطِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا يَعْنِي فِي بَيَانِ التَّمَسُّكَاتِ الْفَاسِدَةِ أَنَّ أَثَرَ الشَّرْطِ أَيْ أَثَرَ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ كَذَا وَكَذَلِكَ هَذَا فِي كُلِّ الشُّرُوطِ أَيْ وَمِثْلُ الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ هُنَاكَ الِاخْتِلَافُ فِي كُلِّ الشُّرُوطِ أَوْ وَمِثْلُ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الشُّرُوطِ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الشَّرْطُ بِصِيغَتِهِ بِأَنْ دَخَلَ فِي الْكَلَامِ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الشَّرْطِ فَكَانَ الْفِعْلُ الَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ شَرْطًا أَوْ دَلَالَتَهُ كَمَا بَيَّنَّا فِي قَوْلِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ. قَوْلُهُ (وَقَطُّ لَا تَنْفَكُّ صِيغَةُ الشَّرْطِ عَنْ مَعْنَى الشَّرْطِ) ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ صِيغَةَ الشَّرْطِ قَدْ تَخْلُو عَنْ مَعْنَى الشَّرْطِ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ الشَّرْطَ شَرْطَ تَغْلِيبٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ الشَّرْطُ لَا يَخْلُو فِي الْغَالِبِ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِدُونِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] فَإِنَّهُ مَذْكُورٌ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ وَالْعَادَةِ إذْ الْعَادَةُ الْغَالِبَةُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يُكَاتِبُ الْعَبْدَ إذَا رَأَى فِيهِ خَيْرًا إلَّا أَنَّهُ شَرْطٌ حَقِيقِيٌّ بِدَلِيلِ جَوَازِ كِتَابَةِ الْعَبْدِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ فِيهِ خَيْرٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْفِقْهِ وَلَوْ كَانَ شَرْطًا حَقِيقَةً لَمْ يَجُزْ وَكَمَا فِي

وَلَكِنْ أَدْنَى دَرَجَاتِ الْحُكْمِ اسْتِحْبَابُ الْمَأْمُورِ بِهِ وَاسْتِحْبَابُ الْكِتَابِ مُتَعَلِّقٌ بِهَذَا الشَّرْطِ لَا يُوجَدُ إلَّا بِهِ وَيَنْعَدِمُ قَبْلَهُ فَأَمَّا الْإِبَاحَةُ فَتَسْتَغْنِي عَنْهُ وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ الِاسْتِحْبَابُ أَلَا يُرَى أَنَّ قَوْلَهُ {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] سُنَّةٌ وَاسْتِحْبَابٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْله تَعَالَى {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ} [النساء: 101] أَيْ يَقْتُلَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَإِنَّهُ شَرْطُ تَغْلِيبٍ وَمَذْكُورٌ عَلَى وِفَاقِ الْعَادَةِ فَإِنَّ عَامَّةَ أَسْفَارِ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَمْ يَكُنْ يَخْلُو عَنْ خَوْفِ الْعَدُوِّ لَا أَنَّهُ شَرْطٌ حَقِيقِيٌّ بِدَلِيلِ جَوَازِ الْقَصْرِ حَالَةَ الْأَمْنِ بِالْإِجْمَاعِ إلَّا مَا نُقِلَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ كَانَ يَشْتَرِطُ الْخَوْفَ لِجَوَازِ الْقَصْرِ وَكَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء: 23] . فَإِنَّ ذِكْرَ الْحَجْرِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الشَّرْطِ إذْ الْقَيْدُ شَرْطٌ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ إذْ الرَّبِيبَةُ تُرَبَّى فِي حِجْرِ الرَّبِّ فِي الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ لَا أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الشَّرْطَ حَقِيقَةً بِدَلِيلِ حُرْمَةِ الرَّبِيبَةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِهِ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ إذَا كَانَ دَخَلَ بِأُمِّهَا قَالُوا وَالْفَائِدَةُ فِي تَخْصِيصِ اللَّهِ تَعَالَى حَالَ الِابْتِلَاءِ بِتِلْكَ الْحَادِثَةِ فِي الْعَادَاتِ بِالذِّكْرِ كَوْنُهَا أَوْلَى بِالْبَيَانِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَيْهَا أَمَسُّ فَرَدَّ الشَّيْخُ ذَلِكَ وَقَالَ صِيغَةُ الشَّرْطِ لَا تَخْلُو عَنْ مَعْنَى الشَّرْطِ قَطُّ خُصُوصًا فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِهِ يُؤَدِّي إلَى الْغَايَةِ وَإِدْخَالِهِ فِي جِنْسِ مَا لَا مَعْنَى لَهُ مِنْ الْأَصْوَاتِ. وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ لَغْوٌ ثُمَّ أَشَارَ إلَى الْجَوَابِ عَنْ مُتَمَسَّكِهِمْ فَقَالَ فِي الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِ {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] أَنَّ أَدْنَى دَرَجَاتِ الْأَمْرِ أَيْ أَدْنَى دَرَجَاتِهِ الَّتِي يُوجَدُ فِيهَا مَعْنَى الْحَقِيقَةِ وَهُوَ الطَّلَبُ كَذَا وَعِبَارَةُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ حَيْثُ قَالَ الْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ تَارَةً وَلِلنَّدَبِ أُخْرَى أَبْعَدُ عَنْ الِاشْتِبَاهِ لَا يُوجَدُ الِاسْتِحْبَابُ إلَّا بِهَذَا الشَّرْطِ وَهُوَ رُؤْيَةُ الْخَيْرِيَّةِ وَيُعْدَمُ الِاسْتِحْبَابُ قَبْلَ هَذَا الشَّرْطِ فَكَانَ هَذَا الشَّرْطُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَأَمَّا الْإِبَاحَةُ أَيْ إبَاحَةُ الْكِتَابَةِ فَتَسْتَغْنِي عَنْ هَذَا الشَّرْطِ أَيْ هِيَ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالشَّرْطِ فَيَجُوزُ الْكِتَابَةُ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ خَيْرٌ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ إعْتَاقُهُ فَالْكِتَابَةُ أَوْلَى وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِ الْمَالُ عِنْدَ الْبَعْضِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] وَمَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ كَسُوبًا يَقْدِرُ عَلَى أَدَاءِ الْبَدَلِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْهُ الدِّيَانَةُ وَحُسْنُ خِدْمَةِ الْمَوْلَى فَإِذَا رَأَى الْمَوْلَى ذَلِكَ مِنْهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُكَاتِبَهُ جَزَاءً عَلَى فِعْلِهِ وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ الِاسْتِصْحَابُ إلَّا عِنْدَ دَاوُد بْنِ عَلِيٍّ وَعَطَاءٍ وَابْنُ سِيرِينَ فَإِنَّهُمْ حَمَلُوهُ عَلَى الْوُجُوبِ إذَا عَلِمَ الْمَوْلَى فِيهِ خَيْرًا وَطَلَبَ الْعَبْدُ الْكِتَابَةَ وَنُقِلَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ اللَّهِ أَيْ وَاجِبٌ مِنْ وَاجِبَاتِهِ أَلَا تَرَى قَوْله تَعَالَى {وَآتُوهُمْ} [النور: 33] أَيْ حُطُّوا عَنْهُمْ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ شَيْئًا مَا أَحَبَبْتُمْ رُبْعًا فَمَا دُونَهُ سُنَّةً وَاسْتِحْبَابًا فَكَذَا الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَلَامِ الِانْتِظَامُ وَالِاتِّسَاقُ وَإِنْ كَانَ الْقِرَانُ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ وَهَذَا التَّوْضِيحُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا حُمِلَ الْإِيتَاءُ عَلَى الْحَطِّ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ كَمَا قُلْنَا وَإِنْ حُمِلَ عَلَى الْإِعَانَةِ مِنْ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ وَإِعْطَائِهِمْ سَهْمَهُمْ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ بِقَوْلِهِ فِي الرِّقَابِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ فَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَالْخِطَابُ عَامٌّ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا يَصِحُّ التَّوْضِيحُ وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا} [النساء: 25] فَإِنَّهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ عَلَى وِفَاقِ الْعَادَةِ عِنْدَنَا بَلْ لِبَيَانِ النَّدْبِ فَإِنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ مَعَ طَوْلِ الْحُرَّةِ إنْ كَانَ مُبَاحًا لَكِنَّهُ غَيْرُ مَنْدُوبٍ إلَيْهِ وَإِنَّمَا يُنْدَبُ إلَيْهِ بِشَرْطِ عَدَمِ طَوْلِ الْحُرَّةِ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] وَيُقَالُ اسْتِحْبَابُ شَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ مُتَعَلِّقٌ

وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] لَيْسَ بِشَرْطٍ عَادَةً بَلْ هُوَ شَرْطٌ أُرِيدَ بِهِ حَقِيقَةُ مَا وُضِعَ لَهُ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّصِّ قَصْرُ الْأَحْوَالِ وَهُوَ أَنْ يُومِئَ عَلَى الدَّابَّةِ وَيُخَفِّفَ الْقِرَاءَةَ وَالتَّسْبِيحَ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ} [البقرة: 239] . وَقَالَ تَعَالَى {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء: 103] وَقَصْرُ الْأَحْوَالِ يَتَعَلَّقُ بِقِيَامِ الْخَوْفِ عِيَانًا لَا بِنَفْسِ السَّفَرِ فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء: 23] فَلَمْ يَذْكُرْ الْحُجُورَ شَرْطًا وَإِنَّمَا الشَّرْطُ قَوْلُهُ {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] وَهُوَ شَرْطٌ اسْمًا وَحُكْمًا ـــــــــــــــــــــــــــــQبِعَدَمِ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ كَمَا قُلْنَا فِي الْكِتَابَةِ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَمِثْلُ قَوْله تَعَالَى {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33] الْآيَةَ قَوْلُهُ {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] غَيْرُ مَذْكُورٍ عَلَى وِفَاقِ الْعَادَةِ بَلْ هُوَ شَرْطٌ أُرِيدَ بِهِ حَقِيقَةُ مَا وُضِعَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ قَصْرُ الْأَحْوَالِ لَا قَصْرُ الذَّاتِ كَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقَصْرُ الْأَحْوَالِ أَنْ يَقْصُرَ عَنْ بَعْضِ أَوْصَافِ الصَّلَاةِ كَالْأَدَاءِ رَاكِبًا بِإِيمَاءٍ وَالْإِيجَازِ فِي الْقِرَاءَةِ وَتَخْفِيفِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَتَرْكِ الِاعْتِدَالِ فِي الْأَرْكَانِ ثُمَّ اسْتَوْضَحَ مَا ذَكَرَ بِقَوْلِهِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ خِفْتُمْ} [البقرة: 239] أَيْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ خَوْفٌ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ غَيْرِهِ فَرِجَالًا جَمْعُ رَاجِلٍ كَقَائِمٍ وَقِيَامٍ أَيْ عَلَى أَقْدَامِكُمْ أَوْ رُكْبَانًا بِإِيمَاءٍ {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} [البقرة: 196] فَإِذَا زَالَ خَوْفُكُمْ فَاذْكُرُوا أَيْ صَلُّوا كَمَا عَلَّمَكُمْ مِنْ صَلَاةِ الْأَمْنِ فَعَلَّقَ بِالْخَوْفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَصْرَ الْأَحْوَالِ لَا قَصْرَ الذَّاتِ فَيَكُونُ هُوَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ} [النساء: 103] أَيْ أَمِنْتُمْ مِنْ الْعَدُوِّ {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء: 103] أَيْ أَطِيلُوا قِيَامَهَا وَرُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا عَلَى حَسَبِ مَا يَلِيقُ بِحَالِ الْحَضَرِ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ السُّدِّيَّ وَغَيْرِهِ فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ لِبَيَانِ مَا يُبَاحُ بِالْخَوْفِ مِنْ قَصْرِ الْأَحْوَالِ وَقَصْرُ الْأَحْوَالِ أَيْ جَوَازُهُ وَسُقُوطُ كَرَاهَتِهِ يَتَعَلَّقُ بِقِيَامِ الْخَوْفِ عِيَانًا فَكَانَ هَذَا الشَّرْطُ عَلَى حَقِيقَتِهِ أَيْضًا فَإِنْ قِيلَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ شَرْطَانِ الْخَوْفُ وَالضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ وَالْقَصْرُ مُتَعَلِّقٌ بِهِمَا ثُمَّ الْمُتَعَلِّقُ بِالضَّرْبِ قَصْرُ الذَّاتِ لَا قَصْرُ الْأَحْوَالِ إذْ هُوَ ثَابِتٌ فِي حَالَةِ الْإِقَامَةِ أَيْضًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِالْخَوْفِ قَصْرُ الذَّاتِ أَيْضًا قُلْنَا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ لَيْسَ لِتَعْلِيقِ الْقَصْرِ بِهِ بَلْ الشَّرْطُ الثَّانِي هُوَ الَّذِي تَعَلَّقَ الْقَصْرُ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ إذَا دَخَلْت فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت زَيْدًا كَانَ الطَّلَاقُ مُتَعَلِّقًا بِالْكَلَامِ لَا بِالدُّخُولِ وَكَانَ الدُّخُولُ شَرْطَ الِانْعِقَادِ فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا يَتَعَلَّقُ الْقَصْرُ بِالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ بَلْ بِالْخَوْفِ هَذَا مُوجِبُ اللُّغَةِ وَالْقَصْرُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْخَوْفِ قَصْرُ الْأَحْوَالِ لَا قَصْرُ الذَّاتِ غَيْرَ أَنَّهُ يَقْتَضِي تَعَلُّقَ الْقَصْرِ بِالْخَوْفِ بَعْدَ وُجُودِ الضَّرْبِ لَكِنْ تُرِكَ هَذَا بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ فَإِنَّ الْقَصْرَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْخَوْفِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَقَدُّمُ السَّفَرِ بِالْإِجْمَاعِ وَفِي قَصْرِ الذَّاتِ يُشْتَرَطُ السَّفَرُ دُونَ الْخَوْفِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ النَّصِّ. وَلَا يُقَالُ نَحْنُ نُعَلِّقُ قَصْرَ الذَّاتِ بِالضَّرْبِ وَنَتْرُكُ مُقْتَضَى قَوْلِهِ إنْ خِفْتُمْ بِالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ وَالْإِجْمَاعِ أَيْضًا؛ لِأَنَّا نَقُولُ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ لَا يَصْلُحُ لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِ بَلْ هُوَ شَرْطٌ لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالشَّرْطِ الثَّانِي فَكَانَ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ أَوْلَى وَلَكِنْ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ يَلْزَمُ مِمَّا ذَهَبْتُمْ إلَيْهِ خُلُوُّ صِيغَةِ الشَّرْطِ عَنْ مَعْنَاهُ أَيْضًا فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ} [النساء: 101] كَمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ مِمَّا ذَهَبْنَا إلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 3] فَلَا يُجْدِيكُمْ هَذَا التَّأْوِيلُ نَفْعًا؛ لِأَنَّ خُلُوَّ الصِّيغَةِ عَنْ مَعْنَى الشَّرْطِ لَازِمٌ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ وَلَا يَنْفَعُكُمْ التَّمَسُّكُ بِالدَّلِيلِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النِّزَاعَ وَاقِعٌ فِيهِ فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يَقُلْ بِجَوَازِ خُلُوِّهِ عَنْ مَعْنَاهُ بِلَا دَلِيلٍ فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23] فَلَمْ يَذْكُرْ الْحُجُورَ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ الشَّرْطِ أَيْ لَيْسَ بِشَرْطِ صِيغَةٍ إذْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ أَلْفَاظِ الشَّرْطِ وَلَا دَلَالَةَ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَرَبَائِبُكُمُ} [النساء: 23] مُعَرَّفٌ وَالْوَصْفُ فِي الْمُعَرَّفِ لَا يُفِيدُ مَعْنَى الشَّرْطِ كَمَا فِي قَوْلِهِ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَزَوَّجُهَا طَالِقٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى

وَكَذَلِكَ دَلَالَةُ الشَّرْطِ لَا تَنْفَكُّ عَنْ مَدْلُولِهِ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ الرَّجُلِ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَزَوَّجُ طَالِقٌ ثَلَاثًا هَذَا الْكَلَامُ بِمَعْنَى الشَّرْطِ دَلَالَةً لِوُقُوعِ الْوَصْفِ فِي النَّكِرَةِ وَلَوْ وَقَعَ فِي الْعَيْنِ لَمَا صَلَحَ دَلَالَةً وَنَصُّ الشَّرْطِ بِجَمِيعِ الْوَجْهَيْنِ. وَأَمَّا الشَّرْطُ الَّذِي هُوَ فِي حُكْمِ الْعِلَلِ فَإِنَّ كُلَّ شَرْطٍ لَمْ يُعَارِضْهُ عِلَّةٌ صَلَحَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً يُضَافُ إلَيْهِ الْحُكْمُ وَمَتَى عَارَضَهُ عِلَّةٌ لَمْ يَصْلُحْ عِلَّةً وَذَلِكَ لِمَا قُلْنَا إنَّ الشَّرْطَ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُودُ دُونَ الْوُجُوبِ فَصَارَ شَبِيهًا بِالْعِلَلِ وَالْعِلَلُ أُصُولٌ لَكِنَّهَا لَمَّا لَمْ تَكُنْ عِلَلًا بِذَوَاتِهَا اسْتَقَامَ أَنْ يُخْلِفَهَا الشُّرُوطَ وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ لِعُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ عَلَى سَبِيلِ الشَّرْطِ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْحَجْرَ فِي عَكْسِهِ أَعْنِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] فَلَوْ كَانَتْ الْحُرْمَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْوَصْفَيْنِ جَمِيعًا لِذِكْرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ ذِكْرِ الْإِبَاحَةِ بِأَنْ قِيلَ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ أَوْ لَمْ تَكُنْ الرَّبَائِبُ فِي حُجُورِكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِالشَّرْطَيْنِ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِاخْتِصَاصِ الدُّخُولِ بِالنَّفْيِ دُونَ الْحُجُورِ فَائِدَةٌ لَوْ كَانَ الْحَجْرُ مَذْكُورًا عَلَى سَبِيلِ الشَّرْطِ. قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَعْضِ تَصَانِيفِهِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْحَجْرَ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْإِنْسَانِ أَنْ يُضَيِّعَ الشَّيْءَ الَّذِي يُحَرَّمُ عَلَيْهِ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ فَاَللَّهُ تَعَالَى أَشَارَ بِمُرَاعَاةِ مَنْ فِي حَجْرِهِ مَعَ كَوْنِهِ حَرَامًا عَلَيْهِ وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَبْغَضُ الرَّبِيبَ وَالرَّبِيبَةَ طَبْعًا وَيَتَنَفَّرُ عَنْهُمَا عَادَةً فَكَانَ ذِكْرُ الْحَجْرِ تَحْرِيضًا لَهُ عَلَى التَّرْبِيَةِ وَتَرْغِيبًا إلَى مُخَالَفَةِ مَا يَدْعُو إلَيْهِ الطَّبْعُ إذْ فِي ذَلِكَ تَضْيِيعُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ وَهُوَ شَرْطٌ اسْمًا وَحُكْمًا أَيْ عَدَمُ الدُّخُولِ بِالْمَرْأَةِ شَرْطٌ حَقِيقِيٌّ مَحْضٌ لِإِبَاحَةِ الْبِنْتِ صِيغَةً لِوُجُودِ حَرْفِ الشَّرْطِ فِيهِ وَحُكْمًا لِتَوَقُّفِ الْحُكْمِ وَهُوَ الْإِبَاحَةُ عَلَى تَحَقُّقِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْحُكْمِ إذْ مَعْنَى الشَّرْطِ لَيْسَ إلَّا تَوَقُّفَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهَا التَّأْثِيرُ وَهُوَ غَيْرُ الْحُكْمِ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ دَلَالَةُ الشَّرْطِ) أَيْ كَمَا لَا يَنْفَكُّ صِيغَةُ الشَّرْطِ عَنْ مَعْنَاهُ لَا يَنْفَكُّ دَلَالَةُ الشَّرْطِ عَنْ مَدْلُولِهَا وَهُوَ مَعْنَى الشَّرْطِ وَذَلِكَ أَيْ ثُبُوتُ الشَّرْطِ دَلَالَةً وَعَدَمُ انْفِكَاكِهِ عَنْ الْمَدْلُولِ مِثْلُ قَوْلِ الرَّجُلِ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَزَوَّجُهَا طَالِقٌ أَوْ مِثْلُ قَوْلِهِ لِنِسَائِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَدْخُلُ مِنْكُنَّ الدَّارَ فَهِيَ طَالِقٌ هَذَا الْكَلَامُ بِمَعْنَى التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ دَلَالَةً وَالتَّزَوُّجُ وَدُخُولُ الدَّارِ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ حَتَّى يَتَوَقَّفَ وُجُودُ الْعِلَّةِ عَلَى وُجُودِ التَّزَوُّجِ وَالدُّخُولِ أَوْ الدُّخُولُ دَخَلَ عَلَى امْرَأَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ فَكَانَتْ نَكِرَةً وَالْوَصْفُ فِي النَّكِرَةِ مُعْتَبَرٌ لِتَعَرُّفِهَا بِهِ فَصَلَحَ دَلَالَةً عَلَى الشَّرْطِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ تَزَوَّجْت امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ أَوْ قَالَ إنْ دَخَلَتْ وَاحِدَةٌ مِنْكُنَّ الدَّارَ فَهِيَ طَالِقٌ. وَلَوْ وَقَعَ الْوَصْفُ فِي الْعَيْنِ بِأَنْ أَشَارَ إلَى امْرَأَةٍ وَقَالَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَزَوَّجُهَا أَوْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَدْخُلُ الدَّارَ فَكَذَا لَمْ يَصْلُحْ دَلَالَةً عَلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ فِي الْعَيْنِ لَغْوٌ فَيَبْقَى قَوْلُهُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ طَالِقٌ فَيَلْغُو فِي الْأَجْنَبِيَّةِ وَيَتَنَجَّزُ فِي الْمَنْكُوحَةِ ثُمَّ أَشَارَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ دَلَالَةِ الشَّرْطِ وَصَرِيحِ الشَّرْطِ فَقَالَ وَنَصُّ الشَّرْطِ لِجَمْعِ الْوَجْهَيْنِ يَعْنِي لَوْ أَتَى بِصَرِيحِ الشَّرْطِ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهِ فِي الْمُعَيَّنِ وَغَيْرِ الْمُعَيَّنِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ إنْ تَزَوَّجْت امْرَأَةً فَهِيَ كَذَا أَوْ يَقُولُ إنْ تَزَوَّجْت هَذِهِ الْمَرْأَةَ فَهِيَ كَذَا يَتَعَلَّقُ الطَّلَاقُ بِالشَّرْطِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الشَّرْطُ الَّذِي هُوَ فِي حُكْمِ الْعِلَلِ) وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ الشَّرْطِ فَإِنَّ كُلَّ شَرْطٍ لَمْ يُعَارِضْهُ عِلَّةٌ صَالِحَةٌ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا صَلَحَ ذَلِكَ الشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً يُضَافُ إلَيْهِ الْحُكْمُ أَيْ صَلَحَ عِلَّةً فِي حَقِّ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ خَلَفًا عَنْ الْعِلَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَمَتَى عَارَضَ الشَّرْطَ عِلَّةٌ صَالِحَةٌ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا لَمْ يَصْلُحْ الشَّرْطُ عِلَّةً لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى إثْبَاتِ الْخِلَافَةِ وَذَلِكَ أَيْ عَدَمُ صَلَاحِيَةِ الشَّرْطِ لِلْخِلَافَةِ عِنْدَ صَلَاحِيَةِ الْعِلَّةِ لِلْإِضَافَةِ إلَيْهَا لَمَّا قُلْنَا إنَّ الشَّرْطَ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُودُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُوجَدُ عِنْدَ وُجُودِهِ دُونَ الْوُجُوبِ أَيْ الْإِثْبَاتِ إذْ لَا تَأْثِيرَ لَهُ

فَقَدْ قَالُوا فِي شُهُودِ الشَّرْطِ وَالْيَمِينِ إذَا رَجَعُوا بَعْدَ الْحُكْمِ إنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ عَلَى شُهُودِ الْيَمِينِ لِأَنَّهُمْ شُهُودُ الْعِلَّةِ وَكَذَلِكَ الْعِلَّةُ وَالسَّبَبُ إذَا اجْتَمَعَا سَقَطَ حُكْمُ السَّبَبِ كَشُهُودِ التَّخْيِيرِ وَالِاخْتِيَارِ إذَا اجْتَمَعُوا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ثُمَّ رَجَعُوا بَعْدَ الْحُكْمِ فَإِنَّ الضَّمَانَ عَلَى شُهُودِ الِاخْتِيَارِ لِأَنَّهُ هُوَ الْعِلَّةُ وَالتَّخْيِيرُ سَبَبٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِيهِ. فَصَارَ الشَّرْطُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ شَبِيهًا بِالْعِلَلِ وَالْعِلَلُ أُصُولٌ يَعْنِي فِي إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ وَإِضَافَتِهَا إلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ وَالْإِيجَابِ فَلَا يَجُوزُ مَعَ وُجُودِ حَقِيقَةِ الْعِلَّةِ وَصَلَاحِهَا لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا أَنْ يُضَافَ إلَى مَالِهِ شَبَهُ الْعِلَّةِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْلُفَهَا الشَّرْطُ أَصْلًا إذْ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي إيجَادِ الْحُكْمِ بِوَجْهٍ كَمَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ لَكِنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مَالًا بِذَوَاتِهَا بَلْ هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ أَمَارَاتٌ عَلَى الْأَحْكَامِ كَالشُّرُوطِ اسْتَقَامَ أَنْ يَخْلُفَهَا الشُّرُوطُ فِي حَقِّ إضَافَةِ الْحُكْمِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْإِضَافَةِ إلَيْهَا لِتَحَقُّقِ الشَّبَهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَمَا بَيَّنَّاهُ وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ أَيْ اعْتِبَارُ الْعِلَّةِ عِنْدَ صَلَاحِهَا لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا وَتَرْجِيحُهَا عَلَى الشَّرْطِ أَصْلٌ كَبِيرٌ لِعُلَمَائِنَا فَقَدْ قَالُوا فِي شُهُودِ الشَّرْطِ وَالْيَمِينِ إذَا رَجَعُوا بِأَنْ شَهِدَ فَرِيقٌ لِامْرَأَةٍ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا بِتَعْلِيقِ الزَّوْجِ طَلَاقَهَا بِدُخُولِ الدَّارِ أَوْ شَهِدُوا لِعَبْدٍ بِتَعْلِيقِ الْمَوْلَى عِتْقَهُ بِشَرْطٍ ثُمَّ شَهِدَ آخَرُونَ بِوُجُودِ الشَّرْطِ ثُمَّ رَجَعُوا جَمِيعًا بَعْدَ الْحُكْمِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَلُزُومِ نِصْفِ الْمَهْرِ أَوْ بِالْحُرِّيَّةِ أَنَّ الضَّمَانَ أَيْ ضَمَانَ الْعَبْدِ وَضَمَانَ مَا أَدَّاهُ الزَّوْجُ إلَى الْمَرْأَةِ وَهُوَ نِصْفُ الْمَهْرِ عَلَى شُهُودِ الْيَمِينِ أَيْ التَّعْلِيقَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُمْ شُهُودُ الْعِلَّةِ فَإِنَّهُمْ أَثْبَتُوا قَوْلَ الزَّوْجِ أَنْتِ طَالِقٌ وَقَوْلَ الْمَوْلَى أَنْتَ حُرٌّ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَالِحٌ لِإِضَافَةِ الطَّلَاقِ أَوْ الْعِتْقِ إلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ إضَافَتُهُ إلَى الشَّرْطِ فَلَمْ يَضْمَنْ شُهُودُ الشَّرْطِ شَيْئًا وَسُمِّيَ شُهُودُ التَّعْلِيقِ شُهُودَ الْعِلَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عِلَّةً قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ إمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِعَرْضٍ أَنْ يَصِيرَ عِلَّةً فَكَانَ هَذَا تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِمَا يَئُولُ إلَيْهِ أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْفَرِيقَيْنِ لَمَّا شَهِدُوا أَوْ قَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ قَدْ ثَبَتَ لِلْمُعَلَّقِ اتِّصَالٌ بِالْمَحَلِّ بِوُجُودِ الشَّرْطِ فِي زَعْمِهِمْ وَصَارَ عِلَّةً حَقِيقَةً فَيَصِحُّ تَسْمِيَتُهُمْ بِشُهُودِ الْعِلَّةِ. وَإِنَّمَا وَجَبَ الضَّمَانُ فِيمَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِأَنَّهُ تَزَوَّجَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ دَخَلَ بِهَا ثُمَّ رَجَعُوا بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَى شَاهِدَيْ الدُّخُولِ وَإِنْ كَانَا شَاهِدَيْ شَرْطٍ وَالْعِلَّةُ فِي إيجَابِ الْمَهْرِ هُوَ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ شَاهِدَيْ الدُّخُولِ أَبْرَآ شُهُودَ النِّكَاحِ عَنْ الضَّمَانِ حَيْثُ أَدْخَلَا فِي مِلْكِ الزَّوْجِ عِوَضَ مَا غَرِمَ مِنْ الْمَهْرِ وَهُوَ اسْتِيفَاءُ مَنَافِعِ الْبُضْعِ وَهَاهُنَا شُهُودُ الشَّرْطِ لَمْ يُبَرِّئُوا شُهُودَ التَّعْلِيقِ عَنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُدْخِلُوا فِي مِلْكِ الزَّوْجِ عِوَضَ مِلْكِ النِّكَاحِ الْمُوجِبِ لِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ فَيَبْقَى هَذِهِ شَهَادَةٌ عَلَى شَرْطٍ مَحْضٍ فَلَمْ يُضَفْ الضَّمَانُ إلَيْهِمْ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَمَا سَقَطَ اعْتِبَارُ الشَّرْطِ عِنْدَ صَلَاحِ الْعِلَّةِ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا سَقَطَ حُكْمُ السَّبَبِ إذَا اجْتَمَعَ السَّبَبُ وَالْعِلَّةُ الصَّالِحَةُ لِلْإِضَافَةِ أَيْضًا كَشُهُودِ التَّخْيِيرِ وَالِاخْتِيَارِ إذَا اجْتَمَعُوا فِي الطَّلَاقِ بِأَنْ شَهِدَ جَمَاعَةٌ بِأَنَّ الزَّوْجَ قَالَ لِامْرَأَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فِي الْمَجْلِسِ الْفُلَانِيِّ اخْتَارِي نَفْسَك وَشَهِدَ آخَرُونَ بِأَنَّهَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَالْعَتَاقُ بِأَنْ شَهِدَ فَرِيقٌ بِأَنَّ الْمَوْلَى قَالَ لِعَبْدِهِ فِي الْمَجْلِسِ الْفُلَانِيِّ أَنْتَ حُرٌّ إنْ شِئْت أَوْ قَالَ لَهُ اخْتَرْ عِتْقَك وَشَهِدَ آخَرُونَ بِأَنَّ الْعَبْدَ قَالَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ قَدْ شِئْت أَوْ قَالَ اخْتَرْت الْعِتْقَ ثُمَّ رَجَعُوا جَمِيعًا بَعْدَ الْحُكْمِ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ فَإِنَّ الضَّمَانَ أَيْ ضَمَانَ نِصْفِ الْمَهْرِ فِي الطَّلَاقِ وَضَمَانَ الْعَبْدِ فِي الْعَتَاقِ عَلَى شُهُودِ الِاخْتِيَارِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ هُوَ الْعِلَّةُ؛ لِأَنَّ لُزُومَ الْمَهْرِ وَفَوَاتَ مَالِيَّةِ الْعَبْدِ يَحْصُلُ بِهِ لَا بِالتَّخْيِيرِ وَالتَّخْيِيرُ سَبَبٌ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ مُفْضٍ إلَيْهِ فَكَانَ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَى

فَأَمَّا إذَا سَلِمَ الشَّرْطُ عَنْ مُعَارَضَةِ الْعِلَّةِ صَلَحَ عِلَّةً لِمَا قُلْنَا وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ عُلَمَائِنَا فِي رَجُلٌ قَيَّدَ عَبْدَهُ ثُمَّ حَلَفَ فَقَالَ إنْ كَانَ قَيْدُهُ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ فَهُوَ حُرٌّ ثُمَّ قَالَ وَإِنْ حَلَّهُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ فَهُوَ حُرٌّ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ الْقَيْدَ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ فَقَضَى الْقَاضِي ثُمَّ حَلَّهُ وَوَزَنَهُ فَإِذَا هُوَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ يَضْمَنَانِ قِيمَتَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْإِعْتَاقِ يَنْفُذُ عِنْدَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَقَدْ وَجَبَ الْعِتْقُ بِشَهَادَتِهِمَا وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنَانِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَمْ يَنْفُذْ فِي الْبَاطِنِ فَوَقَعَ الْعِتْقُ بِحَلِّ الْقَيْدِ وَهَذَانِ الشَّاهِدَانِ أَثْبَتَا شَرْطَ الْعِتْقِ لَا عِلَّةَ الْعِتْقِ وَمَعَ ذَلِكَ ضَمِنَا مِنْ قِبَلِ أَنَّ عِلَّةَ الْعِتْقِ لَا يَصْلُحُ لِضَمَانِ الْعِتْقِ وَهُوَ يَمِينُ الْمَوْلَى فَجُعِلَ الشَّرْطُ عِلَّةً ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعِلَّةِ دُونَ السَّبَبِ فَلَا يَضْمَنُ شُهُودُ السَّبَبِ شَيْئًا كَمَا لَا يَضْمَنُ شُهُودُ الشَّرْطِ. قَوْلُهُ (فَأَمَّا إذَا سَلِمَ الشَّرْطُ عَنْ مُعَارَضَةِ الْعِلَّةِ) أَيْ الْعِلَّةِ الصَّالِحَةِ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا صَلَحَ الشَّرْطُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ لِمَا قُلْنَا مِنْ شَبَهِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرْطِ وَالْعِلَّةِ بِالْآخَرِ فَكَانَ هَذَا الْقِسْمُ عِلَّةً حُكْمًا لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ لَا اسْمًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ لَهُ شَرْعًا وَلَا مَعْنًى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤَثِّرٍ فِي الْحُكْمِ لَكِنَّ الشَّيْخَ أَوْرَدَهُ فِي أَقْسَامِ الشَّرْطِ لِكَوْنِهِ شَرْطًا اسْمًا وَمَعْنًى وَذَلِكَ أَيْ الشَّرْطُ الَّذِي سَلِمَ عَنْ مُعَارَضَةِ الْعِلَّةِ وَصَلَحَ عِلَّةً مِثْلُ قَوْلِ عُلَمَائِنَا إلَى آخِرِهِ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ يَضْمَنَانِ قِيمَتَهُ لِلْمَوْلَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَضْمَنَانِ لَهُ شَيْئًا وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي يَنْفُذُ بِالْحُجَّةِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْقَضَاءِ بِالْحُجَّةِ وَالْحُجَّةُ بَاطِلَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ لِكَوْنِهَا كَذِبًا وَلَكِنَّ الْعَدَالَةَ الظَّاهِرَةَ دَلِيلُ الصِّدْقِ ظَاهِرًا فَاعْتُبِرَتْ حُجَّةً فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ دُونَ تَنْفِيذِ الْقَضَاءِ حَقِيقَةً وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ بَنَى الْقَضَاءَ عَلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَأَمَرَ بِالْعَمَلِ بِهِ فَيَجِبُ صَوْنُ قَضَائِهِ عَنْ الْبُطْلَانِ وَتَصْحِيحُهُ مَا أَمْكَنَ وَقَدْ أَمْكَنَ ذَلِكَ بِإِثْبَاتِ التَّصَرُّفِ الْمَشْهُودِ سَابِقًا عَلَى الْقَضَاءِ فَيَجِبُ إثْبَاتُهُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ صَوْنًا لِلْقَضَاءِ عَنْ الْبُطْلَانِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كَانَ الْقَضَاءُ بِالْحُرِّيَّةِ عِنْدَهُمَا نَافِذًا فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ وَكَانَ الْعِتْقُ وَاقِعًا بِحَلِّ الْقَيْدِ لَا بِالشَّهَادَةِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ وَعِنْدَهُ كَانَ الْقَضَاءُ بِالْعِتْقِ نَافِذًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَالْقَضَاءُ كَانَ بِشَهَادَتِهِمَا وَقَدْ وَجَبَ الْعِتْقُ أَيْ ثَبَتَ بِشَهَادَتِهِمَا قَبْلَ حَلِّ الْقَيْدِ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمَا شَهِدَا بِالْبَاطِنِ فَيَضْمَنَانِ قِيمَةَ الْعَبْدِ فَإِنْ قِيلَ قَضَاءُ الْقَاضِي إنَّمَا يَنْفُذُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا لَمْ يَتَيَقَّنْ بِبُطْلَانِهِ وَبَعْدَ التَّيَقُّنِ لَا يَنْفُذُ كَمَا لَوْ ظَهَرَ أَنَّ الشُّهُودَ عَبِيدٌ أَوْ كُفَّارٌ وَهَاهُنَا تَيَقَّنَّا بِبُطْلَانِ الْحُجَّةِ حِينَ كَانَ وَزْنُ الْقَيْدِ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ أَرْطَالٍ فَلَا يَنْفُذُ الْقَضَاءُ بَاطِنًا فَيَعْتِقُ الْعَبْدُ بِالْحَلِّ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ قُلْنَا لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ نُفُوذُ الْقَضَاءِ عِنْدَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَسْقُطُ مِنْ الْقَاضِي بِعُرْفِ مَا لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى مَعْرِفَتِهِ وَهُوَ حَقِيقَةُ صِدْقِ الشُّهُودِ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْوُقُوفُ عَلَى مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مِنْ كُفْرِهِمْ وَرِقِّهِمْ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُقُوفُ هَاهُنَا عَلَى حَقِيقَةِ وَزْنِ الْقَيْدِ إذْ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الْحَلِّ وَأَدْخَلَهُ عِتْقُ الْعَبْدِ فَسَقَطَ عَنْهُ حَقِيقَةُ مَعْرِفَةِ وَزْنِ الْقَيْدِ وَنَفَذَ قَضَاؤُهُ بِالْعِتْقِ بِشَهَادَتِهِمَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ قَوْلُهُ (وَهَذَانِ الشَّاهِدَانِ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ بِشَهَادَتِهِمَا وَجَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ سَلَّمْنَا أَنَّ الْقَضَاءَ يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إلَّا أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ أَثْبَتَا شَرْطَ الْعِتْقِ وَهُوَ كَوْنُ الْقَيْدِ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ لَا عِلَّةَ الْعِتْقِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى شُهُودِ الشَّرْطِ فَقَالَ إنَّهُمَا ضَمِنَا مِنْ قِبَلِ أَنَّ عِلَّةَ الْعِتْقِ لَا يَصْلُحُ لِضَمَانِ الْعِتْقِ لِزَوَالِ صِفَةِ التَّعَدِّي عَنْهَا؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ وَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ كَمَا إذَا بَاعَ مَالَ نَفْسِهِ أَوْ أَكَلَ طَعَامَ نَفْسِهِ فَجَعَلَ الشَّرْطَ عِلَّةً لِخُلُوِّهِ عَنْ مُعَارَضَةِ مَا يَصْلُحُ عِلَّةً كَمَا فِي حَفْرِ الْبِئْرِ. وَفِي مَسْأَلَةِ رُجُوعِ الْفَرِيقَيْنِ أَيْ رُجُوعِ شُهُودِ الشَّرْطِ وَشُهُودِ الْيَمِينِ إيجَابُ كَلِمَةِ الْعِتْقِ أَيْ إثْبَاتُهَا وَهِيَ قَوْلُهُ أَنْتَ حُرٌّ يَصْلُحُ عِلَّةً لِضَمَانِ الْعُدْوَانِ؛ لِأَنَّهَا ثَبَتَتْ بِطَرِيقِ التَّعَدِّي لِظُهُورِ كَوْنِهَا كَذِبًا بِالرُّجُوعِ فَلَمْ يَكُنْ الشَّرْطُ عِلَّةً أَيْ فِي حُكْمِ الْعِلَّةِ

وَفِي مَسْأَلَةِ رُجُوعِ الْفَرِيقَيْنِ إيجَابُ كَلِمَةِ الْعِتْقِ يَصْلُحُ لِضَمَانِ الْعُدْوَانِ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ بِطَرِيقِ التَّعَدِّي فَلَمْ يُجْعَلْ الشَّرْطُ عِلَّةً وَإِذَا رَجَعَ شُهُودُ الشَّرْطِ وَحْدَهُمْ يَجِبُ أَنْ يَضْمَنُوا لِمَا قُلْنَا فَأَمَّا شُهُودُ الْإِحْصَانِ إذَا رَجَعُوا فَلَا يَضْمَنُونَ بِحَالٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ الْإِحْصَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبٌ وَإِلَّا فَلَا يَضْمَنُونَ وَجُوِّدَ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ حَفْرُ الْبِئْرِ هُوَ شَرْطٌ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الثِّقَلَ عِلَّةُ السُّقُوطِ وَالْمَشْيَ سَبَبٌ مَحْضٌ لَكِنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ مُمْسِكَةً مَانِعَةً عَمَلَ الثِّقَلِ فَيَكُونُ حَفْرُ الْبِئْرِ إزَالَةً لِلْمَانِعِ وَكَذَلِكَ شَقُّ الزِّقِّ شَرْطٌ لِلسَّيَلَانِ لِأَنَّ الزِّقَّ كَانَ مَانِعًا وَكَذَلِكَ الْقِنْدِيلُ الثَّقِيلُ ثِقَلُهُ عِلَّةٌ لِلسُّقُوطِ وَإِنَّمَا الْحَبْلُ مَانِعٌ فَإِذَا قُطِعَ الْحَبْلُ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَعَمَلُ الثَّقِيلِ عَمَلُهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ شَرْطٌ لَكِنَّ الْعِلَّةَ لَيْسَتْ بِصَالِحَةٍ لِلْحُكْمِ لِأَنَّ الثِّقَلَ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِمُعَارَضَتِهِ مَا يَصْلُحُ عِلَّةً بِنَفْسِهِ وَإِذَا رَجَعَ شُهُودُ الشَّرْطِ وَحْدَهُمْ وَثَبَتَ شُهُودُ الْيَمِينِ عَلَى شَهَادَتِهِمْ يَجِبُ أَنْ يَضْمَنُوا لِمَا قُلْنَا إنَّ الْعِلَّةَ وَهِيَ يَمِينُ الزَّوْجِ أَوْ الْمَوْلَى لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِلضَّمَانِ لِخُلُوِّهِمَا عَنْ وَصْفِ التَّعَدِّي إذْ شُهُودُ الْيَمِينِ ثَابِتُونَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ فَيَجِبُ إضَافَتُهُ إلَى الشَّرْطِ لِظُهُورِ صِفَةِ التَّعَدِّي فِيهِ بِرُجُوعِ شُهُودِهِ عَنْ شَهَادَتِهِمْ فَلِذَلِكَ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ وَإِنَّمَا قَالَ يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ فِيهِ رِوَايَةٌ وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ شُهُودَ الشَّرْطِ لَا يَضْمَنُونَ شَيْئًا سَوَاءٌ رَجَعَ الْفَرِيقَانِ أَوْ رَجَعَ شُهُودُ الشَّرْطِ خَاصَّةً وَهَكَذَا ذَكَرَ أَبُو الْيُسْرِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَيْضًا فَقَالَ وَلَوْ رَجَعَ شُهُودُ الشَّرْطِ وَحْدَهُمْ لَا يَضْمَنُونَ هَكَذَا نَصَّ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَذَكَرَ فِي الطَّرِيقَةِ الْبَرْغَرِيَّةِ وَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ الشَّرْطِ وَحْدَهُمْ عِنْدَ زُفَرَ يَضْمَنُونَ وَعِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ لَا يَضْمَنُونَ نَصَّ عَلَى هَذَا فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ قُلْت وَوَجْهُهُ أَنَّ الْعِلَّةَ وَإِنْ خَلَتْ عَنْ صِفَةِ التَّعَدِّي وَلَمْ تَصْلُحْ لِإِيجَابِ الضَّمَانِ فَهِيَ صَالِحَةٌ لَقَطَعَ الْحُكْمِ عَنْ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهَا فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ كَمَا فِي فَتْحِ بَابِ الْقَفَصِ وَالْإِصْطَبْلِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَكَمَا فِي إرْسَالِ الْكَلْبِ عَلَى صَيْدٍ مَمْلُوكٍ حَتَّى قَتَلَهُ أَوْ عَلَى رَجُلٍ حَتَّى مَزَّقَ ثِيَابَهُ. بِخِلَافِ حَفْرِ الْبِئْرِ وَأَمْثَالِهِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ هُنَاكَ طَبْعٌ لَا اخْتِيَارَ فِيهِ لِأَحَدٍ فَلَا يَصْلُحُ لِإِيجَابِ الضَّمَانِ وَلَا لِقَطْعِ الْحُكْمِ عَنْ الشَّرْطِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَنْ اخْتَارَ هَذَا الْوَجْهَ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى الشَّرْطِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمَسْأَلَةِ الْخِلَافِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنَّ الْعِلَّةَ فِيهَا وَهِيَ يَمِينُ الْمَوْلَى اخْتِيَارِيَّةٌ ثُمَّ لَمْ يَقْطَعْ ذَلِكَ إضَافَةُ الْحُكْمِ عَنْ شَاهِدَيْ الشَّرْطِ ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ هُمَا فِي الصُّورَةِ شَاهِدُ الشَّرْطِ وَلَكِنَّهُمَا مُثْبِتَانِ عِلَّةَ الْعِتْقِ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا أَنَّ الْمَوْلَى عَلَّقَ الْعِتْقَ بِشَرْطٍ مَوْجُودٍ وَالتَّعْلِيقُ بِشَرْطٍ مَوْجُودٍ يَكُونُ تَنْجِيزًا حَتَّى يَمْلِكَهُ الْوَكِيلُ بِالتَّنْجِيزِ فَكَأَنَّهُمَا شَهِدَا تَنْجِيزَ الْعِتْقِ فَضَمِنَا لِإِثْبَاتِهِمَا عِلَّةَ الْعِتْقِ فِي التَّحْقِيقِ وَإِنْ شَهِدَا بِالشَّرْطِ صُورَةً قَالَ أَبُو الْيُسْرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّهُمَا أَثْبَتَا وَزْنَ الْقَيْدِ وَوَزْنُهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلْعِتْقِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الشَّيْءِ مَا لَا يُوجَدُ إلَّا بِوُجُودِهِ وَيَكُونُ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ وَوَزْنُ الْقَيْدِ مَوْجُودٌ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا بَلْ هُوَ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ كَمَا بَيَّنَّا. قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ) وَهُوَ أَنَّ الشَّرْطَ إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ مَا يَصْلُحُ عِلَّةً بِانْفِرَادِهِ صَلَحَ عِلَّةً وَأُضِيفَ الْحُكْمُ إلَيْهِ حَفْرُ الْبِئْرِ فَإِنَّهُ شَرْطُ التَّلَفِ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الثِّقَلَ عِلَّةُ السُّقُوطِ فِي الْبِئْرِ وَالْمَشْيَ سَبَبٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّهُ مُفْضٍ إلَيْهِ وَلَيْسَ بِعِلَّةٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ نَامَ فِي مَوْضِعٍ فَحُفِرَ تَحْتَهُ أَوْ نَامَ عَلَى سَقْفٍ فَقُطِعَ مَا حَوْلَهُ أَوْ كَانَ عَلَى غُصْنٍ فَقُطِعَ الْغُصْنُ يَحْصُلُ الْوُقُوعُ بِدُونِ الْمَشْيِ فَعُلِمَ أَنَّهُ سَبَبٌ وَلَيْسَ بِعِلَّةٍ لَكِنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ مُمْسِكَةً مَانِعَةً عَمَلَ الثِّقَلِ الَّذِي هُوَ الْعِلَّةُ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ كَانَتْ مُسْكَةً وَهِيَ مَا يُتَمَسَّكُ بِهِ فَيَكُونُ حَفْرُ الْبِئْرِ إزَالَةً لِلْمَانِعِ وَإِيجَادُ الشَّرْطِ السُّقُوطَ كَدُخُولِ الدَّارِ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَحَفْرِ الْبِئْرِ شَقُّ الزِّقِّ الَّذِي فِيهِ مَائِعٌ شَرْطٌ لَلسَّيَلَانِ؛ لِأَنَّ الزِّقَّ كَانَ مَانِعًا لِمَا فِيهِ مِنْ السَّيَلَانِ فَكَانَ شَقُّهُ إزَالَةً لِلْمَانِعِ فَكَانَ شَرْطًا أَيْضًا وَكَذَلِكَ الْقِنْدِيلُ الْمُعَلَّقُ ثِقَلُهُ عِلَّةٌ لِلسُّقُوطِ وَقَطْعُ الْحَبْلِ إزَالَةُ الْمَانِعِ أَيْضًا فَكَانَ شَرْطًا أَيْضًا وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ الْحُكْمُ إلَى الْعِلَّةِ لَا إلَى الشَّرْطِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ لَكِنَّ الْعِلَّةَ لَيْسَتْ بِصَالِحَةٍ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ الثِّقَلَ طَبْعٌ ثَابِتٌ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَعَدِّي فِيهِ فَلَا يَصْلُحُ لِإِضَافَةِ

طَبْعٌ لَا تَعَدِّي فِيهِ وَالْمَشْيُ مُبَاحٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ فَلَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُجْعَلَ عِلَّةً بِوَاسِطَةِ الثِّقَلِ وَإِذَا لَمْ يُعَارِضْ الشَّرْطُ مَا هُوَ عِلَّةٌ وَالشَّرْطُ شُبِّهَ بِالْعِلَلِ لِمَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ الْوُجُودِ أُقِيمَ مَقَامَ الْعِلَّةِ فِي ضَمَانِ النَّفْسِ وَالْأَمْوَالِ جَمِيعًا ـــــــــــــــــــــــــــــQضَمَانِ الْعُدْوَانِ إلَيْهِ وَلَيْسَ بِأَمْرٍ اخْتِيَارِيٍّ أَيْضًا كَطَيَرَانِ الطَّيْرِ فِي فَتْحِ بَابِ الْقَفَصِ لِيَنْقَطِعَ بِهِ نِسْبَةُ الْحُكْمِ إلَى غَيْرِهِ وَالْمَشْيُ مُبَاحٌ بِلَا شُبْهَةٍ. يَعْنِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ الْحُكْمُ إلَى الْمَشْيِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ بَعْدَ تَعَذُّرِ إضَافَتِهِ إلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْعِلَّةِ مِنْ الشَّرْطِ إلَّا أَنَّ الْمَشْيَ مُبَاحٌ بِلَا شُبْهَةٍ فَلَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُجْعَلَ عِلَّةً بِوَاسِطَةِ النَّقْلِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ ضَمَانُ جِنَايَةٍ وَضَمَانُ الْجِنَايَةِ لَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ بِدُونِ الْجِنَايَةِ فَتَعَذَّرَ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ أَيْضًا حَتَّى لَوْ وُجِدَ صِفَةُ التَّعَدِّي فِيهِ بِأَنْ تَعَمَّدَ الْمُرُورَ عَلَى الْبِئْرِ فَوَقَعَ فِيهَا وَهَلَكَ يُنْسَبُ التَّلَفُ إلَيْهِ دُونَ الْحَافِرِ وَصَارَ كَأَنَّهُ أَتْلَفَ نَفْسَهُ وَكَذَلِكَ ثِقَلُ الْقِنْدِيلِ وَسَيَلَانُ الْمَائِعِ أَمْرَانِ طَبِيعِيَّانِ ثَابِتَانِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَصْلُحُ إضَافَةُ الضَّمَانِ إلَيْهِمَا لِمَا ذَكَرْنَا فَيُقَامُ الشَّرْطُ الْمَوْصُوفُ بِالتَّعَدِّي وَهُوَ حَفْرُ الْبِئْرِ فِي الطَّرِيقِ وَشَقُّ الزِّقِّ وَقَطْعُ الْحَبْلِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ مَقَامَ الْعِلَّةِ فِي إضَافَةِ الضَّمَانِ إلَيْهِ خَلْفًا عَنْ الْعِلَّةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْإِضَافَةِ إلَيْهَا لِشَبَهِهِ بِالْعِلَّةِ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ الْوُجُودِ بِهِ وَشَبَهُ الْعِلَّةِ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا غَيْرُ مُوجِبَةٍ بِذَاتِهَا إلَى آخِرِ مَا قَرَّرَنَا. وَقَوْلُهُ: أُقِيمَ مَقَامَ الْعِلَّةِ فِي ضَمَانِ النَّفْسِ يَعْنِي فِيمَا إذَا تَلِفَ فِي الْبِئْرِ إنْسَانٌ وَالْأَمْوَالُ يَعْنِي فِيمَا إذَا وَقَعَ فِيهَا شَيْءٌ آخَرُ وَفِي شَقِّ الزِّقِّ وَقَطْعِ الْحَبْلِ وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ قَوْلَهُ وَالْمَشْيُ مُبَاحٌ احْتِرَازٌ عَنْ الْمَشْيِ الْمَوْصُوفِ بِالتَّعَدِّي كَمَا إذَا حَفَرَ بِئْرًا فِي أَرْضِ نَفْسِهِ فَعَطِبَ فِيهَا إنْسَانٌ فَإِنَّ التَّلَفَ يُضَافُ إلَى الْمَشْيِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لَا إلَى الْحَفْرِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ حَتَّى لَا يَجِبَ الضَّمَانُ عَلَى الْحَافِرِ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ لَيْسَ بِمُبَاحٍ بَلْ هُوَ مَوْصُوفٌ بِالتَّعَدِّي فَيَصْلُحُ عِلَّةً فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِوَاسِطَةِ الثِّقَلِ. قُلْت وَهَذَا لَا يَصْلُحُ احْتِرَازًا عَنْهُ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الْحُكْمِ إلَى الْمَشْيِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَيْسَتْ بِاعْتِبَارِ وُجُودِ صِفَةِ التَّعَدِّي فِيهِ بَلْ بِاعْتِبَارِ زَوَالِ صِفَةِ التَّعَدِّي عَنْ الْحَفْرِ وَعَدَمِ صَلَاحِيَتِهِ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ صِفَةَ التَّعَدِّي لَوْ لَمْ تَثْبُتْ فِي الْمَشْيِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِأَنْ كَانَ مَأْذُونًا بِالْمُرُورِ وَالدُّخُولِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَانَ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَيْهِ أَيْضًا إلَى الْحَفْرِ حَتَّى كَانَ دَمُهُ هَدَرًا كَمَا إذَا كَانَ الْمَشْيُ مَوْصُوفًا بِالتَّعَدِّي وَإِنَّمَا يَصْلُحُ احْتِرَازًا عَنْ الْمَشْيِ الْمَوْصُوفِ بِالتَّعَدِّي إذَا وُجِدَ صِفَةُ التَّعَدِّي فِي الْحَفْرِ أَيْضًا وَمَعَ ذَلِكَ يُضَافُ إلَى الْمَشْيِ كَمَا إذَا حَفَرَ بِئْرًا فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَمَشَى فِيهَا إنْسَانٌ لِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ وَوَقَعَ فِي الْبِئْرِ وَهَلَكَ فَهَاهُنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْحَفْرِ وَالْمَشْيِ مَوْصُوفٌ بِالتَّعَدِّي فَلَوْ كَانَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَى الْمَشْيِ دُونَ الْحَفْرِ حَتَّى كَانَ دَمُهُ هَدَرًا وَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْحَافِرِ ضَمَانٌ لَصَلَحَ قَوْلُهُ وَالْمَشْيُ مُبَاحٌ احْتِرَازًا عَنْهُ لَكِنْ لَوْ كَانَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَى الْحَفْرِ وَوَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْحَافِرِ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ وَالْمَشْيُ مُبَاحٌ احْتِرَازًا عَنْ الْمَشْيِ الْمَوْصُوفِ بِالتَّعَدِّي وَمَا ظَفِرْت بِرِوَايَةٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَّا مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَإِذَا احْتَفَرَ الرَّجُلُ بِئْرًا فِي دَارٍ لَا يَمْلِكُهَا بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهَا فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا وَقَعَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالْحَفْرِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ كَمَا هُوَ مُتَعَدٍّ بِالْحَفْرِ فِي الطَّرِيقِ فَإِطْلَاقُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْحَافِرِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَشْيُ تَعَدِّيًا أَوْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَى هَذَا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ وَالْمَشْيُ مُبَاحٌ احْتِرَازًا عَنْ شَيْءٍ بَلْ كَانَ زِيَادَةَ تَقْرِيرٍ وَبَيَانًا لِصَلَاحِيَةِ الشَّرْطِ لِلْعِلِّيَّةِ. وَذُكِرَ فِي التَّهْذِيبِ وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ أَوْ وَضَعَ حَجَرًا فَهَلَكَ بِهِ شَيْءٌ لِمَالِكِ الدَّارِ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْحَافِرِ وَلَوْ دَخَلَهُ رَجُلٌ فَهَلَكَ بِهِ نُظِرَ

وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ عَلَى حَافِرِ الْبِئْرِ كَفَّارَةٌ وَلَمْ يُحْرَمْ الْمِيرَاثَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُبَاشَرَةٍ فَلَا يَلْزَمُهُ جَزَاؤُهَا وَأَمَّا، وَضْعُ الْحَجَرِ، وَإِشْرَاعُ الْجَنَاحِ، وَالْحَائِطُ الْمَائِلُ بَعْدَ الْإِشْهَادِ فَمِنْ قِسْمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي جُعِلَتْ عِلَلًا فِي الْحُكْمِ عَلَى مَا مَرَّ لَا مِنْ هَذَا الْقِسْمِ. وَعَلَى هَذَا ـــــــــــــــــــــــــــــQإنْ دَخَلَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْحَافِرِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يَجِبُ لِتَعَدِّيهِ بِالْحَفْرِ وَالثَّانِي لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الدَّاخِلَ مُتَعَدِّيًا بِالدُّخُولِ وَإِنْ دَخَلَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ فَإِنْ أَعْلَمَهُ الْمَالِكُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ وَإِنْ لَمْ يُعْلِمْهُ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْحَافِرِ فَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَالْمَشْيُ مُبَاحٌ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْخِلَافِ فَإِنَّ عِنْدَ إبَاحَةِ الْمَشْيِ مُتَقَرِّرٌ عَلَى الْحَافِرِ بِالِاتِّفَاقِ. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ الْحَفْرَ شَرْطٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَيْسَ بِمُبَاشَرَةٍ لِلْإِتْلَافِ لَا يَجِبُ عَلَى حَافِرِ الْبِئْرِ كَفَّارَةٌ وَلَمْ يُحْرَمْ مِنْ الْمِيرَاثِ بِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَجِبُ وَيُحْرَمُ؛ لِأَنَّ الْحَفْرَ لَمَّا جُعِلَ كَالْمُبَاشَرَةِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ يُجْعَلُ كَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْكَفَّارَةِ وَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ وَنَحْنُ نَقُولُ هُمَا جَزَاءُ مُبَاشَرَةِ قَتْلٍ مَحْظُورٍ وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ إنَّمَا تَحْصُلُ بِاتِّصَالِ الْفِعْلِ بِالْمَقْتُولِ وَقَدْ عَدِمَ ذَلِكَ فِي الْحَفْرِ بَلْ الْمُتَّصِلُ بِهِ أَثَرُ مَا حَصَلَ بِفِعْلِهِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ بِهِ مُبَاشِرًا أَوْ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ قَاتِلًا بِالْحَفْرِ وَقَدْ يَكُونُ الْحَافِرُ مَيِّتًا عِنْدَ وُقُوعِ الْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُبَاشَرَةً لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ جَزَاءُ الْمُبَاشَرَةِ مِنْ الْكَفَّارَةِ وَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ. وَأَمَّا وَضْعُ الْحَجَرِ فِي الطَّرِيقِ وَإِشْرَاعُ الْجَنَاحِ أَيْ إخْرَاجُهُ إلَى الشَّارِعِ وَالْحَائِطُ الْمَائِلُ إلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الْإِشْهَادِ أَيْ بَعْدَ التَّقَدُّمِ إلَى صَاحِبِهِ فِي الْهَدْمِ وَالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ فَمِنْ قِسْمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي جُعِلَتْ عِلَلًا فِي الْحُكْمِ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ الْحَفْرِ فِي الْحُكْمِ حَتَّى وَجَبَ بِهَا ضَمَانُ النَّفْسِ وَالْمَالِ وَلَا يَجِبُ بِهَا كَفَّارَةٌ وَلَا يُحْرَمُ بِهَا مِنْ الْمِيرَاثِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي الْعُقُوبَاتِ الْقَاصِرَةِ لَا مِنْ هَذَا الْقِسْمِ أَيْ مِنْ الشَّرْطِ الَّذِي لَهُ حُكْمُ الْعِلَلِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ إزَالَةً لِلْمَانِعِ بَلْ هِيَ طُرُقٌ مُفْضِيَةٌ إلَى التَّلَفِ فَكَانَتْ أَسْبَابًا أَخَذَتْ حُكْمَ الْعِلَلِ بِخِلَافِ الْحَفْرِ فَإِنَّهُ إزَالَةٌ لِلْمَانِعِ فَكَانَ شَرْطًا لَهُ حُكْمُ الْعِلَلِ وَالْإِشْهَادُ فِي الْحَائِطِ الْمَائِلِ لَيْسَ بِلَازِمٍ لِصَيْرُورَتِهِ فِي حُكْمِ الْعِلَّةِ بَلْ الشَّرْطُ هُوَ التَّقَدُّمُ إلَى صَاحِبِهِ فِي الْهَدْمِ وَالْإِشْهَادُ لِلِاحْتِيَاطِ حَتَّى إذَا جَحَدَ صَاحِبُ الْحَائِطِ التَّقَدُّمَ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ أَمْكَنَ إثْبَاتُهُ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ بِمَنْزِلَةِ الشَّفِيعِ فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حَقِّهِ طَلَبُ الشُّفْعَةِ وَلَكِنْ يُؤْمَرُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى ذَلِكَ احْتِيَاطًا. قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ) وَهُوَ أَنَّ الشَّرْطَ يُقَامُ مَقَامَ الْعِلَّةِ فِي إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إضَافَتِهِ إلَى الْعِلَّةِ قُلْنَا فِي الْغَاصِبِ إذَا بَذَرَ حِنْطَةَ غَيْرِهِ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى الْغَيْرِ الْأَوَّلِ أَيْ فِي أَرْضِ غَيْرِ صَاحِبِ الْحِنْطَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَى الْغَاصِبِ كَالضَّمِيرِ الْأَوَّلِ أَنَّ الزَّرْعَ لِلْغَاصِبِ عِنْدَنَا وَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْحِنْطَةِ وَلَا سَبِيلَ لِلْمَالِكِ عَلَى الزَّرْعِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الزَّرْعُ لِمَالِكِ الْحِنْطَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ بِغَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ بِأَنْ هَبَّتْ الرِّيحُ بِالْحِنْطَةِ وَأَلْقَتْهَا فِي أَرْضٍ فَنَبَتَتْ؛ كَانَ الْخَارِجُ لِصَاحِبِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ فَرْعُ أَصْلِهِ كَوَلَدِ الْجَارِيَةِ وَثَمَرِ الشَّجَرَةِ فَكَذَلِكَ إذَا حَصَلَ بِصُنْعِ صَانِعٍ؛ لِأَنَّ التَّوَلُّدَ مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ لَا مِنْ الصُّنْعِ فَإِنَّ الصُّنْعَ حَرَكَاتٌ لَا يَتَوَلَّدُ مِنْهَا أَجْسَامٌ وَصَارَ كَمَا لَوْ أَصْلَحَ أَشْجَارَ رَجُلٍ وَسَقَاهَا حَتَّى أَثْمَرَتْ وَنَحْنُ نَقُولُ الزَّرْعُ غَيْرُ الْحِنْطَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَأَنَّهُ أَمْرٌ حَادِثٌ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بِأَصْلِ الْحِنْطَةِ أَوْ بِقُوَّةِ الْأَرْضِ وَالْهَوَاءِ وَالْمَاءِ أَوْ بِعَمَلِ الزَّارِعِ. وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ لَا تَكُونُ عِلَّةً لِبَقَائِهَا كَذَلِكَ حِنْطَةً فَكَيْفَ تَكُونُ عِلَّةً لِلْهَلَاكِ وَصَيْرُورَتُهَا شَيْئًا آخَرَ وَقُوَّةُ الْأَرْضِ وَالْهَوَاءِ وَالْمَاءِ وَإِنْ صَلَحَتْ عِلَّةً لِحُدُوثِ الزَّرْعِ لِكَوْنِهَا مُؤَثِّرَةً

قُلْنَا فِي الْغَاصِبِ إذَا بَذَرَ حِنْطَةَ غَيْرِهِ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ أَنَّ الزَّرْعَ لِلْغَاصِبِ وَإِنْ كَانَ التَّغَيُّرُ بِطَبْعِ الْأَرْضِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَأَمَّا الْإِلْقَاءُ فَشَرْطٌ لَكِنَّ الْعِلَّةَ لَمَّا كَانَ مَعْنًى مُسَخَّرًا لَا اخْتِيَارَ لَهُ لَمْ يَصْلُحْ عِلَّةً مَعَ وُجُودِ فِعْلٍ عَنْ اخْتِيَارٍ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فَجُعِلَ لِلشَّرْطِ حُكْمُ الْعِلَلِ. . وَأَمَّا الشَّرْطُ الَّذِي لَهُ حُكْمُ الْأَسْبَابِ فَإِنْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ فِعْلٌ مُخْتَارٌ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إلَيْهِ وَأَنْ يَكُونَ سَابِقًا عَلَيْهِ وَذَلِكَ مِثْلُ رَجُلٍ حَلَّ قَيْدَ عَبْدٍ حَتَّى أَبَقَ لَمْ يَضْمَنْ قِيمَتَهُ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْإِبَاقِ هُوَ الْقَيْدُ فَكَانَ حَلُّهُ إزَالَةً لِلْمَانِعِ فَكَانَ شَرْطًا فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا سَبَقَ الْإِبَاقُ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ التَّلَفِ نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْأَسْبَابِ فَالسَّبَبُ مِمَّا يَتَقَدَّمُ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِيهِ لَكِنَّهَا بِتَسْخِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِتَقْدِيرِهِ بِدُونِ اخْتِيَارٍ لَهَا فِي ذَلِكَ فَلَا يُضَافُ الْإِتْلَافُ وَالْحُدُوثُ إلَيْهَا فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ كَمَا لَا يُضَافُ التَّلَفُ إلَى الثِّقَلِ فِي مَسْأَلَةِ الْحَفْرِ يَبْقَى عَمَلُ الزَّارِعِ وَهُوَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي الْبَذْرِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْبَذْرِ وَالزَّارِعُ بِعَمَلِهِ يَجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ إلَى الشَّرْطِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إضَافَتِهِ إلَى الْعِلَّةِ فَيُضَافُ إلَى الشَّرْطِ وَهُوَ صَالِحٌ لِلْإِضَافَةِ إلَيْهِ خَلَفًا عَنْ الْعِلَّةِ لِكَوْنِهِ فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا دَاخِلًا تَحْتَ التَّكْلِيفِ فَيُمْكِنُ بِنَاءُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَيْهِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُضَافٌ إلَى عَمَلِ الزَّارِعِ كَانَ هُوَ مُكْتَسِبًا الزَّرْعَ وَالْكَسْبُ مِلْكٌ لِلْمُكْتَسِبِ وَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا اسْتَهْلَكَهُ بِعَمَلِهِ وَقَوْلُهُ إذَا بَذَرَ حِنْطَةَ غَيْرِهِ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ يُوهِمُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَوْ زَرَعَهَا فِي أَرْضِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ يَكُونُ الزَّرْعُ لَهُ لَكِنْ إطْلَاقُ عِبَارَةِ الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ وَأُصُولِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ حَيْثُ قِيلَ فِيهَا وَإِنْ غَصَبَ حِنْطَةً فَزَرَعَهَا مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْكُلِّ سَوَاءٌ وَكَذَا الدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَا لَا يَفْصِلُ بَيْنَ أَرْضٍ وَأَرْضٍ أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ الْحِنْطَةَ الْمَغْصُوبَةَ وَإِنْ زَرَعَهَا فِي أَرْضِ مَالِكِهَا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَهْلِكًا لَهَا بِالزِّرَاعَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَتَمَلَّكُهَا بِالِاسْتِهْلَاكِ وَصَارَ كَأَنَّهُ زَرَعَ حِنْطَةَ نَفْسِهِ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ وَقَوْلُهُ مَعَ وُجُودِ فِعْلٍ عَنْ اخْتِيَارٍ احْتِرَازًا عَنْ سُقُوطِ الْحَبِّ فِي الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ بِأَنْ هَبَّتْ بِهِ الرِّيحُ حَيْثُ يَكُونُ الزَّرْعُ لِصَاحِبِ الْحِنْطَةِ دُونَ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ سُقُوطَهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ لَكِنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلْخِلَافَةِ عَنْ الْعِلَّةِ فَلَا يُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ وَلَكِنْ يُجْعَلُ مَحَلَّ حُصُولِ الزَّرْعِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ وَهُوَ الْحِنْطَةُ إذْ الْمُحَالُ شُرُوطٌ خَلَفًا عَنْ الْعِلَّةِ فَيَكُونُ الْخَارِجُ لِصَاحِبِ الْحِنْطَةِ لِكَوْنِهَا مَحَلًّا لِلْخَارِجِ فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ تَغَيُّرَ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِفِعْلِهِ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ وَالْمِلْكِ وَهَاهُنَا لَمْ يُوجَدْ لَكِنْ وُجِدَ شَرْطُ التَّغَيُّرِ بِفِعْلِهِ وَهُوَ الْإِلْقَاءُ فِي الْأَرْضِ فَأُقِيمَ مَقَامَهُ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الشَّرْطُ الَّذِي لَهُ حُكْمُ الْأَسْبَابِ) وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنْ يَعْتَرِضْ أَيْ فَهُوَ الشَّرْطُ الَّذِي يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ فِعْلُ مُخْتَارٍ وَاحْتَرَزَ بِهِ عَنْ الْفِعْلِ الطَّبِيعِيِّ كَسَيَلَانِ الْمَائِعِ وَسُقُوطِ الْقِنْدِيلِ فِي مَسْأَلَتَيْ شَقِّ الزِّقِّ وَقَطْعِ الْحَبْلِ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إلَيْهِ أَيْ إلَى الشَّرْطِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَنْسُوبًا إلَى الشَّرْطِ كَانَ ذَلِكَ الشَّرْطُ فِي حُكْمِ الْعِلَلِ كَمَا فِي فَتْحِ بَابِ الْقَفَصِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّ فِعْلَ الطَّيَرَانِ وَإِنْ حَصَلَ عَنْ اخْتِيَارٍ فَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَى الْفَتْحِ عِنْدَهُ كَسَيْرِ الدَّابَّةِ فِي مَسْأَلَةِ السَّوْقِ مَنْسُوبٌ إلَى السَّائِقِ وَإِنْ حَصَلَ عَنْ اخْتِيَارٍ. وَأَنْ يَكُونَ أَيْ الشَّرْطُ سَابِقًا أَيْ عَلَى الْفِعْلِ الْمُعْتَرِضِ وَاحْتَرَزَ بِهِ عَنْ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ بِدُخُولِ الدَّارِ مَثَلًا فَإِنَّهُ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إلَى الشَّرْطِ وَلَكِنَّ وُجُودَ الشَّرْطِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ صُورَةِ الْعِلَّةِ فَلِذَلِكَ كَانَ شَرْطًا مَحْضًا خَالِيًا عَنْ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ وَالْعِلِّيَّةِ وَذَلِكَ أَيْ الشَّرْطُ الْمَوْصُوفُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِثْلُ رَجُلٍ حَلَّ قَيْدَ عَبْدٍ أَيْ مِثْلُ حَلِّ قَيْدِ الْعَبْدِ فِي رَجُلٍ حَلَّ قَيْدَ عَبْدٍ حَتَّى أَبَقَ فَإِنَّ الْحَالَّ لَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْعَبْدِ لِمَالِكِهِ بِاتِّفَاقٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ عِبَارَةُ الْأَسْرَارِ إلَّا أَنَّهُ احْتَرَزَ عَنْ فَتْحِ بَابِ الْقَفَصِ؛ لِأَنَّهَا نَظِيرَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَفِيهَا خِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا كَمَا سَتَقِفُ عَلَيْهِ وَهَذَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ عَاقِلًا فَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا فَالْحَالُّ ضَامِنٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ كَمَا فِي فَتْحِ بَابِ الْقَفَصِ فَالسَّبَبُ أَيْ فَالسَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ مِمَّا يَتَقَدَّمُ

وَالشَّرْطُ مِمَّا يَتَأَخَّرُ ثُمَّ هُوَ سَبَبٌ مَحْضٌ لِأَنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ مَا هُوَ عِلَّةٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا غَيْرُ حَادِثَةٍ بِالشَّرْطِ وَكَانَ هَذَا كَمَنْ أَرْسَلَ دَابَّةً فِي الطَّرِيقِ فَجَالَتْ ثُمَّ أَتْلَفَتْ شَيْئًا لَمْ يَضْمَنْهُ الْمُرْسِلُ إلَّا أَنَّ الْمُرْسِلَ صَاحِبَ سَبَبٍ فِي الْأَصْلِ وَهَذَا صَاحِبُ شَرْطٍ جُعِلَ مُسَبِّبًا ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ مُفْضٍ إلَى الشَّيْءِ وَوَسِيلَةٌ إلَيْهِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا عَلَيْهِ وَالشَّرْطُ مِمَّا يَتَأَخَّرُ أَيْ الشَّرْطُ الْحَقِيقِيُّ الْمَحْضُ يَتَأَخَّرُ وُجُودُهُ عَنْ وُجُودِ صُورَةِ الْعِلَّةِ وَإِنْ كَانَ يَتَقَدَّمُ عَلَى انْعِقَادِهَا عِلَّةً كَمَا فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ فَإِنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ هُوَ الَّذِي يَنْعَقِدُ عِلَّةً عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَوُجُودُهَا تَكَلُّمًا سَابِقٌ عَلَى وُجُودِ الشَّرْطِ. وَلَا يُقَالُ: الشَّرْطُ كَمَا يَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنْ وُجُودِ صُورَةِ الْعِلَّةِ قَدْ يَكُونُ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ كَالْإِشْهَادِ فِي النِّكَاحِ فَإِنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعِلَّةِ وَهِيَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ صُورَةً وَمَعْنًى؛ لِأَنَّا نَقُولُ نَحْنُ لَا نُنْكِرُ تَقَدُّمَ الشَّرْطِ عَلَى صُورَةِ الْعِلَّةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ إذَا تَقَدَّمَ لَمْ يَتَمَحَّضْ شَرْطًا بَلْ كَانَ شَرْطًا مُشَابَهًا بِالسَّبَبِ مِنْ حَيْثُ إنَّ تَقَدُّمَ وُجُودِهِ لَا يَخْلُو عَنْ مَعْنَى الْإِفْضَاءِ إلَى الْحُكْمِ بِوَاسِطَةِ وُجُودِ الْعِلَّةِ كَالسَّبَبِ الْحَقِيقِيِّ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِلَّةَ لَوْ وُجِدَتْ بَعْدَ وُجُودِهِ لَا يَتَوَقَّفُ انْعِقَادُهَا عَلَى شَيْءٍ فَكَانَ وُجُودُهُ سَابِقًا وَسِيلَةً إلَى حُصُولِ الْحُكْمِ بِوَاسِطَةِ الْعِلَّةِ فَثَبَتَ أَنَّ فِيهِ مَعْنَى السَّبَبِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَأَخَّرَ وُجُودُهُ عَنْ صُورَةِ الْعِلَّةِ فَإِنَّ انْعِقَادَ الْعِلَّةِ بَعْدَ وُجُودِ صُورَتِهَا مُتَوَقِّفٌ عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ تَمَحَّضَ شَرْطًا وَرَأَيْت فِي بَعْضِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ لِأَصْحَابِنَا أَنَّ الشَّرْطَ إذَا عَارَضَهُ عِلَّةٌ لَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ ثُمَّ إنْ كَانَ سَابِقًا كَانَ فِي مَعْنَى السَّبَبِ وَإِنْ كَانَ مُقَارِنًا أَوْ مُتَرَاخِيًا كَانَ شَرْطًا مَحْضًا ثُمَّ هُوَ أَيْ حَلُّ الْقَيْدِ وَإِنْ شَابَهَ السَّبَبَ لِمَا قُلْنَا لَكِنَّهُ شَابَهَ السَّبَبَ الْخَالِصَ لَا السَّبَبَ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْعِلَّةِ مَا كَانَتْ الْعِلَّةُ مُضَافَةً إلَى السَّبَبِ وَحَادِثَةً بِهِ كَقَوْدِ الدَّابَّةِ وَسَوْقِهَا وَهَاهُنَا مَا هُوَ الْعِلَّةُ وَهُوَ الْإِبَاقُ غَيْرُ حَادِثَةٍ بِالشَّرْطِ وَهُوَ حَلُّ الْقَيْدِ بَلْ هِيَ حَادِثَةٌ بِاخْتِيَارٍ صَحِيحٍ فَانْقَطَعَ بِهِ نِسْبَتُهُ عَنْ الشَّرْطِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ السَّبَبِ الْمَحْضِ فَكَانَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَى مَا اعْتَرَضَ مِنْ الْعِلَّةِ دُونَ مَا سَبَقَ مِنْ الشَّرْطِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَا إذَا أَمَرَ عَبْدَ الْغَيْرِ بِالْإِبَاقِ فَأَبَقَ حَيْثُ يَضْمَنُ الْآمِرُ وَإِنْ اعْتَرَضَ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ عَلَى الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِبَاقِ اسْتِعْمَالٌ لِلْعَبْدِ فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ الْإِبَاقُ يَصِيرُ غَاصِبًا لَهُ بِاسْتِعْمَالِهِ كَمَا إذَا اسْتَخْدَمَهُ فَخَدَمَ وَيَصِيرُ الْعَبْدُ إذَا عَمِلَ وَفْقَ اسْتِعْمَالِهِ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ الَّتِي لَا اخْتِيَارَ لَهَا فَيُضَافُ التَّلَفُ إلَى الْمُسْتَعْمِلِ فَأَمَّا حَلُّ الْقَيْدِ فَإِزَالَةٌ لِلْمَانِعِ فَلَا يُضَافُ إلَيْهِ عِنْدَ اعْتِرَاضِ فِعْلٍ مُخْتَارٍ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ حَلُّ الْقَيْدِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ كَإِرْسَالِ الدَّابَّةِ مِمَّنْ أَرْسَلَهَا فِي الطَّرِيقِ فَجَالَتْ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً عَنْ سَنَنِ الطَّرِيقِ ثُمَّ سَارَتْ أَوْ وَقَفَتْ ثُمَّ سَارَتْ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ فَأَصَابَتْ شَيْئًا لَمْ يَضْمَنْهُ الْمُرْسِلُ؛ لِأَنَّ بِالْجَوَلَانِ وَالْوُقُوفِ قَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ إرْسَالِهِ ثُمَّ إنَّهَا أَنْشَأَتْ سَيْرًا بِاخْتِيَارِهَا فَكَانَتْ كَالْمُنْفَلِتَةِ إلَّا أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا طَرِيقٌ غَيْرُ الَّذِي أَخَذَتْ فِيهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ضَامِنًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا سَيَّرَهَا فِي الطَّرِيقِ الَّذِي يُمْكِنُهَا أَنْ تَسِيرَ فِيهِ وَقَدْ سَارَتْ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ فَكَانَ هُوَ سَائِقًا لَهَا كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ فَجَالَتْ عَمَّا إذَا أَرْسَلَ دَابَّةً فِي الطَّرِيقِ فَأَصَابَتْ فِي وَجْهِهَا شَيْئًا ضَمِنَ الْمُرْسِلُ كَمَا إذَا أَشَارَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ سَائِقٌ لَهَا مَا دَامَتْ تَسِيرُ عَلَى سُنَنِ إرْسَالِهِ إلَّا أَنَّ أَيْ: لَكِنْ الْمُرْسِلُ، وَكَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ كَيْفَ يَكُونُ حَلُّ الْقَيْدِ وَهُوَ شَرْطٌ كَإِرْسَالِ الدَّابَّةِ وَهُوَ سَبَبٌ فَقَالَ الْمُرْسِلُ صَاحِبُ سَبَبٍ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ لَيْسَ بِإِزَالَةِ الْمَانِعِ وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِعْلٌ مِنْ مُخْتَارٍ وَهُوَ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إلَى السَّبَبِ حَيْثُ لَمْ يَذْهَبْ عَلَى سُنَنِ إرْسَالِهِ

وَإِذَا انْتَقَلَتْ الدَّابَّةُ فَأَتْلَفَتْ زَرْعًا بِالنَّهَارِ كَانَ هَدَرًا وَكَذَلِكَ بِاللَّيْلِ عِنْدَنَا لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّابَّةِ لَيْسَ بِصَاحِبِ شَرْطٍ وَلَا سَبَبٍ وَلَا عِلَّةٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِيمَنْ فَتَحَ بَابَ قَفَصٍ فَطَارَ الطَّيْرُ أَوْ بَابَ إصْطَبْلٍ فَخَرَجَتْ الدَّابَّةُ فَضَلَّتْ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ جَرَى مَجْرَى السَّبَبِ لِمَا قُلْنَا وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِعْلُ مُخْتَارٍ فَبَقِيَ الْأَوَّلُ سَبَبًا خَالِصًا فَلَمْ يُجْعَلْ التَّلَفُ مُضَافًا إلَيْهِ بِخِلَافِ السُّقُوطِ فِي الْبِئْرِ لِأَنَّهُ لَا اخْتِيَارَ لَهُ فِي السُّقُوطِ حَتَّى إذَا أَسْقَطَ نَفْسَهُ فَدَمُهُ هَدَرٌ كَمَنْ مَشَى عَلَى قَنْطَرَةٍ وَاهِيَةٍ وُضِعَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ فَخُسِفَ بِهِ أَوْ عَلَى مَوْضِعٍ رُشَّ الْمَاءُ عَلَيْهِ فَزَلَقَ فَعَطِبَ هُدِرَ دَمُهُ لِأَنَّ الْإِلْقَاءَ هُوَ الْعِلَّةُ وَقَدْ صَلَحَ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَهَذَا الَّذِي حَلَّ الْقَيْدَ صَاحِبُ شَرْطٍ؛ لِأَنَّ الْحَلَّ إزَالَةُ الْمَانِعِ عَنْ الْإِبَاقِ جُعِلَ مُسَبَّبًا بِاعْتِبَارِ تَقَدُّمِ الشَّرْطِ عَلَى الْعِلَّةِ وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِعْلُ مُخْتَارٍ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إلَيْهِ فَكَانَا فِي انْقِطَاعِ الْحُكْمِ عَنْهُمَا وَإِضَافَتِهِ إلَى مَا اعْتَرَضَ مِنْ الْفِعْلِ سَوَاءٌ. قَوْلُهُ (وَإِذَا انْفَلَتَتْ الدَّابَّةُ فَأَتْلَفَتْ زَرْعَهَا بِالنَّهَارِ كَانَ هَدَرًا) بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ وَكَذَلِكَ بِاللَّيْلِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ مَالِكَ الدَّابَّةِ لَيْسَ بِصَاحِبِ سَبَبٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ وَلَا شَرْطٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْتَحْ بَابَ الْإِصْطَبْلِ وَلَا عِلَّةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْ الْإِتْلَافَ بِنَفْسِهِ فَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَضْمَنُ فِي الْإِتْلَافِ بِاللَّيْلِ لِحَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ نَاقَةً لَهُ دَخَلَتْ زَرْعَ إنْسَانٍ فَأَفْسَدَتْهُ فَقَضَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِضَمَانِهِ وَقَالَ حِفْظُ الزُّرُوعِ عَلَى أَرْبَابِهَا نَهَارًا وَحِفْظُ الدَّوَابِّ عَلَى أَرْبَابِهَا لَيْلًا» وَقُلْنَا هُوَ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» وَأَنَّهُ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ وَمُؤَوَّلٌ بِأَنَّ صَاحِبَهَا كَانَ يُرِيدُ أَخْذَهَا فَانْفَلَتَتْ بِقَصْدِهِ أَبَاهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّاقَةَ أَفْسَدَتْ الزَّرْعَ لَيْلًا وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ الْحِفْظَ عَلَى أَصْحَابِ الدَّوَابِّ لَيْلًا حَتَّى لَوْ تَرَكُوا أَتَمُّوا وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ يَضْمَنُونَ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الزَّرْعِ لَمْ يَكُنْ بِتَرْكِ الْحِفْظِ بَلْ بِذَهَابِ الدَّابَّةِ وَهِيَ مُخْتَارَةٌ فِيهِ وَلَمْ يَتَوَلَّدْ ذَلِكَ مِنْ الْإِرْسَالِ فَكَانَ كَدَلَالَةِ السَّارِقِ عَلَى مَالِ إنْسَانٍ إلَيْهِ أُشِيرُ فِي الْأَسْرَارِ. قَوْلُهُ (فِيمَنْ فَتَحَ بَابَ قَفَصٍ فَطَارَ الطَّيْرُ) يَعْنِي فِي فَوْرِ الْفَتْحِ إذَا الْخِلَافُ فِيهِ فَإِنَّهُ إذَا طَارَ بَعْدَ سَاعَةٍ لَا يَضْمَنُ الْفَاتِحُ بِلَا خِلَافٍ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. وَفِي ذِكْرِ الْفَاءِ إشَارَةٌ إلَيْهِ وَكَذَا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَيْ فَتْحَ بَابِ الْقَفَصِ وَالْإِصْطَبْلِ شَرْطٌ؛ لِأَنَّ إزَالَةُ الْمَانِعِ مِنْ الْخُرُوجِ وَالطَّيَرَانِ جَرَى مَجْرَى السَّبَبِ لِمَا قُلْنَا أَنَّ الشَّرْطَ إذَا تَقَدَّمَ كَانَ لَهُ حُكْمُ السَّبَبِ وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فِعْلُ مُخْتَارٍ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إلَى هَذَا الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ الَّذِي بِهِ تَلَفُ الطَّيْرِ وَالدَّابَّةِ لَمْ يَحْصُلْ بِالْفَتْحِ بَلْ بِاخْتِيَارِهِمَا الطَّيَرَانَ وَالْخُرُوجَ فَبَقِيَ الْأَوَّلُ وَهُوَ فَتْحُ الْبَابِ سَبَبًا خَالِصًا أَيْ شَرْطًا فِي مَعْنَى السَّبَبِ الْخَالِصِ فَلَمْ يُجْعَلْ التَّلَفُ مُضَافًا إلَى الْفَتْحِ بَلْ قُصِرَ عَلَى الْخُرُوجِ كَمَا قُصِرَ عَلَى الْإِبَاقِ فِي مَسْأَلَةِ حَلِّ الْقَيْدِ بِخِلَافِ السُّقُوطِ فِي الْبِئْرِ حَيْثُ يُضَافُ التَّلَفُ فِيهِ إلَى الشَّرْطِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ مَا اعْتَرَضَ عَلَى الشَّرْطِ مِنْ السُّقُوطِ هُنَاكَ حَصَلَ لَا عَنْ اخْتِيَارٍ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِعُمْقِ ذَلِكَ الْمَكَانِ فَلَمْ يَصْلُحْ لِقَطْعِ الْحُكْمِ عَنْ الشَّرْطِ وَإِضَافَتِهِ إلَيْهِ حَتَّى إذَا أَسْقَطَ نَفْسَهُ فِي الْبِئْرِ هَدَرَ دَمُهُ وَلَمْ يَضْمَنْ الْحَافِرُ؛ لِأَنَّ مَا اعْتَرَضَ عَلَى الشَّرْطِ وَهُوَ الْإِلْقَاءُ فِي الْبِئْرِ عِلَّةٌ صَالِحَةٌ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ لِصُدُورِهِ مِنْ مُخْتَارٍ عَلَى وَجْهِ الْقَصْدِ إلَيْهِ فَانْقَطَعَ بِهِ نِسْبَةُ الْحُكْمِ عَنْ الشَّرْطِ وَاقْتَصَرَ عَلَى الْعِلَّةِ وَبِخِلَافِ سَوْقِ الدَّابَّةِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ؛ لِأَنَّ السَّوْقَ مَعْنًى حَامِلٌ عَلَى الذَّهَابِ كَرْهًا فَيَنْتَقِلُ إلَى الْمُكْرَهِ وَالْفَتْحُ رَفْعٌ لِلْمَانِعِ وَلَيْسَ بِحَمْلٍ عَلَى الْخُرُوجِ وَكَذَا إذَا أَرْسَلَ كَلْبًا عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ فَعَلَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ سَبَبٌ حَامِلٌ عَلَى الذَّهَابِ بَعْدَ التَّعْلِيمِ كَالسَّوْقِ قَبْلَ ذَلِكَ فَأَمَّا فَتْحُ الْبَابِ فَلَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَتَحَ بَابَ الْكَلْبِ حَتَّى خَرَجَ فَصَادَ لَمْ يَحِلَّ وَلَمْ يَمْلِكْ بِخِلَافِ الْإِرْسَالِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ كَمَنْ مَشَى عَلَى قَنْطَرَةٍ وَهِيَ مَا يُبْنَى عَلَى الْمَاءِ لِلْعُبُورِ وَالْجِسْرُ عَامٌّ مَبْنِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَبْنِيٍّ وُضِعَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ بِأَنْ وُضِعَتْ فِي

وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - طَيَرَانُ الطَّيْرِ هَدَرٌ شَرْعًا وَكَذَلِكَ فِعْلُ كُلِّ بَهِيمَةٍ فَيُجْعَلُ كَالْخَارِجِ بِلَا اخْتِيَارٍ وَصَارَ كَسَيَلَانِ مَا فِي الزِّقِّ فَإِنْ خَرَجَ عَلَى فَوْرِ الْفَتْحِ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى صَاحِبِ الشَّرْطِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ فِعْلَ الْبَهِيمَةِ لَا تُعْتَبَرُ لِإِيجَابِ حُكْمٍ مَا فَأَمَّا لِقَطْعِهِ فَنَعَمْ كَالْكَلْبِ تَمِيلُ عَنْ سُنَنِ الْإِرْسَالِ وَكَالدَّابَّةِ تَجُولُ بَعْدَ الْإِرْسَالِ فَكَذَلِكَ هَذَا. وَلِهَذَا قُلْنَا فِيمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْوَلِيُّ وَالْحَافِرُ فَقَالَ الْوَلِيُّ سَقَطَ وَقَالَ الْآخَرُ أَسْقَطَ نَفْسَهُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْحَافِرِ اسْتِحْسَانًا لِمَا قُلْنَا إنَّ الْحَفْرَ شَرْطٌ جُعِلَ خَلَفًا عَنْ الْعِلَّةِ لِتَعَذُّرِ نِسْبَةِ الْحُكْمِ إلَى الْعِلَّةِ فَإِذَا ادَّعَى صَاحِبُ الشَّرْطِ أَنَّ الْعِلَّةَ صَالِحَةٌ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا فَقَدْ تَمَسَّكَ بِالْأَصْلِ وَجَحَدَ حُكْمًا ضَرُورِيًّا فَجَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَهُ بِخِلَافِ الْجَارِحِ إذَا ادَّعَى الْمَوْتَ بِسَبَبٍ آخَرَ لَمْ يُصَدَّقْ لِأَنَّهُ صَاحِبُ عِلَّةٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQغَيْرِ مِلْكٍ وَفِيمَا لَا تَصَرُّفَ لِوَاضِعِهَا فِيهِ وَاحْتَرَزَ بِهِ عَنْ الْمَوْضُوعَةِ فِي الْمِلْكِ فَإِنَّهَا لَا تَصْلُحُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ وَاضِعَهَا لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ فِيمَا أَحْدَثَهُ فِي مِلْكِهِ وَالْمُسَبِّبُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا لَا يَكُونُ ضَامِنًا. وَقَوْلُهُ عَالِمًا بِهِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَسْأَلَتَيْنِ أَيْ عَالِمًا بِوَهَاءِ الْقَنْطَرَةِ وَوَضَعَهَا بِغَيْرِ حَقٍّ وَعَالِمًا بِالرَّشِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنْ مَشَى عَلَى جِسْرِهِ إنْسَانٌ مُتَعَمِّدًا لِذَلِكَ فَانْخَسَفَ بِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَاشِيَ تَعَمَّدَ الْمَشْيَ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ وُقُوعُهُ مُضَافًا إلَى فِعْلِهِ لَا إلَى تَسَبُّبِ مَنْ اتَّخَذَ الْجِسْرَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا يَضْمَنُ وَاضِعُ الْجِسْرِ لِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا فِي التَّسْبِيبِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ وَاضِعَ الْجِسْرِ لَا يَكُونُ ضَامِنًا لِمَا عَطِبَ بِهِ وَإِنْ أَحْدَثَهُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ إذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَسِبٌ فِيمَا صَنَعَ فَإِنَّ النَّاسَ يَنْتَفِعُونَ بِمَا أَحْدَثَهُ فَلَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا. وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّمَا كَانَ مُحْتَسِبًا إذَا فَعَلَهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ بِمَنْزِلَةِ حَفْرِ الْبِئْرِ فَإِنَّهُ مُحْتَسِبٌ أَيْضًا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ وَمَعَ ذَلِكَ إذَا فَعَلَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ كَانَ ضَامِنًا لِمَا يَعْطَبُ بِهَا وَقَوْلُهُ لِأَنَّ الْإِلْقَاءَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ هَدَرَ دَمُهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا كَانَ الطَّيَرَانُ وَالْخُرُوجُ فِي فَوْرِ الْفَتْحِ يَضْمَنُ الْفَاتِحُ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الدَّابَّةِ وَالطَّيْرِ هَدَرٌ شَرْعًا فَلَمْ يَصْلُحْ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ فَكَانَ مُضَافًا إلَى الشَّرْطِ وَلِأَنَّ الدَّابَّةَ أَوْ الطَّيْرَ لَا يَصْبِرُ عَنْ الْخُرُوجِ وَالطَّيَرَانِ عَادَةً وَالْعَادَةُ إذَا تَأَكَّدَتْ صَارَتْ طَبِيعَةً لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا فَإِذَا خَرَجَ عَلَى الْفَوْرِ وَاسْتَعْمَلَ عَادَتَهُ كَانَ الْخُرُوجُ عَلَى الْعَادَةِ بِمَنْزِلَةِ سَيَلَانِ الدُّهْنِ عِنْدَ شَقِّ الزِّقِّ فَيَكُونُ الْفَتْحُ سَبَبَ ضَمَانٍ كَالشَّقِّ وَلَمْ يُبْطِلْ الْإِضَافَةَ إلَيْهِ بِاخْتِيَارِ الطَّيْرِ وَالدَّابَّةِ فِي الطَّيَرَانِ وَالْخُرُوجِ؛ لِأَنَّهُ اخْتِيَارٌ فَاسِدٌ كَمَا إذَا صَاحَ بِالدَّابَّةِ فَذَهَبَتْ صَارَ ضَامِنًا وَإِنْ ذَهَبَتْ مُخْتَارَةً؛ لِأَنَّهُ اخْتِيَارٌ فَاسِدٌ وَالصِّيَاحُ وَالصَّوْتُ سَائِقٌ فَأَشْبَهَ الْقَوْدَ جَبْرًا وَكَمَا لَوْ أَلْقَى حَيَّةً عَلَى إنْسَانٍ فَلَسَعَتْهُ يَجِبُ الضَّمَانُ وَإِنْ كَانَتْ الْحَيَّةُ فِي اللَّسْعِ مُخْتَارَةً؛ لِأَنَّ اللَّسْعَ لَهَا عَادَةٌ مُتَأَكِّدَةٌ فَالْتَحَقَتْ بِالطَّبِيعَةِ وَسَقَطَ اخْتِيَارُهَا وَإِذَا لَمْ يَخْرُجْ فِي فَوْرِ الْفَتْحِ لَا يَضْمَنُ الْفَاتِحُ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ إذَا لَمْ تَخْرُجْ فِي فَوْرِ الْفَتْحِ عُلِمَ أَنَّهَا تَرَكَتْ عَادَتَهَا وَكَانَ الْخُرُوجُ بَعْدَ ذَلِكَ بِحُكْمِ الِاخْتِيَارِ فَأَشْبَهَ حَلَّ قَيْدِ الْعَبْدِ وَالْجَوَابُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَإِمَّا يَذْكُرُ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يُضَافَ الْحُكْمُ إلَى الْعِلَّةِ لَا إلَى الشَّرْطِ وَالسَّبَبِ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ هَذَا الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَيْسَ هَذَا كَالسَّوْقِ؛ لِأَنَّ السَّوْقَ حَمْلٌ عَلَى الذَّهَابِ كَرْهًا كَمَا بَيَّنَّا فَيَنْتَقِلُ الْفِعْلُ إلَى الْمُكْرِهِ وَلَا كَإِلْقَاءِ الْحَيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُبَاشَرَةُ الْإِتْلَافِ إذْ الْإِلْقَاءُ عَلَيْهِ تَصَرُّفٌ فِيهِ بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَنَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا فَتْحُ جُحْرِ الْحَيَّةِ حَتَّى لَوْ فَتَحَ جُحْرَ الْحَيَّةِ فَخَرَجَتْ وَلَسَعَتْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ أَيْضًا كَالْكَلْبِ يَمِيلُ عَنْ سَنَنِ الْإِرْسَالِ يَعْنِي إذَا أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَى صَيْدٍ فَمَالَ عَنْ سُنَنِهِ ثُمَّ اتَّبَعَهُ فَأَخَذَهُ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي حَقِّ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ وَلَكِنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّ مَنْعِ الْإِضَافَةِ عَنْ الْمُرْسِلِ وَنَظِيرُهُ مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَجَاءَ حَرْبِيٌّ لَا أَمَانَ لَهُ وَأَلْقَى فِيهِ غَيْرَهُ لَمْ يَضْمَنْ الْحَافِرُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْحَرْبِيِّ إنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِي نَسْخِ حُكْمِ فِعْلِ الْحَافِرِ بِهِ فَكَذَلِكَ هَذَا أَيْ فَكَمَيْلِ الْكَلْبِ عَنْ سُنَنِ الْإِرْسَالِ وَجَوَلَانِ الدَّابَّةِ بَعْدَ الْإِرْسَالِ طَيَرَانُ الطَّيْرِ وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ بَعْدَ الْفَتْحِ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ قِيَاسٌ

وَلِهَذَا قُلْنَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِيمَنْ أَشْلَى كَلْبًا عَلَى صَيْدٍ مَمْلُوكٍ فَقَتَلَهُ أَوْ عَلَى نَفْسٍ فَقَتَلَهَا أَوْ مَزَّقَ ثِيَابَ رَجُلٍ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّهُ صَاحِبُ سَبَبٍ وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِعْلُ مُخْتَارٍ غَيْرُ مُضَافٍ إلَيْهِ لِأَنَّ الْكَلْبَ يَعْمَلُ بِطَبْعِهِ وَلَيْسَ الَّذِي أَشْلَاهُ بِسَائِقٍ بِخِلَافِ مَا إذَا أَشْلَى عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ أَنَّ صَاحِبَهُ جُعِلَ كَأَنَّهُ ذَبَحَهُ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ الِاصْطِيَادَ مِنْ الْمَكَاسِبِ فِي الْجُمْلَةِ فَبُنِيَ عَلَى نَفْيِ الْحَرَجِ وَقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَوَجَبَ الْمَصِيرُ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ إلَى مَحْضِ الْقِيَاسِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَمَا ذَكَرَهُ الْخَصْمُ قَرِيبٌ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ فَقَدْ أَلْحَقَ الْعَادَةَ وَإِنْ كَانَ عَنْ اخْتِيَارٍ بِالطَّبْعِيَّةِ الَّتِي لَا اخْتِيَارَ فِيهَا صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ وَإِهْدَارًا لِاخْتِيَارِ مَا لَا عَقْلَ لَهُ حُكْمًا فَإِنَّهُ جُبَارٌ لَا حُكْمَ لَهُ وَكَذَلِكَ جَعَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ لِأَنَّ مِنْ طَبِيعَةِ الدَّابَّةِ أَنَّهَا لَا تَصْبِرُ عَنْ أَكْلِ الزَّرْعِ إلَّا بِحِفْظٍ فَلَمَّا كَانَ الْحِفْظُ عَلَيْهِ لَيْلًا جُعِلَ تَرْكُ الْحِفْظِ بِمَنْزِلَةِ التَّسْلِيطِ وَالْإِرْسَالِ قُلْت فَعَلَى هَذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَتَرَجَّحُ الْقِيَاسُ فِيهَا عَلَى الِاسْتِحْسَانِ. قَوْلُهُ (وَلِذَلِكَ قُلْنَا) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ بَيَانِ الْقِسْمِ الثَّانِي وَمَتَى عَارَضَهُ عِلَّةٌ لَمْ يَصْلُحْ عِلَّةً أَيْ وَلَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحُكْمَ لَا يُضَافُ إلَى الشَّرْطِ عِنْدَ مُعَارَضَتِهِ مَا يَصْلُحُ عِلَّةً قُلْنَا كَذَا. أَوْ هُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْإِلْقَاءَ هُوَ الْعِلَّةُ وَقَدْ صَلَحَ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ أَيْ وَلِكَوْنِ الْإِلْقَاءِ صَالِحًا لِلْعِلِّيَّةِ قُلْنَا كَذَا الْقَوْلُ قَوْلُ الْحَافِرِ اسْتِحْسَانًا وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَوْلَى وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ قَدْ وَجَبَ عَلَى عَاقِلَةِ الْحَافِرِ فَهُوَ بِدَعْوَى إلْقَاءِ النَّفْسِ يُرِيدُ إسْقَاطَ ذَلِكَ الضَّمَانِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلْوَلِيِّ إذْ الْإِنْسَانُ لَا يُلْقِي نَفْسَهُ فِي الْبِئْرِ عَمْدًا فِي الْعَادَةِ فَعِنْدَ الْمُنَازَعَةِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا فِي قَبُولِ قَوْلِ الْحَافِرِ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ حُجَّةٌ لِلدَّفْعِ وَالْوَلِيُّ يَحْتَاجُ إلَى اسْتِحْقَاقِ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْحَافِرِ فَلَا يَكْفِيهِ التَّمَسُّكُ بِالظَّاهِرِ بَلْ يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ فِيهَا بِغَيْرِ تَعَمُّدٍ مِنْهُ مَعَ أَنَّ هَذَا الظَّاهِرَ يُعَارِضُهُ ظَاهِرٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْبَصِيرَ يَرَى الْبِئْرَ أَمَامَهُ فِي مَمْشَاهُ فَلَا يَقَعُ فِيهَا إلَّا بِالْإِلْقَاءِ قَصْدًا فَتَقَابَلَ الظَّاهِرَانِ وَبَقِيَ الِاحْتِمَالُ فِي سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَلَا نُوجِبُهُ بِالشَّكِّ وَجَحَدَ حُكْمًا ضَرُورِيًّا وَهُوَ خَلِيفَتُهُ الشَّرْطُ عَنْ الْعِلَّةِ وَفِيهِ إنْكَارُ سَبَبِ الضَّمَانِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّهُ أَيْ الْجَارِحَ صَاحِبُ عِلَّةٍ فَإِنَّ الْجَرْحَ عِلَّةٌ مُوجِبَةٌ لِلضَّمَانِ فَعِنْدَ وُجُودِ الْعِلَّةِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ الْعَارِضُ الْمُسْقِطُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْوَلِيِّ لِتَمَسُّكِهِ بِالْأَصْلِ. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ. وَلَمَّا قُلْنَا إنَّ اعْتِرَاضَ عِلَّةٍ صَالِحَةٍ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا يُوجِبُ قَطْعَ نِسْبَةِ الْحُكْمِ عَنْ الشَّرْطِ وَالسَّبَبِ قُلْنَا فِيمَنْ أَشْلَى كَلْبًا أَيْ أَغْرَاهُ وَأَرْسَلَهُ فَقَدْ وُضِعَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي الْإِرْسَالِ فَقِيلَ إذَا أَرْسَلَ كَلْبَهُ إرْسَالًا وَلَمْ يَكُنْ سَائِقًا لَهُ فَأَصَابَ فِي فَوْرِهِ يَعْنِي صَيْدًا مَمْلُوكًا لَمْ يَضْمَنْ يَعْنِي سَوَاءٌ كَانَ الْكَلْبُ مُعَلَّمًا أَوْ غَيْرَ مُعَلَّمٍ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ مُعَلَّمًا حَلَّ أَكْلُهُ وَإِلَّا فَلَا وَكَذَلِكَ رَجُلٌ أَشْلَى كَلْبَهُ عَلَى رَجُلٍ حَتَّى عَقَرَهُ أَوْ مَزَّقَ ثِيَابَهُ لَمْ يَضْمَنْ إلَّا أَنْ يَسُوقَهُ وَلَيْسَ الَّذِي أَشْلَاهُ بِسَائِقٍ يَعْنِي أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْإِشْلَاءِ وَالْإِرْسَالِ لَا يَصِيرُ سَائِقًا لِيُنْسَبَ الْفِعْلُ إلَيْهِ بِحُكْمِ السَّوْقِ فَبَقِيَ الْكَلْبُ عَامِلًا بِطَبْعِهِ وَاخْتِيَارِهِ وَعَمَلُ الْبَهِيمَةِ هَدَرٌ حَتَّى لَوْ كَانَ سَائِقًا لَهُ بِأَنْ كَانَ يَعْدُو خَلْفَهُ وَيُشْلِيهِ ضَمِنَ مَا أَتْلَفَهُ الْكَلْبُ مِنْ النَّفْسِ وَالثِّيَابِ وَالصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَرْسَلَ بَازِيًا عَلَى صَيْدٍ مَمْلُوكٍ وَسَاقَهُ فَأَتْلَفَهُ الْبَازِي حَيْثُ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْبَازِيَ لَا يَحْتَمِلُ السَّوْقَ فَهَدَرَ سَوْقُهُ وَبَقِيَ الْفِعْلُ مُنْقَطِعًا عَنْ الْمُرْسِلِ فَأَمَّا الْكَلْبُ فَيَحْتَمِلُهُ كَسَائِرِ الدَّوَابِّ فَيُعْتَبَرُ سَوْقُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ أَوْجَبَ الضَّمَانَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ سَوَاءٌ كَانَ صَاحِبُ الْكَلْبِ سَائِقًا لَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَجَعَلَ الْإِرْسَالَ بِمَنْزِلَةِ السَّوْقِ وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْكَلْبَ إنْ

وَلِهَذَا قُلْنَا فِيمَنْ أَلْقَى نَارًا فِي الطَّرِيقِ فَهَبَّتْ بِهِ الرِّيحُ ثُمَّ أَحْرَقَتْ لَمْ يَضْمَنْ وَإِذَا أَلْقَى شَيْئًا مِنْ الْهَوَامِّ فِي الطَّرِيقِ فَتَحَرَّكَتْ وَانْتَقَلَتْ ثُمَّ لَدَغَتْ لَمْ يَضْمَنْ وَبَعْضُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ تُخَرَّجُ عَلَى مَا سَبَقَ فِي بَابِ تَقْسِيمِ الْأَسْبَابِ فَهِيَ مُلْحَقَةٌ بِذَلِكَ الْبَابِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQأَصَابَ فِي فَوْرِهِ شَيْئًا يَضْمَنُ صَاحِبُ الْكَلْبِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَائِقًا لَهُ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ بِمَنْزِلَةِ السَّوْقِ فِي الدَّابَّةِ حَتَّى لَوْ أَرْسَلَ دَابَّةً فِي الطَّرِيقِ فَأَصَابَتْ شَيْئًا فِي وَجْهِهَا يَضْمَنُ كَمَا لَوْ كَانَ سَائِقًا لَهَا فَكَذَلِكَ فِي الْكَلْبِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّ الْكَلْبَ فِي أَخْذِ الصَّيْدِ وَتَمْزِيقِ الثِّيَابِ عَامِلٌ بِطَبْعِهِ وَاخْتِيَارِهِ لَا بِالْإِرْسَالِ فَكَانَ الْإِرْسَالُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ حَلِّ الْقَيْدِ فِي الْعَبْدِ فَلِذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِيهِ حَقِيقَةُ السَّوْقِ فَأَمَّا الدَّابَّةُ فَلَيْسَ مِنْ طَبْعِهَا الْمَشْيُ فِي الطَّرِيقِ بَلْ مِنْ طَبْعِهَا الْجَوَلَانُ وَتَرْكُ سُنَنِ الطَّرِيقِ لِلرَّعْيِ فَكَانَ مُحَافَظَتُهَا سُنَنَ الطَّرِيقِ بَعْدَ الْإِرْسَالِ عَلَى خِلَافِ طَبْعِهَا بِنَاءً عَلَى الْإِرْسَالِ كَمَا فِي السَّوْقِ فَكَانَ إرْسَالُهَا بِمَنْزِلَةِ السَّوْقِ إذَا ذَهَبَتْ عَلَى سُنَنِ الْإِرْسَالِ وَإِلَى هَذَا الْفَرْقِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْكَلْبَ يَعْمَلُ بِطَبْعِهِ وَوُقُولُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَشْلَى أَيْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ الْمُعَلَّمَ عَلَى صَيْدٍ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِعْلُ الْكَلْبِ مُضَافًا إلَى الْمُرْسِلِ فِي حَقِّ الضَّمَانِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِي حَقِّ الْحَلِّ أَيْضًا حَتَّى لَوْ أَقْبَلَ بِصَيْدٍ بَعْدَ الْإِرْسَالِ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ الْمُرْسِلُ كَانَ مَيْتَةً كَمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُعَلَّمًا فَقَالَ الِاصْطِيَادُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَكَاسِبِ وَبَابُهُ مَفْتُوحٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] الْآيَةَ وَلَا يُمْكِنُهُمْ الِاصْطِيَادُ خُصُوصًا بِالْكَلْبِ عَلَى وَجْهٍ يَقْدِرُونَ عَلَى ذَبْحِهِ بِالْوَجْهِ الْمَسْنُونِ غَالِبًا فَأُضِيفَ فِعْلُهُ إلَى الْمُرْسِلِ لِلضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ وَبُنِيَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى قَدْرِ الْإِمْكَانِ فَتْحًا لَبَابِ الْكَسْبِ فَأَمَّا فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ فَلَا ضَرُورَةَ؛ لِأَنَّهُ شَرَعَ جَبْرًا فَيَعْتَمِدُ الْفَوْتُ مِنْ جِهَةِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ لِتَخَلُّلِ فِعْلِ الْمُخْتَارِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ فِيهِ إلَى مَحْضِ الْقِيَاسِ أَيْ الدَّلِيلُ الظَّاهِرُ وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُبَاشِرٍ وَلَا مُسَبِّبٍ وَمَعَ الشَّكِّ فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ الضَّمَانُ بِحَالٍ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ فِي الِاصْطِيَادِ جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ وَالْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ لَا يَحِلَّ أَيْضًا. قَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ اعْتِرَاضَ الْعِلَّةِ يُوجِبُ قَطْعَ نِسْبَةِ الْحُكْمِ عَنْ غَيْرِهَا قُلْنَا كَذَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ إذَا وَضَعَ جَمْرًا فِي الطَّرِيقِ فَأَحْرَقَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي إحْدَاثِ النَّارِ فِي الطَّرِيقِ فَإِنْ حَرَّكَتْهُ الرِّيحُ فَذَهَبَتْ بِهِ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ ثُمَّ أَحْرَقَ شَيْئًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ فِعْلِهِ قَدْ انْتَسَخَ بِالتَّحَوُّلِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْيَوْمُ رِيحًا فَإِنْ كَانَ رِيحًا فَهُوَ ضَامِنٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَالِمًا حِينَ أَلْقَاهُ أَنَّ الرِّيحَ تَذْهَبُ بِهِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ فَلَا يَنْتَسِخُ حُكْمُ فِعْلِهِ بِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الدَّابَّةِ الَّتِي جَالَتْ فِي رِبَاطِهَا وَإِذَا أَلْقَى شَيْئًا مِنْ الْهَوَامِّ فِي الطَّرِيقِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا تَلِفَ بِهِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرُ عَنْ حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا التَّسْبِيبِ وَاخْتِيَارُهُ فِي اللَّسْعِ لَا يَقْطَعُ النِّسْبَةَ؛ لِأَنَّهُ طَبْعٌ لَهُ وَلَوْ تَحَرَّكَتْ أَيْ الْهَامَّةُ الْمُلْقَاةُ وَانْتَقَلَتْ مِنْ مَكَانِهَا إلَى مَكَان آخَرَ ثُمَّ لَدَغَتْهُ أَيْ لَدَغَتْ إنْسَانًا فَهَلَكَ لَمْ يَضْمَنْ الْمُلْقِي شَيْئًا لِانْقِطَاعِ نِسْبَتِهِ عَنْهُ بِتَخَلُّلِ فِعْلِ الْمُخْتَارِ وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان آخَرَ وَبَعْضُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَيْ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْقِسْمِ مِثْلُ مَسْأَلَةِ إشْلَاءِ الْكَلْبِ وَإِلْقَاءِ النَّارِ وَالْهَامَّةِ فِي الطَّرِيقِ وَإِرْسَالِ الدَّابَّةِ فِي الطَّرِيقِ وَنَحْوِهَا يَخْرُجُ عَلَى مَا سَبَقَ فِي بَابِ تَقْسِيمِ الْأَسْبَابِ وَهُوَ السَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي اعْتَرَضَ عَلَيْهِ عِلَّةٌ كَدَلَالَةِ السَّارِقِ وَنَحْوِهَا فَهِيَ مُلْحَقَةٌ بِذَلِكَ الْبَابِ وَلَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ خَلَتْ عَنْ مَعْنَى الشَّرْطِ إذْ الْإِشْلَاءُ وَالْإِلْقَاءُ فِي الطَّرِيقِ وَالْإِرْسَالُ لَيْسَتْ

وَأَمَّا الَّذِي هُوَ شَرْطٌ اسْمًا لَا حُكْمًا فَإِنَّ كُلَّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِشَرْطَيْنِ فَإِنَّ أَوَّلَهُمَا شَرْطٌ اسْمًا لَا حُكْمًا لِأَنَّ حُكْمَ الشَّرْطِ أَنْ يُضَافَ الْوُجُودُ إلَيْهِ وَذَلِكَ مُضَافٌ إلَى آخِرِهِمَا فَلَمْ يَكُنْ الْأَوَّلُ شَرْطًا لَا اسْمًا وَلِهَذَا قُلْنَا فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ وَهَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ أَبَانَهَا ثُمَّ دَخَلَتْ أَحَدَيْهِمَا ثُمَّ نَكَحَهَا ثُمَّ دَخَلَتْ الثَّانِيَةَ أَنَّهَا تَطْلُقُ خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ الْمِلْكَ شَرْطٌ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لِصِحَّةِ وُجُودِ الْجَزَاءِ لَا لِصِحَّةِ وُجُودِ الشَّرْطِ وَلَمْ يُوجَدْ هَا هُنَا جَزَاءٌ فَيَفْتَقِرُ إلَى الْمِلْكِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ الْمِلْكُ شَرْطًا لِغَيْرِ الشَّرْطِ لِأَنَّ عَيْنَهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْمِلْكِ وَلَمْ يَجُزْ شَرْطُهُ لِبَقَاءِ الْيَمِينِ كَمَا قَبْلَ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQلِلْمَانِعِ بِوَجْهٍ وَلَكِنَّهَا أُورِدَتْ هَاهُنَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ لِلْمُنَاسَبَةِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الَّذِي) أَيْ الْقِسْمُ الَّذِي أَوْ الشَّرْطُ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ اسْمًا لَا حُكْمًا فَكَذَا وَهَذَا يُسَمَّى شَرْطًا مَجَازًا لِتَخَلُّفِ حُكْمِهِ وَهُوَ وُجُودُ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِهِ عَنْهُ إلَّا أَنَّ وُجُودَ الْحُكْمِ لَمَّا كَانَ يَفْتَقِرُ إلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ كَانَ شَرْطًا صُورَةً لَا مَعْنًى وَفِي أَقْسَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَعْنَى الشَّرْطِ مَوْجُودٌ مَعَ شَيْءٍ آخَرَ وَلِهَذَا أَيْ وَلِأَنَّ الشَّرْطَ الْأَوَّلَ لَيْسَ بِشَرْطٍ مَعْنًى وَحَقِيقَةً قُلْنَا كَذَا وَالْمَسْأَلَةُ عَلَى أَوْجُهٍ إنْ دَخَلَتْهُمَا فِي الْمِلْكِ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِلَا شُبْهَةٍ وَإِنْ دَخَلَتْهُمَا فِي غَيْرِ الْمِلْكِ انْحَلَّتْ الْيَمِينُ لَا إلَى أَجْزَاءٍ وَإِنْ دَخَلَتْ الْأُولَى فِي الْمِلْكِ ثُمَّ بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا ثُمَّ دَخَلَتْ الْأُخْرَى فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَمْ يُطَلِّقْ بِالِاتِّفَاقِ أَيْضًا وَإِنْ دَخَلَتْ الْأُولَى فِي غَيْرِ الْمِلْكِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ دَخَلَتْ الْأُخْرَى طَلُقَتْ عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تَطْلُقُ؛ لِأَنَّ حَظَّ الشَّرْطَيْنِ مِنْ الْحُكْمِ عَلَى السَّوَاءِ؛ لِأَنَّهُ صَيَّرَهَا شَيْئًا وَاحِدًا فِي وُجُودِ الْجَزَاءِ وَفِي أَحَدِهِمَا يُشْتَرَطُ الْمِلْكُ فَكَذَلِكَ فِي الْآخَرِ وَمَذْهَبُهُ أَنَّهُ يُجْرِي الشُّرُوطَ مَجْرَى الْعِلَلِ كَمَا قَالَ فِي الْإِحْصَانِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ وَأَنَّ السَّارِقَ لَا يُقْطَعُ بِخُصُومَةِ الْمُودَعِ؛ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطُ ظُهُورِ السَّرِقَةِ فَلَا يَجْرِي فِيهَا النِّيَابَةُ عِنْدَهُ كَمَا لَا تَجْرِي فِي الشَّهَادَةِ الَّتِي هِيَ مُثَبِّتَةٌ لِلسَّرِقَةِ فَلِذَلِكَ سَوَّى بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ وَوَجْهُ قَوْلِنَا مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْمِلْكَ شَرْطٌ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لِصِحَّةِ وُجُودِ الْجَزَاءِ لَا لِصِحَّةِ وُجُودِ الشَّرْطِ وَلِهَذَا لَوْ دَخَلَتْ الدَّارَيْنِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ انْحَلَّتْ الْيَمِينُ. وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا أَيْ لَيْسَ فِيمَا إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ جَزَاءٌ يَفْتَقِرُ إلَى الْمِلْكِ لِيُشْتَرَطَ الْمِلْكُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَا يَنْزِلُ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ الثَّانِي وَلَمْ يَجُزْ شَرْطُهُ لِبَقَاءِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهَا الذِّمَّةُ فَتَبْقَى بِبَقَائِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْيَمِينَ يَبْقَى قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ بِدُونِ الْمِلْكِ بِأَنْ أَبَانَهَا قَبْلَ دُخُولِ الدَّارَيْنِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَبْقَى بِدُونِهِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ الثَّانِي أَيْضًا وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمِلْكَ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِيجَابِ أَوْ صِحَّةِ الْإِيقَاعِ وَحَالُ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ خَالِيَةٌ عَنْهُمَا فَلَوْ شَرَطَ الْمِلْكَ لِبَقَاءِ الْيَمِينِ أَوْ لِصِحَّةِ عَيْنِ الشَّرْطِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الشَّرْطُ الَّذِي هُوَ عَلَامَةٌ) وَهُوَ الْقِسْمُ الْخَامِسُ مِنْ الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ بِالْإِحْصَانِ قِيلَ إحْصَانُ الزِّنَا عِبَارَةٌ عَنْ اجْتِمَاعِ سَبْعَةِ أَشْيَاءَ الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالنِّكَاحُ الصَّحِيحُ. وَالدُّخُولُ بِالنِّكَاحِ وَكَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ مِثْلَ الْآخَرِ فِي صِفَةِ الْإِحْصَانِ وَالْإِسْلَامُ قَالَ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ إنَّ شَرْطَ الْإِحْصَانِ عَلَى الْخُصُوصِ شَيْئَانِ الْإِسْلَامُ وَالدُّخُولُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ بِامْرَأَةٍ هِيَ مِثْلُهُ فَأَمَّا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ فَهُمَا شَرْطَا الْأَهْلِيَّةِ لِلْعُقُوبَةِ لَا شَرْطَا الْإِحْصَانِ عَلَى الْخُصُوصِ وَالْحُرِّيَّةُ شَرْطُ تَكْمِيلِ الْعُقُوبَةِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ الْإِحْصَانَ عَلَامَةٌ أَيْ مُعَرَّفٌ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّ الزِّنَا إذَا تَحَقَّقَ عِلَّةٌ لِلرَّجْمِ عَلَى إحْصَانٍ يَحْدُثُ بَعْدَهُ فَإِنَّ الْإِحْصَانَ لَوْ وُجِدَ بَعْدَ الزِّنَا لَا يَثْبُتُ بِوُجُودِهِ الرَّجْمُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لَهُ وَلَا سَبَبٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَرِيقٍ مُفْضٍ إلَيْهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الرَّجْمَ غَيْرُ مُضَافٍ إلَيْهِ وُجُوبًا بِهِ وَلَا وُجُودًا عِنْدَ وُجُودِهِ وَلَكِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ حَالٍ فِي الزَّانِي يَصِيرُ الزِّنَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مُوجِبًا لِلرَّجْمِ فَكَانَ مُعَرَّفًا أَنَّ الزِّنَا حِينَ وُجِدَ كَانَ مُوجِبًا لِلرَّجْمِ فَكَانَ عَلَامَةً لَا شَرْطًا فَلَمْ يَصِحَّ عِلَّةً لِلْوُجُوبِ وَلَا لِلْوُجُودِ أَيْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ فَلَا يَكُونُ عِلَّةً وَلَا الْوُجُودُ فَلَا يَكُونُ شَرْطًا وَذَلِكَ أَيْ وَلِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْوُجُوبِ وَالْوُجُودِ بِهِ لَمْ يُجْعَلْ لِهَذَا الْقِسْمِ وَهُوَ الْعَلَامَةُ حُكْمَ الْعِلَّةِ

فَأَمَّا الشَّرْطُ الَّذِي هُوَ عَلَامَةٌ فَالْإِحْصَانُ فِي بَابِ الزِّنَا وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ عَلَامَةٌ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّرْطِ أَنْ يَمْنَعَ انْعِقَادَ الْعِلَّةِ إلَى أَنْ يُوجَدَ الشَّرْطُ وَهَذَا لَا يَكُونُ فِي الزِّنَا بِحَالٍ لِأَنَّ الزِّنَا إذَا وُجِدَ لَمْ يَتَوَقَّفْ حُكْمُهُ عَلَى إحْصَانٍ يَحْدُثُ بَعْدَهُ لَكِنَّ الْإِحْصَانَ إذَا ثَبَتَ كَانَ مُعَرِّفًا لِحُكْمِ الزِّنَا فَأَمَّا أَنْ يُوجَدَ الزِّنَا بِصُورَتِهِ فَيَتَوَقَّفَ انْعِقَادُهُ عِلَّةً عَلَى وُجُودِ الْإِحْصَانِ فَلَا يَثْبُتُ أَنَّهُ عَلَامَةٌ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فَلَمْ يَصْلُحْ عِلَّةً لِلْوُجُودِ وَلَا لِلْوُجُوبِ وَلِذَلِكَ لَمْ يُجْعَلْ لَهُ حُكْمُ الْعِلَلِ بِحَالٍ وَلِذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ شُهُودُ الْإِحْصَانِ إذَا رَجَعُوا عَلَى حَالٍ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الشَّرْطِ الْخَالِصِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِحَالٍ يَعْنِي سَوَاءٌ كَانَتْ الْعِلَّةُ صَالِحَةً لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا أَوْ لَمْ تَكُنْ هَذَا هُوَ طَرِيقَةُ الْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ فِي التَّقْوِيمِ وَاخْتَارَهَا الشَّيْخَانِ وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَأَمَّا أَصْحَابُنَا الْمُتَقَدِّمُونَ وَعَامَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَقَدْ سَمَّوْا الْإِحْصَانَ شَرْطًا لِوُجُوبِ الرَّجْمِ لَا عَلَامَةً مُسْتَرْوِحِينَ بِأَنَّ شَرْطَ الشَّيْءِ مَا يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَيْهِ وَالْإِحْصَانُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الرَّجْمِ بِالزِّنَا مُتَوَقِّفٌ عَلَى وُجُودِ الْإِحْصَانِ وَكَوْنُهُ سَابِقًا عَلَى الزِّنَا غَيْرَ مُتَأَخِّرٍ عَنْهُ لَا يُخِلُّ بِشَرْطِيَّتِهِ كَالطَّهَارَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَالنِّيَّةُ سَابِقَةٌ عَلَى الصَّلَاةِ بِحَيْثُ لَا يُتَصَوَّرُ تَأَخُّرُهَا عَنْ صُورَةِ الصَّلَاةِ وَتَوَقَّفَ انْعِقَادُهَا صَلَاةً عَلَيْهَا وَكَذَا الْإِشْهَادُ فِي النِّكَاحِ سَابِقٌ عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَا يُتَصَوَّرُ تَأَخُّرُهُ عَنْهُ وَتَوَقَّفَ انْعِقَادُهُ عَلَيْهِ بَعْدَ وُجُودِ صُورَتِهِ ثُمَّ إنَّهَا شُرُوطٌ حَقِيقِيَّةٌ بِلَا خِلَافٍ لِتَوَقُّفِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَالنِّكَاحِ عَلَيْهَا وَلَيْسَتْ بِعَلَامَاتٍ فَكَذَا الْإِحْصَانُ لِلرَّجْمِ. وَقَوْلُهُمْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ وُجُودٌ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عِنْدَهُمْ بَلْ ثُبُوتُ وُجُوبِ الرَّجْمِ بِالزِّنَا مُتَعَلِّقٌ بِهِ إذْ الزِّنَا لَا يُوجِبُ الرَّجْمَ بِدُونِ الْإِحْصَانِ بِحَالٍ كَالسَّرِقَةِ لَا تُوجِبُ الْقَطْعَ بِدُونِ النِّصَابِ وَهُوَ شَرْطٌ بِلَا شُبْهَةٍ فَكَذَا الْإِحْصَانُ وَقَوْلُهُمْ لَا بُدَّ لِلشَّرْطِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنْ صُورَةِ الْعِلَّةِ لِيَتَوَقَّفَ انْعِقَادُهَا عِلَّةً عَلَيْهِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ أَيْضًا بَلْ الشَّرْطُ قَدْ يَكُونُ مُتَقَدِّمًا عَلَى صُورَةِ الْعِلَّةِ كَمَا بَيَّنَّا وَقَدْ يَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنْهَا كَمَا فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ انْعِقَادَ بَعْضِ الْعِلَلِ لَا يَقْبَلُ الِانْفِصَالَ عَنْ وُجُودِ صُورَتِهَا كَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَبَعْضُهَا يَقْبَلُ ذَلِكَ كَالطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ وَالْعَتَاقِ الْمُعَلَّقِ وَسَائِرِ مَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَالشَّرْطُ فِي هَذَا الْقِسْمِ يَتَأَخَّرُ عَنْ صُورَةِ الْعِلَّةِ. وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ لَا يَتَأَخَّرُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا عَلَى الْمَشْرُوطِ، وَالْمَشْرُوطُ وَهُوَ الِانْعِقَادُ لَمَّا لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْ الصُّورَةِ لَا يُتَصَوَّرُ تَأَخُّرُ الشَّرْطِ عَنْهَا ضَرُورَةً. قَوْلُهُ (وَلِذَلِكَ) أَيْ وَلِأَنَّ الْإِحْصَانَ عَلَامَةٌ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ لَا يَضْمَنُ شُهُودُ الْإِحْصَانِ إذَا رَجَعُوا عَلَى حَالٍ يَعْنِي سَوَاءٌ رَجَعُوا مَعَ شُهُودِ الزِّنَا أَوْ رَجَعُوا وَحْدَهُمْ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الشَّرْطِ الْخَالِصِ وَهِيَ مَا إذَا اجْتَمَعَ شُهُودُ الشَّرْطِ وَالْيَمِينِ ثُمَّ رَجَعَ شُهُودُ الشَّرْطِ وَحْدَهُمْ فَإِنَّهُمْ يَضْمَنُونَ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الشَّيْخُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ صَالِحٌ لِخِلَافَةِ الْعِلَّةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا لِتَعَلُّقِ الْوُجُودِ بِهِ فَأَمَّا الْعَلَامَةُ فَلَيْسَتْ بِصَالِحَةٍ لِخِلَافَتِهَا عَنْ الْعِلَّةِ أَصْلًا لِمَا قُلْنَا إنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وُجُوبٌ وَلَا وُجُودٌ فَلَا يَجُوزُ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَيْهَا بِوَجْهٍ. وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ رَجَعَ شُهُودُ الْإِحْصَانِ وَحْدَهُمْ ضَمِنُوا دِيَةَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ الزِّنَا وَالْإِحْصَانِ جَمِيعًا يَشْتَرِكُونَ فِي الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ شَرْطُ الرَّجْمِ وَمِنْ أَصْلِهِ أَنَّ السَّبَبَ أَيْ الْعِلَّةَ وَالشَّرْطَ سَوَاءٌ فِي إضَافَةِ الضَّمَانِ إلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَقِفُ عَلَى الشَّرْطِ كَمَا يَقِفُ عَلَى السَّبَبِ لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِهِمَا فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالْإِحْصَانُ مُلْحَقٌ بِالزِّنَا فِي إضَافَةِ الْحَدِّ إلَيْهِ بِدَلِيلِ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْإِحْصَانِ تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى وَالشَّهَادَةَ عَلَى النِّكَاحِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ لَا تُقْبَلُ بِدُونِهَا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْحَدُّ مُضَافًا إلَيْهِمَا لَمَا قُبِلَتْ كَمَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ وَأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالْإِحْصَانِ ثُمَّ رَجَعَ يَصِحُّ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِالزِّنَا ثُمَّ رَجَعَ يَصِحُّ وَأَنَّ الْقَاضِيَ يَسْأَلُ شُهُودَ الْإِحْصَانِ عَنْ الْإِحْصَانِ مَا هُوَ وَكَيْفَ هُوَ كَمَا يَسْأَلُ عَنْ الزِّنَا

وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ الْإِحْصَانَ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ الذُّكُورُ الْخَالِصَةُ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ بِهِ وُجُوبُ عُقُوبَةٍ وَلَا وُجُودُهَا ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُزَكِّي إذَا رَجَعَ يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنْ لَمْ يُثْبِتْ عِلَّةَ الْقَتْلِ وَلَكِنَّهُ أَثْبَتَ شَرْطَ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْعَدَالَةُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُزَكِّينَ وَشُهُودِ الْإِحْصَانِ؛ لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا خِصَالًا حَمِيدَةً فِي الْجَانِي وَالْمُزَكُّونَ أَثْبَتُوا خِصَالًا حَمِيدَةً فِي الشَّاهِدِ ثُمَّ شَهَادَةُ شُهُودِ الْإِحْصَانِ أَقْرَبُ إلَى مَحَلِّ الْحَدِّ مِنْ التَّزْكِيَةِ فَكَانُوا أَوْلَى بِالضَّمَانِ مِنْ الْمُزَكِّينَ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِحْصَانَ لَيْسَ بِشَرْطٍ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الشَّيْخُ فَلَا يَجُوزُ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَيْهِ بِوَجْهٍ. وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ شَرْطٌ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ فَلَا يَجُوزُ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ شُهُودَ الشَّرْطِ لَا يَضْمَنُونَ بِالرُّجُوعِ عِنْدَ صَلَاحِ الْعِلَّةِ لِلْإِضَافَةِ إلَيْهَا وَهَاهُنَا شُهُودُ الزِّنَا شُهُودُ الْعِلَّةِ وَهِيَ صَالِحَةٌ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا فَيُضَافُ التَّلَفُ إلَيْهِمْ فَإِنْ رَجَعُوا وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ ثَبَتُوا انْقَطَعَ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمْ عَنْ الشَّرْطِ عَلَى أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَسْتَحِيلُ إضَافَةُ الْحَدِّ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ مُتَنَاهِيَةٌ وَالْإِحْصَانَ خِصَالٌ حَمِيدَةٌ وَيَسْتَحِيلُ إضَافَةُ الْعُقُوبَةِ إلَى الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ فَصَارَ مُضَافًا إلَى الزِّنَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَإِنَّمَا صَحَّ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْإِحْصَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ شَرْطًا لِلْحَدِّ صَارَ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْحَقِّ وَسَبَبَهُ مِنْ حُقُوقِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَمَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ رَجَعَ صَحَّ رُجُوعُهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَذِّبْهُ فِي الْإِنْكَارِ وَلَمْ يُصَدِّقْهُ فِي الْإِقْرَارِ بِخِلَافِ حُقُوقِ الْعِبَادِ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ صَدَّقَهُ فِي الْإِقْرَارِ وَكَذَّبَهُ فِي الْإِنْكَارِ فَبَطَلَ الرُّجُوعُ بِمُعَارَضَةِ التَّكْذِيبِ وَلِهَذَا قَبِلْنَا الشَّهَادَةَ فِيهِ بِدُونِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى تُقْبَلُ بِدُونِ الدَّعْوَى وَأَمَّا سُؤَالُ الْقَاضِي عَنْ الْإِحْصَانِ فَلِأَنَّهُ كَلِمَةٌ مُجْمَلَةٌ تُطْلَقُ عَلَى النِّكَاحِ وَعَلَى الْحُرِّيَّةِ وَغَيْرِهِمَا فَيَسْتَفْسِرُهُ لِيَتَبَيَّنَ لَهُ الْمَشْهُودُ بِهِ إذْ الشَّهَادَةُ لَا تُقْبَلُ إلَّا عَلَى الْمَعْلُومِ وَلَيْسَ هَذَا كَالتَّزْكِيَةِ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ عِلَّةِ الْعِلَّةِ كَمَا بَيَّنَّا وَلِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رُجُوعِ شُهُودِ الْإِحْصَانِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ قَالُوا أَحَدُهَا أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا وَهُوَ الْأَصَحُّ وَالثَّانِي أَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ قَالُوا تَعَمَّدْنَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْقَوَدُ وَالثَّالِثُ أَنَّهُمْ إنْ شَهِدُوا بِالْإِحْصَانِ قَبْلَ ثُبُوتِ الزِّنَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ وَإِنْ شَهِدُوا بَعْدَ ثُبُوتِ الزِّنَا فَعَلَيْهِمْ الضَّمَانُ. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ وَلِأَنَّ الْإِحْصَانَ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِلرَّجْمِ وَلَا بِشَرْطٍ لَهُ قُلْنَا إنَّ الْإِحْصَانَ يَثْبُتُ يَعْنِي قَبْلَ ثُبُوتِ الزِّنَا وَبَعْدَهُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَثْبُتُ بَعْدَ ثُبُوتِ الزِّنَا وَبَعْدَهُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِحْصَانَ عَلَى أَصْلِهِ مُلْحَقٌ بِالزِّنَا فِي إضَافَةِ الْحَدِّ إلَيْهِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْإِحْصَانِ بَعْدَ ثُبُوتِ الزِّنَا تَكْمِيلُ الْعُقُوبَةِ وَبِاعْتِبَارِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَا يَكُونُ لِلنِّسَاءِ فِيهِ شَهَادَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُكَمِّلَ لِلْعُقُوبَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُوجِبِ لِأَصْلِ الْعُقُوبَةِ بِخِلَافِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ بِالنِّكَاحِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ حَيْثُ تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ تَكْمِيلَ الْحَدِّ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بَعْدَ مَوْتِ رَجُلٍ لِآخَرَ أَنَّهُ ابْنُهُ وَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ وَأَحْرَزَ مِيرَاثَهُ ثُمَّ رَجَعَا يَضْمَنَانِ وَلَوْ شَهِدَا بِالنَّسَبِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَلَمَّا مَاتَ وَأَحْرَزَ الْمَشْهُودُ لَهُ الْمِيرَاثَ ثُمَّ رَجَعَا لَا يَضْمَنَانِ؛ لِأَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى شَهِدَا بِحَضْرَةِ الْمِيرَاثِ فَصَارَ كَمَا لَوْ شَهِدَا بِالْمِيرَاثِ وَفِي الثَّانِيَةِ يَشْهَدَانِ بِحَضْرَةِ الْمِيرَاثِ فَلَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا شَهِدَا بِالْمِيرَاثِ وَحُجَّتُنَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِحْصَانَ

فَإِنْ قِيلَ إذَا شَهِدَ كَافِرَانِ عَلَى عَبْدٍ مُسْلِمٍ أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ وَقَدْ زَنَى الْعَبْدُ أَوْ قَذَفَ فَأَنْكَرَ الْعَبْدُ وَالْمَوْلَى ذَلِكَ وَالْمَوْلَى كَافِرٌ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ وَقَدْ شَهِدُوا عَلَى الْمَوْلَى وَهُوَ كَافِرٌ وَلَمْ يَشْهَدُوا عَلَى الْعَبْدِ بِشَيْءٍ عَلَى مَا قُلْتُمْ إنَّهُ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ وُجُودٌ وَلَا وُجُوبٌ فَهَلَّا قُبِلَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ لِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ خُصُوصًا الْمَشْهُودَ بِهِ دُونَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَخُصُوصًا أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِإِيجَابِ عُقُوبَةٍ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا وُجُوبٌ وَلَا وُجُودٌ وَلَكِنْ فِي هَذِهِ الْحُجَّةِ تَكْثِيرُ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَيْسَ بِسَبَبٍ مُوجِبٍ لِلْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ خِصَالٍ بَعْضُهَا مَأْمُورٌ بِهِ وَبَعْضُهَا مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِإِيجَابِ الْعُقُوبَةِ وَلَا بِشَرْطٍ أَيْضًا لِمَا مَرَّ بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ حَالٍ يَصِيرُ الزِّنَا فِي تِلْكَ الْحَالِ مُوجِبًا لِلرَّجْمِ كَمَا بَيَّنَّا وَلَئِنْ كَانَ شَرْطًا فَالْحَدُّ لَا يُضَافُ إلَيْهِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ الصَّالِحَةِ لِلْإِضَافَةِ إلَيْهَا فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ بِالنِّكَاحِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِمَنْزِلَتِهَا فِي غَيْرِهَا مِنْ الْأَحْوَالِ فَتُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الشَّهَادَةِ بِالْبُنُوَّةِ؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ يُسْتَحَقُّ بِالنَّسَبِ وَالْمَوْتِ جَمِيعًا فَأَيُّهُمَا كَانَ آخِرًا يُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ فَإِذَا شَهِدُوا بِالنَّسَبِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَانَ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَى النَّسَبِ فَضَمِنُوا عِنْدَ الرُّجُوعِ وَإِذَا شَهِدُوا بِالنَّسَبِ قَبْلَ الْمَوْتِ كَانَ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَى الْمَوْتِ لَا إلَى النَّسَبِ فَلَمْ يَضْمَنُوا فَأَمَّا الْحَدُّ فَمُضَافٌ إلَى الزِّنَا بِكُلِّ حَالٍ لَا إلَى الْإِحْصَانِ فَيُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ بِكُلِّ حَالٍ ثُمَّ اعْتَبَرَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَدَّ شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي الْإِحْصَانِ بِرَدِّ شَهَادَةِ الْكُفَّارِ فِيهِ فَأَدْرَجَ الشَّيْخُ فِي كَلَامِهِ ذَلِكَ بِطَرِيقِ السُّؤَالِ لِيُشِيرَ إلَى الْفَرْقِ فِي الْجَوَابِ فَقَالَ فَإِنْ قِيلَ إذَا شَهِدَ كَافِرَانِ يَعْنِي مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى عَبْدٍ مُسْلِمٍ لِذِمِّيٍّ وَقَدْ زَنَى الْعَبْدُ أَوْ قَذَفَ رَجُلًا بِالزِّنَا أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ يَعْنِي قَبْلَ الزِّنَا وَالْقَذْفِ وَقَدْ أَنْكَرَ الْعَبْدُ وَالْمَوْلَى الْإِعْتَاقَ لِتَضَرُّرِ الْمَوْلَى بِزَوَالِ مِلْكِهِ وَتَضَرُّرِ الْعَبْدِ بِتَكْمِيلِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ مَعَ أَنَّهُمْ شَهِدُوا عَلَى الْمَوْلَى بِالْعِتْقِ إلَى آخِرِهِ إطْلَاقُ هَذَا الْكَلَامِ وَإِنْ كَانَ يُشِيرُ إلَى أَنَّهَا لَا يُقْبَلُ فِي الْعِتْقِ وَتَكْمِيلِ الْحَدِّ جَمِيعًا وَعَلَيْهِ يَدُلُّ مَا ذُكِرَ فِي الْأَسْرَارِ فِي حُدُودٍ حَيْثُ قِيلَ فِيهِ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّ الزَّانِيَ لَوْ كَانَ عَبْدًا مُسْلِمًا لِكَافِرٍ لَمْ يَثْبُتْ عِتْقُهُ بِشَهَادَةِ الْكُفَّارِ وَإِنْ كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ حُجَّةً عَلَى هَذَا الْعِتْقِ لَوْلَا الزِّنَا. وَلَكِنَّ الْإِمَامَ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - صَرَّحَ فِي الْمَبْسُوطِ بِأَنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ سَبْقُ التَّارِيخِ؛ لِأَنَّ هَذَا تَارِيخٌ يُنْكِرُهُ الْمُسْلِمُ وَمَا يُنْكِرُهُ الْمُسْلِمُ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَيْضًا فَقَالَ يُثْبِتُ الْحُرِّيَّةَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ وَلَا يُثْبِتُ تَمَكُّنَ الْإِمَامِ مِنْ إقَامَةِ الرَّجْمِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا لَا يَدْخُلُ لِشَهَادَةِ الْكُفَّارِ فِي إيجَابِ الرَّجْمِ عَلَى الْمُسْلِمِ لَا مَدْخَلَ بِشَهَادَتِهِمْ فِي إثْبَاتِ التَّمَكُّنِ مِنْ إقَامَةِ الرَّجْمِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي شَهَادَاتِ الْأَسْرَارِ وَالتَّقْوِيمِ أَيْضًا وَهُوَ الصَّحِيحُ كَمَا إذَا شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِالسَّرِقَةِ فِي حَقِّ الْقَطْعِ وَتَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمَالِ ثُمَّ تَوْجِيهُ هَذَا السُّؤَالِ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِهِمَا حَيْثُ قَبِلَا الشَّهَادَةَ عَلَى عِتْقِ الْعَبْدِ بِدُونِ دَعْوَاهُ فَكَانَ عَدَمُ الْقَبُولِ هَاهُنَا لِتَضَمُّنِهِ تَكْمِيلَ الْعُقُوبَةِ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَعَدَمُ الْقَبُولِ لِعَدَمِ شَرْطِهِ وَهُوَ الدَّعْوَى فَلَا يَرِدُ السُّؤَالُ إلَّا إذَا وُضِعَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي الْأَمَةِ فَحِينَئِذٍ يَرِدُ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ (قَوْلُهُ فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا) أَيْ عَنْ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ أَنَّ لِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ خُصُوصًا فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ بِهِ دُونَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَيُقْبَلُ فِيمَا لَيْسَ بِعُقُوبَةٍ وَلَا يُقْبَلُ إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ سَبَبَ عُقُوبَةٍ أَوْ شَرْطًا لَهُ أَثَرٌ فِي إيجَادِ الْعُقُوبَةِ لِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ «مَضَتْ السُّنَّةُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ» وَلَكِنَّهَا حُجَّةٌ تَامَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ جَمِيعًا وَالْمَشْهُودُ بِهِ هَاهُنَا هُوَ الْإِحْصَانُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ

وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ زَائِدٌ وَشَهَادَةُ هَؤُلَاءِ حُجَّةٌ لِإِيجَابِ الضَّرَرِ إذَا لَمْ يَكُنْ حَدًّا وَعُقُوبَةً وَلِشَهَادَةِ الْكُفَّارِ اخْتِصَاصٌ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ دُونَ الْمَشْهُودِ بِهِ وَقَدْ تَضَمَّنَتْ شَهَادَتُهُمْ تَكْثِيرَ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ بِالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ إيجَابُ الضَّرَرِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِشَهَادَةِ الْكُفَّارِ أَبَدًا. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إنَّ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ فِرَاشٍ قَائِمٍ وَلَا حَبَلٍ ظَاهِرٍ وَلَا إقْرَارٍ بِالْحَبَلِ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ حُجَّةٌ فِي تَعْيِينِ الْوَلَدِ بِلَا خِلَافٍ وَلَمْ يُوجِبْ هَا هُنَا إلَّا التَّعْيِينَ فَأَمَّا النَّسَبُ فَإِنَّمَا ثَبَتَ بِالْفِرَاشِ فَيَكُونُ انْفِصَالُهُ مُعَرَّفًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ السَّبَبِ وَلَا وُجُودُهُ كَمَا فِي حَالِ قِيَامِ الْفِرَاشِ أَوْ ظُهُورِ الْحَبَلِ وَالْإِقْرَارُ بِهِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْفِرَاشَ إذَا لَمْ يَكُنْ قَائِمًا ـــــــــــــــــــــــــــــQوَلَا وُجُودُهُ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْحَدِّ وَلَا شَرْطًا لَهُ فَلَمْ يَمْتَنِعْ الْقَبُولُ بِاعْتِبَارِ الْمَشْهُودِ بِهِ وَلَكِنْ فِي هَذِهِ الْحُجَّةِ تَكْثِيرُ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ وَهُوَ النِّعْمَةُ فَإِنَّ الْجِنَايَةَ تَقَعُ عَلَى النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فَقَبْلَ هَذِهِ الشَّهَادَةِ كَانَ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ نِعْمَةَ الْعَقْلِ وَالْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ وَبَعْدَمَا شَهِدُوا صَارَ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ النِّعَمَ الْمَذْكُورَةَ وَنِعْمَةُ الْإِصَابَةِ مِنْ الْحَلَالِ بِطَرِيقِهِ الْمَوْضُوعِ لَهُ. وَفِي ذَلِكَ أَيْ فِي تَكْثِيرِ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ ضَرَرٌ زَائِدٌ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَإِنَّ مُوجِبَ الْجِنَايَةِ يَتَغَيَّرُ بِهَذَا التَّكْثِيرِ مِنْ الْجَلْدِ إلَى الرَّجْمِ وَشَهَادَةُ هَؤُلَاءِ أَيْ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ حُجَّةٌ فِي إيجَابِ الضَّرَرِ حَدًّا أَوْ عُقُوبَةً كَمَا فِي إيجَابِ الْمَالِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ ثُبُوتُ الْإِحْصَانِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ بِسَبَبِ تَضَمُّنِهِ إيجَابَ زِيَادَةِ الضَّرَرِ عَلَى الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الضَّرَرِ ثَبَتَتْ بِمِثْلِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ وَلِشَهَادَةِ الْكُفَّارِ اخْتِصَاصٌ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ دُونَ الْمَشْهُودِ بِهِ فَإِنَّ شَهَادَتَهُمْ حُجَّةٌ عَلَى الْكُفَّارِ دُونَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ وَلَا وِلَايَةَ لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَعَلَا {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] وَلَكِنَّهَا عَامَّةٌ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ حَتَّى ثَبَتَ بِشَهَادَتِهِمْ الْحُدُودُ وَغَيْرُهَا وَقَدْ تَضَمَّنَتْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ تَكْثِيرَ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ كَانَتْ مُقْتَصِرَةً عَلَى الْعَقْلِ وَالدِّينِ أَوْ عَلَيْهِمَا وَعَلَى إصَابَةِ الْحَلَالِ وَمُوجِبُهَا جَلْدُ خَمْسِينَ فِي الزِّنَا وَجَلْدُ أَرْبَعِينَ فِي الْقَذْفِ وَبِهَذِهِ الشَّهَادَةِ صَارَتْ جِنَايَةً عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَعَلَى الْحُرِّيَّةِ أَيْضًا وَصَارَ مُوجِبُ الْجِنَايَةِ الرَّجْمَ أَوْ جَلْدَ مِائَةٍ فِي الزِّنَا وَجَلْدَ ثَمَانِينَ فِي الْقَذْفِ وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةُ ضَرَرٍ تَثْبُتُ عَلَى الْمُسْلِمِ بِشَهَادَةِ الْكُفَّارِ وَشَهَادَتُهُمْ فِيمَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُسْلِمُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ أَصْلًا. قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ) وَهُوَ أَنَّ الْمُعَرَّفَ الْمَحْضَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبٌ وَلَا وُجُودٌ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْمُعْتَدَّةِ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَأَنْكَرَ الزَّوْجُ الْوِلَادَةَ فَشَهِدَتْ الْقَابِلَةُ بِالْوِلَادَةِ تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ فِرَاشٍ قَائِمٍ أَيْ نِكَاحٍ ثَابِتٍ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالِ وَلَا كَذَا وَكَذَا وَيَثْبُتُ النَّسَبُ بِشَهَادَتِهَا كَمَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ حُجَّةٌ فِي تَعْيِينِ الْوَلَدِ بِلَا خِلَافٍ يَعْنِي إذَا كَانَ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ مَوْجُودًا وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ الْوِلَادَةَ تَثْبُتُ الْوِلَادَةُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ بِالِاتِّفَاقِ وَثَبَتَ نَسَبُ الْمَوْلُودِ لَا بِشَهَادَتِهَا وَلَكِنْ بِذَلِكَ السَّبَبِ الْمَوْجُودِ قَبْلَ الشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهَا تَعْيِينُ الْوَلَدِ لَا غَيْرُ فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمْ يَثْبُتْ بِشَهَادَتِهَا إلَّا تَعْيِينُ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْفِرَاشِ الْقَائِمِ عِنْدَ الْعُلُوقِ فَيَكُونُ انْفِصَالُ الْوَلَدِ مُعَرِّفًا لِلْوَلَدِ الثَّابِتِ نِسْبَةً بِأَحَدِ تِلْكَ الْأَسْبَابِ كَالْإِحْصَانِ مُعَرِّفًا لِلزِّنَاءِ الْمُوجِبِ لِلرَّجْمِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَيْ بِالِانْفِصَالِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ وُجُوبُ النَّسَبِ أَيْ ثُبُوتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالْعُلُوقِ مِنْ مَائِهِ لَا وُجُودِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ بَعْدَمَا صَحَّ سَبَبُهُ عَلَى الْوِلَادَةِ فَثَبَتَ أَنَّ الْوِلَادَةَ فِي حَقِّ ثُبُوتِ النَّسَبِ عِلْمٌ مَحْضٌ مُظْهِرٌ لِنَسَبٍ ثَابِتٍ قَبْلَ الْوِلَادَةِ مِنْ حِينِ الْعُلُوقِ كَمَا فِي حَالِ قِيَامِ أَحَدِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ النَّسَبُ مُضَافًا إلَى الْوِلَادَةِ وُجُوبًا بِهَا وَلَا وُجُودًا عِنْدَهَا كَانَ ثُبُوتُهَا بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِثْلَ ثُبُوتِهَا فِي حَالِ قِيَامِ أَحَدِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ كَالْإِحْصَانِ لَمَّا كَانَ مُعَرَّفًا كَانَ

وَلَا حَبَلٌ ظَاهِرٌ وَلَا إقْرَارٌ بِهِ كَانَ ثُبُوتُ نَسَبِهِ وَهُوَ بَاطِنٌ لَا يَسْتَنِدُ إلَى سَبَبٍ ظَاهِرٍ حُكْمًا ثَانِيًا فِي حَقِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ فَأَمَّا فِي حَقِّنَا فَلَا فَبَقِيَ مُضَافًا إلَى الْوِلَادَةِ فَشُرِطَ لِإِثْبَاتِهَا كَمَالُ الْحُجَّةِ فَأَمَّا عِنْدَ قِيَامِ الْفِرَاشِ وَالْحَبَلُ فَقَدْ وُجِدَ دَلِيلُ قِيَامِ السَّبَبِ ظَاهِرًا فَصَلَحَ أَنْ يَكُونَ الْوِلَادَةُ مُعَرَّفَةً وَإِذَا عُلِّقَ بِالْوِلَادَةِ طَلَاقٌ أَوْ عَتَاقٌ وَقَدْ شَهِدَتْ امْرَأَتُهَا حَالَ قِيَامِ الْفِرَاشِ وَقَعَ مَا عُلِّقَ بِهِ عِنْدَهُمَا ـــــــــــــــــــــــــــــQثُبُوتُهُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ بَعْدَ ثُبُوتِ الزِّنَا مِثْلَ ثُبُوتِهِ بِهَا قَبْلَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا. قَوْلُهُ (وَالْجَوَابُ عَنْهُ) أَيْ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَذَا وَلَا حَبَلٌ ظَاهِرٌ عَطْفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي لَمْ يَكُنْ وَجَازَ الْعَطْفُ بِدُونِ الْمُؤَكِّدِ لِلْفَصْلِ وَحَذْفِ خَبَرِ كَانَ أَيْ إذَا لَمْ يَكُنْ الْفِرَاشُ قَائِمًا وَلَا حَبَلٌ ظَاهِرٌ ثَابِتًا وَلَا إقْرَارٌ بِالْحَبَلِ مَوْجُودًا كَانَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ حُكْمًا ثَابِتًا فِي حَقِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِحَقَائِق الْأُمُورِ فَيَعْلَمُ بِعُلُوقِ الْوَلَدِ قَبْلَ الْوِلَادَةِ فَكَانَتْ الْوِلَادَةُ بِمَنْزِلَةِ الْمُعَرِّفِ لِلْوَلَدِ الثَّابِتِ النَّسَبِ بِالنَّظَرِ إلَى عِلْمِهِ جَلَّ جَلَالُهُ فَأَمَّا فِي حَقِّنَا فَلَا أَيْ لَا يَكُونُ ثَابِتًا قَبْلَ الْوِلَادَةِ؛ لِأَنَّا نَبْنِي الْحُكْمَ عَلَى الظَّاهِرِ وَلَا نَعْرِفُ الْبَاطِنَ فَمَا كَانَ بَاطِنًا يُجْعَلُ فِي حَقِّنَا كَالْمَعْدُومِ بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ النَّازِلِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَإِنَّهُ يُجْعَلُ كَالْمَعْدُومِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ وَالنَّسَبُ قَبْلَ الْوِلَادَةِ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا سَبِيلَ لَنَا إلَى مَعْرِفَتِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَنِدٍ إلَى سَبَبٍ ظَاهِرٍ لِعَدَمِ الْفِرَاشِ وَالْحَبَلِ الظَّاهِرِ وَالْإِقْرَارِ بِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْدُومِ فِي حَقِّنَا فَكَانَ ثُبُوتُهُ مُضَافًا إلَى الْوِلَادَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَكَانَتْ الْوِلَادَةُ فِي حَقِّ عِلْمِنَا بِمَنْزِلَةِ الْعِلَّةِ الْمُثْبِتَةِ لِلنَّسَبِ لَا بِمَنْزِلَةِ الْعَلَامَةِ وَإِذَا كَانَ ابْتِدَاءُ وُجُودِهِ بِالْوِلَادَةِ يُشْتَرَطُ لَهَا كَمَالُ الْحُجَّةِ كَمَا لَوْ ادَّعَى أَحَدٌ نَسَبًا عَلَى آخَرَ ابْتِدَاءً بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ مَوْجُودًا؛ لِأَنَّ النَّسَبَ الْبَاطِنَ قَدْ اسْتَنَدَ ثُبُوتُهُ إلَى دَلِيلٍ ظَاهِرٍ قَبْلَ الْوِلَادَةِ؛ لِأَنَّ الْفِرَاشَ مُثْبِتٌ لِلنَّسَبِ وَكَذَا الْحَبَلُ الظَّاهِرُ حَالَ قِيَامِ الْعِدَّةِ دَلِيلٌ عَلَى الْعُلُوقِ حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ وَكَذَا الْإِقْرَارُ بِالْحَبَلِ سَبَبٌ لِثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ فَصَلَحَ أَنْ تَكُونَ الْوِلَادَةُ عَلَامَةً مُعَرِّفَةً لِلنَّسَبِ الثَّابِتِ حَالَ الِاجْتِنَانِ فَلَمْ يَصِرْ وُجُودُ النَّسَبِ مُضَافًا إلَى الْوِلَادَةِ فَلِذَلِكَ يَثْبُتُ النَّسَبُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ. قَوْلُهُ (وَإِذَا عَلِقَ بِالْوِلَادَةِ) إلَى آخِرِهِ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا وَلَدْت فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ عَبْدِي حُرٌّ وَقَدْ أَقَرَّ الزَّوْجُ بِأَنَّهَا حُبْلَى أَوْ بِهَا حَبَلٌ ظَاهِرٌ فَقَالَتْ قَدْ وَلَدْت يَقَعُ الطَّلَاقُ أَوْ الْعَتَاقُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا لَا يَقَعُ إلَّا أَنْ تَشْهَدَ الْقَابِلَةُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ وُقُوعِ الْجَزَاءِ وِلَادَتُهَا وَهِيَ مِمَّا تَقِفُ عَلَيْهَا الْقَابِلَةُ فَلَا يُقْبَلُ فِيهَا مُجَرَّدُ قَوْلِهَا كَمَا لَا يُقْبَلُ فِي ثُبُوتِ نَسَبِ الْمَوْلُودِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ عَلَّقَ الْجَزَاءَ بِبُرُوزٍ مَوْجُودٍ فِي بَاطِنِهَا فَيُقْبَلُ فِيهِ خَبَرُهَا كَمَا لَوْ قَالَ إذَا حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهَذَا؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْحَبَلِ قَدْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ أَوْ بِالْعِيَانِ فَإِذَا جَاءَتْ فَارِغَةً وَتَقُولُ قَدْ وَلَدْت فَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لَهَا أَوْ يَتَيَقَّنُ بِوِلَادَتِهَا بِخِلَافِ النَّسَبِ؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهَا يَثْبُتُ مُجَرَّدُ الْوِلَادَةِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ تَعَيُّنُ هَذَا الْوَلَدِ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ وَلَدَتْ غَيْرَ هَذَا مِنْ وَلَدٍ مَيِّتٍ ثُمَّ يَزِيدُ حَمْلُ نَسَبِ هَذَا الْوَلَدِ عَلَيْهِ فَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي تَعْيِينِ الْوَلَدِ إلَّا بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ فَأَمَّا وُقُوعُ الْجَزَاءِ فَيَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْوِلَادَةِ أَيِّ وَلَدٍ كَانَ مِنْ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ وَقَدْ تَيَقَّنَّا بِالْوِلَادَةِ إذَا جَاءَتْ فَارِغَةً فَأَمَّا إذَا قَالَ لَهَا إذَا وَلَدْت فَكَذَا وَلَمْ يَكُنْ بِهَا حَبَلٌ ظَاهِرٌ وَلَمْ يُقِرَّ الزَّوْجُ بِأَنَّهَا حُبْلَى فَقَالَتْ وَلَدْت وَكَذَّبَهَا الزَّوْجُ لَا يَقَعُ الْجَزَاءُ بِقَوْلِهَا فَإِنْ شَهِدَتْ الْقَابِلَةُ بِالْوِلَادَةِ ثَبَتَ نَسَبُ الْمَوْلُودِ مِنْهُ بِشَهَادَتِهَا وَلَا يَقَعُ الْجَزَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا لَمْ يَشْهَدْ بِالْوِلَادَةِ

لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِشَهَادَتِهَا وَقَدْ يَثْبُتُ الْوِلَادَةُ بِشَهَادَتِهَا فَيَثْبُتُ مَا كَانَ تَبَعًا لَهُ وَكَذَلِكَ قَالَا فِي اسْتِهْلَالِ الصَّبِيِّ إنَّهُ تَبَعٌ لِلْوِلَادَةِ فَأَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهِ بِحَقِيقَةِ الْقِيَاسِ أَنَّ الْوُجُودَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْطِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِكَمَالِ الْحُجَّةِ، وَالْوِلَادَةُ لَمْ يَثْبُتْ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ مُطْلَقًا فَلَا يَتَعَدَّى إلَى التَّوَابِعِ كَشَهَادَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَمَةَ ثَيِّبٌ وَقَدْ اشْتَرَاهَا رَجُلٌ عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ أَنَّهَا لَا تُرَدُّ عَلَى الْبَائِعِ بَلْ يُسْتَحْلَفُ الْبَائِعُ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَكَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ـــــــــــــــــــــــــــــQرَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ. وَعِنْدَهُمَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ وَيَقَعُ مَا عَلَّقَ بِهِ أَيْ بِفِعْلِ الْوِلَادَةِ مِنْ الْجَزَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْ مُعَلَّقٌ بِالْوِلَادَةِ مِنْ الْجَزَاءِ غَيْرُ مَقْصُودٍ إثْبَاتُهُ بِشَهَادَتِهَا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِشَهَادَتِهَا ظُهُورُ الْوِلَادَةِ وَهُوَ مُعَرَّفٌ لَا يُضَافُ إلَيْهِ الْجَزَاءُ وُجُوبًا بِهِ وَلَا وُجُودًا عِنْدَهُ وَقَدْ تَثْبُتُ الْوِلَادَةُ بِشَهَادَتِهَا يَعْنِي فِي حَقِّ النَّسَبِ حَتَّى ثَبَتَ نَسَبُ الْمَوْلُودِ مِنْ الزَّوْجِ بِالْإِجْمَاعِ فَيَثْبُتُ مَا كَانَ تَبَعًا لَهُ أَيْ لِفِعْلِ الْوِلَادَةِ وَهُوَ الْجَزَاءُ الْمُعَلَّقُ بِهِ الْمُفْتَقِرُ ثُبُوتُهُ إلَيْهِ كَالْإِحْصَانِ لَمَّا ثَبَتَ بِشَهَادَةِ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ يَثْبُتُ مَا كَانَ تَبَعًا لَهُ وَهُوَ وُجُوبُ الرَّجْمِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الرَّجْمُ بِشَهَادَةِ هَؤُلَاءِ قَصْدًا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِجَارِيَتِهِ إنْ كَانَ بِهَا حَبَلٌ فَهُوَ مِنِّي فَشَهِدَتْ الْقَابِلَةُ عَلَى وِلَادَتِهَا صَارَتْ هِيَ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ وَلَدَتْ امْرَأَتُهُ وَلَدًا ثُمَّ قَالَ الزَّوْجُ لَيْسَ هُوَ مِنِّي وَلَا أَدْرِي وَلَدَتْهُ أَمْ لَا فَشَهِدَتْ الْقَابِلَةُ بِالْوِلَادَةِ حُكِمَ بِاللِّعَانِ بَيْنَهُمَا وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا أَوْ حُرًّا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَإِذَا جُعِلَتْ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ حُجَّةً فِي حُكْمِ اللِّعَانِ وَالْحَدِّ بِاعْتِبَارِ أَنَّ ثُبُوتَهَا بِشَهَادَتِهَا لَيْسَ بِطَرِيقِ الْقَصْدِ بَلْ يَثْبُتَانِ تَبَعًا فَلَأَنْ يُجْعَلَ حُجَّةً فِي حَقِّ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِهَذَا الطَّرِيقِ كَانَ أَوْلَى. وَكَذَلِكَ قَالَا أَيْ وَكَمَا قَالَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ أَنَّهُمَا يَثْبُتَانِ بِشَهَادَتِهَا تَبَعًا لِلْوِلَادَةِ قَالَا يَثْبُتُ اسْتِهْلَالُ الصَّبِيِّ أَيْ حَيَاتُهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ بِشَهَادَتِهَا تَبَعًا لِلْوِلَادَةِ حَتَّى يَثْبُتَ الْإِرْثُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِهْلَالَ مُعَرِّفٌ؛ لِأَنَّ حَيَاةَ الْوَلَدِ الَّتِي بِهَا يَسْتَحِقُّ الْإِرْثَ لَا تَكُونُ مُضَافَةً إلَيْهِ وُجُوبًا بِهِ وَلَا وُجُودًا عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ حَيَاتَهُ سَابِقَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ وَلَكِنَّهَا غَيْرُ مَعْلُومَةٍ وَإِذَا كَانَ مُعَرَّفًا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ كَمَا يُقْبَلُ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ حَتَّى يُصَلَّى عَلَى الْمَوْلُودِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ عَلَى الِاسْتِهْلَالِ. قَوْلُهُ (وَأَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهِ) أَيْ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِحَقِيقَةِ الْقِيَاسِ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مَا قَالَا نَوْعُ اسْتِحْسَانٍ فَإِنَّ الْقَابِلَةَ شَهِدَتْ بِالْوِلَادَةِ دُونَ الطَّلَاقِ فَإِثْبَاتُ الطَّلَاقِ بِشَهَادَتِهَا عَلَى الْوِلَادَةِ لَا يَخْلُو عَنْ عُدُولٍ عَنْ الدَّلِيلِ الظَّاهِرِ وَبَيَانُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْوِلَادَةَ شَرْطٌ مَحْضٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ عِلَّةِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ حَقِيقَةً إلَى وُجُودِهِ كَدُخُولِ الدَّارِ وَغَيْرِهِ مِنْ الشَّرَائِطِ، وَالْوُجُودُ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْطِ أَيْ وُجُودُ الْمَشْرُوطِ مُتَعَلِّقٌ بِالشَّرْطِ كَمَا يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهُ بِالْعِلَّةِ فَكَانَ وُجُودُهُ مِنْ أَحْكَامِهِ وَكَانَ لَهُ شَبَهٌ بِالْعِلَّةِ فَكَمَا لَا يَثْبُتُ نَفْسُ الْمَشْرُوطِ وَهُوَ الطَّلَاقُ وَلَا عِلَّتُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ لَا يَثْبُتُ الشَّرْطُ إلَّا بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ لِتَعَلُّقِ وُجُودِهِ بِهِ ثُمَّ أَشَارَ إلَى الْجَوَابِ عَنْ كَلَامِهِمَا فَقَالَ وَالْوِلَادَةُ لَمْ تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ أَصْلِيَّةٍ بَلْ هِيَ حُجَّةٌ يُكْتَفَى بِهَا فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ. وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ غَيْرُ ثَابِتٍ فِيمَا وَرَاءَ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَةُ هَاهُنَا فِي ثُبُوتِ نَفْسِ الْوِلَادَةِ وَمَا هُوَ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا تَنْفَكُّ الْوِلَادَةُ عَنْهَا كَالنَّسَبِ وَأُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ وَاللِّعَانِ عِنْدِ النَّفْيِ لِلْوَلَدِ فَتَثْبُتُ الْوِلَادَةُ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فَأَمَّا الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالِاسْتِهْلَالُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQفَلَيْسَتْ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْوِلَادَةِ وَلَا أَثَرَ لِلْوِلَادَةِ فِي إثْبَاتِهَا فَلَا تَثْبُتُ الْوِلَادَةُ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ إلَّا بِحُجَّةٍ تَامَّةٍ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى التَّوَابِعِ أَيْ إلَى التَّوَابِعِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُخْتَصَّةِ بِهَا قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ فَتُقْبَلُ فِي أَصْلِ الْوِلَادَةِ لَا فِي وَصْفِهَا فَلَمْ يَثْبُتْ وَصْفُ كَوْنِهَا شَرْطًا فَلَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ النَّسَبُ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَتَعَلَّقُ ثُبُوتُهُ بِالْوِلَادَةِ بَلْ بِالْفِرَاشِ الْقَائِمِ وَقْتَ الْعُلُوقِ فَإِذَا شَهِدَتْ الْقَابِلَةُ عَلَى الْوِلَادَةِ ثَبَتَتْ بِشَهَادَتِهَا وَظَهَرَ أَنَّ النَّسَبَ كَانَ ثَابِتًا بِالْفِرَاشِ فَلَمْ يَكُنْ لِلْوِلَادَةِ اتِّصَالٌ بِالنَّسَبِ مِنْ وَجْهٍ فَلَمْ يَكُنْ نَظِيرَ الطَّلَاقِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتِهْلَالُ الْمَوْلُودِ فِي حُكْمِ الْإِرْثِ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ وَحْدَهَا؛ لِأَنَّ حَيَاةَ الْوَلَدِ كَانَتْ غَيْبًا عَنَّا وَإِنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ اسْتِهْلَالِهِ فَتَصِيرُ مُضَافَةً لَهُ إلَيْهِ فِي حَقِّنَا وَالْإِرْثُ يَبْتَنِي عَلَيْهَا فَلَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ كَشَهَادَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى كَذَا إذَا اشْتَرَى أَمَةً عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ ثُمَّ ادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّهَا ثَيِّبٌ وَأَنْكَرَ الْبَائِعُ فَالْقَاضِي يُرِيهَا النِّسَاءَ فَإِنْ قُلْنَ هِيَ بِكْرٌ فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُمَا وَإِنْ قُلْنَ هِيَ ثَيِّبٌ ثَبَتَ الْعَيْبُ فِي حَقِّ تَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ دُونَ الرَّدِّ إلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الثُّيُوبَةَ لَمْ تَثْبُتَ مُطَلَّقَةً؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِسَبَبِ الْعَيْبِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فِي الْجُمْلَةِ فَلَمْ يَكُنْ شَهَادَتُهُنَّ حُجَّةً فِيهِ وَلَكِنَّ إثْبَاتَهُ فِي نَفْسِهَا مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالِ فَتَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِنَّ كَتَعَيُّنِ الْوَلَدِ فَيَثْبُتُ عَيْبُ إثْبَاتِهِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَيَصْلُحُ لِتَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ لَا لِلرَّدِّ عَلَى الْبَائِعِ وَلَمَّا تَوَجَّهَتْ الْخُصُومَةُ وَلَا سَبِيلَ إلَى دَفْعِهَا إلَّا الِاسْتِحْلَافَ يَحْلِفُ الْبَائِعُ بَعْدَ الْقَبْضِ بِاَللَّهِ لَقَدْ سَلَّمْتهَا بِحُكْمِ الْبَيْعِ وَمَا بِهَا هَذَا الْعَيْبُ وَقَبْلَ الْقَبْضِ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا بِهَا هَذَا الْعَيْبُ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُشْتَرِي فِي الْحَالِ فَإِنْ حَلَفَ فَلَا خُصُومَةَ وَإِنْ نَكَلَ فَحِينَئِذٍ يُرَدُّ الْبَيْعُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا الْوِلَادَةُ ثَابِتَةٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَتُجْعَلُ ثَابِتَةً فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ اللَّازِمَةِ لَهَا دُونَ غَيْرِهَا وَمِثْلُهُ الْبَيْعُ الثَّابِتُ مُقْتَضَى الْأَمْرِ بِالْإِعْتَاقِ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْإِعْتَاقِ دُونَ خِيَارِ الْعَيْبِ وَالرُّؤْيَةِ وَسَائِرِ أَحْكَامِ الْبَيْعِ. وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ احْتِرَازٌ عَمَّا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْخُصُومَةَ إنْ كَانَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ يُفْسَخُ الْعَقْدُ بِقَوْلِ النِّسَاءِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَافِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَبْلَ الْقَبْضِ ضَعِيفٌ حَتَّى يَنْفَرِدَ الْمُشْتَرِي بِالرَّدِّ عِنْدَ ظُهُورِ الْعَيْبِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضَاءٍ وَلِلْقَبْضِ شَبَهٌ بِابْتِدَاءِ الْعَقْدِ لِثُبُوتِ مِلْكِ الْيَدِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ التِّجَارَاتِ بِهِ فَالرَّدُّ قَبْلَ الْقَبْضِ يُشْبِهُ الِامْتِنَاعَ مِنْ الْقَبُولِ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ فِيهِ إلَى نَقْلِ الضَّمَانِ مِنْ الْمُشْتَرِي إلَى الْبَائِعِ وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ تَامَّةٍ. وَوَجْهُ الظَّاهِرِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ ضَرُورِيَّةٌ فَتُجْعَلُ حُجَّةً فِي سَمَاعِ الدَّعْوَى وَلَا يُفْصَلُ الْحُكْمُ بِهَا مَا لَمْ يَتَأَيَّدْ بِمُؤَيِّدٍ وَهُوَ نُكُولُ الْبَائِعِ وَأَمَّا قَبُولُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ فِي الِاسْتِهْلَالِ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْقَبُولِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا قُبِلَتْ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَخَبَرُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ فِيهَا كَشَهَادَتِهَا عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ فَإِنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَلَا يَثْبُتُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي مَوْضِعٍ يَكُونُ الْمَشْهُودُ بِهِ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

[باب تقسيم العلامة]

بَابُ تَقْسِيمِ الْعَلَامَةِ) : أَمَّا الْعَلَامَةُ فَمَا يَكُونُ عَلَمًا عَلَى الْوُجُودِ عَلَى مَا قُلْنَا وَقَدْ تُسَمَّى الْعَلَامَةُ شَرْطًا وَذَلِكَ مِثْلُ الْإِحْصَانِ فِي الزِّنَا عَلَى مَا قُلْنَا فَصَارَتْ الْعَلَامَةُ نَوْعًا وَاحِدًا وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَسْأَلَةِ الْقَذْفِ إنَّ الْعَجْزَ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى زِنَا الْمَقْذُوفِ عَلَامَةٌ لِجِنَايَتِهِ لَا شَرْطٌ بَلْ هُوَ مُعَرِّفٌ فَيَكُونُ سُقُوطُ الشَّهَادَةِ سَابِقًا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ بِخِلَافِ الْجَلْدِ لِأَنَّهُ فِعْلٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQ [بَابُ تَقْسِيمِ الْعَلَامَةِ] قَوْلُهُ (فَمَا يَكُونُ عَلَمًا عَلَى الْوُجُودِ) يَعْنِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبٌ وَلَا وُجُودٌ عَلَى مَا قُلْنَا قُبَيْلَ بَابِ تَقْسِيمِ السَّبَبِ وَقَدْ تُسَمَّى الْعَلَامَةُ شَرْطًا يَعْنِي إذَا كَانَ لِلْحُكْمِ نَوْعٌ تَعَلُّقٍ بِهِ مِثْلُ الْإِحْصَانِ فِي الزِّنَا فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ عَلَامَةً كَمَا بَيَّنَّا لَكِنْ الْحُكْمُ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ عَدَمِهِ كَانَ فِيهِ جِهَةُ الشَّرْطِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى شَرْطًا فَصَارَتْ الْعَلَامَةُ أَيْ الْعَلَامَةُ الْمَحْضَةُ نَوْعًا وَاحِدًا وَهِيَ مِثْلُ تَكْبِيرَاتِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا عَلَامَاتُ الِانْتِقَالِ مِنْ رُكْنٍ إلَى رُكْنٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ بِوَجْهٍ وَمِثْلُ رَمَضَانَ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ رَمَضَانَ بِشَهْرٍ فَإِنَّهُ مُعَرِّفٌ مَحْضٌ لِلزَّمَانِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ فَإِنْ قِيلَ قَدْ ذَكَرَ فِي عَقْدِ الْبَابِ تَقْسِيمَ الْعَلَامَةِ ثُمَّ قَالَ هِيَ نَوْعٌ وَاحِدٌ فَمَا وَجْهُهُ قُلْنَا مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَلَامَةَ الْمَحْضَةَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ نَوْعٌ وَاحِدٌ لَكِنْ الْعَلَامَةُ قَدْ يَكُونُ فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ كَالْإِحْصَانِ وَقَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى الْعِلَّةِ كَعِلَلِ الشَّرْعِ فَإِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْعَلَامَاتِ لِلْأَحْكَامِ غَيْرِ مُوجِبَةٍ بِذَوَاتِهَا شَيْئًا فَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا لَا تُوجِبُ بِذَوَاتِهَا شَيْئًا كَانَتْ إعْلَامًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَنْقَسِمَ الْعَلَامَةُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَمَا انْقَسَمَ السَّبَبُ وَالْعِلَّةُ وَالشَّرْطُ وَإِلَى التَّقْسِيمِ أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ وَقَدْ تُسَمَّى الْعَلَامَةُ شَرْطًا. قَوْلُهُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ) إلَى آخِرِهِ وَالْقَذْفُ بِنَفْسِهِ لَا يُوجِبُ رَدَّ الشَّهَادَةِ عِنْدَنَا كَمَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الشُّهُودِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَفْسُهُ يُوجِبُ رَدَّ الشَّهَادَةِ وَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى الْعَجْزِ حَتَّى لَوْ شَهِدَ الْقَاذِفُ فِي حَادِثَةٍ قَبْلَ تَحَقُّقِ الْعَجْزِ وَإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ تُقْبَلُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ رَدَّ الشَّهَادَةِ بِالْقَذْفِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] إلَى أَنْ قَالَ {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] . وَأَشَارَ إلَى الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] أَيْ لِأَنَّهُمْ فَاسِقُونَ وَالْفِسْقُ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْقَذْفِ لِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فَيُوجِبُ بِنَفْسِهِ رَدَّ الشَّهَادَةِ كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَعَرَفْنَا أَنَّ ذِكْرَ الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لِبَيَانِ أَنَّهُ عَلَامَةٌ عَلَى أَنَّ الْقَذْفَ جِنَايَةٌ لَا لِأَنَّهُ شَرْطٌ لِأَنَّ صَيْرُورَتَهُ قَذْفًا وَكَذِبًا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعَجْزِ بَلْ هُوَ كَذِبٌ مِنْ الْأَصْلِ لَكِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَعْرِفُ كَوْنَهُ كَذِبًا لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ صِدْقًا فَبِالْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ يَظْهَرُ كَوْنُهُ كَذِبًا مِنْ الْأَصْلِ عِنْدَهُ وَأَنَّ الشَّهَادَةَ كَانَتْ مَرْدُودَةً لَا أَنَّهَا صَارَتْ مَرْدُودَةً بِالْعَجْزِ كَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ كَانَ زَيْدٌ فِي الدَّارِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَخَرَجَ زَيْدٌ فِي آخِرِ الْيَوْمِ مِنْ الدَّارِ كَانَ خُرُوجُهُ مُبَيِّنًا أَنَّ الطَّلَاقَ وَقَعَ حِينَ أَوْجَبَ لَا أَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ الْخُرُوجِ فَكَانَ الْخُرُوجُ عَلَامَةً لَا شَرْطًا فَكَذَا الْعَجْزُ هَا هُنَا وَقَوْلُهُ فَيَكُونُ سُقُوطُ الشَّهَادَةِ إلَى آخِرِهِ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لِمَا جَعَلْت الْعَجْزَ مُعَرِّفًا فِي حَقِّ سُقُوطِ الشَّهَادَةِ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ كَذَلِكَ فِي حَقِّ الْجَلْدِ حَتَّى يَثْبُتَ الْجَلْدُ قَبْلَ الْعَجْزِ كَالسُّقُوطِ لِأَنَّ الْعَجْزَ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْحُكْمَيْنِ بِنَظْمٍ وَاحِدٍ فَقَالَ يُمْكِنُ جَعْلُهُ عَلَامَةً فِي حَقِّ سُقُوطِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ أَيْ سُقُوطُ الشَّهَادَةِ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ أَيْ شَرْعِيٌّ فَيُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْقَذْفِ سَابِقًا عَلَى الْعَجْزِ وَجُعِلَ الْعَجْزُ فِي حَقِّهِ مُعَرِّفًا بِخِلَافِ الْجَلْدِ لِأَنَّهُ

وَذَلِكَ أَنَّ الْقَذْفَ كَبِيرَةٌ وَهَتْكٌ لِعِرْضِ الْمُسْلِمِ وَالْأَصْلُ فِي الْمُسْلِمِ الْعِفَّةُ فَصَارَ كَبِيرَةً بِنَفْسِهِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَالْعَجْزُ مُعَرِّفٌ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الثَّابِتَ بِالْكِتَابِ فِي جَزَاءِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِعْلٌ كُلُّهُ وَهُوَ الْجَلْدُ وَإِبْطَالُ الشَّهَادَةِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا تَقْبَلُوا عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ {فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُجْعَلَ مُعَرِّفًا كَمَا لَمْ يُجْعَلْ كَذَلِكَ فِي حَقِّ الْجَلْدِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQفِعْلٌ يُقَامُ عَلَى الْقَاذِفِ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْقَذْفِ سَابِقًا عَلَى الْعَجْزِ فَكَانَ الْعَجْزُ فِيهِ شَرْطًا لِأَنَّ إقَامَةَ الْجَلْدِ يَصِيرُ مُضَافَةً إلَيْهِ وُجُودًا عِنْدَهُ. وَذَلِكَ أَيْ كَوْنُ الْعَجْزِ مُعَرِّفًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْقَذْفَ كَبِيرَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ وَهَتْكِ سَتْرِ الْعِفَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالْأَصْلُ فِي الْمُسْلِمِ الْعِفَّةُ عَنْ الزِّنَا لِأَنَّ الْعَقْلَ وَالدِّينَ يَمْنَعَانِهِ عَنْ ذَلِكَ، وَالتَّمَسُّكُ بِالْأَصْلِ وَاجِبٌ حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ فَصَارَ الْقَذْفُ بِنَفْسِهِ كَبِيرَةً وَكَذِبًا بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْكَبَائِرِ فِي ثُبُوتِ سِمَةِ الْفِسْقِ وَسُقُوطِ الشَّهَادَةِ بِهِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا وَبِالْعَجْزِ يَزُولُ هَذَا الِاحْتِمَالُ وَيَتَبَيَّنُ كَذِبُهُ مِنْ الْأَصْلِ كَانَ الْعَجْزُ مُعَرِّفًا فَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِ ثُمَّ تَحَقَّقَ الْعَجْزُ أَنَّهُ قَضَى بِشَهَادَةِ مَنْ لَا شَهَادَةَ لَهُ فَيَنْقُضُ قَضَاؤُهُ. كَمَا لَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ رَجُلٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَبْدٌ أَوْ كَافِرٌ وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْجِنَايَةِ وَالْحِسْبَةِ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ التَّرَدُّدَ فِي نَفْسِ الْجِنَايَةِ بَلْ التَّرَدُّدُ فِي عِلْمِ الْقَاضِي وَيَحْصُلُ لَهُ الْعِلْمُ بِالْجِنَايَةِ مِنْ الْأَصْلِ عَلَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِمِثْلِ هَذَا التَّرَدُّدِ فَإِنَّهُ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ قَائِمٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ جَاءَ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَهَا تُقْبَلُ مَعَ ذَلِكَ يَصِيرُ فَاسِقًا مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ قَوْلُهُ (وَالْجَوَابُ عَنْهُ) أَيْ عَنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ أَنَّ الثَّابِتَ بِالْكِتَابِ فِي جَزَاءِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] فِعْلٌ كُلُّهُ أَيْ لَيْسَ كَمَا زَعَمَ الْخَصْمُ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَمْرٌ حُكْمِيٌّ وَالْآخَرُ فِعْلٌ بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِعْلٌ خُوطِبَ الْإِمَامُ بِإِقَامَتِهِ عَلَى الْقَاذِفِ وَهُوَ أَيْ الْفِعْلُ الثَّابِتُ بِالْكِتَابِ الْجَلْدُ وَإِبْطَالُ الشَّهَادَةِ لَا سُقُوطُ الشَّهَادَةِ بَلْ السُّقُوطُ حُكْمُ الْإِبْطَالِ لَا أَنْ يَكُونَ حُكْمًا لِلْقَذْفِ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى وَلَا تَقْبَلُوا عَطْفًا أَيْ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَ الْأَئِمَّةَ بِقَوْلِهِ {فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] وَعَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ جَلَّ ذِكْرُهُ وَلَا تَقْبَلُوا مُخَاطِبًا لَهُمْ أَيْضًا فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِعْلًا خُوطِبَ الْأَئِمَّةُ بِإِقَامَتِهِ لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ فِعْلًا وَيَكُونُ أَمْرًا حُكْمِيًّا لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَوَّضَ إلَيْهِمْ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِعْلًا لَمْ يَصْلُحْ الْعَجْزُ أَنْ يُجْعَلَ مُعَرِّفًا لِلْجِنَايَةِ السَّابِقَةِ كَمَا لَمْ يُجْعَلْ كَذَلِكَ أَيْ لَمْ يُجْعَلْ مُعَرِّفًا فِي حَقِّ الْجَلْدِ بَلْ يُجْعَلُ شَرْطًا لِإِبْطَالِ الشَّهَادَةِ كَمَا جُعِلَ شَرْطًا لِلْجَلْدِ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ وُجُودِهِ وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْبُرَغْرِيُّ فِي طَرِيقَتِهِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] شَرْطٌ. وَقَوْلُهُ {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ فَيَكُونُ شَرْطًا لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الشَّرْطِ شَرْطٌ كَمَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِنِسَائِهِ: الَّتِي تَدْخُلُ مِنْكُنَّ الدَّارَ ثُمَّ تُكَلِّمُ زَيْدًا فَهِيَ طَالِقٌ كَانَ كَلَامُ زَيْدٍ شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ مِثْلَ الدُّخُولِ وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ الْجَلْدُ وَرَدُّ الشَّهَادَةِ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَلِّقًا بِهِمَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ رَدُّ الشَّهَادَةِ مُتَعَلِّقًا بِالرَّمْيِ وَحْدَهُ لِتَأَدِّيهِ إلَى إلْغَاءِ الشَّرْطِ الثَّانِي فِي حَقِّهِ وَهُوَ فَاسِدٌ وَأَصْلُ ذَلِكَ أَيْ أَصْلُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَجْزَ شَرْطٌ وَلَيْسَ بِعَلَامَةٍ مَحْضَةٍ أَنَّا نَحْتَاجُ فِي الْعَمَلِ بِالتَّعْرِيفِ أَيْ جَعْلِهِ مُعَرِّفًا إلَى أَنْ نُثْبِتَ أَنَّ الْقَذْفَ بِنَفْسِهِ كَبِيرَةٌ مُوجِبَةٌ لِلْفِسْقِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَيْ لَيْسَ الْقَذْفُ بِنَفْسِهِ كَبِيرَةً لِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ جِنَايَةً وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ حِسْبَةً فَإِنَّهُ لَوْ أَقَامَ أَرْبَعَةً مِنْ الشُّهُودِ عَلَى زِنَا الْمَقْذُوفِ يُقْبَلُ وَيُتَيَقَّنُ أَنَّهُ مُحْتَسِبٌ بِذَلِكَ الْقَذْفِ فِي إقَامَةِ حَدِّ الشَّرْعِ عَلَيْهِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ دَعْوَى الزِّنَا بِطَرِيقِ الْحِسْبَةِ إذَا عَلِمَ إصْرَارَهُ عَلَيْهِ وَوَجَدَ

وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّا نَحْتَاجُ فِي الْعَمَلِ بِالتَّعْرِيفِ إلَى أَنْ يَثْبُتَ أَنَّ الْقَذْفَ بِنَفْسِهِ كَبِيرَةٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ مَقْبُولَةٌ حِسْبَةً فِي إقَامَةِ حَدِّ الزِّنَا فَكَيْفَ يَكُونُ كَبِيرَةً مَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ فَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الْعِفَّةَ أَصْلٌ فَنَعَمْ لَكِنَّهُ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ وَلَوْ صَلُحَ لِذَلِكَ لَمَا قُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ أَبَدًا لَكِنْ الْإِطْلَاقُ لَمَّا كَانَ بِشَرْطِ الْحِسْبَةِ وَذَلِكَ لَا يَحِلُّ إلَّا بِشُهُودِ حُضُورٍ وَجَبَ تَأْخِيرُهُ إلَى مَا يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ إحْضَارِ الشُّهُودِ وَذَلِكَ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ أَوْ إلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ ثُمَّ لَمْ يُؤَخَّرُ حُكْمٌ قَدْ ظَهَرَ لِمَا يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَرْبَعَةً مِنْ الشُّهُودِ وَلَوْ كَانَ الْقَذْفُ كَبِيرَةً بِنَفْسِهِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِهِ بِالْبَيِّنَةِ وَلَمْ يَكُنْ مَسْمُوعًا أَصْلًا لِأَنَّهُ إشَاعَةُ الْفَاحِشَةِ وَالْأَصْلُ فِيهَا الْإِخْفَاءُ فَإِذَا احْتَمَلَ الْقَذْفُ أَنْ يَكُونَ حِسْبَةً قَبْلَ تَحَقُّقِ الْعَجْزِ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ كَيْفَ يَصِحُّ الْقَوْلُ بِكَوْنِهِ كَبِيرَةً مَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ وَبَعْدَ تَحَقُّقِ الْعَجْزِ يَصِيرُ الْقَذْفُ جِنَايَةً مُقْتَصِرَةً عَلَى الْحَالِ لَا أَنَّهُ ظَهَرَ كَوْنُهُ جِنَايَةً مِنْ الْأَصْلِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ قُذِفَ وَلَهُ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ فَعَجَزَ عَنْ إقَامَتِهِمَا لِمَوْتِهِمْ أَوْ لِغَيْبَتِهِمْ أَوْ لِامْتِنَاعِهِمْ مِنْ الْأَدَاءِ فَيَصِيرُ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ مُقْتَصِرًا عَلَى الْحَالِ لَكِنْ بِسَبَبِ الْفِسْقِ لَا بِطَرِيقِ الْحَدِّ حَتَّى إذَا تَابَ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَا تُسْقِطُ شَهَادَتُهُ حَدًّا قَبْلَ الْجَلْدِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ هُوَ الْمَأْمُورُ بِإِبْطَالِ شَهَادَتِهِ تَتْمِيمًا لِلْحَدِّ وَالْبُطْلَانُ حُكْمُ الْإِبْطَالِ فَلَا يَثْبُتُ قَبْلَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ الْعِفَّةُ أَصْلٌ فَنَعَمْ أَيْ نَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِفَّةَ أَصْلٌ وَلَكِنَّهُ أَيْ هَذَا الْأَصْلَ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِاسْتِحْقَاقِ رَدِّ الشَّهَادَةِ عَلَى الْقَاذِفِ لِأَنَّ الْأَصْلَ يَصْلُحُ دَافِعًا لَا مُثْبِتًا فَيَصْلُحُ هَذَا الْأَصْلُ لِدَفْعِ الزِّنَا عَنْ الْمَقْذُوفِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ زِنَاهُ بِقَذْفِهِ وَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ رَدِّ الشَّهَادَةِ عَلَى الْقَاذِفِ وَلَوْ صَلَحَ هَذَا الْأَصْلُ عِلَّةً لِاسْتِحْقَاقِ رَدِّ الشَّهَادَةِ عَلَى الْقَاذِفِ لَمَا قُبِلَتْ بَيِّنَةُ الْقَاذِفِ عَلَى زِنَا الْمَقْذُوفِ لِأَنَّهُ كَمَا اسْتَحَقَّ عَلَى الْقَاذِفِ بِهَذَا الْأَصْلِ رَدَّ شَهَادَتِهِ اسْتَحَقَّ بِهِ عَلَى الشُّهُودِ رَدَّ شَهَادَتِهِمْ أَيْضًا لِأَنَّهُ قَذَفَهُ فِي الْحَقِيقَةِ فَإِذًا لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ زِنًا بِالْبَيِّنَةِ أَصْلًا وَهُوَ خِلَافُ مَوْضُوعِ الشَّرْعِ قَوْلُهُ (لَكِنْ الْإِطْلَاقُ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ كَبِيرَةً بَلْ كَانَ فِيهِ احْتِمَالُ الْحِسْبَةِ قَائِمًا حَتَّى قُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ حِسْبَةً كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ الْحَدُّ وَرَدُّ الشَّهَادَةِ أَصْلًا فَقَالَ نَعَمْ إلَّا أَنَّ الْإِطْلَاقَ أَيْ تَجْوِيزَ الْقَذْفِ وَالْإِقْدَامَ عَلَى دَعْوَى الزِّنَا لَمَّا كَانَ بِطَرِيقِ الْحِسْبَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ عَنْ ضَغِينَةٍ لَا تَحِلُّ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا وَذَلِكَ أَيْ الْقَذْفُ حِسْبَةٌ لَا تَحِلُّ إلَّا بِشُهُودٍ حُضُورٍ أَيْ فِي الْبَلَدِ حَتَّى لَوْ كَانَ لَهُ شُهُودٌ غُيَّبٌ لَا يَحِلُّ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ وَلَا يُمْهِلُهُ الْقَاضِي إلَى إحْضَارِهِمْ وَجَبَ تَأْخِيرُهُ أَيْ تَأْخِيرُ الْقَذْفِ يَعْنِي تَأْخِيرُ حُكْمِهِ وَهُوَ الْحَدُّ وَرَدُّ الشَّهَادَةِ إلَى مَا يَتَمَكَّنُ بِهِ أَيْ إلَى زَمَانٍ يَتَمَكَّنُ الْقَاذِفُ بِهِ مِنْ إحْضَارِ الشُّهُودِ مَجْلِسَ الْحُكْمِ عَمَلًا بِاحْتِمَالِ الْحِسْبَةِ وَذَلِكَ أَيْ التَّأْخِيرُ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ إقَامَةِ الشُّهُودِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. أَوْ إلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ وَهُوَ الْمَجْلِسُ الثَّانِي فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ الْقَاذِفَ إذَا ادَّعَى أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً أُجِّلَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِيَامِ الْقَاضِي مِنْ مَجْلِسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطْلِقَ عَنْهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ يُمْهَلُ إلَى الْمَجْلِسِ الثَّانِي لِيُحْضِرَ شُهُودَهُ لِأَنَّ الْقَذْفَ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ بِشَرْطِ الْعَجْزِ وَهُوَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْإِمْهَالِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا ادَّعَى دَفْعًا أَوْ طَعْنًا فِي الشُّهُودِ يُمْهَلُ إلَى الْمَجْلِسِ الثَّانِي لِيَأْتِيَ بِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ سَبَبَ وُجُودِ الْحَدِّ ظَهَرَ عِنْدَ الْقَاضِي فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الْإِقَامَةَ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ بِالْمَقْذُوفِ بِتَأْخِيرِ دَفْعِ الْعَارِ عَنْهُ وَلَكِنْ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ لَا يَكُونُ تَأْخِيرًا فَلَا يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ إلَى أَنْ يَحْضُرَ الْجَلَّادُ فَلِهَذَا جَوَّزْنَا لَهُ أَنْ يُمْهِلَهُ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطْلِقَ عَنْهُ ثُمَّ لَمْ يُؤَخَّرْ حُكْمٌ قَدْ ظَهَرَ أَيْ لَا يَجُوزُ بَعْدَ الْإِمْهَالِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ أَوْ إلَى الْمَجْلِسِ الثَّانِي تَأْخِيرُ حُكْمٍ قَدْ ظَهَرَ وَكَأَنَّهُ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْعَجْزُ لَا يَتَحَقَّقُ بِهَذَا الْقَدْرِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بَعْدُ كَمَا فِي

[باب بيان العقل]

فَإِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ثُمَّ جَاءَ بِبَيِّنَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَى الزِّنَا قَبِلْنَاهَا وَأَقَمْنَا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ حَدَّ الزِّنَا وَأَبْطَلْنَا عَلَى الْقَاذِفِ رَدَّ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ كَانَ تَقَادَمَ الْعَهْدُ لَمْ نُقِمْ الْحَدَّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَأَبْطَلْنَا رَدَّ الشَّهَادَةِ عَنْ الْقَاذِفِ كَذَلِكَ، كَذَلِكَ ذَكَرَهُ فِي الْمُنْتَقَى غَيْرَ فَصْلِ التَّقَادُمِ وَيَتَّصِلُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ. (بَابُ بَيَانِ الْعَقْلِ) : وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ أَهْلِيَّةِ الْبَشَرِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْعَقْلِ أَهُوَ مِنْ الْعِلَلِ الْمُوجِبَةِ أَمْ لَا فَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ إنَّ الْعَقْلَ عِلَّةٌ مُوجِبَةٌ لِمَا اسْتَحْسَنَهُ مُحَرِّمَةٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلِهِ إنْ لَمْ آتِ النُّصْرَةَ فَكَذَا لَا يَتَحَقَّقُ الْعَدَمُ إلَّا فِي آخِرِ الْعُمُرِ لِاحْتِمَالِ وُجُودِ الْإِتْيَانِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ الْعَجْزُ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ فَقَالَ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ حُكْمٍ قَدْ ظَهَرَ وَهُوَ الْحَدُّ وَرَدُّ الشَّهَادَةِ يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ فِي الْحَالِ لِأَجْلِ مَا يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَى إقَامَةِ الشُّهُودِ لِأَنَّ الشَّرْطَ هُوَ الْعَجْزُ الْخَالِي كَمَا فِي الْكَفَّارَاتِ لَا الْعَجْزُ فِي جَمِيعِ الْعُمُرِ إذْ لَوْ شُرِطَ الْعَجْزُ فِي الْعُمُرِ لَمْ يَبْقَ لِإِيجَابِ الْحَدِّ وَرَدِّ الشَّهَادَةِ فَائِدَةٌ إذْ لَا يُمْكِنُ إقَامَتُهُمَا عَلَى الْقَاذِفِ بَعْدَ مَوْتِهِ قَوْلُهُ (فَإِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْقَاذِفِ الْحَدُّ يَعْنِي لَمَّا ظَهَرَ عَجْزُهُ وَأُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ رِعَايَةً لِجَانِبِ الْمَقْذُوفِ لَمْ يَبْطُلْ احْتِمَالُ الْحِسْبَةِ بِالْكُلِّيَّةِ رِعَايَةً لِجَانِبِ الْقَاذِفِ أَيْضًا حَتَّى لَوْ جَاءَ بِبَيِّنَةٍ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ وَرَدِّ الشَّهَادَةِ يَشْهَدُونَ عَلَى زِنَا الْمَقْذُوفِ يُقْبَلُ وَيُقَامُ حَدُّ الزِّنَا عَلَى الْمَقْذُوفِ إنْ لَمْ يَتَقَادَمْ الْعَهْدُ وَيَصِيرُ الْقَاذِفُ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ سُقُوطَ الشَّهَادَةِ كَانَ بِحَسْبِ ظُهُورِ عَجْزِهِ وَهُوَ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَجْزَ لَمْ يَكُنْ مُتَحَقِّقًا وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ لِعَدَمِ الشَّرْطِ وَإِنْ كَانَ تَقَادَمَ الْعَهْدُ لَمْ نُقِمْ الْحَدَّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِأَنَّ التَّقَادُمَ مَانِعٌ مِنْ الْقَبُولِ فِي حَقِّ الْحَدِّ وَأَبْطَلْنَا رَدَّ الشَّهَادَةِ عَنْ الْقَاذِفِ لِعَدَمِ تَأْثِيرِ التَّقَادُمِ فِيهِ بِالْمَنْعِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِسَرِقَةٍ تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْمَالِ وَلَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْحَدِّ. كَذَلِكَ ذَكَرَهُ فِي الْمُنْتَقَى أَيْ مِثْلُ مَا أَجَبْنَا ذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ أَبُو الْفَضْلِ الْمَرْوَزِيِّ الْجَوَابَ فِي الْمُنْتَقَى غَيْرَ فَصْلِ تَقَادُمِ الْعَهْدِ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ أَيْ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ مَذْكُورٌ فِيهِ دُونَ الثَّانِي هَذَا هُوَ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ ظَاهِرِ هَذَا الْكَلَامِ وَالْمَفْهُومُ مِنْ سِيَاقِ كَلَامِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ التَّقَادُمَ مَذْكُورٌ فِي الْمُنْتَقَى أَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ وَإِنْ تَقَادَمَ الْعَهْدُ يَصِيرُ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَوْرَدَ ذَلِكَ فِي الْمُنْتَقَى رِوَايَةً عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَوْ مُحَمَّدٍ هَذَا قَوْلُ أَحَدِهِمَا وَقَوْلُ الْآخَرِ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ لِأَنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ حُكْمٌ بِكَذِبِ الشُّهُودِ فِي شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْمَقْذُوفِ بِالزِّنَا وَكُلُّ شَهَادَةٍ جَرَى الْحُكْمُ بِتَعَيُّنِ جِهَةِ الْكَذِبِ فِيهَا لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً أَصْلًا كَالْفَاسِقِ إذَا شَهِدَ فِي حَادِثَةٍ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ التَّوْبَةِ قَوْلُهُ (وَيَتَّصِلُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ) أَيْ بِبَيَانِ الْأَحْكَامِ الْمَشْرُوعَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ الْمَشْرُوعَةُ مِنْ السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ وَالشَّرْطِ وَالْعَلَامَةِ. [بَابُ بَيَانِ الْعَقْلِ] لِأَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ لَا تَثْبُتُ فِي حَقِّ عَدِيمِ الْعَقْلِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ أَوْ يَتَّصِلُ بِجَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَوَّلِ الْكِتَابِ إلَى هَاهُنَا بَابُ بَيَانِ الْعَقْلِ لِأَنَّهَا بَيَانُ خِطَابَاتِ الشَّارِعِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وَالْخِطَابُ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ فَكَانَ بَيَانُ الْعَقْلِ وَأَحْكَامُهُ مِنْ اللَّوَازِمِ (قَوْلُهُ اخْتَلَفَ النَّاسُ) أَيْ أَهْلُ الْقِبْلَةِ فِي كَذَا فَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: الْعَقْلُ عِلَّةٌ مُوجِبَةٌ لِمَا اسْتَحْسَنَهُ مِثْلَ مَعْرِفَةِ الصَّانِعِ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَمَعْرِفَةِ نَفْسِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ وَشُكْرِ الْمُنْعِمِ وَإِنْقَاذِ الْغَرْقَى وَالْحَرْقَى مُحَرِّمَةٌ لِمَا اسْتَقْبَحَهُ مِثْلَ الْجَهْلِ بِالصَّانِعِ جَلَّ جَلَالُهُ وَالْكُفْرَانِ بِنَعْمَائِهِ وَالْعَبَثِ وَالسَّفَهِ وَالظُّلْمِ عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتَاتِ

لِمَا اسْتَقْبَحَهُ عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتَاتِ فَوْقَ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَمْ يُجَوِّزُوا أَنْ يَثْبُتَ بِدَلِيلِ الشَّرْعِ مَا لَا يُدْرِكُهُ الْعُقُولُ أَوْ تُقَبِّحُهُ وَجَعَلُوا الْخِطَابَ مُتَوَجِّهًا بِنَفْسِ الْعَقْلِ وَقَالُوا لَا عُذْرَ لِمَنْ عَقَلَ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا فِي الْوَقْفِ عَنْ الطَّلَبِ وَتَرْكِ الْإِيمَانِ وَقَالُوا الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ مُكَلَّفٌ عَلَى الْإِيمَانِ وَقَالُوا فِيمَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ فَلَمْ يَعْتَقِدْ إيمَانًا وَلَا كُفْرًا وَغَفَلَ عَنْهُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَقَالَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ أَنْ لَا عِبْرَةَ بِالْعَقْلِ أَصْلًا دُونَ السَّمْعِ وَإِذَا جَاءَ السَّمْعُ فَلَهُ الْعِبْرَةُ لَا لِلْعَقْلِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ـــــــــــــــــــــــــــــQفَوْقَ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ لِأَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ لَيْسَتْ بِمُوجِبَةٍ لِذَوَاتِهَا بَلْ هِيَ أَمَارَاتٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَيَجْرِي فِيهَا النَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ وَالْعَقْلُ بِذَاتِهِ مُوجِبٌ وَمُحَرِّمٌ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْرِيَ فِيهَا التَّبْدِيلُ فَكَانَ فِي الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ فَوْقَ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ. وَالْمُرَادُ مِنْ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ فِيهِ أَنَّ الشَّرْعَ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَارِدًا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ لَحَكَمَ الْعَقْلُ بِوُجُوبِهَا وَحُرْمَتِهَا وَلَمْ يَتَوَقَّفْ ثُبُوتُهُمَا عَلَى السَّمْعِ وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ نُورُ الدِّينِ الصَّابُونِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكِفَايَةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ وُجُوبِ الْإِيمَانِ وَحُرْمَةِ الْكُفْرِ بِالْعَقْلِ لَيْسَ اسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ بِفِعْلِهِ أَوْ الْعِقَابِ بِتَرْكِهِ إذْ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ لَا يُعْرَفَانِ إلَّا بِوُرُودِ السَّمْعِ وَلَيْسَ فِي الْعَقْلِ إمْكَانُ الْوُقُوفِ عَلَيْهِمَا فَكَيْفَ يُحْكَمُ بِاللُّزُومِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ لَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْوُجُوبِ أَنْ يَثْبُتَ فِي الْعَقْلِ نَوْعُ تَرْجِيحٍ لِلْإِيمَانِ بِرَبِّهِ وَالِاعْتِرَافِ بِخَالِقِهِ وَإِضَافَةِ وُجُودِهِ وَبَقَائِهِ إلَى إيجَادِهِ وَإِبْقَائِهِ وَمِنْ الْحُرْمَةِ أَنْ يَثْبُتَ نَوْعُ تَرْجِيحٍ لِلْمَنْعِ عَنْ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ مَالِكِهِ وَاعْتِرَافٌ بِالْأُلُوهِيَّةِ لِغَيْرِ خَالِقِهِ بِحَيْثُ لَا يَحْكُمُ الْعَقْلُ أَنَّ التَّرْكَ وَالْإِتْيَانَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ بَلْ نَعْقِلُ ضَرُورَةَ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ يُوجِبُ نَوْعَ مِدْحَةٍ وَالِامْتِنَاعَ عَنْهُ يُوجِبُ نَوْعَ لَائِمَةٍ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ ذَلِكَ يَعْنِي يَعْرِفُ بِالْعَقْلِ تَرْجِيحَ جَانِبِ الْوُجُودِ أَوْ الْعَدَمِ وَلَا يَعْرِفُ أَنَّ الْجَزَاءَ هُوَ الْجَنَّةُ أَوْ النَّارُ أَوْ غَيْرُهُمَا وَكَذَا الشُّكْرُ إظْهَارُ النِّعْمَةِ مِنْ الْمُنْعِمِ وَمَتَى عَرَفَ أَنَّ الْكُلَّ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْكُفْرَانُ عَلَى مَعْنَى أَنَّ عَقْلَهُ يَمْنَعُهُ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يُجَوِّزُوا أَنْ يَثْبُتَ بِدَلِيلِ الشَّرْعِ مَا لَا تُدْرِكُهُ الْعُقُولُ أَوْ تُقَبِّحُهُ فَأَنْكَرُوا ثُبُوتَ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ بِالنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا قَائِلِينَ بِأَنَّ رُؤْيَةَ مَوْجُودٍ بِلَا جِهَةٍ وَكَيْفَ مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلرُّؤْيَةِ مِنْ جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَمَسَافَةٍ مُقَدَّرَةٍ لَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ وَلَا فِي غَايَةِ الْقُرْبِ مِمَّا لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ الْعَقْلُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ بِثُبُوتِهَا النَّصُّ. وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ الْمُتَشَابِهَ مِمَّا لَا حَظَّ لِلرَّاسِخِينَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ إنْزَالُ الْمُتَشَابِهِ أَمْرًا بِاعْتِقَادِ مَا لَا يُدْرِكُهُ الْعَقْلُ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَأَنْكَرُوا أَنْ تَكُونَ الْقَبَائِحُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي دَاخِلَةً تَحْتَ إرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ وَلِأَنَّ إضَافَتَهَا إلَى إرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ مِمَّا يُقَبِّحُهُ الْعُقُولُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِذَلِكَ وَجَعَلُوا الْخِطَابَ أَيْ التَّكْلِيفَ بِالْإِيمَانِ مُتَوَجِّهًا بِنَفْسِ الْعَقْلِ لِأَنَّ الْعَقْلَ أَصْلٌ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ عِنْدَهُمْ فَوْقَ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ فَإِذَا صَارَ الْإِنْسَانُ بِحَالٍ يَحْتَمِلُ عَقْلُهُ الِاسْتِدْلَالَ بِالشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ فَقَدْ تَحَقَّقَتْ الْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ فِي حَقِّهِ فَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ التَّكْلِيفُ بِالْإِيمَانِ ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَقَالُوا لَا عُذْرَ لِمَنْ عَقَلَ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا فِي الْوَقْفِ أَيْ الْوُقُوفِ عَنْ طَلَبِ الْحَقِّ وَتَرْكِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَكَانَ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ مُكَلَّفًا بِالْإِيمَانِ وَكَانَ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ أَصْلًا وَنَشَأَ عَلَى شَاهِقِ جَبَلٍ فَلَمْ يَعْتَقِدْ إيمَانًا وَلَا كُفْرًا وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لِوُجُودِ مَا يُوجِبُ الْإِيمَانَ فِي حَقِّهِ وَهُوَ الْعَقْلُ وَقَالَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ لَا عِبْرَةَ بِالْعَقْلِ أَصْلًا يَعْنِي لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي مَعْرِفَةِ حُسْنِ الْأَشْيَاءِ وَقُبْحِهَا بِدُونِ السَّمْعِ وَلَا أَثَرَ لَهُ فِي إيجَابِ الْأَشْيَاءِ وَتَحْرِيمِهَا بِحَالٍ بَلْ الْمُوجِبُ هُوَ السَّمْعُ حَتَّى أَبْطَلُوا إيمَانَ الصَّبِيِّ لِعَدَمِ وُرُودِ الشَّرْعِ فِي حَقِّهِ وَعَدَمِ اعْتِبَارِ عَقْلِهِ فَكَانَ إيمَانُهُ مِثْلَ إيمَانِ

حَتَّى أَبْطَلُوا إيمَانَ الصَّبِيِّ وَقَالَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ فِيمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ فَغَفَلَ عَنْ الِاعْتِقَادِ حَتَّى هَلَكَ إنَّهُ مَعْذُورٌ قَالُوا وَلَوْ اعْتَقَدَ الشِّرْكَ وَلَمْ يَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ أَنَّهُ مَعْذُورٌ أَيْضًا وَهَذَا الْفَصْلُ أَعْنِي أَنْ يَجْعَلَ شِرْكَهُ مَعْذُورًا تَجَاوَزَ عَنْ الْحَدِّ كَمَا تَجَاوَزَتْ الْمُعْتَزِلَةُ عَنْ الْحَدِّ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ وَالْقَوْلُ الصَّحِيحُ فِي الْبَابِ هُوَ قَوْلُنَا إنَّ الْعَقْلَ مُعْتَبَرٌ لِإِثْبَاتِ الْأَهْلِيَّةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQصَبِيٍّ غَيْرِ عَاقِلٍ فَلَا يُعْتَبَرُ كَمَا تَجَاوَزَتْ الْمُعْتَزِلَةُ عَنْ الْحَدِّ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ بِقَوْلِهِمْ فِيمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ وَغَفَلَ عَنْ اعْتِقَادِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ تَمَسَّكَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ فِيمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] نَفَى الْعَذَابَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَلَمَّا انْتَفَى الْعَذَابُ عَنْهُمْ انْتَفَى عَنْهُمْ حُكْمُ الْكُفْرِ وَبَقُوا عَلَى الْفِطْرَةِ. وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] أَخْبَرَ أَنَّ الْحُجَّةَ كَانَتْ قَائِمَةً لَهُمْ قَبْلَ الرُّسُلِ عَلَى تَرْكِهِمْ لِلْإِيمَانِ فَلَوْ كَانَ الْعَقْلُ قَبْلَ السَّمْعِ مُوجِبًا لَكَانَتْ حُجَّةُ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ بَعْثَةِ الرُّسُلِ تَامَّةً فِي حَقِّهِمْ وَبِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ خَزَنَةَ النَّارِ يَقُولُونَ لِلْكَافِرِينَ {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] فَيَقُولُونَ بَلَى فَتَلْزَمُهُمْ الْحُجَّةُ فَأَلْزَمَهُمْ اسْتِيجَابَهُمْ النَّارَ بِالرُّسُلِ لَا بِالْعُقُولِ وَحْدَهَا وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} [الأنعام: 131] أَخْبَرَ أَنَّ الْإِهْلَاكَ بِالْعَذَابِ قَبْلَ إرْسَالِ الرُّسُلِ كَانَ ظُلْمًا وَلَوْ كَانَ الْعَقْلُ بِنَفْسِهِ حُجَّةً لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَبِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْهَوَى غَالِبًا فِي النُّفُوسِ شَاغِلًا لِلْعُقُولِ بِعَاجِلِ الْمَنَافِعِ وَالْحُظُوظِ فَيَخْرُجُ الْإِنْسَانُ عَلَى مَا عَلَيْهِ أَصْلُ الْبِنْيَةِ فِي فَكِّ عَقْلِهِ عَنْ أَسْرِ الْهَوَى وَتَنْبِيهِ قَلْبِهِ عَنْ نَوْمِ الْغَفْلَةِ بِلَا شَرْعٍ حَرَجًا أَكْثَرَ مِنْ حَرَجِ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ بِسَبَبِ نُقْصَانِ عَقْلِهِ لِإِدْرَاكِ مَا يُدْرِكُهُ الْبَالِغُ ثُمَّ ذَلِكَ الْعُذْرُ أَسْقَطَ عَنْ الصَّبِيِّ وُجُوبَ الِاسْتِدْلَالِ بِعَقْلِهِ وَأَسْقَطَ عَنْهُ الْخِطَابَ فَلَأَنْ يَسْقُطَ الِاسْتِدْلَال بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ قَبْلَ إعَانَةِ الْوَحْيِ كَانَ أَوْلَى وَتَمَسَّكَ مَنْ جَعَلَ الْعَقْلَ حُجَّةً مُوجِبَةً بِدُونِ السَّمْعِ بِقِصَّةِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنَّهُ قَالَ لِأَبِيهِ {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 74] . وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ قَبْلَ الْوَحْيِ فَإِنَّهُ قَالَ أَرَاك وَلَمْ يَقُلْ أُوحِيَ إلَيَّ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْعَقْلُ بِنَفْسِهِ حُجَّةً وَكَانُوا مَعْذُورِينَ لَمَا كَانُوا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ وَكَذَلِكَ اسْتَدَلَّ بِالنُّجُومِ فَعَرَفَ رَبَّهُ مِنْ غَيْرِ وَحْيٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالَ مِنْهُ حُجَّةً عَلَى قَوْمِهِ بِقَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام: 83] وَبِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَاتَبَ الْكُفَّارَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بِأَنْ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ وَأَخْبَرَ أَنَّ قُلُوبَهُمْ عُمْيٌ بِتَرْكِ التَّأَمُّلِ وَلَوْ كَانُوا مَعْذُورِينَ لَمَّا عُوتِبُوا بِمُطْلَقِ التَّرْكِ وَبِأَنَّ اللَّهَ قَالَ {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] وَلَمْ يَقُلْ نُسْمِعُهُمْ وَنُوحِي إلَيْهِمْ. وَقَالَ {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} [الروم: 8] أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات: 20] {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] فِي شَوَاهِدَ لَهَا كَثِيرَةٍ فَثَبَتَ أَنَّ وُجُوبَ الِاسْتِدْلَالِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْوَحْيِ وَأَنَّ الْعُذْرَ يَنْقَطِعُ بِالْعَقْلِ وَحْدَهُ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِهِ كِفَايَةُ الْمَعْرِفَةِ لَمَا انْقَطَعَ بِهِ الْعُذْرُ، وَبِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ بَعْدَ الدَّعْوَةِ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ وَآيَاتُ الْحَدَثِ فِي الْعَالَمِ أَدَلُّ عَلَى الْمُحْدِثِ مِنْ عَلَامَاتِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى أَنَّهَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمَّا كَانَ بِالْعَقْلِ كِفَايَةُ مَعْرِفَةِ الْمُعْجِزَةِ وَالرِّسَالَةِ كَانَ بِهِ كِفَايَةُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى وَلَمَّا كَانَ بِالْعَقْلِ كِفَايَةٌ كَانَ بِنَفْسِهِ حُجَّةٌ بِدُونِ الشَّرْعِ وَلَزِمَ الْعَمَلُ بِهِ كَمَا يَجِبُ وَبِالشَّرْعِ وَبِسَائِرِ الْحُجَجِ إذَا قَامَتْ كَذَا فِي التَّقْوِيمِ وَالْأَسْرَارِ قَوْلُهُ (وَالْقَوْلُ الصَّحِيحُ هُوَ قَوْلُنَا أَنَّ الْعَقْلَ) غَيْرُ مُوجِبٍ بِنَفْسِهِ لَا كَمَا قَالَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ وَغَيْرُ مُهْدَرٍ أَيْضًا لَا كَمَا قَالَ الْفَرِيقُ الثَّانِي فَإِنَّ مَنْ أَنْكَرَ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى بِدَلَالَاتِ الْعُقُولِ وَحْدَهَا فَقَدْ قَصَّرَ. وَمَنْ

وَهُوَ مِنْ أَعَزِّ النِّعَمِ خُلِقَ مُتَفَاوِتًا فِي أَصْلِ الْقِسْمَةِ وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ قَبْلَ هَذَا أَنَّهُ نُورٌ فِي بَدَنِ الْآدَمِيِّ مِثْلُ الشَّمْسِ فِي مَلَكُوتِ الْأَرْضِ تُضِيءُ بِهِ الطَّرِيقَ الَّذِي مَبْدَؤُهُ مِنْ حَيْثُ يَنْقَطِعُ إلَيْهِ أَثَرُ الْحَوَاسِّ ثُمَّ هُوَ عَاجِزٌ بِنَفْسِهِ وَإِذَا وَضَحَ لَنَا الطَّرِيقُ كَانَ الدَّرْكُ لِلْقَلْبِ بِفَهْمِهِ كَشَمْسِ الْمَلَكُوتِ الظَّاهِرِ إذَا بَزَغَتْ وَبَدَا شُعَاعُهَا وَوَضَحَ الطَّرِيقُ كَانَ الْعَيْنُ مُدْرِكَةً بِشِهَابِهَا وَمَا بِالْعَقْلِ كِفَايَةٌ بِحَالٍ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَلِذَلِكَ قُلْنَا فِي الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ لِأَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ بِالْإِيمَانِ حَتَّى إذَا عَقَلَتْ الْمُرَاهِقَةُ وَلَمْ تَصِفْ وَهِيَ تَحْتَ زَوْجٍ مُسْلِمٍ بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ لَمْ تُجْعَلْ مُرْتَدَّةً وَلَمْ تَبِنْ مِنْ زَوْجِهَا ـــــــــــــــــــــــــــــQأَلْزَمَ الِاسْتِدْلَالَ بِلَا وَحْيٍ وَلَمْ يَعْذُرْهُ بِغَلَبَةِ الْهَوَى مَعَ أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ فَقَدْ غَلَا بَلْ الْعَقْلُ مُعْتَبَرٌ لِإِثْبَاتِ الْأَهْلِيَّةِ أَيْ أَهْلِيَّةِ الْخِطَابِ إذْ الْخِطَابُ لَا يُفْهَمُ بِدُونِ الْعَقْلِ وَخِطَابُ مَنْ لَا يَفْهَمُ قَبِيحٌ فَكَانَ الْعَقْلُ مُعْتَبَرًا لِإِثْبَاتِ الْأَهْلِيَّةِ. 1 - وَهُوَ مِنْ أَعَزِّ النِّعَمِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَمْتَازُ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَهُوَ آلَةٌ لِمَعْرِفَةِ الصَّانِعِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ النِّعَمِ وَأَعْلَاهَا وَلِمَعْرِفَةِ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا خُلِقَ مُتَفَاوِتًا فِي أَصْلِ الْقِسْمَةِ هَذَا نَفْيٌ لِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ إنَّ الْعَقْلَ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ لَيْسَ بِمُتَفَاوِتٍ فِي الْبَشَرِ كَالْحَيَوَانِيَّةِ وَبَنَوْا ذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ الْأَصْلَحِ وَذَلِكَ مِنْهُمْ إنْكَارُ الْمُشَاهَدَةِ وَالْعِيَانِ فَإِنَّا نَرَى تَفَاوُتَ حِدَّةَ الْأَذْهَانِ وَجَوْدَةَ الْقَرَائِحِ فِي الصِّبْيَانِ فِي أَوَّلِ نُشُوئِهِمْ، وَكَذَا فِي الْبَالِغِينَ مِنْ غَيْرِ جُهْدٍ سَبَقَ مِنْهُمْ وَلَا تَجْرِبَةٍ وَلَا تَعَلُّمٍ فَإِنْكَارُ ذَلِكَ كَانَ كَإِنْكَارِ تَفَاوُتِ الْخَلْقِ فِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَالشَّجَاعَةِ وَالْجُبْنِ قَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ قَبْلَ هَذَا يَعْنِي فِي بَابِ بَيَانِ شَرَائِطِ الرَّاوِي أَنَّهُ أَيْ الْعَقْلَ نُورٌ فِي بَدَنِ الْآدَمِيِّ. وَقِيلَ مَحَلُّهُ مِنْهُ الرَّأْسُ وَقِيلَ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ يُضِيءُ بِهِ أَيْ بِذَلِكَ النُّورِ الطَّرِيقَ الَّذِي مَبْدَؤُهُ مِنْ حَيْثُ يَنْقَطِعُ إلَيْهِ أَثَرُ الْحَوَاسِّ وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى حَيْثُ وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَهَذَا إنَّمَا يَتَأَتَّى فِي الْمَحْسُوسَاتِ فَأَمَّا فِيمَا لَا يُحَسُّ أَصْلًا فَإِنَّمَا نَبْتَدِئُ طَرِيقَ الْعِلْمِ بِهِ مِنْ حَيْثُ يُوجَدُ كَالْعِلْمِ مَثَلًا فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَحْسُوسٍ وَلَمَّا اُحْتِيجَ فِيهِ إلَى مَعْرِفَةِ أَنَّهُ مَعْنًى رَاجِعٌ إلَى ذَاتِ الْعَالِمِ أَمْ رَاجِعٌ إلَى غَيْرِ ذَاتِهِ يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالْعَقْلِ مِنْ غَيْرِ انْقِطَاعِ أَثَرِ الْحَوَاسِّ وَفِي اللَّامِسِيِّ هُوَ جَوْهَرٌ يُدْرَكُ بِهِ الْغَائِبَاتُ بِالْوَسَائِطِ وَالْمَحْسُوسَاتُ بِالْمُشَاهَدَةِ وَقِيلَ هُوَ جَوْهَرٌ طُهِّرَ بِمَاءِ الْقُدُّوسِ وَرُوِّحَ بِرَوَائِحِ الْأُنْسِ وَأُودِعَ فِي قَوَالِبَ بَشَرِيَّةٍ وَأَصْدَافٍ إنْسَانِيَّةٍ كُلَّمَا أَضَاءَ اسْتَنَارَ مَنَاهِجُ الْيَقِينِ وَإِذَا أَظْلَمَ خَفِيَ مَدَارِجُ الدِّينِ وَقِيلَ هُوَ قُوَّةٌ فِي الطَّبِيعَةِ تَنْزِلُ فِي الْقَلْبِ مَنْزِلَةَ الْبَصَرِ فِي الْعَيْنِ ثُمَّ هُوَ أَيْ الْعَقْلُ عَاجِزٌ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ آلَةٌ وَالْآلَةُ لَا تَعْمَلُ بِدُونِ الْفَاعِلِ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا بِنَفْسِهِ شَيْئًا وَلَا مُدْرِكًا بِنَفْسِهِ حُسْنَ الْأَشْيَاءِ وَقُبْحَهَا وَلَكِنْ إذَا وَضَحَ بِهِ الطَّرِيقُ أَيْ طَرِيقُ الْإِدْرَاكِ لِلْعَاقِلِ كَانَ الدَّرَكُ أَيْ إدْرَاكُ الْمَطْلُوبِ لِلْقَلْبِ بِفَهْمِهِ وَهُوَ الْقُوَّةُ الْمُودَعَةُ فِي الْمُضْغَةِ الَّتِي فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ مِنْ الْإِنْسَانِ أَوْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ عِنْدَ الْبَعْضِ وَالدَّرَكُ بِفَتْحِ الرَّاءِ اسْمٌ مِنْ الْإِدْرَاكِ قَالَ تَعَالَى {لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى} [طه: 77] . وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى دَرْكِ الْحَاجَةِ» أَيْ إدْرَاكِهَا كَشَمْسِ الْمَلَكُوتِ الظَّاهِرَةِ إذَا بَزَغَتْ أَيْ طَلَعَتْ كَانَتْ الْعَيْنُ مُدْرِكَةً لِلْأَشْيَاءِ بِشِهَابِهَا أَيْ بِنُورِهَا وَالضَّمِيرُ لِلشَّمْسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُوجِبَ الشَّمْسُ رُؤْيَةَ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ أَوْ تَكُونَ هِيَ مُدْرِكَةً إيَّاهَا أَوْ تَكُونَ الْعَيْنُ مُسْتَغْنِيَةً فِي الْإِدْرَاكِ عَنْهَا فَكَذَا الْقَلْبُ يُدْرِكُ مَا هُوَ غَائِبٌ عَنْ الْحَوَاسِّ بِنُورِ الْعَقْلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْعَقْلُ مُوجِبًا لِذَلِكَ أَوْ لَا يَكُونَ مُدْرِكًا بِنَفْسِهِ بَلْ الْقَلْبُ يُدْرِكُ بَعْدَ إشْرَاقِ نُورِ الْعَقْلِ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْمَلَكُوتُ الْمُلْكُ وَالتَّاءُ زَائِدَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ كَالرَّغَبُوتِ وَالرَّهَبُوتِ وَالْجَبَرُوتِ. وَشُعَاعُ الشَّمْسِ مَا يُرَى مِنْ ضَوْئِهَا عِنْدَ طُلُوعِهَا كَالْقُضْبَانِ وَالشِّهَابُ بِكَسْرِ الشِّينِ شُعْلَةُ نَارٍ سَاطِعَةٌ وَذَكَرَ فِي الْكِفَايَةِ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا الْعَقْلُ آلَةٌ لِمَعْرِفَةِ الْمَعْقُولَاتِ كَالسَّمْعِ

وَلَوْ بَلَغَتْ كَذَلِكَ لَبَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا وَلَوْ عَقَلَتْ وَهِيَ مُرَاهِقَةٌ فَوَصَفَتْ الْكُفْرَ كَانَتْ مُرْتَدَّةً وَبَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ فَعُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ وَكَذَلِكَ يَقُولُ فِي الَّذِي لَمْ يَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ وَأَنَّهُ إذَا لَمْ يَصِفْ إيمَانًا وَكُفْرًا وَلَمْ يَعْتَقِدْهُ عَلَى شَيْءٍ كَانَ مَعْذُورًا وَإِذَا وَصَفَ الْكُفْرَ وَعَقَدَهُ أَوْ عَقَدَ وَلَمْ يَصِفْهُ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا وَكَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ مُخَلَّدًا عَلَى نَحْوِ مَا وَصَفْنَا فِي الصَّبِيِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQآلَةٌ لِمَعْرِفَةِ الْمَسْمُوعَاتِ وَبِهِ يُعْرَفُ حُسْنُ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَقُبْحُ بَعْضِهَا وَوُجُوبُ بَعْضِ الْأَفْعَالِ وَحُرْمَةُ بَعْضِهَا وَالْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِنَا وَقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ الْعَقْلَ مُوجِبٌ بِذَاتِهِ كَمَا يَقُولُونَ إنَّ الْعَبْدَ مُوجِدٌ لِأَفْعَالِهِ وَعِنْدَنَا الْعَقْلُ مُعَرِّفٌ لِلْوُجُوبِ وَالْمُوجِبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا أَنَّ الرَّسُولَ مُعَرِّفٌ لِلْوُجُوبِ وَالْمُوجِبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَكِنْ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ فَكَذَا الْهَادِي وَالْمُوجِبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَكِنْ بِوَاسِطَةِ الْعَقْلِ وَمَا بِالْعَقْلِ كِفَايَةٌ بِحَالٍ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ يَعْنِي أَنَّ الْعَقْلَ وَإِنْ كَانَ آلَةً لِمَعْرِفَةٍ لَا يَقَعُ الْكِفَايَةُ بِهِ فِي وُجُوبِ الِاسْتِدْلَالِ وَحُصُولِ الْمَعْرِفَةِ سَوَاءٌ انْضَمَّ إلَيْهِ دَلِيلُ السَّمْعِ أَمْ لَا أَمَّا إذَا لَمْ يَنْضَمَّ فَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ آلَةٌ فَلَا يَصْلُحُ لِإِيجَابِ شَيْءٍ بِنَفْسِهِ وَأَمَّا إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ دَلِيلُ السَّمْعِ فَلِأَنَّ الْإِيجَابَ حِينَئِذٍ يُضَافُ إلَى دَلِيلِ السَّمْعِ لَا إلَى الْعَقْلِ وَإِذَا وُجِدَ الْعَقْلُ لَا يَحْصُلُ الْمَعْرِفَةُ قَبْلَ انْضِمَامِ دَلِيلِ السَّمْعِ إلَيْهِ وَبَعْدَهُ إلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ فَكَمْ مِنْ عَاقِلٍ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ وَبَعْدَهُ مُتَغَلْغِلٌ بِعَقْلِهِ فِي مَضَايِقِ الْحَقَائِقِ مُسْتَخْرِجٌ بِفِكْرِهِ وَقَرِيحَتِهِ لِخَفِيَّاتِ الدَّقَائِقِ لَمَّا حُرِمَ الْعِنَايَةَ وَالتَّوْفِيقَ لَمْ يَهْتَدِ إلَى سَوَاءِ الطَّرِيقِ وَلَمْ يَعْرِفْ سَبِيلَ الرُّشْدِ بِعَقْلِهِ فَهَلَكَ فِي غَبَاوَتِهِ وَجَهْلِهِ وَبَعْدَمَا حَصَلَتْ الْمَعْرِفَةُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَإِكْرَامِهِ وَلَا تَبْقَى إلَّا بِفَضْلِهِ وَإِنْعَامِهِ وَتَقْرِيرِهِ لَهُ عَلَى الدِّينِ الْقَوِيمِ وَتَثْبِيتِهِ إيَّاهُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. فَكَمْ مِنْ مُسْلِمٍ عَرَفَ سَبِيلَ الرَّشَادِ وَسَلَكَ طَرِيقَ السَّدَادِ ثُمَّ لَمَّا أَدْرَكَهُ الْخِذْلَانُ ضَلَّ عَنْ الطَّرِيقِ بِالِارْتِدَادِ وَرَدِّ أَمْرِهِ مِنْ الصَّلَاحِ إلَى الْفَسَادِ وَقَابَلَ الْحَقَّ بِالْعِنَادِ بَعْدَ الِانْقِيَادِ فَصَارَ مِنْ إخْوَانِ الشَّيَاطِينِ بَعْدَمَا كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ الدِّينِ وَأَهْلِ الصِّدْقِ وَالْيَقِينِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الزَّيْغِ وَالطُّغْيَانِ وَدَرْكِ الشَّقَاءِ وَالْخِذْلَانِ بَعْدَ نَيْلِ سَعَادَةِ الْهُدَى وَالْإِيمَانِ إنَّهُ الْكَرِيمُ الْمَنَّانُ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا كِفَايَةَ بِالْعَقْلِ بِحَالٍ وَلَا مَعُونَةَ إلَّا مِنْ عِنْدِ الْكَرِيمِ الْمُتَعَالِ. قَوْلُهُ (وَلِذَلِكَ) أَيْ وَلِأَنَّهُ لَا كِفَايَةَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ لِوُجُوبِ الِاسْتِدْلَالِ قُلْنَا فِي الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ إنَّهُ لَا يُكَلَّفُ الْإِيمَانَ وَإِنْ صَحَّ مِنْهُ الْأَدَاءُ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَهُ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِالْخِطَابِ وَالْخِطَابُ سَاقِطٌ عَنْ الصَّبِيِّ بِالنَّصِّ حَتَّى إذَا عَقَلَتْ الْمُرَاهِقَةُ وَهِيَ الَّتِي قَرُبَتْ إلَى الْبُلُوغِ وَلَمْ تَصِفْ أَيْ لَمْ تَصِفْ الْإِيمَانَ بَعْدَ مَا اُسْتُوْصِفَتْ وَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى الْوَصْفِ وَلَوْ بَلَغَتْ كَذَلِكَ أَيْ غَيْرَ وَاصِفَةٍ وَلَا قَادِرَةٍ عَلَيْهِ وَلَوْ عَقَلَتْ وَهِيَ مُرَاهِقَةٌ أَيْ صَبِيَّةٌ غَيْرُ بَالِغَةٍ فَوَصَفَتْ الْكُفْرَ كَانَتْ مُرْتَدَّةً وَبَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا لِأَنَّ رِدَّةَ الصَّبِيِّ وَالصَّبِيَّةِ صَحِيحَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ اسْتِحْسَانًا فَتَبِينُ وَيَبْطُلُ مَهْرُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَمْ تَصِحَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلَا تَبِينُ فَعُلِمَ بِهِ أَيْ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنَّهُ أَيْ الصَّبِيَّ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِالْإِيمَانِ إذْ لَوْ كَانَ مُكَلَّفًا بِهِ لَبَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِعَدَمِ الْوَصْفِ كَمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ. وَكَذَلِكَ أَيْ وَمِثْلُ مَا قُلْنَا فِي الصَّبِيِّ قُلْنَا فِي الْبَالِغِ الَّذِي لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِالْإِيمَانِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُوجِبٍ بِنَفْسِهِ حَتَّى إذَا لَمْ يَصِفْ إيمَانًا وَلَا كُفْرًا وَلَمْ يَعْتَقِدْ عَلَى شَيْءٍ كَانَ مَعْذُورًا عَلَى خِلَافِ مَا قَالَهُ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ وَلَوْ وَصَفَ الْكُفْرَ وَاعْتَقَدَهُ أَوْ اعْتَقَدَهُ وَلَمْ يَصِفْهُ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا وَكَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَهُ الْفَرِيقُ الثَّانِي فَكَانَ هَذَا قَوْلًا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا فِي

وَمَعْنَى قَوْلِنَا إنَّهُ لَا يُكَلَّفُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ نُرِيدُ أَنَّهُ إذَا أَعَانَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّجْرِبَةِ وَأَلْهَمَهُ وَأَمْهَلَهُ لِدَرْكِ الْعَوَاقِبِ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالصَّبِيِّ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَصِفْ الْإِيمَانَ وَالْكُفْرَ لَا يَكُونُ كَافِرًا وَلَوْ وَصَفَ الْكُفْرَ يَكُونُ مُرْتَدًّا فَكَذَلِكَ هَذَا وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ وَالْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ فِي التَّقْوِيمِ وَذَكَرَ الْإِمَامُ نُورُ الدِّينِ فِي الْكِفَايَةِ أَنَّ وُجُوبَ الْإِيمَانِ بِالْعَقْلِ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ لَا عُذْرَ لِأَحَدٍ فِي الْجَهْلِ بِخَالِقِهِ لِمَا يَرَى مِنْ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَخَلْقِ نَفْسِهِ وَسَائِرِ خَلْقِ رَبِّهِ أَمَّا فِي الشَّرَائِعِ فَمَعْذُورٌ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَوْ لَمْ يَبْعَثْ اللَّهُ رَسُولًا لَوَجَبَ عَلَى الْخَلْقِ مَعْرِفَتُهُ بِعُقُولِهِمْ قَالَ وَعَلَيْهِ مَشَايِخُنَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ حَتَّى قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ إنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ قَالُوا إنَّمَا وَجَبَتْ عَلَى الْعَاقِلِ الْبَالِغِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عَقْلَهُ كَامِلٌ بِحَيْثُ يَحْتَمِلُ الِاسْتِدْلَالَ فَإِذَا بَلَغَ عَقْلُ الصَّبِيِّ هَذَا الْمَبْلَغَ كَانَ هُوَ وَالْبَالِغُ سَوَاءً فِي وُجُوبِ الْإِيمَانِ وَإِنَّمَا التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي ضَعْفِ الْبِنْيَةِ وَقُوَّتِهَا فَيَظْهَرُ التَّفَاوُتُ فِي عَمَلِ الْأَرْكَانِ لَا فِي عَمَلِ الْقَلْبِ وَحَمَلَ هَؤُلَاءِ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ» الْحَدِيثَ عَلَى الشَّرَائِعِ. قُلْت وَهَذَا الْقَوْلُ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ سِوَى أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ نَفْسَ الْعَقْلِ مُوجِبًا وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ الْمُوجِبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْعَقْلُ مُعَرِّفٌ لِإِيجَابِهِ كَالْخِطَابِ وَالصَّحِيحُ مَا اخْتَارَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكِتَابِ لِأَنَّ الْإِيجَابَ عَلَى الصَّبِيِّ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ النَّصِّ وَلِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَيْضًا ثُمَّ لَمَّا سَقَطَ الْخِطَابُ بِالْأَدَاءِ قَبْلَ الْبُلُوغِ عَنْ الصَّبِيِّ جَازَ أَنْ يَسْقُطَ عَنْ الْبَالِغِ قَبْلَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ إلَيْهِ لِأَنَّ الْخِطَابَ قَبْلَ الْبُلُوغِ إلَى الْمُخَاطَبِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْإِيجَابِ كَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ لِجَهْلِهِ بِاَللَّهِ وَغَفْلَتِهِ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَاتِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَهْلَ قَدْ أُلْحِقَ بِالصَّبِيِّ فِي إسْقَاطِ الْعِبَادَاتِ حَتَّى سَقَطَتْ الْعِبَادَاتُ عَمَّنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا كَمَا سَقَطَتْ عَنْ الصَّبِيِّ فَيَجُوزُ أَنْ يُلْحَقَ الْجَهْلُ بِالصَّبِيِّ فِي سُقُوطِ وُجُوبِ الِاسْتِدْلَالِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اعْتَقَدَ الْكُفْرَ حَيْثُ لَا يَكُونُ مَعْذُورًا لِأَنَّا إنَّمَا عَذَرْنَاهُ فِي جَهْلِهِ لِسُقُوطِ الِاسْتِدْلَالِ عَنْهُ وَلَا مَعْرِفَةَ بِدُونِهِ كَمَا عَذَرْنَا النَّائِمَ وَالصَّبِيَّ فَأَمَّا اعْتِقَادُ أَمْرٍ فَلَا يَكُونُ إلَّا بِضَرْبِ اسْتِدْلَالٍ وَحُجَّةٍ فَلَمْ يُعْذَرُ فِيمَا أَحْدَثَ مِنْ اعْتِقَادِهِ إلَّا بِحُجَّةٍ كَمَا فِي حَقِّ الصَّبِيِّ كَذَا فِي التَّقْوِيمِ. قَوْلُهُ (وَمَعْنَى قَوْلِنَا) كَذَا يَعْنِي أَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ إنَّمَا لَمْ يُكَلَّفْ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ وَصَارَ مَعْذُورًا إذَا لَمْ يُصَادِفْ مُدَّةً يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنْ التَّأَمُّلِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَاتِ عَلَى مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ بِأَنْ بَلَغَ عَلَى شَاهِقِ جَبَلٍ وَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ فَأَمَّا إذَا أَعَانَهُ اللَّهُ بِالتَّجْرِبَةِ وَأَمْهَلَهُ لِدَرْكِ الْعَوَاقِبِ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا لِأَنَّ الْإِمْهَالَ وَإِدْرَاكَ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَةِ الرُّسُلِ فِي حَقِّ تَنْبِيهِ الْقَلْبِ عَنْ نَوْمِ الْغَفْلَةِ فَلَا يُعْذَرُ بَعْدُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَرَى بِنَاءً إلَّا وَقَدْ عَرَفَ لَهُ بَانِيًا وَلَا صُورَةً إلَّا وَقَدْ عَرَفَ لَهُ مُصَوِّرًا فَكَيْفَ يُعْذَرُ بَعْدَ رُؤْيَتِهِ صُوَرًا حَسَنَةً وَبَعْدَ إدْرَاكِ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ فِي جَهْلِهِ بِخَالِقِهَا وَمُصَوِّرِهَا بَلْ يَلْزَمُهُ مِنْ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ مَا يُتِمُّ بِهِ الْمَعْرِفَةُ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُحْمَلُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا عُذْرَ لِأَحَدٍ فِي الْجَهْلِ بِالْخَالِقِ لِمَا يَرَى فِي الْعَالَمِ مِنْ آثَارِ

عَلَى نَحْوِ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي السَّفِيهِ إذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ مَالُهُ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى مُدَّةَ التَّجْرِبَةِ وَالِامْتِحَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَزْدَادَ بِهِ رُشْدًا وَلَيْسَ عَلَى الْحَدِّ فِي هَذَا الْبَابِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ فَمَنْ جَعَلَ الْعَقْلَ حُجَّةً مُوجِبَةً يَمْتَنِعُ الشَّرْعُ بِخِلَافِهِ فَلَيْسَ مَعَهُ دَلِيلٌ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ سِوَى أُمُورٍ ظَاهِرَةٍ فَسَلَّمَهَا لَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْخَلْقِ أَيْ لَا عُذْرَ لَهُ بَعْدَ الْإِمْهَالِ لَا لِابْتِدَاءِ الْعَقْلِ. وَكَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ وَمَعْنَى قَوْلِنَا أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِهِ قَبْلَ إدْرَاكِ زَمَانِ التَّأَمُّلِ وَالتَّجْرِبَةِ فَإِذَا أَعَانَهُ اللَّهُ بِكَذَا إلَى آخِرِهِ إلَّا أَنَّهُ حَذَفَ الْبَعْضَ اخْتِصَارًا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ عَلَى نَحْوِ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَعْنِي إقَامَةَ الْإِمْهَالِ وَإِدْرَاكَ زَمَانِ التَّأَمُّلِ مَقَامَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ هَا هُنَا عَلَى مِثْلِ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي السَّفِيهِ إذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً يُدْفَعُ مَالُهُ إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ رُشْدٌ مَعَ أَنَّ دَفْعَ الْمَالِ إلَيْهِ مُعَلَّقٌ بِإِينَاسِ الرُّشْدِ بِالنَّصِّ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ وُجُودِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوْفَى هَذِهِ الْمُدَّةَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْتَفِيدَ رُشْدًا بِالتَّجْرِبَةِ وَالِامْتِحَانِ فِي الْغَالِبِ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ يُتَوَهَّمُ صَيْرُورَتُهُ جَدًّا فِيهَا إذْ الْبُلُوغُ يَتَحَقَّقُ فِي الْغُلَامِ بَعْدَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً فَيُمْكِنُ أَنْ يُولَدَ لَهُ ابْنٌ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ إنَّ وَلَدَهُ يَبْلُغُ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وَيُولَدُ لَهُ ابْنٌ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَيَصِيرُ الْأَوَّلُ جَدًّا بَعْدَ تَمَامِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَمَنْ صَارَ فَرْعُهُ أَصْلًا فَقَدْ تَنَاهَى هُوَ فِي الْأَصَالَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْتَفِيدَ رُشْدًا بِنِسْبَةٍ حَالَةِ فَيُقَامُ هَذِهِ الْمُدَّةَ مَقَامَ الرُّشْدِ وَالشَّرْطُ رُشْدٌ نَكِرَةٌ وَقَدْ وُجِدَ إمَّا تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا بِاسْتِيفَاءِ مُدَّةِ التَّجْرِبَةِ فَيَجِبُ دَفْعُ الْمَالِ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْتَفِيدَ الْعَاقِلُ بَصِيرَةً وَمَعْرِفَةً بِصَانِعِهِ بِالنَّظَرِ فِي الْآيَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْحُجَجِ الْبَاهِرَةِ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْمَعْرِفَةُ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ كَانَ ذَلِكَ لِاسْتِخْفَافِ الْحُجَّةِ كَمَا يَكُونُ بَعْدَ دَعْوَةِ الرُّسُلِ فَلَا يَكُونُ مَعْذُورًا. قَوْلُهُ (وَلَيْسَ عَلَى الْحَدِّ فِي هَذَا الْبَابِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ) أَيْ لَيْسَ عَلَى حَدِّ الْإِمْهَالِ وَتَقْدِيرِ زَمَانِ الِامْتِحَانِ وَالتَّجْرِبَةِ فِي هَذَا النَّوْعِ وَهُوَ الْعَاقِلُ الَّذِي لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ دَلِيلٌ قَاطِعٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَيُحْكَمُ أَنَّهُ كَذَا وَكَأَنَّهُ رَدٌّ لِمَا قِيلَ إنَّهُ مُقَدَّرٌ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ اعْتِبَارًا بِالْمُرْتَدِّ فَإِنَّهُ إذَا اسْتَمْهَلَ يُمْهَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَقَالَ إنَّهُ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ بَلْ هُوَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ فَإِنَّ الْعَقْلَ مُتَفَاوِتٌ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ فَرُبَّ عَاقِلٍ يَهْتَدِي فِي زَمَانٍ قَلِيلٍ إلَى مَا لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ غَيْرُهُ فِي زَمَانٍ كَثِيرٍ فَيُفَوَّضُ تَقْدِيرُهُ إلَى اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ إذْ هُوَ الْعَالِمُ بِمِقْدَارِ ذَلِكَ الزَّمَانِ فِي حَقِّ كُلِّ شَخْصٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَيَعْفُو عَنْهُ قَبْلَ إدْرَاكِهِ وَيُعَاتِبُهُ بَعْدَ اسْتِيفَائِهِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذُكِرَ فِي التَّقْوِيمِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ثُمَّ قَدْرُ مُدَّةِ الْعُذْرِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ قَوْلُهُ وَلَيْسَ كَذَا مِنْ تَتِمَّةِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا وَيَكُونُ قَوْلُهُ فَمَنْ جَعَلَ الْعَقْلَ كَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ وَلَيْسَ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي يُوقَفُ بِهِ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْ كَوْنِ الْعَقْلِ مُوجِبًا بِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرَ مُوجِبٍ أَصْلًا أَوْ كَوْنِهِ حُجَّةً عِنْدَ اسْتِيفَاءِ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ مِنْ نَصٍّ مُحْكَمٍ أَوْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ ضَرُورِيٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ هَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ. وَقَوْلُهُ: فَمَنْ جَعَلَ الْعَقْلَ مِنْ تَتِمَّتِهِ فَمَنْ جَعَلَ الْعَقْلَ حُجَّةً مُوجِبَةً بِنَفْسِهِ بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ الشَّرْعُ أَيْ وُرُودُ الشَّرِيعَةِ بِخِلَافِهِ أَوْ يَمْتَنِعُ شَرْعُ الْحُكْمِ بِخِلَافِهِ أَوْ يَمْتَنِعُ وُجُودُ الْمَشْرُوعِ بِخِلَافِهِ فَلَيْسَ مَعَهُ دَلِيلٌ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ أَيْ لَيْسَ لَهُ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ مِنْ شَرْعِيٍّ أَوْ عَقْلِيٍّ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ إذْ لَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يُوجَدْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ سِوَى أُمُورٍ ظَاهِرَةٍ نُسَلِّمُهَا لَهُ وَلَا يَلْزَمُ

وَمَنْ أَلْغَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا دَلِيلَ لَهُ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْمٍ لَمْ يَبْلُغْهُمْ الدَّعْوَةُ إذَا قُتِلُوا ضُمِنُوا فَجَعَلَ كُفْرَهُمْ عَفْوًا وَمَنْ كَانَ فِيهِمْ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ تَعَذَّرَ عَلَى مَا فَسَّرْنَا لَمْ يَسْتَوْجِبْ عِصْمَةً بِدُونِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ فِي الشَّرْعِ أَنَّ الْعَقْلَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِأَهْلِيَّتِهِ فَإِنَّمَا يُلْغِيهِ بِطَرِيقِ دَلَالَةُ الِاجْتِهَادِ وَالْمَعْقُولِ فَيُنَاقِضُ مَذْهَبَهُ وَأَنَّ الْعَقْلَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْهَوَى فَلَا يَصْلُحُ حُجَّةً بِنَفْسِهِ بِحَالٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ تَسْلِيمِهَا كَوْنُ الْعَقْلِ مُوجِبًا بِنَفْسِهِ وَبَيَانُهُ أَنَّهُمْ قَالُوا: قَدْ عُرِفَ حُسْنُ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ كَالْإِيمَانِ وَشُكْرِ الْمُنْعِمِ بِالْعَقْلِ وَقُبْحُ بَعْضِهَا مِثْلُ الْكُفْرِ وَالْعَبَثِ بِهِ وَعُلِمَ أَنَّ الشَّرْعَ لَا يَرِدُ بِتَحْسِينِ مَا قَبَّحَهُ الْعَقْلُ وَلَا بِتَقْبِيحِ مَا حَسَّنَهُ الْعَقْلُ حَتَّى لَمْ يَجُزْ وُرُودُ نَسْخِ الْإِيمَانِ وَلَا وُرُودُ شَرْعِيَّةِ الْكُفْرِ فَعُلِمَ أَنَّ الْعَقْلَ مُوجِبٌ بِذَاتِهِ بِدُونِ الشَّرْعِ وَأَنَّ الشَّرْعَ تَابِعٌ لَهُ فِيمَا عُرِفَ حُسْنُهُ وَقُبْحُهُ بِهِ. وَنَحْنُ نُسَلِّمُ لَهُمْ مَعْرِفَةَ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ بِالْعَقْلِ وَامْتِنَاعَ نَسْخِ مَا حَسَّنَهُ وَشَرْعَ مَا قَبَّحَهُ وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ مُوجِبٌ بِذَاتِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ عَجَزَ بِنَفْسِهِ بَلْ الْمُوجِبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَقِيقَةِ وَلَكِنْ بِالْعَقْلِ يُعْرَفُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ دَلِيلًا وَطَرِيقًا إلَى الْعِلْمِ، وَالدَّلِيلُ بِنَفْسِهِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا فَثَبَتَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْخَصْمُ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى مَا ادَّعَاهُ وَمَا ذَكَرُوا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِمَا لَا يُدْرِكُهُ الْعُقُولُ ظَاهِرُ الْفَسَادِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ مِنْ الْمُقَدَّرَاتِ مَا لَا يُدْرِكُهُ الْعُقُولُ كَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَمَقَادِيرِ الزَّكَوَاتِ وَالْجِنَايَاتِ وَالْحُدُودِ وَنَحْوِهَا قَوْلُهُ (وَمَنْ أَلْغَاهُ) أَيْ الْعَقْلَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَهُمْ الْأَشْعَرِيَّةُ فَلَا دَلِيلَ لَهُ أَيْضًا أَيْ لَيْسَ لَهُ دَلِيلٌ قَاطِعٌ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّ مَذْهَبَهُ كَمَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُهُ مَا قَالَ فِي قَوْمٍ لَمْ يَبْلُغْهُمْ الدَّعْوَةُ إذَا قَتَلَهُمْ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ الدَّعْوَةِ ضَمِنُوا دِمَاءَهُمْ فَجَعَلَ كُفْرَهُمْ عَفْوًا حَيْثُ جَعَلَهُمْ كَالْمُسْلِمِينَ فِي الضَّمَانِ وَأَصْحَابُنَا قَالُوا لَا يَضْمَنُونَ لِأَنَّ قَتْلَهُمْ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا قَبْلَ الدَّعْوَةِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلضَّمَانِ لِأَنَّا لَمْ نَجْعَلْ كُفْرَهُمْ عَفْوًا بِحَالٍ وَلَمْ نَجْعَلْ غَفْلَتَهُمْ عَنْ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ عُذْرًا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ فَكَانَ قَتْلُهُمْ قَبْلَ الدَّعْوَةِ مِثْلَ قَتْلِ نِسَاءِ أَهْلِ الْحَرْبِ بَعْدَ الدَّعْوَةِ فَلَا يُوجِبُ ضَمَانًا. وَلَمَّا كَانَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنْ جَعَلْت دِمَاءَهُمْ هَدَرًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُفْرَهُمْ لَمْ يُجْعَلْ عَفْوًا يَنْبَغِي أَنْ يُوجَبَ الضَّمَانُ بِقَتْلِ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَعْذُورًا مِثْلَ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَاَلَّذِينَ لَمْ يَسْتَوْفُوا مُدَّةَ التَّأَمُّلِ وَقَتْلُهُمْ لَا يُوجِبُ ضَمَانًا عِنْدَكُمْ أَيْضًا أَشَارَ إلَى الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يُعْذَرُ عَلَى مَا فَسَّرْنَا بِأَنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مِمَّنْ لَمْ يَسْتَوْفِ مُدَّةَ التَّأَمُّلِ لَمْ يَسْتَوْجِبْ عِصْمَةً بِدُونِ دَارِ الْإِسْلَامِ لِمَا عَرَفَهُ أَنَّ الْعِصْمَةَ الْمُقَوَّمَةَ لَا تَثْبُتُ بِدُونِ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا فَلِذَلِكَ كَانَ دِمَاؤُهُمْ هَدَرًا أَيْضًا. أَلَا تَرَى أَنَّ قَتْلَ مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا لَا يُوجِبُ ضَمَانًا لِمَا قُلْنَا فَهَذَا أَوْلَى قَوْلُهُ (وَذَلِكَ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ فَلَا دَلِيلَ لَهُ أَيْضًا وَلِقَوْلِهِ فَلَيْسَ مَعَهُ دَلِيلٌ يَعْنِي إنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ لَا دَلِيلَ لِلْفَرِيقَيْنِ لِأَنَّ الْقَائِلَ بِكَوْنِهِ يُلْغَى لَا يَجِدُ فِي نُصُوصِ الشَّرْعِ أَنَّ الْعَقْلَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِلْأَهْلِيَّةِ فَلَوْ أَلْغَاهُ إنَّمَا يُلْغِيهِ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَالْمَعْقُولِ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِدْ نَصًّا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى الْمَعْقُولِ بِأَنْ يَقُولَ قَدْ وَجَدْنَا مِنْ الْعُقَلَاءِ مِنْ أَلْحَقَ بَعْدُ، ثُمَّ الْعَقْلُ فِي سُقُوطِ التَّكْلِيفِ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ سُقُوطِ الْخِطَابِ عَنْهُ شَرْعًا كَالصَّبِيِّ الْعَاقِلِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعَقْلَ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْعِ وَحِينَئِذٍ كَانَ مُتَنَاقِضًا فِي مَذْهَبِهِ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِالْعَقْلِ أَنَّ الْعَقْلَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَصَارَ كَأَنَّهُ يَقُولُ الْعَقْلُ حُجَّةٌ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ ثُمَّ رَدَّ قَوْلَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ فَقَالَ وَإِنَّ الْعَقْلَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. وَيَجُوزُ بِفَتْحِهَا أَيْضًا عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ أَنَّهُ لَا يَجِدُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَيْ لَا يَسْتَقِيمُ أَيْضًا جَعْلُهُ حُجَّةً مُوجِبَةً بِنَفْسِهِ لِأَنَّ

[باب بيان الأهلية]

وَإِنَّمَا وَجَبَ نِسْبَةُ الْأَحْكَامِ إلَى الْعِلَلِ تَيْسِيرًا عَلَى الْعِبَادِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عِلَلًا بِذَوَاتِهَا وَأَنْ يَجْعَلَ الْعَقْلَ عِلَّةً بِنَفْسِهِ وَهُوَ بَاطِنٌ فِيهِ حَرَجٌ عَظِيمٌ فَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَقْلَ مِنْ صِفَاتِ الْأَهْلِيَّةِ قُلْنَا إنَّ الْكَلَامَ فِي هَذَا يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْأُمُورِ الْمُعْتَرِضَةِ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ. (بَابُ بَيَانِ الْأَهْلِيَّةِ) : وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا الْأَهْلِيَّةُ ضَرْبَانِ أَهْلِيَّةُ وُجُوبٍ وَأَهْلِيَّةُ أَدَاءً أَمَّا أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ فَيَنْقَسِمُ فُرُوعُهَا وَأَصْلُهَا وَاحِدٌ وَهُوَ الصَّلَاحُ لِلْحُكْمِ فَمَنْ كَانَ أَهْلًا لِحُكْمِ الْوُجُوبِ بِوَجْهٍ كَانَ هُوَ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ وَمَنْ لَا فَلَا وَأَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ نَوْعَانِ كَامِلٌ يَصْلُحُ لِلُزُومِ الْعُهْدَةِ وَقَاصِرٌ لِلُزُومِ الْعُهْدَةِ وَقَاصِرٌ لَا يَصْلُحُ لِلُّزُومِ الْعُهْدَةِ أَمَّا أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ فَبِنَاءً عَلَى قِيَامِ الذِّمَّةِ وَأَنَّ الْآدَمِيَّ يُولَدُ وَلَهُ ذِمَّةٌ صَالِحَةٌ لِلْوُجُوبِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعَقْلَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْهَوَى لِأَنَّهُ لَا عَقْلَ فِي أَوَّلِ الْفِطْرَةِ وَالنَّفْسُ غَالِبَةٌ بِهَوَاهَا وَإِذَا حَدَثَ الْعَقْلُ حَدَثَ مَغْلُوبًا بِهِ إلَّا فِي حَقِّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْخَوَاصِّ وَإِذَا كَانَ مَغْلُوبًا لَمْ يَكُنْ لَهُ عِبْرَةٌ لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ فِي مُقَابَلَةِ الْغَالِبِ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ فَلَا يَصْلُحُ حُجَّةً بِنَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْحِكْمَةِ إلْزَامُ الْعَمَلِ حِسًّا وَالْعَامِلُ مَغْلُوبٌ بِالْمَانِعِ فَكَذَا لَا يَحْسُنُ إلْزَامُ الْعَمَلِ بِالْحُجَّةِ وَالْحُجَّةُ مَدْفُوعَةٌ مَغْلُوبَةٌ بِغَيْرِهَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ تَأَيُّدِهِ بِدَعْوَةِ الرَّسُولِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ إدْرَاكِ زَمَانِ التَّأَمُّلِ وَالتَّجْرِبَةِ لِتَتِمَّ الْحُجَّةُ. (فَإِنْ قِيلَ قَدْ تَمَسَّكَ كُلُّ فَرِيقٍ بِنُصُوصٍ كَمَا تَلَوْنَا فَكَيْفَ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ لَهُمْ) قُلْنَا تِلْكَ نُصُوصٌ مُؤَوَّلَةٌ بَعْضُهَا مُعَارَضٌ بِبَعْضٍ فَلَمْ يَتِمَّ الْحُجَّةُ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ بِهَا لِتَأْوِيلِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ إيَّاهَا بِمَا يُوَافِقُ مَذْهَبَهُمْ فَصَارَتْ كَأَنَّهَا سَاقِطَةٌ فِي حَقِّ التَّمَسُّكِ بِهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِتَعَارُضِهَا عَلَى أَنَّك إذَا تَأَمَّلْت فِيهَا عَرَفْت أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ إيجَابِ الشَّارِعِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ وَلَا عَلَى أَنَّهُ يُلْغَى أَيْضًا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْفَرِيقُ الثَّانِي فَكَانَتْ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ بِمَعْزِلٍ فَلِذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ لَا دَلِيلَ لَهُمْ. وَقَوْلُهُ: وَإِنَّمَا وَجَبَ نِسْبَةُ الْأَحْكَامِ إلَى الْعِلَلِ إشَارَةٌ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ عَلَى فَسَادِ جَعْلِ الْعَقْلِ بِنَفْسِهِ حُجَّةً وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا شَرَعَ الْعِلَلَ لِنِسْبَةِ الْأَحْكَامِ إلَيْهَا تَيْسِيرًا عَلَى الْعِبَادِ فَإِنَّ إيجَابَهُ كَانَ غَيْبًا عَنْهُمْ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ عِلَلٍ ظَاهِرَةٍ تُضَافُ الْأَحْكَامُ إلَيْهَا دَفْعًا لِلْحَرَجِ عَنْهُمْ أَوْ الْوُقُوفُ عَلَى الْإِيجَابِ مُتَعَذِّرٌ فَكَانَتْ عِلَلُ الشَّرْعِ فِي الظَّاهِرَةِ أَمَارَاتٍ عَلَى الْإِيجَابِ فِي الْحَقِيقَةِ كَمَا قَرَعَ سَمْعَك غَيْرَ مَرَّةٍ فَلَوْ جَعَلْنَا الْعَقْلَ عِلَّةً مُوجِبَةً لِلْأَحْكَامِ نَفْسَهُ مَعَ أَنَّهُ أَمْرٌ بَاطِنٌ كَانَ مُؤَدِّيًا إلَى الْعُسْرِ وَالْحَرَجِ الْعَظِيمِ لِتَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَى الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ وَهُوَ خِلَافُ مَوْضُوعِ الْعِلَلِ لِأَنَّهَا وُضِعَتْ لِلتَّيْسِيرِ فَلَا يَجُوزُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فِي هَذَا أَيْ فِي الْأَهْلِيَّةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ. [بَابُ بَيَانِ الْأَهْلِيَّةِ] [أضرب الْأَهْلِيَّة] (بَابُ بَيَانِ الْأَهْلِيَّةِ) أَهْلِيَّةُ الْإِنْسَانِ لِلشَّيْءِ صَلَاحِيَّتُهُ لِصُدُورِ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَطَلَبِهِ مِنْهُ وَهِيَ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ صَلَاحِيَّتِهِ لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ الْمَشْرُوعَةِ لَهُ وَعَلَيْهِ وَهِيَ الْأَمَانَةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِحَمْلِ الْإِنْسَانِ إيَّاهَا بِقَوْلِهِ {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [الأحزاب: 72] أَمَّا أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ فَيَنْقَسِمُ فُرُوعُهَا بِحَسَبِ انْقِسَامِ الْأَحْكَامِ فَالصَّبِيُّ أَهْلٌ لِبَعْضِ الْأَحْكَامِ وَلَيْسَ بِأَهْلٍ لِبَعْضِهَا أَصْلًا وَهُوَ أَهْلٌ لِبَعْضِهَا بِوَاسِطَةِ رَأْيِ الْوَلِيِّ فَكَانَتْ هَذِهِ الْأَهْلِيَّةُ مُنْقَسِمَةً نَظَرًا إلَى أَفْرَادِ الْأَحْكَامِ وَأَصْلُهَا وَاحِدٌ وَهُوَ الصَّلَاحُ لِلْحُكْمِ أَيْ لِحُكْمِ الْوُجُوبِ بِوَجْهٍ وَهُوَ الْمُطَالَبَةُ بِالْوَاجِبِ أَدَاءً وَقَضَاءً وَالْعُهْدَةُ اسْتِحْقَاقُ حُقُوقٍ تَلْزَمُ بِالْعَقْدِ وَقِيلَ هِيَ نَفْسُ الْعَقْدِ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَالْعَهْدَ سَوَاءٌ وَالْعُهْدَةُ التَّبَعَةُ أَيْضًا غَيْرَ أَنَّ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ الْمَقْصُودُ مِنْهَا الْمَالُ وَفِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَقْصُودُ اسْتِحْقَاقُ الْأَدَاءِ ابْتِلَاءً لِيَظْهَرَ الْمُطِيعُ مِنْ الْعَاصِي كَذَا رَأَيْت بِخَطِّ شَيْخِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَمَّا أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ فَبِنَاءً عَلَى قِيَامِ الذِّمَّةِ أَيْ لَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْأَهْلِيَّةُ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ ذِمَّةٍ صَالِحَةٍ لِأَنَّ الذِّمَّةَ هِيَ مَحَلُّ الْوُجُوبِ وَلِهَذَا يُضَافُ إلَيْهَا وَلَا يُضَافُ إلَى غَيْرِهَا بِحَالٍ. وَلِهَذَا اخْتَصَّ الْإِنْسَانُ بِالْوُجُوبِ دُونَ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ لَهَا ذِمَّةٌ قَوْلُهُ (وَأَنَّ الْآدَمِيَّ يُولَدُ) دَلِيلٌ عَلَى قِيَامِ الذِّمَّةِ لِلْإِنْسَانِ

بِنَاءً عَلَى الْعَهْدِ الْمَاضِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] الْآيَةَ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِلْوُجُوبِ أَيْ لِلْوُجُوبِ لَهُ وَعَلَيْهِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ حَتَّى يَثْبُتَ لَهُ مِلْكُ الرَّقَبَةِ وَمِلْكُ النِّكَاحِ بِشِرَاءِ الْوَلِيِّ وَبِتَزْوِيجِهِ إيَّاهُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ وَالْمَهْرُ بِعَقْدِ الْوَلِيِّ وَهَذَا رَدٌّ لِمَا ذَكَرَ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَشُمَّ رَائِحَةَ الْفِقْهِ فِي مُصَنَّفِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ تَقْدِيرَ الْمَالِ فِي الذِّمَّةِ لَا مَعْنَى لَهُ وَأَنَّ تَقْدِيرَ الذِّمَّةِ مِنْ التُّرَّهَاتِ الَّتِي لَا حَاجَةَ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ إلَيْهَا بَلْ الشَّرْعُ مَكَّنَهُ بِأَنْ يُطَالِبَهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِ فَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ عُرْفًا وَشَرْعًا فَقَالَ هِيَ ثَابِتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ فَمَنْ أَنْكَرَهَا فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الذِّمَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَهْدِ فِي اللُّغَةِ فَاَللَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْإِنْسَانَ مَحَلَّ أَمَانَتِهِ أَكْرَمَهُ بِالْعَقْلِ وَالذِّمَّةِ حَتَّى صَارَ بِهِمَا أَهْلًا لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ لَهُ وَعَلَيْهِ فَثَبَتَ لَهُ حَقُّ الْعِصْمَةِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ بِأَنْ حَمَلَ حُقُوقَهُ وَثَبَتَتْ عَلَيْهِ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي سَمَّاهَا أَمَانَةً مَا شَاءَ كَمَا إذَا عَاهَدْنَا الْكُفَّارَ وَأَعْطَيْنَاهُمْ الذِّمَّةَ ثَبَتَتْ لَهُمْ حُقُوقُ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآدَمِيُّ لَا يُخْلَقُ إلَّا وَلَهُ هَذَا الْعَهْدُ وَالذِّمَّةُ فَلَا يُخْلَقُ إلَّا وَهُوَ أَهْلٌ لِوُجُوبِ حُقُوقِ الشَّرْعِ عَلَيْهِ كَمَا لَا يُخْلَقُ إلَّا وَهُوَ حُرٌّ مَالِكٌ لِحُقُوقِهِ وَإِنَّمَا تَثْبُتُ لَهُ هَذِهِ الْكَرَامَاتُ بِنَاءً عَلَى الذِّمَّةِ وَحَمْلِهِ حُقُوقَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلُهُ (بِنَاءً عَلَى الْعَهْدِ الْمَاضِي) يَعْنِي إنَّمَا ثَبَتَتْ لَهُ الذِّمَّةُ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ فِي الشَّرْعِ عَنْ وَصْفٍ يَصِيرُ الشَّخْصُ بِهِ أَهْلًا لِلْإِيجَابِ وَالِاسْتِيجَابِ بِنَاءً عَلَى الْعَهْدِ الْمَاضِي الَّذِي جَرَى بَيْنَ الْعَبْدِ وَالرَّبِّ يَوْمَ الْمِيثَاقِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] الْآيَةَ. رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا فَنَثَرَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قِبَلًا أَيْ عِيَانًا بِحَيْثُ يُعَايِنُهُمْ آدَم. وَقَالَ أَلَسْت بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا تَلَاهَا إلَى قَوْلِهِ الْمُبْطِلُونَ» وَرَوَى حَدِيثَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَالْحَسَنُ وَالْكَلْبِيُّ وَابْنُ بِنَذْرِ. وَمَعْمَرٌ وَالسُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ وَأَبُو قِلَابَةَ وَغَيْرُهُمْ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ جَمَعَهُمْ جَمِيعًا فَجَعَلَهُمْ أَزْوَاجًا ثُمَّ صَوَّرَهُمْ ثُمَّ اسْتَنْطَقَهُمْ وَأَخَذَ عَلَيْهِمْ الْمِيثَاقَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْت بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا قَالَ فَإِنِّي أُشْهِدُ عَلَيْكُمْ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ وَأُشْهِدُ عَلَيْكُمْ أَبَاكُمْ آدَمَ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا لَمْ تَعْلَمُوا اعْلَمُوا أَنَّهُ لَا إلَهَ غَيْرِي فَلَا تُشْرِكُوا بِي شَيْئًا وَإِنِّي سَأُرْسِلُ إلَيْكُمْ رُسُلًا يَذْكُرُ بِكُمْ عَهْدِي وَأُنْزِلَ عَلَيْكُمْ كُتُبِي قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ إلَهُنَا لَا إلَهَ غَيْرُك فَأَقَرُّوا يَوْمَئِذٍ بِالطَّاعَةِ وَفِي رِوَايَةِ مُقَاتِلٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَسَحَ صَفْحَةَ ظَهْرِ آدَمَ الْيُمْنَى أَيْ أَمَرَ مَلَكًا بِذَلِكَ فَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً سَوْدَاءَ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ يَتَحَرَّكُونَ ثُمَّ مَسَحَ صَفْحَةَ ظَهْرِهِ الْيُسْرَى فَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً سَوْدَاءَ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ فَقَالَ يَا آدَم هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُك آخُذُ مِيثَاقَهُمْ عَلَى أَنْ يَعْبُدُونِي وَلَا يُشْرِكُوا بِي شَيْئًا وَعَلَيَّ رِزْقُهُمْ فَقَالَ نَعَمْ يَا رَبِّ فَقَالَ لَهُمْ أَلَسْت بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى ثُمَّ أَفَاضَهُمْ إفَاضَةَ الْقِدَاحِ ثُمَّ أَعَادَهُمْ جَمِيعًا فِي صُلْبِ آدَمَ فَأَهْلُ الْقُبُورِ مَحْبُوسُونَ حَتَّى يَخْرُجَ أَهْلُ الْمِيثَاقِ كُلُّهُمْ مِنْ أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ الْأَوَّلَ {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} [الأعراف: 102] . وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَتْ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ بِنَاءً عَلَى الْعَهْدِ الْمَاضِي يَعْنِي الْعَهْدَ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِمْ

وَقَالَ تَعَالَى {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] وَالذِّمَّةُ الْعَهْدُ وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ نَفْسٌ وَرَقَبَةٌ لَهَا ذِمَّةٌ وَعَهْدٌ حَتَّى إنَّ وَلِيَّ الصَّبِيِّ إذَا اشْتَرَى لِلصَّبِيِّ كَمَا وُلِدَ لَزِمَهُ الثَّمَنُ وَقَبْلَ الِانْفِصَالِ هُوَ جُزْءٌ مِنْ وَجْهٍ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذِمَّةٌ مُطْلَقَةً حَتَّى صَلَحَ لِيَجِبَ لَهُ الْحَقُّ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَوْمَ الْمِيثَاقِ فَإِنْ قِيلَ ظَاهِرُ الْآيَةِ لَا يُوَافِقُ هَذَا التَّفْسِيرَ فَإِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَخْذِ الذُّرِّيَّةِ مِنْ ظُهُورِ بَنِي آدَمَ فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى مِنْ ظُهُورِهِمْ بَدَلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ بَدَلُ الْبَعْضِ مِنْ الْكُلِّ بِتَكْرِيرِ الْجَارِّ وَالْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى إخْرَاجِ الذُّرِّيَّةِ مِنْ صُلْبِ آدَمَ فَمَا وَجْهُ التَّوْفِيقِ قُلْنَا وَجْهُ التَّوْفِيقِ مَا قَالَ الْكَتَّانِيُّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ بَعْضَهُمْ مِنْ ظُهُورِ بَعْضٍ عَلَى حَسَبِ مَا يَتَوَالَدُونَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَكَانَ ذَلِكَ أَخْذًا مِنْ ظَهْرِهِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَدْنَى مُدَّةٍ كَمَا يَكُونُ فِي مَوْتِ الْكُلِّ بِالنَّفْخِ فِي الصُّوَرِ وَحَيَاةِ الْكُلِّ بِالنَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ. فَإِنْ قِيلَ فَمَا وَجْهُ إلْزَامِ الْحُجَّةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْنُ لَا نَذْكُرُ هَذَا الْمِيثَاقَ وَإِنْ تَفَكَّرْنَا جُهْدَنَا فِي ذَلِكَ قُلْنَا أَنْسَانَا اللَّهُ تَعَالَى ابْتِلَاءً لِأَنَّ الدُّنْيَا دَارُ غَيْبٍ وَعَلَيْنَا الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ وَلَوْ تَذَكَّرْنَا ذَلِكَ زَالَ الِابْتِلَاءُ وَلَيْسَ مَا يُنْسَى يَزُولُ بِهِ الْحُجَّةُ وَيَثْبُتُ بِهِ الْعُذْرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَعْمَالِنَا {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6] وَأَخْبَرَ أَنَّهُ سَيُنَبِّئُنَا بِهَا وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَدَّدَ هَذَا الْعَهْدَ وَذَكَّرَنَا هَذَا الْمَنْسِيَّ بِإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ فَلَمْ نُعْذَرْ كَذَا فِي التَّيْسِيرِ وَالْمَطْلَعِ وَذَكَرَ فِي الْكَشَّافِ أَنَّ مَعْنَى أَخْذِ ذُرِّيَّتِهِمْ مِنْ ظُهُورِهِمْ إخْرَاجُهُمْ نَسْلًا وَإِشْهَادُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَقَوْلُهُ {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172] مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ وَالتَّخْيِيلِ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ نَصَبَ لَهُمْ الْأَدِلَّةَ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَشَهِدَتْ بِهَا عُقُولُهُمْ وَبَصَائِرُهُمْ الَّتِي رَكَّبَهَا فِي أَنْفُسِهِمْ وَجَعَلَهَا مُمَيِّزَةً بَيْنَ الضَّلَالَةِ وَالْهُدَى فَكَأَنَّهُ أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَقَرَّرَهُمْ. وَقَالَ {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] وَكَأَنَّهُمْ قَالُوا بَلَى أَنْتَ رَبُّنَا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَأَقْرَرْنَا بِوَحْدَانِيِّتِك وَبَابُ التَّخْيِيلِ وَاسِعٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ مَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ أَخْذُ الْمِيثَاقِ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ ثَابِتًا بِالسُّنَّةِ دُونَ الْآيَةِ قَوْلُهُ (وَقَالَ تَعَالَى {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] أَيْ أَلْزَمْنَاهُ مَا طَارَ لَهُ مِنْ عَمَلِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ طَارَ سَهْمُهُ بِكَذَا يَعْنِي عَمَلُهُ لَازِمٌ لَهُ لُزُومَ الْقِلَادَةِ أَوْ هُوَ رَدٌّ لِتَطَيُّرِهِمْ بِالسَّانِحِ وَالْبَارِحِ مِنْ الطَّيْرِ وَقَوْلُهُ فِي عُنُقِهِ عِبَارَةٌ عَنْ اللُّزُومِ يُقَالُ لِمَنْ الْتَزَمَ شَيْئًا يُقَلِّدُهُ طَوْقُ الْحَمَامَةِ وَيَقُولُ الرَّجُلُ لِآخَرَ جَعَلْت هَذَا الْأَمْرَ فِي عُنُقِك إذَا أَلْزَمَهُ إيَّاهُ أَوْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الشَّخْصِ كَالرَّقَبَةِ. وَالذِّمَّةُ فِي اللُّغَةِ الْعَهْدُ لِأَنَّ نَقْضَهُ يُوجِبُ الذَّمَّ قَالَ تَعَالَى {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً} [التوبة: 10] أَيْ عَهْدًا وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وَإِنْ أَرَادُوكُمْ أَنْ تُعْطُوهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ فَلَا تُعْطُوهُمْ» أَيْ عَهْدَهُ وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ أَيْ بِالذِّمَّةِ فِي الشَّرْعِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ أَوْ الْعَهْدِ نَفْسٌ وَرَقَبَةٌ لَهَا ذِمَّةٌ وَعَهْدٌ أَيْ عَهْدٌ سَابِقٌ كَمَا بَيَّنَّا يَعْنِي الْمُرَادَ بِالْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ فِي قَوْلِهِمْ وَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ كَذَا الْوُجُوبُ فِي مَحَلٍّ ثَبَتَ فِيهِ الْعَهْدِ الْمَاضِي وَهُوَ النَّفْسُ أَوْ الرَّقَبَةُ إلَّا أَنَّهُ سَمَّى مَحَلَّ الْتِزَامِ السُّنَّةِ بِهَا. وَقَوْلُهُ: حَتَّى أَنَّ وَلِيَّ الصَّبِيِّ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ يُولَدُ وَلَهُ ذِمَّةٌ صَالِحَةٌ لِلْوُجُوبِ لَزِمَهُ الثَّمَنُ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلْمِلْكِ وَأَهْلٌ لِحُكْمِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْمُطَالَبَةُ بِوَاسِطَةِ الْوَلِيِّ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ مَالِيٌّ فَتَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ وَقَبْلَ الِانْفِصَالِ عَنْ الْأُمِّ هُوَ جُزْءٌ مِنْ وَجْهٍ يَعْنِي حِسًّا وَحُكْمًا أَمَّا حِسًّا فَلِأَنَّ قَرَارَهُ وَانْتِقَالَهُ بِقَرَارِ الْأُمِّ وَانْتِقَالِهَا كَيَدِهَا وَرِجْلِهَا وَسَائِرِ أَعْضَائِهَا وَلِهَذَا يُقْرَضُ بِالْمِقْرَاضِ عَنْهَا عِنْدَ الْوِلَادَةِ وَأَمَّا حُكْمًا فَلِأَنَّهُ بِعِتْقِهَا يُعْتَقُ وَيَرِقُّ بِاسْتِرْقَاقِهَا وَيَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ بِبَيْعِهَا وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ مُنْفَرِدًا

وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ وَإِذَا انْفَصَلَ فَظَهَرَتْ ذِمَّتُهُ مُطْلَقَةً كَانَ أَهْلًا بِذِمَّتِهِ لِلْوُجُوبِ غَيْرَ أَنَّ الْوُجُوبَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِنَفْسِهِ فَيَجُوزُ أَنْ تَبْطُلَ لِعَدَمِ حُكْمِهِ وَغَرَضِهِ فَكَمَا يَنْعَدِمُ الْوُجُوبُ لِعَدَمِ مَحَلِّهِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَنْعَدِمَ لِعَدَمِ حُكْمِهِ أَيْضًا فَيَصِيرُ هَذَا الْقِسْمُ مُنْقَسِمًا بِانْقِسَامِ الْأَحْكَامِ، وَقَدْ مَرَّ التَّقْسِيمُ قَبْلَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ. فَأَمَّا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ فَمَا كَانَ مِنْهَا غُرْمًا وَعِوَضًا فَالصَّبِيُّ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِهِ لِأَنَّ حُكْمَهُ وَهُوَ أَدَاءُ الْعَيْنِ يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ لِأَنَّ الْمَالَ مَقْصُودٌ لَا الْأَدَاءَ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ عَلَيْهِ مَتَى صَحَّ سَبَبُهُ وَمَا كَانَ صِلَةً لَهَا شَبَهٌ بِالْمُؤَنِ وَهِيَ نَفَقَةُ الزَّوْجَاتِ وَالْقَرَابَاتِ لَزِمَهُ أَيْضًا ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالْحَيَاةِ مُعَدًّا لِلِانْفِصَالِ وَصَيْرُورَتِهِ نَفْسًا بِرَأْسِهِ لَمْ يَكُنْ جُزْءَ الْأُمِّ مُطْلَقًا فَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذِمَّةٌ مُطْلَقَةٌ أَيْ كَامِلَةٌ حَتَّى صَلَحَ لَأَنْ يَجِبَ لَهُ الْحَقُّ مِنْ الْعِتْقِ وَالْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ وَالنَّسَبِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَيْ لَا يَصْلُحُ لَأَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الْحَقُّ حَتَّى لَوْ اشْتَرَى الْوَلِيُّ لَهُ شَيْئًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْأَقَارِبِ وَنَحْوِهِمَا وَإِذَا انْفَصَلَ عَنْ الْأُمِّ بِالْوِلَادَةِ فَظَهَرَتْ ذِمَّتُهُ مُطْلَقَةً لِصَيْرُورَتِهِ نَفْسًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى الشَّرْطِ وَالْجَوَابُ كَانَ أَيْ صَارَ أَهْلًا بِسَبَبِ ذِمَّتِهِ لِلْوُجُوبِ لَهُ وَعَلَيْهِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ الْحُقُوقُ بِجُمْلَتِهَا كَمَا تَجِبُ عَلَى الْبَالِغِ لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ وَكَمَالِ الذِّمَّةِ غَيْرَ أَنَّ الْوُجُوبَ أَيْ لَكِنَّ نَفْسَ الْوُجُوبِ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِنَفْسِهِ بَلْ الْمَقْصُودُ مِنْهُ حُكْمُهُ وَهُوَ الْأَدَاءُ عَنْ اخْتِيَارٍ لِيَتَحَقَّقَ الِابْتِلَاءُ وَلَمْ يُتَصَوَّرْ ذَلِكَ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ لِعَجْزِهِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَبْطُلَ الْوُجُوبُ أَيْ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ أَصْلًا لِعَدَمِ حُكْمِهِ وَهُوَ الْمُطَالَبَةُ بِالْأَدَاءِ وَغَرَضُهُ وَهُوَ الِابْتِلَاءُ لِعَدَمِ مَحَلِّهِ كَبَيْعِ الْحُرِّ وَإِعْتَاقِ الْبَهِيمَةِ فَيَصِيرُ هَذَا الْقِسْمُ يَعْنِي لَمَّا جَازَ أَنْ يَبْطُلَ الْوُجُوبُ لِعَدَمِ الْحُكْمِ صَارَ هَذَا الْقِسْمُ وَهُوَ الْوُجُوبُ أَوْ أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ مُنْقَسِمًا بِانْقِسَامِ الْأَحْكَامِ لَا بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ فَكُلُّ قِسْمٍ يُتَصَوَّرُ شَرْعِيَّتُهُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ وُجُوبُهُ فِي حَقِّهِ وَمَا لَا فَلَا. ثُمَّ الْأَحْكَامُ مُنْقَسِمَةٌ إلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْعَبْدِ وَاَلَّذِي اجْتَمَعَ فِيهِ الْحَقَّانِ إلَى آخِرِ الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَّلِ بَابِ مَعْرِفَةِ الْعِلَلِ وَالْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ وَبَعْضُهَا مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ كَحَقِّ الْعَبْدِ مِنْ الْأَمْوَالِ فَيَكُونُ أَهْلًا لِوُجُوبِهِ وَبَعْضُهَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ أَصْلًا فِي حَقِّهِ كَالْعُقُوبَاتِ فَلَا يَكُونُ أَهْلًا لِوُجُوبِهِ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَفْصِيلِ الْأَحْكَامِ فِي حَقِّهِ وَتَرْتِيبِ الْوُجُوبِ عَلَيْهَا وَتَقْسِيمِ الْوُجُوبِ بِحَسَبِ انْقِسَامِهَا فَشَرَعَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فَأَمَّا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ فَمَا كَانَ مِنْهَا غُرْمًا كَضَمَانِ الْإِتْلَافَاتِ وَعِوَضًا كَثَمَنٍ لِلْبَيْعِ وَالْأُجْرَةِ فَالصَّبِيُّ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَاقِلًا حَتَّى لَوْ أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ أَوْ اشْتَرَى لَهُ الْوَلِيُّ شَيْئًا أَوْ اسْتَأْجَرَهُ لَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَالثَّمَنُ وَالْأُجْرَةُ لِأَنَّ حُكْمَهُ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى مَا أَوْ لِلْوُجُوبِ أَيْ حُكْمَ الْوُجُوبِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ لِأَنَّ الْمَالَ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ دُونَ الْفِعْلِ إذْ الْمَقْصُودُ دَفْعُ الْخُسْرَانِ بِمَا يَكُونُ خَيْرًا لَهُ أَوْ حُصُولُ الرِّبْحِ وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْمَالِ وَأَدَاءُ وَلِيِّهِ كَأَدَائِهِ فِي حُصُولِ هَذَا الْمَقْصُودِ بِهِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ عَلَيْهِ مَتَى صَحَّ سَبَبُهُ بِأَنْ تَحَقَّقَ الْإِتْلَافُ أَوْ وُجِدَ الْبَيْعُ بِشَرَائِطِهِ الْمَالُ الْوَاجِبُ صِلَةً هُوَ الَّذِي لَا يُسْتَفَادُ بِهِ عِوَضٌ. أَمَّا نَفَقَةُ الزَّوْجَاتِ فَلَهَا شَبَهٌ بِالْأَعْوَاضِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْمَرْأَةِ لَا تَجِبُ عِوَضًا حَقِيقَةً لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ فِيمَا دَخَلَ تَحْتَ الْعَقْدِ بِالتَّسْمِيَةِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُعَاوَضَةَ بِالْبَيْعِ إنَّمَا تَثْبُتُ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ وَلَا تَثْبُتُ بَيْنَ حُقُوقِ الْعَقْدِ وَثَمَرَاتِهِ وَلَا بَيْنَ أَوْصَافِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ وَإِنْ دَخَلَتْ تَحْتَ التَّسْمِيَةِ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ تَبَعًا وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَتَى حَبَسَتْ نَفْسَهَا لِاسْتِيفَاءِ الْمَهْرِ اسْتَحَقَّتْ النَّفَقَةَ وَلَوْ كَانَتْ عِوَضًا عَنْ الِاحْتِبَاسِ لِلرَّجُلِ لَسَقَطَتْ بِفَوْتِهِ كَيْفَ مَا فَاتَ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ مَتَى لَمْ تُسَلِّمْ الْمُؤَاجَرَ مَا آجَرَ بِأَيِّ وَجْهِ مَنْعٍ سَقَطَ الْأَجْرُ وَلَكِنَّهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ صِلَةً مُسْتَحَقَّةً بِالْعَقْدِ ثَمَرَةً مِنْ ثَمَرَاتِهِ ثُمَّ لَزِمَهَا الِاحْتِبَاسُ

الزَّوْجَاتُ فَلَهَا شَبَهٌ بِالْأَعْوَاضِ وَأَمَّا الْأُخْرَى فَمُؤْنَةُ الْيَسَارِ، وَكُلُّ صِلَةٍ لَهَا شَبَهٌ بِالْأَجْزِيَةِ لَمْ يَكُنْ الصَّبِيُّ مِنْ أَهْلِهِ مِثْلَ تَحَمُّلِ الْعَقْلِ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ صِفَةِ الْجَزَاءِ مُقَابَلًا بِالْكَفِّ عَنْ الْأَخْذِ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ وَلِذَلِكَ اخْتَصَّ بِهِ رِجَالُ الْعَشَائِرِ وَمَا كَانَ عُقُوبَةً أَوْ جَزَاءً لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ عَلَى مَا مَرَّ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحْ لِحُكْمِهِ فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِلُزُومِهِ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْإِجْمَالِ أَنَّ الْوُجُوبَ لَازِمٌ مَتَى صَحَّ بِحُكْمِهِ وَمَتَى بَطَلَ الْقَوْلُ بِحُكْمِهِ بَطَلَ بِوُجُوبِهِ وَإِنْ صَحَّ سَبَبُهُ الْقَوْلُ وَمَحَلُّهُ لِأَنَّ الْوُجُوبَ كَمَا يَنْعَدِمُ مَرَّةً لِعَدَمِ سَبَبِهِ لِعَدَمِ مَحَلِّهِ فَيَنْعَدِمُ أَيْضًا لِعَدَمِ حُكْمِهِ وَقَدْ مَرَّ تَقْسِيمُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَيْضًا. فَأَمَّا الْإِيمَانُ فَلَا يَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ قَبْلَ أَنْ يَعْقِلَ لِمَا قُلْنَا مِنْ عَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ وَكَذَلِكَ الْعِبَادَاتُ الْخَالِصَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْبَدَنِ أَوْ بِالْمَالِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَإِنْ وُجِدَ سَبَبُهَا وَمَحَلُّهَا لِعَدَمِ الْحُكْمِ وَهُوَ الْأَدَاءُ لِأَنَّ الْأَدَاءَ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ـــــــــــــــــــــــــــــQجَزَاءً عَلَى النَّفَقَةِ وَعِنْدَنَا تَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ جَزَاءً لَهَا عَلَى الِاحْتِبَاسِ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا عِنْدَ الرَّجُلِ كَنَفَقَةِ الْقَاضِي فَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا لَمْ تَجِبْ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ كَانَتْ صِلَةً كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا وَجَبَتْ جَزَاءً أَشْبَهَ الْأَعْوَاضَ فَبِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَجِبَ دَيْنًا بِحَالٍ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ وَبِالْمَعْنَى الثَّانِي يَجِبُ أَنْ لَا تَسْقُطَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ فَجَعَلَ لَهَا مَنْزِلَةً بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَقِيلَ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ إذَا لَمْ يُوجَدْ الْتِزَامٌ كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَتَصِيرُ دَيْنًا بِالِالْتِزَامِ كَالْأَعْوَاضِ، كَذَا فِي الْأَسْرَارِ. فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ لَهَا شَبَهٌ بِالْأَعْوَاضِ وَأَمَّا الْأُخْرَى وَهِيَ نَفَقَةُ الْأَقَارِبِ فَمُؤْنَةُ الْيَسَارِ أَيْ هِيَ مُؤْنَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْيَسَارِ وَلِذَلِكَ لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى الْغَنِيِّ وَالصَّبِيُّ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْمُؤَنِ عَلَيْهِ فَتَجِبُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمُؤْنَةُ عِنْدَ حُصُولِ الْغِنَاءِ كَمَا تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ نَفْسِهِ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ وَالْمَقْصُودُ إزَالَةُ حَاجَةِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ بِوُصُولِ كِفَايَتِهِ إلَيْهِ وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْمَالِ وَأَدَاءُ الْوَلِيِّ فِيهِ كَأَدَائِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْوُجُوبَ غَيْرُ خَالٍ عَنْ حِكْمَةٍ مِثْلُ تَحَمُّلِ الْعَقْلِ أَيْ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ أَيْ تَحَمُّلَ الْعَقْلِ أَوْ وُجُوبَهُ وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِأَنَّهُ وَجَبَ مُقَابَلًا بِالْكَفِّ اخْتَصَّ بِهِ أَيْ بِتَحَمُّلِ الْعَقْلِ وَوُجُوبِهِ رِجَالُ الْعَشَائِرِ الَّذِينَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْحِفْظِ دُونَ النِّسَاءِ لِأَنَّهُنَّ لَا يَقْدِرْنَ عَلَيْهِ لِضَعْفِهِنَّ وَالصَّبِيُّ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِوُجُوبِ الْجَزَاءِ بِوَجْهٍ وَمَا كَانَ عُقُوبَةً أَيْ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَالْقِصَاصِ أَوْ جَزَاءً كَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الصَّبِيِّ عَلَى مَا مَرَّ أَيْ فِي بَابِ مَعْرِفَةِ الْعِلَلِ لِأَنَّهُ أَيْ الصَّبِيَّ لَا يَصْلُحُ لِحُكْمِهِ وَهُوَ الْمُطَالَبَةُ بِالْعُقُوبَةِ أَوْ جَزَاءُ الْفِعْلِ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَمِثْلُ الْقَوْلِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ أَنَّهُ مَتَى كَانَ أَهْلًا لِحُكْمِ الْوُجُوبِ فِي شَيْءٍ كَانَ أَهْلًا لِوُجُوبِهِ الْقَوْلُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْإِجْمَالِ أَيْ عَلَى الْجُمْلَةِ وَإِنْ صَحَّ سَبَبُهُ بِأَنْ تَحَقَّقَ دُلُوكُ الشَّمْسِ وَشُهُودُ الشَّهْرِ وَمَحَلُّهُ وَهُوَ الذِّمَّةُ وَقَدْ مَرَّ تَقْسِيمُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَهِيَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ الْبَابِ أَيْضًا. ثُمَّ شَرَعَ فِي تَفْصِيلِ مَا أَجْمَلَ فَقَالَ فَأَمَّا الْإِيمَانُ فَلَا يَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ قَبْلَ أَنْ يَعْقِلَ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ وُجُوبًا أَوْ وُجُودًا فِي حَقِّهِ فَمَا كَانَ الْقَوْلُ بِالْوُجُودِ فِي حَقِّهِ بِدُونِ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ إلَّا نَظِيرَ الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ بِدُونِ الْمَحَلِّ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ كَمَا فِي حَقِّ الْبَهَائِمِ فَلَا يَجُوزُ وَكَذَلِكَ أَيْ وَمِثْلُ الْإِيمَانِ الْعِبَادَاتُ الْخَالِصَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْبَدَنِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ أَوْ بِالْمَالِ كَالزَّكَاةِ لِأَنَّ الْأَدَاءَ أَيْ الْفِعْلَ هُوَ الْمَقْصُودُ يَعْنِي فِي حَقِّ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ أَنَّهُ يَأْتَمِرُ أَمَّا فِي حَقِّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَأْتَمِرُ فَالْمَقْصُودُ الِابْتِلَاءُ وَإِلْزَامُ الْحُجَّةِ وَالصِّغَرُ يُنَافِيهِ أَيْ الِابْتِلَاءَ لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ بِالْفِعْلِ إنَّمَا ثَبَتَ لِيَظْهَرَ الْمُطِيعُ مِنْ الْعَاصِي وَمَعَ الصِّبَا لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ وَلَا يَظْهَرُ أَيْضًا مَعَ الْجَبْرِ لِأَنَّهُ مُجَازَى عَلَى فِعْلِهِ وَلَا جَزَاءَ مَعَ الْجَبْرِ لِأَنَّهُ لَا فِعْلَ لِلْمُجْبَرِ حَقِيقَةً فَلَا يَسْتَحِقُّ الْجَزَاءَ. وَقَوْلُهُ: وَمَا يَتَأَدَّى بِالنَّائِبِ جَوَابٌ عَمَّا قَالَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ فِي مَالِهِ لِأَنَّ الزَّكَاةَ يَتَأَدَّى بِالنَّائِبِ وَهُوَ الْوَكِيلُ كَمَا يَتَأَدَّى حُقُوقُ الْعِبَادِ بِهِ فَيَتَأَدَّى بِالْوَلِيِّ أَيْضًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَالْعُشْرُ لِمَا قُلْنَا فَكَذَا الزَّكَاةُ فَقَالَ وَمَا يَتَأَدَّى بِالنَّائِبِ أَيْ بِمِثْلِ هَذَا النَّائِبِ وَهُوَ الْوَلِيُّ لَا يَصْلُحُ طَاعَةً لِأَنَّ هَذِهِ النِّيَابَةَ نِيَابَةُ جَبْرٍ لَا اخْتِيَارٍ لِثُبُوتِهَا عَلَى الصَّبِيِّ شَرْعًا شَاءَ أَوْ أَبَى وَالزَّكَاةُ طَاعَةٌ مَحْضَةٌ فَلَا يَتَأَدَّى بِمِثْلِ هَذِهِ النِّيَابَةِ

وَذَلِكَ فِعْلٌ يَحْصُلُ عَنْ اخْتِيَارٍ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ تَحْقِيقًا لِلِابْتِلَاءِ وَالصِّغَرُ يُنَافِيهِ وَمَا يَتَأَدَّى بِالنَّائِبِ لَا يَصْلُحُ طَاعَةً لِأَنَّهَا نِيَابَةُ جَبْرٍ لَا اخْتِيَارٍ فَلَوْ وَجَبَ مَعَ ذَلِكَ لَصَارَ الْمَالُ مَقْصُودًا وَذَلِكَ بَاطِلٌ فِي جِنْسِ الْقُرْبِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ الزَّكَاةُ وَالصَّلَاةُ وَالْحَجُّ وَالصَّوْمُ وَمَا يَشُوبُهُ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ مِثْلُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ لَمْ يَلْزَمْهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِمَا قُلْنَا وَلَزِمَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ اجْتِزَاءً بِالْأَهْلِيَّةِ الْقَاصِرَةِ وَالِاخْتِيَارِ الْقَاصِرِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِأَنَّهُ يَصِيرُ إعْطَاءً بِطَرِيقِ الْكُرْهِ. بِخِلَافِ نِيَابَةِ الْوَكِيلِ لِأَنَّهَا نِيَابَةُ اخْتِيَارٍ حَيْثُ ثَبَتَتْ بِإِنَابَتِهِ فَيَنْتَقِلُ فِعْلُ النَّائِبِ إلَى الْمُوَكِّلِ بِالْأَمْرِ فَتَصْلُحُ لِأَدَاءِ الْعِبَادَةِ فَلَوْ وَجَبَ يَعْنِي مَا يَتَأَدَّى بِالنَّائِبِ عَلَى الصَّبِيِّ بِاعْتِبَارِ أَدَاءِ النَّائِبِ مَعَ أَنَّ هَذِهِ نِيَابَةُ جَبْرٍ لَصَارَ الْمَالُ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ دُونَ الْفِعْلِ الَّذِي بِهِ يَحْصُلُ الِابْتِلَاءُ وَذَلِكَ أَيْ كَوْنُ الْمَالِ مَقْصُودًا بَاطِلٌ فِي جِنْسِ الْقُرَبِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حَاجَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَمَنْ يَقَعُ لَهُ الْقُرْبَةُ أَغْنَى الْأَغْنِيَاءِ وَمَالِكُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمُنَزَّهٌ عَنْ نَقِيصَةِ الْحَاجَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ الْمَالُ فِي الْقُرْبَةِ مَقْصُودًا فَإِنْ قِيلَ مَا ذَكَرْتُمْ مَرْدُودٌ بِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «ابْتَغُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى خَيْرًا كَيْ لَا تَأْكُلَهَا الصَّدَقَةُ» وَفِي رِوَايَةٍ كَيْ لَا تَأْكُلَهَا الزَّكَاةُ وَفِي رِوَايَةٍ «مَنْ وَلِيَ مَالَ الْيَتِيمِ فَلْيُؤَدِّ زَكَاتَهُ» قُلْنَا هَذَا خَبَرٌ مُزَيَّفٌ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَا زَكَاةَ فِي مَالِ الصَّبِيِّ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَعُدُّ الْوَصْفَ عَلَيْهِ السِّنِينَ لَمْ يُجْبِرْهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَإِنْ شَاءَ أَدَّى وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُؤَدِّ وَعَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا وَلَمْ تَجْرِ الْمُحَاجَّةُ بَيْنَهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَلَوْ بَلَغَهُمْ لَمَا وَسِعَهُمْ تَرْكُ الْمُحَاجَّةِ بِهِ وَلَوْ احْتَجُّوا بِهِ لَاشْتُهِرَ أَكْثَرَ مِنْ شُهْرَةِ الْفَتْوَى، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يُرَدُّ بِمِثْلِهِ عِنْدَنَا مَعَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ حَكَى إجْمَاعَ السَّلَفِ فِي أَنْ لَا زَكَاةَ عَلَى الصَّبِيِّ قَوْلُهُ (وَمَا يَشُوبُهُ) أَيْ يَخْلِطُهُ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ مِثْلَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ لَمْ يَلْزَمْ الصَّبِيَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِمَا قُلْنَا آنِفًا أَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْعِبَادَةِ الْمَالِيَّةِ بِوَاسِطَةِ أَدَاءِ الْوَلِيِّ وَقَدْ تَرَجَّحَ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهَا فَصَارَ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْدُومِ اجْتِزَاءً أَيْ اكْتِفَاءً. وَذَلِكَ أَيْ الِاخْتِيَارُ الْقَاصِرُ وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَزِمَهُ مَا كَانَ مُؤْنَةً فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِهِ لِأَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ خَالَطَ الْعُشْرَ حَتَّى لَمْ يَجِبْ عَلَى الْكَافِرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَعْنَى الْعُقُوبَةِ خَالَطَ الْخَرَاجَ حَتَّى لَا يَبْتَدِئَ عَلَى الْمُسْلِمِ وَلَكِنَّهُمَا فِي الْأَصْلِ مِنْ مُؤَنِ الْأَرْضِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ فِيهِمَا لَيْسَا بِمَقْصُودَيْنِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُمَا الْمَالُ وَأَدَاءُ الْوَلِيِّ فِي ذَلِكَ كَأَدَائِهِ فَيَكُونُ الصَّبِيُّ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِهِمَا وَلِمَا ذَكَرْنَا أَيْ فِي نَفَقَةِ الْأَزْوَاجِ أَنَّ الصَّبِيَّ أَهْلٌ لِوُجُوبِ الْمُؤَنِ وَمَا كَانَ عُقُوبَةً مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَجِبْ عَلَى الصَّبِيِّ كَالْحُدُودِ كَمَا لَا يَجِبُ مَا هُوَ عُقُوبَةٌ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ وَهُوَ الْقِصَاصُ لِعَدَمِ حُكْمِهِ وَهُوَ الْمُؤَاخِذُ بِالْعُقُوبَةِ. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ كَانَ أَهْلًا لِحُكْمِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْمُطَالَبَةُ بِالْأَدَاءِ كَانَ أَهْلًا لِنَفْسِ الْوُجُوبِ كَانَ الْكَافِرُ أَهْلًا لِأَحْكَامٍ لَا يُرَادُ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلَ الْمُعَامَلَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ مِنْ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِأَدَائِهَا إذْ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ مَصَالِحُ الدُّنْيَا وَهُمْ أَلْيَقُ بِأُمُورِ الدُّنْيَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ آثَرُوا الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَكَذَا الْمَقْصُودُ مِنْ الْعُقُوبَاتِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الدُّنْيَا الِانْزِجَارُ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَى أَسْبَابِهَا وَهَذَا الْمَعْنَى مَطْلُوبٌ مِنْ الْكَافِرِ كَمَا هُوَ مَطْلُوبٌ مِنْ الْمُؤْمِنِ بَلْ الْكَافِرُ أَلْيَقُ بِمَا هُوَ عُقُوبَةٌ وَجَزَاءٌ مِنْ الْمُؤْمِنِ فَكَانَ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ لَهُ وَعَلَيْهِ فَيَجِبُ لَهُ الثَّمَنُ وَالْأُجْرَةُ وَالْمَهْرُ إذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ وَالْقِصَاصُ إذَا قَتَلَ وَلِيَّهُ

وَذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الْوَلِيِّ وَلَزِمَهُ مَا كَانَ مُؤْنَةً فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ لِمَا ذَكَرْنَا وَمَا كَانَ عُقُوبَةً لَمْ يَجِبْ أَصْلًا لِعَدَمِ حُكْمِهِ وَلِهَذَا كَانَ الْكَافِرُ أَهْلًا لِأَحْكَامٍ لَا يُرَادُ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِأَدَائِهَا فَكَانَ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِثَوَابِ الْآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِوُجُوبِ شَيْءٍ مِنْ الشَّرَائِعِ الَّتِي هِيَ طَاعَاتُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQكَمَا تَجِبُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِثَوَابِ الْآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِوُجُوبِ شَيْءٍ مِنْ الشَّرَائِعِ. 1 - لَا خِلَافَ أَنَّ الْخِطَابَ بِالشَّرَائِعِ الَّتِي هِيَ لِلطَّاعَاتِ يَتَنَاوَلُ الْكُفَّارَ فِي حُكْمِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ يُؤَاخَذُونَ بِتَرْكِ الِاعْتِقَادِ لِأَنَّ مُوجَبَ الْأَمْرِ اعْتِقَادُ اللُّزُومِ وَالْأَدَاءِ وَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ اللُّزُومَ اعْتِقَادًا وَذَلِكَ كُفْرٌ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ إنْكَارِ التَّوْحِيدِ فَإِنَّ التَّصْدِيقَ وَالْإِقْرَارَ بِالتَّوْحِيدِ لَا يَكُونُ مَعَ إنْكَارِ شَيْءٍ مِنْ الشَّرَائِعِ فَيُعَاقَبُ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ كَمَا يُعَاقَبُ عَلَى أَصْلِ الْكُفْرِ فَأَمَّا فِي وُجُوبِ الْأَدَاءِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَمَذْهَبُ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْخِطَابَ يَتَنَاوَلُ وَأَنَّ الْأَدَاءَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَعَامَّةِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِ دِيَارِنَا أَنَّهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ بِأَدَاءِ مَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَإِلَيْهِ مَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ وَالشَّيْخَانِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ لَا تَظْهَرُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ لَوْ أَدَّوْهَا فِي حَالِ الْكُفْرِ لَا تَكُونُ مُعْتَبَرَةً بِالِاتِّفَاقِ وَلَوْ أَسْلَمُوا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ قَضَاءُ الْعِبَادَاتِ الْفَائِتَةِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ فَإِنَّ عِنْدَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ يُعَاقَبُ الْكُفَّارُ بِتَرْكِ الْعِبَادَاتِ زِيَادَةً عَلَى عُقُوبَةِ الْكُفْرِ كَمَا يُعَاقَبُونَ بِتَرْكِ الِاعْتِقَادِ وَعِنْدَ الْفَرِيقِ الثَّانِي لَا يُعَاقَبُونَ بِتَرْكِ الْعِبَادَاتِ. كَذَا فِي الْمِيزَانِ تَمَسَّكَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى إخْبَارًا عَنْ مَسْأَلَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إيَّاهُمْ {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42] {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 43] الْآيَاتِ فَظَاهِرُ هَذَا النَّصِّ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يُعَاقَبُونَ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ الْأَدَاءِ فِي الدُّنْيَا فَدَلَّ أَنَّ الْأَدَاءَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ فِيهَا وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت: 6] {الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 7] أَخْبَرَ بِالْوَيْلِ لَهُمْ بِعَدَمِ إيتَاءِ الزَّكَاةِ فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَيْهِمْ وَبِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ مُتَقَرِّرٌ وَصَلَاحِيَّةُ الذِّمَّةِ لِلْوُجُوبِ مَوْجُودَةٌ وَشَرْطُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْهُ غَيْرُ مَعْدُومٍ فِي حَقِّهِمْ لِتَمَكُّنِهِمْ مِنْ الْأَدَاءِ بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الْإِيمَانِ كَالْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ يُخَاطَبَانِ بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ لِتَمَكُّنِهِمَا مِنْ أَدَائِهَا بِتَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ عَلَيْهِ فَلَوْ سَقَطَ الْخِطَابُ بِالْأَدَاءِ بَعْدُ كَانَ ذَلِكَ تَخْفِيفًا بِسَبَبِ الْكُفْرِ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّ زَوَالَ التَّمَكُّنِ بِسَبَبِ السُّكْرِ وَبِسَبَبِ الْجَهْلِ إذَا كَانَ عَنْ تَقْصِيرٍ مِنْهُ لَا يُسْقِطُ الْخِطَابَ بِالْأَدَاءِ فَبِسَبَبِ الْكُفْرِ الَّذِي هُوَ رَأْسُ الْجِنَايَاتِ أَوْلَى وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْكَافِرَ إذَا أَسْلَمَ سَقَطَتْ الْوَاجِبَاتُ عَنْهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ بِعَفْوِ صَاحِبِ الْحَقِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] . وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» لَا أَنَّهَا لَمْ تَجِبْ فَإِذَا مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ لَمْ يُوجَدْ الْمُسْقِطُ فَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهَا فِي الْآخِرَةِ وَلَيْسَ حُكْمُ الْوُجُوبِ وَفَائِدَتُهُ الْأَدَاءَ لَا غَيْرُ فَإِنَّ الْإِيمَانَ وَاجِبٌ عَلَى كَافِرٍ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ أَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ، وَكَذَا الصَّلَاةُ وَاجِبَةٌ عَلَى مُسْلِمٍ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ وَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُمَا الْأَدَاءُ لِأَنَّ خِلَافَ مَعْلُومِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ وَلَكِنَّهُمَا وَجَبَا لِفَائِدَةِ تَوَجُّهِ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ فَكَذَا هَاهُنَا وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ اُدْعُهُمْ إلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوك فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ» الْحَدِيثَ فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ

وَكَانَ الْخِطَابُ بِهَا مَوْضُوعًا عَنْهُ عِنْدَنَا وَلَزِمَهُ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَمَّا كَانَ أَهْلًا لِأَدَائِهِ وَوُجُوبُ حُكْمِهِ وَلَمْ يُجْعَلْ مُخَاطَبًا بِالشَّرَائِعِ بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ رَأْسُ أَسْبَابِ أَهْلِيَّةِ أَحْكَامِ نَعِيمِ الْآخِرَةِ فَلَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُجْعَلَ شَرْطًا مُقْتَضِيًا ـــــــــــــــــــــــــــــQأَدَاءِ الشَّرْعِ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِجَابَةِ إلَى مَا دُعُوا إلَيْهِ مِنْ أَصْلِ الدِّينِ وَمَا أُشِيرَ إلَيْهِ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ أَنَّ حُكْمَ الْوُجُوبِ الْأَدَاءُ وَفَائِدَةُ الْأَدَاءِ نَيْلُ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ حُكْمًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَالْكَافِرُ مَعَ صِفَةِ الْكُفْرِ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلثَّوَابِ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى كُفْرِهِ حُكْمًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى كَالْعَبْدِ لَا يَكُونُ أَهْلًا لِمِلْكِ الْمَالِ وَالْمَرْأَةِ لَا تَكُونُ أَهْلًا لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ لَهَا عَلَى الرَّجُلِ بِسَبَبِ النِّكَاحِ وَلَا بِسَبَبِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ حُكْمًا مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِذَا انْتَفَتْ أَهْلِيَّةُ مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ بِالْأَدَاءِ انْتَفَتْ أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ بِدُونِ أَهْلِيَّتِهِ لَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ وَهَذَا بِخِلَافِ وُجُوبِ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ أَهْلٌ لِأَدَائِهِ حَيْثُ يَصِيرُ بِهِ أَهْلًا لِمَا وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ فَكَانَ أَهْلًا لِوُجُوبِهِ. وَذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ أَنَّ إيجَابَ الشَّرَائِعِ عَلَى الْكَافِرِ تَكْلِيفٌ بِمَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ لِأَنَّهَا إمَّا أَنْ يَجِبَ لِتُؤَدَّى فِي حَالَةِ الْكُفْرِ أَوْ لِتُؤَدَّى بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَا وَجْهَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْكُفْرَ مَانِعٌ مِنْ صِحَّةِ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ وَلَا إلَى الثَّانِي لِأَنَّ قَضَاءَهَا لَا يَجِبُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَتَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ غَيْرُ جَائِزٍ سَمْعًا وَعَقْلًا. وَقَوْلُهُ: وَلَمْ يُجْعَلْ مُخَاطَبًا بِالشَّرَائِعِ إلَى آخِرِهِ جَوَابٌ عَمَّا قَالُوا إنَّ الْكَافِرَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلْخِطَابِ بِالشَّرَائِعِ مَعَ صِفَةِ الْكُفْرِ وَلَكِنَّهُ أَهْلٌ لَهُ بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الْإِيمَانِ فَجَعَلَ الْإِيمَانَ ثَابِتًا اقْتِضَاءً تَصْحِيحًا لِتَكْلِيفِهِ بِالشَّرَائِعِ كَمَا قُلْنَا فِي الْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ فَصَارَ كَأَنَّهُ أُمِرَ بِالْإِيمَانِ أَوَّلًا ثُمَّ بِأَدَاءِ الشَّرَائِعِ ثَانِيًا فَقَالَ إنَّمَا يَثْبُتُ الشَّيْءُ اقْتِضَاءً إذَا كَانَ صَالِحًا لِلتَّبَعِيَّةِ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالِاقْتِضَاءِ تَابِعٌ لِلْمُقْتَضِي لِأَنَّهُ ثَبَتَ لِتَصْحِيحِهِ وَلَيْسَ الْإِيمَانُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ رَأْسُ أَهْلِيَّةِ نَعِيمِ الْآخِرَةِ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَثْبُتَ شَرْطًا لِوُجُوبِ الشَّرَائِعِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ كَمَا لَوْ قَالَ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ أَعْتِقْ عَنْ نَفْسِك عَبْدًا أَوْ قَالَ لَهُ تَزَوَّجْ أَرْبَعًا مِنْ النِّسَاءِ لَا يَصِحُّ الْأَمْرُ بِالْإِعْتَاقِ وَبِتَزَوُّجِ الْأَرْبَعَ وَلَا تَثْبُتُ حُرِّيَّتُهُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ تَصْحِيحًا لِلْأَمْرِ لِأَنَّ حُرِّيَّةَ أَصْلِ الْأَهْلِيَّةِ الْإِعْتَاقُ وَتَزَوَّجُ الْأَرْبَعِ وَهُمَا تَبَعٌ لَهَا فَلَا يَثْبُتُ مُقْتَضًى لِمَا هُوَ تَبَعٌ لَهَا فَكَذَلِكَ هَا هُنَا وَلِأَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يَثْبُتُ مُقْتَضًى لِشَيْءٍ إذَا تَقَرَّرَ الْمُقْتَضِي كَالْبَيْعِ يَثْبُتُ مُقْتَضَى الْأَمْرِ بِالْإِعْتَاقِ لِتَقَرُّرِ صِحَّةِ الْإِعْتَاقِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْبَيْعِ، وَبَعْدَ تَحَقُّقِ الْإِيمَانِ هَاهُنَا لَا يَبْقَى وُجُوبُ الْأَدَاءِ فِي شَيْءٍ مِمَّا سَبَقَ فِي حَالَةِ الْكُفْرِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ مُقْتَضًى بِهِ. وَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ سُقُوطَ الْخِطَابِ بِالْأَدَاءِ عَنْ الْكُفَّارِ لَيْسَ لِلتَّخْفِيفِ عَلَيْهِمْ كَمَا ظَنُّوا بَلْ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَالنِّعْمَةِ فِي حَقِّهِمْ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ أَهْلِيَّةِ ثَوَابِ الْعِبَادِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ لِأَدَاءِ الْعِبَادَةِ لِلْمُؤَدِّي الْمَأْمُورِ لَا لِلْآمِرِ فَالْكَافِرُ لَمْ يَسْتَحِقَّ هَذَا النَّظَرَ وَالْمَنْفَعَةَ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى كُفْرِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ فِيهِ مَعْنَى التَّخْفِيفِ وَكَذَا الْإِيجَابُ بِالْأَمْرِ نَظَرٌ مِنْ الشَّرْعِ لِلْمَأْمُورِ فَعَسَى أَنْ يُقَصِّرَ فِيمَا لَا يَكُونُ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَلَا تَقْصِيرَ فِي أَدَاءِ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَالْكَافِرُ غَيْرُ مُسْتَحِقٌّ لِهَذَا النَّظَرِ فَكَانَ عَدَمُ تَنَاوُلِ الْخِطَابِ إيَّاهُمْ تَغْلِيظًا عَلَيْهِمْ وَإِلْحَاقًا لَهُمْ بِالْبَهَائِمِ لَا تَخْفِيفًا وَلِأَنَّ الْخِطَابَ بِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ لِيَسْعَى الْمَرْءُ بِأَدَائِهَا فِي فِكَاكِ نَفْسِهِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «النَّاسُ غَادِيَانِ بَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُوبِقُهَا وَمُشْتَرٍ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا» يَعْنِي بِالِائْتِمَارِ بِالْأَوَامِرِ وَالْقَوْلِ بِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلسَّعْيِ فِي فِكَاكِ رَقَبَتِهِ مَا لَمْ يُؤْمِنْ لَا يَكُونُ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ وَهُوَ نَظِيرُ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ لِتَوَصُّلِ الْمُكَاتَبِ إلَى فِكَاكِ رَقَبَتِهِ لَا يَكُونُ إسْقَاطُ الْمَوْلَى هَذِهِ الْمُطَالَبَةَ عَنْهُ عِنْدَ عَجْزِهِ بِالرَّدِّ فِي الرِّقِّ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ فَإِنَّ مَا يَبْقَى فِيهِ مِنْ ذُلِّ الرِّقِّ فَوْقَ ضَرَرِ

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بِوُجُوبِ كُلِّ الْأَحْكَامِ وَالْعِبَادَاتِ عَلَى الصَّبِيِّ لِقِيَامِ الذِّمَّةِ وَصِحَّةِ الْأَسْبَابِ ثُمَّ السُّقُوطُ بِعُذْرِ الْحَرَجِ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ كُنَّا عَلَيْهِ مُدَّةً لَكِنَّا تَرَكْنَاهُ بِهَذَا الْقَوْلِ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ وَهَذَا أَسْلَمُ الطَّرِيقَيْنِ صُورَةً وَمَعْنًى وَتَقْلِيدًا وَحُجَّةً ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُطَالَبَةِ بِالْأَدَاءِ وَمِثَالُهُ مِنْ الْحِسِّيَّاتِ مُطَالَبَةُ الطَّبِيبِ الْمَرِيضَ بِشُرْبِ الدَّوَاءِ إذَا كَانَ يَرْجُو لَهُ الشِّفَاءَ يَكُونُ نَظَرًا مِنْ الطَّبِيبِ لَهُ وَإِذَا أَيِسَ مِنْ شِفَائِهِ فَتَرْكُ مُطَالَبَتِهِ بِشُرْبِ الدَّوَاءِ لَا يَكُونُ تَخْفِيفًا مِنْهُ عَلَيْهِ بَلْ يَكُونُ إخْبَارًا بِمَا هُوَ أَشَدُّ عَلَيْهِ مِنْ ضَرَرِ شُرْبِ الدَّوَاءِ وَهُوَ مَا يَذُوقُ مِنْ كَأْسِ الْحِمَامِ فَكَذَلِكَ قَوْلُنَا أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُخَاطَبُونَ بِأَدَاءِ الشَّرَائِعِ لَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى التَّخْفِيفِ بَلْ يَكُونُ فِيهِ بَيَانُ عِظَمِ الْوِزْرِ وَالْعُقُوبَةِ فِيمَا أَصَرُّوا عَلَيْهِ مِنْ الشِّرْكِ. وَهُوَ كَسُقُوطِ خِطَابِ الْإِيمَانِ عَنْ الْكُفَّارِ بَعْدَ الْبَعْثِ إذْ لَوْ بَقِيَ لَقُبِلَ مِنْهُمْ إذَا أَجَابُوا فَإِنَّ ذَلِكَ السُّقُوطَ لَا يَكُونُ تَخْفِيفًا بَلْ بِكَوْنِ تَنْكِيلًا وَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِالنُّصُوصِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْمُعْتَقِدُونَ لَهَا أَيْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُعْتَقِدِينَ فَرْضِيَّةَ الصَّلَاةِ وَحَقِّيَّتَهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [التوبة: 5] أَيْ قَبِلُوهَا وَاعْتَقَدُوا حَقِّيَّتَهَا بِدَلِيلِ أَنَّ تَخْلِيَةَ السَّبِيلِ كَانَتْ وَاجِبَةً قَبْلَ الْأَدَاءِ أَوْ الْمُرَادُ لَمْ نَكُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ هِيَ الْعَلَامَةُ اللَّازِمَةُ لِلْإِيمَانِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نُهِيت عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ» أَيْ الْمُؤْمِنِينَ وَكَذَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 7] لَا يُقِرُّونَ بِفَرْضِيَّتِهَا كَمَا قَالَ الزَّجَّاجُ أَوْ لَا يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْإِيمَانِ كَمَا قَالَهُ الْحَسَنُ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ فَائِدَةُ الْوُجُوبِ الْإِثْمُ وَالْعُقُوبَةُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ أَيْضًا لِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَدَاءِ لَا لِلْإِثْمِ فَلَمْ يَجُزْ التَّصْحِيحُ لِمَكَانِ الْإِثْمِ بِالتَّرْكِ كَذَا فِي التَّقْوِيمِ وَأُصُولِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَالْمِيزَانِ. قَوْلُهُ (وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا) أَرَادَ بِهِ الْقَاضِيَ الْإِمَامَ أَبَا زَيْدٍ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقَهُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا بِوُجُوبِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى جَمِيعًا عَلَى الصَّبِيِّ مِنْ حِينِ يُولَدُ كَوُجُوبِهَا عَلَى الْبَالِغِ ثُمَّ بِسُقُوطِهَا عَنْهُ بَعْدَ وُجُوبٍ بِعُذْرِ الصِّبَا لِدَفْعِ الْحَرَجِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مَبْنِيٌّ عَلَى صِحَّةِ الْأَسْبَابِ وَقِيَامِ الذِّمَّةِ لَا عَلَى الْقُدْرَةِ وَقَدْ تَحَقَّقَا فِي حَقِّ الصَّبِيِّ لِتَحَقُّقِهَا فِي حَقِّ الْبَالِغِ لِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْبَالِغَ فِي حَقِّ الذِّمَّةِ وَالسَّبَبِ سَوَاءٌ وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ فِي وُجُوبِ الْأَدَاءِ فَيَثْبُتُ الْوُجُودُ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ وَالْمَحَلِّ وَهَذَا لِأَنَّ الْحُقُوقَ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي تَلْزَمُ الْآدَمِيَّ بَعْدَ الْبُلُوغِ تَجِبُ جَبْرًا بِلَا اخْتِيَارٍ مِنْهُ شَاءَ أَوْ أَبَى وَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ بِاخْتِيَارٍ لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى قُدْرَةِ الْفِعْلِ وَلَا قُدْرَةِ التَّمْيِيزِ. وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْقُدْرَةُ وَالتَّمْيِيزُ فِي وُجُوبِ الْأَدَاءِ وَذَلِكَ حُكْمٌ وَرَاءَ أَصْلِ الْوُجُوبِ. أَلَا تَرَى أَنَّ النَّائِمَ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ أَوْ الْمَجْنُونَ تَلْزَمُهُمْ الصَّلَاةُ عَلَى أَصْلِنَا بِوُجُودِ السَّبَبِ وَالذِّمَّةِ مَعَ عَدَمِ التَّمَيُّزِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْأَدَاءِ فِي الْحَالِ فَكَذَا الصَّبِيُّ إلَّا أَنَّهَا تَسْقُطُ بِعُذْرِ الصِّبَا بَعْدَ الْوُجُوبِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ وَلَا يُقَالُ الْوُجُوبُ يُثْبِتُ الْأَدَاءَ لَا لِنَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ الْإِيجَابُ عَلَى مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ لِأَنَّا نَقُولُ الْوُجُوبُ الْأَدَاءُ لَا حَالَ الْوُجُوبَ بَلْ يَجُوزُ بَعْدَهُ بِزَمَانٍ إمَّا أَدَاءً أَوْ قَضَاءً فَصَحَّ الْإِيجَابُ عَلَى مَنْ يُرْجَى لَهُ قُدْرَةُ الْأَدَاءِ أَوْ الْقَضَاءِ فِي الْجُمْلَةِ وَالصَّبِيُّ مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ كَالنَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ عَلَى أَنَّ الْأَدَاءَ ثَمَرَةُ الْوُجُوبِ فَلَا يَمْتَنِعُ الْوُجُوبُ بِعَدَمِ ثَمَرَتِهِ كَمَا لَوْ بَاعَ مِنْ مُفْلِسٍ يَجِبُ الثَّمَنُ وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ أَدَائِهِ. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ كُنَّا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ زَمَانًا وَلَكِنَّا تَرَكْنَاهُ بِهَذَا الْقَوْلِ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ نَظَرًا إلَى السَّبَبِ وَالذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مَا هُوَ

وَلِذَلِكَ قُلْنَا فِي الصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ فِي بَعْضِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَنَّهُ لَا يَقْضِي مَا مَضَى. وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي الْحَائِضِ إنَّ الصَّوْمَ يَلْزَمُهَا لِاحْتِمَالِ الْأَدَاءِ ثُمَّ النَّقْلُ إلَى الْبَدَلِ وَهُوَ الْقَضَاءُ لِأَنَّ الْحَرَجَ لَمَّا عُدِمَ فِي ذَلِكَ بَقِيَ الْحُكْمُ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَقَدْ بَطَلَ الْأَدَاءُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ فَبَطَلَ الْوُجُوبُ لِعَدَمِ حُكْمِهِ مَعَ قِيَامِ مَحَلِّ الْوُجُوبِ وَقِيَامِ سَبَبِهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا فِي الْجُنُونِ إذَا امْتَدَّ فَصَارَ لُزُومُ الْأَدَاءِ يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِالْأَدَاءِ وَبَطَلَ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ لِعَدَمِ الْحُكْمِ أَيْضًا، هَذَا فِي الصَّلَوَاتِ وَالصِّيَامِ مَعًا ـــــــــــــــــــــــــــــQحُكْمُ الْوُجُوبِ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْغُلُوِّ وَإِخْلَاءٌ لِإِيجَابِ الشَّرْعِ عَنْ الْفَائِدَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْحُكْمِ فِي الدُّنْيَا تَحْقِيقُ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ وَفِي الْآخِرَةِ الْجَزَاءُ وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْحُكْمِ وَهُوَ الْأَدَاءُ فِيهِ يَظْهَرُ الْمُطِيعُ مِنْ الْعَاصِي فَيَتَحَقَّقُ الِابْتِلَاءُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [هود: 7] وَكَذَا الْمُجَازَاةُ فِي الْآخِرَةِ تُبْتَنَى عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] فَثَبَتَ أَنَّ الْوُجُوبَ بِدُونِ حِكْمَةٍ غَيْرُ مُفِيدٍ فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِثُبُوتِهِ شَرْعًا وَهَذَا أَيْ الْقَوْلُ الْمُخْتَارُ أَسْلَمُ الطَّرِيقَيْنِ عَنْ الْفَسَادِ صُورَةً لِأَنَّ الصَّبِيَّ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْإِجْمَاعِ فَالْقَوْلُ بِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ ثُمَّ بِسُقُوطِهَا عَنْهُ لَا يَخْلُو عَنْ فَسَادِ صُورَةٍ فَكَانَ الْقَوْلُ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ أَصْلًا أَسْلَمَ عَنْ الْفَسَادِ وَمَعْنًى لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوُجُوبَ مِنْ غَيْرِ أَدَاءً وَقَضَاءٍ خَالٍ عَنْ الْفَائِدَةِ فَكَانَ فَاسِدًا مَعْنًى وَالْقَوْلُ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ سَالِمٌ عَنْ هَذَا الْفَسَادِ الْمَعْنَوِيِّ وَتَقْلِيدًا أَيْ لِلسَّلَفِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا بِالْوُجُوبِ عَلَى الصَّبِيِّ أَصْلًا وَحُجَّةً أَيْ اسْتِدْلَالًا فَإِنَّ الْوُجُوبَ لَوْ كَانَ ثَابِتًا عَلَيْهِ ثُمَّ سَقَطَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنَّهُ إذَا أَدَّى كَانَ مُؤَدِّيًا لِلْوَاجِبِ كَالْمُسَافِرِ إذَا صَامَ فِي رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ وَحَيْثُ لَمْ يَقَعْ الْمُؤَدَّى عَنْ الْوَاجِبِ بِالِاتِّفَاقِ دَلَّ عَلَى انْتِفَاءِ الْوُجُوبِ أَصْلًا وَكَذَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ» يَدُلُّ بِظَاهِرِهِ عَلَى انْتِفَاءِ الْوُجُوبِ أَصْلًا فَكَانَ الْقَوْلُ بِهِ قَوْلُهُ (وَلِذَلِكَ) أَيْ وَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوُجُوبَ لَازِمٌ مَتَى صَحَّ الْقَوْلُ بِحُكْمِهِ وَمَتَى بَطَلَ الْقَوْلُ بِحُكْمِهِ بَطَلَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهِ. قُلْنَا فِي الصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ فِي بَعْضِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَنَّهُ لَا يَقْضِي مَا مَضَى لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِيمَا مَضَى لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي حَقِّهِ لِعَدَمِ حُكْمِهِ وَهُوَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ فِي الْحَالِ أَوْ فِي الثَّانِي لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْحَرَجِ فَلَمْ يَثْبُتْ الْوُجُوبُ أَصْلًا حَتَّى لَوْ أَدَّى فِي الْحَالِ وَبَعْدَ الْبُلُوغِ كَانَ مُنْتَقِلًا ابْتِدَاءً لَا مُؤَدِّيًا لِلْوَاجِبِ وَبِقَوْلِهِ فِيمَا مَضَى أَشَارَ إلَى أَنَّهُ يُؤَدِّي مَا بَقِيَ مِنْ الشَّهْرِ لِأَنَّهُ صَارَ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ بِالْبُلُوغِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ حَيْثُ يَقْضِي مَا مَضَى لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُتَقَرِّرٌ فِي حَقِّهِ لِاحْتِمَالِ الْأَدَاءِ بِانْقِطَاعِ الْجُنُونِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَعَدَمِ الْحَرَجِ فِي النَّقْلِ إلَى الْخَلَفِ وَهُوَ الْقَضَاءُ فَأَمَّا الصِّغَرُ فَعُذْرٌ دَائِمٌ لَا يَحْتَمِلُ الِانْقِطَاعَ إلَى أَنْ يَبْلُغَ فَكَانَ احْتِمَالُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ مُنْقَطِعًا فَلَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَمَا بَنَيْنَا حُكْمَ الصَّبِيِّ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ بَنَيْنَا حُكْمَ الْحَائِضِ عَلَيْهِ أَيْضًا فَقُلْنَا إنَّ الصَّوْمَ يَلْزَمُهَا لِاحْتِمَالِ الْأَدَاءِ إذَا النَّجَاسَةُ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ أَدَاءِ الصَّوْمِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا لِأَنَّ قَهْرَ النَّفْسِ يَحْصُلُ مَعَ هَذِهِ الصِّفَةِ وَيَصِحُّ الْأَدَاءُ مَعَ الْجَنَابَةِ وَالْحَدَثِ بِالِاتِّفَاقِ فَيَثْبُتُ الْوُجُوبُ وَلَكِنْ الشَّرْعُ لَمَّا مَنَعَهَا مِنْ الْأَدَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ انْتَقَلَ الْحُكْمُ إلَى الْقَضَاءِ لِانْتِفَاءِ الْحَرَجِ كَمَا فِي الْحَلِفِ عَلَى مَسِّ السَّمَاءِ وَالْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ انْتَقَلَ الْحُكْمُ إلَى الْكَفَّارَةِ وَالتُّرَابِ لِلْعَجْزِ الْحَالِي عَلَى مَا مَرَّ وَكَذَلِكَ أَيْ مِثْلُ قَوْلِنَا فِي الصَّبِيِّ وَالْحَائِضِ قَوْلُنَا فِي الْمَجْنُونِ يَعْنِي كَمَا بَنَيْنَا حُكْمَهَا عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ بَنَيْنَا حُكْمَ الْمَجْنُونِ عَلَيْهِ أَيْضًا فَقُلْنَا إذَا امْتَدَّ الْجُنُونُ حَتَّى صَارَ لُزُومُ الْأَدَاءِ يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ بِأَنْ اسْتَغْرَقَ الشَّهْرَ فِي الصَّوْمِ أَوْ زَادَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَثْبُتْ الْوُجُوبُ مِنْ الْأَصْلِ لِعَدَمِ حُكْمِهِ وَهُوَ الْأَدَاءُ فِي الْحَالِ وَالْقَضَاءُ فِي ثَانِي الْحَالِ بِسَبَبِ الْحَرَجِ الَّذِي يَلْحَقُهُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ مَعْنَى

وَإِذَا لَمْ يَمْتَدَّ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لَزِمَهُ أَصْلُهُ لِاحْتِمَالِ حُكْمِهِ وَإِذَا عَقَلَ الصَّبِيُّ وَاحْتَمَلَ الْأَدَاءَ قُلْنَا بِوُجُوبِ أَصْلِ الْإِيمَانِ دُونَ أَدَائِهِ حَتَّى صَحَّ الْأَدَاءُ وَذَلِكَ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْوُجُوبَ جَبْرٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِأَسْبَابٍ وُضِعَتْ لِلْأَحْكَامِ إذَا لَمْ يَخْلُ الْوُجُوبُ عَنْ حُكْمِهِ وَلَيْسَ فِي الْوُجُوبِ تَكْلِيفٌ وَخِطَابٌ وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْأَدَاءِ وَلَا خِطَابَ وَلَا تَكْلِيفَ عَلَى الصَّبِيِّ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ حَتَّى يَبْلُغَ فَثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالْإِيمَانِ لَكِنْ صِحَّةُ الْأَدَاءِ يَبْتَنِي عَلَى كَوْنِ الشَّيْءِ مَشْرُوعًا وَعَلَى قُدْرَةِ الْأَدَاءِ لَا عَلَى الْخِطَابِ وَالتَّكْلِيفِ كَالْمُسَافِرِ يُؤَدِّي الْجُمُعَةَ مِنْ غَيْرِ خِطَابٍ وَلَا تَكْلِيفٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلِهِ هَذَا أَيْ سُقُوطُ الْوُجُوبِ عِنْدَ الِامْتِدَادِ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ مَعًا وَإِذَا لَمْ يَمْتَدَّ بِأَنْ لَمْ يَسْتَغْرِقْ الشَّهْرَ فِي الصَّوْمِ لَزِمَهُ أَصْلُهُ أَيْ أَصْلُ الصَّوْمِ يَعْنِي ثَبَتَ فِي حَقِّهِ نَفْسُ الْوُجُوبِ لِاحْتِمَالِ حُكْمِهِ وَهُوَ الْقَضَاءُ لِانْتِفَاءِ الْحَرَجِ عَنْهُ فِيهِ وَكَذَا الْحُكْمُ فِي الصَّلَاةِ إذَا لَمْ يَمْتَدَّ الْجُنُونُ إلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِانْتِفَاءِ الْحَرَجِ عَنْهُ فِي إيجَابِ قَضَائِهَا وَلَكِنَّهُ خَصَّ الصَّوْمَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ وَضَعَ مَسْأَلَةَ بُلُوغِ الصَّبِيِّ فِي الصَّوْمِ فَذَكَرَ فِي مُقَابَلَتِهَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ. قَوْلُهُ (وَإِذَا عَقَلَ الصَّبِيُّ وَاحْتَمَلَ الْأَدَاءَ) أَيْ أَدَاءَ الْإِيمَانِ قُلْنَا بِوُجُوبِ أَصْلِ الْإِيمَانِ أَيْ بِثُبُوتِ نَفْسِ وُجُوبِهِ عَلَيْهِ دُونَ وُجُوبِ أَدَائِهِ حَتَّى صَحَّ الْأَدَاءُ يَعْنِي عَنْ الْفَرْضِ لِمَا نُبَيِّنُ. وَذَلِكَ أَيْ ثُبُوتُ نَفْسِ وُجُوبِهِ عَلَيْهِ إذَا عَقَلَ لِمَا عُرِفَ فِي بَابِ بَيَانِ أَسْبَابِ الشَّرَائِعِ وَغَيْرِهِ أَنَّ نَفْسَ الْوُجُوبِ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْجَبْرِ بِأَسْبَابٍ وُضِعَتْ لِلْأَحْكَامِ إذَا لَمْ يَخْلُ الْوُجُوبُ عَنْ حُكْمِهِ وَهُوَ الْأَدَاءُ وَالْقَضَاءُ أَوْ عَنْ حِكْمَةٍ أَيْ فَائِدَةٍ يَعْنِي أَصْلَ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ لَا يَثْبُتُ بِالْأَمْرِ لِيَتَعَلَّقَ صِحَّتُهُ بِكَوْنِ الْمَأْمُورِ مِنْ أَهْلِ الْفَهْمِ بَلْ الْوُجُوبُ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَسْبَابِ وَالْأَمْرُ بَعْدَ ذَلِكَ لِإِلْزَامِ أَدَاءِ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ بِسَبَبِهِ وَوُجُوبُ الْإِيمَانِ مُتَعَلِّقٌ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ وَأَنَّهُ مُتَقَرِّرٌ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ وَذِمَّتُهُ قَابِلَةٌ لِلْوُجُوبِ لِأَنَّ الصِّبَا لَمْ يَكُنْ مُنَافِيًا لِلْوُجُوبِ بِنَفْسِهِ فَثَبَتَ الْوُجُوبُ إذَا تَضَمَّنَ فَائِدَةً لَكِنَّ الْأَدَاءَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَإِنْ عَقَلَ لِأَنَّهُ مِمَّا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِعُذْرِ النَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ، وَكَذَا إذَا وَصَفَ مَرَّةً لَا يَلْزَمُهُ ثَانِيًا فَيَسْقُطُ بِعُذْرِ الصِّبَا أَيْضًا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَلَا تَكْلِيفَ وَلَا خِطَابَ عَلَى الصَّبِيِّ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ وَإِذَا كَانَ الْوُجُوبُ حَاصِلًا وَأَدَّاهُ بِشَرْطٍ وَهُوَ الشَّهَادَةُ عَنْ مَعْرِفَةٍ صَحَّ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ الْأَدَاءُ بَعْدُ كَمَا صَحَّ مِنْهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ وَإِذَا صَحَّ كَانَ فَرْضًا لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مُتَنَوِّعٍ بَيْنَ نَفْلٍ وَفَرْضٍ وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ تَجْدِيدُ الْإِقْرَارِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَلَا كَذَلِكَ الصَّلَاةُ لِأَنَّهَا مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ فَرْضٍ وَنَفْلٍ فَيَقَعُ نَفْلًا وَلِأَنَّ نَفْسَ وُجُوبِ الْإِيمَانِ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِ لِمَا قُلْنَا أَلَا يَرَى أَنَّ امْرَأَتَهُ لَوْ أَسْلَمَتْ أَوْ أَبَى هُوَ الْإِسْلَامَ بَعْدَمَا عَرَضَ عَلَيْهِ الْقَاضِي يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا إذَا امْتَنَعَ عَنْهُ فَثَبَتَ أَنَّ نَفْسَ الْوُجُوبِ ثَبَتَ فِي حَقِّهِ وَوُجُوبُ الْإِيمَانِ بَعْدَمَا ثَبَتَ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِعُذْرٍ فَلَا يَسْقُطُ بِالصِّبَا أَيْضًا فَيَقَعُ أَدَاؤُهُ فَرْضًا لَا مَحَالَةَ وَالصَّلَاةُ تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِأَعْذَارٍ كَثِيرَةٍ فَتَسْقُطُ بِالصِّبَا أَيْضًا وَلَمَّا سَقَطَ أَصْلُ الْوُجُوبِ اسْتَقَامَ إثْبَاتُهَا نَفْلًا وَخَرَجَ السَّبَبُ عَنْ السَّبَبِيَّةِ. وَهَذَا هُوَ مُخْتَارُ الشَّيْخِ وَأُسْتَاذِ الْإِمَامِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ وَالْقَاضِي الْإِمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجَمَاعَةٍ سِوَاهُمْ وَقَالَ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ الْوُجُوبَ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ وَإِنْ عَقَلَ مَا لَمْ يَعْتَدِلْ حَالُهُ بِالْبُلُوغِ فَإِنَّ الْأَدَاءَ مِنْهُ يُصَحَّحُ بِاعْتِبَارِ عَقْلِهِ وَصِحَّةُ الْأَدَاءِ تَسْتَدْعِي كَوْنَ الْحُكْمِ مَشْرُوعًا وَلَا يَسْتَدْعِي كَوْنَهُ وَاجِبَ الْأَدَاءِ فَعَرَفْنَا أَنَّ حُكْمَ الْوُجُوبِ وَهُوَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ مَعْدُومٌ فِي حَقِّهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوُجُوبَ لَا يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ وَالْمَحَلِّ بِدُونِ حُكْمِ الْوُجُوبِ إلَّا أَنَّهُ إذَا أَدَّى يَكُونُ الْمُؤَدَّى فَرْضًا لِأَنَّ بِوُجُوبِ الْأَدَاءِ صَارَ مَا هُوَ حُكْمُ الْوُجُوبِ مَوْجُودًا مُقْتَضَى الْأَدَاءِ وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ الْوُجُوبُ ثَابِتًا لِانْعِدَامِ الْحُكْمِ فَإِذَا صَارَ مَوْجُودًا بِمُقْتَضَى الْأَدَاءِ كَانَ الْمُؤَدَّى فَرْضًا بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ فَإِنَّ وُجُوبَ الْجُمُعَةِ فِي حَقِّهِ غَيْرُ ثَابِتٍ حَتَّى

[باب أهلية الأداء]

وَالْإِغْمَاء لَمَّا لَمْ يُنَافِ حُكْمَ وُجُوبِ الصَّوْمِ لَمْ يُنَافِ وُجُوبَهُ وَكَانَ مُنَافِيًا لِحُكْمِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ إذَا امْتَدَّ فَكَانَ مُنَافِيًا لِوُجُوبِهِ وَالنَّوْمُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُنَافِيًا حُكْمَ وُجُوبٍ إذَا انْتَبَهَ لَمْ يَكُنْ مُنَافِيًا لِلْوُجُوبِ أَيْضًا. (بَابُ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ) وَأَمَّا أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ فَنَوْعَانِ قَاصِرٌ وَكَامِلٌ أَمَّا الْقَاصِرُ فَيَثْبُتُ بِقُدْرَةِ الْبَدَنِ إذَا كَانَتْ قَاصِرَةً قَبْلَ الْبُلُوغِ وَكَذَلِكَ بَعْدَ الْبُلُوغِ فِيمَنْ كَانَ مَعْتُوهًا لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ عَاقِلٌ لَمْ يَعْتَدِلْ عَقْلُهُ وَأَصْلُ الْعَقْلِ يُعْرَفُ بِدَلَالَةِ الْعِيَانِ، وَذَلِكَ أَنْ يَخْتَارَ الْمَرْءُ مَا يَصْلُحُ لَهُ بِدَرْكِ الْعَوَاقِبِ الْمَشْهُورَةِ فِيمَا يَأْتِيهِ وَيَذَرُهُ، وَكَذَلِكَ الْقُصُورُ يُعْرَفُ بِالِامْتِحَانِ فَأَمَّا الِاعْتِدَالُ قَاصِرٌ يَتَفَاوَتُ فِيهِ الْبَشَرُ فَإِذَا تَرَقَّى عَنْ رُتْبَةِ الْقُصُورِ أُقِيمَ الْبُلُوغُ مَقَامَ الِاعْتِدَالِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQلَوْ أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى أَوْ حَضَرَ الْجَامِعَ مَعَ الْمَوْلَى كَانَ لَهُ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ وَلَكِنْ إذَا أَدَّى فَرْضًا مَا هُوَ حُكْمُ الْوُجُوبِ صَارَ مَوْجُودًا بِمُقْتَضَى الْأَدَاءِ وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ الْوُجُوبُ ثَابِتًا لِعَدَمِ حُكْمِهِ وَكَذَا الْمُسَافِرُ إذَا أَدَّى الْجُمُعَةَ كَانَ مُؤَدِّيًا لِلْفَرْضِ مَعَ أَنَّ وُجُوبَ الْجُمُعَةِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي حَقِّهِ قَبْلَ الْأَدَاءِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي ذَكَرْنَا. قَوْلُهُ (وَالْإِغْمَاءُ) لَمَّا لَمْ يُنَافِ حُكْمَ وُجُوبِ الصَّوْمِ وَهُوَ الْأَدَاءُ فِي الْحَالِ أَوْ الْقَضَاءُ فِي غَيْرِ حَرَجٍ فِي الثَّانِي وَلَا اعْتِبَارَ لِامْتِدَادِهِ فِي الصَّوْمِ لِنُدْرَتِهِ لَمْ يُنَافِ نَفْسَ وُجُوبِ الصَّوْمِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ غَيْرُ مُنَافٍ لِلْأَدَاءِ لَا أَنَّهُ إذَا جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ بَعْدَمَا نَوَى الصَّوْمَ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يُنَافِي الْإِمْسَاكَ صَحَّ صَوْمُهُ وَكَانَ مُؤَدِّيًا لِلْفَرْضِ فَعُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُنَافٍ لِأَدَائِهِ وَكَانَ مُنَافِيًا لِحُكْمِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ إذَا امْتَدَّ بِأَنْ زَادَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ تَعَذَّرَ الْأَدَاءُ فِي الْحَالِ وَتَغَيَّرَ الْقَضَاءُ فِي الثَّانِي لِاسْتِلْزَامِهِ الْحَرَجَ فَكَانَ مُنَافِيًا لِوُجُوبِهِ أَيْ وُجُوبِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ الصَّلَاةُ أَوْ وُجُوبِ هَذَا الْوَاجِبِ وَالنَّوْمُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُنَافِيًا لِحُكْمِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْقَضَاءُ بَعْدَ الِانْتِبَاهِ بِلَا حَرَجٍ فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ لِنُدْرَةِ امْتِدَادِهِ فِيهِمَا لَمْ يَكُنْ مُنَافِيًا لِلْوُجُوبِ أَيْضًا فَثَبَتَ أَنَّ الْحُقُوقَ كُلَّهَا تَخْرُجُ مُسْتَقِيمَةً عَلَى الطَّرِيقِ الْمُخْتَارِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ] قَوْلُهُ وَأَمَّا أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ أَمَّا أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ فَإِنَّهُ قَسَمَ الْأَهْلِيَّةَ هُنَاكَ إلَى نَوْعَيْنِ ثُمَّ فَصَّلَ كُلَّ نَوْعٍ فَقَالَ أَمَّا أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ فَكَذَا وَأَمَّا أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ فَكَذَا، فَكَلِمَةُ أَمَّا هَذِهِ لِلتَّفْصِيلِ قَاصِرٌ كَامِلٌ أَيْ نَوْعٌ قَاصِرٌ وَنَوْعٌ كَامِلٌ أَمَّا الْقَاصِرُ أَيْ النَّوْعُ الْقَاصِرُ فَيَثْبُتُ بِكَذَا لَا خِلَافَ أَنَّ الْأَدَاءَ يَتَعَلَّقُ بِقُدْرَتَيْنِ قُدْرَةِ فَهْمِ الْخِطَابِ وَذَلِكَ بِالْعَقْلِ وَقُدْرَةِ الْعَمَلِ بِهِ وَهِيَ بِالْبَدَنِ، وَالْإِنْسَانُ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِهِ عَدِيمُ الْقُدْرَتَيْنِ لَكِنْ فِيهِ اسْتِعْدَادٌ وَصَلَاحِيَّةٌ لَأَنْ يُوجَدَ فِيهِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْقُدْرَتَيْنِ شَيْئًا فَشَيْئًا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى أَنْ يَبْلُغَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا دَرَجَاتِ الْكَمَالِ فَقَبْلَ بُلُوغِ دَرَجَةِ الْكَمَالِ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قَاصِرَةً كَمَا يَكُونُ لِلصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَقَدْ تَكُونُ إحْدَاهُمَا قَاصِرَةً كَمَا فِي الْمَعْتُوهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَإِنَّهُ قَاصِرُ الْعَقْلِ مِثْلُ الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ قَوِيَّ الْبَدَنِ وَلِهَذَا أُلْحِقَ بِالصَّبِيِّ فِي الْأَحْكَامِ فَالْأَهْلِيَّةُ الْكَامِلَةُ عِبَارَةٌ عَنْ بُلُوغِ الْقُدْرَتَيْنِ أُولَى دَرَجَاتِ الْكَمَالِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالِاعْتِدَالِ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ وَالْقَاصِرَةُ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُدْرَتَيْنِ قَبْلَ بُلُوغِهِمَا أَوْ بُلُوغِ أَحَدَيْهِمَا دَرَجَةَ الْكَمَالِ ثُمَّ الشَّرْعُ بَنَى عَلَى الْأَهْلِيَّةِ الْقَاصِرَةِ صِحَّةَ الْأَدَاءِ وَعَلَى الْكَامِلَةِ وُجُوبَ الْأَدَاءِ وَتَوَجُّهَ الْخِطَابِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلْزَامُ الْأَدَاءِ عَلَى الْعَبْدِ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِهِ إذْ لَا قُدْرَةَ لَهُ أَصْلًا وَإِلْزَامُ مَا لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ مُنْتَفٍ شَرْعًا وَعَقْلًا وَبَعْدَ وُجُودِ أَصْلِ الْعَقْلِ، وَأَصْلُ قُدْرَةِ الْبَدَنِ قَبْلَ الْكَمَالِ فِي إلْزَامِ الْأَدَاءِ حَرَجٌ لِأَنَّهُ يُحْرِجُ لِلْفَهْمِ بِأَدْنَى عَقْلِهِ وَيَثْقُلُ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ بِأَدْنَى قُدْرَةِ الْبَدَنِ وَالْحَرَجُ مَنْفِيٌّ أَيْضًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] . فَلَمْ يُخَاطَبْ شَرْعًا لِأَوَّلِ أَمْرِهِ حِكْمَةً وَلِأَوَّلِ مَا يَعْقِلُ وَيَقْدِرُ رَحْمَةً إلَى أَنْ يَعْتَدِلَ عَقْلُهُ وَقُدْرَةُ بَدَنِهِ فَيَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ الْفَهْمُ وَالْعَمَلُ بِهِ، ثُمَّ وَقْتُ الِاعْتِدَالِ يَتَفَاوَتُ فِي جِنْسِ الْبَشَرِ عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ وَلَا يُمْكِنُ إدْرَاكُهُ إلَّا بَعْدَ تَجْرِبَةٍ وَتَكَلُّفٍ عَظِيمٍ فَأَقَامَ الشَّرْعُ الْبُلُوغَ الَّذِي يَعْتَدِلُ لَدَيْهِ الْعُقُولُ فِي الْأَغْلَبِ مَقَامَ

وَالْأَحْكَامُ فِي هَذَا الْبَابِ مُنْقَسِمَةٌ عَلَى مَا مَرَّ فَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَمِنْهُ مَا هُوَ حَسَنٌ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ وَلَا عُهْدَةَ فِيهِ بِوَجْهٍ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهِ مِنْ الصَّبِيِّ لَمَّا ثَبَتَ أَهْلِيَّةُ أَدَائِهِ وَوُجِدَ مِنْهُ بِحَقِيقَتِهِ لِأَنَّ الشَّيْءَ إذَا وُجِدَ بِحَقِيقَتِهِ لَمْ يَنْعَدِمْ إلَّا بِحَجْرٍ مِنْ الشَّرْعِ وَذَلِكَ فِي الْإِيمَانِ بَاطِلٌ لِمَا قُلْنَا إنَّهُ حَسَنٌ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ وَلَا عُهْدَةَ فِيهِ إلَّا فِي لُزُومِ أَدَائِهِ وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ الْوَضْعَ فَوُضِعَ عَنْهُ فَأَمَّا الْأَدَاءُ فَخَالٍ عَنْ الْعُهْدَةِ لِأَنَّ حِرْمَانَ الْإِرْثِ يُضَافُ إلَى الْكُفْرِ الْبَاقِي ـــــــــــــــــــــــــــــQاعْتِدَالِ الْعَقْلِ حَقِيقَةً تَيْسِيرًا عَلَى الْعِبَادِ وَصَارَ تَوَهُّمُ وَصْفِ الْكَمَالِ قَبْلَ هَذَا الْحَدِّ وَتَوَهُّمُ بَقَاءِ النُّقْصَانِ بَعْدَ هَذَا الْحَدِّ سَاقِطَيْ الِاعْتِبَارِ لِأَنَّ السَّبَبَ الظَّاهِرَ مَتَى أُقِيمَ مَقَامَ الْمَعْنَى الْبَاطِنِ دَارَ الْحُكْمُ مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا وَأَيَّدَ هَذَا كُلَّهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَالْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ وَالنَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ» وَالْمُرَادُ بِالْقَلَمِ الْحِسَابُ وَالْحِسَابُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ لُزُومِ الْأَدَاءِ فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْأَهْلِيَّةِ الْكَامِلَةِ وَهِيَ اعْتِدَالُ الْحَالِ بِالْبُلُوغِ عَنْ عَقْلٍ. قَوْلُهُ (وَالْأَحْكَامُ فِي هَذَا الْبَابِ) أَيْ بَابِ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ وَيَعْنِي بِهِ الْأَهْلِيَّةَ الْقَاصِرَةَ مُنْقَسِمَةٌ عَلَى مَا مَرَّ أَيْ فِي أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ بِأَنَّهَا مُنْقَسِمَةٌ فِي أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْعِبَادِ فَكَذَا فِي أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ فَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ مِنْهَا وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَمِنْهُ أَيْ مِنْ الْمَذْكُورِ مَا هُوَ حَسَنٌ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ أَيْ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَبِيحًا غَيْرَ مَشْرُوعٍ بِوَجْهٍ وَلَا عُهْدَةَ أَيْ لَا تَبِعَةَ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ بِوَجْهٍ وَإِنَّمَا قَالَهُ رَدًّا لِمَذْهَبِ الْخَصْمِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَهُوَ الْإِيمَانُ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهِ مِنْ الصَّبِيِّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَصِحُّ إيمَانُهُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا حَتَّى يَرِثَ أَبَاهُ الْكَافِرَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَلَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ الْمُشْرِكَةُ لِأَنَّهُ مُوَلَّى عَلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ حَيْثُ يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَلَا يَصْلُحُ وَلِيًّا فِيهِ بِنَفْسِهِ كَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَالْمَجْنُونِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّخْصَ إنَّمَا يَصِيرُ مُولَيًا عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ حَالَ عَجْزِهِ عَنْ التَّصَرُّفِ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ وَمَتَى كَانَ قَادِرًا لَا يُجْعَلُ مُولَيًا عَلَيْهِ فَدَلَّ ثُبُوتُ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ عَاجِزٌ. وَكَذَا الشَّيْءُ إنَّمَا يُجْعَلُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ فِي حُكْمٍ إذَا لَمْ يَكُنْ أَصْلًا بِنَفْسِهِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ فَلَوْ صَحَّ إسْلَامُهُ بِنَفْسِهِ يَكُونُ تَبَعًا وَمَتْبُوعًا فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْإِسْلَامَ مَنْفَعَةٌ مَحْضَةٌ فَيَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى أَحْكَامِ الدُّنْيَا عَقْدُ الْتِزَامِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَهُوَ دَائِرٌ بَيْنَ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ حَيْثُ يُحْرَمُ بِهِ الْإِرْثَ مِنْ مُوَرِّثِهِ الْكَافِرِ وَتَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ الْمُشْرِكَةُ وَإِنْ كَانَ يَرِثُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَتَحِلُّ لَهُ الْمُسْلِمَةُ فَكَانَ نَظِيرَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ، فَأَمَّا فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ فَهُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ فَيُحْكَمُ بِصِحَّتِهِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ لِتَحَقُّقِ الِاعْتِقَادِ عَنْ مَعْرِفَةٍ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْإِسْلَامِ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ ثُبُوتُهُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَنْفَصِلُ عَنْ الْآخَرِ فَإِنَّ مَنْ اُعْتُقِلَ لِسَانُهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَأَسْلَمَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ قَبْلَ أَنْ يُعَايِنَ الْأَهْوَالَ صَحَّ إسْلَامُهُ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَلَا يَصِحُّ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا حَتَّى يَجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْكُفَّارِ فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ وَمَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ دُونَ قَلْبِهِ فَهُوَ كَافِرٌ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ مُؤْمِنٌ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَلِهَذَا كَانَ يُجْرَى أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَنَا أَنَّ الْإِيمَانَ بِحَقِيقَتِهِ قَدْ وُجِدَ مِنْ أَهْلِهِ بَعْدَ تَحَقُّقِ سَبَبِهِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهِ كَمَا لَوْ تَحَقَّقَ مِنْ الْبَالِغِ وَذَلِكَ لِأَنَّ سَبَبَهُ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ وَأَنَّهُ مُتَحَقِّقٌ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ وَالْإِيمَانُ إقْرَارٌ وَتَصْدِيقٌ وَقَدْ سُمِعَ مِنْهُ الْإِقْرَارُ وَعُرِفَ مِنْهُ التَّصْدِيقُ لِأَنَّ التَّصْدِيقَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالْإِقْرَارِ مِمَّنْ هُوَ عَاقِلٌ مُمَيِّزٌ وَكَلَامُنَا فِي صَبِيٍّ عَاقِلٍ يُنَاظِرُ فِي وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِحَّةِ رِسَالَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَيُلْزِمُ الْخَصْمَ بِالْحُجَجِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى فِي مَعْرِفَتِهِ شُبْهَةٌ فَكَانَ هُوَ وَالْبَالِغُ سَوَاءً وَأَهْلِيَّةُ الْإِيمَانِ ثَابِتَةٌ حَقِيقَةً لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الصَّبِيِّ

وَكَذَلِكَ الْفُرْقَةُ وَلِأَنَّ مَا يَلْزَمُهُ بَعْدَ الْإِيمَانِ فَمِنْ ثَمَرَاتِهِ وَإِنَّمَا يُتَعَرَّفُ صِحَّةُ الشَّيْءِ مِنْ حُكْمِهِ الَّذِي وُضِعَ لَهُ وَهُوَ سَعَادَةُ الْآخِرَةِ لَا مِنْ ثَمَرَاتِهِ إلَّا أَنَّهَا تَلْزَمُهُ إذَا ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الْإِيمَانِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ وَلَمْ يُعَدَّ عُهْدَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعَاقِلِ كَمَا بَيَّنَّا. وَكَذَا حُكْمًا لِأَنَّهُ اهْتِدَاءٌ بِالْهُدَى وَإِجَابَةٌ لِلدَّاعِي وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّ الصَّبِيَّ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَكُونَ هَادِيًا دَاعِيًا لِغَيْرِهِ إلَى الْهُدَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12] وَالْمُرَادُ النُّبُوَّةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فَيَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَكُونَ مُهْتَدِيًا مُجِيبًا لِلدَّاعِي بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى وَبَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ وَوُجُودِ الرُّكْنِ مِنْ الْأَهْلِ لَوْ امْتَنَعَ إنَّمَا يَمْتَنِعُ بِحَجْرٍ شَرْعِيٍّ كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ وَلَا يَسْتَقِيمُ الْقَوْلُ بِهِ هَاهُنَا لِأَنَّ الْحَجْرَ عَنْ الْإِيمَانِ كُفْرٌ إذْ الْإِيمَانُ حَسَنٌ لَعَيْنِهِ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَبِيحًا فِي حَالٍ وَلِهَذَا لَمْ يَحْتَمِلْ النَّسْخَ وَالتَّبْدِيلَ وَلَمْ يَخْلُ عَنْ وُجُوبِهِ وَشَرْعِيَّتِهِ زَمَانٌ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُحْجَرَ الصَّبِيُّ عَنْهُ وَيُجْعَلَ الْإِسْلَامُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي حَقِّهِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ. وَقَوْلُهُ: وَلَا عُهْدَةَ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَمَّا قَالَ الْخَصْمُ الْإِسْلَامُ عَقْدٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ فَكَانَ كَالْبَيْعِ لِاسْتِلْزَامِهِ الْعُهْدَةَ فَقَالَ لَا عُهْدَةَ أَيْ لَا ضَرَرَ وَلَا تَبِعَةَ فِي الْإِيمَانِ إلَّا فِي لُزُومِ أَدَائِهِ وَذَلِكَ أَيْ لُزُومُ الْأَدَاءِ يَحْتَمِلُ الْوَضْعَ أَيْ الْإِسْقَاطَ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ وَالنَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ فَوَضَعَ عَنْهُ أَيْ أَسْقَطَ لُزُومَ الْأَدَاءِ عَنْ الصَّبِيِّ بِعُذْرِ الصِّبَا أَيْضًا فَأَمَّا الْأَدَاءُ أَيْ نَفْسُ الْأَدَاءِ مِنْ غَيْرِ لُزُومٍ فَخَالٍ عَنْ الْعُهْدَةِ أَيْ الضَّرَرِ بَلْ هُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ كَمَا بَيَّنَّا فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهِ مِنْ الصَّبِيِّ. وَلَمَّا كَانَ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ أَنَا أُسَلِّمُ أَنَّهُ نَفْعٌ مَحْضٌ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَلَكِنِّي لَا أُسَلِّمُ أَنَّهُ نَفْعٌ مَحْضٌ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا لِتَضَمُّنِهِ فَسَادَ النِّكَاحِ وَحِرْمَانَ الْإِرْثِ أَشَارَ فِي الْجَوَابِ إلَى رَدِّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ حِرْمَانَ الْإِرْثِ إلَى آخِرِهِ يَعْنِي مَا تَرَتَّبَ عَلَى الْإِيمَانِ مِنْ حِرْمَانِ الْإِرْثِ عَنْ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ مُضَافٌ إلَى كُفْرِ الْبَاقِي عَلَى الْكُفْرِ يَعْنِي الَّذِي مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ لَا إلَى إسْلَامِ مَنْ أَسْلَمَ لِأَنَّ الْحِرْمَانَ بِسَبَبِ انْقِطَاعِ الْوِلَايَةِ بَيْنَهُمَا وَالسَّبَبُ الْقَاطِعُ كُفْرُ الْكَافِرِ مِنْهُمَا لَا إسْلَامُ الْمُسْلِمِ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَالْحِرْمَانِ الْفُرْقَةُ الْوَاقِعَةُ بَيْنَهُمَا فِي إضَافَتِهَا إلَى كُفْرِ الْبَاقِي عَلَى الْكُفْرِ لَا إلَى إسْلَامِ مَنْ أَسْلَمَ لِمَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ التَّرْجِيحِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْإِسْلَامُ نَفْعًا مَحْضًا فَيَكُونُ مَشْرُوعًا فِي حَقِّهِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ مُضَافٌ إلَيْهِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مِنْ الْأَحْكَامِ الْأَصْلِيَّةِ الْمَقْصُودَةِ بِالْإِيمَانِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَرِيبٍ يَرِثُهُ وَلَا امْرَأَةٍ يَفْسُدُ نِكَاحُهَا بَلْ هُوَ يَثْبُتُ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الْإِسْلَامِ وَتَحَقُّقِهِ لَا أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِهِ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِيمَانِ لِأَنَّ تَعَرُّفَ صِحَّةِ الشَّيْءِ يُسْتَفَادُ مِنْ حُكْمِهِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ سَعَادَةُ الْآخِرَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا مِمَّا هُوَ مِنْ ثَمَرَاتِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّبِيَّ لَوْ وَرِثَ قَرِيبَهُ أَوْ وُهِبَ لَهُ قَرِيبُهُ فَقَبِلَهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّ الْعِتْقَ ضَرَرٌ مَحْضٌ وَلَا يَمْتَنِعُ شَرْعِيَّةُ الْإِرْثِ وَالْهِبَةِ فِي حَقِّهِ بِهَذَا السَّبَبِ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلْإِرْثِ وَالْهِبَةِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ بِلَا عِوَضٍ وَهُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ فَيَكُونُ مَشْرُوعًا فِي حَقِّهِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَا مَقْصُودًا بِالْإِرْثِ وَالْهِبَةِ وَلِهَذَا يَتَحَقَّقُ الْإِرْثُ وَالْهِبَةُ مِنْ غَيْرِ عِتْقٍ فَلَا يَمْتَنِعُ الْإِرْثُ بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ وَكَذَا الْوَكِيلُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ مُطْلَقٍ يَمْلِكُ شِرَاءِ أَبِ الْآمِرِ وَيَعْتِقُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ فِي أَصْلِ الشِّرَاءِ مُؤْتَمِرٌ بِأَمْرِهِ وَالْعِتْقُ يَثْبُتُ بِنَاءً عَلَيْهِ فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ الَّتِي هِيَ مِنْ ثَمَرَاتِ الْإِسْلَامِ تَلْزَمُ الصَّبِيَّ إذَا ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الْإِيمَانِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ بِأَنْ أَسْلَمَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ حَتَّى لَوْ مَاتَ لَهُ مُوَرِّثٌ كَافِرٌ أَوْ مَاتَ مُوَرِّثُهُ الْمُسْلِمُ وَوَرِثَ قَرِيبَهُ الَّذِي يَعْتِقُ عَلَيْهِ مِنْهُ

وَمِنْهُ مَا هُوَ قَبِيحٌ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ وَهُوَ الْجَهْلُ بِالصَّانِعِ وَالْكُفْرُ بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُرَدُّ عِلْمُهُ بِوَالِدَيْهِ فَكَيْفَ يُرَدُّ عِلْمُهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَكَذَلِكَ الْجَهْلُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُعَدُّ مِنْهُ عِلْمًا فَكَيْفَ الْجَهْلُ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَجْعَلَ رِدَّتَهُ عَفْوًا بَلْ كَانَ صَحِيحًا فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا بِالرِّدَّةِ فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ حُكْمًا لِصِحَّتِهِ لَا قَصْدًا إلَيْهِ فَلَمْ يَصْلُحْ الْعَفْوُ عَنْ مِثْلِهِ كَمَا إذَا ثَبَتَ تَبَعًا ـــــــــــــــــــــــــــــQأَوْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ مُشْرِكَةٌ يَثْبُتُ حِرْمَانُ الْإِرْثِ وَيَقَعُ الْعِتْقُ وَالْفُرْقَةُ وَلَمْ يُعَدَّ لُزُومُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ عُهْدَةً أَيْ ضَرَرًا فِي حَقِّهِ لِمَا قُلْنَا أَنَّ الْمَنْظُورَ إلَيْهِ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ دُونَ مَا هُوَ مِنْ الثَّمَرَاتِ فَكَذَا إذَا أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَ مِنْ لُزُومِ الضَّرَرِ مُعَارَضٌ بِلُزُومِ النَّفْعِ فَإِنَّهُ بِالْإِسْلَامِ يَصِيرُ مُسْتَحِقًّا لِلْإِرْثِ مِنْ أَقَارِبِهِ الْمُسْلِمِينَ وَيُقَرَّرُ مِلْكُ نِكَاحِهِ إذَا كَانَتْ امْرَأَتُهُ أَسْلَمَتْ قَبْلَهُ وَإِذَا تَعَارَضَ النَّفْعُ وَالضَّرَرُ تَسَاقَطَا وَبَقِيَ الْإِسْلَامُ فِي نَفْسِهِ نَفْعًا مَحْضًا لَا يَشُوبُهُ مَعْنَى الضَّرَرِ فَيَصِحُّ وَأَمَّا قَوْلُهُ أَنَّهُ مُوَلَّى عَلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ تَفْسِيرَ الْوِلَايَةِ أَنْ يَقْدِرَ الرَّجُلُ عَلَى مُبَاشَرَةِ التَّصَرُّفِ عَلَى غَيْرِهِ وَالْأَبُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَعْقِدَ عَقْدَ الْإِسْلَامِ عَلَى وَلَدِهِ بَلْ يَعْقِدُهُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي وَلَدِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ الْجَدِّ حَالَ عَدَمِ الْأَبِ وَيَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ الْأُمِّ مَعَ وُجُودِ الْأَبِ وَلَا وِلَايَةَ لِلْأُمِّ مَعَ الْأَبِ فَعُلِمَ أَنَّ ثُبُوتَهُ لَيْسَ بِطَرِيقِ الْوِلَايَةِ وَلَكِنْ يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ تَبَعًا عَلَى أَنَّ الصَّبِيَّ عِنْدَنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُولَيًا عَلَيْهِ وَوَلِيًّا عَلَى نَفْسِهِ إذَا كَانَ التَّصَرُّفُ نَفْعًا مَحْضًا كَقَبُولِ الْهِبَةِ فَإِنَّ الْأَبَ يَقْبَلُ عَلَيْهِ وَيَقْبَلُ هُوَ بِنَفْسِهِ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْوِلَايَةَ أَثْبَتَتْ لِلْوَلِيِّ عَلَيْهِ نَظَرًا لَهُ فَلَا تُوجِبُ حَجْرًا عَمَّا هُوَ نَظَرٌ لَهُ مَحْضٌ بَلْ يَثْبُتُ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا لِيَنْتَفِعَ بِطَرِيقَيْنِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّهُ لَا يَصْلُحُ تَبَعًا وَمَتْبُوعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَذَلِكَ وَلَكِنَّ الْحَالَةَ الْوَاحِدَةَ لَيْسَتْ بِمَوْجُودَةٍ لِأَنَّهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ أَصْلًا بِنَفْسِهِ لَيْسَ بِتَبَعٍ لِغَيْرِهِ وَفِي حَالِ كَوْنِهِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ لَيْسَ بِأَصْلٍ بِنَفْسِهِ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي الشَّيْءِ دَلِيلَانِ يَقْتَضِي أَحَدُهُمَا كَوْنَهُ أَصْلًا وَالْآخَرُ كَوْنَهُ تَبَعًا كَالْجَنِينِ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الْعِتْقِ وَالْوَصِيَّةِ وَيَصْلُحُ أَصْلًا بِنَفْسِهِ وَكَالشَّجَرِ يَتْبَعُ الْأَرْضَ فِي الْبَيْعِ وَيَصْلُحُ أَصْلًا بِنَفْسِهِ فِيهِ أَيْضًا وَلَكِنْ لَا يَصِيرُ أَصْلًا وَتَبَعًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ لِنُقْصَانِ عَقْلِهِ يَبْقَى تَبَعًا لِلْغَيْرِ وَلِوُجُودِ أَصْلِ الْعَقْلِ فِيهِ يَصْلُحُ أَصْلًا بِنَفْسِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ (وَمِنْهُ) أَيْ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ أَوْ مِنْ الْمَذْكُورِ وَهُوَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مَا هُوَ قَبِيحٌ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ أَيْ غَيْرَ كَوْنِهِ قَبِيحًا عَلَى مُقَابَلَةِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْجَهْلُ بِالصَّانِعِ وَالْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ حُرْمَةَ حَقِّهِ كَحُرْمَةِ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ رِدَّةَ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ صَحِيحَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اسْتِحْسَانًا حَتَّى لَوْ كَانَ أَبَوَاهُ مُسْلِمَيْنِ فَارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ بِنَفْسِهِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ لَا يُجْعَلُ ذَلِكَ عَفْوًا بِعُذْرِ الصِّبَا فَتَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ الْمُسْلِمَةُ وَيُحْرَمُ هُوَ الْمِيرَاثُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يُحْكَمُ بِصِحَّتِهَا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَهُوَ الْقِيَاسُ فَأَمَّا فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ فَهِيَ صَحِيحَةٌ عَلَى مَا يُشِيرُ إلَيْهِ عِبَارَةُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَإِنْ كَانَ إطْلَاقُ لَفْظِ الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهَا فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ أَيْضًا وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ مَعَ اعْتِقَادِ الشِّرْكِ حَقِيقَةً وَالْعَفْوَ عَنْ الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ خِلَافُ الْعَقْلِ وَالنَّصِّ. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الِارْتِدَادَ ضَرَرٌ مَحْضٌ لَا يَشُوبُهُ مَنْفَعَةٌ وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ كَإِعْتَاقِ عَبْدِهِ وَطَلَاقِ امْرَأَتِهِ وَهِبَةِ مَالِهِ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْهُ مَا هُوَ ضَرَرٌ يَشُوبُهُ مَنْفَعَةٌ كَالْبَيْعِ فَمَا يَتَمَحَّضُ ضَرَرًا وَيُحْجَرُ عَنْهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُتَصَوَّرُ عَنْهُ زَوَالُهُ أَوْلَى أَنْ لَا يَصِحَّ مِنْهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ ارْتَدَّ فِي الصِّبَا وَبَلَغَ كَذَلِكَ لَا يُقْتَلُ وَلَوْ صَحَّتْ رِدَّتُهُ لَوَجَبَ قَتْلُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَجْهُ

عَنْ مِثْلِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ فَقُلْنَا فِيهِ بِصِحَّةِ الْأَدَاءِ مِنْ غَيْرِ عُهْدَةٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQالِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الصَّبِيَّ فِي حَقِّ الرِّدَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْبَالِغِ لِأَنَّ الْبَالِغَ إنَّمَا يُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ لِتَحَقُّقِهَا مِنْهُ وَكَوْنِهَا مَحْظُورَةً لَا لِكَوْنِهَا مَشْرُوعَةً لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَشْرُوعَةً بِحَالٍ وَأَنَّهَا تَتَحَقَّقُ مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ كَالْإِيمَانِ وَيَثْبُتُ الْحَظْرُ فِي حَقِّهِ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَكُونَ مَحْظُورَةً فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ وَلَا فِي حَقِّ شَخْصٍ مِنْ الْأَشْخَاصِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ الْحُكْمُ بِصِحَّتِهَا مِنْهُ وَلَمْ يَمْتَنِعْ ثُبُوتُهَا بَعْدَ الْوُجُودِ حَقِيقَةً لِلْحَجْرِ شَرْعًا فَإِنَّ الْبَالِغَ مَحْجُورٌ عَنْ الرِّدَّةِ كَالصَّبِيِّ وَلَمْ يَسْقُطْ حُكْمُهَا بِعُذْرِ الصِّبَا لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِعُذْرٍ مِنْ الْأَعْذَارِ فَكَذَا بِعُذْرِ الصِّبَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَضْلِ الْكَرْمَانِيُّ إنَّمَا حَكَمْنَا بِرِدَّتِهِ ضَرُورَةَ الْحُكْمِ بِصِحَّةِ إسْلَامِهِ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ مِمَّا يُوجِدُهُ الْعَبْدُ عَنْ اخْتِيَارٍ مِنْهُ وَذَلِكَ مُتَصَوَّرُ التَّرْكِ مِنْهُ وَمَتَى قُلْنَا لَا يُتَصَوَّرُ التَّرْكُ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ الْوُجُودُ إسْلَامًا وَتَرْكُ الْإِسْلَامِ بَعْدَ وُجُودِهِ هُوَ الرِّدَّةُ. وَقَوْلُهُ: أَلَا يَرَى إلَى آخِرِهِ مُتَعَلِّقٌ بِمَا سَبَقَ وَبِمَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِيرُ وَمِنْهُ مَا هُوَ قَبِيحٌ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهِ مِنْ الصَّبِيِّ أَيْضًا كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُرَدُّ عِلْمُهُ بِوَالِدَيْهِ بِسَبَبِ ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ مِنْ جَانِبِهِمَا وَهُوَ ضَرَرُ التَّأْدِيبِ وَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ مِنْهُ جَهْلًا بَلْ يُجْعَلُ عِلْمًا حَقِيقَةً فَكَيْفَ يُرَدُّ عِلْمُهُ بِاَللَّهِ الَّذِي خَلَقَهُ وَرَزَقَهُ بِسَبَبِ أَحْكَامٍ تَلْزَمُهُ بِنَاءً عَلَيْهِ مَعَ أَنَّ آدَابَ الشَّرْعِ أَنْفَعُ لَهُ مِنْ آدَابِ الْأَبَوَيْنِ. وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَمَا لَا يُرَدُّ عِلْمُهُ بِالْوَالِدَيْنِ وَلَا يُعَدُّ جَهْلًا الْجَهْلُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُعَدُّ مِنْهُ عِلْمًا حَتَّى لَا يُجْعَلَ عَارِفًا لِشَيْءٍ جَهِلَهُ فَكَيْفَ الْجَهْلُ بِاَللَّهِ تَعَالَى يُعَدُّ عِلْمًا مَعَ أَنَّهُ أَقْبَحُ مِنْ الْجَهْلِ بِغَيْرِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْجَهْلَ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَا يُعَدُّ عِلْمًا بِهِ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُجْعَلَ ارْتِدَادُهُ عَفْوًا إذْ لَوْ عَفَى لَصَارَ الْجَهْلُ بِهِ عِلْمًا إذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالْجَهْلِ بِهِ بَلْ كَانَ صَحِيحًا فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ سَعَادَةَ الْآخِرَةِ لَا يُتَصَوَّرُ حُصُولُهَا بِلَا إيمَانٍ وَقَدْ زَالَ بِالِارْتِدَادِ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ اعْتَقَدَ الْكُفْرَ فَلَمْ يَبْقَ اعْتِقَادُ الْإِسْلَامِ ضَرُورَةً كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ أَوْ جَامَعَ فِي حَجِّهِ أَوْ اعْتِكَافِهِ أَوْ أَكَلَ فِي صَوْمِهِ مُتَعَمِّدًا لَمْ تَبْقَ هَذِهِ الْعِبَادَاتُ وَإِنْ كَانَ فِي فَسَادِهَا لَهُ ضَرَرٌ لِأَنَّهُ بَاشَرَ مَا يُنَافِيهَا وَكَذَا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا لِأَنَّ مَا يَلْزَمُ الصَّبِيَّ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا كَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ وَوُقُوعِ الْفُرْقَةِ إنَّمَا يَلْزَمُهُ حُكْمًا لِصِحَّتِهِ أَيْ لِصِحَّةِ ارْتِدَادِهِ لَا قَصْدًا إلَيْهِ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى مَا يَعْنِي لُزُومُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِصِحَّةِ الِارْتِدَادِ لِأَنَّهَا مِنْ لَوَازِمِهِ لَا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الِارْتِدَادِ لِأَجْلِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ قَصْدًا إلَيْهَا فَلَمْ يَصْلُحْ الْعَفُوُّ عَنْ مِثْلِهِ الضَّمِيرُ لِلِارْتِدَادِ أَيْ لَا يَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ بِوَجْهٍ بِوَاسِطَةِ لُزُومِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ كَمَا إذَا ثَبَتَ الِارْتِدَادُ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ بِأَنْ ارْتَدَّا وَلَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ وَلَزِمَهُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ لَا يَمْتَنِعُ ثُبُوتُهُ بِوَاسِطَةِ لُزُومِهَا وَأَمَّا عَدَمُ جَوَازِ قَتْلِهِ بَعْدَ الِارْتِدَادِ فَسَنُبَيِّنُهُ عَنْ قَرِيبٍ. (قَوْلُهُ) وَمِنْ ذَلِكَ أَيْ وَمِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مَا هُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ أَيْ بَيْنَ مَا هُوَ حَسَنٌ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ وَبَيْنَ مَا هُوَ قَبِيحٌ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا مَشْرُوعًا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ الْبَعْضِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِهَا فَإِنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ وَفِي حَالَةِ الْحَيْضِ، وَالصَّوْمَ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ فِي اللَّيْلِ وَالْحَجَّ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ فَقُلْنَا فِيهَا أَيْ فِي هَذِهِ الْحُقُوقِ الْمَوْصُوفَةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ بِصِحَّةِ الْأَدَاءِ مِنْ الصَّبِيِّ

حَتَّى قُلْنَا بِسُقُوطِ الْوُجُوبِ فِي الْكُلِّ لِأَنَّ اللُّزُومَ لَا يَخْلُو عَنْ الْعُهْدَةِ وَقَدْ شُرِعَتْ بِدُونِ ذَلِكَ الْوَصْفِ وَقُلْنَا بِصِحَّتِهَا تَطَوُّعًا بِلَا لُزُومِ مُضِيٍّ وَلَا وُجُوبِ قَضَاءٍ لِأَنَّهَا قَدْ شُرِعَتْ كَذَلِكَ أَلَا يَرَى أَنَّ الْبَالِغَ إذَا شَرَعَ فِيهَا عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا عَلَيْهِ وَلَيْسَتْ عَلَيْهِ أَنَّ اللُّزُومَ يَبْطُلُ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ إذَا شَرَعَ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ثُمَّ أُحْصِرَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فَقُلْنَا فِي الصَّبِيِّ إذَا أَحْرَمَ صَحَّ مِنْهُ بِلَا عُهْدَةٍ حَتَّى إذَا ارْتَكَبَ مَحْظُورًا لَمْ يَلْزَمْهُ وَقُلْنَا فِي الصَّبِيِّ إذَا ارْتَدَّ أَنْ لَا يُقْتَلَ وَإِنْ صَحَّتْ رِدَّتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّ الْقَتْلَ يَجِبُ بِالْمُحَارَبَةِ لَا بِعَيْنِ الرِّدَّةِ وَلَمْ يُوجَدْ فَأَشْبَهَ رِدَّةَ الْمَرْأَةِ. فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ أَيْضًا مَا هُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ وَمَا هُوَ ضَرَرٌ مَحْضٌ وَمَا هُوَ دَائِرٌ بَيْنَهُمَا ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعَاقِلِ بِاعْتِبَارِ الْأَهْلِيَّةِ الْقَاصِرَةِ مِنْ غَيْرِ عُهْدَةِ لُزُومِ مُضِيٍّ وَضَمَانٍ حَتَّى قُلْنَا بِسُقُوطِ الْوُجُوبِ أَيْ نَفْسِ الْوُجُوبِ وَوُجُوبِ الْأَدَاءِ عَنْ الصَّبِيِّ فِي الْكُلِّ مَالِيًّا كَانَ أَوْ بَدَنِيًّا لِأَنَّ اللُّزُومَ لَا يَخْلُو عَنْ إلْزَامِ عُهْدَةٍ وَقَدْ شُرِعَتْ هَذِهِ الْحُقُوقُ بِدُونِ هَذَا الْوَصْفِ وَهُوَ اللُّزُومُ كَمَا فِي الْمَظْنُونِ وَقُلْنَا بِصِحَّتِهَا أَيْ بِصِحَّةِ أَدَاءِ مَا كَانَ بَدَنِيًّا مِنْهُ بِطَرِيقِ التَّطَوُّعِ لِأَنَّ ذَلِكَ نَفْعٌ مَحْضٌ لِأَنَّهُ يَعْتَادُ أَدَاءَهَا فَلَا يَشُقُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَلِهَذَا صَحَّ مِنْهُ التَّنَفُّلُ بِجِنْسِ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ بَعْدَ أَدَاءِ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ بِصِفَةِ الْفَرْضِيَّةِ فِي حَقِّ الْبَالِغِينَ بِلَا لُزُومِ مُضِيٍّ أَيْ إذَا شَرَعَ فِيهَا وَلَا وُجُوبِ قَضَاءٍ أَيْ إذَا تَرَكَهَا أَوْ أَفْسَدَهَا لِأَنَّ هَذِهِ الْحُقُوقَ قَدْ شُرِعَتْ فِي الْجُمْلَةِ فِي حَقِّ الْبَالِغِ كَذَلِكَ أَيْ كَمَا شُرِعَتْ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ بِلَا لُزُومِ مُضِيٍّ وَوُجُوبِ قَضَاءٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَالِغَ إذَا شَرَعَ فِيهَا أَيْ فِي هَذِهِ الْحُقُوقِ أَوْ الْعِبَادَاتِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا عَلَيْهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَيْهِ يَصِحُّ مِنْهُ الْإِتْمَامُ مَعَ فَوَاتِ صِفَةِ اللُّزُومِ حَتَّى إذَا أَفْسَدَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَكَذَا الصَّبِيُّ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَأَمَّا مَا كَانَ مَالِيًّا مِنْهَا فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ أَدَاؤُهُ لِأَنَّ فِيهِ إضْرَارًا بِهِ فِي الْعَاجِلِ بِاعْتِبَارِ مَالِهِ فَيَبْتَنِي ذَلِكَ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ الْكَامِلَةِ لَا عَلَى الْقَاصِرَةِ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَالشُّرُوعِ فِي هَذِهِ الْحُقُوقِ يَعْنِي بِهِ الشُّرُوعَ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ إذَا شَرَعَ الْبَالِغُ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَيْ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ وَقَدْ تَبَيَّنَ بَعْدُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ يَصِحُّ الْإِتْمَامُ مِنْ غَيْرِ صِفَةِ اللُّزُومِ حَتَّى إذَا أُحْصِرَ فَتَحَلَّلَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ إذَا أَحْرَمَ صَحَّ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ الْأَهْلِيَّةِ الْقَاصِرَةِ حَتَّى لَوْ مَضَى عَلَيْهِ يَقَعُ عِبَادَةً نَافِلَةً وَلَكِنْ بِلَا لُزُومِ عُهْدَةٍ حَتَّى إذَا ارْتَكَبَ مَحْظُورَ إحْرَامِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ جَزَاؤُهُ لِأَنَّ فِي إلْزَامِهِ إيجَابَ ضَرَرٍ وَعُهْدَةٍ وَذَلِكَ يُبْتَنَى عَلَى الْأَهْلِيَّةِ الْكَامِلَةِ قَوْلُهُ (وَقُلْنَا فِي الصَّبِيِّ) إلَى آخِرِهِ جَوَابُ سُؤَالٍ يَرِدُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي مَسْأَلَةِ رِدَّةِ الصَّبِيِّ فَإِنَّهُمَا حَكَمَا بِصِحَّةِ ارْتِدَادِهِ فِي حَقِّ حِرْمَانِ الْمِيرَاثِ وَوُقُوعِ الْفُرْقَةِ ثُمَّ لَمْ يَحْكُمَا بِصِحَّتِهِ فِي وُجُوبِ الْقَتْلِ فَقَالَ إنَّمَا لَا يُقْتَلُ وَإِنْ صَحَّتْ رِدَّتُهُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ الْقَتْلَ لَيْسَ مِنْ حُكْمِ عَيْنِ الرِّدَّةِ وَمِنْ لَوَازِمِهَا بَلْ هُوَ يَجِبُ بِالْمُحَارَبَةِ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَكَذَا فِي حَقِّ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ كَالزَّمْنَى وَالْعُمْيَانِ فِي رِوَايَةٍ وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمُحَارَبَةِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ جَزَاؤُهَا كَمَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِهَا وَلِأَنَّ مَا وَجَبَ جَزَاءً وَعُقُوبَةً فِي الدُّنْيَا يُبْتَنَى عَلَى الْأَهْلِيَّةِ الْكَامِلَةِ لَا عَلَى الْقَاصِرَةِ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ جَوَازُ ضَرْبِهِ عِنْدَ إسَاءَةِ الْأَدَبِ مَعَ أَنَّهُ نَوْعُ جَزَاءٍ وَلَا جَوَازُ اسْتِرْقَاقِهِ مَعَ أَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ عُقُوبَةٌ وَجَزَاءٌ عَلَى الْكُفْرِ عَلَى مَا عُرِفَ لِأَنَّ الضَّرْبَ عِنْدَ إسَاءَةِ الْأَدَبِ تَأْدِيبٌ لِلرِّيَاضَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِمَنْزِلَةِ ضَرْبِ الدَّوَابِّ لَا جَزَاءً عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي وَكَذَا اسْتِرْقَاقُهُ لَيْسَ بِطَرِيقِ الْجَزَاءِ وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَا هُوَ مُبَاحٌ غَيْرُ مَعْصُومٍ مَحَلٌّ لِلتَّمَلُّكِ كَالصَّيُودِ وَذَرَارِيُّ أَهْلِ الْحَرْبِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَلَا يُقَالُ زَوَالُ الْعِصْمَةِ الَّتِي هِيَ كَرَامَةٌ تَكُونُ بِطَرِيقِ الْجَزَاءِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَزُولَ عَنْ الصَّبِيِّ لِأَنَّا نَقُولُ زَوَالُهَا بِمَنْزِلَةِ زَوَالِ الصِّحَّةِ بِالْمَرَضِ وَالْحَيَاةِ بِالْمَوْتِ وَالْغِنَى بِالْفَقْرِ وَلَا أَحَدَ يَقُولُ إنَّ ذَلِكَ جَزَاءٌ بِطَرِيقِ

أَمَّا النَّفْعُ الْمَحْضُ فَيَصِحُّ مِنْهُ مُبَاشَرَتُهُ لِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ الْقَاصِرَةَ وَالْقُدْرَةَ الْقَاصِرَةَ كَافِيَةٌ لِجَوَازِ الْأَدَاءِ أَلَا يَرَى أَنَّ مُبَاشَرَةَ النَّوَافِلِ مِنْهُ صَحَّتْ لِمَا قُلْنَا، وَفِي ذَلِكَ جَاءَتْ السُّنَّةُ الْمَعْرُوفَةُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مُرُوا صِبْيَانَكُمْ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغُوا سَبْعًا وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا إذَا بَلَغُوا عَشْرًا» وَإِنَّمَا هَذَا ضَرْبُ تَأْدِيبٍ وَتَعْزِيرٍ لَا عُقُوبَةٍ فَكَذَلِكَ مَا هُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ مِثْلَ قَبُولِ الْهِبَةِ وَقَبُولِ الصَّدَقَةِ وَذَلِكَ مِثْلُ بَدَلِ الْخُلْعِ مِنْ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَكَذَلِكَ إذَا أَجَّرَ الصَّبِيُّ الْمَحْجُورُ نَفْسَهُ وَمَضَى عَلَى الْعَمَلِ وَجَبَ الْأَجْرُ لِلْحُرِّ اسْتِحْسَانًا وَوَجَبَ لِلْعَبْدِ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ السَّلَامَةُ فِي الصَّبِيِّ الْحُرِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعُقُوبَةِ، إلَيْهِ أَشَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَلَ إذَا بَلَغَ مُرْتَدًّا كَمَا هُوَ جَوَابُ الْقِيَاسِ بِوُجُودِ الِارْتِدَادِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَزَوَالِ الْعُذْرِ وَهُوَ الصِّبَا وَتَحَقُّقُ مَعْنَى الْمُحَارَبَةِ بَعْدَ الْبُلُوغِ إلَّا أَنَّ فِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُقْتَلُ وَيُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي صِحَّةِ إسْلَامِهِ فِي الصِّغَرِ صَارَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَتْلِ وَلَكِنْ لَوْ قَتَلَهُ إنْسَانٌ قَبْلَ الْبُلُوغِ أَوْ بَعْدَهُ لَا يَغْرَمُ شَيْئًا لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ رِدَّتِهِ إهْدَارَ دَمِهِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهَا اسْتِحْقَاقُ قَتْلِهِ كَالْمَرْأَةِ إذَا ارْتَدَّتْ لَا تُقْتَلُ وَلَوْ قَتَلَهَا إنْسَانٌ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. قَوْلُهُ (أَمَّا النَّفْعُ الْمَحْضُ فَيَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ مُبَاشَرَتُهُ) لِأَنَّ تَصْحِيحَهُ مُمْكِنٌ بِنَاءً عَلَى وُجُودِ الْأَهْلِيَّةِ الْقَاصِرَةِ وَفِي تَصْحِيحِهِ نَظَرٌ لَهُ وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِالنَّظَرِ فِي حَقِّهِمْ لِمَا قُلْنَا يَعْنِي صِحَّةَ النَّوَافِلِ بِاعْتِبَارِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَهْلِيَّةَ الْقَاصِرَةَ كَافِيَةٌ لِأَدَاءِ مَا هُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ وَالنَّوَافِلُ نَفْعٌ مَحْضٌ وَفِي ذَلِكَ أَيْ فِي جَوَازِ أَدَاءِ النَّوَافِلِ مِنْهُ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا أَيْ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ وَالِامْتِنَاعِ عَنْ أَدَائِهَا. وَقَوْلُهُ: وَإِنَّمَا هَذَا إلَى الضَّرْبِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ كَذَا جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ كَيْفَ يَصِحُّ ضَرْبُ الصَّبِيِّ وَالْأَمْرُ بِهِ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ وَهُوَ عُقُوبَةٌ وَقَدْ ذَكَرْت أَنَّ مَا هُوَ عُقُوبَةٌ سَاقِطٌ عَنْهُ فَقَالَ هَذَا أَيْ الضَّرْبُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ ضَرْبُ تَأْدِيبٍ وَتَعْزِيرٍ لِيَتَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَيَعْتَادَ أَدَاءَ الصَّلَاةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا عُقُوبَةً عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ فِي الْمَاضِي وَالضَّرْبُ لِلتَّأْدِيبِ مِنْ أَنْفَعِ الْمَنَافِعِ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ كَمَا قِيلَ: أَدِّبْ بَنِيك إذَا مَا اسْتَوْجَبُوا أَدَبًا ... فَالضَّرْبُ أَنْفَعُ أَحْيَانًا مِنْ النَّدَمِ فَكَذَلِكَ أَيْ فَكَأَدَاءِ النَّوَافِلِ فِي الصِّحَّةِ مَا هُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ مِثْلَ قَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَقَبْضِهِمَا وَالِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِطَابِ وَنَحْوِهَا وَذَلِكَ أَيْ قَبُولُ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ أَوْ مُبَاشَرَةِ مَا هُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ مِنْ الصَّبِيِّ مِثْلَ قَبُولِ بَدَلِ الْخُلْعِ مِنْ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ بِأَنْ خَالَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى مَالٍ وَقَبَضَهُ مِنْهَا بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ لِأَنَّهُ حَجَرَهُ عَمَّا فِيهِ ضَرَرٌ أَوْ تَوَهُّمُ ضَرَرٍ لَهُ وَهَذَا نَفْعٌ مَحْضٌ فِي حَقِّهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إذْنِهِ وَلَا يَظْهَرُ الْحَجْرُ فِيهِ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَمِثْلُ قَبُولِ بَدَلِ الْخُلْعِ مِنْ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ إذَا آجَرَ الصَّبِيُّ إلَى آخِرِهِ لَا يَجُوزُ لِلصَّبِيِّ الْمَحْجُورِ وَلَا لِلْعَبْدِ الْمَحْجُورِ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ كَالْبَيْعِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ إلَى الْمَوْلَى أَوْ الْوَلِيِّ وَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ بِهَذَا الْعَقْدِ لِمَا فِيهِ مَعْنَى الضَّرَرِ. فَإِنْ عَمِلَ الصَّبِيُّ أَوْ الْعَبْدُ فَفِي الْقِيَاسِ لَا أَجْرَ لَهُ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَصِحَّ وَوُجُوبُ الْأُجْرَةِ بِاعْتِبَارِهِ فَإِذَا فَصَدَ لَمْ يَجِبْ الْأَجْرُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ وَجَبَ الْأَجْرُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَةً بَعْدَ إقَامَةِ الْعَمَلِ فَإِنَّا لَوْ اعْتَبِرْنَا الْعَقْدَ اسْتَوْجَبَ الْأَجْرَ وَلَوْ لَمْ نَعْتَبِرْهُ لَمْ يَجِبْ لَهُ الْأَجْرُ وَالصَّبِيُّ أَوْ الْعَبْدُ لَا يَكُونُ مَحْجُورًا عَمَّا يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَةً كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ لِأَنَّ الْحَجْرَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَفِيمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ بِوَجْهٍ لَا حَجْرَ فَإِنْ عَطِبَ الْعَبْدُ فِي الْعَمَلِ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ ضَامِنًا لَقِيمَتِهِ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لَهُ حِينَ اسْتَعْمَلَهُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ مِنْ حِينِ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَإِنَّمَا أَوْجَبْنَا الْأَجْرَ عَلَيْهِ لِنَفْعِ الْمَوْلَى وَوُجُوبُ الضَّمَانِ أَنْفَعُ لَهُ مِنْ لُزُومِ

وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إذَا قَاتَلَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى وَالصَّبِيُّ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَلِيِّ اسْتَوْجَبَ الرَّضْخَ اسْتِحْسَانًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ إلَّا فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَوَجَبَ الْقَوْلُ بِصِحَّةِ عِبَارَةِ الصَّبِيِّ فِي بَيْعِ مَالِ غَيْرِهِ وَطَلَاقِ غَيْرِهِ أَوْ عَتَاقِ غَيْرِهِ إذَا كَانَ وَكِيلًا لِأَنَّ الْآدَمِيَّ يُكْرَمُ لِصِحَّةِ الْعِبَارَةِ وَعِلْمِ بَيَانٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 4] فَكَانَ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَنَافِعِ الْخَالِصَةِ وَفِي ذَلِكَ يُوصَلُ إلَى دَرْكِ الْمَضَارِّ وَالْمَنَافِعِ وَاهْتِدَاءٍ فِي التِّجَارَةِ بِالتَّجْرِبَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6] . وَأَمَّا مَا كَانَ ضَرَرًا مَحْضًا فَلَيْسَ بِمَشْرُوعٍ فِي حَقِّهِ فَبَطَلَتْ مُبَاشَرَتُهُ وَذَلِكَ مِثْلُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْهِبَةِ وَالْقَرْضِ وَالصَّدَقَةِ وَلَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْأَجْرِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ الْحُرِّ فَإِنَّهُ وَإِنْ هَلَكَ فِي الْعَمَلِ فَلَهُ الْأَجْرُ بِقَدْرِ مَا قَامَ مِنْ الْعَمَلِ لِأَنَّ الْحُرَّ لَا يُمْلَكُ بِالضَّمَانِ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إيجَابِ الْأَجْرِ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ وَوَجَبَ أَيْ الْأَجْرُ لِلْعَبْدِ أَيْ لِمَوْلَاهُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ السَّلَامَةُ فِي الْحُرِّ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَكَالصَّبِيِّ أَوْ الْعَبْدِ إذَا أَجَّرَ نَفْسَهُ الْعَبْدُ إذَا قَاتَلَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ أَوْ الصَّبِيُّ إذَا قَاتَلَ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهِ لَا شَيْءَ لَهُ فِي الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ أَهْلًا لَهُ عِنْدَ إذْنِ الْمَوْلَى أَوْ الْوَلِيِّ فَيَكُونُ حَالُهُ كَحَالِ الْحِرَفِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ إنْ قَاتَلَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ اسْتَحَقَّ الرَّضْخَ وَإِلَّا فَلَا. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَرْضَخُ لَهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَنْ الِاكْتِسَابِ وَعَمَّا يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَةً وَاسْتِحْقَاقُ الرَّضْخِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِتَالِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَيَكُونُ هُوَ كَالْمَأْذُونِ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى أَوْ الْوَلِيِّ دَلَالَةً قَوْلُهُ (وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا) أَيْ اسْتِحْقَاقُ الرَّضْخِ اسْتِحْسَانًا قَوْلَ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً لِأَنَّ عِنْدَهُ أَمَانَ الصَّبِيِّ الْمَحْجُورِ وَالْعَبْدِ الْمَحْجُورِ أَيْ أَمَانَهُمَا صَحِيحٌ وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ إلَّا مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةٌ وَإِذَا كَانَ لَهُمَا وِلَايَةُ الْقِتَالِ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَحِقًّا لِلرَّضْخِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِتَالِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إلَّا فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَأَكْثَرُ تَفْرِيعَاتُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِهِ كَتَفْرِيعَاتِ الزِّيَادَاتِ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَلَا يَسْتَحِقُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا شَيْئًا لِأَنَّ أَمَانَ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ وَالصَّبِيِّ الْمَحْجُورِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدَهُمَا فَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا وِلَايَةُ الْقِتَالِ وَلِهَذَا لَا يَحِلُّ لَهُمَا شُهُودُ الْقِتَالِ بِدُونِ الْإِذْنِ بِالْإِجْمَاعِ فَلَا يَسْتَحِقَّانِ شَيْئًا بِالْقِتَالِ كَالْحَرْبِيِّ إذَا قَاتَلَ وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا جَوَابُ الْكُلِّ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَجْرَ عَنْ الْقِتَالِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَقَدْ انْقَلَبَتْ نَفْعًا بَعْدَ الْفَرَاغِ فَلَا مَعْنَى لِلْمَنْعِ مِنْ الِاسْتِحْقَاقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 4] مَنَّ عَلَيْهِ بِتَعْلِيمِ الْبَيَانِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَمَيَّزُ عَنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ بِالْبَيَانِ وَهُوَ الْمَنْطِقُ الْفَصِيحُ الْمُعْرِبُ عَمَّا فِي الضَّمِيرِ. وَفِي الْحَدِيثِ «الْمَرْءُ بِأَصْغَرَيْهِ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ» وَقَالَ الشَّاعِرُ: لِسَانُ الْفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفٌ فُؤَادُهُ ... فَلَمْ تَبْقَ إلَّا صُورَةٌ اللَّحْمُ وَالدَّمُ فَكَانَ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهِ أَيْ بِصِحَّةِ كَلَامِهِ إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ ضَرَرًا مِنْ أَعْظَمِ الْمَنَافِعِ الْخَالِصَةِ أَيْ عَنْ الضَّرَرِ وَفِي ذَلِكَ أَيْ فِي الْقَوْلِ بِصِحَّةِ عِبَارَتِهِ إذَا تَوَكَّلَ بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ تَوَصَّلَ إلَى دَرْكِ الْمَنَافِعِ مِنْ الْأَرْبَاحِ وَالْمَضَارِّ مِنْ الْغَبَنِ وَالْخُسْرَانِ وَاهْتِدَاءٍ فِي التِّجَارَةِ بِالتَّجْرِبَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْحَقَهُ ضَرَرٌ وَنُقْصَانٌ وَإِلَيْهِ أُشِيرَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6] أَيْ اخْتَبِرُوا عُقُولَهُمْ وَتَعَرَّفُوا أَحْوَالَهُمْ وَمَعْرِفَتَهُمْ بِالتَّصَرُّفِ قَبْلِ الْبُلُوغِ حَتَّى إذَا تَبَيَّنْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا أَيْ هِدَايَةً دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ عَنْ حَدِّ الْبُلُوغِ فَعُلِمَ أَنَّ اهْتِدَاءَهُ فِي التِّجَارَةِ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ وَنَفْعٌ مَحْضٌ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِصِحَّةِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الِاهْتِدَاءُ وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ عُهْدَةٌ إذَا لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا لِمَا سَنُبَيِّنُهُ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا عَدَمُ صِحَّةِ أَدَاءِ شَهَادَتِهِ مَعَ أَنَّ فِي ذَلِكَ تَصْحِيحَ عِبَارَتِهِ لِأَنَّ صِحَّةَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ الْكَامِلَةِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ إثْبَاتُ الْوِلَايَةِ عَلَى الْغَيْرِ فِي الْإِلْزَامِ بِغَيْرِ رِضَاءٍ وَبِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ الْكَامِلَةِ لَا نُثْبِتُ هَذِهِ الْوِلَايَةَ قَوْلُهُ. (فَأَمَّا مَا كَانَ ضَرَرًا مَحْضًا فَلَيْسَ بِمَشْرُوعٍ فِي حَقِّهِ) لِأَنَّ الصَّبِيَّ مَظِنَّةُ الْمَرْحَمَةِ

مَا خَلَا الْقَرْضَ فَإِنَّهُ مِلْكُ الْقَاضِي عَلَيْهِ لِأَنَّ صِيَانَةَ الْحُقُوقِ لَمَّا كَانَتْ بِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ انْقَلَبَ الْقَرْضُ بِحَالِ الْقَضَاءِ نَفْعًا مَحْضًا لَا يَشُوبُهُ مَضَرَّةٌ لِأَنَّ الْعَيْنَ غَيْرُ مَأْمُونِ الْعَطَبِ وَالدَّيْنَ مَأْمُونُ الْعَطَبِ إلَّا مِنْ قِبَلِ التَّوَى وَقَدْ وَقَعَ الْأَمْنُ عَنْهُ بِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ فَصَارَ مُلْحَقًا بِهَذَا الشَّرْطِ بِالْمَنَافِعِ الْخَالِصَةِ. وَأَمَّا مَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ مِثْلُ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاحْتِمَالِ وَمَلَكَهُ بِرَأْيِ الْوَلِيِّ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِحُكْمِهِ بِمُبَاشَرَةِ الْوَلِيِّ وَقَدْ صَارَ أَهْلًا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْمُبَاشَرَةُ فَإِذَا صَارَ أَهْلًا لِلْحُكْمِ كَانَ أَهْلًا لِلسَّبَبِ لَا مَحَالَةَ وَفِي الْقَوْلِ بِصِحَّةِ مُبَاشَرَتِهِ بِرَأْيِ الْوَلِيِّ أَصَابَهُ مِثْلُ مَا يُصَابُ بِمُبَاشَرَةِ الْوَلِيِّ لَا مَحَالَةَ مَعَ فَضْلِ نَفْعِ الْبَيَانِ وَتَوْسِيعِ طَرِيقِ الْإِصَابَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْإِشْفَاقِ لَا مَظِنَّةَ الْإِضْرَارِ بِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَلَمْ يَشْرَعْ فِي حَقِّهِ الْمَضَارَّ وَذَلِكَ أَيْ مَا هُوَ ضَرَرٌ مَحْضٌ مِثْلَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهَا ضَرَرٌ مَحْضٌ فِي الْعَاجِلِ بِإِزَالَةِ مِلْكِ النِّكَاحِ وَالرَّقَبَةِ وَالْعَيْنِ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَعُودُ إلَيْهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَمْلِكْ مُبَاشَرَةَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ أَيْ مَا هُوَ ضَرَرٌ مَحْضٌ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِثْلُ الْوَلِيِّ وَالْوَصِيِّ وَالْقَاضِي لِأَنَّ وِلَايَةَ هَؤُلَاءِ نَظَرِيَّةٌ وَلَيْسَ مِنْ النَّظَرِ إثْبَاتُ الْوِلَايَةِ فِيمَا هُوَ ضَرَرٌ مَحْضٌ فِي حَقِّهِ وَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ عَدَمِ شَرْعِيَّةِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي حَقِّهِ عَدَمَهَا عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ فَأَمَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ فَهُوَ مَشْرُوعٌ فَإِنَّ الْإِمَامَ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ زَعَمَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ أَصْلًا فِي حَقِّ الصَّبِيِّ حَتَّى إنَّ امْرَأَتَهُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ قَالَ وَهَذَا وَهْمٌ عِنْدِي فَإِنَّ الطَّلَاقَ يُمْلَكُ بِمِلْكِ النِّكَاحِ إذْ لَا ضَرَرَ فِي إثْبَاتِ أَصْلِ الْمِلْكِ وَإِنَّمَا الضَّرَرُ فِي الْإِيقَاعِ حَتَّى إذَا تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ إلَى صِحَّةِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ مِنْ جِهَتِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ كَانَ صَحِيحًا قَالَ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّا لَوْ أَثْبَتْنَا مِلْكَ الطَّلَاقِ فِي حَقِّهِ كَانَ خَالِيًا عَنْ حِكْمَةٍ وَهُوَ وِلَايَةُ الْإِيقَاعِ وَالسَّبَبُ الْخَالِي عَنْ حِكْمَةٍ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا كَبَيْعِ الْحُرِّ وَطَلَاقِ الْبَهِيمَةِ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ خُلُوَّهُ عَنْ حِكْمَةٍ إذْ الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ حَتَّى إذَا أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ وَعُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَأَبَى فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَكَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَإِذَا ارْتَدَّ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَكَانَ طَلَاقًا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا وَجَدَتْهُ امْرَأَتُهُ مَجْبُوبًا فَخَاصَمَتْهُ فِي ذَلِكَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَكَانَ طَلَاقًا عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَإِذَا كَاتَبَ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ نَصِيبَ الصَّغِيرِ مِنْ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَاسْتَوْفَى بَدَلَ الْكِتَابَةِ صَارَ الصَّبِيُّ مُعْتِقًا نَصِيبَهُ حَتَّى يَضْمَنَ قِيمَةَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَهَذَا الضَّمَانُ لَا يَجِبُ إلَّا بِالْإِعْتَاقِ فَيُكْتَفَى بِالْأَهْلِيَّةِ الْقَاصِرَةِ فِي جَعْلِهِ مُعْتِقًا لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الشَّرِيكِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْحُكْمَ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَأَمَّا بِدُونِ الْحَاجَةِ فَلَا يُجْعَلُ ثَابِتًا لِأَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِالْأَهْلِيَّةِ الْقَاصِرَةِ لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَى الصَّبِيِّ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا ضَرَرٌ مَحْضٌ قَوْلُهُ (مَا خَلَا الْقَرْضَ) أَيْ الْإِقْرَاضَ فَإِنَّ الْقَاضِي يَمْلِكُهُ عَلَى الصَّبِيِّ وَيُنْدَبُ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّ صِيَانَةَ الْحُقُوقِ لَمَّا كَانَتْ مُفَوَّضَةً إلَى الْقُضَاةِ انْقَلَبَ الْقَرْضُ بِحَالِ الْقَضَاءِ نَفْعًا مَحْضًا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَرْضَ قَطْعُ الْمِلْكِ عَنْ الْعَيْنِ بِبَدَلٍ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ إذْ الِاسْتِقْرَاضُ فِي الْعَادَاتِ مِمَّنْ هُوَ فَقِيرٌ غَيْرُ مَلِيٍّ وَلِهَذَا حَلَّ مَحَلَّ الصَّدَقَةِ وَزَادَ عَلَيْهَا فِي الثَّوَابِ لِزِيَادَةِ الْحَاجَةِ فَأَشْبَهَ التَّبَرُّعَ بِمَنْزِلَةِ الْعِتْقِ عَلَى مَالٍ فَلَا يَمْلِكُهُ مِنْ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ وَالْعِتْقَ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُهُ الْوَصِيُّ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ صَحَّ مِنْ الْقَاضِي وَصَارَ هُوَ مَنْدُوبًا إلَيْهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ بِوَاسِطَةِ وِلَايَةِ الْقَاضِي يَعْدِلُ الْعَيْنَ وَزِيَادَةً لِأَنَّ الْقَاضِيَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَطْلُبَ مَلِيئًا عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ وَيُقْرِضَهُ مَالَ الْيَتِيمِ كَمَا يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ وَالْبَدَلُ مَأْمُونٌ عَنْ التَّوَى بِاعْتِبَارِ الْمَلَاءِ وَبِاعْتِبَارِ عِلْمِ الْقَاضِي وَإِمْكَانِ تَحْصِيلِهِ الْمَالَ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى دَعْوَى وَبَيِّنَةٍ فَكَانَ مَصُونًا عَنْ التَّلَفِ فَوْقَ صِيَانَةِ الْعَيْنِ فَإِنَّ الْعَيْنَ يَعْرِضُ التَّلَفَ بِأَسْبَابٍ غَيْرِ مَحْصُورَةٍ. فَصَارَ الْقَرْضُ مُلْحَقًا بِهَذَا الشَّرْطِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُقْرِضُ قَادِرًا عَلَى تَحْصِيلِهِ بِالْمَنَافِعِ الْخَالِصَةِ فَلِذَلِكَ كَانَ الْقَرْضُ

وَذَلِكَ بِطَرِيقِ أَنَّ احْتِمَالَ الضَّرَرِ فِي التَّصَرُّفِ يَزُولُ بِرَأْيِ الْوَلِيِّ حَتَّى يَجْعَلَ الصَّبِيَّ كَالْبَالِغِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَلَا يَرَى أَنَّهُ صَحَّحَ بَيْعَهُ بِغَبَنٍ فَاحِشٍ مِنْ الْأَجَانِبِ وَالْوَلِيُّ لَا يَمْلِكُهُ وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ نُقْصَانَ رَأْيِهِ جُبِرَ بِرَأْيِ الْوَلِيِّ فَصَارَ كَالْبَالِغِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بِطَرِيقِ أَنَّ رَأْيَ الْوَلِيِّ شَرْطٌ لِلْجَوَازِ وَعُمُومِ رَأْيِهِ لِخُصُوصِهِ فَجُعِلَ كَأَنَّ الْوَلِيَّ بَاشَرَ بِنَفْسِهِ وَلِذَلِكَ قَالَا لَا يَمْلِكُهُ بِالْغَبَنِ الْفَاحِشِ مَعَ الْأَجَانِبِ وَمَعَ الْوَلِيِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQنَظَرًا مِنْ الْقَاضِي فَيَمْلِكُهُ عَلَى الصَّبِيِّ وَضَرَرًا مِنْ الْوَصِيِّ لِتَرَجُّحِ جِهَةِ التَّبَرُّعِ فِي حَقِّهِ فَلَا يَمْلِكُهُ وَالْأَبُ فِي رِوَايَةٍ يَمْلِكُهُ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَالِ وَالنَّفْسِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَمْلِكُهُ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَالِ مِنْ الْمُسْتَقْرِضِ بِنَفْسِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيِّ فَأَمَّا الِاسْتِقْرَاضُ فَقَدْ ذَكَرَ فِي شَرْحِ قَضَاءِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِي خَانْ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْأَبَ لَوْ أَخَذَ مَالَ الصَّغِيرِ قَرْضًا جَازَ لِأَنَّهُ لَا يَهْلَكُ عَلَيْهِ وَالْوَصِيُّ لَوْ أَخَذَ مَالَ الْيَتِيمِ قَرْضًا لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا بَأْسَ بِهِ إذَا كَانَ مَلِيئًا قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ وَذَكَرَ فِي أَحْكَامِ الصِّغَارِ نَقْلًا عَنْ الْمُنْتَقَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَقْرِضَ مَالَ الْيَتِيمِ وَالْغَائِبِ بِنَفْسِهِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا مَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ) يَعْنِي يَحْتَمِلُ أَنْ يَقَعَ نَفْعًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضَرَرًا مِثْلَ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ رَابِحًا كَانَ نَفْعًا وَإِنْ كَانَ خَاسِرًا كَانَ ضَرَرًا. وَكَذَا الْإِجَارَةُ وَالنِّكَاحُ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنْ كَانَ بِأَقَلَّ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ أَوْ مَهْرِ الْمِثْلِ يَكُونُ نَفْعًا فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُتَزَوِّجِ وَإِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ أَوْ مَهْرِ الْمِثْلِ كَانَ ضَرَرًا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِثْلَ الشَّرِكَةِ وَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ وَالْإِقْرَارِ بِالْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ وَالرَّهْنِ فَإِنَّهُ أَيْ الصَّبِيَّ لَا يَمْلِكُهُ أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ أَوْ مَا هُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ بِنَفْسِهِ لِمَا فِيهِ أَيْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَوْ فِيمَا هُوَ مُتَرَدِّدٌ مِنْ احْتِمَالِ الضَّرَرِ فَيَمْلِكُهُ بِرَأْيِ الْوَلِيِّ أَيْ بِإِجَازَتِهِ وَإِذْنِهِ لِأَنَّ الصَّبِيَّ أَهْلٌ لِحُكْمِهِ بِمُبَاشَرَةِ الْوَلِيِّ حَتَّى يَثْبُتَ لَهُ حُكْمُ التَّصَرُّفِ مِنْ مِلْكِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ وَالْأُجْرَةِ وَالْمَهْرِ لَا لِلْوَلِيِّ وَقَدْ صَارَ الصَّبِيُّ أَهْلًا لِمُبَاشَرَةِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ بِوُجُودِ أَصْلِ الْعَقْلِ حَتَّى صَحَّ مِنْهُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ لِغَيْرِهِ وَإِذَا صَارَ أَهْلًا لِلْحُكْمِ كَانَ أَهْلًا لِسَبَبِهِ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ الْأَسْبَابَ إنَّمَا يَعْتَبِرُ لِأَحْكَامِهَا لَا لِذَوَاتِهَا وَامْتِنَاعُ الصِّحَّةِ كَانَ لِمَعْنَى الضَّرَرِ فَإِذَا انْدَفَعَ تَوَهُّمُ الضَّرَرِ بِرَأْيِ الْوَلِيِّ لِتَحَقُّقِ هَذَا الْقِسْمِ بِمَا يَتَمَحَّضُ نَفْعًا فَيَكُونُ لِلصَّبِيِّ فِيهِ عِبَارَةٌ صَحِيحَةٌ وَفِي الْقَوْلِ بِصِحَّةِ مُبَاشَرَةِ الصَّبِيِّ بِرَأْيِ الْوَلِيِّ إصَابَةً مِثْلُ مَا يُصَابُ بِمُبَاشَرَةِ الْوَلِيِّ مِنْ النَّفْعِ مَعَ فَضْلِ نَفْعِ الْبَيَانِ لِأَنَّ فِي تَصْحِيحِ عِبَارَتِهِ نَوْعَ نَفْعٍ لَا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ النَّفْعُ بِمُبَاشَرَةِ الْوَلِيِّ وَتَوَسَّعَ طَرِيقُ الْإِصَابَةِ أَيْ اتَّسَعَ لَهُ طَرِيقُ تَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ التَّصَرُّفِ تَحْصُلُ لَهُ بِمُبَاشَرَتِهِ وَبِمُبَاشَرَةِ وَلِيِّهِ وَذَلِكَ أَنْفَعُ لَهُ مِنْ أَنْ يُسَدَّ عَلَيْهِ أَحَدُ الْبَاقِينَ وَيُجْعَلَ لِتَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ لَهُ طَرِيقٌ وَاحِدٌ وَذَلِكَ أَيْ جَوَازُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِنْهُ عِنْدَ انْضِمَامِ رَأْيِ الْوَلِيِّ إلَى رَأْيِهِ بِطَرِيقَيْنِ أَحَدِهِمَا وَهُوَ مُخْتَارُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ قُصُورَ رَأْيِهِ لَمَّا انْدَفَعَ بِرَأْيِ الْوَلِيِّ الْتَحَقَ الصَّبِيُّ بِالْبَالِغِ أَوْ صَارَ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا انْدَفَعَ ذَلِكَ بِكَمَالِ رَأْيِهِ بِالْبُلُوغِ فَنَفَذَ بَيْعُهُ مِنْ الْأَجَانِبِ بِغَبَنٍ فَاحِشٍ كَمَا يَنْفُذُ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْبَالِغِينَ أَوْ كَمَا يَنْفُذُ مِنْهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَإِنْ كَانَ لَا يَنْفُذُ ذَلِكَ مِنْ الْوَلِيِّ. وَالثَّانِي وَهُوَ مُخْتَارُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نُفُوذُ تَصَرُّفِهِ لَمَّا كَانَ بِاعْتِبَارِ رَأْيِ الْوَلِيِّ فَإِنَّ انْضِمَامَ رَأْيِهِ إلَى رَأْيِ الصَّبِيِّ شَرْطٌ جَوَّزَ تَصَرُّفَهُ يُعْتَبَرُ رَأْيُهُ الْعَامُّ بِرَأْيِهِ الْخَاصِّ وَهُوَ مَا إذَا بَاشَرَ التَّصَرُّفَ مِنْ الْوَلِيِّ بِالْغَبَنِ الْفَاحِشِ لَا يَنْفُذُ بِمُبَاشَرَةِ الصَّبِيِّ بَعْدَ إذْنِ الْوَلِيِّ لَهُ وَمَعْنَى عُمُومِ رَأْيِ الْوَلِيِّ وَخُصُوصِهِ أَنَّهُ إذَا بَاشَرَ بِنَفْسِهِ كَانَ رَأْيُهُ مُخْتَصًّا بِهِ لِتَصَرُّفِهِ

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي التَّصَرُّفِ مَعَ الْوَلِيِّ رِوَايَتَانِ فِي الْغَبَنِ الْفَاحِشِ فِي رِوَايَةٍ أَجَازَ لِمَا قُلْنَا وَفِي رِوَايَةٍ أَبْطَلَهُ بِشَرْطِ النِّيَابَةِ وَذَلِكَ أَنَّهُ فِي الْمِلْكِ أَصِيلٌ وَفِي الرَّأْيِ أَصِيلٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ أَلَا يَرَى أَنَّ لَهُ أَصْلَ الرَّأْيِ دُونَ وَصْفِهِ فَيَثْبُتُ شُبْهَةُ النِّيَابَةِ فَاعْتُبِرَتْ فِي مَوْضِعِ التُّهْمَةِ وَسَقَطَتْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التُّهْمَةِ، وَعَلَى هَذَا قُلْنَا فِي الْمَحْجُورِ إذَا تَوَكَّلَ لَمْ يُلْزَمْ الْعُهْدَةَ وَبِإِذْنِ الْوَلِيِّ يَلْزَمُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQبِرَأْيِ نَفْسِهِ وَإِذَا تَصَرَّفَ الصَّبِيُّ بِرَأْيِهِ كَانَ رَأْيُهُ عَامًّا لِتَعَدِّيهِ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ وَانْضِمَامِ رَأْيِ الصَّبِيِّ إلَى رَأْيِهِ كَذَا قِيلَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ عُمُومِ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لِلصَّبِيِّ فِي التِّجَارَةِ إذْنًا عَامًّا دَخَلَ كُلُّ تَصَرُّفٍ صَدَرَ مِنْهُ تَحْتَ عُمُومِ رَأْيِهِ وَوُجِدَ رَأْيُهُ الْعَامُّ فِيهِ وَإِذَا بَاشَرَ بِنَفْسِهِ كَانَ رَأْيُهُ خَاصًّا وَالْفِقْهُ فِيهِ أَنَّ الْغَبَنَ الْفَاحِشَ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ فَإِنَّ مَنْ لَا يَمْلِكُ الْهِبَةَ كَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ فِي مَالِ الصَّغِيرِ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ بِالْغَبَنِ الْفَاحِشِ وَلَوْ حَصَلَ مِنْ الْمَرِيضِ يَعْتَبِرُ مِنْ الثُّلُثِ كَالْهِبَةِ ثُمَّ الصَّبِيُّ لَا يَمْلِكُ الْهِبَةَ بِالْإِذْنِ فَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ بِالْغَبَنِ الْفَاحِشِ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ كَالْهِبَةِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ لَا يَنْفُذُ مِنْ الْوَلِيِّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الصَّبِيِّ وَإِذْنُهُ لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ لَا لِلْإِضْرَارِ بِهِ فَحَالُهُ فِيمَا يَلْحَقُ الضَّرَرُ بِهِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ بَعْدَ الْإِذْنِ كَحَالِهِ قَبْلَهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ التَّصَرُّفُ بِالْغَبَنِ الْفَاحِشِ تِجَارَةٌ وَمُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ وَلِهَذَا يَجِبُ بِهِ الشُّفْعَةُ لِلشَّفِيعِ فِي الْكُلِّ فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْإِذْنِ. بِخِلَافِ الْهِبَةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِتِجَارَةٍ بِخِلَافِ الْوَلِيِّ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ وِلَايَةُ التِّجَارَةِ فِي مَالِ الصَّغِيرِ مُطْلَقَةً بَلْ مُقَيَّدَةً بِشَرْطِ الْأَحْسَنِ وَالْأَصْلَحِ لَا يَبْدُو أَنْ لَا يَصِحَّ التَّصَرُّفُ مِنْ الْوَلِيِّ وَيَصِحَّ ذَلِكَ مِنْ الصَّبِيِّ كَالْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ أَوْ بِالْعَيْنِ وَالْعَقْدُ بِالْغَبَنِ الْفَاحِشِ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ فَإِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ اسْتِجْلَابَ قُلُوبِ الْمُجَاهِزِينَ لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِمْ مِنْ الرِّبْحِ فِي تَصَرُّفَاتٍ أُخَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَانَ هَذَا وَالْغَبَنُ الْيَسِيرُ سَوَاءً وَبِأَنْ كَانَ يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ مِنْ الثُّلُثِ لِعَدَمِ الرِّضَاءِ مِنْ غُرَمَائِهِ وَوَرَثَتِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ مِنْ الْمَأْذُونِ كَالْغَبَنِ الْيَسِيرِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَصَرُّفِ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ مَعَ الْوَلِيِّ بِغَبَنٍ فَاحِشٍ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ أَجَازَهُ لِمَا قُلْنَا أَنَّهُ صَارَ كَالْبَالِغِ بِانْضِمَامِ رَأْيِ وَلِيِّهِ إلَى رَأْيِهِ فَلَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُعَامَلَتُهُ مَعَ أَجْنَبِيٍّ أَوْ مَعَ وَلِيِّهِ وَهَذَا لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ لَا أَنْ يَكُونَ نَائِبًا عَنْ وَلِيِّهِ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى رَدَّهُ أَيْ التَّصَرُّفَ بِغَبَنٍ فَاحِشٍ مَعَ الْوَلِيِّ لِشُبْهَةِ النِّيَابَةِ وَذَلِكَ أَيْ بَيَانُ الشُّبْهَةِ أَنَّ الصَّبِيَّ فِي الْمِلْكِ أَصِيلٌ لِأَنَّهُ مَالِكٌ حَقِيقَةً وَأَصْلُ الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ ثَابِتٌ لَهُ فَيُشْبِهُ تَصَرُّفُهُ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَيُشْبِهُ تَصَرُّفَ الْوُكَلَاءِ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِي رَأْيِهِ خَلَلًا وَيُجْبَرُ ذَلِكَ بِرَأْيِ الْوَلِيِّ فَتَثْبُتُ شُبْهَةُ النِّيَابَةِ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ نَظَرًا إلَى الْوَصْفِ فَاعْتُبِرَتْ شُبْهَةُ النِّيَابَةِ فِي مَوْضِعِ التُّهْمَةِ وَهُوَ التَّصَرُّفُ مَعَ الْوَلِيِّ إذْ يَتَمَكَّنُ فِيهِ تُهْمَةُ أَنَّ الْوَلِيَّ إنَّمَا أَذِنَ لَهُ لِيَحْصُلَ مَقْصُودُهُ وَلَمْ يَقْصِدْ بِالْإِذْنِ النَّظَرَ لِلصَّبِيِّ فَكَمَا لَا يَبِيعُ الْوَلِيُّ مَالَهُ مِنْ نَفْسِهِ بِغَبَنٍ فَاحِشٍ لَا يَبِيعُهُ الصَّبِيُّ مِنْهُ بِغَبَنٍ فَاحِشٍ وَسَقَطَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التُّهْمَةِ وَهُوَ التَّصَرُّفُ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ وَمَعَ الْوَلِيِّ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ نَظَرًا إلَى الْأَصْلِ. قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَعْضِ تَصَانِيفِهِ لَمَّا تَحَقَّقَ فِي تَصَرُّفِ الصَّبِيِّ شُبْهَةُ الْوَكَالَةِ اعْتَبَرْنَاهَا فِي حَقِّ الْوَلِيِّ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ عَقْدٌ خَاصٌّ فَيُعْتَبَرُ فِي مَحَلِّ التَّخْصِيصِ وَاعْتَبَرْنَا جِهَةَ الْمِلْكِ فِي حَقِّ سَائِرِ النَّاسِ لِأَنَّ مَبْنَى الْمِلْكِ عَلَى الْعُمُومِ فَاعْتَبَرْنَاهُ فِي مَحَلِّ الْعُمُومِ قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ) وَهُوَ أَنَّ مَا فِيهِ احْتِمَالَ ضَرَرٍ لَا يَتَمَلَّكُهُ الصَّبِيُّ بِنَفْسِهِ وَيَتَمَلَّكُهُ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ قُلْنَا فِي الْمَحْجُورِ أَيْ الصَّبِيِّ الْمَحْجُورِ إذَا تَوَكَّلَ أَيْ قَبِلَ الْوَكَالَةِ أَوْ تَوَلَّى الْوَكَالَةَ لِغَيْرِهِ لَمْ تَلْزَمْهُ الْعُهْدَةُ أَيْ الْأَحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْوَكَالَةِ مِنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ وَالْخُصُومَةِ

وَأَمَّا إذَا أَوْصَى الصَّبِيُّ بِشَيْءٍ مِنْ وَصَايَا الْبِرِّ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ عِنْدَنَا وَإِنْ كَانَ فِيهَا نَفْعٌ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْإِرْثَ شُرِعَ نَفْعًا لِلْمُوَرِّثِ أَلَا يَرَى أَنَّهُ شُرِعَ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ وَفِي الِانْتِقَالِ إلَى الْإِيصَاءِ تُرِكَ الْأَفْضَلُ لَا مَحَالَةَ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي الْعَيْبِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّ فِي إلْزَامِهَا مَعْنَى الضَّرَرِ وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ بِالْأَهْلِيَّةِ الْقَاصِرَةِ وَبِإِذْنِ الْوَلِيِّ تَلْزَمُهُ لِأَنَّ قُصُورَ رَأْيِهِ انْدَفَعَ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ فَصَارَ أَهْلًا لِلُزُومِ الْعُهْدَةِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَبِإِذْنِ الْمَوْلَى تَلْزَمُهُ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ الْمَحْجُورِ عَلَى هَذِهِ النُّسْخَةِ الْعَبْدَ الْمَحْجُورَ وَحُكْمُهُ وَإِنْ كَانَ حُكْمُ الصَّبِيِّ فِيمَا ذَكَرْنَا حَتَّى صَحَّ تَوَكُّلُهُ بِدُونِ إذْنِ الْمَوْلَى بِاعْتِبَارِ كَمَالِ عَقْلِهِ وَلَمْ تَلْزَمْهُ الْعُهْدَةُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمَوْلَى وَبِإِذْنِ الْمَوْلَى تَلْزَمُهُ لِالْتِزَامِ الْمَوْلَى الضَّرَرَ بِالْإِذْنِ لَكِنْ بِنَاءُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِأَنْ يُفَسَّرَ الْأَصْلُ بِمَعْنًى آخَرَ يَسْتَقِيمُ تَخْرِيجُهَا عَلَيْهِ وَلَا يَخْلُو عَنْ تَمَحُّلٍ فَتَكُونُ النُّسْخَةُ الْأُولَى أَظْهَرَ. قَوْلُهُ (مِنْ وَصَايَا الْبِرِّ) لَيْسَ بِقَيْدٍ فَإِنَّ وَصِيَّتَهُ بَاطِلَةٌ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْبِرِّ أَوْ لَمْ تَكُنْ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْخِلَافُ فِي وَصَايَا فِي الْبِرِّ دُونَ غَيْرِهَا عَيَّنَ هَذِهِ الصُّورَةَ لِيُمْكِنَهُ الْإِشَارَةُ إلَى الْخِلَافِ بِقَوْلِهِ عِنْدَنَا وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَصِيَّةِ الصَّبِيِّ فَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يُجَوِّزُونَ مِنْ وَصَايَاهُ مَا وَافَقَ الْحَقَّ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ نَفْعٌ مَحْضٌ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ الثَّوَابُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ بَعْدَمَا اسْتَغْنَى عَنْ الْمَالِ نَفْسِهِ بِالْمَوْتِ لِأَنَّ أَوَانَ نُفُوذِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ بِغَيْرِهِ فَكَانَ وَلِيًّا فِيهَا بِنَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا نَفْعًا مَحْضًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ وَالصَّبِيُّ فِي الْإِرْثِ عَنْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ يُسَاوِي الْبَالِغَ فَكَذَا فِي الْوَصِيَّةِ بِخِلَافِ تَبَرُّعِهِ بِالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ فِي حَالِ حَاجَتِهِ وَبِخِلَافِ إيمَانِهِ بِنَفْسِهِ حَيْثُ لَا يَصِحُّ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ بِغَيْرِهِ وَهُوَ الْوَلِيُّ فَلَا يَكُونُ فِيهِ وَلِيًّا بِنَفْسِهِ كَيْفَ وَقَدْ أَجَازَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَصِيَّةَ غُلَامِ نَافِعٍ وَهُوَ الَّذِي قَارَبَ الْبُلُوغَ وَلَمْ يَبْلُغْ وَسُئِلَ شُرَيْحٌ عَنْ وَصِيَّةِ غُلَامٍ لَمْ يَبْلُغْ فَقَالَ إنْ أَصَابَ الْوَصِيَّةَ فَهِيَ جَائِزَةٌ وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ الشَّعْبِيِّ. وَعِنْدَنَا وَصِيَّتُهُ بَاطِلَةٌ سَوَاءٌ مَاتَ قَبْلَ الْبُلُوغِ أَوْ بَعْدَهُ لِأَنَّهَا إزَالَةُ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ مُضَافَةً إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَكُونُ ضَرَرًا مَحْضًا فِي الْأَصْلِ فَتُعْتَبَرُ بِإِزَالَتِهِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَلَا تَصِحُّ وَمَا فِيهَا مِنْ النَّفْعِ حَصَلَ بِاتِّفَاقِ الْحَالِ وَهُوَ أَنَّهَا حَالَةُ الْمَوْتِ فَيَزُولُ عَنْهُ الْمِلْكُ لَوْ لَمْ يُوصِ وَمَا يَنْقَلِبُ نَفْعًا بِاتِّفَاقِ الْحَالِ لَا يُعْتَبَرُ. كَمَا لَوْ بَاعَ شَاةً أَشْرَفَتْ عَلَى الْهَلَاكِ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ مَعَ أَنَّهُ نَفْعٌ مَحْضٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إذْ لَوْ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ يَزُولُ مِلْكُهُ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَلَكِنَّ النَّفْعَ فِي أَصْلِهِ لَمَّا تَضَمَّنَ ضَرَرًا لَمْ يَصِحَّ وَكَمَا لَوْ بَاعَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ بِأَضْعَافِ قِيمَتِهِ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ انْقَلَبَ نَفْعًا بِاتِّفَاقِ الْحَالِ وَكَمَا لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْمُعْسِرَةَ الشَّوْهَاءَ لِيَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا الْمُعْسِرَةَ الْحَسْنَاءَ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ انْقَلَبَ الطَّلَاقُ نَفْعًا مَحْضًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِأَنَّ أَصْلَ التَّصْرِيفِ مِنْ الْمَضَارِّ وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ حَرَجًا فَيُعْتَبَرُ فِي كُلِّ بَابٍ أَصْلُهُ تَيْسِيرًا لِلْأَمْرِ عَلَى النَّاسِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ فِي إيصَائِهِ نَفْعًا مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ وَهُوَ حُصُولُ الثَّوَابِ فَفِي الْقَوْلِ بِصِحَّتِهِ تَرْكُ نَفْعٍ أَعْلَى مِنْهُ لِأَنَّ الْإِرْثَ شُرِعَ نَفْعًا لِلْمُوَرِّثِ فَإِنَّ نَقْلَ مِلْكِهِ إلَى أَقَارِبِهِ عِنْدَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ يَكُونُ أَوْلَى عِنْدَهُ مِنْ النَّقْلِ إلَى الْأَجَانِبِ وَهُوَ أَفْضَلُ شَرْعًا لِأَنَّهُ إيصَالُ النَّفْعِ إلَى الْقَرِيبِ وَصِلَةٌ لِلرَّحِمِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِقَوْلِهِ لِسَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «لَأَنْ تَدَعَ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» أَيْ خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تَتْرُكَهُمْ فُقَرَاءَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ أَكُفَّهُمْ وَإِنَّهُ بِالِانْتِقَالِ إلَى

إلَّا أَنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ الْبَالِغِ كَمَا شُرِعَ لَهُ الطَّلَاقُ فِي النِّكَاحِ وَلَمْ يُشْرَعْ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ فَكَذَلِكَ هَذَا. وَلِذَلِكَ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَيَّرَ الصَّبِيُّ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ، وَالْغَالِبُ مِنْ حَالِهِ الْمَيْلُ إلَى الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ وَالْوَلِيُّ فِي مَوْضِعِ النِّزَاعِ لَيْسَ بِوَلِيٍّ فَبَطَلَ اخْتِيَارُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْإِيصَاءِ تَرَكَ هَذَا الْأَفْضَلَ وَهُوَ ضَرَرٌ لَا مَحَالَةَ فَلَا يَكُونُ مَشْرُوعًا فِي حَقِّهِ إلَّا أَنَّهُ أَيْ الْإِيصَاءَ كَذَا جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ كَانَ الْإِيصَاءُ ضَرَرًا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ مَشْرُوعًا فِي حَقِّ الْبَالِغِ فَقَالَ إنَّمَا شُرِعَ فِي حَقِّهِ لِأَنَّ أَهْلِيَّتَهُ كَامِلَةٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَشْرَعَ فِي حَقِّهِ الْمَضَارَّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ شَرَعَ فِي حَقِّ الْبَالِغِ الطَّلَاقَ وَلَمْ يَشْرَعْ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ لِقُصُورِ أَهْلِيَّتِهِ فَكَذَلِكَ هَذَا أَيْ فَكَالطَّلَاقِ الْإِيصَاءُ يَكُونُ مَشْرُوعًا فِي حَقِّ الْبَالِغِ دُونَ الصَّبِيِّ. وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْغُلَامَ مَا كَانَ بَالِغًا وَلَكِنَّهُ كَانَ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِالْبُلُوغِ وَمِثْلُهُ يُسَمَّى يَافِعًا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَقَوْلُ شُرَيْحٍ وَالشَّعْبِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِأَنَّهُمَا مِنْ التَّابِعِينَ دُونَ الصَّحَابَةِ. قَوْلُهُ (وَلِذَلِكَ) أَيْ وَلِأَنَّ مَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ لَا يَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ بِنَفْسِهِ قُلْنَا كَذَا إذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَبَيْنَهُمَا وَلَدٌ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَقُّ الْحَضَانَةِ لِلْأُمِّ إلَى سَبْعِ سِنِينَ ثُمَّ يُخَيَّرُ الْوَلَدُ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ فَأَيُّهُمَا اخْتَارَهُ يَكُونُ عِنْدَهُ سَوَاءٌ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيَّرَ غُلَامًا بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ» وَعَنْ عُمَارَةَ الْجَرْمِيِّ قَالَ خَيَّرَنِي عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَيْنَ عَمِّي وَأُمِّي وَكُنْت ابْنَ سَبْعِ سِنِينَ أَوْ ثَمَانِي سِنِينَ وَلِأَنَّ الْمُقَامَ مَعَ الَّذِي اخْتَارَهُ الصَّبِيُّ نَفْعٌ مَحْضٌ لَهُ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَكُونُ أَشْفَقَ عَلَيْهِ وَأَرْفَقَ بِهِ وَأَنَّهُ يَخْتَارُ الْمُقَامَ مَعَهُ فَيَكُونُ مَنْفَعَةً مَحْضَةً فِي حَقِّهِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَوْلًى عَلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ فَيَكُونُ وَلِيًّا بِنَفْسِهِ وَعِنْدَنَا إنْ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا فَحَقُّ الْحَضَانَةِ لِلْأُمِّ إلَى أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا بِأَنْ يَأْكُلَ وَحْدَهُ وَيَشْرَبَ وَحْدَهُ وَيَلْبَسَ وَحْدَهُ وَيَسْتَنْجِيَ وَحْدَهُ ثُمَّ يُدْفَعُ إلَى الْأَبِ وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَالْأُمُّ أَحَقُّ بِهَا إلَى أَنْ تَحِيضَ ثُمَّ تُدْفَعُ إلَى الْأَبِ وَلَا يُخَيَّرُ بِوَجْهٍ وَلَا تُعْتَبَرُ عِبَارَتُهُ فِيهِ شَرْعًا لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ بَلْ جَانِبُ الضَّرَرِ فِيهِ مُتَعَيِّنٌ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِهِ الْمَيْلُ إلَى الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ فَيَخْتَارُ مَنْ يَدَعُهُ يَلْعَبُ وَلَا يُؤَاخِذُهُ بِالْآدَابِ وَيَتْرُكُهُ خَلِيعَ الْعِذَارِ لِقِلَّةِ نَظَرِهِ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ. وَلَا يُقَالُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ الضَّرَرُ بِفِعْلِ ذَلِكَ الْغَيْرِ لَا بِاخْتِيَارِهِ لِأَنَّا نَقُولُ اخْتِيَارُهُ عِلَّةَ الْعِلَّةِ فَتَصِيرُ الْأَخِيرَةُ مُضَافَةً مَعَ حُكْمِهَا إلَى الْأُولَى كَمَا فِي شِرَاءِ الْقَرِيبِ وَالْوَلِيُّ فِي مَوْضِعِ النِّزَاعِ لَيْسَ بِوَلِيٍّ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ قَدْ يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ اخْتِيَارُهُ إذَا رَضِيَ الْوَلِيُّ بِذَلِكَ كَمَا فِي الْبَيْعِ فَقَالَ لَا يُعْتَبَرُ اخْتِيَارُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّ هَذَا مَوْضِعُ نِزَاعِهِ الْأُمَّ وَأَنَّهُ فِي هَذَا الِاخْتِيَارِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فَلَا يَصْلُحُ عَامِلًا لِلصَّبِيِّ وَنَاظِرًا لَهُ فَلَا يَكُونُ وَلِيًّا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ قَوْلُ الصَّبِيِّ فِي ذَلِكَ وَلَا قَوْلُ أَبِيهِ كَمَا إذَا كَانَ فِي رَهْنِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ صِبْيَانٌ فَأَسْلَمُوا ثُمَّ رَضُوا بِرَدِّهِمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِاسْتِرْدَادِ رَهْنِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ لَا تُعْتَبَرُ رِضَاهُمْ فِي ذَلِكَ وَلَا رِضَاءُ آبَائِهِمْ وَلَا يُرَدُّونَ بِخِلَافِ الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ فَهَذَا نَوْعُ اخْتِيَارٍ مِنْهُ ثُمَّ لَا تُعْتَبَرُ عِبَارَتُهُ فِيهِ وَلَا عِبَارَةُ وَلِيِّهِ لِأَنَّهُ يُبْتَنَى عَلَى الْأَهْلِيَّةِ الْكَامِلَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّصَرُّفِ الَّذِي يَتَمَحَّضُ ضَرَرًا فَإِنْ قِيلَ إذَا أَقَرَّ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ عَلَى نَفْسِهِ بِالرِّقِّ وَهُوَ مَجْهُولُ الْحَالِ يَصِحُّ إقْرَارُهُ وَفِيهِ اعْتِبَارُ عِبَارَتِهِ فِيمَا يَتَمَحَّضُ ضَرَرًا فِي حَقِّهِ وَهُوَ إبْطَالُ الْحُرِّيَّةِ وَتَبَدُّلُ صِفَةُ الْمَالِكِيَّةِ بِالْمَمْلُوكِيَّةِ. قُلْنَا ثُبُوتُ الرِّقِّ هَا هُنَا لَيْسَ بِعِبَارَتِهِ وَلَكِنْ بِدَعْوَى ذِي الْيَدِ أَنَّهُ عَبْدِي لِأَنَّ عِنْدَ مُعَارَضَتِهِ إيَّاهُ بِدَعْوَى الْحُرِّيَّةِ لَا يَتَقَرَّرُ يَدُهُ عَلَيْهِ

وَقَدْ خَالَفَنَا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ خِلَافًا مُتَنَاقِضًا لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ وَكَفَى بِهِ حُجَّةً عَلَيْهِ وَلَمْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِهِ لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ بِصِحَّةِ كَثِيرٍ مِنْ عِبَارَاتِهِ فِي اخْتِيَارِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ وَفِي الْإِيصَاءِ وَفِي الْعِبَادَاتِ وَقَالَ بِلُزُومِ الْإِحْرَامِ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ وَأَبْطَلَ الْإِيمَانَ وَهُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ وَلَيْسَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْأَشْيَاءِ مَوْضُوعًا، وَهُوَ أَنَّ مَنْ كَانَ مُولَيًا عَلَيْهِ لَمْ يَصْلُحْ وَلِيًّا لِأَنَّ أَحَدَهُمَا سِمَةُ الْعَجْزِ وَالْبَاقِيَ آيَةُ الْقُدْرَةِ وَهُمَا مُتَضَادَّانِ فَأَجْرَى هَذَا الْأَصْلُ فِي الْفُرُوعِ فَطَرَدَهُ لِأَفْقَهِ مَعْقُولٍ فَقَالَ يَصِحُّ اخْتِيَارُ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ وَلَا يَصِحُّ اخْتِيَارُ الْوَلِيِّ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قَبُولُ الْهِبَةِ فِي قَوْلٍ صَحِيحٌ مِنْهُ دُونَ الْوَلِيِّ وَفِي قَوْلٍ عَكْسُهُ وَلَا فِقْهَ فِيهِ لِأَنَّهُ بَنَى الْأَمْرَ عَلَى دَلِيلِ الصِّحَّةِ وَالْعَدَمِ مِنْ الصَّبِيِّ وَعِنْدَنَا لَمَّا كَانَ قَاصِرَ الْأَهْلِيَّةِ صَلُحَ مُولَيًا عَلَيْهِ وَلَمَّا كَانَ صَاحِبَ أَصْلِ الْأَهْلِيَّةِ صَلُحَ وَلِيًّا ـــــــــــــــــــــــــــــQوَعِنْدَ عَدَمِ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ يَتَقَرَّرُ يَدُهُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي رِقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ فَقَالَ هُوَ عَبْدِي أَوْ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ إنَّمَا تَثْبُتُ لَهُ إذَا ادَّعَى الْحُرِّيَّةَ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ بِإِقْرَارِهِ بِالرِّقِّ مُدَّعِيًا لِلْحُرِّيَّةِ بِوَجْهٍ فَكَانَ هَذَا نَظِيرَ مَا قُلْنَا فِي صِحَّةِ رِدَّتِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَعَ جَهْلِهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ عَالِمًا بِهِ حَتَّى يَكُونَ مَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِ كَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَالْجَوَابُ عَمَّا رُوِيَ مِنْ الْخَبَرِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا لِذَلِكَ الْغُلَامِ فَقَالَ اللَّهُمَّ سَدِّدْهُ» فَبِبَرَكَةِ دُعَائِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اخْتَارَ مَا هُوَ الْأَنْفَعُ لَهُ وَلَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ قَوْلُهُ (وَقَدْ خَالَفَنَا الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ) أَيْ: جُمْلَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحْكَامِ خِلَافًا مُتَنَاقِضًا ثُمَّ بَيَّنَ التَّنَاقُضَ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ بِصِحَّةِ كَثِيرٍ مِنْ عِبَارَاتِهِ فِي اخْتِيَارِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ وَفِي الْإِيصَاءِ كَمَا بَيَّنَّا وَفِي الْعِبَادَاتِ حَيْثُ قَالَ بِصِحَّةِ صَلَاةِ الصَّبِيِّ وَصِحَّتُهَا مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى صِحَّةِ الْعِبَارَةِ فَإِنَّ التَّحْرِيمَةَ تَنْعَقِدُ بِالْعِبَارَةِ وَالْقِرَاءَةُ وَالْأَذْكَارُ فِي الصَّلَاةِ عِبَارَاتٌ أَيْضًا وَهِيَ صَحِيحَةٌ مِنْ الصَّبِيِّ كَمَا تَصِحُّ مِنْ الْبَالِغِ وَقَالَ بِلُزُومِ الْإِحْرَامِ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَعْنِي إذَا أَحْرَمَ الصَّبِيُّ يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ عِنْدَهُ وَلَيْسَ فِي الْقَوْلِ بِاللُّزُومِ لَهُ نَفْعٌ وَكَذَا لَوْ ارْتَكَبَ مَحْظُورَ إحْرَامِهِ يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ عِنْدَهُ وَلَيْسَ لَهُ فِي ذَلِكَ نَفْعٌ بَلْ هُوَ ضَرَرٌ مَحْضٌ وَأَبْطَلَ الْإِيمَانُ أَيْ أَبْطَلَ عِبَارَتَهُ فِي الْإِيمَانِ حَتَّى لَوْ سُمِعَ مِنْهُ الْإِقْرَارَ عَنْ مَعْرِفَةٍ وَطَوْعٍ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ عِنْدَهُ مَعَ أَنَّهُ نَفْعٌ مَحْضٌ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ وَهَذَا تَنَاقُضٌ حَيْثُ صَحَّحَ عِبَارَتَهُ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ لِمَعْنَى النَّفْعِ وَلَمْ يُصَحِّحْهَا فِي الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ أَظْهَرُ نَفْعًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ الْوَصِيَّةِ وَاخْتِيَارِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ. وَلَيْسَ لَهُ فِقْهٌ أَيْ أَنَّهُ لَمْ يَنْظُرُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ إلَى الْمَعْنَى الْفِقْهِيِّ الْمُودَعِ فِيهَا وَإِنَّمَا لَهُ حَرْفٌ وَاحِدٌ وَضَعَهُ بِنَفْسِهِ يَطْرُدُهُ فِي الْمَسَائِلِ وَهُوَ أَنَّ مَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ لَهُ مِنْ الْمَنَافِعِ بِمُبَاشَرَةِ وَلِيِّهِ لَا يُعْتَبَرُ عِبَارَتُهُ فِيهِ وَمَا لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ لَهُ بِمُبَاشَرَةِ وَلِيِّهِ يُعْتَبَرُ عِبَارَتُهُ فِيهِ لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُولَيًا عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ لَمْ يَصْلُحْ وَلِيًّا فِيهِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا وَهُوَ كَوْنُهُ مُولَيًا عَلَيْهِ سِمَةُ الْعَجْزِ أَيْ عَلَامَتُهُ. وَالثَّانِي وَهُوَ كَوْنُهُ وَلِيًّا بِنَفْسِهِ آيَةُ الْقُدْرَةِ وَهُمَا أَيْ كَوْنُهُ عَاجِزًا وَكَوْنُهُ قَادِرًا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ مُتَضَادَّانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ فَلَمَّا جَعَلَهُ الشَّرْعُ مُولَيًا عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ دَلَّ عَلَى سُقُوطِ وِلَايَتِهِ فِيهِ إذْ لَوْ بَقِيَتْ لَمَا ثَبَتَ لِلْغَيْرِ وِلَايَةٌ فِيهِ كَمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ فَلِذَلِكَ فَسَدَتْ عِبَارَتُهُ فِيمَا صَارَ مُولَيًا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَفْعٌ وَكَذَا فِيمَا لَمْ يَصِرْ مُولِيًا عَلَيْهِ إذَا كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ فَقَالَ يَصِحُّ اخْتِيَارُهُ أَحَدَ الْأَبَوَيْنِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ هَذَا الِاخْتِيَارِ لَا تَحْصُلُ لَهُ بِمُبَاشَرَةِ الْوَلِيِّ فَتُعْتَبَرُ عِبَارَتُهُ فِيهِ وَإِذَا اُعْتُبِرَتْ عِبَارَتُهُ فِيهِ لَا تُعْتَبَرُ عِبَارَةُ الْوَلِيِّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فَلَا يُعْتَبَرُ اخْتِيَارُهُ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَاخْتِيَارِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ قَبُولُ الْهِبَةِ فِي قَوْلٍ يَصِحُّ مِنْهُ إذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ لِأَنَّهُ نَفْعٌ مَحْضٌ فَيَمْلِكُ مُبَاشَرَتَهُ وَإِذَا مَلَكَهُ بِنَفْسِهِ لَا يَمْلِكُهُ الْوَلِيُّ عَلَيْهِ وَفِي قَوْلٍ لَا يَصِحُّ مِنْهُ وَيَصِحُّ مِنْ الْوَلِيِّ كَالْبَيْعِ وَلَا فِقْهَ فِيهِ أَيْ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْجَوَابِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ لِأَنَّهُ أَيْ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يَبْنِ الْأَمْرَ عَلَى دَلِيلِ الصِّحَّةِ وَالْعَدَمِ مِنْ الصَّبِيِّ أَيْ عَلَى دَلِيلِ تَبَيُّنِ صِحَّتِهِ مِنْ الصَّبِيِّ أَوْ عَدَمِ صِحَّتِهِ مِنْهُ بَلْ بَنَى الْأَمْرَ عَلَى شَيْءٍ خَارِجٍ عَنْ الْفِقْهِ وَعِنْدَنَا لَمَّا كَانَ الصَّبِيُّ قَاصِرَ الْأَهْلِيَّةِ صَلَحَ مُولَيًا عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ قُصُورِ الْعَقْلِ وَلَمَّا كَانَ صَاحِبَ أَصْلِ الْأَهْلِيَّةِ بِوُجُودِ أَصْلِ الْعَقْلِ صَلَحَ وَلِيًّا بِنَفْسِهِ

[باب الأمور المعترضة على الأهلية]

وَمَتَى جَعَلْنَاهُ مُولَيًا عَلَيْهِ لَمْ نَجْعَلْهُ وَلِيًّا فِيهِ وَإِنَّمَا هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ الِاحْتِمَالِ وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى تَوَسُّعِ طَرِيقِ النَّيْلِ وَالْإِصَابَةِ وَذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأَسْبَابِ أَحْكَامُهَا فَوَجَبَ احْتِمَالُ هَذَا التَّرَدُّدِ فِي السَّبَبِ لِسَلَامَةِ الْحُكْمِ عَلَى الْكَمَالِ وَإِنَّمَا الْأُمُورُ بِعَوَاقِبِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (بَابُ الْأُمُورِ الْمُعْتَرِضَةِ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ) : الْعَوَارِضُ نَوْعَانِ سَمَاوِيٌّ وَمُكْتَسَبٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَلَا مُنَافَاةَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لِأَنَّا مَتَى جَعَلْنَاهُ وَلِيًّا فِي تَصَرُّفٍ لَمْ نَجْعَلْهُ فِيهِ أَيْ فِيمَا جَعَلْنَاهُ وَلِيًّا مُولَيًا عَلَيْهِ. وَإِذَا جَعَلْنَاهُ مُولَيًا عَلَيْهِ فِي تَصَرُّفٍ لَمْ نَجْعَلْهُ وَلِيًّا فِيهِ فَإِنَّا مَتَى جَعَلْنَاهُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ نَفْسِهِ لَمْ نَجْعَلْهُ مُسْلِمًا تَبَعًا لِأَحَدٍ وَإِذَا جَعَلْنَاهُ مُسْلِمًا تَبَعًا لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ لَمْ نَجْعَلْهُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ نَفْسِهِ وَهُوَ كَالْعَبْدِ يَكُونُ تَبَعًا لِمَوْلَاهُ فِي السَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ فِي حَالَةٍ وَيَكُونُ أَصْلًا بِنَفْسِهِ فِي حَالَةٍ وَهِيَ مَا إذَا خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا هَذَا أَيْ الْجَمْعُ بَيْنَ كَوْنِهِ وَلِيًّا وَمُولِيًا عَلَيْهِ عِبَارَةٌ عَنْ الِاحْتِمَالِ أَيْ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُوجَدَ هَذَا التَّصَرُّفُ بِمُبَاشَرَتِهِ فَيَكُونُ وَلِيًّا فِيهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُوجَدَ بِمُبَاشَرَةِ الْوَلِيِّ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مُولَيًا عَلَيْهِ لَا أَنْ يُوجِدَ التَّصَرُّفَ بِالطَّرِيقَيْنِ جَمِيعًا فَيَكُونُ وَلِيًّا وَمُولِيًا عَلَيْهِ فِيهِ بَلْ لَا يُوجَدُ إلَّا بِطَرِيقٍ وَاحِدٍ وَلَا يَسْتَحِيلُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِهَذَا الْوَجْهِ كَمَا فِي إرْسَالِ الطَّلَاقِ وَتَعْلِيقِهِ فَإِنَّهُمَا يَتَنَافَيَانِ وُجُودًا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ بِالْإِرْسَالِ لَا يَقَعُ بِالتَّعْلِيقِ وَكَذَا عَكْسُهُ فَأَمَّا مَا قَبْلَ الْوُجُودِ فَيَحْتَمِلُ الْوُقُوعَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّرِيقَيْنِ وَهُوَ رَاجِعٌ أَيْ الْجَمْعُ بَيْنَ كَوْنِهِ وَلِيًّا وَمُولِيًا عَلَيْهِ فِي تَصَرُّفٍ رَاجِعٌ إلَى تَوَسُّعِ طَرِيقِ النَّيْلِ أَيْ نَيْلِ الْحُكْمِ وَالنَّفْعِ الَّذِي فِي ذَلِكَ التَّصَرُّفِ فَإِنَّهُ مَتَى صَحَّ قَبُولُهُ الْهِبَةَ بِنَفْسِهِ وَصَحَّ قَبُولُ وَلِيِّهِ لَهُ أَيْضًا كَانَ حُصُولُ نَفْعِ الْهِبَةِ لَهُ بِطَرِيقَيْنِ وَلَوْ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا كَانَ طَرِيقُهُ وَاحِدًا وَلَا شَكَّ أَنَّ حُصُولَهُ بِطَرِيقَيْنِ أَنْفَعُ لَهُ مِنْ حُصُولِهِ بِطَرِيقٍ وَاحِدٍ. وَذَلِكَ أَيْ تَوَسُّعُ طَرِيقِ الْإِصَابَةِ أَوْ نَيْلُ نَفْعِ التَّصَرُّفِ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ جَعْلِهِ وَلِيًّا بِنَفْسِهِ وَمُولِيًا عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأَسْبَابِ أَحْكَامُهَا لَا ذَوَاتُهَا فَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ حُكْمَهُ وَهُوَ حُصُولُ النَّفْعِ فَوَجَبَ احْتِمَالُ هَذَا التَّرَدُّدِ فِي السَّبَبِ أَيْ وَجَبَ تَحَمُّلُ التَّرَدُّدِ الَّذِي فِي السَّبَبِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِمُبَاشَرَةِ نَفْسِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَثْبُتَ بِمُبَاشَرَةِ وَلِيِّهِ مِنْ غَيْرِ تَعَيُّنِ أَحَدِهِمَا لِسَلَامَةِ الْحُكْمِ عَلَى الْكَمَالِ أَيْ لِيَحْصُلَ النَّفْعُ لَهُ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ وَإِنَّمَا الْأُمُورُ بِعَوَاقِبِهَا أَيْ الْمُعْتَبَرُ عَوَاقِبُ الْأُمُورِ لَا ابْتِدَاؤُهَا وَعَاقِبَةُ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ تَحْصِيلُ الْمَنَافِعِ لِلصَّبِيِّ مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ بِتَوْسِيعِ طَرِيقِهِ وَإِنْ كَانَ فِي ابْتِدَائِهِ تَرَدُّدٌ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْأُمُورِ الْمُعْتَرِضَةِ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ] وَلَمَّا فَرَغَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ بَيَانِ الْأَهْلِيَّةِ وَمَا يُبْتَنَى عَلَيْهَا مِنْ الْأَحْكَامِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أُمُورٍ تَعْتَرِضُ عَلَيْهَا فَتَمْنَعُهَا عَنْ إبْقَائِهَا عَلَى حَالِهَا فَبَعْضُهَا يُزِيلُ أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ كَالْمَوْتِ وَبَعْضُهَا يُزِيلُ أَهْلِيَّةَ الْأَدَاءِ كَالنَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ وَبَعْضُهَا يُوجِبُ تَغْيِيرًا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ وَالْأَدَاءِ كَالسَّفَرِ عَلَى مَا سَتَقِفُ عَلَى تَفْصِيلِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالْعَوَارِضُ جَمْعُ عَارِضَةٍ أَيْ خَصْلَةٌ عَارِضَةٌ أَوْ آفَةٌ عَارِضَةٌ مِنْ عَرَضَ لَهُ كَذَا إذَا ظَهَرَ لَهُ أَمْرٌ يَصُدُّهُ عَنْ الْمُضِيِّ عَلَى مَا كَانَ فِيهِ مِنْ حَدِّ ضَرَبَ وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْمُعَارَضَةُ مُعَارَضَةً لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّلِيلَيْنِ يُقَابِلُ الْآخَرَ عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُهُ عَنْ إثْبَاتِ الْحُكْمِ وَيُسَمَّى السَّحَابُ عَارِضًا لِمَنْعِهِ أَثَرَ الشَّمْسِ وَشُعَاعَهَا وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي لَهَا تَأْثِيرٌ فِي تَغْيِيرِ الْأَحْكَامِ عَوَارِضُ لِمَنْعِهَا الْأَحْكَامَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِأَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ أَوْ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ عَنْ الثُّبُوتِ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ الشَّيْخُوخَةَ وَالْكُهُولَةَ وَنَحْوَهُمَا فِي جُمْلَةِ الْعَوَارِضِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْهَا لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي تَغْيِيرِ الْأَحْكَامِ وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ الْحَمْلَ

أَمَّا السَّمَاوِيُّ فَهُوَ الصِّغَرُ وَالْجُنُونُ وَالْعَتَهُ وَالنِّسْيَانُ وَالنَّوْمُ وَالْإِغْمَاءُ وَالْمَرَضُ وَالرِّقُّ وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ وَالْمَوْتُ. وَأَمَّا الْمُكْتَسَبُ فَإِنَّهُ نَوْعَانِ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ أَمَّا الَّذِي مِنْهُ فَالْجَهْلُ وَالسُّكْرُ وَالْهَزْلُ وَالسَّفَهُ وَالْخَطَأُ وَالسَّفَرُ وَأَمَّا الَّذِي مِنْ غَيْرِهِ فَالْإِكْرَاهُ بِمَا فِيهِ إلْجَاءٌ وَبِمَا لَيْسَ فِيهِ إلْجَاءٌ. أَمَّا الْجُنُونُ فَإِنَّهُ فِي الْقِيَاسِ مُسْقِطٌ لِلْعِبَادَاتِ كُلِّهَا لِأَنَّهُ مُنَافٍ لِلْقُدْرَةِ فَيَنْعَدِمُ بِهِ الْأَدَاءُ فَيَنْعَدِمُ الْوُجُوبُ لِانْعِدَامِهِ لَكِنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا فِيهِ إذَا زَالَ قَبْلَ الِامْتِدَادِ فَجَعَلُوهُ عَفْوًا وَأَلْحَقُوهُ بِالنَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْإِرْضَاعَ وَالشَّيْخُوخَةَ الْقَرِيبَةَ إلَى الْفَنَاءِ مِنْ الْعَوَارِضِ وَإِنْ تَغَيَّرَ بِهَا بَعْضُ الْأَحْكَامِ لِدُخُولِهَا فِي الْمَرَضِ فَكَانَ ذِكْرُ الْمَرَضِ ذِكْرًا لَهَا كَذَا قِيلَ وَأُورِدَ عَلَيْهِ الْجُنُونُ وَالْإِغْمَاءُ فَإِنَّهُمَا مِنْ الْأَمْرَاضِ وَقَدْ ذَكَرَهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُمَا وَإِنْ دَخَلَا فِي الْمَرَضِ لَكِنَّهُمَا اخْتَصَّا بِأَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ يُحْتَاجُ إلَى بَيَانِهَا فَأَفْرَدَهُمَا بِالذِّكْرِ سَمَاوِيٌّ وَهُوَ مَا يَثْبُتُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الشَّرْعِ بِدُونِ اخْتِيَارٍ لِلْعَبْدِ فِيهِ وَلِهَذَا نُسِبَ إلَى السَّمَاءِ فَإِنَّ مَا لَا اخْتِيَارَ لِلْعَبْدِ فِيهِ يُنْسَبُ إلَى السَّمَاءِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَةِ الْعَبْدِ نَازِلٌ مِنْ السَّمَاءِ وَمُكْتَسَبٌ وَهُوَ مَا كَانَ لِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ فِيهِ مَدْخَلٌ. وَقَدَّمَ السَّمَاوِيَّ عَلَى الْمُكْتَسَبِ ذِكْرًا لِأَنَّهُ أَظْهَرُ فِي الْعَارِضِيَّةِ لِخُرُوجِهِ عَنْ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ وَأَشَدُّ تَأْثِيرًا فِي تَغْيِيرِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْمُكْتَسَبِ وَذَكَرَ الصِّغَرَ مِنْ الْعَوَارِضِ مَعَ أَنَّهُ ثَابِتٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ لِكُلِّ إنْسَانٍ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَخْلُو عَنْ الصِّغَرِ كَآدَمَ وَحَوَّاءَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَرَضِيَ عَنْهَا فَإِنَّهُمَا خُلِقَا كَمَا كَانَا مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ صِغَرٍ ثُمَّ اعْتَرَضَ الصِّغَرُ عَلَى أَوْلَادِهِمَا وَلِأَنَّ مَاهِيَّةَ الْإِنْسَانِ قَدْ تُعْرَفُ بِدُونِ وَصْفِ الصِّغَرِ وَلِهَذَا كَانَ الْكَبِيرُ إنْسَانًا فَكَانَ الصِّغَرُ أَمْرًا عَارِضًا عَلَى حَقِيقَةِ الْإِنْسَانِ ضَرُورَةً وَجَعَلَ الْجَهْلَ مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ مَعَ أَنَّهُ أَصْلِيٌّ لَا اخْتِيَارَ لَهُ فِيهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78] بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعَبْدَ قَادِرٌ عَلَى إزَالَتِهِ بِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ فَكَانَ تَرْكُ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِالِاخْتِيَارِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِيَارِ الْجَهْلِ وَكَسْبِهِ وَهَذَا كَالْكَافِرِ يُجْعَلُ قَادِرًا عَلَى أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ بِوَاسِطَةِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ فَكَانَ تَرْكُهُ الْإِسْلَامَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ تَرْكًا لِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَدَائِهَا فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يُعَذَّبَ عَلَى تَرْكِهَا وَهَذَا بِخِلَافِ الرِّقِّ فَإِنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مُتَمَكِّنًا مِنْ إزَالَتِهِ فِي الْأَصْلِ بِوَاسِطَةِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ جَزَاءً عَلَى الْكُفْرِ وَلَا اخْتِيَارَ لِلْعَبْدِ فِي ثُبُوتِ الْأَجْزِئَةِ بَلْ هِيَ تَثْبُتُ جَبْرًا كَحَدِّ الزِّنَا وَالْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ وَبَعْدَمَا يَثْبُتُ لَا يَتَمَكَّنُ الْعَبْدُ مِنْ إزَالَتِهِ فَكَانَ مِنْ الْعَوَارِضِ السَّمَاوِيَّةِ ثُمَّ إنَّهُ قَدَّمَ الصِّغَرَ فِي تَعْدَادِ الْعَوَارِضِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْجَهْلَ فِي تَعْدَادِ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ لِأَنَّهُمَا يَثْبُتَانِ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ الْآدَمِيِّ. وَقَدَّمَ الْجُنُونَ عَلَى الصِّغَرِ فِي تَفْصِيلِ الْعَوَارِضِ السَّمَاوِيَّةِ لِأَنَّ حُكْمَ الصِّغَرِ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ حُكْمُ الْجُنُونِ فَقَدَّمَ بَيَانَ الْجُنُونِ لِيُمْكِنَهُ إلْحَاقُ الصِّغَرِ بِهِ قَوْلُهُ (أَمَّا الْجُنُونُ) فَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَةِ الْجُنُونِ إلَّا بَعْدَ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ الْعَقْلِ وَمَحَلِّهِ وَأَفْعَالِهِ فَالْعَقْلُ مَعْنًى يُمْكِنُ بِهِ الِاسْتِدْلَال مِنْ الشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ وَالِاطِّلَاعُ عَلَى عَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَمَحَلُّهُ الدِّمَاغُ وَالْمَعْنَى الْمُوجِبُ انْعِدَامَ آثَارِهِ وَتَعْطِيلَ أَفْعَالِهِ الْبَاعِثُ لِلْإِنْسَانِ عَلَى أَفْعَالٍ مُضَادَّةٍ لِتِلْكَ الْأَفْعَالِ مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ فِي عَامَّةِ أَطْرَافِهِ وَفُتُورٍ فِي سَائِرِ أَعْضَائِهِ يُسَمَّى جُنُونًا وَالْأَسْبَابُ الْمُهَيِّجَةُ لَهُ إمَّا نُقْصَانٌ جُبِلَ عَلَيْهِ دِمَاغُهُ وَطُبِعَ عَلَيْهِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ فَلَمْ يَصْلُحْ لِقَبُولِ مَا أُعِدَّ لِقَبُولِهِ مِنْ الْعَقْلِ كَعَيْنِ الْأَكْمَهِ وَلِسَانِ الْأَخْرَسِ وَهَذَا النَّوْعُ مِمَّا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ وَلَا مَنْفَعَةَ فِي الِاشْتِغَالِ بِعِلَاجِهِ وَإِمَّا مَعْنًى عَارِضٌ أَوْجَبَ زَوَالَ الِاعْتِدَالِ الْحَاصِلِ لِلدِّمَاغِ خِلْقَةً إلَى رُطُوبَةٍ مُفْرِطَةٍ أَوْ يُبُوسَةٍ مُتَنَاهِيَةٍ وَهَذَا النَّوْعُ مِمَّا يُعَالَجُ بِمَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى لِذَلِكَ مِنْ الْأَدْوِيَةِ وَفِي النَّوْعَيْنِ يَتَيَقَّنُ

وَذَلِكَ لَمَّا كَانَ مُنَافِيًا لِأَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ كَانَ الْقِيَاسُ فِيهِ مَا قُلْنَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - عُصِمُوا عَنْهُ لَكِنَّهُ إذَا لَمْ يَمْتَدَّ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا حَرَجًا عَلَى مَا قُلْنَا وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا إذَا كَانَ عَارِضًا غَيْرَ أَصْلِيٍّ لِيُلْحَقَ بِالْعَوَارِضِ فَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ مَجْنُونًا فَإِذَا زَالَ صَارَ فِي مَعْنَى الصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُمَا سَوَاءٌ وَاعْتَبَرَ فِيمَا يَزُولُ عَنْهُ فَيُلْحَقُ بِأَصْلِهِ وَهُوَ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ يَتَفَاوَتُ بَيْنَ مَدِيدٍ وَقَصِيرٍ فَيُلْحَقُ هَذَا الْأَصْلَ فِي الْحُكْمِ الَّذِي لَمْ يَسْتَوْعِبْهُ بِالْعَارِضِ وَذَلِكَ فِي الْجُنُونِ الْأَصْلِيِّ إذَا زَالَ قَبْلَ انْسِلَاخِ شَهْرِ رَمَضَانَ. ـــــــــــــــــــــــــــــQبِزَوَالِ الْعَقْلِ لِفَسَادِ أَصْلِيٍّ أَوْ عَارِضٍ فِي مَحَلِّهِ كَمَا يَتَيَقَّنُ بِزَوَالِ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ عَنْ الْعَيْنِ الْعَمْيَاءِ لِفَسَادٍ فِيهَا بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ أَوْ بِعَارِضِ أَمْرٍ أَصَابَهَا وَإِمَّا اسْتِيلَاءُ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ فَيُخَيِّلُهُ الْخَيَالَاتِ الْفَاسِدَةَ وَيَفْزَعُهُ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِهِ فَيَطِيرُ قَلْبُهُ وَلَا يَجْتَمِعُ ذِهْنُهُ مَعَ سَلَامَةٍ فِي مَحَلِّ الْعَقْلِ خِلْقَةً وَبَقَائِهِ عَلَى الِاعْتِدَالِ وَيُسَمَّى هَذَا الْمَجْنُونُ مَمْسُوسًا لِتَخَبُّطِ الشَّيْطَانِ إيَّاهُ وَمُوَسْوَسًا لِإِلْقَائِهِ الْوَسْوَسَةَ فِي قَلْبِهِ وَيُعَالَجُ هَذَا النَّوْعُ بِالتَّعَاوِيذِ وَالرُّقَى. وَفِي هَذَا النَّوْعِ لَا يُحْكَمُ بِزَوَالِ الْعَقْلِ فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ مَا كَانَ لِنُقْصَانٍ جُبِلَ عَلَيْهِ غَيْرُ زَائِلٍ عَادَةً لِعَدَمِ جَرَيَانِ التَّبْدِيلِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ الْكَمَهِ فَهُوَ بِمَعْزِلٍ عَمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ فَأَمَّا مَا حَصَلَ مِنْهُ بِزَوَالِ الِاعْتِدَالِ أَوْ بِمَسِّ الشَّيْطَانِ فَهُوَ عَارِضٌ عَلَى الْأَصْلِ ثُمَّ الْقِيَاسُ فِي الْجُنُونِ أَنْ يَكُونَ مُسْقِطًا لِلْعِبَادَاتِ كُلِّهَا أَيْ مَانِعًا لِوُجُوبِهَا أَصْلِيًّا كَانَ أَوْ عَارِضًا قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ حَتَّى قَالَا: لَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ فِي بَعْضِ شَهْرِ رَمَضَانَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى كَالصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ أَوْ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ فِي خِلَالِ الشَّهْرِ وَكَذَا إذَا أَفَاقَ قَبْلَ تَمَامِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ مِنْ الصَّلَاةِ عِنْدَهُمَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجُنُونَ يُنَافِي الْقُدْرَةَ لِأَنَّهَا تَحْصُلُ بِقُوَّةِ الْبَدَنِ وَالْعَقْلِ وَالْجُنُونُ يُزِيلُ الْعَقْلَ فَلَا يُتَصَوَّرُ فَهْمُ الْخِطَابِ وَالْعِلْمِ بِهِ بِدُونِ الْعَقْلِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْأَدَاءِ لَا تَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْعِلْمِ لِأَنَّ الْعِلْمَ أَخَصُّ أَوْصَافِ الْقُدْرَةِ فَتَفُوتُ الْقُدْرَةُ بِفَوْتِهِ وَبِفَوْتِ الْقُدْرَةِ يَفُوتُ الْأَدَاءُ وَإِذَا فَاتَ الْأَدَاءُ عُدِمَ الْوُجُوبُ إذْ لَا فَائِدَةَ فِي الْوُجُوبِ بِدُونِ الْأَدَاءِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ أَهْلِيَّةَ الْأَدَاءِ تَفُوتُ بِزَوَالِ الْعَقْلِ وَبِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ لَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ فَلَا يَجِبُ الْقَضَاءُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّبِيَّ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ الْمَجْنُونِ فَإِنَّهُ نَاقِصُ الْعَقْلِ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ عَدِيمُ الْعَقْلِ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ إلَى الْإِصَابَةِ عَادَةً وَالْمَجْنُونُ عَدِيمُ الْعَقْلِ لَا إلَى الْإِصَابَةِ عَادَةً وَإِذَا كَانَ الصِّغَرُ يَمْنَعُ الْوُجُوبَ حَتَّى لَمْ يَلْزَمْ الصَّبِيَّ قَضَاءُ مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ إذَا بَلَغَ فِي خِلَالِ الشَّهْرِ فَالْجُنُونُ أَوْلَى. وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ حَيْثُ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى مِنْ الصَّوْمِ عِنْدَ الْإِفَاقَةِ وَقَضَاءُ الصَّلَاةِ إذَا كَانَ الْإِغْمَاءُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِأَنَّ أَهْلِيَّتَهُ قَائِمَةٌ لِقِيَامِ الْعَقْلِ إذْ الْإِغْمَاءُ لَا يُنَافِي الْعَقْلَ بَلْ هُوَ عَجْزٌ عَنْ اسْتِعْمَالِ آلَةِ الْقُدْرَةِ كَالنَّوْمِ فَكَانَ الْعَقْلُ ثَابِتًا كَمَا كَانَ كَمَنْ عَجَزَ عَنْ اسْتِعْمَالِ السَّيْفِ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي السَّيْفِ بِالْإِعْدَامِ فَكَذَا الْإِغْمَاءُ لَكِنَّهُمْ يَعْنِي عُلَمَاءَنَا الثَّلَاثَةَ اسْتَحْسَنُوا فِيهِ أَيْ فِي الْجُنُونِ إذَا زَالَ قَبْلَ الِامْتِدَادِ فَجَعَلُوهُ عَفْوًا أَيْ سَاقِطًا كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَأَلْحَقُوهُ بِالنَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْجُنُونَ مِنْ الْعَوَارِضِ كَالْإِغْمَاءِ وَالنَّوْمِ وَقَدْ أُلْحِقَ النَّوْمُ وَالْإِغْمَاءُ بِالْعَدَمِ فِي حَقِّ كُلِّ عِبَادَةٍ لَا يُؤَدِّي إيجَابُهَا إلَى الْحَرَجِ عَلَى الْمُكَلَّفِ بَعْدَ زَوَالِهِمَا وَجُعِلَا كَأَنَّهُمَا لَمْ يُوجَدَا أَصْلًا فِي حَقِّ إيجَابِ الْقَضَاءِ وَأَنَّ الْعِبَادَةَ كَانَتْ وَاجِبَةً فَفَاتَتْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَيُلْحَقُ الْجُنُونُ الْمَوْصُوفُ بِكَوْنِهِ عَارِضًا بِهِمَا بِجَامِعِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ عُذْرٌ عَارِضٌ زَالَ قَبْلَ الِامْتِدَادِ وَكَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ عُذْرٍ عَارِضٍ كَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ فِي حَقِّ الصَّوْمِ هَذَا فِي حَقِّ إيجَابِ الْقَضَاءِ فَأَمَّا فِي حَقِّ لُحُوقِ الْمَأْثَمِ فَالْأَمْرُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِوُرُودِ النَّصِّ الْمُنْبِئِ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَإِلَّا مَا آتَاهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرْعَ أَلْحَقَ الْعَارِضَ بِالْعَدَمِ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْأَدَاءِ حَتَّى إنَّ مَنْ نَوَى مِنْ اللَّيْلِ الصَّوْمَ ثُمَّ نَامَ وَلَمْ يَنْتَبِهْ إلَّا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ أَوْ أُغْمِيَ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَيْهِ أَوْ جُنَّ وَلَمْ يُفِقْ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ حُكِمَ بِجَوَازِ الصَّوْمِ مَعَ أَنَّهُ عِبَادَةٌ خَالِصَةٌ وَالْإِمْسَاكُ رُكْنٌ وَهُوَ فِعْلٌ مَقْصُودٌ وَلَا بُدَّ فِي مِثْلِهِ مِنْ التَّحْصِيلِ بِالِاخْتِيَارِ وَمَا بِهِ مِنْ الْعُذْرِ قَدْ سَلَبَ اخْتِيَارَهُ لَكِنْ عِنْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ جُعِلَ هَذَا الْفِعْلُ بِمَنْزِلَةِ الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ بِطَرِيقِ إلْحَاقِ الْعُذْرِ الزَّائِلِ بِالْعَدَمِ وَإِذَا كَانَ فِي حَقِّ الْأَدَاءِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ فَفِي حَقِّ الْوُجُوبِ الَّذِي هُوَ وَسِيلَةٌ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ الشَّرْعَ أَلْحَقَ الْعَارِضَ بِالْعَدَمِ فِي حَقِّ الْأَدَاءِ وَقْتَ تَقَرُّرِهِ حَيْثُ حَكَمَ بِصِحَّةِ الْفِعْلِ الْمَوْجُودِ فِي حَالَةِ النَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ وَنَحْنُ فِي حَقِّ الْوُجُوبِ أَلْحَقْنَا الْعَارِضَ بِالْعَدَمِ بَعْدَ زَوَالِهِ وَجَعَلْنَا السَّبَبَ الْمَوْجُودَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ إيجَابِ الْقَضَاءِ عِنْدَ زَوَالِ الْعَارِضِ فَكَانَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الْمُرْتَدُّ إذَا أَسْلَمَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا مَضَى فِي حَالَةِ الرِّدَّةِ وَإِنْ كَانَتْ الرِّدَّةُ عَارِضَةً زَالَتْ وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ كَوْنِهَا عَارِضَةً فِي حَقِّ التَّصَرُّفَاتِ خُصُوصًا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّ تَصَرُّفَاتِهِ تَنْعَقِدُ عَلَى التَّوَقُّفِ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ يَظْهَرُ أَنَّهُ انْعَقَدَتْ عَلَى الصِّحَّةِ وَجُعِلَتْ كَأَنَّ الرِّدَّةَ لَمْ تَكُنْ فَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَأَنْ تُلْحَقَ بِالْعَدَمِ عِنْدَ زَوَالِهَا حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ كَانَ أَوْلَى لِأَنَّا نَقُولُ الرِّدَّةُ عِنْدَنَا تُلْتَحَقُ بِالْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ فِي حَقِّ الْعِبَادَاتِ نَصًّا حَتَّى أَوْجَبَتْ إبْطَالَ مَا مَضَى مِنْ الْأَعْمَالِ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ وَأَلْحَقَتْ تِلْكَ الْأَعْمَالَ بِالْمَوْجُودَةِ مِنْهَا فِي حَالَةِ الْكُفْرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] وَقَدْ عُرِفَ الْحُكْمُ فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ قَضَاءَ مَا مَضَى نَصًّا فَكَذَا هَذَا وَلِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ تَزُولُ بِالْكُفْرِ فَلَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْقَضَاءِ بِدُونِ الْوُجُوبِ. قَوْلُهُ (وَذَلِكَ) أَيْ كَوْنُ الْجُنُونِ مُسْقِطًا لِلْعِبَادَاتِ فِي الْقِيَاسِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ وَغَيْرَ مُسْقِطٍ لَهَا فِي الِاسْتِحْسَانِ إذَا قَلَّ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْجُنُونَ لَمَّا كَانَ مُنَافِيًا لِأَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ ثُبُوتَ هَذِهِ الْأَهْلِيَّةِ بِالْعَقْلِ فَزَوَالُهُ يَكُونُ مُنَافِيًا لَهَا كَانَ الْقِيَاسُ فِيهِ مَا قُلْنَا إنَّهُ يُسْقِطُ الْعِبَادَاتِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ ثُمَّ اسْتَوْضَحَ كَوْنَهُ مُنَافِيًا لِلْأَهْلِيَّةِ بِقَوْلِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - عُصِمُوا عَنْ الْجُنُونِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْأَهْلِيَّةِ وَالْتِحَاقَ الشَّخْصِ بِالْبَهَائِمِ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِحَالِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وَلِهَذَا كَانَتْ نِسْبَتُهُمْ إلَى الْجُنُونِ كُفْرًا لَكِنَّهُ أَيْ الْجُنُونَ إذَا لَمْ يَمْتَدَّ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا حَرَجًا أَيْ لَمْ يَكُنْ عَدَمُ اعْتِبَارِهِ وَإِلْحَاقِهِ بِالْعَدَمِ وَإِيجَابُ الْعِبَادَةِ مَعَهُ مُوقِعًا فِي الْحَرَجِ عَلَى مَا قُلْنَا يَعْنِي قَوْلَهُ فِي بَابِ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ وَإِذَا لَمْ يَمْتَدَّ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إلَى آخِرِهِ وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ أَيْ فِي الْجُنُونِ الَّذِي جُعِلَ عَفْوًا إذَا زَالَ قَبْلَ الِامْتِدَادِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا أَيْ إلْحَاقُهُ بِالنَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ وَإِيجَابُ الْقَضَاءِ عِنْدَ زَوَالِهِ قَبْلَ الِامْتِدَادِ إذَا كَانَ عَارِضًا يَعْنِي مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِأَنْ حَدَثَ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِيُلْحَقَ بِالْعَوَارِضِ أَيْ لِيُمْكِنَ إلْحَاقُهُ بِهَا وَجَعْلُهُ عَفْوًا عِنْدَ عَدَمِ الِامْتِدَادِ فَأَمَّا إذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ مَجْنُونًا كَانَ حُكْمُ هَذَا الْجُنُونِ حُكْمَ الصِّبَا فَإِذَا زَالَ هَذَا الْجُنُونُ فِي خِلَالِ الشَّهْرِ صَارَ فِي مَعْنَى الصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ أَيْ صَارَ هَذَا الْمَجْنُونُ فِي مَعْنَى الصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ فِي خِلَالِ الشَّهْرِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى وَقَوْلُهُ فَإِذَا زَالَ مَعَ جَوَابِهِ جَوَابُ أَمَّا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُمَا سَوَاءٌ أَيْ الْجُنُونُ الْأَصْلِيُّ وَالْعَارِضِيُّ سَوَاءٌ فِي أَنَّ غَيْرَ الْمُمْتَدِّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ

وَحَدُّ الِامْتِدَادِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الطَّاعَاتِ فَأَمَّا فِي الصَّلَاةِ فَبِأَنْ يَزِيدَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بِاعْتِبَارِ الصَّلَاةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِيَصِيرَ سِتًّا فَيَدْخُلَ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ وَأَقَامَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْوَقْتَ فِيهِ مَقَامَ الصَّلَاةِ تَيْسِيرًا فَيُعْتَبَرُ الزِّيَادَةُ بِالسَّاعَاتِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْهُمَا مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ وَقَوْلُهُ وَاعْتَبَرَ بِبَيَانِ الْمُسَاوَاةِ أَيْ اعْتَبَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَالَ الْجُنُونِ الْأَصْلِيِّ وَهِيَ امْتِدَادُهُ وَعَدَمُ امْتِدَادِهِ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِيمَا يَزُولُ أَيْ فِي الشَّيْءِ الَّذِي يَزُولُ هَذَا الْجُنُونُ عَنْهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ مِثْلُ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَيُلْحِقُ أَيْ مُحَمَّدٌ الْجُنُونَ الْأَصْلِيَّ بِأَصْلِ الْجُنُونِ وَهُوَ كَوْنُهُ عَارِضًا يَعْنِي الْأَصْلَ فِي الْجُنُونِ أَنْ يَكُونَ عَارِضًا نَظَرًا إلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْجِبِلَّةِ سَلَامَتُهَا عَنْ الْآفَاتِ فَكَانَ كَوْنُ الْجُنُونِ أَصْلِيًّا أَمْرًا عَارِضًا فِيهِ فَيُلْحِقُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا الْعَارِضَ بِأَصْلٍ ثُمَّ أَشَارَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصِّبَا الَّذِي أَلْحَقَ أَبُو يُوسُفَ هَذَا الْجُنُونَ بِهِ فَقَالَ وَهُوَ أَيْ الْجُنُونُ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ مُتَفَاوِتٌ بَيْنَ مَدِيدٍ يُوجِبُ سُقُوطَ الْوَاجِبَاتِ وَقَصِيرٍ لَا يُوجِبُ سُقُوطَهَا بِخِلَافِ الصِّبَا فَإِنَّهُ أَمْرٌ أَصْلِيٌّ مُمْتَدٌّ مُسْقِطٌ لِلْعِبَادَاتِ جَمِيعًا أَوْ الضَّمِيرُ لِلْجُنُونِ الْأَصْلِيِّ أَيْ الْجُنُونُ الْأَصْلِيُّ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ مُتَفَاوِتٌ بَيْنَ مَدِيدٍ مُوجِبٍ لِلْحَرَجِ وَبَيْنَ قَصِيرٍ لَا يُوجِبُهُ كَالْعَارِضِيِّ فَيُلْحِقُ مُحَمَّدٌ هَذَا الْأَصْلَ أَيْ كَوْنَ الْجُنُونِ أَصْلِيًّا فِي الْحُكْمِ الَّذِي لَمْ يَسْتَوْعِبْهُ هَذَا الْجُنُونُ بِالْعَارِضِ أَيْ جَعَلَ هَذَا الْوَصْفَ فِيهِ عَارِضًا فَلَمْ يَعْتَبِرْهُ وَلَمْ يُلْحِقْهُ بِالصِّبَا بِوَاسِطَتِهِ وَاعْتَبَرَ أَصْلَهُ وَهُوَ كَوْنُهُ عَارِضًا فَفَرَّقَ بَيْنَ الْمُمْتَدِّ مِنْهُ وَغَيْرِهِ أَوْ يُلْحِقُ هَذَا الْأَصْلَ أَيْ الْجُنُونَ الْأَصْلِيَّ بِالْجُنُونِ الْعَارِضِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي يَسْتَوْعِبُهُ. وَذَلِكَ أَيْ إلْحَاقُهُ الْأَصْلَ بِالْعَارِضِ أَوْ إلْحَاقُ الْجُنُونِ الْأَصْلِيِّ بِالْجُنُونِ الْعَارِضِيِّ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي زَوَالِ الْجُنُونِ الْأَصْلِيِّ قَبْلَ انْسِلَاخِ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ يُلْحِقُهُ بِزَوَالِ الْجُنُونِ الْعَارِضِيِّ قَبْلَ الِانْسِلَاخِ وَيُوجِبُ قَضَاءَ مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ بِزَوَالِهِ وَلَا يُوجِبُهُ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَذَا الْحُكْمُ فِي الصَّلَاةِ بِأَنْ بَلَغَ مَجْنُونًا ثُمَّ زَالَ الْجُنُونُ قَبْلَ مُضِيِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَزِمَهُ قَضَاءُ صَلَاةِ مَا مَضَى عِنْدَ مَنْ جَعَلَ الْجُنُونَ الْأَصْلِيَّ كَالْعَارِضِيِّ وَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهَا عِنْدَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا كَذَا فِي بَعْضِ الْفَوَائِدِ وَذُكِرَ الِاخْتِلَافُ فِي الْمَبْسُوطِ وَفَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَعَامَّةِ الْكُتُبِ عَلَى عَكْسِ مَا ذُكِرَ هَا هُنَا فَقِيلَ وَإِنْ كَانَ جُنُونُهُ أَصْلِيًّا بِأَنْ بَلَغَ مَجْنُونًا ثُمَّ أَفَاقَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ فَالْمَحْفُوظُ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْخِطَابِ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْآنَ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ يَبْلُغُ وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ فِي الْقِيَاسِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَكِنِّي أَسْتَحْسِنُ فَأُوجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءَ مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ لِأَنَّ الْجُنُونَ الْأَصْلِيَّ لَا يُفَارِقُ الْجُنُونَ الْعَارِضِيَّ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ وَلَيْسَ فِيهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَاخْتَلَفَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي طَرِيقَتِهِ مَا يُوَافِقُهُ فَقَالَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْجُنُونِ الْأَصْلِيِّ وَالْعَارِضِيِّ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي بَلَغَ مَجْنُونًا بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ وَالْكَافِرِ وَلَمْ يَرِدْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا شَيْءٌ مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ تَفْسِيرًا لِمَا أَبْهَمَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ هَذَا قَوْلَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خَاصَّةً وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْجُنُونَ الْحَاصِلَ قَبْلَ الْبُلُوغِ حَصَلَ فِي وَقْتِ نُقْصَانِ الدِّمَاغِ لِآفَةٍ فِيهِ مَانِعَةٍ لَهُ عَنْ قَبُولِ الْكَمَالِ مُبْقِيَةٍ لَهُ عَلَى مَا خُلِقَ عَلَيْهِ مِنْ الضَّعْفِ الْأَصْلِيِّ فَكَانَ أَمْرًا أَصْلِيًّا فَلَا يُمْكِنُ إلْحَاقُهُ بِالْعَدَمِ فَتَلْزَمُهُ الْحُقُوقُ مُقْتَصِرَةً عَلَى

وَفِي الصَّوْمِ بِأَنْ يَسْتَغْرِقَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَلَمْ يُعْتَبَرْ التَّكْرَارُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِحَوْلٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْحَالِ فَأَمَّا الْحَاصِلُ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَقَدْ حَصَلَ بَعْدَ كَمَالِ الْأَعْضَاءِ وَاسْتِيفَاءِ كُلٍّ مِنْهَا الْقُوَّةَ فَكَانَ مُعْتَرِضًا عَلَى الْمَحَلِّ الْكَامِلِ بِلُحُوقِ آفَةٍ عَارِضَةٍ فَيُمْكِنُ إلْحَاقُهُ بِالْعَدَمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْحَرَجِ فِي إيجَابِ الْحُقُوقِ وَوَجْهُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ أَنَّ الْجُنُونَ الْحَاصِلَ قَبْلَ الْبُلُوغِ مِنْ قَبِيلِ الْعَارِضِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَمَّا زَالَ فَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى حُصُولِهِ عَنْ أَمْرٍ عَارِضٍ عَلَى أَصْلِ الْخِلْقَةِ لَا لِنُقْصَانٍ جُبِلَ عَلَيْهِ دِمَاغُهُ فَكَانَ مِثْلَ الْعَارِضِ بَعْدَ الْبُلُوغِ. قَوْلُهُ (وَحَدُّ الِامْتِدَادِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الطَّاعَاتِ) لِأَنَّ بَعْضَهَا مُؤَقَّتٌ بِالْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَبَعْضَهَا بِالشَّهْرِ وَبَعْضَهَا بِالسَّنَةِ فَأَمَّا الصَّلَاةِ فَكَذَا اعْلَمْ أَنَّ الِامْتِدَادَ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ يَحْصُلُ بِالْكَثْرَةِ الْمُوقِعَةِ فِي الْحَرَجِ لِأَنَّ الْجُنُونَ إذَا امْتَدَّ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ إيجَابُ الْعِبَادَةِ مَعَهُ مُوقِعًا فِي الْحَرَجِ لَا يُمْكِنُهُ أَدَاءُ الْعِبَادَةِ مَعَ هَذَا الْوَصْفِ وَإِذَا زَالَ وَقَدْ وَجَبَتْ الْعِبَادَاتُ عَلَيْهِ فِي حَالِ الْجُنُونِ اجْتَمَعَتْ وَاجِبَاتٌ حَالَ الْجُنُونِ وَحَالَ الْإِفَاقَةِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَيُحْرَجُ فِي أَدَائِهَا لِكَثْرَتِهَا ثُمَّ لَمَّا لَمْ تَكُنْ لِلْكَثْرَةِ نِهَايَةٌ يُمْكِنُ ضَبْطُهَا اعْتَبَرَ أَدْنَاهَا وَهُوَ أَنْ يَسْتَوْعِبَ الْعُذْرُ وَظِيفَةَ الْوَقْتِ إلَّا أَنَّ وَقْتَ جِنْسِ الصَّلَاةِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَهُوَ وَقْتٌ قَصِيرٌ فِي نَفْسِهِ فَأُكِّدَتْ كَثْرَتُهَا بِدُخُولِهَا فِي حَدِّ التَّكْرَارِ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا يَحْصُلُ بِهِ التَّكْرَارُ فَاعْتَبَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - دُخُولَ نَفْسِ الصَّلَوَاتِ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ بِأَنْ تَصِيرَ الصَّلَوَاتُ سِتًّا لِأَنَّ التَّكْرَارَ يَتَحَقَّقُ بِهِ وَأَقَامَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْوَقْتَ فِيهِ أَيْ فِي دُخُولِ الصَّلَاةِ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ مَقَامَ الصَّلَاةِ يَعْنِي أَنَّهُمَا اعْتَبَرَا الزِّيَادَةَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بِاعْتِبَارِ السَّاعَاتِ هَكَذَا ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا جُنَّ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ثُمَّ أَفَاقَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الْعَصْرِ فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَمْ تَصِرْ سِتًّا فَلَمْ يَدْخُلْ الْوَاجِبُ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ حَقِيقَةً. وَعِنْدَهُمَا لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ وَقْتَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَهُوَ الْيَوْمُ وَاللَّيْلَةُ قَدْ دَخَلَ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ الْوَاجِبُ فِيهِ وَالْوَقْتُ سَبَبٌ فَيُقَامُ مَقَامَ الْوَاجِبِ الَّذِي هُوَ مُسَبِّبُهُ لِلتَّيْسِيرِ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِإِسْقَاطِ الْوَاجِبِ عَنْهُ قَبْلَ صَيْرُورَتِهِ مُكَرَّرًا كَمَا أُقِيمَ السَّفَرُ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَلَمْ يَقْضِ الصَّلَاةَ وَالْعِبْرَةُ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لِعَيْنِ النَّصِّ لَا لِلْمَعْنَى وَالْجُنُونُ فَوْقَ الْإِغْمَاءِ فِي هَذَا الْحُكْمِ فَيُلْحَقُ بِهِ دَلَالَةً وَالِامْتِدَادُ فِي الصَّوْمِ بِأَنْ يَسْتَغْرِقَ الْجُنُونُ شَهْرَ رَمَضَانَ وَهَذَا اللَّفْظُ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَوْ أَفَاقَ فِي جُزْءٍ مِنْ الشَّهْرِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا يَجِبُ الْقَضَاءُ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَذَكَرَ فِي الْكَامِلِ نَقْلًا عَنْ الْإِمَامِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُفِيقًا فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَأَصْبَحَ مَجْنُونًا وَاسْتَوْعَبَ الْجُنُونُ بَاقِيَ الشَّهْرِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ اللَّيْلَ لَا يُصَامُ فِيهِ فَكَانَ الْجُنُونُ وَالْإِفَاقَةُ فِيهِ سَوَاءً وَكَذَا لَوْ أَفَاقَ فِي لَيْلَةٍ مِنْ الشَّهْرِ ثُمَّ أَصْبَحَ مَجْنُونًا وَلَوْ أَفَاقَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ فِي وَقْتِ النِّيَّةِ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَإِنْ أَفَاقَ بَعْدَهُ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُلْزَمُ الْقَضَاءَ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يُفْلِحُ

وَبِالزَّكَاةِ بِأَنْ يَسْتَغْرِقَ الْحَوْلَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَقَامَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَكْثَرَ الْحَوْلِ مَقَامَ كُلِّهِ فِيمَا يَمْتَدُّ عَمَلًا بِالتَّيْسِيرِ وَالتَّخْفِيفِ فَإِذَا زَالَ قَبْلَ هَذَا الْحَدِّ وَهُوَ أَصْلِيٌّ كَانَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ الْجُنُونَ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي الذِّمَّةَ وَلَا يُنَافِي حُكْمَ الْوَاجِبِ وَهُوَ الثَّوَابُ فِي الْآخِرَةِ إذَا اُحْتُمِلَ الْأَدَاءُ. أَلَا يَرَى أَنَّ الْمَجْنُونَ يَرِثُ وَيَمْلِكُ وَذَلِكَ وِلَايَةٌ إلَّا أَنْ يَنْعَدِمَ الْأَدَاءُ فَيَصِيرَ الْوُجُوبُ عَدَمًا بِنَاءً عَلَيْهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِيهِ. ثُمَّ لَمْ يُعْتَبَرْ التَّكْرَارُ فِي حَقِّ الصَّوْمِ كَمَا اُعْتُبِرَ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّا إنَّمَا شَرَطْنَا دُخُولَ الصَّلَاةِ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ تَأْكِيدًا لِوَصْفِ الْكَثْرَةِ فَإِنَّ أَصْلَ الْكَثْرَةِ يَحْصُلُ بِاسْتِيعَابِ الْجِنْسِ وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى الْمُؤَكِّدِ إذَا لَمْ يَزْدَدْ الْمُؤَكِّدُ عَلَى الْأَصْلِ وَفِي بَابِ الصَّوْمِ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ لِأَنَّ الْمُؤَكَّدَ فِيهِ يَزْدَادُ عَلَى الْأَصْلِ إذْ لَا يَأْتِي وَقْتُ وَظِيفَةٍ أُخْرَى مَا لَمْ يَمْضِ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا فَيَزْدَادُ مَا شَرَعَ تَابِعًا عَلَى مَا شُرِعَ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ وَهُوَ فَاسِدٌ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ زِيَادَةُ الْمَرَّتَيْنِ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فِي الْوُضُوءِ فَإِنَّهَا شُرِعَتْ لِتَأْكِيدِ الْفَرْضِ مَعَ أَنَّهَا أَكْثَرُ عَدَدًا مِنْ الْأَصْلِ لِأَنَّهَا لَمْ تُشْرَعْ شَرْطًا لِاسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ بَلْ الزَّائِدُ سُنَّةٌ وَالسُّنَنُ وَالنَّوَافِلُ وَإِنْ كَثُرَتْ لَا تُمَاثِلُ الْفَرْضَ فَلَا يَرِدُ نَقْضًا لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ نَفْيُ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ التَّبَعِ وَالْأَصْلِ وَقَدْ حَصَلَ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّ الزَّائِدَ فِيهِ شَرْطٌ كَالْأَصْلِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مِثْلًا لَهُ. وَالثَّانِي أَنَّ الصَّوْمَ وَظِيفَةُ السَّنَةِ لَا وَظِيفَةُ الشَّهْرِ وَإِنْ كَانَ أَدَاؤُهُ فِي بَعْضِ أَوْقَاتِهَا كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَظِيفَةَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَإِنْ كَانَ أَدَاؤُهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَلِهَذَا كَانَ رَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهُمَا وَجَعَلَ صَوْمَ رَمَضَانَ مَعَ سِتٍّ مِنْ شَوَّالَ بِمَنْزِلَةِ صِيَامِ الدَّهْرِ كُلِّهِ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ ثُمَّ كَمَا مَضَى الشَّهْرُ دَخَلَ وَقْتُ وَظِيفَةٍ أُخْرَى إذْ الِاسْتِيعَابُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِوُجُودِ جُزْءٍ مِنْ شَوَّالٍ فَكَانَ الْجِنْسُ كَالْمُتَكَرِّرِ بِتَكَرُّرِ وَقْتِهِ وَيَتَأَكَّدُ الْكَثْرَةُ بِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِ تَكْرَارِ حَقِيقَةِ الْوَاجِبِ فَكَانَ هَذَا مِثْلَ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الصَّلَاةِ قَوْلُهُ (وَفِي الزَّكَاةِ) أَيْ الِامْتِدَادِ فِي حَقِّ الزَّكَاةِ بِأَنْ يَسْتَغْرِقَ الْجُنُونُ الْحَوْلَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ رُسْتُمَ عَنْهُ وَرِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي الْأَمَالِي قَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ الزَّكَوَاتِ تَدْخُلُ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ بِدُخُولِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ. وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ امْتِدَادَهُ فِي حَقِّ الزَّكَاةِ بِأَكْثَرِ السَّنَةِ وَنِصْفَ السَّنَةِ مُلْحَقٌ بِالْأَقَلِّ لِأَنَّ كُلَّ وَقْتِهَا الْحَوْلُ إلَّا أَنَّهُ مَدِيدٌ جِدًّا فَقُدِّرَ بِأَكْثَرِ الْحَوْلِ عَمَلًا بِالتَّيْسِيرِ وَالتَّخْفِيفِ فَإِنَّ اعْتِبَارَ أَكْثَرِ السَّنَةِ أَيْسَرُ وَأَخَفُّ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ اعْتِبَارِ تَمَامِهَا لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى سُقُوطِ الْوَاجِبِ مِنْ اعْتِبَارِ الْجَمِيعِ كَمَا أَنَّ اعْتِبَارَ الْوَقْتِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ أَيْسَرُ مِنْ اعْتِبَارِ حَقِيقَتِهَا فَإِذَا زَالَ الْجُنُونُ قَبْلَ هَذَا الْحَدِّ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي كُلِّ عِبَادَةٍ وَهُوَ أَصْلِيٌّ كَانَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي حَقِّ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَبَيَانُهُ فِي حَقِّ الزَّكَاةِ فِيمَا إذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ مَجْنُونًا وَهُوَ مَالِكٌ لِنِصَابٍ فَزَالَ جُنُونُهُ بَعْدَ مُضِيِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ مِنْ وَقْتِ الْبُلُوغِ وَهُوَ مُفِيقٌ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَصْلِيِّ وَالْعَارِضِيِّ وَلَا تَجِبُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَلْ يُسْتَأْنَفُ الْحَوْلُ مِنْ وَقْتِ الْإِفَادَةِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ الَّذِي بَلَغَ الْآنَ عِنْدَهُ. وَلَوْ كَانَ الْجُنُونُ عَارِضِيًّا فَزَالَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ يَجِبُ الزَّكَاةُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ زَالَ قَبْلَ الِامْتِدَادِ عِنْدَ الْكُلِّ وَلَوْ زَالَ الْجُنُونُ بَعْدَ مُضِيِّ أَحَدَ

وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ الْمَجْنُونَ مُؤَاخَذٌ بِضَمَانِ الْأَفْعَالِ فِي الْأَمْوَالِ عَلَى الْكَمَالِ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِحُكْمِهِ عَلَى مَا قُلْنَا فَإِذَا ثَبَتَتْ الْأَهْلِيَّةُ كَانَ الْعَارِضُ مِنْ أَسْبَابِ الْحَجْرِ. وَالْحَجْرُ عَنْ الْأَقْوَالِ صَحِيحٌ فَفَسَدَتْ عِبَارَاتُهُ وَقُلْنَا لَمَّا لَمْ يَصِحَّ إيمَانُهُ لِعَدَمِ رُكْنِهِ وَهُوَ الْعَقْدُ وَالْأَدَاءُ أَيْضًا ـــــــــــــــــــــــــــــQعَشَرَ شَهْرًا يَجِبُ الزَّكَاةُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ سَوَاءٌ كَانَ الْجُنُونُ أَصْلِيًّا أَوْ عَارِضِيًّا لِوُجُودِ الزَّوَالِ قَبْلَ الِامْتِدَادِ وَلِمُسَاوَاةِ الْأَصْلِيِّ الْعَارِضِيَّ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تَجِبُ بِوُجُودِ الزَّوَالِ بَعْدَ الِامْتِدَادِ قَوْلُهُ (وَقَدْ بَيَّنَّا) يَعْنِي فِي آخِرِ بَابِ دَفْعِ الْعِلَلِ الطَّرْدِيَّةِ وَبَابِ بَيَانِ الْأَهْلِيَّةِ أَنَّ الْجُنُونَ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ بِالذِّمَّةِ وَالصَّلَاحِيَّةِ لِحُكْمِ الْوُجُوبِ أَيْ فَائِدَتِهِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَبِاحْتِمَالِ الْأَدَاءِ، وَالْجُنُونُ لَا يُنَافِي الذِّمَّةَ لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ لِكُلِّ مَوْلُودٍ مِنْ الْبَشَرِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ وَلَا يُنَافِي حُكْمَ الْوَاجِبِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي الْإِسْلَامَ إذْ الْمَجْنُونُ يَبْقَى مُسْلِمًا بَعْدَ جُنُونِهِ فَلَا يُنَافِي اسْتِحْقَاقَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَلَا يُنَافِي احْتِمَالَ الْأَدَاءِ أَيْضًا لِأَنَّ الْأَدَاءَ مَرْجُوٌّ عَنْهُ بِالْإِفَاقَةِ فِي الْوَقْتِ وَخَلَفُهُ وَهُوَ الْقَضَاءُ مُتَوَهَّمٌ بِالْإِفَاقَةِ خَارِجَ الْوَقْتِ وَذَلِكَ كَافٍ لِلْوُجُوبِ كَمَا فِي الْإِغْمَاءِ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ يُبَيِّنُهُ أَنَّ الْأَدَاءَ مُتَصَوَّرٌ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَوْ نَوَى الصَّوْمَ لَيْلًا ثُمَّ أَصْبَحَ مَجْنُونًا يَصِحُّ مِنْهُ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ لِأَنَّ الرُّكْنَ بَعْدَ النِّيَّةِ تَرْكُ الْمُفْطِرَاتِ وَأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ كَمَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الْعَاقِلِ وَالتَّرْكُ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَرْكٌ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَصْدِ وَالتَّمْيِيزِ وَإِذَا تُصُوِّرَ مِنْهُ الْأَدَاءُ كَانَ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ لِأَنَّ مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْأَدَاءِ كَانَ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ أَلَا تَرَى مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ لَا يُنَافِي الذِّمَّةَ أَيْ أَنَّ الْمَجْنُونَ يَرِثُ وَيَمْلِكُ وَثُبُوتُ الْإِرْثِ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ لِأَنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ وَالْوَارِثُ يَخْلُفُ الْمُوَرِّثَ مِلْكًا تَصَرُّفًا حَتَّى إنَّ مَا يَقْطَعُ الْوِلَايَةَ كَالرِّقِّ وَاخْتِلَافِ الدِّينِ يَمْنَعُ التَّوَارُثَ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ وِرَاثَةُ الصَّبِيِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ لِأَنَّهُ عُدِمَ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ أَهْلِيَّةُ مُبَاشَرَةِ التَّصَرُّفِ وَلَمْ يَنْعَدِمُ أَهْلِيَّةُ الْمِلْكِ وَالْوِرَاثَةُ خِلَافَةُ الْمِلْكِ وَالْوَلِيُّ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي التَّصَرُّفِ وَكَذَا الْمِلْكُ وِلَايَةٌ لِأَنَّهُ اسْتِيلَاءٌ عَلَى الْمَحِلِّ شَرْعًا وَالْوِلَايَةُ لَا تَثْبُتُ بِدُونِ الذِّمَّةِ إلَّا أَنْ يَنْعَدِمَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ أَيْ إلَّا أَنْ يَنْعَدِمَ الْأَدَاءُ تَحْقِيقًا وَتَقْدِيرًا بِأَنْ لَزِمَ مِنْهُ حَرَجٌ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ الْوُجُوبُ مَعْدُومًا أَيْ لَا يَثْبُتُ أَصْلًا بِنَاءً عَلَى عَدَمِ الْأَدَاءِ لِهَذَا أَيْ وَلِعَدَمِ مُنَافَاتِهِ أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ قُلْنَا إنَّ الْمَجْنُونَ يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ الْأَفْعَالِ فِي الْأَمْوَالِ عَلَى الْكَمَالِ حَتَّى لَوْ أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ كَمَا يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ أَهْلٌ لِحُكْمِ وُجُوبِ الْمَالِ وَهُوَ الْأَدَاءُ عَلَى مَا قُلْنَا فِي بَابِ الْأَهْلِيَّةِ أَنَّ الْمَالَ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ دُونَ الْفِعْلِ وَالْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِأَدَاءِ النَّائِبِ فَكَانَ الْمَجْنُونُ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِهِ كَالصَّبِيِّ وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ عَلَى الْكَمَالِ عَنْ ضَمَانِ الْأَفْعَالِ فِي الْأَنْفُسِ فَإِنَّهُ لَوْ جَنَى جِنَايَةً مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ الَّذِي هُوَ ضَمَانُ هَذَا الْفِعْلِ عَلَى الْكَمَالِ وَيَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ كَمَا فِي الْخَطَأِ. قَوْلُهُ (وَإِذَا ثَبَتَتْ الْأَهْلِيَّةُ لِلْمَجْنُونِ كَانَ هَذَا الْعَارِضُ) وَهُوَ الْجُنُونُ مِنْ أَسْبَابِ الْحَجْرِ يَعْنِي أَنَّ الْمَجْنُونَ لَيْسَ بِعَدِيمِ الْأَهْلِيَّةِ بِحَيْثُ لَا يُعْتَبَرُ أَفْعَالُهُ وَأَقْوَالُهُ جَمِيعًا كَالْبَهَائِمِ بَلْ لَهُ أَصْلُ الْأَهْلِيَّةِ حَيْثُ يَثْبُتُ لَهُ الْإِرْثُ وَالْمِلْكُ وَاعْتُبِرَ مِنْ أَفْعَالِهِ مَا لَا يَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى الْعَقْلِ وَلَكِنْ لَمَّا فَاتَ عَقْلُهُ بِعَارِضِ الْجُنُونِ كَانَ هَذَا الْعَارِضُ مِنْ أَسْبَابِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ فِيمَا يَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى الْعَقْلِ نَظَرًا لَهُ كَالصِّبَا وَالرِّقِّ فَإِنَّهُمَا مِنْ أَسْبَابِ الْحَجْرِ نَظَرًا لِلصَّغِيرِ وَالْمَوْلَى وَالْحَجْرُ

فَلَمْ يَكُنْ حَجْرًا لِأَنَّ عَدَمَ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الرُّكْنِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْحَجْرِ وَلَكِنْ الْإِيمَانُ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّهِ حَتَّى صَارَ مُؤْمِنًا تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ كَذَلِكَ قَالَ فِي الْجَامِعِ فَلَمْ يَصِحَّ التَّكْلِيفُ بِوَجْهٍ إلَّا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ فَإِنَّ امْرَأَةَ الْمَجْنُونِ إذَا أَسْلَمَتْ عُرِضَ الْإِسْلَامُ عَلَى وَلِيِّ الْمَجْنُونِ دَفْعًا لِلظُّلْمِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. وَمَا كَانَ ضَرَرًا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ فَغَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي حَقِّهِ وَمَا كَانَ قَبِيحًا لَا يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ فَثَابِتٌ فِي حَقِّهِ حَتَّى يَصِيرَ مُرْتَدًّا تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQعَنْ الْأَقْوَالِ صَحِيحٌ لِأَنَّ اعْتِبَارَهَا بِالشَّرْعِ فَيَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ اعْتِبَارُهَا شَرْعًا بِعَارِضٍ بِخِلَافِ الْأَفْعَالِ فَإِنَّهَا تُوجَدُ حِسًّا لَا مَرَدَّ لَهَا فَلَا يُتَصَوَّرُ الْحَجْرُ عَنْهَا شَرَعَا فَفَسَدَتْ عِبَارَاتُهُ حَتَّى لَمْ تَصِحَّ أَقَارِيرُهُ وَعُقُودُهُ وَغَيْرُهَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْعِبَارَةِ لِأَنَّ صِحَّةَ الْكَلَامِ بِالْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ فَبِدُونِهِمَا لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ وَقُلْنَا لَمْ يَصِحَّ إيمَانُ الْمَجْنُونِ حَتَّى لَوْ كَانَ أَبَوَاهُ كَافِرَيْنِ فَأَقَرَّ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِحَّةِ الرِّسَالَةِ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ لِأَنَّ رُكْنَ الْإِيمَانِ لَمْ يُوجَدْ وَهُوَ عَقْدُ الْقَلْبِ وَالْأَدَاءُ الصَّادِرَانِ عَنْ عَقْلٍ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ حَيْثُ صَحَّ إيمَانُهُ لِوُجُودِ رُكْنِهِ عَلَى مَا مَرَّ فَلَمْ يَكُنْ حَجْرًا أَيْ لَمْ يَكُنْ الْقَوْلُ بِعَدَمِ صِحَّةِ إيمَانِهِ حَجْرًا عَنْ الْإِيمَانِ وَهَذَا جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ مَا ذَكَرْتُمْ حَجْرٌ عَنْ الْإِيمَانِ لِأَنَّ عَدَمَ اعْتِبَارِ إقْرَارِهِ بِالتَّوْحِيدِ مَعَ وُجُودِهِ حَقِيقَةً لَيْسَ إلَّا بِطَرِيقِ الْحَجْرِ وَقَدْ أَنْكَرْتُمْ الْحَجْرَ عَنْ الْإِيمَانِ فِي مَسْأَلَةِ إيمَانِ الصَّبِيِّ فَقَالَ لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْحَجْرِ لِأَنَّ عَدَمَ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الرُّكْنِ لَا يُعَدُّ حَجْرًا وَكَذَا الْحُكْمُ فِي سَائِرِ عِبَارَاتِهِ أَيْضًا فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِمُعْتَبَرَةٍ أَصْلًا لِفَوَاتِ الْعَقْلِ حَتَّى لَمْ تَنْفُذْ بِإِجَازَةِ الْوَلِيِّ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ الْحَجْرِ فِيهَا إخْرَاجَهَا مِنْ الِاعْتِبَارِ مِنْ الْأَصْلِ وَتَسْمِيَتُهُ مَحْجُورًا عَنْهَا تَوَسُّعٌ بِخِلَافِ الْحَجْرِ فِي أَقْوَالِ الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ لِأَنَّهَا صَادِرَةٌ عَنْ عَقْلٍ فَيَجُوزُ أَنْ تُعْتَبَرَ وَلَكِنَّهَا لَمْ تُعْتَبَرْ لِحَقِّ الْمَوْلَى وَالصَّبِيِّ فَيَكُونُ إطْلَاقُ الْحَجْرِ فِيهَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ. وَلَكِنَّ الْإِيمَانَ مَشْرُوعٌ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ لَمْ يَصِحَّ إيمَانُهُ أَيْ لَمْ يَصِحَّ إيمَانُهُ بِنَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّهِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ حَتَّى صَارَ مُؤْمِنًا تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ كَمَا شُرِعَ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ كَذَلِكَ أَيْ كَمَا بَيَّنَّا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَسَنُبَيِّنُهُ وَلَمْ يَصِحَّ التَّكْلِيفُ بِوَجْهٍ أَيْ لَمْ يَصِحَّ تَكْلِيفُ الْمَجْنُونِ بِالْإِيمَانِ بِوَجْهٍ سَوَاءٌ كَانَ بَالِغًا أَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّ صِحَّةَ التَّكْلِيفِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ آلَةُ الْقُدْرَةِ وَقَدْ عُدِمَ إلَّا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ فَإِنَّ تَكْلِيفَهُ بِالْإِيمَانِ يَصِحُّ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حُقُوقِهِمْ بِالطَّرِيقِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ وَبَيَانُهُ مَجْنُونٌ نَصْرَانِيٌّ زَوَّجَهُ أَبُوهُ النَّصْرَانِيُّ امْرَأَةً نَصْرَانِيَّةً فَأَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُعْرَضَ الْإِسْلَامُ عَلَى الْأَبِ وَلَكِنْ يُؤَخَّرُ حَتَّى يَعْقِلَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُعْرَضُ عَلَى الْأَبِ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْعَرْضَ وَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ وَثَبَتَ لَهُ حَقُّ الْإِمْسَاكِ بِإِسْلَامِهِ فَوَجَبَ تَأْخِيرُهُ إلَى حَالِ عَقْلِهِ كَمَا فِي الصَّغِيرِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْجُنُونَ لَيْسَ لَهُ غَايَةٌ مَعْلُومَةٌ فَالتَّأْخِيرُ إلَى حَالِ الْعَقْلِ يُعَدُّ إبْطَالًا لِحَقِّهَا مَعَ أَنَّ فِيهِ فَسَادًا لِأَنَّ الْمَجْنُونَ قَادِرٌ عَلَى الْوَطْءِ فَصَارَ التَّأْخِيرُ ضَرَرًا مَحْضًا وَفَسَادًا وَكِلَاهُمَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَتَعَذَّرَ الْإِمْسَاكُ بِالْأَصْلِ وَهُوَ إسْلَامُهُ بِنَفْسِهِ فَوَجَبَ النَّقْلُ إلَى مَا يَخْلُفُهُ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا وَفِيهِ صِيَانَةُ الْحَقَّيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ فَصَارَ أَوْلَى مِنْ إبْطَالِ أَحَدِهِمَا فَإِنْ أَسْلَمَ الْأَبُ بَقِيَا عَلَى النِّكَاحِ وَإِلَّا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّغِيرِ إذَا أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ حَيْثُ يُؤَخَّرُ الْعَرْضُ إلَى حَالِ عَقْلِهِ لِأَنَّ لِلصِّغَرِ غَايَةً فَصَارَ انْتِظَارُ عَقْلِهِ تَأْخِيرًا جَامِعًا لِلْحَقَّيْنِ وَلَمْ يَكُنْ إبْطَالًا فَلَمْ يَصِحَّ النَّقْلُ إلَى الْخَلَفِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ لِلْمُصَنِّفِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَى وَالِدِهِ أَنْ يُعْرَضَ بِطَرِيقِ الْإِلْزَامِ وَلَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الشَّفَقَةِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ الْآبَاءِ عَلَى الْأَوْلَادِ عَادَةً فَلَعَلَّ ذَلِكَ يَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يُسْلِمَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَالِدَانِ جَعَلَ الْقَاضِي لَهُ خَصْمًا وَفَرَّقَ

وَأَمَّا الصِّغَرُ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِهِ فَمِثْلُ الْجُنُونِ أَيْضًا لِأَنَّهُ عَدِيمُ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ وَأَمَّا إذَا عَقَلَ فَقَدْ أَصَابَ ضَرَبَا مِنْ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ لَكِنْ الصَّبِيُّ عُذِرَ مَعَ ذَلِكَ فَقَدْ سَقَطَ بِعُذْرِ الصِّبَا مَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ عَنْ الْبَالِغِ فَقُلْنَا لَا يَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضِيَّةُ الْإِيمَانِ حَتَّى إذَا أَدَّاهُ كَانَ فَرْضًا لَا نَفْلًا أَلَا يَرَى أَنَّهُ إذَا آمَنَ فِي صِغَرِهِ لَزِمَهُ أَحْكَامٌ ثَبَتَتْ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الْإِيمَانِ وَهِيَ جُعِلَتْ تَبَعًا لِلْإِيمَانِ الْفَرْضِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبَيْنَهُمَا فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْآبَاءَ سَقَطَ اعْتِبَارُهُمْ هَاهُنَا لِلتَّعَذُّرِ وَأَنَّ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ مِنْ الْعَرْضِ عَلَى سَبِيلِ الشَّفَقَةِ حَتَّى قَالُوا الْأَبُ وَالْأُمُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. قَوْلُهُ (وَمَا كَانَ ضَرَرًا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ) مِثْلَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ فَإِنْ إلْزَامَهَا نَوْعُ ضَرَرٍ فِي حَقِّهِ وَإِنَّهَا تَسْقُطُ بِأَعْذَارٍ وَمِثْلُ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ فَإِنَّهَا تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ فَغَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي حَقِّ الْمَجْنُونِ لِأَنَّهَا لَمَّا سَقَطَتْ بِأَعْذَارٍ وَشُبُهَاتٍ لَأَنْ تَسْقُطَ بِعُذْرِ الْجُنُونِ الْمُزِيلِ لِلْعَقْلِ كَانَ أَوْلَى وَكَذَا الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالْهِبَةُ وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ الْمَضَارِّ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي حَقِّهِ حَتَّى لَا يَمْلِكَهَا عَلَيْهِ وَلِيُّهُ كَمَا لَا تُشْرَعُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ لِأَنَّهَا مِنْ الْمَضَارِّ الْمَحْضَةِ وَمَا كَانَ قَبِيحًا لَا يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ مِثْلُ الْكُفْرِ فَثَابِتٌ فِي حَقِّهِ حَتَّى أَنَّهُ يَصِيرُ مُرْتَدًّا تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ الضَّارَّ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثَابِتٍ فِي حَقِّهِ إلَّا أَنَّ الْكُفْرَ بِاَللَّهِ قَبِيحٌ لَا يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِرَدِّهِ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ وَإِذَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِمَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ أَيْضًا لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُمَا فِي الدِّينِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ فِي حَقِّهِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ رُكْنِهِ مِنْهُ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ فَإِذَا ارْتَدَّ أَبَوَاهُ وَزَالَتْ التَّبَعِيَّةُ فِي الْإِسْلَامِ لَا وَجْهَ إلَى جَعْلِهِ مُسْلِمًا بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ فَلَوْ لَمْ يَحْكُمْ بِرِدَّتِهِ لَوَجَبَ أَنْ يَعْفُوَ رِدَّتَهُمَا وَهُوَ فَاسِدٌ فَلَزِمَ الْقَوْلُ بِثُبُوتِ الرِّدَّةِ فِي حَقِّهِ ضَرُورَةً وَإِنَّمَا ثَبَتَتْ الرِّدَّةُ فِي حَقِّهِ تَبَعًا إذَا بَلَغَ مَجْنُونًا وَأَبَوَاهُ مُسْلِمَانِ فَارْتَدَّا وَلَحِقَا بِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ. فَإِنْ لَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ وَتَرَكَاهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا تَثْبُتُ الرِّدَّةُ فِي حَقِّهِ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ تَبِعَا لِلدَّارِ إذْ الْإِسْلَامُ يُسْتَفَادُ بِأَحَدِ الْأَبَوَيْنِ بِالدَّارِ فَإِذَا بَطَلَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ مِنْ جِهَةِ الْأَبَوَيْنِ ظَهَرَ أَثَرُ دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ كَالْخُلْفِ عَنْ الْأَبَوَيْنِ وَلَوْ أَدْرَكَ عَاقِلًا مُسْلِمًا وَأَبَوَاهُ مُسْلِمَانِ ثُمَّ جُنَّ فَارْتَدَّا وَلَحِقَا بِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَصِرْ تَبَعًا لَهُمَا فِي الرِّدَّةِ لِأَنَّهُ صَارَ أَصْلًا فِي الْإِيمَانِ فَلَا يَصِيرُ تَبَعًا بَعْدَهُ بِحَالٍ وَكَذَا لَوْ أَسْلَمَ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَهُوَ عَاقِلٌ ثُمَّ جُنَّ لَمْ يَتَّبِعْ أَبَوَيْهِ بِحَالٍ لِأَنَّهُ صَارَ أَصْلًا فِي الْإِيمَانِ بِتَقَرُّرِ سَبَبِهِ وَهُوَ الِاعْتِقَادُ وَالْإِقْرَارُ فَلَمْ يَنْعَدِمْ ذَلِكَ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي اعْتَرَضَتْ فَبَقِيَ مُسْلِمًا إلَيْهِ أُشِيرَ فِي نِكَاحِ الْجَامِعِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الصِّغَرُ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِهِ فَمِثْلُ الْجُنُونِ) فَيَسْقُطُ عَنْ الصَّغِيرِ مَا يَسْقُطُ عَنْ الْمَجْنُونِ وَلَمْ يَصِحَّ إيمَانُهُ وَلَا تَكْلِيفُهُ بِهِ بِوَجْهٍ لِأَنَّهُ أَيْ الصَّغِيرُ وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى مَدْلُولِ الصِّغَرِ عَدِيمُ التَّمْيِيزِ وَالْعَقْلِ كَالْمَجْنُونِ وَالتَّمْيِيزُ مَعْنَى يَعُمُّ جَمِيعَ الْحَيَوَانَاتِ بِهِ تَعْرِفُ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا بَقَاؤُهَا رَكَّبَهُ اللَّهُ فِي طِبَاعِهَا وَالْعَقْلُ مُخْتَصٌّ بِالْإِنْسَانِ بِهِ يُدْرِكُ عَوَاقِبَ الْأُمُورِ وَحَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ وَقَدْ عَدِمَ الصَّغِيرُ كِلَيْهِمَا فِي أَوَّلِ أَحْوَالِهِ فَكَانَ مِثْلَ الْمَجْنُونِ بَلْ أَدْنَى حَالًا مِنْهُ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلْمَجْنُونِ تَمْيِيزٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَقْلٌ وَهُوَ عَدِيمُ الْأَمْرَيْنِ وَأَمَّا إذَا عَقَلَ أَيْ تَرَقَّى الصَّبِيُّ عَنْ أُولَى دَرَجَاتِ الصِّغَرِ إلَى أَوْسَاطِهَا وَظَهَرَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ آثَارِ الْعَقْلِ فَقَدْ أَصَابَ ضَرْبًا أَيْ نَوْعًا مِنْ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ فِي حَقِّهِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ بِحَسَبِ ذَلِكَ لَكِنَّ الصِّبَا عُذْرٌ مَعَ ذَلِكَ أَيْ مَعَ أَنَّهُ قَدْ أَصَابَ ضَرْبًا مِنْ الْأَهْلِيَّةِ لِأَنَّهُ نَاقِصُ الْعَقْلِ بَعْدُ لِبَقَاءِ الصِّبَا وَعَدَمِ بُلُوغِ الْعَقْلِ غَايَةَ الِاعْتِدَالِ فَسَقَطَ بِهِ أَيْ بِهَذَا الْعُذْرِ مَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ عَنْ الْبَالِغِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلُ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ فَإِنَّهَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِأَعْذَارٍ وَتَحْتَمِلُ

وَكَذَلِكَ إذَا بَلَغَ وَلَمْ يُعِدْ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ لَمْ يُجْعَلْ مُرْتَدًّا. وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ نَفْلًا لَمَا اُجْتُزِئَ عَنْ الْفَرْضِ وَوُضِعَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ وَإِلْزَامُ الْأَدَاءِ، وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ مَا قُلْنَا أَنْ يُوضَعَ عَنْهُ الْعُهْدَةُ وَيَصِحَّ مِنْهُ وَلَهُ مَا لَا عُهْدَةَ فِيهِ لِأَنَّ الصِّبَا مِنْ أَسْبَابِ الْمَرْحَمَةِ فَجُعِلَ سَبَبًا لِلْعَفْوِ عَنْ كُلِّ عُهْدَةٍ تَحْتَمِلُ الْعَفْوَ وَلِذَلِكَ لَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ بِالْقَتْلِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ حِرْمَانُهُ بِالْكُفْرِ وَالرِّقِّ لِأَنَّ الرِّقَّ يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ لِلْإِرْثِ. وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ لِأَنَّهُ يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْوِلَايَةِ، وَانْعِدَامُ الْحَقِّ لِعَدَمِ سَبَبِهِ أَوْ عَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ لَا يُعَدُّ جَزَاءً، وَالْعُهْدَةُ نَوْعَانِ خَالِصَةٌ لَا تَلْزَمُ الصَّبِيَّ بِحَالٍ وَمَشُوبَةٌ يَتَوَقَّفُ لُزُومُهَا عَلَى رَأْيِ الْوَلِيِّ وَلَمَّا كَانَ الصِّبَا عَجْزًا صَارَ مِنْ أَسْبَابِ وِلَايَةِ النَّظَرِ وَقَطْعِ وِلَايَتِهِ عَنْ الْأَغْيَارِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالنَّسْخَ فِي أَنْفُسِهَا وَتَثْبُتُ بِأَسْبَابٍ جُعْلِيَّةٍ مِثْلِ الْوَقْتِ وَالْمَالِ وَالْبَيْتِ فَيَجُوزُ أَنْ تَسْقُطَ بِهَذَا الْعُذْرِ الَّذِي هُوَ رَأْسُ الْأَعْذَارِ وَأَنْ لَا يَجْعَلَ تِلْكَ الْأَسْبَابَ أَسْبَابًا فِي حَقِّ الصَّبِيِّ لِعَدَمِ الْخِطَابِ وَلَكِنْ لَا يَسْقُطُ مَا لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ فَقُلْنَا لَا يَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضِيَّةُ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ فَرْضٌ دَائِمٌ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ لِأَنَّهُ تَعَالَى إلَهٌ دَائِمٌ مُنَزَّهٌ عَنْ التَّغَيُّرِ وَالزَّوَالِ فَكَانَ وُجُوبُ التَّوْحِيدِ دَائِمًا بِدَوَامِ الْأُلُوهِيَّةِ لَكِنَّ الْعَبْدَ رُبَّمَا يُعْذَرُ عَنْ الْإِجَابَةِ بِعُذْرٍ حَقِيقِيٍّ أَوْ تَقْدِيرِيٍّ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قُدْرَةُ الْفِعْلِ وَالْعَقْلِ أَوْ الْعَقْلُ كَالصَّلَاةِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الْوَقْتِ فَرْضًا فَإِنَّ الْعَبْدَ يُعْذَرُ عَنْ الْإِجَابَةِ بِعُذْرٍ حَقِيقِيٍّ أَوْ تَقْدِيرِيٍّ كَالنَّوْمِ وَفَقْدِ الطَّهَارَةِ فَإِذًا الْإِجَابَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْعَبْدِ بِشَرْطِ الطَّاقَةِ فَيُعْذَرُ بِزَوَالِ الطَّاقَةِ عَنْ الْإِجَابَةِ مَعَ بَقَاءِ وُجُوبِ التَّوْحِيدِ كَذَا قَرَّرَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ حَتَّى إذَا أَدَّاهُ الصَّبِيُّ كَانَ فَرْضًا لَا نَفْلًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَنَوِّعٍ إلَى فَرْضٍ وَنَفْلٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا آمَنَ فِي صِغَرِهِ لَزِمَهُ أَحْكَامٌ بُنِيَتْ عَلَى صِحَّةِ الْإِيمَانِ مِنْ حِرْمَانِ الْمِيرَاثِ وَوُقُوعِ الْفُرْقَةِ وَوُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَيْهِ وَهِيَ أَحْكَامٌ جُعِلَتْ تَبَعًا لِلْإِيمَانِ الْفَرْضِ فَعَرَفْنَا أَنَّ إيمَانَهُ فِي حَالِ الصِّبَا وَقَعَ فَرْضًا. وَقَوْلُهُ: الْإِيمَانُ الْفَرْضُ تَأْكِيدٌ لَا أَنَّهُ بَيَانُ نَوْعِ الْإِيمَانِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ بِمُتَنَوِّعٍ إلَى فَرْضٍ وَنَفْلٍ كَمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَمَا تَلْزَمُهُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ لَمْ يُجْعَلْ مُرْتَدًّا إذَا بَلَغَ وَلَمْ يُعِدْ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ وَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ السَّابِقُ مِنْهُ نَفْلًا لَمَا أَجْزَأَ عَنْ الْإِيمَانِ الْفَرْضِ لِأَنَّ النَّفَلَ أَدْنَى حَالًا مِنْ الْفَرْضِ لِفَوَاتِ وَصْفِ الْفَرْضِيَّةِ عَنْهُ فَلَا يُجْزِئُ عَنْ الْفَرْضِ كَمَا لَوْ صَلَّى صَبِيٌّ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ثُمَّ بَلَغَ فِي آخِرِهِ لَا يَنُوبُ الْمُؤَدَّى عَنْ الْفَرْضِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ قَبْلَ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ نَفْلٌ وَيَنُوبُ عَنْ الْوُضُوءِ الْفَرْضِ فِي الْوَقْتِ لِأَنَّ الْوُضُوءَ تَبَعٌ لِلصَّلَاةِ غَيْرُ مَقْصُودٍ وَلِهَذَا يَصِحُّ بِدُونِ نِيَّةٍ كَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ حُصُولُ الطَّهَارَةِ لِتَوَقُّفِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَهَذَا الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِالنَّفْلِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْفَرْضِ بِخِلَافِ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ رَأْسُ الطَّاعَاتِ وَأَصْلُ الْعِبَادَاتِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَأَدَّى الْفَرْضُ مِنْهُ بِغَيْرِهِ كَذَا فِي بَعْضِ الْفَوَائِدِ. قَوْلُهُ (وَوَضَعَ) أَيْ أَسْقَطَ عَنْ الصَّبِيِّ التَّكْلِيفَ بِأَدَاءِ الْإِيمَانِ لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ يَثْبُتُ بِالْخِطَابِ وَلَا خِطَابَ فِي حَقِّهِ وَلِأَنَّ أَدَاءَ الْإِيمَانِ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ عَنْ الْبَالِغِ فَإِنْ لَمْ يُصَادِفْ وَقْتًا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ الْإِقْرَارِ فَصَدَّقَ بِقَلْبِهِ صَحَّ إيمَانُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ يَسْقُطُ عَنْهُ وُجُوبُ الْإِقْرَارِ وَيُرَخَّصُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ مَعَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ فَإِذَا سَقَطَ الْوُجُوبُ عَنْ الْبَالِغِ بِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ عَنْ الصَّبِيِّ بِعُذْرِ الصِّبَا أَيْضًا كَذَا قِيلَ وَهَذَا فِي حَقِّ سُقُوطِ وُجُوبِ الْإِقْرَارِ مُسْتَقِيمٌ فَأَمَّا وُجُوبُ الِاعْتِقَادِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْقُطُ عَنْ الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْ الْبَالِغِ بِحَالٍ وَسِيَاقُ كَلَامِ الشَّيْخِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ مَا قُلْنَا أَنْ يُوضَعَ عَنْهُ الْعُهْدَةُ يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ وُجُوبِ الِاعْتِقَادِ عَنْهُ أَيْضًا لِأَنَّ إيجَابَهُ عَلَيْهِ لَا يَخْلُو عَنْ عُهْدَةٍ أَيْ تَبَعَةٍ وَهِيَ لُزُومُ عَذَابِ الْآخِرَةِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّرْكِ كَمَا فِي حَقِّ الْبَالِغِ وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ وَضَعَ عَنْهُ التَّكْلِيفَ وَإِلْزَامَ الْأَدَاءِ أَنَّ إلْزَامَ أَدَاءِ الْإِيمَانِ بِالنَّظَرِ فِي الْآيَاتِ وَوَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا هُوَ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ سَاقِطٌ عَنْهُ وَهُوَ مِمَّا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ عَنْ الْبَالِغِ بِالنَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ وَكَذَا إذَا وَصَفَ بِاللِّسَانِ مَرَّةً لَا يَلْزَمُهُ بَعْدُ فَيَصِحُّ الْقَوْلُ بِالسُّقُوطِ عَنْ الصَّبِيِّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ (وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ) أَيْ الْأَمْرِ الْكُلِّيِّ فِي بَابِ الصِّغَرِ، وَحَاصِلُ أَحْكَامِهِ أَنْ يُوضَعَ عَنْ الصَّبِيِّ الْعُهْدَةُ أَيْ يَسْقُطُ عَنْهُ عُهْدَةُ مَا يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ وَالْمُرَادُ بِالْعُهْدَةِ هَاهُنَا لُزُومُ مَا يُوجِبُ التَّبِعَةَ وَالْمُؤَاخَذَةَ وَيَصِحُّ مِنْهُ وَلَهُ أَيْ مِنْ الصَّبِيِّ بِأَنْ يُبَاشِرَ بِنَفْسِهِ وَلِلصَّبِيِّ بِأَنْ يُبَاشِرَ غَيْرُهُ لِأَجْلِهِ مَا لَا عُهْدَةَ أَيْ لَا ضَرَرَ فِيهِ كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَقَبُولِ الصَّدَقَةِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا هُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ لِأَنَّ الصِّبَا مِنْ أَسْبَابِ الْمَرْحَمَةِ طَبْعًا فَإِنَّ كُلَّ طَبْعٍ سَلِيمٍ يَمِيلُ إلَى التَّرَحُّمِ عَلَى الصِّغَارِ. وَشَرْعًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَلَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا فَلَيْسَ مِنَّا» فَجُعِلَ سَبَبًا لِلْعَفْوِ عَنْ كُلِّ عُهْدَةٍ يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ أَيْ جَعَلَ الصِّبَا سَبَبًا لِإِسْقَاطِ كُلِّ تَبِعَةٍ وَضَمَانٍ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ عَنْ الْبَالِغِ بِوَجْهٍ وَاحْتَرَزَ بِهِ عَنْ الرِّدَّةِ فَإِنَّهَا لَا يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ وَعَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَإِنَّهَا حُقُوقٌ مُحْتَرَمَةٌ تَجِبُ لِمَصَالِح الْمُسْتَحِقِّ وَتَعَلُّقِ بَقَائِهِ بِهَا فَلَا يُمْنَعُ وُجُوبُهَا بِسَبَبِ الصِّبَا كَمَا لَا يَمْتَنِعُ فِي حَقِّ الْبَالِغِ بِعُذْرٍ وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِكَوْنِ الصِّبَا سَبَبًا لِلْعَفْوِ عَنْ كُلِّ عُهْدَةٍ تَحْتَمِلُ الْعَفْوَ لَا يُحْرَمُ الصَّبِيُّ الْمِيرَاثَ بِسَبَبِ الْقَتْلِ حَتَّى لَوْ قَتَلَ مُوَرِّثَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً يَسْتَحِقُّ مِيرَاثَهُ لِأَنَّ مُوجِبَ الْقَتْلِ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِالْعَفْوِ وَبِأَعْذَارٍ كَثِيرَةٍ فَيَسْقُطُ بِعُذْرِ الصِّبَا وَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْمُوَرِّثَ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ وَلِأَنَّ الْحِرْمَانَ ثَبَتَ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ وَفِعْلُ الصَّبِيِّ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْعُقُوبَةِ لِقُصُورِ مَعْنَى الْجِنَايَةِ فِي فِعْلِهِ بِخِلَافِ الدِّيَةِ فَإِنَّهَا تَجِبُ لِعِصْمَةِ الْمَحَلِّ وَهُوَ أَهْلٌ لِوُجُوبِهِ عَلَيْهِ إذْ الصِّبَا لَا يَنْفِي عِصْمَةَ الْمَحَلِّ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى عَدَمِ حِرْمَانِ الصَّبِيِّ عَنْ الْإِرْثِ بِالْقَتْلِ حِرْمَانُهُ عَنْهُ بِالرِّقِّ وَالْكُفْرِ حَتَّى لَوْ ارْتَدَّ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ أَوْ اُسْتُرِقَّ لَا يَسْتَحِقُّ الْإِرْثَ عَنْ قَرِيبِهِ لِأَنَّ الرِّقَّ يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْإِرْثِ لِأَنَّ أَهْلِيَّتَهُ بِأَهْلِيَّةِ الْمِلْكِ إذْ الْوِرَاثَةُ خِلَافَةُ الْمِلْكِ وَالرِّقُّ يُنَافِي الْمِلْكَ لِمَا سَنُبَيِّنُهُ وَلِأَنَّ تَوْرِيثَ الرَّقِيقِ عَنْ قَرِيبِهِ تَوْرِيثُ الْأَجْنَبِيِّ عَنْ الْأَجْنَبِيِّ حَقِيقَةً لِأَنَّ الرَّقِيقَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلْمِلْكِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ ابْتِدَاءً لِمَوْلَاهُ وَذَلِكَ بَاطِلٌ وَلِأَنَّهُ أُلْحِقَ بِالْأَمْوَالِ وَالْمَالُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْإِرْثِ. وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ أَيْ وَكَالرِّقِّ الْكُفْرُ فِي أَنَّهُ يُنَافِي الْإِرْثَ لِأَنَّ الْكُفْرَ يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْوِلَايَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] وَالْإِرْثُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْوِلَايَةِ. أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ إخْبَارًا عَنْ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم: 5] {يَرِثُنِي} [مريم: 6] فَإِنَّهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْإِرْثَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْوِلَايَةِ كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ وَانْعِدَامُ الْحَقِّ وَهُوَ الْإِرْثُ هَاهُنَا لِعَدَمِ سَبَبِهِ وَهُوَ الْوِلَايَةُ كَمَا فِي الْكُفْرِ أَوْ عَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ أَيْ أَهْلِيَّةِ الْمُسْتَحِقِّ كَمَا فِي الرِّقِّ لَا يُعَدُّ جَزَاءً أَيْ عُقُوبَةً فَلَا يَمْتَنِعُ بِسَبَبِ الصِّبَا. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَا يَمْلِكُ الطَّلَاقَ لِعَدَمِ مِلْكِ النِّكَاحِ أَوْ الْعِتْقَ لِعَدَمِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ لَا يَعُدُّ ذَلِكَ عُقُوبَةً فَكَذَلِكَ هَذَا ثُمَّ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَشَارَ هَاهُنَا إلَى أَنَّ الْوِلَايَةَ سَبَبُ الْإِرْثِ وَذَكَرَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ أَنَّ سَبَبَ الْإِرْثِ هُوَ اتِّصَالُ الشَّخْصِ بِالْمَيِّتِ بِقَرَابَةٍ أَوْ زَوْجِيَّةٍ أَوْ وَلَاءٍ فَعَلَى هَذَا كَانَتْ الْوِلَايَةُ مِنْ شُرُوطِ الْأَهْلِيَّةِ كَالْحُرِّيَّةِ إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ لَمَّا نَظَرَ إلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَخْرُجُ بِكُفْرِهِ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْإِرْثِ مُطْلَقًا فَإِنَّهُ يَرِثُ مِنْ كَافِرٍ آخَرَ وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ بِخِلَافِ الرَّقِيقِ فَإِنَّهُ لَا يَرِثُ مِنْ أَحَدٍ أَصْلًا فَلَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلْمِيرَاثِ بِوَجْهِ جَعْلِ الْكُفْرِ مُزِيلًا لِلسَّبَبِ وَالرِّقِّ

وَأَمَّا الْعَتَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَمِثْلُ الصِّبَا مَعَ الْعَقْلِ فِي كُلِّ الْأَحْكَامِ حَتَّى أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ لَكِنَّهُ يَمْنَعُ الْعُهْدَةَ وَأَمَّا ضَمَانُ مَا يُسْتَهْلَكُ مِنْ الْمَالِ فَلَيْسَ بِعُهْدَةٍ لَكِنَّهُ شُرِعَ جَبْرًا وَكَوْنُهُ صَبِيًّا مَعْذُورًا أَوْ مَعْتُوهًا لَا يُنَافِي عِصْمَةَ الْمَحَلِّ وَيُوضَعُ الْخِطَابُ عَنْهُ كَمَا وُضِعَ عَنْ الصَّبِيِّ وَيُوَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يَلِي عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يَفْتَرِقُ الْجُنُونُ وَالصِّغَرُ فِي أَنَّ هَذَا الْعَارِضَ غَيْرُ مَحْدُودٍ فَقِيلَ إذَا أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ عُرِضَ عَلَى أَبِيهِ الْإِسْلَامُ أَوْ أُمِّهِ وَلَا يُؤَخَّرُ وَالصَّبِيُّ مَحْدُودٌ فَوَجَبَ تَأْخِيرُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQمُزِيلًا لِلْأَهْلِيَّةِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الِاتِّصَالُ بِالْمَيِّتِ مَعَ الْوِلَايَةِ سَبَبًا فَبِانْتِفَاءِ الْوِلَايَةِ يَنْتَفِي السَّبَبِيَّةُ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْعَتَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ) فَكَذَا الْعَتَهُ آفَةٌ تُوجِبُ خَلَلًا فِي الْعَقْلِ فَيَصِيرُ صَاحِبُهُ مُخْتَلِطَ الْكَلَامِ فَيُشْبِهُ بَعْضُ كَلَامِهِ كَلَامَ الْعُقَلَاءِ وَبَعْضُهُ كَلَامَ الْمَجَانِينِ وَكَذَا سَائِرُ أُمُورِهِ فَكَمَا أَنَّ الْجُنُونَ يُشْبِهُ أَوَّلَ أَحْوَالِ الصِّبَا فِي عَدَمِ الْعَقْلِ يُشْبِهُ الْعَتَهُ آخَرَ أَحْوَالِ الصِّبَا فِي وُجُودِ أَصْلِ الْعَقْلِ مَعَ تَمَكُّنِ خَلَلٍ فِيهِ فَكَمَا أُلْحِقَ الْجُنُونُ بِأَوَّلِ أَحْوَالِ الصِّغَرِ فِي الْأَحْكَامِ أُلْحِقَ الْعَتَهُ بِآخِرِ أَحْوَالِ الصِّبَا فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ أَيْضًا حَتَّى أَنَّ الْعَتَهَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ كَمَا لَا يَمْنَعُهَا الصِّبَا مَعَ الْعَقْلِ فَيَصِحُّ إسْلَامُ الْمَعْتُوهِ وَتَوَكُّلُهُ بِبَيْعِ مَالِ غَيْرِهِ وَطَلَاقِ مَنْكُوحَةِ غَيْرِهِ وَعَتَاقِ عَبْدِ غَيْرِهِ وَيَصِحُّ مِنْهُ قَبُولُ الْهِبَةِ كَمَا يَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ لَكِنَّهُ أَيْ الْعَتَهَ يَمْنَعُ الْعُهْدَةَ أَيْ مَا يُوجِبُ إلْزَامَ شَيْءٍ وَمَضَرَّةً كَالصِّبَا فَلَا يُطَالَبُ الْمَعْتُوهُ فِي الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِنَقْدِ الثَّمَنِ وَتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ وَلَا يُؤْمَرُ بِالْخُصُومَةِ فِيهِ وَلَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ امْرَأَةَ نَفْسِهِ وَلَا إعْتَاقُهُ عَبْدَ نَفْسِهِ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ وَبِدُونِ إذْنِهِ وَلَا بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ لِنَفْسِهِ بِدُونِ إذْنِ الْوَلِيِّ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ الْعُهْدَةِ وَالْمَضَارِّ وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْعُهْدَةَ سَاقِطَةٌ عَنْ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ لَزِمَ عَلَيْهِ وُجُوبُ ضَمَانِ مَا يَسْتَهْلِكُ الْمَعْتُوهُ وَالصَّبِيُّ مِنْ الْأَمْوَالِ عَلَيْهِمَا فَإِنَّهُ مِنْ الْعُهْدَةِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَقِّهِمَا فَأَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَأَمَّا ضَمَانُ مَا يَسْتَهْلِكُ مِنْ الْمَالِ فَلَيْسَ بِعُهْدَةٍ أَيْ لَيْسَ مِنْ الْعُهْدَةِ الْمَنْفِيَّةِ عَنْهُمَا لِأَنَّ الْمَنْفِيَّ عَنْهُمَا عُهْدَةٌ تَحْتَمِلُ الْعَفْوَ فِي الشَّرْعِ وَضَمَانُ الْمُتْلَفِ لَا يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ شَرْعًا لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَلِأَنَّ الْعُهْدَةَ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ يُرَادُ بِهَا مَا يَلْزَمُ بِالْعُقُودِ فِي أَغْلِبْ الِاسْتِعْمَالِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِهَا هَاهُنَا وَضَمَانُ الْمُسْتَهْلَكِ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَلَا يَكُونُ عُهْدَةً. لَكِنَّهُ أَيْ الضَّمَانَ شُرِعَ جَبْرًا لِمَا اُسْتُهْلِكَ مِنْ الْمَحَلِّ الْمَعْصُومِ وَلِهَذَا قُدِّرَ بِالْمِثْلِ وَكَوْنُ الْمُسْتَهْلِكِ صَبِيًّا مَعْذُورًا أَوْ مَعْتُوهًا أَيْ بَالِغًا مَعْتُوهًا لَا يُنَافِي عِصْمَةَ الْمَحَلِّ لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ لِحَاجَةِ الْعَبْدِ إلَيْهِ لِتَعَلُّقِ بَقَائِهِ وَقِوَامِ مَصَالِحِهِ بِهِ وَبِالصِّبَا وَالْعِتَّةِ لَا يَزُولُ حَاجَتُهُ إلَيْهِ عَنْهُ فَبَقِيَ مَعْصُومًا فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَهْلِكِ وَلَا يَمْتَنِعُ بِعُذْرِ الصِّبَا وَالْعَتَهِ بِخِلَافِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهَا تَجِبُ بِطَرِيقِ الِابْتِلَاءِ وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى كَمَالِ الْعَقْلِ وَالْقُدْرَةِ وَبِخِلَافِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ بِالْعُقُودِ لِأَنَّهَا لَمَّا وَجَبَتْ بِالْعَقْدِ وَقَدْ خَرَجَ كَلَامُهُمَا عَنْ الِاعْتِبَارِ عِنْدَ اسْتِلْزَامِهِ الْمَضَارَّ لَمْ يَجْعَلْ الْعُقُودَ أَسْبَابًا لِتِلْكَ الْحُقُوقِ فِي حَقِّهِمَا قَوْلُهُ (وَيُوضَعُ عَنْهُ) أَيْ عَنْ الْمَعْتُوهِ الْخِطَابُ كَمَا يُوضَعُ عَنْ الصَّبِيِّ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعِبَادَاتُ وَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ الْعُقُوبَاتُ كَمَا فِي حَقِّ الصَّبِيِّ وَهُوَ اخْتِيَارُ عَامَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي التَّقْوِيمِ أَنَّ حُكْمَ الْعَتَهِ حُكْمُ الصِّبَا إلَّا فِي حَقِّ الْعِبَادَاتِ فَإِنَّا لَمْ نُسْقِطْ بِهِ الْوُجُوبَ احْتِيَاطًا فِي وَقْتِ الْخِطَابِ وَهُوَ الْبُلُوغُ بِخِلَافِ الصِّبَا لِأَنَّهُ وَقْتُ سُقُوطِ الْخِطَابِ وَذَكَرَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ مُشِيرًا إلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا ظَنُّوا أَنَّ الْعَتَهَ غَيْرُ مُلْحَقٍ بِالصِّبَا بَلْ هُوَ مُلْحَقٌ بِالْمَرَضِ حَتَّى لَا يَمْنَعَ وُجُوبَ الْعِبَادَاتِ وَلَيْسَ كَمَا ظَنُّوا بَلْ الْعَتَهُ نَوْعُ جُنُونٍ فَيَمْنَعُ وُجُوبَ أَدَاءِ الْحُقُوقِ جَمِيعًا إذْ الْمَعْتُوهُ لَا يَقِفُ عَلَى عَوَاقِبِ الْأُمُورِ كَصَبِيٍّ ظَهَرَ فِيهِ قَلِيلُ عَقْلٍ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ نُقْصَانَ الْعَقْلِ لَمَّا أَثَرَ فِي سُقُوطِ الْخِطَابِ عَنْ

وَأَمَّا الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ وَالْمَعْتُوهُ الْعَاقِلُ لَا يَفْتَرِقَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالصَّبِيِّ كَمَا أَثَّرَ عَدَمُهُ فِي حَقِّهِ أَثَّرَ فِي سُقُوطِ الْخِطَابِ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَيْضًا كَمَا أَثَّرَ عَدَمُهُ فِي السُّقُوطِ بِأَنْ صَارَ مَجْنُونًا لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلْبُلُوغِ إلَّا فِي كَمَالِ الْعَقْلِ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ الْكَمَالُ بِحُدُوثِ هَذِهِ الْآفَةِ كَانَ الْبُلُوغُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْخِطَابُ يَسْقُطُ عَنْ الْمَجْنُونِ كَمَا يَسْقُطُ عَنْ الصَّبِيِّ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ الصِّبَا تَحْقِيقًا لِلْعَدْلِ وَهُوَ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَكْلِيفِ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ وَيَسْقُطُ عَنْ الْمَعْتُوهِ كَمَا يَسْقُطُ عَنْ الصَّبِيِّ فِي آخِرِ أَحْوَالِ الصِّبَا تَحْقِيقًا لِلْفَضْلِ وَهُوَ نَفْيُ الْحَرَجِ عَنْهُ نَظَرًا وَمَرْحَمَةً عَلَيْهِ. وَيُوَلَّى عَلَيْهِ أَيْ يَثْبُتُ الْوِلَايَةُ عَلَى الْمَعْتُوهِ لِغَيْرِهِ كَمَا يَثْبُتُ عَلَى الصَّبِيِّ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ مِنْ بَابِ النَّظَرِ وَنُقْصَانُ الْعَقْلِ مَظِنَّةُ النَّظَرِ وَالْمَرْحَمَةِ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْعَجْزِ وَلَا يَلِي هُوَ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ قُدْرَةُ التَّصَرُّفِ عَلَى غَيْرِهِ وَلَمَّا جَمَعَ الشَّيْخُ بَيْنَ أَوَّلِ أَحْوَالِ الصِّبَا وَالْجُنُونِ وَبَيْنَ آخِرِ أَحْوَالِهِ وَالْعَتَهِ ذَكَرَ مَا يَقَعُ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ الْحُكْمِ فَقَالَ وَإِنَّمَا يَفْتَرِقُ الْجُنُونُ وَالصِّغَرُ أَيْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْجُنُونِ وَالصِّغَرِ وَالْمُرَادُ بِهِ أَوَّلُ أَحْوَالِ الصِّبَا الَّذِي لَا عَقْلَ فِيهِ لِلصَّبِيِّ إلَّا فِي أَنَّ هَذَا الْعَارِضَ أَيْ الْجُنُونَ غَيْرُ مَحْدُودٍ إذْ لَيْسَ لِزَوَالِهِ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ يَنْتَظِرُ لَهُ فَقِيلَ إذَا أَسْلَمَتْ امْرَأَةُ الْمَجْنُونِ عُرِضَ عَلَى أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ الْإِسْلَامُ فِي الْحَالِ وَلَا يُؤَخَّرُ الْعَرْضُ إلَى أَنْ يَعْقِلَ الْمَجْنُونُ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالًا لِحَقِّ الْمَرْأَةِ وَالصِّغَرُ مَحْدُودٌ فَوَجَبَ تَأْخِيرُ الْعَرْضِ حَتَّى لَوْ زَوَّجَ النَّصْرَانِيُّ ابْنَهُ الصَّغِيرَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ امْرَأَةً نَصْرَانِيَّةً أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ وَطَلَبَتْ الْفُرْقَةَ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا وَتُرِكَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْقِلَ الصَّبِيُّ وَلَا يَجِبُ عَرْضُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَحَدٍ فِي الْحَالِ لِأَنَّ لِلصَّغِيرِ حَقَّ الْإِمْسَاكِ لِلنِّكَاحِ بِإِسْلَامِ مِثْلِهِ وَفِي التَّعْجِيلِ تَفْوِيتُهُ وَلَيْسَ فِي تَرْكِ الْفُرْقَةِ إلَّا تَأْخِيرٌ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ وَلَا فَسَادٍ فِي الْحَالِ لِأَنَّ عَقْلَ الصَّبِيِّ فِي أَوَانِهِ مَعْهُودٌ عَلَى ذَلِكَ أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ فَكَانَ التَّأْخِيرُ أَوْلَى فَإِذَا عَقَلَ عَرَضَ عَلَيْهِ الْقَاضِي الْإِسْلَامَ فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. وَإِنَّمَا صَحَّ الْعَرْضُ وَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ لَا يُخَاطَبُ بِأَدَاءِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْخِطَابَ إنَّمَا يَسْقُطُ عَنْهُ فِيمَا هُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ حَقِّ الْعِبَادِ وَوُجُوبُ الْعَرْضِ هَاهُنَا لِحَقِّ الْمَرْأَةِ فَيَتَوَجَّهُ الْخِطَابُ عَلَيْهِ وَلَا يُؤَخَّرُ إلَى بُلُوغِ الصَّبِيِّ لِأَنَّ إسْلَامَ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ صَحِيحٌ عِنْدَنَا فَيَتَحَقَّقُ الْإِبَاءُ مِنْهُ فَلَا يُؤَخَّرُ حَقُّ الْمَرْأَةِ إلَى الْبُلُوغِ كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ وَالْمَعْتُوهُ الْعَاقِلُ فَلَا يَفْتَرِقَانِ يَعْنِي) فِي وُجُوبِ الْعَرْضِ فِي الْحَالِ كَمَا لَا يَفْتَرِقَانِ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَتْ امْرَأَةُ الْمَعْتُوهِ الْكَافِرِ يَجِبُ الْعَرْضُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْحَالِ كَمَا يَجِبُ فِي إسْلَامِ امْرَأَةِ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ لِأَنَّ إسْلَامَ الْمَعْتُوهِ صَحِيحٌ لِوُجُودِ الْعَقْلِ كَإِسْلَامِ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ نَصَّ عَلَى صِحَّةِ إسْلَامِهِ فِي مُخْتَصَرِ التَّقْوِيمِ بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ لِأَنَّ إسْلَامَهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ لِعَدَمِ الْعَقْلِ لَمْ يَفِدْ الْعَرْضُ عَلَيْهِ فَوَجَبَ الْعَرْضُ عَلَى وَلِيِّهِ دَفْعًا لِلظُّلْمِ عَنْ الْمَرْأَةِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ وَضَعَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْعَرْضَ عَلَى وَلِيِّ الْمَعْتُوهِ فِي الْجَامِعِ فَقَالَ مَعْتُوهٌ نَصْرَانِيٌّ زَوَّجَهُ أَبُوهُ النَّصْرَانِيُّ امْرَأَةً نَصْرَانِيَّةً فَأَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ يُعْرَضُ عَلَى أَبِيهِ الْإِسْلَامُ إلَى آخِرِهِ قُلْنَا الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَجْنُونُ فَإِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَنَظَائِرِهَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَقَدْ يُطْلَقُ الْمَعْتُوهُ عَلَى الْمَجْنُونِ لِأَنَّ الْعَتَهَ يُشَابِهُ الْجُنُونَ وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْمَعْتُوهَ بِالْعَاقِلِ احْتِرَازًا عَنْ الْمَجْنُونِ فَإِنَّ الصَّبِيَّ الْعَاقِلَ وَالْمَجْنُونَ

وَأَمَّا النِّسْيَانُ فَلَا يُنَافِي الْوُجُوبَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُجْعَلَ عُذْرًا وَلَكِنْ حُقُوقُ الْعِبَادِ مُحْتَرَمَةٌ لِحَقِّهِمْ وَحَاجَتِهِمْ لَا ابْتِلَاءٌ وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِلَاءٌ لَكِنْ النِّسْيَانُ إذَا كَانَ غَالِبًا يُلَازِمُ الطَّاعَةَ إمَّا بِطَرِيقِ الدَّعْوَةِ مِثْلَ النِّسْيَانِ فِي الصَّوْمِ وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ حَالِ الْبَشَرِ مِثْلَ التَّسْمِيَةِ فِي الذَّبِيحَةِ جُعِلَ مِنْ أَسْبَابِ الْعَفْوِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ اُعْتُرِضَ فَجُعِلَ سَبَبًا لِلْعَفْوِ فِي حَقِّهِ بِخِلَافِ حُقُوقِ الْعِبَادِ لِأَنَّ النِّسْيَانَ لَيْسَ بِعُذْرٍ مِنْ جِهَتِهِمْ وَالنِّسْيَانُ ضَرْبَانِ ضَرْبٌ أَصْلِيٌّ وَضَرْبٌ يَقَعُ فِيهِ الْمَرْءُ بِالتَّقْصِيرِ وَهَذَا يَصْلُحُ لِلْعِتَابِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَإِنْ اسْتَوَيَا فِي وُجُوبِ الْعَرْضِ فِي الْحَالِ قَدْ افْتَرَقَا فِي أَنَّ الْوَاجِبَ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ عَلَى نَفْسِهِ دُونَ وَلِيِّهِ وَفِي الْمَجْنُونِ الْعَرْضُ عَلَى وَلِيِّهِ دُونَ نَفْسِهِ فَحَصَلَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَجْنُونَ يُسَاوِي الْمَعْتُوهَ وَالصَّبِيَّ الْعَاقِلَ فِي وُجُوبِ الْعَرْضِ فِي الْحَالِ وَيُفَارِقُهُمَا فِي أَنَّ الْوَاجِبَ فِي حَقِّهِ الْعَرْضُ عَلَى وَلِيِّهِ وَفِي حَقِّهِمَا الْعَرْضُ عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَيُفَارِقُ الْمَجْنُونُ الصَّغِيرَ فِي الْوُجُوبِ فِي الْحَالِ وَفِي الْوُجُوبِ عَلَى الْوَلِيِّ أَيْضًا وَيُفَارِقُ الْمَعْتُوهُ الصَّغِيرَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ فِي الْوُجُوبِ فِي الْحَالِ وَيُسَاوِيهِ فِي الْوُجُوبِ عَلَى النَّفْسِ دُونَ الْوَلِيِّ وَكَذَا الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ. (قَوْلُهُ وَأَمَّا النِّسْيَانُ فَكَذَا) قِيلَ النِّسْيَانُ مَعْنًى يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ بِدُونِ اخْتِيَارِهِ فَيُوجِبُ الْغَفْلَةَ عَنْ الْحِفْظِ وَقِيلَ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْجَهْلِ الطَّارِئِ وَيَبْطُلُ اطِّرَادُ هَذَيْنِ التَّعْرِيفَيْنِ بِالنَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ وَقِيلَ هُوَ جَهْلُ الْإِنْسَانِ بِمَا كَانَ يَعْلَمُهُ ضَرُورَةً مَعَ عِلْمِهِ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ لَا بِآفَةٍ وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ عَنْ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ فَإِنَّهُمَا خَرَجَا بِالنَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ مِنْ أَنْ يَكُونَا عَالِمَيْنِ بِأَشْيَاءَ كَانَا يَعْلَمَانِهَا قَبْلَ النَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ وَبِقَوْلِهِ لَا بِآفَةٍ عَنْ الْجُنُونِ فَإِنَّهُ جَهْلٌ بِمَا كَانَ يَعْلَمُهُ الْإِنْسَانُ قَبْلَهُ مَعَ كَوْنِهِ ذَاكِرًا لِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ لَكِنَّهُ بِآفَةٍ وَقِيلَ هُوَ آفَةٌ تَعْتَرِضُ لِلْمُتَخَيِّلَةِ مَانِعَةٌ مِنْ انْطِبَاعِ مَا يَرِدُ مِنْ الذِّكْرِ فِيهَا وَقِيلَ هُوَ أَمْرٌ بَدِيهِيٌّ لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّعْرِيفِ إذْ كُلُّ عَاقِلٍ يَعْقِلُ النِّسْيَانَ مِنْ نَفْسِهِ كَمَا يَعْلَمُ الْجُوعَ وَالْعَطَشَ. ثُمَّ إنَّهُ لَا يُنَافِي الْوُجُوبَ لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي الْعَقْلَ وَلَا حُكْمَ الْفِعْلِ وَلَا الْقَوْلَ كَذَا فِي مُخْتَصَرِ التَّقْوِيمِ وَلَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُجْعَلَ عُذْرًا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يَعْدَمُ الْقَصْدُ إذْ الْقَصْدُ إلَى فِعْلٍ بِعَيْنِهِ لَا يُتَصَوَّرُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ كَقَصْدِ زِيَارَةِ زَيْدٍ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ زَيْدٍ فَصَارَ فِي حُكْمِ الْعَجْزِ فَلَا جَرَمَ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ عُذْرًا فِي بَعْضِ حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ أَبُو الْيُسْرِ النِّسْيَانُ سَبَبٌ لِلْعَجْزِ لِأَنَّ النَّاسِيَ يَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ الْحُقُوقِ بِسَبَبِ النِّسْيَانِ فَيَمْنَعُ وُجُوبَ أَدَاءِ الْحُقُوقِ كَسَائِرِ الْأَعْذَارِ عِنْدَ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا لَكِنَّهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْحُقُوقِ فَإِنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالْأَهْلِيَّةِ وَإِيجَابُ الْحُقُوقِ عَلَى النَّاسِ لَا يُؤَدِّي إلَى إيقَاعِهِ فِي الْحَرَجِ لِيَمْتَنِعَ الْوُجُوبُ بِهِ إذْ الْإِنْسَانُ لَا يَنْسَى عِبَادَاتٍ مُتَوَالِيَةً تَدْخُلُ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ غَالِبًا فَصَارَ فِي حُكْمِ النَّوْمِ وَلِهَذَا قَرَنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ نِسْيَانِ الصَّلَاةِ وَالنَّوْمِ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا» الْحَدِيثَ وَفِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لَا يُجْعَلُ النِّسْيَانُ عُذْرًا حَتَّى لَوْ أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ نَاسِيًا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ مُحْتَرَمَةٌ لِحَاجَتِهِمْ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ لَا لِلِابْتِلَاءِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ عَلَى الْعَبْدِ حَقُّ الِابْتِلَاءِ لِيُظْهِرَ طَاعَتَهُ لَهُ بَلْ حَقُّهُ فِي نَفْسِهِ وَأَنَّهَا مُحْتَرَمَةٌ فَيَسْتَحِقُّ حُقُوقًا تَتَعَلَّقُ بِهَا قِوَامِهَا كَرَامَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَبِالنِّسْيَانِ لَا يَفُوتُ هَذَا الِاسْتِحْقَاقُ فَلَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُهَا وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِلَاءٌ لِأَنَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ وَلَهُ أَنْ يَبْتَلِيَ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ فَكَانَ إيجَابُ الْحُقُوقِ مِنْهُ عَلَى الْعِبَادِ ابْتِلَاءً لَهُمْ مَعَ غِنَاءٍ عَنْ أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 6] . قَوْلُهُ (لَكِنْ النِّسْيَانُ) اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ وَفِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لَا يُجْعَلُ عُذْرًا يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُجْعَلُ عُذْرًا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ بِوَجْهٍ لَكِنَّهُ إذَا كَانَ غَالِبًا يَصْلُحُ عُذْرًا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: يُلَازِمُ الطَّاعَةَ صِفَةٌ لِغَالِبًا وَقَوْلُهُ جُعِلَ مِنْ أَسْبَابِ الْعَفْوِ خَبَرُ لَكِنَّ أَيْ إذَا كَانَ النِّسْيَانُ غَالِبًا فِي عِبَادَةٍ بِحَيْثُ يُلَازِمُهَا

وَالنِّسْيَانُ فِي غَيْرِ الصَّوْمِ لَمْ يُجْعَلْ عُذْرًا، وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِ الذَّبِيحَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي غَلَبَةِ الْوُجُودِ فَبَطَلَتْ التَّعْدِيَةُ حَتَّى أَنَّ سَلَامَ النَّاسِي لَمَّا كَانَ غَالِبًا عُدَّ عُذْرًا. ـــــــــــــــــــــــــــــQوَأَرَادَ بِالْمُلَازَمَةِ أَنْ لَا يَخْلُوَ الطَّاعَةُ عَنْهُ فِي الْأَغْلَبِ إمَّا بِطَرِيقِ الدَّعْوَةِ أَيْ دَعْوَةِ الطَّبْعِ إلَى مَا يُوجِبُ النِّسْيَانَ مِثْلَ النِّسْيَانِ فِي الصَّوْمِ فَإِنَّهُ غَالِبٌ فِيهِ لِأَنَّ الطَّبْعَ لَمَّا دَعَا إلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِسَبَبِ الصَّوْمِ أَوْجَبَ ذَلِكَ النِّسْيَانَ الصَّوْمُ لِأَنَّ النَّفْسَ لَمَّا اشْتَغَلَتْ بِشَيْءٍ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِغَفْلَتِهَا عَنْ غَيْرِهِ عَادَةً وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ حَالِ الْبَشَرِ مِثْلَ التَّسْمِيَةِ أَيْ مِثْلَ نِسْيَانِ التَّسْمِيَةِ فِي الذَّبِيحَةِ فَإِنَّ ذَبْحَ الْحَيَوَانِ يُوجِبُ خَوْفًا وَهَيْبَةً لِنُفُورِ الطَّبْعِ عَنْهُ وَيَتَغَيَّرُ مِنْهُ حَالُ الْبَشَرِ وَلِهَذَا لَا يُحْسِنُ الذَّبْحَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَيَكْثُرُ الْغَفْلَةُ عَنْ التَّسْمِيَةِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِاشْتِغَالِ قَلْبِهِ بِالْخَوْفِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بَيَانَ حَصْرِ غَلَبَةِ النِّسْيَانِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ بَلْ الْمُرَادُ بَيَانُ بَعْضِ أَسْبَابِ الْغَلَبَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ سَلَامَ النَّاسِي فِي الصَّلَاةِ غَالِبٌ وَلَيْسَ بِهَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ جُعِلَ أَيْ النِّسْيَانُ الْمَوْصُوفُ مِنْ أَسْبَابِ الْعَفْوِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَجُعِلَ كَأَنَّ الْمُفْطِرَ لَمْ يُوجَدْ فَيَبْقَى الصَّوْمُ وَجُعِلَ كَأَنَّ التَّسْمِيَةَ قَدْ وُجِدَتْ فَتَحِلُّ الذَّبِيحَةُ وَإِنَّمَا جُعِلَتْ التَّسْمِيَةُ عَلَى الذَّبِيحَةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِأَنَّ الثَّابِتَ عِنْدَ وُجُودِهَا الْحِلُّ وَعِنْدَ عَدَمِهَا الْحُرْمَةُ وَهُمَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِأَنَّهُ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ اعْتَرَضَ لِحُدُوثِهِ بِصُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى وَانْقِطَاعِ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ ثُمَّ قَسَّمَ النِّسْيَانَ لِيُمَيِّزَ بَيْنَ مَا لَا يَصْلُحُ عُذْرًا وَمَا يَصْلُحُ فَقَالَ وَالنِّسْيَانُ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ أَصْلِيٌّ وَأَرَادَ بِهِ مَا يَقَعُ فِيهِ الْإِنْسَانُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّذَكُّرِ وَهَذَا الْقِسْمُ يَصْلُحُ عُذْرًا لِغَلَبَةِ وُجُودِهِ وَضَرْبٌ يَقَعُ الْمَرْءُ فِيهِ بِالتَّقْصِيرِ بِأَنْ لَمْ يُبَاشِرْ سَبَبَ التَّذَكُّرِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ وَهَذَا الضَّرْبُ يَصْلُحُ لِلْعِتَابِ أَيْ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا لِلتَّقْصِيرِ لِعَدَمِ غَلَبَةِ وُجُودِهِ قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّمَا يَصِيرُ النِّسْيَانُ عُذْرًا فِي حَقِّ الشَّرْعِ إذَا لَمْ يَكُنْ غَفْلَةً فَأَمَّا إذَا كَانَ عَنْ غَفْلَةٍ فَلَا يَكُونُ عُذْرًا كَمَا فِي حَقِّ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَكَنِسْيَانِ الْمَرْءِ مَا حَفِظَهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى تَذْكَارِهِ بِالتَّكْرَارِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَقَعُ فِيهِ بِتَقْصِيرِهِ فَيَصْلُحُ سَبَبًا لِلْعِتَابِ وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ الْوَعِيدَ مَنْ نَسِيَ الْقُرْآنَ بَعْدَمَا حَفِظَهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى التَّذْكَارِ بِالتَّكْرَارِ. وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُسَافِرٍ نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى أَنَّهُ يُعِيدُ لِأَنَّ هَذَا نِسْيَانٌ صَدَرَ عَنْ تَقْصِيرٍ لِأَنَّ رَحْلَ الْمُسَافِرِ مَعْدِنُ الْمَاءِ عَادَةً بِمَنْزِلَةِ قِرْبَةٍ عَامِرَةٍ فَكَانَ مُقَصِّرًا بِتَرْكِ الطَّلَبِ فَلَا يُعْذَرُ بِهَذَا النِّسْيَانِ قَوْلُهُ (وَالنِّسْيَانُ فِي غَيْرِ الصَّوْمِ) وَالذَّبِيحَةِ لَمْ يُجْعَلْ عُذْرًا مِثْلَ مُبَاشَرَةِ الْمُحْرِمِ أَوْ الْمُعْتَكِفِ مَا يُفْسِدُ إحْرَامَهُ وَاعْتِكَافَهُ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ وَاعْتِكَافِهِ وَمِثْلَ تَكْلِيمِ الْمُصَلِّي فِي صَلَاتِهِ فِي أَيِّ رُكْنٍ كَانَ نَاسِيًا لِصَلَاتِهِ وَمِثْلَ تَسْلِيمِهِ فِي غَيْرِ الْقَعْدَةِ نَاسِيًا أَوْ تَسْلِيمِهِ عَلَى الْغَيْرِ فِي أَيِّ حَالِ كَانَ حَتَّى فَسَدَ الْحَجُّ وَالِاعْتِكَافُ وَالصَّلَاةُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَلَمْ يُجْعَلْ النِّسْيَانُ عُذْرًا لِأَنَّ هَذَا النِّسْيَانَ لَيْسَ مِثْلَ النِّسْيَانِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي غَلَبَةِ الْوُجُودِ وَهُوَ نِسْيَانُ الصَّوْمِ وَالتَّسْمِيَةُ فِي الذَّبِيحَةِ لِوُجُودِ هَيْئَةٍ مُذَكِّرَةٍ لِهَؤُلَاءِ تَمْنَعُهُمْ عَنْ النِّسْيَانِ إذَا نَظَرُوا إلَيْهَا فَكَانَ وُقُوعُهُمْ فِيهِ لِغَفْلَتِهِمْ وَتَقْصِيرِهِمْ فَلَا يُمْكِنُ إلْحَاقُهُ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ حَتَّى إنَّ سَلَامَ النَّاسِي لَمَّا كَانَ غَالِبًا بِأَنْ سَلَّمَ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى ظَانًّا أَنَّهَا الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ عُدَّ عُذْرًا حَتَّى لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِهِ لِأَنَّ الْقَعْدَةَ مَحَلُّ السَّلَامِ وَلَيْسَ لِلْمُصَلِّي هَيْئَةً تُذَكِّرُهُ أَنَّهَا الْقَعْدَةُ الْأُولَى فَيَكُونُ مِثْلَ النِّسْيَانِ فِي الصَّوْمِ فَلِذَلِكَ يُجْعَلُ عُذْرًا. قَوْلُهُ (وَأَمَّا النَّوْمُ) فَكَذَا النَّوْمُ فَتْرَةٌ طَبِيعِيَّةٌ تَحْدُثُ فِي الْإِنْسَانِ بِلَا اخْتِيَارٍ مِنْهُ وَتَمْنَعُ الْحَوَاسَّ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ عَنْ

فَأَمَّا النَّوْمُ فَعَجْزٌ عَنْ اسْتِعْمَالِ قُدْرَةِ الْأَحْوَالِ فَأَوْجَبَ تَأَخُّرَ الْخِطَابِ لِلْأَدَاءِ لِأَنَّ النَّوْمَ لَا يَمْتَدُّ فَلَا يَكُونُ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ حَرَجٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَسْقُطُ الْوُجُوبُ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا» وَيُنَافِي الِاخْتِيَارَ أَصْلًا حَتَّى بَطَلَتْ عِبَارَاتُهُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْإِسْلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَالْمُصَلِّي إذَا قَرَأَ فِي صَلَاتِهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي حَالِ قِيَامِهِ لَمْ يَصِحَّ قِرَاءَتُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعَمَلِ مَعَ سَلَامَتِهَا وَاسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ مَعَ قِيَامِهِ. فَيَعْجِزُ الْعَبْدُ بِهِ عَنْ أَدَاءِ الْحُقُوقِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فَيَعْجِزُ عَنْ اسْتِعْمَالِ قُدْرَةِ الْأَحْوَالِ أَيْ يَعْجِزُ عَنْ الْإِدْرَاكَاتِ الْحِسِّيَّةِ بِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْحَوَاسِّ وَالْأَحْوَالُ أَيْضًا أَفْعَالُهُ الِاخْتِيَارِيَّةُ كَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالذَّهَابِ وَنَحْوِهَا فَهُوَ يَعْجِزُ بِالنَّوْمِ عَنْ تَحْصِيلِ الْقُدْرَةِ الَّتِي يُحَصِّلُ بِهَا هَذِهِ الْأَحْوَالَ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ الْآلَاتِ السَّلِيمَةِ لِأَنَّهُ لَا اخْتِيَارَ لَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَفِي عِبَارَةِ أَهْلِ الطِّبِّ هُوَ سُكُونُ الْحَيَوَانِ بِسَبَبِ مَنْعِ رُطُوبَةٍ مُعْتَدِلَةٍ مُنْحَصِرَةٍ فِي الدِّمَاغِ الرُّوحَ النَّفْسَانِيَّ مِنْ الْجَرَيَانِ فِي الْأَعْضَاءِ. وَقَوْلُهُ: فَعَجَزَ عَنْ كَذَا لَيْسَ بِتَحْدِيدِ النَّوْمِ إذْ الْإِغْمَاءُ وَنَحْوُهُ دَاخِلٌ فِيهِ لَكِنَّهُ بَيَانُ أَثَرِ النَّوْمِ فَأَوْجَبَ تَأْخِيرَ الْخِطَابِ لِلْأَدَاءِ اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْخِطَابِ يَعْنِي حُكْمَ النَّوْمِ تَأْخِيرُ حُكْمِ الْخِطَابِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ بِهِ لَا سُقُوطُ الْوُجُوبِ لِاحْتِمَالِ الْأَدَاءِ حَقِيقَةً بِالِانْتِبَاهِ أَوْ احْتِمَالِ خَلَفِهِ وَهُوَ الْقَضَاءُ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الِانْتِبَاهِ وَهَذَا لِأَنَّ نَفْسَ الْعَجْزِ لَا يُسْقِطُ أَصْلَ الْوُجُوبِ وَإِنَّمَا يُسْقِطُ وُجُوبَ الْعَمَلِ إلَى حِينِ الْقُدْرَةِ إلَّا أَنْ يَطُولَ زَمَانُ الْوُجُوبِ وَيَتَكَثَّرَ الْوَاجِبُ فَحِينَئِذٍ يَسْقُطُ دَفْعًا لِلْحَرَجِ وَالنَّوْمُ لَا يَمْتَدُّ عَادَةً بِحَيْثُ يُخْرِجُ الْعَبْدَ فِي قَضَاءِ مَا يَفُوتُهُ فِي حَالِ نَوْمِهِ فَإِنَّهُ لَا يَمْتَدُّ لَيْلًا وَنَهَارًا عَادَةً وَإِذَا كَانَ أَيْ النَّوْمُ كَذَلِكَ أَيْ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُمْتَدٍّ وَغَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لِلْحَرَجِ لَمْ يَسْقُطْ الْوُجُوبُ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالْأَهْلِيَّةِ لِأَهْلِيَّةِ وُجُودِ الْعِبَادَاتِ بِالذِّمَّةِ وَبِالْإِسْلَامِ وَالنَّوْمُ لَا يُخِلُّ بِهِمَا قَالَ أَبُو الْيُسْرِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هَذَا ثُمَّ أَوْضَحَ الشَّيْخُ مَا ذَكَرَ بِإِيرَادِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ» الْحَدِيثَ فَإِنَّ قَوْلَهُ «فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ ثَابِتٌ فِي حَقِّ النَّائِمِ وَالنَّاسِي. وَقَالَ الْإِمَامُ الْبُرَغْرِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ حَالَةَ النَّوْمِ وَلَكِنْ تَأَخَّرَ وُجُوبُ أَدَائِهَا بِعُذْرِ النَّوْمِ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً حَالَةَ النَّوْمِ لَمَا كَانَ نَائِمًا عَنْ الصَّلَاةِ قَوْلُهُ (وَيُنَافِي الِاخْتِيَارَ أَصْلًا) لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ بِالتَّمْيِيزِ وَلَمْ يَبْقَ لِلنَّائِمِ تَمْيِيزٌ فَلِذَلِكَ بَطَلَتْ عِبَارَاتُ النَّائِمِ فِيمَا بُنِيَ عَلَى الِاخْتِيَارِ مِثْلَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْإِسْلَامِ وَالرِّدَّةِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَصَارَ كَلَامُهُ لِعَدَمِ التَّمْيِيزِ وَالِاخْتِيَارِ بِمَنْزِلَةِ أَلْحَانِ الطُّيُورِ فَلَا يُعْتَبَرُ فَإِنْ قِيلَ لَا يُشْتَرَطُ الِاخْتِيَارُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِدَلِيلِ وُقُوعِهِمَا فِي حَالَةِ الْخَطَأِ وَالْإِكْرَاهِ وَالْهَزْلِ وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ» الْحَدِيثَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقَعَا فِي حَالَةِ النَّوْمِ أَيْضًا قُلْنَا لَا بُدَّ فِيهِمَا مِنْ الِاخْتِيَارِ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يُعْتَبَرُ بِدُونِهِ وَلَكِنْ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِمَا الرِّضَاءُ بِالْحُكْمِ وَفِي الْهَزْلِ وَالْخَطَأِ وَالْإِكْرَاهِ أَصْلُ الِاخْتِيَارِ مَوْجُودٌ وَإِنْ عُدِمَ الرِّضَاءُ فِيهَا بِالْحُكْمِ فَلَا تَمْنَعُ وُقُوعَهُمَا فَأَمَّا النَّوْمُ فَيُعْدِمُ أَصْلَ الِاخْتِيَارِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ أَصْلًا فَيَمْنَعُ صَيْرُورَةَ الْعِبَارَةِ كَلَامًا قَوْلُهُ (وَالْمُصَلِّي إذَا قَرَأَ فِي صَلَاتِهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي حَالِ قِيَامِهِ لَمْ تَصِحَّ قِرَاءَتُهُ) هُوَ الْمُخْتَارُ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا لَا يُعْتَدُّ قِيَامُهُ وَرُكُوعُهُ وَسُجُودُهُ مِنْ الْفَرْضِ لِصُدُورِهَا لَا عَنْ اخْتِيَارٍ وَأَمَّا الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ فَلَا نَصَّ فِيهَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَقِيلَ إنَّهَا تُعْتَدُّ مِنْ الْفَرْضِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِرُكْنٍ وَمَبْنَاهَا عَلَى الِاسْتِرَاحَةِ فَيُلَائِمُهُ النَّوْمُ فَيَجُوزُ أَنْ يُحْتَسَبَ مِنْ الْفَرْضِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَفْعَالِ فَإِنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الْمَشَقَّةِ فَلَا يَتَأَدَّى فِي حَالَةِ النَّوْمِ. وَذَكَرَ فِي الْمُنْيَةِ إذَا نَامَ فِي الْقَعْدَةِ كُلِّهَا ثُمَّ انْتَبَهَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْعُدَ قَدْرَ

وَإِذَا تَكَلَّمَ النَّائِمُ فِي صَلَاتِهِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ وَإِذَا قَهْقَهَ النَّائِمُ فِي صَلَاتِهِ فَقَدْ قِيلَ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَيَكُونُ حَدَثًا وَقِيلَ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَلَا يَكُونُ حَدَثًا وَقِيلَ يَكُونُ حَدَثًا وَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَدَثًا لِأَنَّ الْقَهْقَهَةَ جُعِلَتْ حَدَثًا لِقُبْحِهَا فِي مَوَاضِعِ الْمُنَاجَاةِ وَسَقَطَ ذَلِكَ بِالنَّوْمِ وَلَا يَفْسُدُ أَيْضًا لِأَنَّ النَّوْمَ يُبْطِلُ حُكْمَ الْكَلَامِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّشَهُّدِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ قِرَاءَةَ النَّائِمِ تَنُوبُ عَنْ الْفَرْضِ لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ النَّائِمَ كَالْمَسْقَطِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ وَإِذَا تَكَلَّمَ النَّائِمُ فِي صَلَاتِهِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ لِصُدُورِهِ مِمَّنْ لَا تَمْيِيزَ لَهُ وَهُوَ مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ وَذَكَرَ فِي الْمُغْنِي وَفَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَالْخُلَاصَةِ أَنَّ الْمُصَلِّيَ إذَا نَامَ وَتَكَلَّمَ فِي حَالَةِ النَّوْمِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ وَفِي النَّوَازِلِ إذَا تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ فِي النَّوْمِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ هُوَ الْمُخْتَارُ وَإِذَا قَهْقَهَ النَّائِمُ فِي صَلَاتِهِ لَا رِوَايَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَيْضًا فَقَالَ الْحَاكِمُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْكُفِينِيُّ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَيَكُونُ حَدَثًا لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّ الْقَهْقَهَةَ فِي صَلَاةٍ ذَاتِ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ حَدَثٌ وَقَدْ وُجِدَتْ وَلَا فَرْقَ فِي الْأَحْدَاثِ بَيْنَ النَّوْمِ وَالْيَقِظَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ احْتَلَمَ يَجِبُ الْغُسْلُ كَمَا لَوْ أَنْزَلَ بِشَهْوَةٍ فِي الْيَقِظَةِ وَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّ النَّائِمَ فِي الصَّلَاةِ كَالْمُسْتَيْقِظِ وَبِهَذَا أَخَذَ عَامَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ احْتِيَاطًا، كَذَا فِي الْمُغْنِي. وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهَا تَكُونُ حَدَثًا وَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيَبْنِيَ عَلَى صَلَاتِهِ بَعْدَ الِانْتِبَاهِ لِأَنَّ فَسَادَ الصَّلَاةِ بِالْقَهْقَهَةِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْكَلَامِ فِيهَا وَقَدْ زَالَ بِالنَّوْمِ لِفَوَاتِ الِاخْتِيَارِ أَمَّا تَحَقُّقُ الْحَدَثِ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى الِاخْتِيَارِ فَلَا يَمْتَنِعُ بِالنَّوْمِ وَكَأَنَّ الْقَهْقَهَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ حَدَثًا سَمَاوِيًّا بِمَنْزِلَةِ الرُّعَافِ فَلَا تَفْسُدُ الصَّلَاةُ وَقِيلَ تُفْسِدُ صَلَاتَهُ وَلَا تَكُونُ حَدَثًا وَهَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي عَامَّةِ نُسَخِ الْفَتَاوَى لِأَنَّ فَسَادَ الصَّلَاةِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْكَلَامِ فِي الْقَهْقَهَةِ وَالنَّوْمِ كَالْيَقِظَةِ فِي حَقِّ الْكَلَامِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ كَمَا قُلْنَا وَأَمَّا كَوْنُهَا حَدَثًا فَبِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْجِنَايَةِ وَقَدْ زَالَ بِالنَّوْمِ أَلَا تَرَى أَنَّ قَهْقَهَةَ الصَّبِيِّ فِي الصَّلَاةِ لَا يَكُونُ حَدَثًا لِزَوَالِ مَعْنَى الْجِنَايَةِ عَنْ فِعْلِهِ وَمُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ أَيْ فِعْلَ الْقَهْقَهَةِ مِنْ النَّائِمِ لَا يَكُونُ حَدَثًا وَلَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ لِمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْإِغْمَاءُ) فَكَذَا الْإِغْمَاءُ فُتُورٌ يُزِيلُ الْقُوَى وَيَعْجِزُ بِهِ ذُو الْعَقْلِ عَنْ اسْتِعْمَالِهِ مَعَ قِيَامِهِ حَقِيقَةً كَذَا فَسَّرَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ آفَةٌ تُوجِبُ انْحِلَالَ الْقُوَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ بَغْتَةً وَإِنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالْأَهْلِيَّةِ كَالنَّوْمِ لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ لَا يُوجِبُ عَدَمَ الْعَقْلِ فَيَبْقَى الْأَهْلِيَّةُ بِبَقَائِهِ كَمَنْ عَجَزَ عَنْ اسْتِعْمَالِ السَّيْفِ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي السَّيْفِ بِالْإِعْدَامِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُوَلَّى عَلَيْهِ كَمَا يُوَلَّى عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ مَعْصُومًا عَنْهُ وَلَوْ كَانَ فِيهِ زَوَالُ الْعَقْلِ يُعْصَمُ عَنْهُ كَمَا عُصِمَ عَنْ الْجُنُونِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 2] وَهُوَ أَيْ الْإِغْمَاءُ أَشَدُّ مِنْ النَّوْمِ يَعْنِي فِي كَوْنِهِ عَارِضًا وَفِي فَوْتِ الِاخْتِيَارِ وَالْقُوَّةِ لِأَنَّ النَّوْمَ فَتْرَةٌ أَصْلِيَّةٌ أَيْ طَبِيعِيَّةٌ بِحَيْثُ لَا يَخْلُو الْإِنْسَانُ عَنْهُ فِي حَالِ صِحَّتِهِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَخْتَلُّ كَوْنُهُ عَارِضًا وَإِنْ تَحَقَّقَتْ الْعَارِضِيَّةُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى مَعْنَى الْإِنْسَانِيَّةِ وَلَا يُزِيلُ أَصْلَ الْقُوَّةِ أَيْضًا وَإِنْ أَوْجَبَ الْعَجْزَ عَنْ اسْتِعْمَالِهَا وَيُمْكِنُ إزَالَتُهُ بِالتَّنْبِيهِ وَهَذَا أَيْ الْإِغْمَاءُ عَارِضٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَخْلُو عَنْهُ فِي مُدَّةِ حَيَاتِهِ فَكَانَ أَقْوَى مِنْ النَّوْمِ فِي الْعَارِضِيَّةِ وَهُوَ يُنَافِي الْقُوَّةَ أَصْلًا لِمَا قُلْنَا أَنَّهُ مَرَضٌ مُزِيلٌ لِلْقُوَى وَلِهَذَا لَا يُمْكِنُ إزَالَتُهُ بِفِعْلِ أَحَدٍ بِخِلَافِ النَّوْمِ لِأَنَّهُ عَجْزٌ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْقُوَّةِ مَعَ وُجُودِهَا وَلِهَذَا يَزُولُ

وَأَمَّا الْإِغْمَاءُ فَإِنَّهُ ضَرْبُ مَرَضٍ وَفَوْتُ قُوَّةٍ حَتَّى كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَيْرَ مَعْصُومٍ عَنْهُ وَالْإِغْمَاءُ فِي فَوْتِ الِاخْتِيَارِ وَفِي فَوْتِ اسْتِعْمَالِ الْقُدْرَةِ مِثْلُ النَّوْمِ حَتَّى مَنَعَ صِحَّةَ الْعِبَادَاتِ وَهُوَ أَسْنَدُ مِنْهُ لِأَنَّ النَّوْمَ فَتْرَةٌ أَصْلِيَّةٌ، وَهَذَا عَارِضٌ يُنَافِي الْقُوَّةَ أَصْلًا أَلَا يَرَى أَنَّ النَّائِمَ إذَا كَانَ مُسْتَقِرًّا لَمْ يَكُنْ نَوْمُهُ حَدَثًا لِأَنَّهُ بِعَيْنِهِ لَا يُوجِبُ الِاسْتِرْخَاءَ لَا مَحَالَةَ وَالْإِغْمَاءُ بِكُلِّ حَالٍ يَكُونُ حَدَثًا وَالنَّوْمُ لَازِمٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ وَكَانَ النَّوْمُ لِلْمُضْطَجِعِ فِي الصَّلَاةِ إذَا لَمْ يَتَعَمَّدْهُ حَدَثًا لَا يَمْنَعُ الْبِنَاءَ وَالْإِغْمَاءُ مِنْ الْعَوَارِضِ النَّادِرَةِ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ فَوْقَ الْحَدَثِ فَلَمْ يَكُنْ يُلْحَقُ بِهِ وَمُنِعَ الْبِنَاءُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَيَخْتَلِفَانِ فِيمَا يَجِبُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى جَبْرًا لِأَنَّ الْإِغْمَاءَ مَرَضٌ يُنَافِي الْقُدْرَةَ أَصْلًا وَقَدْ يَحْتَمِلُ الِامْتِدَادَ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الْحَرَجَ فَيَسْقُطُ بِهِ الْأَدَاءُ، وَإِذَا بَطَلَ الْأَدَاءُ بَطَلَ الْوُجُوبُ لِمَا قُلْنَا وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْوَاجِبَاتِ مِثْلَ النَّوْمِ امْتِدَادُهُ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عَلَى مَا فَسَّرْنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالتَّنْبِيهِ أَلَا تَرَى تَوْضِيحٌ لِكَوْنِهِ أَشَدَّ مِنْ النَّوْمِ يَعْنِي ظَهَرَ أَثَرُ شِدَّتِهِ فِي الْحُكْمِ حَيْثُ صَارَ الْإِغْمَاءُ حَدَثًا فِي كُلِّ حَالٍ مُضْطَجِعًا كَانَ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا أَوْ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا وَالنَّوْمُ لَيْسَ بِحَدَثٍ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لِأَنَّهُ بِذَاتِهِ لَا يُوجِبُ اسْتِرْخَاءَ الْمَفَاصِلِ إلَّا إذَا غَلَبَ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ سَبَبًا لِلِاسْتِرْخَاءِ فَيَكُونُ حَدَثًا ثُمَّ ذَكَرَ فَرْقًا آخَرَ بَيْنَ الْإِغْمَاءِ وَالنَّوْمِ فَقَالَ وَالنَّوْمُ لَازِمٌ لِلْإِنْسَانِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ فَيَكُونُ كَثِيرَ الْوُقُوعِ فَلِهَذَا كَانَ النَّوْمُ مِنْ الْمُضْطَجِعِ فِي الصَّلَاةِ إذَا لَمْ يَتَعَمَّدْهُ حَدَثًا لَا يَمْنَعُ الْبِنَاءَ بِمَنْزِلَةِ الرُّعَافِ وَقَيَّدَ بِالْمُضْطَجِعِ لِأَنَّ نَوْمَ الرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ وَالْقَائِمِ فِي الصَّلَاةِ لَيْسَ بِحَدَثٍ وَبِعَدَمِ التَّعَمُّدِ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ إذَا نَامَ مُضْطَجِعًا مُتَعَمِّدًا انْتَقَضَ وُضُوءُهُ وَبَطَلَتْ صَلَاتُهُ بِلَا خِلَافٍ. فَأَمَّا إذَا نَعَسَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ فَمَالَ نَائِمًا حَتَّى اضْطَجَعَ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ يَنْتَقِضُ طَهَارَتُهُ وَلَمْ يَفْسُدْ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ حَدَثٌ سَمَاوِيٌّ فَلَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيَبْنِيَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَلَا يَنْتَقِضُ طَهَارَتُهُ كَمَا لَوْ نَامَ فِي السُّجُودِ كَذَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ ثُمَّ بَيَّنَ وَجْهَيْنِ فِي الْإِغْمَاءِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْنَعُ الْبِنَاءَ فَقَالَ وَالْإِغْمَاءُ مِنْ الْعَوَارِضِ النَّادِرَةِ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ وَهُوَ الْحَدَثُ الَّذِي يَغْلِبُ وُجُودُهُ فِي جَوَازِ الْبِنَاءِ وَهُوَ أَيْ الْإِغْمَاءُ فَوْقَ الْحَدَثِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ حَدَثًا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ مُخِلٌّ بِالْعَقْلِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُؤَثِّرٌ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْأَدَاءِ لِأَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَذَا فِي بَعْضِ الْفَوَائِدِ فَلَمْ يَلْحَقُ الْإِغْمَاءُ بِالْحَدَثِ لِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ كَمَا لَمْ تُلْحَقُ الْجَنَابَةُ بِهِ وَمُنِعَ الْبِنَاءُ عَلَى كُلِّ حَالٍ مُضْطَجِعًا كَانَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ أَوْ غَيْرَ مُضْطَجِعٍ قَلِيلًا كَانَ الْإِغْمَاءُ أَوْ كَثِيرًا وَيَخْتَلِفَانِ أَيْ النَّوْمُ وَالْإِغْمَاءُ فِيمَا يَجِبُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى بِطَرِيقِ الْخَبَرِ فَيَصْلُحُ الْإِغْمَاءُ عُذْرًا مُسْقِطًا فِي الْبَعْضِ وَلَا يَصْلُحُ النَّوْمُ عُذْرًا مُسْقِطًا بِحَالٍ لِأَنَّ الْإِغْمَاءَ مَرَضٌ يُنَافِي الْقُوَّةَ أَصْلًا فَلَا يَجِبُ الْأَدَاءُ فِي الْحَالِ لِلْعَجْزِ وَقَدْ يَحْتَمِلُ الِامْتِدَادَ يَعْنِي فِي حَقِّ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الْحَرَجَ أَيْ يُوجِبُ عَدَمَ اعْتِبَارِ امْتِدَادِهِ الْحَرَجَ بِدُخُولِ الْوَاجِبِ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ فَيَسْقُطُ بِهِ أَيْ بِالْحَرَجِ أَوْ بِالِامْتِدَادِ أَدَاءُ الْوَاجِبِ عَنْهُ أَصْلًا يَعْنِي يَسْقُطُ عَنْهُ حَقِيقَةُ الْأَدَاءِ لِلْعَجْزِ وَخَلَفُهُ وَهُوَ الْقَضَاءُ لِلْحَرَجِ وَإِذَا بَطَلَ الْأَدَاءُ أَيْ سَقَطَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ أَصْلًا بَطَلَ الْوُجُوبُ أَيْ نَفْسُ الْوُجُوبِ. لِمَا قُلْنَا فِي بَابِ الْأَهْلِيَّةِ أَنَّ الْوُجُوبَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِنَفْسِهِ بَلْ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْأَدَاءُ فَلَمَّا سَقَطَ لَمْ تَبْقَ الْوُجُوبُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ وَهَذَا أَيْ سُقُوطُ الْأَدَاءِ بِالْإِغْمَاءِ عِنْدَ امْتِدَادِهِ اسْتِحْسَانٌ وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِالْإِغْمَاءِ شَيْءٌ وَإِنْ طَالَ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ لِأَنَّهُ مَرَضٌ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْلِ وَلَكِنَّهُ يُوجِبُ خَلَلًا فِي الْقُدْرَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَيُؤَثِّرُ فِي تَأْخِيرِ الْأَدَاءِ وَلَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْقَضَاءِ كَالنَّوْمِ وَالْفَرْقُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِغْمَاءَ قَدْ يَقْصُرُ وَقَدْ يَطُولُ عَادَةً فِي حَقِّ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ فَإِذَا قَصُرَ اُعْتُبِرَ بِمَا يَقْصُرُ عَادَةً وَهُوَ النَّوْمُ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الْقَضَاءُ وَإِذَا طَالَ اُعْتُبِرَ بِمَا يَطُولُ عَادَةً وَهُوَ الْجُنُونُ وَالصِّغَرُ فَيَسْقُطُ الْقَضَاءُ وَامْتِدَادُ الْإِغْمَاءِ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بِاعْتِبَارِ الْأَوْقَاتِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَبِاعْتِبَارِ الصَّلَاةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَلَى مَا فَسَّرْنَاهُ

وَفِي الصَّوْمِ لَا يُعْتَبَرُ امْتِدَادُهُ لِأَنَّ امْتِدَادَهُ فِي الصَّوْمِ نَادِرٌ وَكَذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ وَفِي الصَّلَاةِ غَيْرُ نَادِرٍ وَفِي ذَلِكَ جَاءَتْ السُّنَّةُ فَلَمْ يُوجِبْ حَرَجًا. وَأَمَّا الرِّقُّ فَإِنَّهُ عَجْزٌ حُكْمِيٌّ شُرِعَ جَزَاءً فِي الْأَصْلِ لَكِنَّهُ فِي الْبَقَاءِ صَارَ مِنْ الْأُمُورِ الْحُكْمِيَّةِ بِهِ يَصِيرُ الْمَرْءُ عُرْضَةً لِلتَّمَلُّكِ وَالِابْتِذَالِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي الْجُنُونِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - امْتِدَادُهُ بِاسْتِيعَابِ وَقْتِ الصَّلَاةِ حَتَّى لَوْ كَانَ مُغْمَى عَلَيْهِ وَقْتَ صَلَاةٍ كَامِلٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ يُبْتَنَى عَلَى وُجُوبِ الْأَدَاءِ وَفَرْقٌ بَيْنَ النَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ فَإِنَّ النَّوْمَ عَنْ اخْتِيَارٍ مِنْهُ بِخِلَافِ الْإِغْمَاءِ. وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّاهُ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ فَقَضَاهُنَّ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ أُغْمِيَ عَلَيْهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَقَضَى الصَّلَوَاتِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَلَمْ يَقْضِ الصَّلَوَاتِ فَعَرَفْنَا أَنَّ امْتِدَادَهُ فِي الصَّلَاةِ بِمَا ذَكَرْنَا كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ إذَا لَمْ يَزْدَدْ الْإِغْمَاءُ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فِيهِ مِثْلُ قَوْلِنَا فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ لَهُ فِيهِ قَوْلَيْنِ وَفِي الصَّوْمِ لَا يُعْتَبَرُ امْتِدَادُهُ حَتَّى لَوْ كَانَ مُغْمًى عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ ثُمَّ أَفَاقَ بَعْدَ مُضِيِّهِ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إنْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ يَقُولُ سَبَبُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي حَقِّهِ لِزَوَالِ عَقْلِهِ بِالْإِغْمَاءِ وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ يُبْتَنَى عَلَيْهِ وَقُلْنَا إنَّ الْإِغْمَاءَ عُذْرٌ فِي تَأْخِيرِ الصَّوْمِ إلَى زَوَالِهِ لَا فِي إسْقَاطِهِ لِأَنَّ سُقُوطَهُ بِزَوَالِ الْأَهْلِيَّةِ أَوْ بِالْحَرَجِ وَلَا تَزُولُ الْأَهْلِيَّةُ بِهِ لِمَا بَيَّنَّا وَلَا يَتَحَقَّقُ الْحَرَجُ بِهِ أَيْضًا لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ وَامْتِدَادُهُ فِي حَقِّ الصَّوْمِ نَادِرٌ لِأَنَّهُ مَانِعٌ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَحَيَاةُ الْإِنْسَانِ شَهْرًا بِدُونِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا نَادِرَةً فَلَا يَصْلُحُ لِبِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ وَفِي الصَّلَاةِ امْتِدَادُهُ غَيْرُ نَادِرٍ فَيُوجِبُ حَرَجًا فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ وَفِي ذَلِكَ أَيْ فِي اعْتِبَارِ امْتِدَادِهِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ جَاءَتْ السُّنَّةُ كَمَا بَيَّنَّا فَلَمْ يُوجِبْ حَرَجًا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَفِي الصَّوْمِ نَادِرٌ أَيْ لَمْ يُوجِبْ امْتِدَادُهُ فِي الصَّوْمِ حَرَجًا. قَوْلُهُ (أَمَّا الرِّقُّ) فَكَذَا الرِّقُّ فِي اللُّغَةِ هُوَ الضَّعْفُ يُقَالُ ثَوْبٌ رَقِيقٌ أَيْ ضَعِيفُ النَّسْجِ وَمِنْهُ رِقَّةُ الْقَلْبِ وَفِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ ضَعْفٍ حُكْمِيٍّ يَتَهَيَّأُ الشَّخْصُ بِهِ لِقَبُولِ مِلْكِ الْغَيْرِ فَيُتَمَلَّكُ بِالِاسْتِيلَاءِ كَمَا يُتَمَلَّكُ الصَّيْدُ وَسَائِرُ الْمُبَاحَاتِ وَاحْتَرَزَ بِالْحُكْمِيِّ عَنْ الْحِسِّيِّ فَإِنَّ الْعَبْدَ رُبَّمَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الْحُرِّ حِسًّا لِأَنَّ الرِّقَّ لَا يُوجِبُ خَلَلًا فِي سَلَامَةِ الْبِنْيَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لَكِنَّهُ وَإِنْ قَوِيَ عَاجِزٌ عَمَّا يَمْلِكُهُ الْحُرُّ مِنْ الشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ وَالْوِلَايَةِ وَالتَّزَوُّجِ وَمَالِكِيَّةِ الْمَالِ وَغَيْرِهَا وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ أَرِقَّاءُ حَتَّى مُلِكُوا بِالِاسْتِيلَاءِ ثُمَّ إنَّ تَصَرُّفَاتِهِمْ نَافِذَةٌ وَأَنْكِحَتَهُمْ صَحِيحَةٌ وَشَهَادَتَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ مَقْبُولَةٌ وَأَمْلَاكَهُمْ ثَابِتَةٌ لِأَنَّ ثُبُوتَ وَصْفِ الرِّقِّ فِيهِمْ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا حَتَّى صَارُوا عُرْضَةً لِلتَّمَلُّكِ فِي حَقِّنَا فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُمْ فَلَهُمْ حُكْمُ الْأَحْرَارِ بِنَاءً عَلَى دِيَانَتِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِالْحُرْمَةِ فَيَثْبُتُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ فِي حَقِّهِمْ شُرِعَ أَيْ الرِّقُّ جَزَاءً فِي الْأَصْلِ أَيْ فِي أَصْلِ وَضْعِهِ وَابْتِدَاءِ ثُبُوتِهِ فَإِنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا اسْتَنْكَفُوا عِبَادَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصَيَّرُوا أَنْفُسَهُمْ مُلْحَقَةً بِالْجَمَادَاتِ حَيْثُ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِعُقُولِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ بِالتَّأَمُّلِ فِي آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَالنَّظَرِ فِي دَلَائِلِ وَحْدَانِيِّتِهِ جَازَاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا بِالرِّقِّ الَّذِي صَارُوا بِهِ مَحَالَّ الْمِلْكِ وَجَعَلَهُمْ عَبِيدَ عَبِيدِهِ وَأَلْحَقَهُمْ بِالْبَهَائِمِ فِي التَّمَلُّكِ وَالِابْتِذَالِ وَلِكَوْنِهِ جَزَاءَ الْكُفْرِ فِي الْأَصْلِ لَا يَثْبُتُ عَلَى الْمُسْلِمِ ابْتِدَاءً. وَلَكِنَّهُ فِي الْبَقَاءِ صَارَ مِنْ الْأُمُورِ الْحُكْمِيَّةِ أَيْ صَارَ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ ثَابِتًا بِحُكْمِ الشَّرْعِ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرَاعِيَ فِيهِ مَعْنَى

وَهُوَ وَصْفٌ لَا تَحْتَمِلُ التَّجَزِّيَ فَقَدْ قَالَ فِي الْجَامِعِ فِي مَجْهُولِ النَّسَبِ إذَا أَقَرَّ أَنَّ نِصْفَهُ عَبْدٌ لِفُلَانٍ أَنَّهُ يُجْعَلُ عَبْدًا فِي شَهَادَتِهِ وَفِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْجَزَاءِ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يُلْتَفَتَ إلَى جِهَةِ الْعُقُوبَةِ فِيهِ حَتَّى يَبْقَى الْعَبْدُ رَقِيقًا وَإِنْ أَسْلَمَ وَصَارَ مَعَ الْأَتْقِيَاءِ وَيَكُونُ وَلَدُ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ رَقِيقًا وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْجَزَاءَ وَهُوَ كَالْخَرَاجِ فَإِنَّهُ فِي الِابْتِدَاءِ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ حَتَّى لَا يَبْتَدِئَ عَلَى الْمُسْلِمِ لَكِنَّهُ فِي حَالِ الْبَقَاءِ صَارَ مِنْ الْأُمُورِ الْحُكْمِيَّةِ حَتَّى لَوْ اشْتَرَى الْمُسْلِمُ أَرْضَ الْخَرَاجِ لَزِمَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ وَالْعُرْضَةُ: الْمُعَرَّضُ لِلْأَمْرِ؛ أَيْ الَّذِي نُصِبَ لِأَمْرٍ؛ فُعْلَةٌ مِنْ الْعُرْضِ يُقَالُ فُلَانٌ جُعِلَ عُرْضَةً لِلْبَلَاءِ أَيْ مَنْصُوبًا لَهُ بِحَيْثُ يَعْرِضُ عَلَيْهِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224] أَيْ مُعَرَّضًا لَهَا فَتَبْتَذِلُوهُ بِكَثْرَةِ الْحَلِفِ بِهِ وَالْمَعْنَى هَاهُنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ بِسَبَبِ الرِّقِّ يَصِيرُ مُعَرَّضًا وَمَنْصُوبًا لِلتَّمَلُّكِ وَالِابْتِذَالِ أَيْ الِامْتِهَانِ قَوْلُهُ (وَهُوَ وَصْفٌ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزِّيَ) أَصْلُهُ التَّجَزُّؤُ بِالْهَمْزِ لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ لَيَّنُوا الْهَمْزَةَ تَخْفِيفًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْعَرَبِ فِي الْمَهْمُوزَاتِ فَصَارَ تَجَزُّوًا بِالْوَاوِ ثُمَّ قَلَبُوا الْوَاوَ يَاءً لِوُقُوعِهَا طَرَفًا مَضْمُومًا مَا قَبْلَهَا فَقَالُوا التَّجَزِّي وَمِثْلُهُ التَّوَضُّؤُ وَالتَّوَضِّي، أَيْ الرِّقُّ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزِّيَ ثُبُوتًا وَزَوَالًا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْبَلْخِيّ مِنْ مَشَايِخِنَا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّجَزِّيَ ثُبُوتًا حَتَّى لَوْ فَتَحَ الْإِمَامُ بَلْدَةً وَرَأَى الصَّوَابَ فِي أَنْ يَسْتَرِقَّ أَنْصَافَهُمْ نَفَذَ ذَلِكَ مِنْهُ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ لِأَنَّ سَبَبَهُ وَهُوَ الْقَهْرُ لَا يَتَجَزَّى إذْ لَا يُتَصَوَّرُ قَهْرُ نِصْفِ الشَّخْصِ شَائِعًا دُونَ النِّصْفِ وَالْحُكْمُ يُبْتَنَى عَلَى السَّبَبِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَلِأَنَّهُ أَثَرُ الْكُفْرِ وَهُوَ لَا يَتَجَزَّأُ وَلِأَنَّهُ شُرِعَ عُقُوبَةً وَجَزَاءً وَلَا يُتَصَوَّرُ إيجَابُ الْعُقُوبَةِ عَلَى النِّصْفِ مُشَاعًا دُونَ النِّصْفِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَحَلَّ لَا يَتَجَزَّأُ فِي قَبُولِ هَذَا الْوَصْفِ كَمَا لَا يَتَجَزَّأُ فِي اتِّصَافِهِ بِالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَكَمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَتَجَزَّأُ فِي اتِّصَافِهَا بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ هُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا بِالْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَهَا فِي آخِرِ دَعْوَى الْجَامِعِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ فَدَلَّ أَنَّهُ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا أَنَّهُ يُجْعَلُ عَبْدًا فِي شَهَادَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لِلْمُقَرِّ لَهُ إلَّا فِي النِّصْفِ حَتَّى لَوْ انْضَمَّ إلَيْهِ مِثْلُهُ لَمْ يُجْعَلَا بِمَنْزِلَةِ حُرٍّ وَاحِدٍ فِي الشَّهَادَةِ كَمَا جُعِلَتْ الْمَرْأَتَانِ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فِيهَا وَفِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ مِثْلَ الْحُدُودِ وَالْإِرْثِ وَالنِّكَاحِ وَالْحَجِّ وَالْجُمُعَةِ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَمِثْلُ الرِّقِّ الْعِتْقُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الرِّقِّ فِي أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّجَزِّيَ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ قُوَّةٍ حُكْمِيَّةٍ يَصِيرُ الشَّخْصُ بِهِ أَهْلًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّهَادَةِ وَالْوِلَايَةِ وَيَمْتَنِعُ بِهَا عَنْ يَدِ الْمُسْتَوْلِي حَتَّى لَا يَمْلِكَهُ وَإِنْ قَهَرَهُ كَذَا قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي الْأَسْرَارِ وَثُبُوتُ مِثْلِ هَذِهِ الْقُوَّةِ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْبَعْضِ الشَّائِعِ دُونَ الْبَعْضِ وَفِي قَوْلِهِ هُوَ ضِدُّهُ إشَارَةٌ إلَى دَلِيلِ عَدَمِ تَجَزِّيهِ فَإِنَّ الرِّقَّ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُتَجَزِّيًا لَزِمَ مِنْهُ أَنْ لَا يَكُونَ الْعِتْقُ مُتَجَزِّيًا لِأَنَّ هَذَا الْمَحَلَّ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الضِّدَّيْنِ إذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ فَلَزِمَ مِنْ عَدَمِ تَجَزِّي الرِّقِّ عَدَمُ تَجَزِّي الْعِتْقِ ضَرُورَةً. وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا حَتَّى أَنَّ مُعْتَقَ الْبَعْضِ لَا يَكُونُ حُرًّا أَصْلًا أَيْ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُرِّيَّةٌ فِي الْبَعْضِ وَلَا فِي الْكُلِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنْ كَانَ مَذْهَبُهُ أَنَّ الْإِعْتَاقَ يَتَجَزَّأُ بَلْ هُوَ رَقِيقٌ فِي شَهَادَتِهِ وَسَائِرِ أَحْكَامِهِ كَمَا كَانَ وَإِنَّمَا هُوَ مُكَاتَبٌ جَوَابُ مَا يُقَالُ إنَّ مُعْتَقَ الْبَعْضِ لَمَّا كَانَ مِثْلَ الْعَبْدِ فِي الْأَحْكَامِ فَمَا فَائِدَةُ الْإِعْتَاقِ فَقَالَ إنَّ مُعْتَقَ الْبَعْضِ

وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ الَّذِي هُوَ ضِدُّهُ حَتَّى أَنَّ مُعْتَقَ الْبَعْضِ لَا يَكُونُ حُرًّا أَصْلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي شَهَادَاتِهِ وَسَائِرِ أَحْكَامِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مُكَاتَبٌ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْإِعْتَاقُ انْفِعَالُهُ الْعِتْقُ فَلَا يُتَصَوَّرُ دُونَهُ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الِانْفِعَالُ مُتَجَزِّيًا لَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ مُتَجَزِّيًا كَالتَّطْلِيقِ وَالطَّلَاقِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمُكَاتَبٌ أَيْ صَارَ حُكْمُهُ بِالْإِعْتَاقِ حُكْمَ الْمُكَاتَبِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ وَأَنَّ الْعَبْدَ أَحَقُّ بِمَكَاسِبِهِ وَأَنَّهُ يَخْرُجُ إلَى الْحُرِّيَّةِ بِالسِّعَايَةِ وَأَنَّ بَعْضَ الْمِلْكِ زَالَ عَنْهُ كَمَا زَالَ عَنْ الْمُكَاتَبِ مِلْكُ الْيَدِ لِلْمَوْلَى إلَّا أَنَّهُ لَا يُرَدُّ إلَى الرِّقِّ بِالتَّعْجِيزِ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ السَّبَبَ فِي الْمُكَاتَبِ عَقْدٌ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَهُوَ الْكِتَابَةُ وَالسَّبَبُ هَاهُنَا إزَالَةُ مِلْكٍ لَا إلَى أَحَدٍ وَذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُعْتَقِ الْبَعْضِ اعْتَبَرَ جَانِبَ الشَّرِيكِ فَالْمِلْكُ لَمَّا بَقِيَ عِنْدَهُ فِي نَصِيبِهِ تَعَذَّرَ إثْبَاتُ الْعِتْقِ فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَثَبَتَ فِي الْكُلِّ لِعَدَمِ تَجَزِّيهِ فَتَوَقَّفَ فِي الْحُكْمِ بِالْعِتْقِ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ السِّعَايَةَ وَيَسْقُطَ الْمِلْكُ بِالْكُلِّيَّةِ فَحِينَئِذٍ يُحْكَمُ بِالْعِتْقِ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ نَظَرَا إلَى جَانِبِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ الْعِتْقَ فِي النِّصْفِ عَمَلًا بِإِضَافَةِ الْإِعْتَاقِ إلَيْهِ ثَبَتَ فِي الْكُلِّ لِعَدَمِ تَجَزِّيهِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ. فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الرِّقَّ وَالْعِتْقَ لَا يَقْبَلَانِ التَّجَزِّيَ بِاتِّفَاقٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ صَدَرَ الْعِتْقُ مِنْ مُوسِرٍ فَكَذَلِكَ وَإِنْ صَدَرَ مِنْ مُعْسِرٍ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّجَزِّيَ وَكَذَلِكَ الرِّقُّ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ مِنْ الْعَبْدِ وَهُوَ مُعْسِرٌ عَتَقَ نَصِيبُهُ وَبَقِيَ الْبَاقِي رَقِيقًا كَمَا كَانَ يُبَاعُ وَيُوهَبُ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي عَبْدٍ ضَمِنَ لِشَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَإِلَّا عَتَقَ مَا عَتَقَ وَرَقَّ مَا رَقَّ» وَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ وُجِدَ فِي النِّصْفِ فَيَثْبُتُ مُوجَبُهُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي أُضِيفَ إلَيْهِ وَلَا اسْتِحَالَةَ فِي اتِّصَافِ الْبَعْضِ مِنْهُ بِالْحُرِّيَّةِ وَالْبَعْضِ بِالرِّقِّ لِأَنَّ هَذِهِ أَوْصَافٌ شَرْعِيَّةٌ تُذْكَرُ فَكَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمِلْكِ أَنَّهُ زَالَ عَنْ الْبَعْضِ وَبَقِيَ فِي الْبَعْضِ فَاتَّصَفَ الْبَعْضُ بِكَوْنِهِ مَمْلُوكًا وَالْبَعْضُ بِكَوْنِهِ غَيْرَ مَمْلُوكٍ أَقُولُ فِي حَقِّ الْعِتْقِ النِّصْفُ الَّذِي زَالَ الْمِلْكُ عَنْهُ حُرٌّ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ رَقِيقٌ إلَّا أَنَّ لِهَذَا الْوَصْفِ آثَارًا مِنْهَا مَا يُمْكِنُ إظْهَارُ الْأَثَرِ فِي الْبَعْضِ وَهُوَ الْمَالِكِيَّةُ وَمِنْهَا مَا لَا يُمْكِنُ وَهُوَ الشَّهَادَةُ وَالْوِلَايَةُ فَأَثْبَتْنَا مَا أَمْكَنَ وَتَوَقَّفْنَا فِيمَا تَعَذَّرَ إلَى حِينِ تَمَامِ الْعِتْقِ وَالْجَوَابُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ مُسْتَحِيلٌ لِأَنَّهُمَا وَصْفَانِ مُتَضَادَّانِ لَا يَتَجَزَّيَانِ كَمَا لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ وَمَا ذَكَرَ مِنْ الْحَدِيثِ مُعَارَضٌ بِمَا سَنَذْكُرُهُ فَلَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ أَوْ مَا دَلَّ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ عَتَقَ مَا عَتَقَ يَعْتِقُ سَمَّاهُ عَتِيقًا بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ وَمِنْ قَوْلِهِ رَقَّ مَا رَقَّ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ رَقِيقٌ وَلَا كَلَامَ فِيهِ إنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَبْقَى عَلَى حَالِهِ رَقِيقًا أَمْ يَخْرُجُ إلَى الْعِتْقِ بِالسِّعَايَةِ وَلَا ذِكْرَ لَهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ كَذَا فِي الطَّرِيقَةِ الْبُرْغَرِيَّةِ. ثُمَّ إنَّ أَصْحَابَنَا كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ تَجَزِّي الرِّقِّ وَالْعِتْقِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ وَهُوَ الْمَعْنَى الْمُطْلَقُ لِلتَّصَرُّفِ الْحَاجِزِ لِلْغَيْرِ عَنْهُ قَابِلٌ لِلتَّجَزُّؤِ ثُبُوتًا وَزَوَالًا بَلْ أَجْمَعَ الْكُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَوْ بَاعَ عَبْدَهُ مِنْ اثْنَيْنِ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ وَثَبَتَ الْمِلْكُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ وَلَوْ بَاعَ نِصْفَ عَبْدِهِ يَبْقَى الْمِلْكُ لَهُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ بِالْإِجْمَاعِ وَيَزُولُ عَنْ النِّصْفِ الْمَبِيعِ لَا غَيْرُ وَإِذَا عَرَفْت أَحْكَامَ الرِّقِّ وَالْعِتْقِ وَالْمِلْكِ فِي التَّجَزِّيِ فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي تَجَزِّي الْإِعْتَاقِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْإِعْتَاقُ لَا يَتَجَزَّأُ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ أَوْ أَعْتَقَ أَحَدُ

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْإِعْتَاقُ إزَالَةُ الْمِلْكِ مُتَجَزًّى تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ لَا يَتَجَزَّى وَهُوَ الْعِتْقُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ يَعْتِقُ كُلُّهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي عَبْدٍ أُعْتِقَ كُلُّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ شَرِيكٌ» وَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ انْفِعَالُهُ الْعِتْقُ أَيْ لَازِمُهُ الَّذِي يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَيْهِ يُقَالُ أَعْتَقْتُهُ فَعَتَقَ كَمَا يُقَالُ كَسَرْته فَانْكَسَرَ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِعْتَاقُ بِدُونِ الْعِتْقِ كَمَا لَا يُتَصَوَّرُ الْكَسْرُ بِدُونِ الِانْكِسَارِ لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ الْمَلْزُومِ بِدُونِ اللَّازِمِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الِانْفِعَالُ هَاهُنَا وَهُوَ الْعِتْقُ مُتَجَزِّئًا لَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ وَهُوَ الْإِعْتَاقُ مُتَجَزِّيًا ضَرُورَةً كَالتَّطْلِيقِ وَالطَّلَاقِ فَإِنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي هُوَ انْفِعَالُ التَّطْلِيقِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُتَجَزِّيًا لَمْ يَكُنْ التَّطْلِيقُ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ مُتَجَزِّئًا وَلَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ يَتَوَقَّفُ الْإِعْتَاقُ لِأَنَّهُ صَدَرَ مِنْ الْمَالِكِ فَوَجَبَ تَنْفِيذُهُ وَنَفَاذُهُ فِي الْبَعْضِ يَسْتَدْعِي ثُبُوتَ الْعِتْقِ فِي الْكُلِّ. وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّ الْإِعْتَاقَ تَصَرُّفٌ فِي الْمَالِيَّةِ دُونَ إثْبَاتِ الْعِتْقِ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فِي بَابِ الْإِعْتَاقِ وَأَنَّ إعْتَاقَ مَا لَيْسَ بِمَا يَصِحُّ كَالْجَنِينِ وَكَأُمِّ الْوَلَدِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَوْ كَانَ الْإِعْتَاقُ تَصَرُّفًا فِي الْمَالِيَّةِ لَمَا ثَبَتَ الْحَيَوَانُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عَنْ الْمَالِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الِاسْتِيلَادَ الَّذِي هُوَ حَقُّ الْعِتْقِ لَا يَتَجَزَّأُ حَتَّى لَوْ اسْتَوْلَدَ الْجَارِيَةَ الْمُشْتَرَكَةَ صَارَتْ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَحَقِيقَةُ الْعِتْقِ بِعَدَمِ التَّجَزِّيِ أَوْلَى وَكَذَلِكَ إعْتَاقُ أُمِّ الْوَلَدِ لَا يَتَجَزَّأُ حَتَّى لَوْ ادَّعَى الشَّرِيكَانِ وَلَدَ جَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُمَا وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُمَا ثُمَّ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ عَتَقَ نَصِيبُ الْآخَرِ فِي الْحَالِ فَكَذَا إعْتَاقُ الْقِنَّةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْإِعْتَاقُ يَتَجَزَّأُ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ شِقْصًا مِنْ عَبْدٍ لَا يَعْتِقُ الْكُلُّ وَلَكِنْ يَفْسُدُ الْمِلْكُ فِي الْبَاقِي حَتَّى لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُمَلِّكَهُ الْغَيْرَ وَلَا أَنْ يُبْقِيَهُ فِي مِلْكِهِ بَلْ يَصِيرَ كَالْمُكَاتَبِ عَلَى مَا بَيَّنَّا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي عَبْدِ قَوْمٍ عَلَيْهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا يَبْقَى الْعَبْدُ فِي نَصِيبِهِ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ» أَيْ يُؤْخَذُ مِنْهُ عَلَى الْمُهْلَةِ وَالرِّقِّ وَلِمَا رَوَى سَالِمٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي عَبْدٍ كُلِّفَ عِتْقَ بَقِيَّتِهِ» وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَتَقَ كُلُّهُ أَيْ سَيَصِيرُ عَتِيقًا بِإِخْرَاجِ الْبَاقِي إلَى الْعِتْقِ بِالسِّعَايَةِ فَكَانَ بَيَانًا أَنَّهُ لَا يُسْتَدَامُ فِيهِ الرِّقُّ. وَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إزَالَةُ مِلْكِ الْيَمِينِ بِالْقَوْلِ فَيَتَجَزَّأُ مِنْ الْمَحَلِّ كَالْبَيْعِ وَذَلِكَ لِأَنَّ نُفُوذَ تَصَرُّفِ الْمَالِكِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ وَهُوَ مَالِكٌ لِلْمَالِيَّةِ دُونَ الرِّقِّ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِضَعْفٍ شَرْعِيٍّ ثَابِتٍ فِي أَهْلِ الْحَرْبِ مُجَازَاةً وَعُقُوبَةً عَلَى كُفْرِهِمْ كَمَا قُلْنَا وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ لِأَنَّهُ شُرِعَ عُقُوبَةً بِالْجِنَايَةِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ حُرْمَةَ الْكُفْرِ حَقُّهُ عَلَى الْخُصُوصِ فَيَكُونُ جَزَاؤُهُ حَقًّا لَهُ كَحَدِّ الزِّنَا فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى وَتَعَلُّقُ بَقَاءِ الْمِلْكِ بِبَقَاءِ الرِّقِّ فِي الْمَحِلِّ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ كَتَعَلُّقِهِ بِالْحَيَاةِ فَإِنَّهَا شَرْطٌ لِلْمِلْكِ ثُبُوتًا وَبَقَاءً وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَيَاةَ مَمْلُوكَةٌ لَهُ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إلَّا الْمَالِيَّةَ كَانَ الْإِعْتَاقُ مِنْهُ تَصَرُّفًا فِي إزَالَةِ مِلْكِ الْمَالِيَّةِ فَيَقْبَلُ التَّجَزِّيَ لِأَنَّ الْعَبْدَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ مُتَجَزٍّ كَالثَّوْبِ إلَّا أَنَّهُ إذَا أَزَالَهُ إلَى الْعَبْدِ وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ كَانَ إسْقَاطًا لِلْمَالِيَّةِ وَإِسْقَاطُهَا يُوجِبُ زَوَالَ الرِّقِّ وَثُبُوتَ الْعِتْقِ فَكَانَ فِعْلُهُ إعْتَاقًا بِوَاسِطَةِ إزَالَةِ الْمَالِيَّةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إذَا تَمَّ إزَالَةُ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ يَعْقُبُهُ الْعِتْقُ لَا أَنْ يَكُونَ

لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ سُقُوطِ الرِّقِّ وَسُقُوطُ الرِّقِّ حُكْمٌ لِسُقُوطِ كُلِّ الْمِلْكِ فَإِذَا سَقَطَ بَعْضُهُ فَقَدْ وُجِدَ شَطْرُ عِلَّةِ الْعِتْقِ وَصَارَ ذَلِكَ كَإِعْدَادِ الْوُضُوءِ أَنَّهَا مُتَجَزِّيَةٌ تَعَلَّقَ بِهَا إبَاحَةُ الصَّلَاةِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَجَزِّيَةٍ كَذَلِكَ إعْدَادُ الطَّلَاقِ لِلتَّحْرِيمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQفِعْلُ الْمُزِيلِ مُلَاقِيًا لِلرِّقِّ كَالْقَاتِلِ فِعْلُهُ لَا يَحِلُّ الرُّوحَ وَإِنَّمَا يَحِلُّ الْبِنْيَةَ ثُمَّ بِنَقْضِ الْبِنْيَةِ تَزْهَقُ الرُّوحُ فَيَكُونُ فِعْلُهُ قَتْلًا وَكَشِرَاءِ الْقَرِيبِ يَكُونُ إعْتَاقًا بِوَاسِطَةِ التَّمَلُّكِ لَا بِدُونِ الْوَاسِطَةِ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ الْإِعْتَاقُ إزَالَةٌ لِمِلْكٍ مُتَجَزٍّ تَعَلَّقَ بِهِ أَيْ بِهَذِهِ الْإِزَالَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْإِسْقَاطِ حُكْمٌ لَا يَتَجَزَّأُ. وَقَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَيْ الْعِتْقَ عِبَارَةٌ عَنْ سُقُوطِ الرِّقِّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِتْقَ مُتَعَلِّقٌ بِالْإِعْتَاقِ بِوَاسِطَةٍ أَيْ لَا نَعْنِي ثُبُوتَ الْعِتْقِ الَّذِي هُوَ الْقُوَّةُ الشَّرْعِيَّةُ إلَّا سُقُوطَ الرِّقِّ الَّذِي هُوَ الضَّعْفُ الشَّرْعِيُّ لِأَنَّ زَوَالَ الضَّعْفِ يُوجِبُ قُوَّةً بِحَبْسِهِ لَا مَحَالَةَ وَسُقُوطُ الرِّقِّ حُكْمٌ لِسُقُوطِ كُلِّ الْمِلْكِ وَذَلِكَ لِأَنَّ ثُبُوتَ الرِّقِّ فِي الْأَصْلِ لَمَّا كَانَ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَبْقَى الرِّقُّ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ ثَبَتَتْ الْحُرِّيَّةُ بِالْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ وَهُوَ أَنَّ الْآدَمِيَّ مُكَرَّمٌ مُحْتَرَمٌ إلَّا أَنَّهُ يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ الْحُرِّيَّةِ لِقِيَامِ مِلْكِ الْمَوْلَى فَكَانَ بَقَاءُ الرِّقِّ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمَوْلَى فَمَا دَامَ حَقُّ الْمَوْلَى قَائِمًا فِي الْمَحَلِّ يَبْقَى الرِّقُّ وَيَنْبَغِي الْعِتْقُ وَإِذَا زَالَ الْمِلْكُ وَالْمَالِيَّةُ بِالْكُلِّيَّةِ انْتَفَى الرِّقُّ وَحَدَثَ الْعِتْقُ فَثَبَتَ أَنَّ سُقُوطَ الرِّقِّ حُكْمُ سُقُوطِ الْمِلْكِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَقَوْلُهُ: لِأَنَّهُ أَيْ الْعِتْقَ عِبَارَةٌ عَنْ سُقُوطِ الرِّقِّ تَسَامُحٌ فِي الْعِبَارَةِ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ ثُبُوتِ الْقُوَّةِ إلَّا أَنَّ سُقُوطَ الرِّقِّ مِنْ لَوَازِمِهِ فَيُعْتَبَرُ بِهِ عَنْهُ كَمَا أَنَّ الْحَرَكَةَ لَيْسَتْ بِعِبَارَةٍ عَنْ زَوَالِ السُّكُونِ بَلْ مَعْنًى يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ زَوَالُ السُّكُونِ فَيَجُوزُ أَنْ يُعَبِّرَ بِالْحَرَكَةِ عَنْ زَوَالِ السُّكُونِ وَمِثْلُهُ تَفْسِيرُ الْمَوْتِ بِزَوَالِ الْحَيَاةِ فَإِنَّهُ تَفْسِيرٌ بِلَازِمِهِ أَوْ هُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ يَلْزَمُ مِنْهُ زَوَالُ الْحَيَاةِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَصَارَ ذَلِكَ أَيْ إسْقَاطُ الْمِلْكِ الَّذِي هُوَ مُتَجَزٍّ وَتَعَلُّقُ الْعِتْقِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مُتَجَزٍّ بِهِ كَإِعْدَادِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فِي حُكْمِ الْغُسْلِ فَإِنَّهَا مُتَجَزِّئَةٌ فِيهِ وَتَعَلَّقَ بِهَا أَيْ بِغُسْلِهَا إبَاحَةُ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُتَجَزِّئَةٍ حَتَّى كَانَ غَاسِلُ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ مُتَطَهِّرًا وَمُزِيلًا لِلْحَدَثِ عَنْ ذَلِكَ الْبَعْضِ وَيَتَوَقَّفُ إبَاحَةُ الصَّلَاةِ عَلَى غَسْلِ الْبَاقِي. وَكَذَلِكَ أَيْ كَإِعْدَادِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ إعْدَادُ الطَّلَاقِ لِلتَّحْرِيمِ فَإِنَّهَا مُتَجَزِّئَةٌ وَتَعَلَّقَ بِهَا الْحُرْمَةُ الْغَلِيظَةُ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُتَجَزِّئَةٍ حَتَّى كَانَ مُوقِعُ الطَّلْقَةِ وَالطَّلْقَتَيْنِ مُطَلِّقًا وَيَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ عَلَى كَمَالِ الْعَدَدِ فَكَذَا هَاهُنَا إلَّا أَنَّ الْعَبْدَ اسْتَحَقَّ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ حَقَّ الْعِتْقِ لِأَنَّ الْإِزَالَةَ لَمَّا صَحَّتْ اسْتَحَقَّ أَنْ يُعْتَقَ بِقَدْرِهِ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ أَقْوَى مِنْ التَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ وَلَمَّا اسْتَحَقَّ الْعِتْقَ لِلْحَالِ وَلَمْ يَحْتَمِلْ النَّقْضَ وَجَبَ تَكْمِيلُهُ مِنْ طَرِيقِ السِّعَايَةِ فَيُجْعَلُ الْعَبْدُ مُكَاتَبًا بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ وَلِأَنَّ فِي الْكِتَابَةِ تَأَخَّرَ حَقُّ الْعَبْدِ فِي الْعِتْقِ وَفِي الْقَوْلِ يُعْتَقُ الْكُلُّ بُطْلَانُ مِلْكِ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ فَكَانَ التَّأْخِيرُ أَوْلَى كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَبِمَا ذَكَرْنَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا يُقَالُ قَدْ ذَكَرْتُمْ فِي مَسْأَلَةِ اسْتِعَارَةِ أَلْفَاظِ الْعِتْقِ لِلطَّلَاقِ أَنَّ مَعْنَى اللَّفْظِ إثْبَاتُ الْعِتْقِ الَّذِي هُوَ الْقُوَّةُ وَذَلِكَ مُوجَبُ التَّصَرُّفِ شَرْعًا وَقُلْتُمْ أَيْضًا فِي مَسْأَلَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى إعْتَاقِ الْمَوْلَى عَبْدَهُ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ بِدُونِ دَعْوَى الْعَبْدِ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إثْبَاتُ الْعِتْقِ وَهُوَ حَقُّهُ ثُمَّ ذَكَرْتُمْ هَاهُنَا أَنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ لَا إثْبَاتُ الْعِتْقِ وَهُوَ تَنَاقُضٌ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَوْلَى وَإِنْ كَانَ مُلَاقِيًا لِلْمِلْكِ وَالْمَالِيَّةِ لَكِنَّهُ طَرِيقٌ لِثُبُوتِ الْعِتْقِ فَكَانَ الْعِتْقُ مُضَافًا إلَى تَصَرُّفِهِ لِأَنَّهُ سَلَكَ طَرِيقَ حُدُوثِهِ وَأَعْمَلَ الْعِلَّةَ فَيُعْطَى لِتَصَرُّفِهِ حُكْمُ الْعِلَّةِ كَمَا

وَهَذَا الرِّقُّ يُبْطِلُ مَالِكِيَّةَ الْمَالِ لِقِيَامِ الْمَمْلُوكِيَّةِ مَالًا حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْعَبْدُ الْمُكَاتَبُ التَّسَرِّيَ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَوْ قَطَعَ الْحَبْلَ حَتَّى سَقَطَ الْقِنْدِيلُ يُقَالُ أَسْقَطَ لِأَنَّهُ أَعْمَلَ الْعِلَّةَ وَهِيَ الثِّقَلُ بِإِزَالَةِ الْمَسْكَةِ وَمَتَى ثَبَتَ أَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي الْمَالِيَّةِ بِالْإِسْقَاطِ لِإِحْدَاثِ الْعِتْقِ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ التَّصَرُّفِ الْعِتْقَ وَبِهِ يُسَمَّى التَّصَرُّفُ ثُمَّ إذَا أَرَدْت الِاسْتِعَارَةَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْمَعْنَى الَّذِي قُصِدَ بِالتَّصَرُّفِ وَهُوَ إثْبَاتُ الْعِتْقِ الَّذِي يُنْبِئُ عَنْ الْقُوَّةِ لِأَنَّ الِاتِّصَالَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَعْنَى الْخَاصِّ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُ التَّصَرُّفِ دُونَ الطَّرِيقِ الَّذِي لَيْسَ بِمَقْصُودٍ وَفِي مَسْأَلَتِنَا الْعِتْقُ غَيْرُ ثَابِتٍ بَعْدُ وَإِنَّمَا نَحْنُ فِي طَرِيقِ الْوُصُولِ إلَى الْمَقْصُودِ فَنُرَاعِي مَعْنَى إزَالَةِ الْمِلْكِ وَالْمَالِيَّةِ فَنَقُولُ هُوَ مُتَصَرِّفٌ فِي الْمِلْكِ وَهُوَ مُتَجَزٍّ وَمَا دَامَ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِيَّةِ قَائِمًا فِي الْمَحَلِّ لَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ كَالْقِنْدِيلِ يَبْقَى مُعَلَّقًا مَا دَامَ شَيْءٌ مِنْ الْمَسْكَةِ قَائِمًا وَعَلَى هَذَا النَّمَطِ يَجْرِي تَخْرِيجُ الْمَسَائِلِ فِي اعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ مِنْ التَّصَرُّفِ وَاعْتِبَارِ طَرِيقِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَضْلِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي إشَارَاتِ الْأَسْرَارِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فِيهِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فِي عَقْدِ تَمْلِيكِ الْمَالِ بِالْمَالِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى الرِّبَا إذْ فِيهِ ضَرْبُ جَهَالَةٍ فَيَحْتَمِلُ اسْتِيفَاءَ الزِّيَادَةِ وَأَمَّا فِي عَقْدِ إسْقَاطِ الْمَالِ فَلَا يُؤَدِّي إلَيْهِ فَيَثْبُتُ وَإِنَّمَا جَازَ إعْتَاقُ الْجَنِينِ لِأَنَّهُ فِي الْبَطْنِ مَالٌ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْغَصْبِ وَكَذَا أُمُّ الْوَلَدِ مَالٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَكِنْ لَا قِيمَةَ لَهَا فَيَصِحُّ إعْتَاقُهَا لِوُجُودِ الْمَالِيَّةِ وَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِاسْتِهْلَاكِهِ لِعَدَمِ التَّقَوُّمِ. وَقَوْلُهُمْ: الِاسْتِيلَادُ لَا يَتَجَزَّأُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ أَيْضًا بِدَلِيلِ أَنَّ مُدَبَّرَةً بَيْنَ اثْنَيْنِ لَوْ اسْتَوْلَدَهَا أَحَدُهُمَا صَارَ نَصِيبُهُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَنَصِيبُ الْآخَرِ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ وَكَذَا مُكَاتَبًا بَيْنَ اثْنَيْنِ اسْتَوْلَدَهَا أَحَدُهُمَا لَا يَصِيرُ نَصِيبُ الْآخَرِ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَأَمَّا الْقِنَّةُ فَإِنَّمَا يَصِيرُ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لَا لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَجَزٍّ وَلَكِنْ لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَحَقَّقَ فِي جَمِيعِهَا وَهُوَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ وَالنَّسَبُ قَدْ ثَبَتَ فِي جَمِيعِهَا فَقُلْنَا بِانْتِقَالِ مِلْكِ الشَّرِيكِ إلَيْهَا بِالْقِيمَةِ إنْ كَانَ مُمْكِنًا وَذَلِكَ فِي الْقِنَّةِ دُونَ الْمُدَبَّرَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ فَيَقْتَصِرُ حُكْمُهُ فِيهِمَا عَلَى نَصِيبِهِ وَيَتَعَدَّى إلَى نَصِيبِ الشَّرِيكِ فِي الْقِنَّةِ وَكَذَا إعْتَاقُ أُمِّ الْوَلَدِ مُتَجَزٍّ إذْ لَمْ يَعْتِقْ بِإِعْتَاقِهِ إلَّا النِّصْفُ وَلَكِنَّ النِّصْفَ الْآخَرَ يَعْتِقُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي إبْقَاءِ الرِّقِّ فَإِنَّ رِقَّ أُمِّ الْوَلَدِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُتَقَوِّمًا عِنْدَهُ لَمْ يُمْكِنْ إيجَابُ الْمَالِ عَلَيْهَا بِاعْتِبَارِ احْتِبَاسِ مِلْكِ الشَّرِيكِ عِنْدَهُمَا فَلَمْ يَكُنْ فِي إبْقَاءِ الْمِلْكِ فَائِدَةٌ فَيُعَجِّلُ عِتْقَ الْبَاقِي وَفِي الْقِنَّةِ فِي إبْقَاءِ الرِّقِّ فَائِدَةٌ فَيَبْقَى لِلسِّعَايَةِ قَوْلُهُ (وَهَذَا الرِّقُّ) أَيْ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ وَكَأَنَّهُ احْتَرَزَ بِلَفْظِ الْإِشَارَةِ عَنْ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ يُسَمَّى رِقًّا وَلَا يَمْنَعُ مَالِكِيَّةَ الْمَالِ يُبْطِلُ مَالِكِيَّةَ الْمَالِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْعَبْدُ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ وَإِنْ مَلَكَهُ الْمَوْلَى لِقِيَامِ الْمَمْلُوكِيَّةِ مَالًا يَعْنِي مَمْلُوكِيَّتَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ لَا مِنْ حَيْثُ الْإِنْسَانِيَّةُ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّ الْمَالِكِيَّةَ تُنْبِئُ عَنْ الْقُدْرَةِ وَالْمَمْلُوكِيَّةَ تُنْبِئُ عَنْ الْعَجْزِ وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنْ قِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ وَمَالِكًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ كَمَا قُلْنَا فِي مَالِكِيَّةِ غَيْرِ الْمَالِ قُلْنَا لَوْ قِيلَ بِمَالِكِيَّتِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ مَالِكًا وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَالِكَ مُبْتَذِلٌ لِلْمَالِ وَالْمَالُ مُبْتَذَلٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُبْتَذِلُ مُبْتَذَلًا فِي حَالَةٍ بِخِلَافِ مَالِكِيَّةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ

وَحَتَّى لَا يَصِحَّ مِنْهُمَا حَجَّةُ الْإِسْلَامِ لِعَدَمِ أَصْلِ الْقُدْرَةِ وَهِيَ الْبَدَنِيَّةُ لِأَنَّهَا لِلْمَوْلَى لِأَنَّ مِلْكَ الذَّاتِ يُوجِبُ مِلْكَ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ لِكَوْنِهَا تَبَعًا إلَّا مَا اسْتَثْنَى عَلَيْهِ فِي سَائِرِ الْقُرَبِ الْبَدَنِيَّةِ بِخِلَافِ الْفَقِيرِ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِمَا يَحْدُثُ مِنْ قُدْرَةِ الْفِعْلِ إذَا حَدَثَتْ وَهِيَ الِاسْتِطَاعَةُ الْأَصْلِيَّةُ ـــــــــــــــــــــــــــــQدَاعِيَةٌ إلَى إثْبَاتِهَا كَمَا سَنُبَيِّنُهُ كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَبْقَى بِالرِّقِّ أَهْلِيَّةُ مِلْكِ التَّصَرُّفِ كَمَا لَا يَبْقَى أَهْلِيَّةُ مِلْكِ الْمَالِ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَمْلُوكٌ تَصَرُّفًا كَمَا أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ مَالًا قُلْنَا إنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ تَصَرُّفًا فِي نَفْسِهِ بَيْعًا وَتَرْوِيجًا وَقَدْ فَاتَتْ لَهُ أَهْلِيَّةُ هَذَا التَّصَرُّفِ وَكَانَ نَائِبًا عَنْ الْمَوْلَى مَتَى بَاشَرَهُ بِأَمْرِهِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَمْلُوكًا مِنْ حَيْثُ التَّصَرُّفُ فِي ذِمَّتِهِ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ بِثَمَنٍ يَجِبُ فِي ذِمَّةِ عَبْدِهِ ابْتِدَاءً فَيَبْقَى لَهُ الْأَهْلِيَّةُ فِي مِلْكِ هَذَا التَّصَرُّفِ كَمَا إنَّهُ لَمَّا يَصِرْ مَمْلُوكًا تَصَرُّفًا عَلَيْهِ فِي الْإِقْرَارِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ بَقِيَ مَالِكًا لِذَلِكَ التَّصَرُّفِ كَذَا فِي مَأْذُونِ الْمَبْسُوطِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الرِّقَّ يُبْطِلُ مَالِكِيَّةَ الْمَالِ لَا تَثْبُتُ الْأَحْكَامُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى الْمِلْكِ فِي حَقِّ الرَّقِيقِ فَلَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ وَالْمُكَاتَبُ التَّسَرِّيَ وَإِنْ أَذِنَ لَهُمَا الْمَوْلَى بِذَلِكَ كَمَا لَا يَمْلِكَانِ الْإِعْتَاقَ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِ الْمِلْكِ كَالْإِعْتَاقِ. وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ لَهُمَا التَّسَرِّي لِأَنَّ مِلْكَ الْمُتْعَةِ يَثْبُتُ بَعْدَ النِّكَاحِ أَوْ الشِّرَاءِ فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ أَهْلًا لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ كَانَ أَهْلًا بِالطَّرِيقِ الْآخَرِ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُتْعَةِ الَّذِي يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ أَقْوَى مِمَّا يَثْبُتُ بِالشِّرَاءِ. وَالْجَوَابُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ سَبَبَهُ وَهُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ فَكَذَا حُكْمُهُ بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَلَا تَأْثِيرَ لِإِذْنِ الْمَوْلَى فِي إثْبَاتِ الْأَهْلِيَّةِ إنَّمَا تَأْثِيرُهُ فِي إسْقَاطِ حَقِّهِ عِنْدَ قِيَامِ أَهْلِيَّةِ الْعَبْدِ وَالسُّرِّيَّةُ الْأَمَةُ الَّتِي بَوَّأْتَهَا بَيْتًا وَأَعْدَدْتَهَا لِلْوَطْءِ فُعْلِيَّةٌ مِنْ السَّرِّ وَهُوَ النِّكَاحُ يُقَالُ تَسَرَّرْتُ جَارِيَةً وَتَسَرَّيْت كَمَا يُقَالُ تَظَنَّنْتُ وَتَظَنَيْتُ وَخَصَّ الْمُكَاتَبَ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ حُكْمَ الْمُدَبَّرِ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ لِحُرِّيَّتِهِ يَدًا فَيُوهِمُ ذَلِكَ جَوَازَ التَّسَرِّي لَهُ فَأَزَالَ الْوَهْمَ بِذِكْرِهِ قَوْلُهُ (وَحَتَّى لَا يَصِحَّ مِنْهُمَا حَجَّةُ الْإِسْلَامِ) يَعْنِي لَمَّا أَبْطَلَ الرِّقُّ مَالِكِيَّةَ الْمَالِ لَا يَصِحُّ مِنْ الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ وَالِاسْتِطَاعَةَ مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْحَجِّ وَلَا قُدْرَةَ لِلرَّقِيقِ أَصْلًا لِأَنَّهَا بِمَنَافِعِ الْبَدَنِ وَالْمَالِ وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْهُمَا أَمَّا الْمَالُ فَلِمَا قُلْنَا وَأَمَّا الْمَنَافِعُ فَلِأَنَّ الْمَوْلَى لَمَّا مَلَكَ رَقَبَتَهُ كَانَتْ الْمَنَافِعُ حَادِثَةً عَلَى مِلْكِهِ لِأَنَّ مِلْكَ الذَّاتِ عِلَّةٌ لِمِلْكِ الصِّفَاتِ فَكَانَتْ مَنَافِعُهُ لِلْمَوْلَى إلَّا مَا اسْتَغْنَى عَلَيْهِ أَيْ الْمَوْلَى فِي سَائِرِ الْقُرَبِ الْبَدَنِيَّةِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَإِنَّ الْقُدْرَةَ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الصَّوْمُ الْفَرْضُ وَالصَّلَاةُ الْفَرْضُ لَيْسَتْ لِلْمَوْلَى بِالْإِجْمَاعِ وَالْعَبْدُ فِيهَا مُبْقَى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْحَجُّ الْمُؤَدَّى قَبْلَ وُجُودِ شَرْطِهِ نَفْلًا فَلَا يَنُوبُ عَنْ الْفَرْضِ. بِخِلَافِ الْفَقِيرِ إذَا حَجَّ ثُمَّ اسْتَغْنَى حَيْثُ جَازَ مَا أَدَّى عَنْ الْفَرْضِ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَالِ لَيْسَ بِشَرْطِ الْوُجُوبِ لِذَاتِهِ وَإِنَّمَا شَرْطٌ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الْوُصُولِ إلَى مَوْضِعِ الْأَدَاءِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَكِّيَّ الَّذِي هُوَ فِي مَوْضِعِ الْأَدَاءِ لَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ مِلْكُ الْمَالِ الْمَوْجُودِ وَفِي حَقِّ الْأَفَاقِيِّ لَا يَتَقَدَّرُ الْمَالُ بِنِصَابٍ بَلْ يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْوُصُولِ إلَى مَوْضِعِ الْأَدَاءِ فَبِأَيِّ طَرِيقٍ وَصَلَ إلَيْهِ الْفَقِيرُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ وَكَانَ أَدَاؤُهُ حَاصِلًا بِمَنَافِعِهِ الَّتِي هِيَ حَقُّهُ فَكَانَ فَرْضًا فَأَمَّا مَنَافِعُ الْعَبْدِ فَلِمَوْلَاهُ وَبِإِذْنِ الْمَوْلَى لَا يَخْرُجُ الْمَنْفَعَةُ عَنْ مِلْكِهِ فَإِنَّمَا أَدَّاهُ بِمَا هُوَ مِلْكُ غَيْرِهِ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْفَرْضُ كَمَا لَوْ أَدَّى الْكَفَّارَةَ بِالْمَالِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهَا يَتَأَدَّى بِتَمْلِيكِ الْمَالِ وَهُوَ لِلْمَوْلَى لَا لِنَفْسِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ

فَأَمَّا الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ فَلِلْيُسْرِ فَلَمْ يَجِبْ وَصَحَّ الْأَدَاءُ. وَالرِّقُّ لَا يُنَافِي مَالِكِيَّةَ غَيْرِ الْمَالِ وَهُوَ النِّكَاحُ وَالدَّمُ وَالْحَيَاةُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQإذَا أَدَّاهَا بِإِذْنِ الْمَوْلَى حَيْثُ يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ تُؤَدَّى فِي وَقْتِ الظُّهْرِ خَلَفًا عَنْ الظُّهْرِ وَمَنَافِعُهُ لِأَدَاءِ الظُّهْرِ مُسْتَثْنًى مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى فَكَانَ أَدَاؤُهُ الْجُمُعَةَ بِمَنَافِعَ مَمْلُوكَةٍ لَهُ فَجَازَ عَنْ الْفَرْضِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. وَقَوْلُهُ: فَأَمَّا الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ كَقُدْرَةِ الْبَدَنِ فَكَانَ أَدَاءُ الْفَقِيرِ قَبْلَ هَذِهِ الْقُدْرَةِ أَدَاءً قَبْلَ الْوُجُوبِ كَأَدَاءِ الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَأَدَّى بِهِ الْفَرْضُ وَلَا يَقَعُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ اشْتِرَاطُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ لِلْيُسْرِ يَعْنِي الْيُسْرَ الَّذِي يَنْدَفِعُ بِهِ الْحَرَجُ وَيَخْرُجُ بِهِ الْوَاجِبُ عَنْ الْإِمْكَانِ الْبَعِيدِ إلَى الْإِمْكَانِ الْعَادِي لَا الْيُسْرُ الَّذِي بِهِ يَصِيرُ الْوَاجِبُ سَمْحًا سَهْلًا لَيِّنًا كَيُسْرِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِأَعْوَانٍ وَخَدَمٍ وَمَرَاكِبَ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ وَهِيَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَلَمْ يَجِبْ الْأَدَاءُ عَلَى الْفَقِيرِ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَصَحَّ الْأَدَاءُ مِنْهُ لِوُجُودِ أَصْلِ الْقُدْرَةِ. قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْأَسْرَارِ السَّبَبُ هُوَ الْبَيْتُ وَهُوَ مَوْجُودٌ فَتَوَجَّهَ الْخِطَابُ إذَا جَاءَ وَقْتُهُ عَلَى مَنْ هُوَ أَهْلُ الْخِطَابِ بِالْحَجِّ وَالْفَقِيرُ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ مَلَكَ اسْتِطَاعَةَ الْأَدَاءِ لَكِنْ يَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ بِلَا زَادٍ وَرَاحِلَةٍ فَتَأَخَّرَ الْوُجُوبُ عَنْهُ إلَى مِلْكِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ تَيْسِيرًا لَهُ وَحَقًّا لَهُ فَلَمْ يَمْنَعُ ذَلِكَ صِحَّةَ التَّعْجِيلِ كَالْمُسَافِرِ يُعَجِّلُ الصَّوْمَ. قَوْلُهُ (وَالرِّقُّ لَا يُنَافِي مَالِكِيَّةَ غَيْرِ الْمَالِ وَهُوَ النِّكَاحُ وَالدَّمُ وَالْحَيَاةُ) لِأَنَّ الْجِهَةَ مُخْتَلِفَةٌ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَمْ يَصِرْ بِالرِّقِّ مَمْلُوكًا مِنْ حَيْثُ النِّكَاحُ وَالدَّمُ وَالْحَيَاةُ فَلَمْ يَمْتَنِعْ مَالِكِيَّتُهُ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِهِ وَكَانَ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُبْقِيًا عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّهُ مِنْ خَوَاصِّ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالضَّرُورَةُ دَاعِيَةٌ إلَى إثْبَاتِ هَذِهِ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا لِأَنَّ الْعَبْدَ مَعَ صِفَةِ الرِّقِّ أَهْلٌ لِلْحَاجَةِ إلَى النِّكَاحِ وَإِلَى الْبَقَاءِ فَيَكُونُ أَهْلًا لِقَضَائِهَا وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الِانْتِفَاعَ بِأَمَةِ الْمَوْلَى وَطْئًا عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا يَمْلِكُ الِانْتِفَاعَ بِمَالِ مَوْلَاهُ أَكْلًا وَلُبْسًا عِنْدَ الْحَاجَةِ وَلَيْسَتْ لَهُ أَهْلِيَّةُ مِلْكِ الْيَمِينِ فَإِذًا لَا طَرِيقَ لَهُ لِدَفْعِ هَذِهِ الْحَاجَةِ إلَّا النِّكَاحُ فَيَثْبُتُ لَهُ مَالِكِيَّةُ النِّكَاحِ. وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ نَفَاذُهُ مِنْهُ عَلَى إذْنِ الْمَوْلَى دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ فَإِنَّ النِّكَاحَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَهْرِ وَفِي إيجَابِهِ بِدُونِ رِضَاءِ الْمَوْلَى إضْرَارٌ بِهِ لِأَنَّ الْمَهْرَ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ إذْ لَمْ يُوجَدْ مَالٌ آخَرُ يَتَعَلَّقُ بِهِ وَمَالِيَّتُهَا حَقُّ الْمَوْلَى فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إجَازَتِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَوْلَى لَوْ أَسْقَطَ حَقَّهُ عَنْ الْمَالِيَّةِ بِالْإِعْتَاقِ نَفَذَ النِّكَاحُ الصَّادِرُ مِنْ الْعَبْدِ بِدُونِ إجَازَتِهِ وَلَوْ أَجَازَ بِدُونِ الْإِعْتَاقِ كَانَ الْمَالِكُ لِلْبُضْعِ الْعَبْدَ دُونَ الْمَوْلَى وَيُشْتَرَطُ الشُّهُودُ عِنْدَ النِّكَاحِ لَا عِنْدَ الْإِجَازَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ حُكْمَ النِّكَاحِ يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ وَأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ لِلنِّكَاحِ دُونَ الْمَوْلَى وَلَا يُقَالُ إنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ إجْبَارَهُ عَلَى النِّكَاحِ وَلَوْ كَانَ مَالِكًا لَا يَمْلِكُ إجْبَارَهُ عَلَيْهِ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّمَا يَمْلِكُ إجْبَارَهُ تَحْصِينًا لِمِلْكِهِ عَنْ الزِّنَا الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْهَلَاكِ وَالنُّقْصَانِ لِأَنَّهُ مَالِكٌ وَلِهَذَا كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الْمَالِكَ لِلْبُضْعِ بَعْدَ الْإِجْبَارِ دُونَ الْمَوْلَى وَهُوَ الْمَالِكُ لِلطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ رَفْعُ النِّكَاحِ فَثَبَتَ أَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ لِلنِّكَاحِ وَكَذَا الدَّمُ وَالْحَيَاةُ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى الْبَقَاءِ وَلَا بَقَاءَ لَهُ إلَّا بِبَقَائِهِمَا فَثَبَتَ لَهُ مِلْكُ الدَّمِ وَالْحَيَاةِ كَمَا يَثْبُتُ مَالِكِيَّةُ النِّكَاحِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى إتْلَافَ دَمِهِ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ

وَيُنَافِي كَمَالَ الْحَالِ فِي أَهْلِيَّةِ الْكَرَامَاتِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْبَشَرِ فِي الدُّنْيَا مِثْلُ الذِّمَّةِ وَالْحِلِّ وَالْوِلَايَةِ حَتَّى أَنَّ ذِمَّتَهُ ضَعُفَتْ بِرِقِّهِ فَلَمْ يَحْتَمِلْ الدَّيْنَ بِنَفْسِهَا وَضُمَّتْ إلَيْهَا مَالِيَّةُ الرَّقَبَةِ وَالْكَسْبُ وَلِذَلِكَ قُلْنَا إنَّ الدَّيْنَ مَتَى ثَبَتَ بِسَبَبٍ لَا تُهْمَةَ فِيهِ أَنَّهُ يُبَاعُ بِهِ رَقَبَتُهُ مِثْلُ دَيْنِ التِّجَارَةِ لِأَنَّ حَاجَتَنَا إلَى ظُهُورِ التَّعَلُّقِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِيفَائِهِ مِنْ مَوْضِعِهِ وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّ الْمَوْلَى تَأَخَّرَ إلَى عِتْقِهِ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِ وَلَا بِكَسْبِهِ مِثْلُ دَيْنٍ ثَبَتَ بِإِقْرَارِ الْمَحْجُورِ وَمِثْلُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَيَدْخُلَ بِهَا لِأَنَّ تَقَوُّمَ الْبُضْعِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِشُبْهَةِ عَقْدٍ عُدِمَتْ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ـــــــــــــــــــــــــــــQوَصَحَّ إقْرَارُ الْعَبْدِ بِالْقِصَاصِ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ بِأَنَّ وَلِيَّ الْقِصَاصِ يَسْتَحِقُّ إرَاقَةَ دَمِهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ مِثْلُ الْحُرِّ فَكَانَ هَذَا إقْرَارًا عَلَى نَفْسِهِ لَا عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى فَيَصِحُّ وَيُؤْخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ وَتُقْبَلُ الْحُرِّيَّةُ لِأَنَّهُ مُبْقٍ عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ الدَّمِ وَالْحَيَاةِ. قَوْلُهُ (وَيُنَافِي) أَيْ الرِّقُّ كَمَالَ الْحَالِ فِي أَهْلِيَّةِ الْكَرَامَاتِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْبَشَرِ فِي الدُّنْيَا وَاحْتَرَزَ بِهِ عَنْ الْكَرَامَاتِ الْمَوْضُوعَةِ لَهُ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ الْعَبْدَ يُسَاوِي الْحُرَّ فِيهَا لِأَنَّ أَهْلِيَّتَهَا بِالتَّقْوَى وَلَا رُجْحَانَ لِلْحُرِّ عَلَى الْعَبْدِ فِي التَّقْوَى مِثْلُ الذِّمَّةِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ بِهَا يَصِيرُ أَهْلًا لِلْإِيجَابِ وَلَا اسْتِيجَابَ وَيَمْتَازُ بِهَا عَنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ فَتَكُونُ كَرَامَةً وَالْحِلُّ فَإِنَّ اسْتِفْرَاشَ الْحَرَائِرِ وَتَوْسِعَةَ طُرُقِ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَسْتَلْزِمُ لُحُوقَ إثْمٍ سَلَامَةُ كَرَامَةٍ بِلَا شُبْهَةٍ وَلِهَذَا اتَّسَعَ الْحِلُّ فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِزِيَادَةِ شَرَفِهِ وَكَرَامَتِهِ عَلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ وَالْوِلَايَةُ فَإِنَّهَا تَنْفِيذُ الْأَمْرِ عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ أَوْ أَبَى وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ كَرَامَةٌ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ السَّلْطَنَةِ حَتَّى أَنَّ ذِمَّتَهُ أَيْ ذِمَّةَ الرَّقِيقِ ضَعُفَتْ بِسَبَبِ رِقِّهِ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ صَارَ مَالًا بِالرِّقِّ صَارَ كَأَنَّهُ لَازِمُهُ لَهُ أَصْلًا وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ إنْسَانٌ مُكَلَّفٌ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ ذِمَّةٌ فَقُلْنَا بِوُجُودِ أَصْلِ الذِّمَّةِ وَلَكِنَّهَا ضَعُفَتْ بِالرِّقِّ فَلَمْ يَحْتَمِلْ الدَّيْنَ أَيْ لَمْ تَقْوَ عَلَى تَحَمُّلٍ بِنَفْسِهَا لِضَعْفِهَا حَتَّى لَا يُمْكِنُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ بِدُونِ انْضِمَامِ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ أَوْ الْكَسْبِ إلَيْهَا إذَا لَا مَعْنَى لِاحْتِمَالِهَا الدَّيْنَ إلَّا صِحَّةُ الْمُطَالَبَةِ فَإِذَا ضُمَّتْ إلَيْهَا مَالِيَّةُ الرَّقَبَةِ وَالْكَسْبِ تَعَلَّقَ الدَّيْنُ بِهَا فَيُسْتَوْفَى مِنْ الرَّقَبَةِ وَالْكَسْبِ كَذِمَّةِ الْمَرِيضِ لَمَّا ضَعُفَتْ بِانْعِقَادِ سَبَبِ الْخَرَابِ وَجَبَ ضَمُّ الْكَسْبِ إلَيْهَا لِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِهَا وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِالْكَسْبِ أَنَّ الْعَبْدَ يُسْتَسْعَى فِيهِ بَلْ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ الْكَسْبَ الْمَوْجُودَ فِي يَدِهِ يُصْرَفُ إلَى الدَّيْنِ أَوَّلًا فَإِنْ لَمْ يَفِ بِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبٌ فَحِينَئِذٍ تُصْرَفُ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ إلَيْهِ وَلَا تُبَاعُ الرَّقَبَةُ بِالدَّيْنِ مَا بَقِيَ الْكَسْبُ بِالْإِجْمَاعِ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الْأَسْرَارِ إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ بَيْعُهُ فَيُسْتَسْعَى فِي الدَّيْنِ كَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ وَمُعْتَقِ الْبَعْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِأَنَّ مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ وَالْكَسْبِ يُضَمُّ كُلُّ وَاحِدٍ إلَى ذِمَّةِ الْعَبْدِ لِتَحْتَمِلَ الدَّيْنَ قُلْنَا إنَّ الدَّيْنَ مَتَى ثَبَتَ بِسَبَبٍ لَا تُهْمَةَ فِيهِ أَيْ بِسَبَبٍ ظَهَرَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى أَنَّهُ الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ يُبَاعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الدَّيْنِ رَقَبَةُ الْعَبْدِ لَيُسْتَوْفَى الدَّيْنُ مِنْ الثَّمَنِ إنْ لَمْ يَخْتَرْ الْمَوْلَى لِهَذَا مِثْلُ دَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ بِأَنْ اسْتَهْلَكَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ وَالْمَحْجُورُ مَالَ الْأَجْنَبِيِّ يَجِبُ الضَّمَانُ وَيُسْتَوْفَى مِنْ رَقَبَتِهِ إنْ لَمْ يُفْدِهِ الْمَوْلَى وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبٌ فِي يَدِهِ وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ دَيْنٌ ظَاهِرٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لِثُبُوتِهِ حِسًّا وَعِيَانًا وَدَيْنُ التِّجَارَةِ بِأَنْ تَصَرَّفَ الْمَأْذُونُ وَرَكِبَهُ دَيْنٌ يُسْتَوْفَى مِنْ كَسْبِهِ أَوْ مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ عِنْدَنَا إنْ لَمْ يَكُنْ كَسْبٌ وَلَمْ يُفِدْهُ الْمَوْلَى فَيُبَاعُ فِي الدَّيْنِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُبَاعُ الْعَبْدُ فِي دَيْنِ التِّجَارَةِ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ كَسْبُ الْمَوْلَى فَلَا تُبَاعُ بِدَيْنِ التِّجَارَةِ كَسَائِرِ أَكْسَابِهِ وَهَذَا لِأَنَّ مَالَ الْمَوْلَى إنَّمَا يَشْتَغِلُ بِهَذَا الدَّيْنِ بِالْإِذْنِ وَإِنَّمَا أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَلَا يَشْتَغِلُ غَيْرُ مَالِ التِّجَارَةِ بِدَيْنِهَا لِأَنَّ الْإِذْنَ لَمْ يَحْصُلْ لِغَيْرِهَا بِخِلَافِ دَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ لِأَنَّهُ كَانَ يَشْغَلُ رَقَبَتَهُ قَبْلَ الْإِذْنِ فَكَذَا بَعْدَهُ وَلِأَنَّ دَيْنَ الِاسْتِهْلَاكِ

وَكَذَلِكَ الْحِلُّ انْتَقَصَ بِالرِّقِّ لِأَنَّهُ مِنْ كَرَامَاتِ الْبَشَرِ فَيَتَّسِعُ بِالْحُرِّيَّةِ وَيَقْصُرُ بِالرِّقِّ إلَى النِّصْفِ حَتَّى لَا يَنْكِحَ الْعَبْدُ إلَّا امْرَأَتَيْنِ وَكَذَلِكَ حِلُّ النِّسَاءِ يَقْصُرُ بِالرِّقِّ إلَى النِّصْفِ حَتَّى صَحَّ نِكَاحُ الْأَمَةِ إذَا تَقَدَّمَ عَلَى الْحُرَّةِ وَلَا يَصِحُّ إذَا تَأَخَّرَ أَوْ قَارَنَ لِتَعَذُّرِ التَّنْصِيفِ فِي الْمُقَارَنَةِ وَالْعِدَّةُ يَتَنَصَّفُ لَكِنَّ الْوَاحِدَةَ لَا تَقْبَلُ التَّنْصِيفَ فَيَتَكَامَلُ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَمْ يَجِدْ مَحَلًّا آخَرَ سِوَى الرَّقَبَةِ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَلَوْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا هَدَرَ أَمْلَاكُ النَّاسِ فَعَلَّقْنَاهُ بِهَا إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّقَبَةُ هَالِكَةً فِي جِنَايَةٍ وَدَيْنُ التِّجَارَةِ وَجَدَ مَحَلًّا آخَرَ يَتَعَلَّقُ بِهِ وَهُوَ الْكَسْبُ الْحَاصِلُ بِالتِّجَارَةِ فَإِنَّ دَيْنَ التِّجَارَةِ لَا يَجِبُ إلَّا وَيَدْخُلُ الْكَسْبُ فِي يَدِهِ فَلَمَّا كَانَ الْكَسْبُ حَاصِلًا بِالتِّجَارَةِ وَهُوَ مُقَابَلٌ بِدَيْنِ التِّجَارَةِ أَمْكَنَ تَعْلِيقُهُ بِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْلِيقِ بِرَقَبَةٍ. وَقُلْنَا هَذَا دَيْنٌ وَجَبَ عَلَى الْعَبْدِ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ ظَهَرَ وُجُوبُهُ بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى وَالْعَبْدِ جَمِيعًا أَوْ ثَبَتَ بِسَبَبٍ مُعَايَنٍ وَهُوَ الشِّرَاءُ فَيَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ كَدَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ وَهَذَا لِأَنَّ حَاجَتَنَا فِي تَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ إلَى ظُهُورِ التَّعَلُّقِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لَا إلَى رِضَاهُ بِهِ فَإِنَّ دَيْنَ الِاسْتِهْلَاكِ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ بِدُونِ رِضَاهُ فَإِذَا ظَهَرَ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِيفَاءٍ مِنْ مَوْضِعِهِ وَهُوَ مَالِيَّةُ الرَّقَبَةِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ الْأَمْوَالِ إلَيْهِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى تَفْرِيعِ ذِمَّتِهِ فَكَانَ التَّعَلُّقُ بِهَا أَوْلَى (فَإِنْ قِيلَ) لَوْ كَانَتْ الرَّقَبَةُ مَحَلًّا لَتَعَلَّقَ دَيْنُ التِّجَارَةِ بِهَا لَكَانَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْهَا مُقَدَّمًا عَلَى الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْكَسْبِ لِكَوْنِهَا أَقْرَبَ إلَيْهِ مِنْ الْكَسْبِ قُلْنَا حَقُّ الْغَرِيمِ مَتَى وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ وَصَلَ لَمْ يَصِحَّ مُطَالَبَتُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَوْلَى إذَا قَضَى دَيْنَ الْعَبْدِ مِنْ مَالِهِ وَاسْتَخْلَصَ الْكَسْبَ لِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْغَرِيمِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ مِنْ الْكَسْبِ وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالْكَسْبِ فَكَذَلِكَ إذَا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ الْكَسْبِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْ الرَّقَبَةِ. وَفِي الْبِدَايَةِ بِالْكَسْبِ نَظَرٌ لِلْمَوْلَى حَيْثُ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْ رَأْسِ مَالِهِ فَيَتَصَرَّفُ وَيَرْبَحُ وَنَظَرٌ لِلْغَرِيمِ حَيْثُ لَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّهُ عَنْ الْكَسْبِ بِالْبَيْعِ وَلَمْ يَضِقْ مَحَلُّ حَقِّهِ فَلِهَذَا قَدَّمْنَا الِاسْتِيفَاءَ مِنْ الْكَسْبِ وَإِنْ كَانَ التَّعَلُّقُ بِالرَّقَبَةِ أَسْبَقَ مِنْ التَّعَلُّقِ بِالْكَسْبِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَالطَّرِيقَةِ الْبُرْغَرِيَّةِ وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ أَيْ الدَّيْنُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بِأَنْ لَمْ يَظْهَرْ سَبَبُهُ فِي حَقِّهِ تَأَخَّرَ الدَّيْنُ إلَى عِتْقِهِ أَيْ لَا يُطَالِبُ الْعَبْدَ بِهِ فِي الْحَالِ بَلْ يُؤَخَّرُ إلَى أَنْ يُعْتَقَ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ هَذَا الدَّيْنُ بِرَقَبَتِهِ أَيْ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ وَلَا بِكَسْبِهِ لِأَنَّهُمَا حَقُّ الْمَوْلَى وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي حَقِّهِ مِثْلُ دَيْنٍ ثَبَتَ بِإِقْرَارِ الْمَحْجُورِ وَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لِتَكْذِيبِهِ إيَّاهُ فِيهِ وَلَكِنَّهُ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَيُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ كَرَجُلٍ أَخْبَرَ بِحُرِّيَّةِ عَبْدٍ فِي يَدِ رَجُلٍ وَأَنْكَرَ ذُو الْيَدِ لَمْ يَظْهَرْ حُكْمُهُ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ الْمُخْبِرُ وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ صَحِيحًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فَكَانَ ثُبُوتُ حُكْمِهِ بِقَدْرِ كَوْنِهِ حُجَّةً وَدَيْنُ التِّجَارَةِ كَخَبَرٍ اتَّصَلَ بِهِ تَصْدِيقُ ذِي الْيَدِ وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ الْمَحْجُورُ عَنْ الْمَأْذُونِ لَهُ فَإِنَّ إقْرَارَاهُ بِالدَّيْنِ صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَمِثْلُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْعَبْدُ امْرَأَة بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَيَدْخُلَ بِهَا حَتَّى وَجَبَ الْعُقْرُ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ دَيْنٌ وَجَبَ عَلَى الْعَبْدِ قِيمَةً لِلْبُضْعِ بِشُبْهَةِ الْعَقْدِ وَهِيَ الْعَقْدُ الْفَاسِدُ الْوَاقِعُ بِدُونِ إذْنِ الْمَوْلَى وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ مَعْدُومَةٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لِعَدَمِ رِضَاهُ بِهِ فَلَا يَظْهَرُ ثُبُوتُهُ فِي حَقِّهِ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ الْحِلُّ) أَيْ وَكَمَا ضَعُفَتْ الرَّقَبَةُ بِالرِّقِّ انْتَقَصَ الْحِلُّ الَّذِي يُبْتَنَى عَلَيْهِ مِلْكُ النِّكَاحِ وَيَصِيرُ الْمَرْءُ بِهِ أَهْلًا لِلنِّكَاحِ فَيَتَّسِعُ ذَلِكَ الْحِلُّ بِالْحُرِّيَّةِ لِزِيَادَةِ فَضِيلَتِهَا عَلَى الرِّقِّ كَمَا اتَّسَعَ بِفَضِيلَةِ النُّبُوَّةِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَتَزَوَّجُ الْحُرُّ أَرْبَعًا وَيَقْصُرُ بِسَبَبِ الرِّقِّ إلَى النِّصْفِ حَتَّى لَا يَنْكِحَ الْعَبْدُ إلَّا مَرْأَتَيْنِ حُرَّتَيْنِ كَانَتَا أَوْ أَمَتَيْنِ. وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا لِأَنَّ الرِّقَّ لَا يُؤَثِّرُ فِي مَالِكِيَّةِ النِّكَاحِ حَتَّى لَا يَخْرُجَ الْعَبْدُ مِنْ أَهْلِيَّةِ النِّكَاحِ

لَكِنَّ عَدَدَ الطَّلَاقِ لَمَّا كَانَ عِبَارَةً عَنْ اتِّسَاعِ الْمَمْلُوكِيَّةِ اُعْتُبِرَ بِالنِّسَاءِ وَعَدَدَ الْأَنْكِحَةِ لَمَّا كَانَ عِبَارَةً عَنْ اتِّسَاعِ الْمَالِكِيَّةِ اُعْتُبِرَ فِيهِ رِقُّ الرِّجَالِ وَحُرِّيَّتُهُمْ فَكَانَ الطَّلَاقُ بِالنِّسَاءِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQوَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الرِّقُّ فَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ فِيهِ سَوَاءٌ كَمِلْكِ الطَّلَاقِ وَمِلْكِ الدَّمِ فِي حَقِّ الْإِقْرَارِ بِالْقَوَدِ وَقُلْنَا إنَّ الرِّقَّ مُؤَثِّرٌ فِي تَنْصِيفِ مَا كَانَ مُتَعَدِّدًا فِي نَفْسِهِ كَالْجَلْدِ فِي الْحُدُودِ وَعَدَدِ الطَّلَاقِ وَأَقْرَاءِ الْعِدَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ النِّعَمِ بِوَصْفِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَقَدْ أَثَّرَ الرِّقُّ لِانْتِصَافِهَا حَتَّى انْتَقَصَتْ أَهْلِيَّةُ اسْتِحْقَاقِ النِّعَمِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُؤَثِّرَ لَانْتِصَافِ النِّعْمَةِ وَالْحِلُّ نِعْمَةٌ فَلِذَلِكَ أَثَّرَ الرِّقُّ فِي نُقْصَانِهِ إلَى النِّصْفِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إشَارَةُ قَوْله تَعَالَى {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لَا يَتَزَوَّجُ الْعَبْدُ أَكْثَرَ مِنْ ثِنْتَيْنِ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَمَا يَقْصُرُ حِلُّ الرِّجَالِ إلَى النِّصْفِ بِالرِّقِّ حِلُّ النِّسَاءِ يَقْصُرُ بِالرِّقِّ إلَى النِّصْفِ أَيْضًا لِأَنَّ الْحِلَّ الَّذِي يُبْتَنَى عَلَيْهِ عَقْدُ النِّكَاحِ نِعْمَةٌ لِأَجَانِبِ النِّسَاءِ كَمَا هُوَ نِعْمَةٌ لَأَجَانِبِ الرِّجَالِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلسَّكَنِ وَالْأَزْوَاجِ وَالْمَحَبَّةِ وَتَحْصِينِ النَّفْسِ وَتَحْصِيلِ الْوَلَدِ وَالْمَرْأَةُ تَحْتَاجُ إلَى هَذِهِ الْأُمُورِ كَالرَّجُلِ وَسَبَبٌ لِحُصُولِ الْمَهْرِ وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ الدَّارَّةِ وَهُمَا تَخْتَصَّانِ بِهَا فَكَانَ الْحِلُّ نِعْمَةً لِأَحَقِّهَا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى أَلَا تَرَى لِلْأَبِ وِلَايَةَ تَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ مَعَ أَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَيْهَا نَظَرٌ فَكَمَا يَنْتَصِفُ ذَلِكَ الْحِلُّ بِرِقِّ الرَّجُلِ يَنْتَصِفُ بِرِقِّ الْمَرْأَةِ وَلَا يُمْكِنُ إظْهَارُ التَّنْصِيفِ لِأَجَانِبِهَا بِتَنْقِيصِ الْعَدَدِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِوَاحِدٍ فَيَظْهَرُ التَّنْصِيفُ بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ. ثُمَّ نَقُولُ الْأَحْوَالُ ثَلَاثٌ حَالُ التَّقَدُّمِ عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ وَحَالُ التَّأَخُّرِ عَنْهُ وَحَالُ الْمُقَارَنَةِ وَلَكِنَّ الْحَالَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤ فَتَغْلِبُ الْحُرْمَةُ عَلَى الْحِلِّ فَيَجْعَلُ الْأَمَةَ مُحَلَّلَةً لِإِحَالَةِ التَّقَدُّمِ عَلَى الْحُرَّةِ مُحَرَّمَةً لِإِحَالَتَيْ الْمُقَارَنَةِ وَالتَّأَخُّرِ أَوْ نَقُولُ لَا الْحَقِيقَةُ لَيْسَ إلَّا حَالَتَيْنِ حَالَةُ الِانْضِمَامِ إلَى الْحُرَّةِ وَحَالَةُ الِانْفِرَادِ عَنْهَا فَنَجْعَلُ مُحَلِّلَةً لِإِحَالَةِ الِانْفِرَادِ مُحَرِّمَةً لِإِحَالَةِ الِانْضِمَامِ إلَى الْحُرَّةِ وَالْعِدَّةُ يَتَنَصَّفُ لِأَنَّهَا نِعْمَةٌ لَا حَقُّ النِّسَاءِ لِمَا فِيهَا مِنْ تَعْظِيمِ مِلْكِ النِّكَاحِ فَيُؤَثِّرُ الرِّقُّ لَا تَنْصِيفُهَا فَكَانَتْ عِدَّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَيْنِ وَالطَّلَاقُ يَنْتَصِفُ لِمَا سَنُبَيِّنُ فَكَانَ طَلَاقُهَا اثْنَيْنِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عِدَّتُهَا حَيْضَةً وَنِصْفًا وَطَلَاقُهَا طَلْقَةً وَنِصْفًا لَكِنَّ الْوَاحِدَ لَا يَقْبَلُ التَّنْصِيفَ فَيَتَكَامَلُ وَلَا يَسْقُطُ لِأَنَّ جَانِبَ الْوُجُودِ رَاجِحٌ عَلَى جَانِبِ الْعَدَمِ وَالِاحْتِيَاطُ فِيهِ أَيْضًا قَوْلُهُ (لَكِنَّ عَدَدَ الطَّلَاقِ) اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ وَيَقْصُرُ بِالرِّقِّ إلَى النِّصْفِ حَتَّى لَا يَنْكِحَ الْعَبْدُ إلَّا امْرَأَتَيْنِ يَعْنِي أَثَّرَ رِقُّ الرَّجُلِ لَا عَدَدُ الْأَنْكِحَةِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُؤَثِّرَ لَا عَدَدُ الطَّلَاقِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ مِلْكَ الطَّلَاقِ مُخْتَصٌّ بِالرِّجَالِ كَمِلْكِ النِّكَاحِ أَوْ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مِلْكِ النِّكَاحِ لَكِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ لِأَنَّ عَدَدَ الطَّلَاقِ كَذَا وَكَشْفُهُ أَنَّ عَدَدَ الطَّلَاقِ مُعْتَبَرٌ بِالنِّسَاءِ عِنْدَنَا حَتَّى كَانَتْ الْمَرْأَةُ حُرَّةً يَمْلِكُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ أَمَةً لَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا إلَّا تَطْلِيقَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ حُرًّا وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَدَدُهُ مُعْتَبَرٌ بِالرِّجَالِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ رِقُّ الرَّجُلِ وَحُرِّيَّتُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ عُثْمَانَ وَزَيْدٍ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ يُنْتَقَصُ بِرِقِّ أَيِّهِمَا كَانَ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ وَالْعِدَّةُ بِالنِّسَاءِ» وَبِأَنَّ الرَّجُلَ هُوَ الْمَالِكُ لِلطَّلَاقِ

وَلِذَلِكَ يَتَنَصَّفُ الْحُدُودُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ وَلِذَلِكَ يَتَنَصَّفُ الْقَسَمُ ـــــــــــــــــــــــــــــQكَمَا أَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ لِلنِّكَاحِ فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُهُ فِيهِ دُونَ حَالِهَا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَمْلُوكَةٌ لَا النِّكَاحَ وَالطَّلَاقَ، وَنُقْصَانُ حَالِ الْمَمْلُوكِ بِالرِّقِّ يُوجِبُ زِيَادَةً لَا الْمَمْلُوكِيَّةَ وَلَا نُقْصَانًا فِيهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ رِقَّ الْمَرْأَةِ فَتَحَ عَلَيْهِ بَابًا مِنْ الْمَمْلُوكِيَّةِ كَانَ مَسْدُودًا قَبْلَهُ فَإِنَّهَا قَبْلَ الرِّقِّ كَانَتْ تُمْلَكُ وَتُوطَأُ بِمِلْكِ النِّكَاحِ لَا غَيْرُ وَبَعْدَ الِاسْتِرْقَاقِ تُمْلَكُ وَتُوطَأُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَالنِّكَاحِ جَمِيعًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُسَدَّ عَلَيْهَا مَا كَانَ مَفْتُوحًا قَبْلَهُ بِخِلَافِ رِقِّ الرَّجُلِ فَإِنَّهُ يَسُدُّ عَلَيْهِ بَابًا مِنْ الْمِلْكِ كَانَ مَفْتُوحًا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَبْلَ الِاسْتِرْقَاقِ كَانَ يَسْتَمْتِعُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَالنِّكَاحِ وَبَعْدَ الِاسْتِرْقَاقِ لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَلَمَّا ظَهَرَ لِرِقِّهِ أَثَرٌ لَا تَنْقُصُ مَالِكِيَّتُهُ النِّكَاحَ وَلَمْ يَظْهَرْ لِرِقِّهَا أَثَرٌ فِي تَنْقِيصِ الْمَمْلُوكِيَّةِ يُعْتَبَرُ رِقُّهُ فِي تَنْصِيفِ عَدَدِ الطَّلَاقِ وَمَالِكِيَّتُهُ دُونَ رِقِّهَا. وَلَنَا أَنَّ مِلْكَ التَّصَرُّفِ مَعَ كَمَالِ حَالِ الْمُتَصَرِّفِ يَزْدَادُ بِزِيَادَةِ مَحَلِّ التَّصَرُّفِ وَيَنْتَقِصُ بِانْتِقَاصِهِ فَإِنَّ مَنْ مَلَكَ عَبْدًا وَاحِدًا مَلَكَ إعْتَاقًا وَاحِدًا وَمَنْ مَلَكَ عَبْدَيْنِ مَلَكَ إعْتَاقَيْنِ وَعَلَى هَذَا سَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ وَهَاهُنَا مَحَلُّ التَّصَرُّفِ حِلُّ الْمَحَلِّيَّةِ فَإِنَّ الطَّلَاقَ مَشْرُوعٌ لِتَفْوِيتِ الْحِلِّ الَّذِي صَارَتْ الْمَرْأَةُ بِهِ مَحَلًّا لِلنِّكَاحِ فَمَتَى كَانَ حِلُّهَا أَزْيَدَ كَانَ مَحَلِّيَّةُ الطَّلَاقِ فِي حَقِّهَا أَوْسَعَ وَعَلَى الْعَكْسِ بِالْعَكْسِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَعَدَدُ الطَّلَاقِ عِبَارَةٌ عَنْ اتِّسَاعِ الْمَمْلُوكِيَّةِ، وَحِلُّ الْأَمَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حِلِّ الْحُرَّةِ كَمَا أَنَّ حِلَّ الْعَبْدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حِلِّ الْحُرِّ وَإِذَا كَانَ حِلُّهَا عَلَى النِّصْفِ فَإِنَّ نِصْفَ مَا يَفُوتُ بِهِ حِلُّ الْحُرَّةِ وَهُوَ تَطْلِيقَةٌ وَنِصْفٌ - إلَّا أَنَّ الطَّلَاقَ الْوَاحِدَ لَا يَتَجَزَّأُ - مُكَمِّلٌ وَصَارَ مَا يَفُوتُ بِهِ حِلُّ الْأَمَةِ طَلَاقَيْنِ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَمَّا صَارَتْ مَحَلَّ النِّكَاحِ بِالْحِلِّ الَّذِي ذَكَرْنَا كَانَ النِّكَاحُ فِي حَقِّ الْأَمَةِ أَنْقَصَ مِنْهُ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ وَالطُّرُقُ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ مُسْتَفَادٌ بِهِ فَيُنْتَقَصُ بِنُقْصَانِ النِّكَاحِ كَمَا يُنْتَقَصُ سَائِرُ حُقُوقِهِ مِنْ الْعِدَّةِ وَالْقَسَمِ وَمُدَّةِ الْإِيلَاءِ هَذَا الْكَلَامُ فِي الْحُرِّ إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً فَأَمَّا الْعَبْدُ إذَا تَزَوَّجَ حُرَّةً فَنَقُولُ الرِّقُّ أَثَّرَ فِي حِلِّهِ فَرَدَّهُ مِنْ الْأَرْبَعِ إلَى اثْنَتَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى فِي هَذَا النِّصْفِ كَالْحُرِّ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَشَطِّرَةِ بِأَعْذَارٍ وَأَسْبَابٍ أَنْ يَبْقَى الشَّطْرُ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْحُرَّ يَمْلِكُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ تَطْلِيقَةً يُوقِعُهَا عَلَى أَرْبَعَةِ نِسْوَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَمْلِكَ الْعَبْدُ سِتَّ تَطْلِيقَاتٍ يُوقِعُهَا عَلَى امْرَأَتَيْنِ لِيَتَحَقَّقَ التَّنْصِيفُ فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّ الْبَاقِيَ يَنْتَصِفُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ مَرَّةً أُخْرَى لَبَقِيَ الرُّبُعُ وَتَأْثِيرُ الرِّقِّ فِي التَّنْصِيفِ لَا فِي التَّرْبِيعِ. وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» وَمُؤَوَّلٌ بِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الطَّلَاقِ إلَى الرِّجَالِ وَقَوْلُهُ رِقُّ الْأَمَةِ يَفْتَحُ عَلَيْهَا بَابًا مِنْ الْمَمْلُوكِيَّةِ فَلَا يَسُدُّ بَابًا كَانَ مُنْفَتِحًا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْمُنْفَتِحِ بِالرِّقِّ وَاَلَّذِي كَانَ مُنْفَتِحًا قَبْلَهُ تَنَافٍ بَلْ التَّنَافِي ثَابِتٌ بَيْنَ الْمُتْعَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَمِلْكِ النِّكَاحِ فَإِنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ إذَا ثَبَتَ بَطَلَ الْآخَرُ فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى امْرَأَتَهُ فَسَدَ النِّكَاحُ ثُمَّ نَقُولُ لَمَّا صَارَتْ عُرْضَةً لِلْمُتْعَةِ بِالْمَالِيَّةِ اخْتَلَّ كَوْنُهَا مَحَلًّا لِلنِّكَاحِ لِأَنَّ الِاسْتِبَاحَةَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ قَهْرٌ وَاسْتِذْلَالٌ فَلَا يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى النِّعْمَةِ وَالِاسْتِبَاحَةُ بِمِلْكِ النِّكَاحِ نِعْمَةٌ وَازْدِوَاجٌ فَيَتَنَصَّفُ بِالرِّقِّ. وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ: عَدَدُ الطَّلَاقِ عِبَارَةٌ عَنْ اتِّسَاعِ الْمَمْلُوكِيَّةِ تَوَسُّعٌ وَتَسْمِيَةٌ لِلْحَالِّ بِاسْمِ الْمَحَلِّ لِأَنَّ الطَّلَاقَ إنَّمَا يَتَعَدَّدُ إذَا اتَّسَعَتْ الْمَمْلُوكِيَّةُ فَكَانَ اتِّسَاعُ الْمَمْلُوكِيَّةِ مُتَّسِعَةً

وَلِذَلِكَ انْتَقَصَتْ قِيمَةُ نَفْسِهِ لِمَا قُلْنَا مِنْ انْتِقَاصِ الْمَالِكِيَّةِ كَمَا انْتَقَصَتْ بِالْأُنُوثَةِ فَوَجَبَ نُقْصَانُ بَدَلِ دَمِهِ عَنْ الدِّيَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِخِلَافِ ثَمَّ الطَّلَاقِ وَذَكَرَ فِي الْفَوَائِدِ أَنَّ النِّكَاحَ وَالطَّلَاقَ مُتَقَابِلَانِ فَإِذَا كَانَ عَدَدُ الْأَنْكِحَةِ عِبَارَةً عَنْ اتِّسَاعِ الْمَالِكِيَّةِ كَانَ عَدَدُ الطَّلَاقِ عِبَارَةً عَنْ اتِّسَاعِ الْمَمْلُوكِيَّةِ تَحْقِيقًا لِلْمُقَابَلَةِ. قَوْلُهُ (وَلِذَلِكَ) أَيْ وَلِأَنَّ الرِّقَّ يُنَافِي كَمَالَ الْحَالِ فِي أَهْلِيَّةِ الْكَرَمَاتِ تَنَصَّفَتْ الْحُدُودُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ لِأَنَّ تَغَلُّظَ الْعُقُوبَةِ بِتَغَلُّظِ الْجِنَايَةِ وَتَغَلُّظُ الْجِنَايَةِ بِتَوَافُرِ النِّعَمِ فَإِنَّ النِّعْمَةَ لَمَّا كَمُلَتْ فِي حَقِّ شَخْصٍ كَانَتْ جِنَايَتُهُ عَلَى حَقِّ الْمُنْعِمِ أَعْظَمَ مِنْ جِنَايَةِ مَنْ لَمْ تَكْمُلْ النِّعْمَةُ فِي حَقِّهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ النِّعْمَةَ لَمَّا كَمُلَتْ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ بِاسْتِيفَاءِ حَظِّهِ مِنْ الْحُرَّةِ الْمَنْكُوحَةِ كَانَتْ جِنَايَةُ الزِّنَا مِنْهُ أَغْلَظَ حَتَّى اسْتَحَقَّ الرَّجْمَ وَلَمَّا كَمُلَتْ النِّعْمَةُ فِي حَقِّ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَرَضِيَ عَنْهُنَّ بِتَشَرُّفِهِنَّ بِمُصَاحَبَتِهِ كَانَ شَرْعُ الْعُقُوبَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الْجِنَايَةِ ضِعْفَ الْعُقُوبَةِ الْمَشْرُوعَةِ فِي حَقِّ غَيْرِهِنَّ كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] وَقَدْ أَثَّرَ الرِّقُّ فِي تَنْصِيفِ النِّعَمِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ كَمَا بَيَّنَّا أَثَرَهُ فِي تَنْصِيفِ الْعُقُوبَةِ أَيْضًا قَالَ تَعَالَى {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] وَهَذَا فِي الْحَدِّ الَّذِي يُمْكِنُ تَنْصِيفُهُ فَأَمَّا فِيمَا لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فَيَتَكَامَلُ كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ فَإِنَّ الْحُرَّ وَالْعَبْدَ فِيهِ سَوَاءٌ تَنَصَّفَ الْقَسْمُ حَتَّى كَانَ لِلْأَمَةِ الثُّلُثُ مِنْ الْقَسْمِ وَلِلْحُرَّةِ الثُّلُثَانِ لِأَنَّهُ نِعْمَةٌ فَيَنْتَصِفُ بِالرِّقِّ كَسَائِرِ النِّعَمِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ «لِلْحُرَّةِ يَوْمَانِ مِنْ الْقَسْمِ وَلِلْأَمَةِ يَوْمٌ» قَوْلُهُ (وَلِذَلِكَ) أَيْ وَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ مُنَافَاةِ الرِّقِّ كَمَالَ الْحَالِ انْتَقَصَتْ قِيمَةُ نَفْسِ الْعَبْدِ حَتَّى إذَا قُتِلَ الْعَبْدُ خَطَأً وَجَبَتْ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي قِيمَتُهُ عِنْدَنَا قَلَّتْ الْقِيمَةُ أَوْ كَثُرَتْ وَلَكِنْ لَا تُزَادُ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ حَتَّى لَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مَثَلًا لَا يُزَادُ الْوَاجِبُ عَلَى عَشْرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَيَتَنَقَّصُ مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَجِبُ قِيمَتُهُ عَلَى الْجَانِي لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْهُ أَنَّ مِقْدَارَ الدِّيَةِ مِنْ قِيمَةِ الْعَقْدِ بِتَحَمُّلِهِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ الْقِيمَةِ فِي مَالِ الْجَانِي وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ فِي الْغَصْبِ تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ وَعَلَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ ضَمَانِ النَّفْسِ وَالْمَالِ غَيْرُ مُمْكِنٍ كَذَا فِي إشَارَاتِ الْأَسْرَارِ وَعَلَى أَنَّ مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ مَوْجُودَانِ فِي الْعَبْدِ لَكِنَّ الْخِلَافَ فِي التَّرْجِيحِ فَرَجَّحْنَا مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ وَرَجَّحَ الْخَصْمُ الْمَالِيَّةَ مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ الْقِيمَةَ إذْ انْتَقَصَتْ عَنْ الدِّيَةِ تَجِبُ الْقِيمَةُ وَإِنَّ هَذَا الضَّمَانَ يَجِبُ لِلْمَوْلَى وَمِلْكُهُ فِي الْعَبْدِ مِلْكُ مَالٍ وَأَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ جِنْسُ نَقْدِ السُّوقِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِضَمَانِ الْمَالِ وَلَا مَدْخَلَ لِلْإِبِلِ فِيهِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَوْصَافِ الْمُتْلَفِ فِي الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ وَالصِّفَاتُ تُعْتَبَرُ فِي ضَمَانِ الْأَمْوَالِ دُونَ الدِّمَاءِ فَثَبَتَ أَنَّ الْوَاجِبَ بَدَلُ الْمَالِيَّةِ فَيَجِبُ تَقْدِيرُهُ بِالْقِيمَةِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ كَمَا فِي الْغَصْبِ. وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّ النَّفْسِيَّةَ مِنْ الْعَبْدِ مَعْصُومَةٌ مَصُونَةٌ عَنْ الْهَدَرِ مُعْتَبَرٌ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ بِالْقِصَاصِ وَالْكَفَّارَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَكَانَ اعْتِبَارُهَا فِي إيجَابِ الضَّمَانِ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ لِأَنَّهَا أَصْلٌ وَالْمَالِيَّةُ قَائِمَةٌ بِهَا فَإِنَّ الْمَالِيَّةَ لَوْ زَالَتْ بِالْعِتْقِ تَبْقَى النَّفْسِيَّةُ وَلَوْ زَالَتْ النَّفْسِيَّةُ بِالْمَوْتِ لَمْ تَبْقَ الْمَالِيَّةُ وَكَذَا الْفِعْلُ يُسَمَّى قَتْلًا لِوُرُودِهِ عَلَى النَّفْسِيَّةِ فَإِنَّ الْأَمْوَالَ لَا تُقْصَدُ بِالْقَتْلِ عَادَةً وَإِنَّمَا تُقْصَدُ بِهِ النُّفُوسُ

لَكِنَّ نُقْصَانَ الْأُنُوثَةِ فِي أَحَدِ ضَرْبَيْ الْمَالِكِيَّةِ بِالْعَدَمِ فَوَجَبَ التَّنْصِيفُ وَهَذَا نُقْصَانٌ فِي أَحَدِهِمَا لَا بِالْعَدَمِ أَلَا يُرَى أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِمِلْكِ الْمَالِ لَكِنَّهُ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ وَأَهْلٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْيَدِ عَلَى الْمَالِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِنُقْصَانٍ فِي الدِّيَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِمَعْنَى التَّشَفِّي أَوْ لِانْتِقَامٍ، وَفَوَاتُ الْمَالِيَّةِ فِيهِ تَبَعٌ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ ثُمَّ إيجَابُ الضَّمَانِ بِمَعْنَى النَّفْسِيَّةِ لِإِظْهَارِ حَظْرِ الْمَحَلِّ وَخَطَرِهِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ لِأَنَّ كَمَالَ حَالِ الْإِنْسَانِ فِي الْإِضَافَةِ يَنْتَهِي بِكَمَالِ الْمَالِكِيَّةِ وَتَمَامُ الْمَالِكِيَّةِ بِالْحُرِّيَّةِ وَالذُّكُورَةِ فَإِنَّ بِالْحُرِّيَّةِ تَثْبُتُ مَالِكِيَّةُ الْمَالِ وَبِالذُّكُورَةِ تَثْبُتُ مَالِكِيَّةُ النِّكَاحِ. وَقَدْ انْتَقَصَتْ مَالِكِيَّةُ الْعَبْدِ بِالرِّقِّ فَإِنَّهُ يُنَافِي مَالِكِيَّةَ الْمَالِ كَمَا بَيَّنَّا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَنْقُصَ بَدَلُهُ كَمَا انْتَقَصَتْ دِيَةُ الْأُنْثَى عَنْ دِيَةِ الرَّجُلِ بِصِفَةِ الْأُنُوثِيَّةِ الَّتِي تُوجِبُ نُقْصَانًا فِي الْمَالِكِيَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ بَنِي آدَمَ خُلِقُوا أَزْوَاجًا ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا وَعُلِّقَ مَصَالِحُ مَعَاشِهِمْ وَبَقَاؤُهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِالِازْدِوَاجِ وَالنِّسَاءُ مَمْلُوكَاتٌ لِلرِّجَالِ فِي الِازْدِوَاجِ فَانْتَقَصَتْ دِيَاتُهُنَّ بِصِفَةِ الْأُنُوثَةِ الَّتِي بِهَا صِرْنَ مَمْلُوكَاتٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ نُقْصَانَ الْمَالِكِيَّةِ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي نُقْصَانِ الدِّيَةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْأَوْصَافِ وَلِهَذَا لَمْ يُنْتَقَصْ بِالْفِسْقِ وَلَا بِالزَّمَانَةِ وَلَا بِفَوَاتِ الْأَطْرَافِ لِعَدَمِ انْتِقَاصِ الْمَالِكِيَّةِ بِهَذِهِ الْمَعَانِي قَوْلُهُ (لَكِنَّ نُقْصَانَ الْأُنُوثَةِ) إلَى آخِرِهِ جَوَابُ سُؤَالٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ قَدْ أُلْحِقَ الرِّقُّ بِالْأُنُوثَةِ فِي إيجَابِ تَنْقِيصِ الْمَالِكِيَّةِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي قَدْرِ النُّقْصَانِ حَتَّى كَانَ النُّقْصَانُ فِي الرِّقِّ بِقَدْرِ النِّصْفِ كَمَا فِي الْأُنُوثَةِ فَقَالَ إنَّهُمَا قَدْ اسْتَوَيَا فِي إثْبَاتِ أَصْلِ النُّقْصَانِ لَكِنْ لَمْ يَسْتَوِيَا فِي مِقْدَارِهِ فَإِنَّ نُقْصَانَ الْأُنُوثَةِ أَيْ النُّقْصَانَ الْحَاصِلَ بِهَا فِي أَحَدِ ضَرْبَيْ الْمَالِكِيَّةِ وَهُمَا مَالِكِيَّةُ الْمَالِ وَمَالِكِيَّةُ النِّكَاحِ بِالْعَدَمِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَمْلِكُ الْمَالَ رَقَبَةً وَتَصَرُّفًا وَيَدًا وَلَا تَمْلِكُ النِّكَاحَ أَصْلًا بَلْ هِيَ مَمْلُوكَةٌ فِيهِ فَزَوَالُ إحْدَى الْمَالِكِيَّتَيْنِ بِالْكُلِّيَّةِ عَادَتْ دِيَتُهَا إلَى النِّصْفِ وَهَذَا أَيْ الِانْتِقَاصُ الْحَاصِلُ بِالرِّقِّ نُقْصَانٌ فِي أَحَدِهِمَا أَيْ أَحَدِ ضَرْبَيْ الْمَالِكِيَّةِ لَا بِالْعَدَمِ فَإِنَّ الْعَبْدَ فِي مَالِكِيَّةِ النِّكَاحِ مِثْلُ الْحُرِّ، وَمَالِكِيَّةُ الْمَالِ لَمْ تَزُلْ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَإِنَّهَا بِأَمْرَيْنِ مِلْكُ الرَّقَبَةِ وَمِلْكُ التَّصَرُّفِ وَأَقْوَى الْأَمْرَيْنِ مِلْكُ التَّصَرُّفِ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْمُتَعَلِّقَ بِالْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ بِالْمِلْكِ يَحْصُلُ بِهِ وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ وَالْعَبْدُ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ أَهْلًا لِلْمِلْكِ رَقَبَةً فَهُوَ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ الَّذِي هُوَ أَصْلٌ وَأَهْلٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْيَدِ عَلَى الْمَالِ فَإِنَّ الْمَأْذُونَ اسْتَحَقَّ الْيَدَ عَلَى كَسْبِهِ كَالْمُكَاتَبِ فَلِهَذَا يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِكَسْبِهِ الَّذِي فِي يَدِهِ لِأَنَّ يَدَ الْمُكَاتَبِ لَازِمَةٌ وَيَدُهُ غَيْرُ لَازِمَةٍ كَالْإِجَارَةِ مَعَ الْعَارِيَّةِ. وَكَذَا لَوْ أَوْدَعَ الْعَبْدُ مَالًا غَيْرَهُ لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى الِاسْتِرْدَادَ مِنْ الْمُودَعِ مَأْذُونًا كَانَ الْعَبْدُ أَوْ مَحْجُورًا كَذَا فِي عَامَّةِ شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِنُقْصَانٍ فِي الدِّيَةِ لَا بِالتَّنْصِيفِ وَبِمَا ذَكَرْنَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا يُقَالُ يَجِبُ عَلَى هَذَا التَّخْرِيجِ أَنْ يُنْتَقَصَ دِيَتُهُ عَنْ دِيَةِ الْحُرِّ بِمِقْدَارِ الرُّبُعِ لِانْتِقَاصِ مَالِكِيَّتِهِ مِنْ مَالِكِيَّةِ الْحُرِّ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا وَتَبَيَّنَ أَيْضًا أَنَّ مَالِكِيَّةَ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ أَقْوَى مِنْ مَالِكِيَّةِ الرَّقَبَةِ فَلِذَلِكَ لَا يُمْكِنُ فِي التَّنْقِيصِ اعْتِبَارُ الرُّبُعِ بَلْ يُنْقَصُ مَالَهُ خَطَرٌ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ لِأَنَّهَا أَقَلُّ مَا يُسْتَوْلَى بِهِ عَلَى الْحُرَّةِ اسْتِمْتَاعًا وَأَقَلُّ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ قَطْعَ الْيَدِ الْمُحْتَرَمَةِ الَّتِي لَهَا حُكْمُ نِصْفِ الْبَدَنِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَبْلُغُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ دِيَةَ الْحُرِّ وَيُنْقَصُ مِنْهَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَمِثْلُ هَذَا الْأَثَرِ فِي حُكْمِ الْمَسْمُوعِ مِنْ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَالِكِيَّةَ النِّكَاحِ

وَهَذَا عِنْدَنَا فِي الْمَأْذُونِ أَنَّهُ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ وَيَجِبُ لَهُ الْيَدُ بِالْإِذْنِ غَيْرَ لَازِمَةٍ وَبِالْكِتَابَةِ يَدٌ لَازِمَةٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلْمِلْكِ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِسَبَبِهِ لِأَنَّ السَّبَبَ شَرْعٌ لِحِكْمَةٍ وَلَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِاسْتِحْقَاقِ الْيَدِ أَيْضًا قُلْنَا أَنَّ أَهْلِيَّةَ التَّكَلُّمِ غَيْرُ سَاقِطَةٍ بِالْإِجْمَاعِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQكَامِلَةٌ لِلْعَبْدِ بَلْ هِيَ نَاقِصَةُ الْوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا تَوَقُّفُهَا عَلَى إذْنِ الْمَوْلَى بِخِلَافِ الْحُرِّ. وَالثَّانِي اقْتِصَارُهَا عَلَى امْرَأَتَيْنِ بِخِلَافِ الْحُرِّ حَيْثُ تَجَاوَزَتْ مَالِكِيَّتُهُ إلَى الْأَرْبَعِ قُلْنَا التَّوَقُّفُ عَلَى الْإِذْنِ لَا يَدُلُّ عَلَى النُّقْصَانِ كَمَا فِي حَقِّ الصَّبِيِّ فَإِنَّ مَالِكِيَّتَهُ كَامِلَةٌ مَعَ تَوَقُّفِهَا عَلَى إذْنِ الْوَلِيِّ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّوَقُّفَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمَوْلَى أَوْ عَنْ الصَّبِيِّ لَا لِثُبُوتِ الْمَالِكِيَّةِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى نُقْصَانِهَا وَكَذَا تَنْصِيفُ عَدَدِ الْأَنْكِحَةِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ لَيْسَ لِنُقْصَانِ الْمَالِكِيَّةِ وَلَكِنْ لِتَنْصِيفِ الْحِلِّ فَإِنَّ مَالِكِيَّتَهُ فِيمَا مَلَكَهُ مِنْ النِّكَاحِ مِثْلُ مَالِكِيَّةِ الْحُرِّ بِلَا نُقْصَانٍ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ اسْتِدْلَالِهِمْ بِمَا إذَا انْتَقَصَتْ قِيمَةُ الْمَقْتُولِ عَنْ دِيَةِ الْحُرِّ فَهُوَ أَنَّ الضَّمَانَ ضَمَانُ الدَّمِ فِي قَلِيلِ الْقِيمَةِ أَيْضًا وَلِهَذَا يَجْرِي فِيهِ الْقَسَامَةُ وَتَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ إلَّا أَنَّ الْمُوجِبَ لِنُقْصَانِ دَمِهِ صَيْرُورَتُهُ مَالًا الَّتِي انْتَقَصَتْ بِهَا مَالِكِيَّتُهُ فَمَا دَامَ يُمْكِنُنَا نَقْصُ دِيَتِهِ بِاعْتِبَارِ قِيمَتِهِ مَالًا نَقَصْنَا بِذَلِكَ السَّبَبِ الَّذِي انْتَقَصَ بِهِ وَهُوَ الْمَالِيَّةُ وَيَكُونُ ذَلِكَ النَّاقِصُ بِسَبَبِ الِاعْتِبَارِ بِالْمَالِ بَدَلَ دَمِهِ لَا بَدَلَ مَالِيَّتِهِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ إثْبَاتُ النُّقْصَانِ بِالْإِعْتَاقِ بِالِاعْتِبَارِ مَالًا بِأَنْ ازْدَادَتْ قِيمَةُ الْمَالِيَّةِ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ وَجَبَ النَّقْصُ شَرْعًا لَكِنْ يُقَدَّرُ لَهُ خَطَرٌ وَهُوَ عَشَرَةٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَوُجُوبُ الضَّمَانِ لِلْمَوْلَى لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَدَلُ الْمَالِيَّةِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ وَجَبَ لِلْمَوْلَى أَيْضًا وَهُوَ بَدَلُ النَّفْسِ بِالْإِجْمَاعِ بَلْ الضَّمَانُ يَجِبُ لِلْعَبْدِ وَلِهَذَا يُقْضَى دَيْنُ الْعَبْدِ مِنْ بَدَلِ دَمِهِ وَلَكِنَّ الْعَبْدَ لَا يَصْلُحُ مُسْتَحِقًّا لِلْمَالِ فَيَسْتَوْفِيهِ الْمَوْلَى الَّذِي هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ كَمَا يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْفَضْلِ الْكَرْمَانِيُّ الْوَاجِبُ فِي نَفْسِهِ ضَمَانُ النَّفْسِ وَلَكِنْ فِي جَانِبِ الْمُسْتَحَقِّ هُوَ ضَمَانُ مَالٍ فَيَظْهَرُ حُكْمُ الْمَالِيَّةِ فِي حَقِّ الْيَدِ قَوْلُهُ (وَهَذَا عِنْدَنَا) أَيْ كَوْنُ الْعَبْدِ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ وَلِاسْتِحْقَاقِ الْيَدِ عَلَى الْمَالِ مَذْهَبُنَا فَإِنَّ الْمَأْذُونَ يَتَصَرَّفُ بِنَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ وَيَثْبُتُ لَهُ الْيَدُ عَلَى إكْسَابِهِ فَكَانَ الْإِذْنُ فَكَّ الْحَجْرِ الثَّابِتِ بِالرِّقِّ وَرَفْعًا لِلْمَانِعِ مِنْ التَّصَرُّفِ حُكْمًا وَإِثْبَاتُ الْيَدِ لِلْعَبْدِ فِي كَسْبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابَةِ إلَّا أَنَّ الْيَدَ الثَّابِتَةَ بِالْإِذْنِ غَيْرُ لَازِمَةٍ لِحَدِّ الْإِذْنِ عَنْ الْعِوَضِ وَالْيَدُ الثَّابِتَةُ بِالْكِتَابَةِ لَازِمَةٌ لِأَنَّهَا بِعِوَضٍ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ بِالْهِبَةِ مَعَ الْمُسْتَفَادِ بِالْبَيْعِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلتَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ وَلَا لِاسْتِحْقَاقِ الْيَدِ وَلَكِنَّهُ يَسْتَفِيدُ التَّصَرُّفَ وَالْيَدَ بِالْإِذْنِ مِنْ الْمَوْلَى فَهُوَ يَتَصَرَّفُ لِلْمَوْلَى بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ كَالْوَكِيلِ بِتَصَرُّفٍ لِلْمُوَكِّلِ وَيَدُهُ فِي الْأَكْسَابِ يَدُ نِيَابَةٍ بِمَنْزِلَةِ يَدِ الْمُودِعِ وَيُبْتَنَى عَلَيْهِ أَنَّ الْإِذْنَ فِي نَوْعٍ مِنْ التِّجَارَةِ يَكُونُ إذْنًا فِي الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ بَلْ يَخْتَصُّ الْإِذْنُ بِذَلِكَ النَّوْعِ وَأَنَّ الْحَجْرَ فِي نَوْعٍ بَعْدَ الْإِذْنِ الْعَامِّ أَوْ الْخَاصِّ لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَصِحُّ وَأَنَّ الْإِذْنَ لَمْ يَقْبَلْ التَّوْقِيتَ عِنْدَنَا لَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ شَهْرًا أَوْ سَنَةً كَانَ مَأْذُونًا أَبَدًا إلَى أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ لِأَنَّ هَذَا إسْقَاطُ الْحَقِّ وَالْإِسْقَاطُ لَا يَقْبَلُ التَّوْقِيتَ وَعِنْدَهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَقْبَلَ التَّوْقِيتَ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّصَرُّفِ حُكْمُهُ وَهُوَ الْمِلْكُ وَأَنَّهُ يَحْصُلُ لِلْمَوْلَى لِلْعَبْدِ لِأَنَّهُ بِالرِّقِّ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْمِلْكِ وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى زَوْجَةَ الْمَوْلَى يَفْسُدُ النِّكَاحُ وَلَوْ تَزَوَّجَ

وَكَذَلِكَ الذِّمَّةُ مَمْلُوكَةٌ لِلْعَبْدِ قَابِلَةٌ لِلدَّيْنِ وَإِذَا صَارَ أَهْلًا لِلْحَاجَةِ كَانَ أَهْلًا لِلْقَضَاءِ وَأَدْنَى طُرُقِهِ الْيَدُ وَهُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِأَنَّ الْمِلْكَ ضَرْبُ قُدْرَةٍ شُرِعَ لِلضَّرُورَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQأَمَةً مِنْ مَكَاسِبِهِ يَصِحُّ لِعَدَمِ مِلْكِهِ فِي الْكَسْبِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلْمِلْكِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ التَّصَرُّفِ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِسَبَبِهِ وَهُوَ التَّصَرُّفُ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ شُرِعَ لِحُكْمِهِ لَا لِذَاتِهِ فَلَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِاسْتِحْقَاقِ الْيَدِ أَيْضًا لِأَنَّ الْيَدَ لَا يُسْتَفَادُ إلَّا بِمِلْكِ التَّصَرُّفِ أَوْ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ وَقَدْ عُدِمَ الْأَمْرَانِ فِي حَقِّهِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلتَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ كَانَ تَصَرُّفُهُ بَعْدَ الْإِذْنِ وَاقِعًا لِلْمَوْلَى بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ كَتَصَرُّفِ الْوَكِيلِ. يُوَضِّحُهُ أَنَّ التَّصَرُّفَ تَمْلِيكٌ أَوْ تَمَلُّكٌ فَإِنَّهُ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا كَانَ مُتَمَلِّكًا لِذَلِكَ الشَّيْءِ وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ لِلْمَوْلَى بِلَا خِلَافٍ فَالتَّمَلُّكُ يَقَعُ لَهُ وَإِذَا بَاعَ مَا اشْتَرَى فَقَدْ بَاعَ مِلْكَ الْمَوْلَى فَكَانَ التَّمْلِيكُ وَاقِعًا لِلْمَوْلَى وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ التَّصَرُّفُ يَقَعُ لَهُ وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ لِلْمَوْلَى لِأَنَّا لَا نَعْقِلُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ أَنَّ الْعَقْدَ لَهُ سِوَى وُقُوعِ الْحُكْمِ لَهُ لِأَنَّ الْعَقْدَ كَلَامٌ مُوجِبٌ لِلْحُكْمِ وَبِدُونِ الْحُكْمِ هُوَ كَلَامٌ وَلَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ التَّصَرُّفِ فَإِذَا أَخَذَ اسْمَ التَّصَرُّفِ مِنْ نَاحِيَةِ الْحُكْمِ كَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ وَقَعَ التَّصَرُّفُ لَهُ إشَارَةً إلَى الْحُكْمِ لَا مَحَالَةَ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِنَا الْوَكِيلُ مُتَصَرِّفٌ لِلْمُوَكِّلِ فَإِنَّ تَصَرُّفَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ كَلَامٌ لَا يَقَعُ لَهُ وَلَكِنْ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مُسْتَجْلِبًا لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ يَقَعُ فَكَذَا الْمَوْلَى بِالْإِذْنِ اسْتَعْمَلَهُ فِيمَا يُوجِدُهُ الْعَبْدُ مِنْ التَّصَرُّفِ فَكَانَ تَصَرُّفُهُ وَاقِعًا لِلْمَوْلَى فَيَقْصُرُ عَلَى مَا وَقَعَ الْإِذْنُ فِيهِ وَلَا يَثْبُتُ لَهُ عُمُومُ التَّصَرُّفِ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ كَالْوَكِيلِ وَقُلْنَا إنَّ أَهْلِيَّةَ التَّكَلُّمِ غَيْرُ سَاقِطَةٍ إلَى آخِرِهِ يَعْنِي أَنَّ التَّصَرُّفَ كَلَامٌ مُعْتَبَرٌ جُعِلَ سَبَبًا لِحُكْمٍ شَرْعًا وَمَحَلُّهُ ذِمَّةٌ صَالِحَةٌ لِالْتِزَامِ الدَّيْنِ وَاعْتِبَارِ الْكَلَامِ بِصُدُورِهِ عَنْ الْأَهْلِ، وَأَهْلِيَّةُ التَّكَلُّمِ لِلْعَبْدِ غَيْرُ سَاقِطَةٍ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ بِالْعَقْلِ وَالْعَقْلُ لَا يَخْتَلُّ بِالرِّقِّ وَهَذَا صَحَّ تَوَكُّلُهُ وَقُبِلَتْ رِوَايَاتُهُ فِي الدَّيْنِ وَإِخْبَارَاتِهِ فِي الدِّيَانَاتِ نَحْوُ الْهَدَايَا وَطَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهَا وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ بِهِلَالِ رَمَضَانَ. وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَمَا أَنَّ الْأَهْلِيَّةَ غَيْرُ سَاقِطَةٍ بِالرِّقِّ الذِّمَّةُ مَمْلُوكَةٌ لِلْعَبْدِ لَا لِلْمَوْلَى لِأَنَّ الذِّمَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ وَصْفٍ فِي الشَّخْصِ يَصِيرُ بِهِ أَهْلًا لِلْإِيجَابِ وَالِاسْتِيجَابِ كَمَا بَيَّنَّا وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَصِرْ مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى وَلِهَذَا بَقِيَ مُخَاطَبًا بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَكَذَا قَابِلٌ لِلدَّيْنِ حَتَّى يُؤَاخَذَ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ وَلَوْ أَرَادَ الْمَوْلَى أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي ذِمَّتِهِ بِأَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ فِي ذِمَّتِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمَوْلَى لَقَدَرَ عَلَيْهِ فَثَبَتَ أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِلْعَبْدِ وَقَابِلَةٌ لِلدَّيْنِ بِدَلِيلِ ثُبُوتِ دَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ فِي ذِمَّتِهِ وَبِدَلِيلِ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَحْجُورَ لَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالدَّيْنِ صَحَّ الْإِقْرَارُ وَوَجَبَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى لَوْ كُفِلَ بِهِ إنْسَانٌ يَصِحُّ وَيُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ يُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ وَهَذَا لِأَنَّ صَلَاحِيَّةَ الذِّمَّةِ لِالْتِزَامِ الدُّيُونِ مِنْ كَرَامَاتِ الْبَشَرِ وَبِالرِّقِّ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْبَشَرِ (فَإِنْ قِيلَ) لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الذِّمَّةَ مَمْلُوكَةٌ لِلْعَبْدِ بَلْ هِيَ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ عَلَى الْعَبْدِ بِدَيْنٍ صَحَّ إقْرَارُهُ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً لَهُ لَمَا صَحَّ إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ كَمَا لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ (قُلْنَا) صِحَّةُ إقْرَارِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَالِيَّةَ الْعَبْدِ مَمْلُوكَةٌ لَهُ لَا بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ فِي ذِمَّتِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِقَدْرِ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ وَلَوْ كَانَتْ

وَكَذَلِكَ مِلْكُ الْيَدِ بِنَفْسِهِ غَيْرَ مَالٍ أَلَا يُرَى أَنَّ الْحَيَوَانَ يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فِي الْكِتَابَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQصِحَّتُهُ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ فِي الذِّمَّةِ وَهِيَ مُتَّسِعَةٌ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ الْإِقْرَارُ بِمَا زَادَ عَلَى الْمَالِيَّةِ وَإِنْ كَثُرَ كَمَا لَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ. وَهُوَ كَالْوَارِثِ يُقِرُّ بِالدَّيْنِ عَلَى مُورَثِهِ يَصِحُّ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذِمَّتُهُ مَمْلُوكَةً لَهُ لِأَنَّ مُوجِبَ إقْرَارِهِ اسْتِحْقَاقُ التَّرِكَةِ مِنْ يَدِهِ كَذَلِكَ هَاهُنَا مُوجِبُ هَذَا الْإِقْرَارِ اسْتِحْقَاقُ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ وَالْكَسْبِ فَيَصِحُّ وَلَا يُقَالُ إنَّ الْعَبْدَ يُؤَاخَذُ بِهَذَا الدَّيْنِ بَعْدَ الْعِتْقِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ وَاجِبًا فِي ذِمَّتِهِ بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى لَمَا أُخِذَ بَعْدَ الْعِتْقِ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّمَا يُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ لِأَنَّ مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ صَارَتْ مَشْغُولَةً بِالدَّيْنِ وَقَدْ أَتْلَفَهَا الْمَوْلَى بِالْإِعْتَاقِ فَيَضْمَنُ وَيَضْمَنُ الْعَبْدُ أَيْضًا لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْإِعْتَاقِ سَلِمَتْ لَهُ وَصَارَتْ الْمَالِيَّةُ الْمَشْغُولَةُ مَصْرُوفَةً إلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ كَالرَّاهِنِ الْمُعْسِرِ إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ الْمَرْهُونَ يَلْزَمُ الْعَبْدَ السِّعَايَةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِأَنَّهُ صَرَفَ إلَيْهِ مَالِيَّةَ رَقَبَةٍ مَشْغُولَةٍ بِالرَّهْنِ كَذَلِكَ هَاهُنَا ثُمَّ ذَكَرَ الشَّيْخُ مُقَدِّمَةً أُخْرَى فَقَالَ وَإِذَا صَارَ أَيْ كَانَ الْعَبْدُ أَهْلًا لِلْحَاجَةِ فَإِنَّهُ مَعَ الرِّقِّ أَهْلٌ لَهَا كَانَ أَهْلًا لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ أَيْضًا إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَهُ لَوَقَعَ فِي الْحَرَجِ وَهُوَ مَدْفُوعٌ وَأَدْنَى طُرُقِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ مِلْكُ الْيَدِ كَمَا أَنَّ أَعْلَاهَا مِلْكُ الرَّقَبَةِ مَعَ مِلْكِ الْيَدِ وَهَذَا الْكَلَامُ جَوَابٌ عَمَّا قَالُوا إنَّهُ بِالرِّقِّ خَرَجَ مِنْ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ أَهْلًا لِحُكْمِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ فَقَالَ إنَّهُ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ بَقِيَ أَهْلًا لِمِلْكِ الْيَدِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَحْكَامِ التَّصَرُّفِ وَهُوَ أَيْ مِلْكُ الْيَدِ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلتَّصَرُّفِ لِأَنَّ شَرْعَ التَّصَرُّفِ لِدَفْعِ الْحَاجَةِ وَهِيَ تَنْدَفِعُ بِالْيَدِ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ يَحْصُلُ بِهَا فَكَانَ مِلْكُ الْيَدِ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلتَّصَرُّفِ وَمِلْكُ الْعَيْنِ شُرِعَ لِلتَّوَصُّلِ إلَيْهِ لِقَطْعِ طَمَعِ الْأَغْيَارِ عَنْ الْعَيْنِ إذَا الْمِلْكُ هُوَ الْمُطْلِقُ الْحَاجِزُ أَيْ الْمُطْلِقُ لِلتَّصَرُّفِ لِلْمَالِكِ وَالْحَاجِزُ لِلْغَيْرِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَمْلُوكِ بِدُونِ إذْنِ الْمَالِكِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ ضَرْبُ قُدْرَةٍ شُرِعَ لِلضَّرُورَةِ أَيْ لِضَرُورَةِ التَّوَصُّلِ إلَى الْمَقْصُودِ. وَتَسْمِيَتُهُ قُدْرَةَ تَوَسُّعٍ لِأَنَّهُ الِاخْتِصَاصُ الْمُطْلِقُ الْحَاجِزُ كَمَا قُلْنَا إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُطْلِقًا لِلتَّصَرُّفِ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ الْقُدْرَةِ عَلَى الِانْتِفَاعِ فَلِذَلِكَ سَمَّاهُ قُدْرَةً وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَمَا أَنَّ مِلْكَ الْيَدِ يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ لِلْحَاجَةِ وَمِلْكُ الْيَدِ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مَالٍ أَيْضًا فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ لِلْعَبْدِ لِأَنَّ الرِّقَّ لَا يُنَافِي مَالِكِيَّةَ غَيْرِ الْمَالِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ أَنَّ الْحَيَوَانَ يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ بِمُقَابَلَةِ مِلْكِ الْيَدِ كَمَا يَثْبُتُ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَلَوْ كَانَ مِلْكُ الْيَدِ مَالًا لَمَا ثَبَتَ الْحَيَوَانُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بِمُقَابَلَتِهِ كَمَا لَا يَثْبُتُ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بِمُقَابَلَةِ الْمَالِ لِمَا عُرِفَ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَيَوَانَ يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فِي النِّكَاحِ مَعَ أَنَّ الْمَمْلُوكَ بِالنِّكَاحِ وَهُوَ مَنَافِعُ الْبُضْعِ فِي حُكْمِ الْمَالِ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَمْلُوكَ بِالنِّكَاحِ مَالٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ بِقَتْلِ الْمَرْأَةِ وَبِالشَّهَادَةِ الْكَاذِبَةِ عَلَى الطَّلَاقِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْأَمْوَالِ فَذَلِكَ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ لَا فِي الْمَنْعِ مِنْ ثُبُوتِ الْحَيَوَانِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فِيهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ حَقِيقَةً عَلَى أَنَّا نُلْزِمُ الْخَصْمَ عَلَى أَصْلِهِ وَعِنْدَهُ الْمَمْلُوكُ بِالنِّكَاحِ لَيْسَ بِمَالٍ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ إذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا بَيَّنَّا مِنْ بَقَاءِ أَهْلِيَّةِ الْعَبْدِ لِلتَّكَلُّمِ وَكَوْنِ الذِّمَّةِ مَمْلُوكَةً لَهُ

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْعَبْدُ أَصْلًا فِي حُكْمِ الْعُقْرِ الَّذِي هُوَ مُحَكَّمٌ وَالْمَوْلَى يَخْلُفُهُ فِيمَا هُوَ مِنْ الزَّوَائِدِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَلِذَلِكَ جَعَلْنَا الْعَبْدَ فِي حُكْمِ الْمِلْكِ وَفِي حُكْمِ بَقَاءِ الْإِذْنِ كَالْوَكِيلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَكَوْنِهِ أَهْلًا لِمِلْكِ الْيَدِ الَّذِي هُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلتَّصَرُّفِ كَانَ الْعَبْدُ أَصْلًا فِي حُكْمِ الْعَقْدِ الَّذِي هُوَ مُحَكَّمٌ أَيْ أَمْرٌ أَصْلِيٌّ مَقْصُودٌ مِنْهُ وَهُوَ مِنْهُ وَهُوَ مِلْكُ الْيَدِ وَالْمَوْلَى يَخْلُفُ الْعَبْدَ فِيمَا هُوَ مِنْ الزَّوَائِدِ وَهُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ لِلتَّصَرُّفِ حُكْمَيْنِ أَحَدُهُمَا مَقْصُودٌ أَصْلِيٌّ وَهُوَ مِلْكُ الْيَدِ وَالْآخَرُ أَمْرٌ زَائِدٌ شُرِعَ وَسِيلَةٍ إلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ وَالْعَبْدُ إنْ لَمْ يَبْقَ أَهْلًا لِلثَّانِي فَهُوَ أَهْلٌ لِمَا هُوَ مَقْصُودٌ مِنْهُمَا وَهُوَ مِلْكُ الْيَدِ فَكَانَ فِي التَّصَرُّفِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ لِثُبُوتِ حُكْمِهِ الْأَصْلِيِّ لَهُ وَكَانَ تَصَرُّفُهُ كَشِرَاءِ رَبِّ الْمَالِ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ لِإِفَادَتِهِ مِلْكَ الْيَدِ وَاعْلَمْ أَنَّ لِمَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمَوْلَى طَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ مِلْكَ الْيَدِ بِالتَّصَرُّفِ يَقَعُ لِلْعَبْدِ وَمِلْكَ الرَّقَبَةِ لِلْمَوْلَى وَالْعَبْدُ مَعَ هَذَا عَامِلٌ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ عَمَلَ الْإِنْسَانِ مَتَى دَارَ بَيْنَ أَنْ يَقَعَ لَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَقَعَ لِغَيْرِهِ كَانَ وَاقِعًا لَهُ كَالْمُكَاتَبِ لَمَّا كَانَ كَسْبُهُ لِلسَّيِّدِ مِنْ وَجْهٍ وَلِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ لَمْ يُجْعَلْ نَائِبًا عَنْ الْمَوْلَى بَلْ هُوَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فَكَذَا هَذَا. وَالثَّانِي أَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ لَا يَقَعُ لِلْمَوْلَى حُكْمًا لِلتَّصَرُّفِ لِأَنَّهُ يَنْعَقِدُ لِلْعَبْدِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ لَهُ لِأَنَّهُ نَتِيجَةُ تَصَرُّفِهِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَبْقَ أَهْلًا لِلْمِلْكِ تَعَذَّرَ الْإِيقَاعُ لَهُ فَاسْتَحَقَّهُ الْمَوْلَى لَا بِالتَّصَرُّفِ وَلَكِنْ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ لِقِيَامِ مِلْكِهِ لَا الرَّقَبَةِ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - دَيْنُ الْعَبْدِ يَمْنَعُ مِلْكَ الْمَوْلَى فِي كَسْبِهِ، الْمَوْلَى إنَّمَا يَتَلَقَّى الْمِلْكَ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ كَالْوَارِثِ مَعَ الْمُورَثِ فَثَبَتَ أَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ إكْسَابَهُ بِسَبَبِ مِلْكِهِ فِي رَقَبَتِهِ لَا بِتَصَرُّفِ الْعَبْدِ. وَإِلَى هَذَا الطَّرِيقِ أَشَارَ الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ وَالْمَوْلَى يَخْلُفُهُ فِيمَا هُوَ مِنْ الزَّوَائِدِ وَلَا يُقَالُ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُتَصَرِّفًا لِنَفْسِهِ وَكَانَ حُكْمُ تَصَرُّفِهِ وَاقِعًا لَهُ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْفُذَ تَصَرُّفُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ فِيمَا إذَا اشْتَرَى ثُمَّ أَعْتَقَ لِسُقُوطِ حَقِّ الْمَوْلَى. كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ ثُمَّ أَعْتَقَ وَكَمَا لَوْ بَاعَ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ ثُمَّ افْتَكَّهُ يَنْفُذُ الْبَيْعُ لِسُقُوطِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَلَمَّا لَمْ يَنْعَقِدْ هَاهُنَا عُلِمَ أَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الْمَوْلَى فِي التَّصَرُّفِ لِأَنَّا نَقُولُ الْعَبْدُ وَإِنْ كَانَ مُتَصَرِّفًا لِنَفْسِهِ يَقَعُ مِلْكُ الرَّقَبَةِ لِمَوْلَاهُ فَلَمَّا انْعَقَدَ التَّصَرُّفُ مُوجِبًا لِلْمِلْكِ لِلْمَوْلَى لَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُهُ عَلَى الْعَبْدِ بَعْدَ الْعِتْقِ عِنْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ مِنْ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ مَتَى وَقَعَ لِجِهَةٍ لَا يَنْفُذُ لِجِهَةٍ أُخْرَى بِخِلَافِ النِّكَاحِ لِأَنَّهُ يَنْفُذُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَوَقَّفَ إذْ الْمِلْكُ وَاقِعٌ لِلْعَبْدِ فِيهِ وَكَذَا فِي الرَّهْنِ يَكُونُ الْمِلْكُ فِي الثَّمَنِ لِلرَّاهِنِ فَيُمْكِنُ تَنْفِيذُهُمَا عِنْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ وَأَنَّ حُكْمَهُ الْأَصْلِيَّ يَثْبُتُ لَهُ كَالْمُكَاتَبِ إلَّا أَنَّهُ قَبْلَ الْإِذْنِ كَانَ مَمْنُوعًا عَنْ التَّصَرُّفِ لِحَقِّ الْمَوْلَى مَعَ قِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ لِأَنَّ الدَّيْنَ إذَا وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ يَتَعَلَّقُ بِمَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ وَالْكَسْبُ اسْتِيفَاءٌ فَإِذَا أَذِنَ فَقَدْ رَضِيَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ فَكَانَ الْإِذْنُ فَكًّا لِلْحَجْرِ كَالْكِتَابَةِ فَلَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ ثُمَّ فَكُّ الْحَجْرِ بِهَذَيْنِ السَّبَبَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْفَكِّ الْعَامِّ الَّذِي يَحْصُلُ بِالْعِتْقِ وَذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ سَوَاءٌ أَطْلَقَ أَوْ صَرَّحَ بِالنَّهْيِ عَنْ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ لِأَنَّ هَذَا التَّقْيِيدَ تَصَرُّفٌ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَكَذَا هَاهُنَا. قَوْلُهُ (وَلِذَلِكَ) أَيْ وَلِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ بَلْ الْمَوْلَى يَخْلُفُهُ فِيهِ وَلِأَنَّ الْإِذْنَ غَيْرُ لَازِمٍ جَعَلْنَا الْعَبْدَ فِي حُكْمِ الْمِلْكِ وَفِي حُكْمِ بَقَاءِ الْإِذْنِ كَالْوَكِيلِ وَإِنْ كَانَ هُوَ أَصِيلًا فِي نَفْسِ التَّصَرُّفِ وَثُبُوتِ مِلْكِ الْيَدِ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ حَتَّى وَقَعَ الْمِلْكُ لِلْمَوْلَى كَانَ هُوَ كَالْوَكِيلِ وَالْمَوْلَى كَالْمُوَكِّلِ

فِي مَسَائِلِ مَرَضِ الْمَوْلَى وَعَامَّةِ مَسَائِلِ الْمَأْذُونِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQحَيْثُ ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ وَلَمَّا كَانَ لِلْمَوْلَى حَقُّ الْحَجْرِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِذْنِ بِدُونِ رِضَاهُ كَمَا كَانَ لِلْمُوَكِّلِ عَزْلُ الْوَكِيلِ بِدُونِ رِضَاهُ كَانَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ فِي حُكْمِ بَقَاءِ الْإِذْنِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ أَيْضًا بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ عَزْلَهُ بِدُونِ تَعْجِيزِهِ نَفْسَهُ فَلَمْ يُمْكِنْ جَعْلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ فِي حُكْمِ بَقَاءِ الْكِتَابَةِ. وَقَوْلُهُ فِي مَسَائِلِ مَرَضِ الْمَوْلَى مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ فِي حُكْمِ الْمِلْكِ، وَقَوْلُهُ وَعَامَّةُ مَسَائِلِ الْمَأْذُونِ أَوْ أَكْثَرُهَا مُتَعَلِّقٌ بِبَقَاءِ الْإِذْنِ أَيْ جَعَلْنَاهُ فِي حُكْمِ الْمِلْكِ فِي مَسَائِلِ مَرَضِ الْمَوْلَى وَفِي حَقِّ بَقَاءِ الْإِذْنِ فِي عَامَّةِ مَسَائِلِ الْمَأْذُونِ كَالْوَكِيلِ فَمِنْ أَمْثِلَةِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مَا إذَا أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ ثُمَّ مَرِضَ الْمَوْلَى فَبَاعَ الْعَبْدُ بَعْضَ مَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ تِجَارَتِهِ أَوْ اشْتَرَى شَيْئًا فَحَابَى فِي ذَلِكَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ أَوْ يَسِيرٍ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى فَجَمِيعُ مَا فَعَلَ الْعَبْدُ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْمِلْكَ لَمَّا كَانَ وَاقِعًا لِلْمَوْلَى كَمَا كَانَ وَاقِعًا لِلْمُوَكِّلِ فِي تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ يَتَغَيَّرُ تَصَرُّفُ الْعَبْدِ بِمَرَضِ الْمَوْلَى لِتَعَلُّقِ حَقِّ وَرَثَتِهِ بِمِلْكِهِ كَمَا يَتَغَيَّرُ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ بِمَرَضِ الْمُوَكِّلِ وَصَارَ كَمَا إذَا بَاشَرَهُ الْمَوْلَى بِنَفْسِهِ لِاسْتِدَامَتِهِ الْإِذْنَ بَعْدَ مَرَضِهِ فَيُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ. وَكَذَا الْحُكْمُ عِنْدَهُمَا فِي الْمُحَابَاةِ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ فَأَمَّا الْمُحَابَاةُ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ فَبَاطِلَةٌ وَإِنْ كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ لِأَنَّ الْمَأْذُونَ عِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ هَذِهِ الْمُحَابَاةَ حَتَّى لَوْ بَاشَرَهَا فِي صِحَّةِ الْمَوْلَى كَانَتْ بَاطِلَةً وَلَوْ كَانَ الَّذِي حَابَاهُ بَعْضُ وَرَثَةِ الْمَوْلَى كَانَتْ الْمُحَابَاةُ بَاطِلَةً لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الْعَبْدِ كَمُبَاشَرَةِ الْمَوْلَى الْمَرِيضِ لَا يَمْلِكُ الْمُحَابَاةَ فِي شَيْءٍ مَعَ وَارِثِهِ وَلَوْ أَقَرَّ الْمَأْذُونُ فِي مَرَضِ مَوْلَاهُ بِدَيْنٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ وَدِيعَةٍ قَائِمَةً أَوْ مُسْتَهْلَكَةً أَوْ غَيْرِهَا مِنْ دُيُونِ التِّجَارَةِ وَعَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ ثَبَتَ فِي صِحَّتِهِ بُدِئَ بِدَيْنِ الصِّحَّةِ مِنْ تَرِكَتِهِ وَمِنْ رَقَبَةِ الْعَبْدِ وَكَسْبِهِ فَإِنْ فَضُلَ مِنْ رَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ شَيْءٌ فَهُوَ لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْعَبْدُ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ وَكَسْبَهُ مِلْكُ الْمَوْلَى فَإِقْرَارُهُ فِيهِ كَإِقْرَارِ الْمَوْلَى وَلَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى كَانَ دَيْنُ الصِّحَّةِ مُقَدَّمًا فَهَذَا مِثْلُهُ فَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَأَمْثَالِهَا جَعَلَ الْمَأْذُونَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمِلْكِ وَالْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ الْمَوْلَى الْمُوَكِّلِ حَتَّى اُعْتُبِرَ مَرَضُهُ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ وَلَمْ يَعْتَبِرْ صِحَّةَ الْعَبْدِ وَمِنْ أَمْثِلَةِ الثَّانِي أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ إذَا أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ فَحُجِرَ الْمَوْلَى الْأَوَّلُ لَا يَنْحَجِرُ الثَّانِي كَالْوَكِيلِ إذَا وَكَّلَ وَقَدْ كَانَ قَالَ لَهُ الْمُوَكِّلُ اعْمَلْ بِرَأْيِك لَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِ الْأَوَّلِ وَلَوْ مَاتَ الْمَوْلَى صَارَ مَحْجُورَيْنِ كَمَا لَوْ مَاتَ الْمُوَكِّلُ صَارَ مَعْزُولَيْنِ وَيُشْتَرَطُ الْعِلْمُ لِلْمَأْذُونِ بِالْحَجْرِ لِصِحَّتِهِ كَمَا يُشْتَرَطُ عِلْمُ الْوَكِيلِ بِالْعَزْلِ وَلَوْ أَخْرَجَ الْمَأْذُونُ مِنْ مِلْكِهِ لَمْ تَبْقَ لِلْعَبْدِ وِلَايَةٌ أَنْ يَقْبِضَ شَيْئًا مِمَّا كَانَ عَلَى غَرِيمِهِ وَقْتَ الْإِذْنِ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ قَبْضِ الثَّمَنِ بَعْدَ الْعَزْلِ وَلَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ ثُمَّ جُنَّ الْمَوْلَى جُنُونًا مُطْبِقًا أَوْ ارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَقُتِلَ فِيهِ لَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ صَارَ الْعَبْدُ مَحْجُورًا كَالْوَكِيلِ يَصِيرُ مَعْزُولًا فَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَنَظَائِرِهَا جُعِلَ الْعَبْدُ كَالْوَكِيلِ فِي حَالِ بَقَاءِ الْإِذْنِ. قَوْلُهُ (وَالرِّقُّ لَا يُؤَثِّرُ فِي عِصْمَةِ الدَّمِ) إلَى آخِرِهِ عِصْمَةُ الدَّمِ وَهِيَ حُرْمَةُ تَعَرُّضِهِ بِالْإِتْلَافِ حَقًّا لَهُ وَلِصَاحِبِ الشَّرْعِ عَلَى نَوْعَيْنِ عِنْدَنَا مُؤْثِمَةٌ وَهِيَ الَّتِي تُوجِبُ الْإِثْمَ عَلَى تَقْدِيرِ التَّعَرُّضِ لِلدَّمِ وَلَا تُوجِبُ الضَّمَانَ أَصْلًا وَمُقَوِّمَةٌ وَهِيَ الَّتِي تُوجِبُ الْإِثْمَ وَالضَّمَانَ جَمِيعًا عَلَى تَقْدِيرِ التَّعَرُّضِ ثُمَّ إنْ كَانَ التَّعَرُّضُ عَمْدًا فَالضَّمَانُ هُوَ الْقِصَاصُ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَالدِّيَةُ وَالْإِثْمُ

وَالرِّقُّ لَا يُؤَثِّرُ فِي عِصْمَةِ الدَّمِ وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي قِيمَتِهِ وَإِنَّمَا الْعِصْمَةُ بِالْإِيمَانِ وَدَارِ الْإِيمَانِ وَالْعَبْدُ فِيهِ مِثْلُ الْحُرِّ وَلِذَلِكَ قُتِلَ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ قِصَاصًا. وَأَوْجَبَ الرِّقُّ نَقْصًا فِي الْجِهَادِ لِمَا قُلْنَا فِي الْحَجِّ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ لِلْجِهَادِ وَالْحَجِّ غَيْرُ مُسْتَثْنَاةٍ عَلَى الْوَلِيِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَرْتَفِعُ فِي الْعِصْمَتَيْنِ بِالْكَفَّارَةِ إنْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً وَبِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ إنْ كَانَ عَمْدًا فَالرِّقُّ لَا يُؤَثِّرُ فِي عِصْمَةِ الدَّمِ مُؤْثِمَةً كَانَتْ أَوْ مُقَوِّمَةً بِالْإِسْقَاطِ وَالتَّنْقِيصِ وَإِنَّمَا فِي قِيمَةٍ أَيْ قِيمَةِ الدَّمِ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ كَيْفَ لَا يُؤَثِّرُ الرِّقُّ فِي عِصْمَةِ الدَّمِ وَقَدْ انْتَقَصَتْ قِيمَتُهُ الْوَاجِبَةُ بِسَبَبِ الْعِصْمَةِ بِالرِّقِّ فَقَالَ أَثَرُهُ فِي تَنْقِيصِ الْقِيمَةِ لِمَا بَيَّنَّا لَا فِي الْعِصْمَةِ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ الْمُؤْثِمَةَ تَثْبُتُ بِالْإِيمَانِ وَالْمُقَوِّمَةَ تَثْبُتُ بِدَارِ الْإِيمَانِ أَيْ بِالْإِحْرَازِ بِهَا وَالْعَبْدُ فِيهِ أَيْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ مِثْلُ الْحُرِّ بِلَا نُقْصَانٍ أَمَّا فِي الْإِيمَانِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا فِي الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ فَلِأَنَّهُ يَتِمُّ بَعْدَ وُجُودِهِ حَقِيقَةً بِمَا يُوجِبُ الْقَرَارَ فِي هَذِهِ الدَّارِ بِأَنْ أَسْلَمَ لَوْ الْتَزَمَ عَقْدَ الذِّمَّةِ وَالرِّقِّ مِمَّا يُوجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ بِالرِّقِّ يَصِيرُ تَبَعًا لِلْمَوْلَى فَإِذَا كَانَ الْمَوْلَى مُحْرِزًا بِدَارِ الْإِسْلَامِ يَصِيرُ الْعَبْدُ مُحْرِزًا بِهَا أَيْضًا كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِكَوْنِ الْعَبْدِ مُمَاثِلًا لِلْحُرِّ فِي الْعِصْمَةِ يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ قِصَاصًا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِهِ لِانْتِفَاءِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا فِيمَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَهُوَ النَّفْسِيَّةُ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ ذَاتٍ مَوْصُوفَةٍ بِأَنْوَاعِ الْكَرَامَاتِ الَّتِي اخْتَصَّ بِهَا وَصَارَتْ بِهَا أَشْرَفَ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ وَقَدْ تَمَكَّنَ فِي الْعَبْدِ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ الَّتِي تُخِلُّ بِتِلْكَ الْكَرَامَاتِ فَاخْتَلَّتْ النَّفْسِيَّةُ بِمُجَاوَزَةِ الْمَالِيَّةِ فَكَانَ الْعَبْدُ فِي مُقَابَلَةِ الْحُرِّ دُونَهُ فِي النَّفْسِيَّةِ فَالْحُرُّ نَفِيسٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالْعَبْدُ نَفْسٌ وَمَالٌ فَامْتَنَعَ الْقِصَاصُ وَالدَّلِيلُ فِي انْتِقَاصِ النَّفْسِيَّةِ انْتِقَاصُ الْبَدَلِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ قَتْلُ الذَّكَرِ بِالْأُنْثَى مَعَ أَنَّهَا دُونَ الذَّكَرِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَاتِ وَلِهَذَا انْتَقَصَ بَدَلُ دَمِهَا عَنْ بَدَلِ دَمِ الرَّجُلِ لِأَنَّ ذَلِكَ ثَبَتَ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَلِمَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ نَفْسَ الْعَبْدِ مَعْصُومَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ لِمُسَاوَاتِهِ الْحُرَّ فِي سَبَبِ الْعِصْمَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى كَمَالِ الْعِصْمَةِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ بِقَتْلِهِ إذَا كَانَ الْقَاتِلُ عَبْدًا وَلَوْ اخْتَلَّتْ الْعِصْمَةُ لَمَا وَجَبَ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ أَصْلًا لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ وَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ مَعَ الشُّبْهَةِ، وَمُجَاوَرَةُ الْمَالِيَّةِ لَا تُخِلُّ بِالنَّفْسِيَّةِ وَالْعِصْمَةِ لِأَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي يُبْتَنَى عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَتَثْبُتُ لِأَجْلِهِ الْعِصْمَةُ كَوْنُهُ مُتَحَمِّلًا أَمَانَةَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إذْ التَّحَمُّلُ وَالْأَدَاءُ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِالْبَقَاءِ وَالْبَقَاءُ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْعِصْمَةِ وَهَذَا وَصْفٌ أَصْلِيٌّ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ وَمَا عَدَاهُ مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْعَقْلِ صِفَاتٌ زَائِدَةٌ أُثْبِتَتْ لِتَكْمِيلِ الْوَصْفِ الْمَطْلُوبِ وَلَا تَعَلُّقَ لِلْقِصَاصِ بِهَا وَقَدْ وُجِدَتْ الْمُسَاوَاةُ هَاهُنَا فِي الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ يُبْتَنَى عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَكَانَتْ الْعِصْمَةُ لِأَجْلِهِ فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِ الْقِصَاصِ فَأَمَّا نُقْصَانُ الْبَدَلِ فَلِنُقْصَانِ الْأَوْصَافِ الزَّائِدَةِ فَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي تَنْقِيصِ الْبَدَلِ وَتَكْمِيلِهِ فَأَمَّا حَقُّ الْقِصَاصِ فَلَا بِدَلِيلِ جَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَثُبُوتِ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا فِي الْبَدَلِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ قَتَلَ عَبْدًا ثُمَّ أُعْتِقَ يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ مِنْهُ وَلَوْ لَمْ يَتَسَاوَى الْحُرُّ وَالْعَبْدُ فِي الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْقِصَاصِ لِمَنْعِ الْعِتْقِ عَنْ الِاسْتِيفَاءِ إذْ الْمَانِعُ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْمَانِعِ حَالَةَ الْوُجُوبِ. قَوْلُهُ (وَأَوْجَبَ الرِّقُّ نَقْصًا فِي الْجِهَادِ) لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الرِّقَّ لَا يُوجِبُ خَلَلًا فِي قُوَى الْبَدَنِ حِسًّا لَكِنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى نَوْعَيْنِ قُدْرَةٌ بِالْمَالِ وَقُدْرَةٌ بِالْبَدَنِ وَالرِّقُّ كَمَا يُنَافِي مَالِكِيَّةَ الْمَالِ يُنَافِي مَالِكِيَّةَ مَنَافِعِ الْبَدَنِ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْبَدَنِ لِقِيَامِهَا بِهِ وَالْبَدَنُ مِلْكُ الْمَوْلَى وَمِلْكُ الْأَصْلِ عِلَّةٌ لِمِلْكِ التَّبَعِ فَكَانَتْ الْمَنَافِعُ مِلْكًا أَيْضًا تَبَعًا

وَلِذَلِكَ قُلْنَا لَا يَسْتَوْجِبُ السَّهْمَ الْكَامِلَ وَانْقَطَعَتْ الْوِلَايَاتُ كُلُّهَا بِالرِّقِّ لِأَنَّهُ عَجْزٌ وَلِذَلِكَ بَطَلَ أَمَانُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّهُ يَنْصَرِفُ عَلَى النَّاسِ ابْتِدَاءً. ـــــــــــــــــــــــــــــQلِلْبَدَنِ غَيْرَ أَنَّ الشَّرْعَ اسْتَثْنَى مَنَافِعَ بَدَنِهِ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ نَظَرًا لِلْعَبْدِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ فِي الْبَعْضِ نَظَرًا لِلْمَوْلَى كَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ فَلِهَذَا لَا يَحِلُّ لَهُ الْقِتَالُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى بِالْإِجْمَاعِ وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِأَنَّ الرِّقَّ أَوْجَبَ نَقْصًا فِيهِ قُلْنَا لَا يَسْتَوْجِبُ الْعَقْدُ السَّهْمَ الْكَامِلَ مِنْ الْغَنِيمَةِ بِحَالٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الْعَامَّةِ لِأَنَّهُ إنْ حَضَرَ وَلَمْ يُقَاتِلْ لَا يَكُونُ لَهُ شَيْءٌ لِأَنَّ مَوْلَاهُ الْتَزَمَ مُؤْنَتَهُ لِلْخِدْمَةِ لَا لِلْقِتَالِ بِهِ فَكَانَ كَالتَّاجِرِ وَإِنْ قَاتَلَ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ يُرْضَخُ لَهُ وَلَا يُسْهَمُ وَعِنْدَ أَهْلِ الشَّامِ يُسْهَمُ لِلْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَسْهَمَ يَوْمَ خَيْبَرَ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْعَبْدِ» وَتَمَسَّكَتْ الْعَامَّةُ بِحَدِيثِ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كَانَ يَرْضَخُ لِلْمَمَالِيكِ وَلَا يُسْهِمُ لَهُمْ» وَبِأَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُجَاهِدٍ بِنَفْسِهِ فَإِنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الْخُرُوجِ وَالْقِتَالِ وَلَا يَسْتَوِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُرِّ الَّذِي هُوَ أَهْلٌ لِلْجِهَادِ بِنَفْسِهِ وَلَكِنْ يُرْضَخُ لَهُ إذَا قَاتَلَ لِمَعْنَى التَّحْرِيضِ. فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا نَفَلَ عَامًا بِأَنْ قَالَ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ فَإِنَّهُ يَسْتَوِي فِي اسْتِحْقَاقِ السَّلَبِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَرُبَّمَا كَانَ سَلَبُ قَتِيلِهِ أَكْثَرَ مِنْ سَهْمِ الْحُرِّ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوِيَ بَيْنَهُمَا فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ قُلْنَا لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ السَّلَبِ بَعْدَ التَّنْفِيلِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْقَتْلِ أَوْ بِالْإِيجَابِ مِنْ الْإِمَامِ وَلَا تَفَاوَتَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ اسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ فَإِنَّهُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْكَرَامَةِ وَالْعَبْدُ أَنْقَصُ حَالًا فِي أَهْلِيَّةِ الْكَرَامَاتِ مِنْ الْحُرِّ أَلَا يُرَى أَنَّ فِي الِاسْتِحْقَاقِ فِي التَّنْفِيلِ يَسْتَوِي بَيْنَ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ وَمَا تَمَسَّكُوا بِهِ مِنْ الْحَدِيثِ مَحْمُولٌ عَلَى الرَّضْخِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ أَنَّهُ قَالَ «شَهِدْت خَيْبَرَ وَأَنَا مَمْلُوكٌ فَلَمْ يُسْهِمْ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» كَذَا فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَالْمَبْسُوطِ فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ شُرُوحِ الْمُخْتَصَرِ أَنَّ الْمَحْجُورَ هُوَ الَّذِي يَسْتَوْجِبُ الرَّضْخَ فَأَمَّا الْمَأْذُونُ لَهُ فِي الْقِتَالِ فَيَسْتَوْجِبُ السَّهْمَ الْكَامِلَ لِالْتِحَاقِهِ بِالْحُرِّ بِالْإِذْنِ وَهْمٌ. قَوْلُهُ (وَانْقَطَعَتْ الْوِلَايَاتُ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ مِثْلُ الذِّمَّةِ وَالْحِلِّ وَالْوِلَايَةِ فَبَيَّنَ الذِّمَّةَ وَالْحِلَّ ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْوِلَايَةِ يَعْنِي لَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ الْمُتَعَدِّيَةُ مِثْلُ وِلَايَةِ الشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ وَالتَّزْوِيجِ وَغَيْرِهَا لِلْعَبْدِ لِأَنَّهَا تُنْبِئُ عَنْ الْقُدْرَةِ الْحُكْمِيَّةِ إذْ الْوِلَايَةُ تَنْفِيذُ الْأَمْرِ عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ أَوْ أَبَى وَالرِّقُّ عَجْزٌ حُكْمِيٌّ فَيُنَافِي الْوِلَايَةَ كَمَا يُنَافِي مَالِكِيَّةَ الْمَالِ ثُمَّ الْأَصْلُ فِي الْوِلَايَاتِ وِلَايَةُ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ التَّعَدِّي مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِ التَّعَدِّي وَلَا وِلَايَةَ لِلْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ فَكَيْفَ تَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِانْقِطَاعِ الْوِلَايَاتِ كُلِّهَا بِالرِّقِّ بَطَلَ أَمَانُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ عَنْ الْقِتَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - صَحَّ أَمَانَةً لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ مِنْ أَهْلِ نُصْرَةِ الدِّينِ بِمَا يَمْلِكُهُ وَالْإِيمَانُ نُصْرَةُ الدِّينِ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ شُرِعَ لِمَنْفَعَةٍ تَعُودُ إلَى الْمُسْلِمِينَ وَهِيَ دَفْعُ شَرِّ الْكُفَّارِ عَنْهُمْ وَالنُّصْرَةُ بِالْقَوْلِ مَمْلُوكَةٌ لَهُ إذْ لَيْسَ فِيهَا إبْطَالُ حَقِّ الْمَوْلَى بِوَجْهٍ فَكَانَ الْعَبْدُ فِيهَا مِثْلَ الْحُرِّ بِخِلَافِ الْقِتَالِ بِالنَّفْسِ فَإِنَّهُ نُصْرَةٌ بِمَا لَا يَمْلِكُهُ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّ الْمَوْلَى عَنْ مَنَافِعِهِ وَتَعْرِيضَ مَالِيَّتِهِ لِلْهَلَاكِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ وَلِأَنَّهُ بِالْإِيمَانِ يَلْتَزِمُ حُرْمَةَ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِي نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ثُمَّ يَتَعَدَّى ذَلِكَ إلَى غَيْرِهِ فَصَارَ كَشَهَادَتِهِ عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ

وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِلْجِهَادِ أَصْلًا وَإِذَا كَانَ مَأْذُونًا بِالْجِهَادِ لَمْ يَصِرْ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ لَكِنَّ الْأَمَانَ بِالْإِذْنِ يَخْرُجُ عَنْ أَقْسَامِ الْوِلَايَةِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ صَارَ شَرِيكًا فِي الْغَنِيمَةِ فَلَزِمَهُ ثَمَّ تَعَدَّى فَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ مِثْلُ شَهَادَتِهِ بِهِلَالِ رَمَضَانَ. ـــــــــــــــــــــــــــــQلِأَنَّهُ يَمْلِكُ عَقْدَ الذِّمَّةِ فَيَمْلِكُ الْإِيمَانَ لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنْ عَقْدِ الذِّمَّةِ وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بِأَنَّ الْإِيمَانَ مِنْهُ تَصَرُّفٌ عَلَى الْغَيْرِ ابْتِدَاءً فَلَا يَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ لِلْمَوْلَى كَالشَّهَادَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إلْزَامٌ عَلَى الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ وَلَا فِي أَنْفُسِهِمْ اغْتِنَامًا وَاسْتِرْقَاقًا حَتَّى لَوْ قَاتَلَ لَا يَمْلِكُ الرَّضْخَ بَلْ يَمْلِكُهُ مَوْلَاهُ وَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الْقَتْلِ أَيْضًا لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْهُ لِحَقِّ الْمَوْلَى شَرْعًا. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ تَبَيَّنَ أَنَّ إيمَانَهُ تَصَرُّفٌ عَلَى الْغَيْرِ ابْتِدَاءً بِطَرِيقِ الْوِلَايَةِ وَلَا وِلَايَةَ عَلَى الْغَيْرِ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَثْبُتُ إذَا كَانَ كَامِلَ الْوِلَايَةِ فِي نَفْسِهِ وَالْكَمَالُ فِي حَقِّهِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْحُرِّيَّةِ فَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ إيمَانُهُ وَبِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِلْجِهَادِ أَصْلًا يَعْنِي أَنَّ الْإِيمَانَ مِنْ تَوَابِعِ الْقِتَالِ وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ الْجِهَادَ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِالنَّفْسِ أَوْ بِالْمَالِ وَنَفْسُهُ مَمْلُوكَةٌ لِغَيْرِهِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ مِلْكِ الْمَالِ فَلَا يَمْلِكُ الْإِيمَانَ كَالذِّمِّيِّ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ بَيَانُهُ أَنَّ الْإِيمَانَ وَإِنْ كَانَ تَرَكَ الْقِتَالَ صُورَةً لَكِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْجِهَادِ مَعْنًى لِأَنَّهُ قَدْ تَتَّفِقُ حَالَةٌ يَكُونُ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ فَتَكُونُ الْمَصْلَحَةُ فِي الْإِيمَانِ لِيَسْتَعِدُّوا لِلْجِهَادِ بَعْدُ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْجِهَادِ مِنْ جُمْلَتِهِ وَتَوَابِعِهِ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ شَرِّ الْكُفَّارِ وَإِعْزَازُ الدِّينِ وَبِالْإِيمَانِ يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ كَمَا يَحْصُلُ بِالْجِهَادِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَبَعٌ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الْأَصْلَ وَهُوَ الْجِهَادُ فَلَا يَمْلِكُ مَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِهِ لِأَنَّ عَدَمَ الْأَصْلِ بِأَيِّ عِلَّةٍ كَانَتْ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّابِعِ لِأَنَّ وُجُودَ التَّبَعِ بِوُجُودِ الْأَصْلِ لَا بِعِلَّةِ الْأَصْلِ وَلَا مَعْنَى لِمَا قَالُوا إنَّهُ بِالْإِيمَانِ الْتَزَمَ حُرْمَةَ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِي نُفُوسِهِمْ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْجِهَادِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ كَانَ مُلْزِمًا غَيْرَهُ ابْتِدَاءً لَا مُلْتَزِمًا وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ. فَأَمَّا عَقْدُ الذِّمَّةِ فَيَتَمَحَّضُ مَنْفَعَةً لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْكُفَّارَ إذَا طَلَبُوا ذَلِكَ يُفْتَرَضُ عَلَى الْإِمَامِ إجَابَتُهُمْ إلَيْهِ فَيَصِحُّ مِنْ الْعَبْدِ كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ أَمَّا الْإِيمَانُ فَمُتَرَدَّدٌ بَيْنَ الْمَنْفَعَةِ وَالضَّرَرِ وَلِهَذَا لَا يُفْتَرَضُ إجَابَةُ الْكُفَّارِ إلَيْهِ إذَا طَلَبُوا ذَلِكَ وَفِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فِي الِاسْتِغْنَامِ وَالِاسْتِرْقَاقِ فَلَا يَمْلِكُهُ أَلَا تَرَى أَنَّ التَّصَرُّفَ الَّذِي يُوهِمُ الضَّرَرَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى خَاصَّةً كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لَا يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ بِنَفْسِهِ فَمَا فِيهِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْلِكَهُ وَيَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا صِحَّةَ إيمَانِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْقِتَالِ بِالْإِجْمَاعِ فَأَجَابَ وَقَالَ وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا لَهُ بِالْجِهَادِ لَمْ يَصِرْ بِالْإِذْنِ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ لِبَقَاءِ الْمُنَافِي وَهُوَ الرِّقُّ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ إيمَانُهُ بَعْدَ الْإِذْنِ كَمَا لَا يَصِحَّ شَهَادَتُهُ وَقَضَاؤُهُ وَجَمِيعُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْوِلَايَةِ لَكِنَّهُ إنَّمَا صَحَّ لِأَنَّ الْأَمَانَ أَيْ الْإِيمَانُ بِسَبَبِ الْإِذْنِ فِي الْجِهَادِ يَخْرُجُ عَنْ أَقْسَامِ الْوِلَايَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَأْذُونَ لَهُ فِي الْجِهَادِ صَارَ شَرِيكًا فِي الْغَنِيمَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ اسْتَحَقَّ رَضْخًا فِيهَا وَإِذَا آمَنَ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ فِي الْغَنِيمَةِ فَلَزِمَهُ حُكْمُ الْإِيمَانِ ثُمَّ تَعَدَّى إلَى الْغَيْرِ لِعَدَمِ تَجَزُّئِهِ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْإِيمَانُ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ فَيَصِحُّ مِثْلُ شَهَادَتِهِ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ حَيْثُ تَصِحُّ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ بَلْ هِيَ الْتِزَامُ الصَّوْمِ عَلَى نَفْسِهِ أَوَّلًا ثُمَّ تَعَدَّى الْحُكْمُ إلَى غَيْرِهِ فَإِنْ قِيلَ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَنْ الْقِتَالِ مِثْلُ الْمَأْذُونِ لَهُ اسْتِحْقَاقُ الرَّضْخِ إذَا قَاتَلَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ إيمَانُهُ لِشَرِكَتِهِ فِي الْغَنِيمَةِ أَيْضًا قُلْنَا قَدْ ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا قَاتَلَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ لَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ أَهْلًا لَهُ عِنْدَ إذْنِ

وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ صَحَّ إقْرَارُهُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَصَحَّ بِالسَّرِقَةِ الْمُسْتَهْلَكَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَوْلَى فَيَكُونُ حَالُهُ كَحَالِ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمِنِ إنْ قَاتَلَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ يَسْتَحِقُّ الرَّضْخَ وَإِلَّا فَلَا. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُرْضَخُ لَهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَنْ الِاكْتِسَابِ وَعَمَّا يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَةً فَيَكُونُ هُوَ كَالْمَأْذُونِ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى دَلَالَةً لِأَنَّهُ إنَّمَا حُجِرَ عَنْ الْقِتَالِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَشْغُولًا بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى حَالَةَ الْقِتَالِ وَرُبَّمَا يُقْتَلُ فَإِذَا فَرَغَ عَنْ الْقِتَالِ سَالِمًا وَأَصَابَ الْغَنِيمَةَ وَزَالَ الضَّرَرُ يَثْبُتُ الْإِذْنُ مِنْهُ دَلَالَةً وَهُوَ نَظِيرُ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِي الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ إذَا آجَرَ نَفْسَهُ وَسَلِمَ مِنْ الْعَمَلِ وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَرِيكًا فِي الْغَنِيمَةِ حِينَ آمَنَهُمْ أَمَّا عَلَى وَجْهِ الْقِيَاسِ فَظَاهِرٌ وَكَذَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ لَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِتَالِ لَا قَبْلَهُ وَحِينَ ثَبَتَتْ الشَّرِكَةُ لَمْ يَبْقَ وَقْتُ الْإِيمَانِ وَحِينَ آمَنَهُمْ لَمْ تَكُنْ الشَّرِكَةُ ثَابِتَةً فَيَكُونَ الْإِيمَانُ مِنْهُ تَعْرِيضًا لِحَقِّ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِبْطَالِ ابْتِدَاءً لِأَنَّ حَقَّهُمْ حِينَ آمَنَ ثَابِتٌ بِالنَّظَرِ إلَى السَّبَبِ فَكَانَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ وَأَجَابَ الْإِمَامُ الْبُرَغْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْهُ بِأَنَّ الْإِيمَانَ إنَّمَا شُرِعَ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى الْقِتَالِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِالِاسْتِعْدَادِ كَمَا ذَكَرْنَا فَيَمْلِكُهُ مَنْ يَمْلِكُ الْقِتَالَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهَذَا الْعَبْدُ الَّذِي قَاتَلَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى وَاسْتَحَقَّ الرَّضْخَ مَحْجُورٌ عَنْ الْقِتَالِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِصِحَّةِ قِتَالِهِ وَرَفَعْنَا الْحَجْرَ عَنْهُ فِي الْمَاضِي لَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يَمْلِكُ الْإِيمَانَ وَهُوَ مِثْلُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا وَبَاعَهُ وَرَبِحَ رِبْحًا كَثِيرًا كَانَ تَصَرُّفُهُ نَافِذًا وَالرِّبْحُ سَالِمًا لِلْمَوْلَى لِأَنَّ تَنْفِيذَ تَصَرُّفِهِ نَفْعٌ مَحْضٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَلَكِنَّهُ لَوْ تَبَرَّعَ بِشَيْءٍ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ التَّبَرُّعَ إنَّمَا صَارَ مَشْرُوعًا فِي حَقِّهِ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى التِّجَارَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالْحَجْرُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَائِمٌ فَلَا يَصِحُّ التَّبَرُّعُ مِنْهُ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ لِلْعَبْدِ فِي الْغَنِيمَةِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الرِّقَّ يُنَافِي مَالِكِيَّةَ الْمَالِ بَلْ الشَّرِكَةُ إنَّمَا تَثْبُتُ لِمَوْلَاهُ لِأَنَّ رَضْخَ الْعَبْدِ لَهُ لَا لِلْعَبْدِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْعَبْدَ الْمُقَاتِلَ إذَا أُعْتِقَ بَعْدَمَا أَصَابُوا غَنَائِمَ فَإِنَّهُ يُرْضَخَ لِمَوْلَاهُ مِنْهَا وَلَوْ أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ الْمُقَاتِلُ بَعْدَ إصَابَةِ الْغَنِيمَةِ فَإِنَّهُ يُسْهَمُ لَهُ لِأَنَّ بِإِسْلَامِ الذِّمِّيِّ لَا يَتَبَدَّلُ الْمُسْتَحَقُّ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْإِسْلَامُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السَّبَبِ وَيُعْتَقُ الْعَبْدُ بِتَبَدُّلِ الْمُسْتَحَقِّ لِأَنَّ الرَّضْخَ يَكُونُ لِمَوْلَاهُ مُسْتَحَقًّا بِالْعَبْدِ كَمَا يَكُونُ السَّهْمُ لَهُ مُسْتَحَقًّا بِالْفَرَسِ وَبَعْدَ الْعِتْقِ الِاسْتِحْقَاقُ لِلْعَبْدِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْعِتْقُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السَّبَبِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ اسْتِحْقَاقَ الْمَوْلَى أَصْلًا فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا شَرِكَةَ لِلْعَبْدِ أَصْلًا فِي الْغَنِيمَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ إيمَانُهُ وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا فِي الْجِهَادِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ إلْزَامًا عَلَى الْغَيْرِ ابْتِدَاءً قُلْنَا الِاسْتِحْقَاقُ ثَابِتٌ لِلْعَبْدِ لِأَنَّهُ إنْسَانٌ مُخَاطَبٌ وَلَكِنَّ الْمَوْلَى يَخْلُفُهُ فِي مِلْكِ الْمُسْتَحَقِّ كَمَا يَخْلُفُهُ فِي مِلْكِ سَائِرِ أَكْسَابِهِ فَيَكُونُ الشَّرِكَةُ ثَابِتَةً نَظَرًا إلَى السَّبَبِ بِخِلَافِ الْفَرَسِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ أَصْلًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَبْدَ الْمُقَاتِلَ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ لَوْ مَاتَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ وَالْقِسْمَةِ لَا شَيْءَ لِمَوْلَاهُ اعْتِبَارًا بِمَوْتِ مَنْ لَهُ سَهْمٌ وَلَوْ مَاتَ الْفَرَسُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَوْ بَعْدَمَا جَاوَزَ الدَّرْبَ لَا يَبْطُلُ سَهْمُ الْفَارِسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ) وَهُوَ أَنَّ الرِّقَّ لَا يُنَافِي مَالِكِيَّةَ غَيْرِ الْمَالِ مِنْ الدَّمِ وَالْحَيَاةِ صَحَّ إقْرَارُ الْعَبْدِ مَحْجُورًا كَانَ أَوْ مَأْذُونًا بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ أَيْ بِمَا يُوجِبُ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُبْقًى عَلَى

وَبِالْقَائِمَةِ صَحَّ مِنْ الْمَأْذُونِ وَفِي الْمَحْجُورِ اخْتِلَافٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَصِحُّ بِهِمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَصِحُّ بِهِمَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَصِحُّ بِالْحَدِّ دُونَ الْمَالِ وَذَلِكَ إذَا كَذَّبَهُ الْمَوْلَى. ـــــــــــــــــــــــــــــQأَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ الدَّمِ وَالْحَيَاةِ حَتَّى لَمْ يَمْلِكْ الْمَوْلَى إرَاقَةَ دَمِهِ وَإِتْلَافَ حَيَاتِهِ وَلَمْ يَصِحَّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ كَانَ إقْرَارُهُ مُلَاقِيًا حَقَّ نَفْسِهِ قَصْدًا فَيَصِحُّ كَمَا يَصِحُّ مِنْ الْحُرِّ وَلَا يَمْنَعُ صِحَّتَهُ لُزُومُ إتْلَافِ مَالِيَّتِهِ الَّتِي هِيَ حَقُّ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ بِطَرِيقِ التَّبَعِ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْأَمَانِ بِخِلَافِ إقْرَارِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ بِالْمَالِ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ يُلَاقِي حَقَّ الْغَيْرِ وَهُوَ الْمَالِيَّةُ قَصْدًا فَيَمْنَعُ الصِّحَّةَ ضَرُورَةً وَصَحَّ إقْرَارُ الْعَبْدِ بِالسَّرِقَةِ الْمُسْتَهْلَكَةِ مَأْذُونًا كَانَ أَوْ مَحْجُورًا عِنْدَنَا حَتَّى وَجَبَ الْقَطْعُ وَلَمْ يَجِبْ ضَمَانُ الْمَالِ. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا قَطْعَ عَلَيْهِ وَيُؤْخَذُ بِضَمَانِ الْمَالِ فِي الْحَالِ إنْ كَانَ مَأْذُونًا وَبَعْدَ الْعِتْقِ إنْ كَانَ مَحْجُورًا لِأَنَّ إقْرَارَهُ فِي حَقِّ الْمَالِ يُلَاقِي حَقَّهُ إنْ كَانَ مَأْذُونًا فَإِنَّهُ يُلَاقِي ذِمَّتَهُ وَهُوَ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ فِي ذَلِكَ فَأَمَّا فِي حَقِّ الْقَطْعِ فَيُلَاقِي نَفْسَهُ وَالْفَكُّ بِحُكْمِ الْإِذْنِ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِأَنَّ نَفْسَهُ لِفُلَانٍ كَانَ إقْرَارُهُ بَاطِلًا فَكَذَا إقْرَارُهُ بِمَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ نَفْسِهِ أَوْ جُزْءًا مِنْهَا يَكُونُ بَاطِلًا. وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَى الْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ آدَمِيٌّ مُخَاطَبٌ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَالٌ مَمْلُوكٌ وَهُوَ فِي هَذَا الْمَعْنَى مِثْلُ الْحُرِّ مَأْذُونًا كَانَ أَوْ مَحْجُورًا فَإِقْرَارُهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى اسْتِحْقَاقِ الْجُزْءِ كَإِقْرَارِ الْحُرِّ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى الْإِقْرَارَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَمَا لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ فَالْعَبْدُ فِيهِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْحُرِّ كَالطَّلَاقِ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي إقْرَارِهِ لِأَنَّ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّرَرِ بِاسْتِيفَاءِ الْعُقُوبَةِ مِنْهُ فَوْقَ مَا يَلْحَقُ الْمَوْلَى وَالْإِقْرَارُ حُجَّةٌ عِنْدَ انْتِفَاءِ التُّهْمَةِ وَبِالْقَائِمَةِ صَحَّ مِنْ الْمَأْذُونِ يَعْنِي إذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ بِسَرِقَةِ مَالٍ قَائِمٍ بِعَيْنِهِ فِي يَدِهِ صَحَّ فِي حَقِّ الْمَالِ بِالْإِجْمَاعِ فَيَرُدُّ عَلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ لِأَنَّ إقْرَارَهُ فِي حَقِّ الْمَالِ لَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَهُوَ الْكَسْبُ لِأَنَّهُ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ فِي ذَلِكَ فَيَصِحُّ وَفِي حَقِّ الْقَطْعِ صَحَّ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِمَا مَرَّ مِنْ الْوَجْهَيْنِ وَفِي الْمَحْجُورِ اخْتِلَافٌ مَعْرُوفٌ وَإِذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ بِسَرِقَةِ مَالٍ قَائِمٍ فِي يَدِهِ بِعَيْنِهِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِهِمَا أَيْ بِالْحَدِّ وَالْمَالِ فَيُقْطَعُ يَدُهُ وَيُرَدُّ الْمَالُ عَلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَصِحُّ بِهِمَا فَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ وَلَا الرَّدُّ عَلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْضًا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَصِحُّ بِالْحَدِّ دُونَ الْمَالِ فَيُقْطَعُ يَدُهُ وَيَكُونُ الْمَالُ لِلْمَوْلَى وَذَلِكَ أَيْ الِاخْتِلَافُ الْمَذْكُورُ فِيمَا إذَا كَذَّبَهُ الْمَوْلَى وَقَالَ الْمَالُ مَالِي فَأَمَّا إذَا صَدَّقَهُ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ وَيَرُدُّ الْمَالَ إلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ بِلَا خِلَافٍ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ إقْرَارَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بَاطِلٌ لِأَنَّ كَسْبَهُ مِلْكُ مَوْلَاهُ وَمَا فِي يَدِهِ كَأَنَّهُ فِي يَدِ الْمَوْلَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ فِيهِ بِالْغَصْبِ لَا يَصِحُّ فَكَذَلِكَ بِالسَّرِقَةِ وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ الْمَالِ بَقِيَ الْمَالُ عَلَى مِلْكِ مَوْلَاهُ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقْطَعَ فِي هَذَا الْمَالِ لِأَنَّهُ مِلْكُ الْمَوْلَى وَلَا فِي مَالٍ آخَرَ لِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ بِالسَّرِقَةِ فِيهِ ثُمَّ الْمَالُ أَصْلٌ فِي هَذَا الْبَابِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ لَوْ قَالَ أَبْغِي الْمَالَ دُونَ الْقَطْعِ تُسْمَعُ خُصُومَتُهُ وَعَلَى الْعَكْسِ لَا تُسْمَعُ وَإِنَّ الْمَالَ يَثْبُتُ بِدُونِ الْقَطْعِ وَلَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ الْقَطْعِ قَبْلَ ثُبُوتِ الْمَالِ فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ فِيمَا هُوَ الْأَصْلُ لَمْ يَصِحَّ فِيمَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ أَيْضًا وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ أَقَرَّ بِشَيْئَيْنِ بِالْقَطْعِ وَبِالْمَالِ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْقَطْعِ دُونَ الْمَالِ فَيَثْبُتُ مَا كَانَ إقْرَارُهُ فِيهِ حُجَّةً دُونَ الْآخَرِ لِأَنَّ أَحَدَ الْحُكْمَيْنِ يَنْفَصِلُ عَنْ الْآخَرِ

وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قُلْنَا فِي جِنَايَاتِ الْعَبْدِ خَطَأً أَنَّ رَقَبَتَهُ يَصِيرُ جَزَاءً لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ ضَمَانِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يَثْبُتُ الْمَالُ دُونَ الْقَطْعِ كَمَا إذَا شَهِدَ بِالسَّرِقَةِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ الْقَطْعُ دُونَ الْمَالِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِسَرِقَةِ مَالٍ يَسْتَهْلِكُ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قَبُولِ إقْرَارِهِ فِي حَقِّ الْقَطْعِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ فِي ذَلِكَ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ وَلِأَنَّ الْقَطْعَ هُوَ الْأَصْلُ فَإِنَّ الْقَاضِي يَقْضِي بِالْقَطْعِ إذَا ثَبَتَ السَّرِقَةُ عِنْدَهُ بِالْبَيِّنَةِ ثُمَّ مِنْ ضَرُورَةِ وُجُوبِ الْقَطْعِ عَلَيْهِ كَوْنُ الْمَالِ مَمْلُوكًا لِغَيْرِ مَوْلَاهُ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يُقْطَعَ الْعَبْدُ فِي مَالٍ هُوَ مَمْلُوكٌ لِمَوْلَاهُ وَبِثُبُوتِ الشَّيْءِ يَثْبُتُ مَا كَانَ ضَرُورَتُهُ كَمَا لَوْ بَاعَ أَحَدَ التَّوْأَمَيْنِ فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ نَسَبَ الَّذِي عِنْدَهُ يَثْبُتُ نَسَبُ الْآخَرِ مِنْهُ وَيَبْطُلُ عِتْقُ الْمُشْتَرِي فِيهِ لِلضَّرُورَةِ فَهَذَا مِثْلُهُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ) وَهُوَ أَنَّ الرِّقَّ يُنَافِي مَالِكِيَّةَ الْمَالِ أَوْ أَنَّ الرِّقَّ يُنَافِي كَمَالَ الْحَالِ فِي أَهْلِيَّةِ الْكَرَامَاتِ حَتَّى أَنَّ ذِمَّتَهُ ضَعُفَتْ بِرِقِّهِ بِحَيْثُ لَمْ تَحْتَمِلْ الدَّيْنَ بِنَفْسِهَا قُلْنَا فِي جِنَايَاتِ الْعَبْدِ خَطَأً أَنَّ رَقَبَتَهُ تَصِيرُ جَزَاءً أَيْ يَصِيرُ الْعَبْدُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ جَزَاءً بِجِنَايَتِهِ وَالْوُجُوبُ عَلَى الْمَوْلَى دُونَ الْعَبْدِ فَيُقَالُ لِلْمَوْلَى عَلَيْك تَسْلِيمُ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ إلَى وَلِيِّهَا إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْفِدَاءَ بِالْأَرْشِ فَيُخَيَّرَ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ بِالْجِنَايَةِ كَمَا وَجَبَ أَوْ الْفِدَاءِ بِالْأَرْشِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حُكْمُ جِنَايَتِهِ عَلَى الْآدَمِيِّ كَحُكْمِ جِنَايَتِهِ عَلَى الْبَهِيمَةِ وَإِتْلَافِ الْمَالِ فَيُقَالُ لِلْمَوْلَى إمَّا أَنْ تُؤَدِّيَ أَوْ يُبَاعَ عَلَيْك الْعَبْدُ فَيَكُونُ الْوُجُوبُ عَلَى الْعَبْدِ فِي الْأَصْلِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَالْخِلَافُ يَظْهَرُ فِي اتِّبَاعِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ فَعِنْدَهُ يُؤَاخَذُ بِتَكْمِيلِ الْأَرْشِ بَعْدَ الْعِتْقِ وَعِنْدَنَا لَا يُؤَاخَذُ بِهِ هُوَ يَقُولُ الْأَصْلُ فِي ضَمَانِ الْجِنَايَةِ وُجُوبُهُ عَلَى الْجَانِي وَأَوْجَبَ الشَّرْعُ عَلَى الْعَاقِلَةِ حِمَالَةً عَنْهُ بِطَرِيقِ الْمُوَاسَاةِ بِعُذْرِ الْخَطَأِ وَلَا عَاقِلَةَ لِلْعَبْدِ لِأَنَّ الْعَقْلَ بِالْقَرَابَةِ وَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُهَا بِالرِّقِّ بِالْإِجْمَاعِ فَبَقِيَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ فَيُبَاعُ فِيهِ وَيُسْتَوْفَى مِنْهُ بَعْدَ الْعِتْقِ فَأَمَّا وُجُوبُ الدَّفْعِ فَغَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي مَوْضِعٍ عَلَى أَنَّ فِي شَرْعِ الدَّفْعِ تَسْوِيَةً بَيْنَ قِلَّةِ الْجِنَايَةِ وَكَثْرَتِهَا وَهِيَ مِمَّا يَرُدُّهُ الْقِيَاسُ وَنَحْنُ نَقُولُ الْوَاجِبُ فِي بَابِ الْقَتْلِ ضَمَانُ هُوَ صِلَةٌ فِي جَانِبِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ يَهَبُ شَيْئًا مُبْتَدَأ لِأَنَّ كَوْنَ الْمُتْلَفِ غَيْرُ مَالٍ يُنَافِي وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَى الْمُتْلِفِ وَكَوْنَ الدَّمِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُهْدَرَ يُوجِبُ الْحَقَّ لِلْمُتْلَفِ عَلَيْهِ فَوَجَبَ الضَّمَانُ صِلَةً فِي جَانِبِ الْمُتْلِفِ وَعِوَضًا فِي جَانِبِ الْمُتْلَفِ عَلَيْهِ وَلِكَوْنِهِ صِلَةً لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالدِّيَةِ كَمَا لَا تَصِحُّ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ كَأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ بَعْدُ وَلَا يَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا إلَّا بِحَوْلٍ بَعْدَ الْقَبْضِ كَأَنَّهَا هِبَةٌ ثُمَّ كَوْنُ هَذَا الضَّمَانِ صِلَةً يَمْنَعُ الْوُجُوبَ عَلَى الْعَبْدِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلصِّلَةِ وَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ صِلَةَ الْأَقَارِبِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَهَبَ شَيْئًا وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ إيجَابُهُ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ صِلَةً وَلَا عَاقِلَةَ لَهُ بِالْإِجْمَاعِ لِيَجِبَ عَلَيْهِمْ وَلَا يُمْكِنُ إهْدَارُ الدَّمِ جَعَلَ الشَّرْعُ رَقَبَةَ الْعَبْدِ مَقَامَ الْأَرْشِ حَتَّى لَا يَكُونَ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى الْعَبْدِ وَلَا يَصِيرُ الدَّمُ هَدَرًا أَيْضًا إذْ الْأَصْلُ فِي الدَّمِ أَنْ يَضْمَنَ بِقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَلِأَنَّ فِي ضَمَانِ الِاسْتِهْلَاكِ وَجَبَ الضَّمَانُ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ وَإِذَا تَبِعَ فِيهِ صَارَ فِي الْمَالِ ذَاهِبًا فِيهِ وَقَدْ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ هَاهُنَا لِكَوْنِ الْوَاجِبِ صِلَةً فَيُصَارُ إلَى الدَّفْعِ لِأَنَّ فِيهِ ذَهَابَهُ بِالْجِنَايَةِ وَهُوَ مَالُ ضَمَانِ الِاسْتِهْلَاكِ وَلِهَذَا لَمْ يَخْتَلِفْ الْحُكْمُ بِقِلَّةِ الْجِنَايَةِ وَكَثْرَتِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ يَظْهَرُ فِي حُكْمِ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ وَقَدْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ

وَلَكِنَّهُ صِلَةٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ فَيَصِيرُ عَائِدًا إلَى الْأَصْلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَتَّى لَا يَبْطُلُ بِالْإِفْلَاسِ وَعِنْدَهُمَا يَصِيرُ بِمَعْنَى الْحَوَالَةِ وَهَذَا أَصْلٌ لَا يُحْصَى فُرُوعُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQهَاهُنَا يَصِيرُ إلَى ذَهَابِهِ فِيهِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ التَّفْرِقَةَ. وَقَوْلُهُ وَلَكِنَّهُ صِلَةٌ مِنْ تَتِمَّةِ قَوْلِهِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى مَا وَكَأَنَّهُ احْتَرَزَ بِهِ عَنْ وُجُوبِ الْمَهْرِ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ يَجِبُ مُقَابَلًا بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ وَهُوَ مِلْكُ النِّكَاحِ أَوْ مَنَافِعُ الْبُضْعِ إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ عِوَضًا عَمَّا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْمِلْكِ أَوْ الْمَنَافِعِ الْمُسْتَوْفَاةِ فَلَا يَكُونُ صِلَةً وَالضَّمَانُ هَاهُنَا يَجِبُ عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلَ فِي مِلْكِهِ شَيْءٌ فَكَانَ صِلَةً قَوْلُهُ (إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ يَصِيرُ جَزَاءً أَيْ يَصِيرُ رَقَبَتُهُ جَزَاءً فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إلَّا حَالَ مِشْيَةِ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ فَيَصِيرُ أَيْ الْوَاجِبُ عَائِدًا إلَى الْأَصْلِ وَهُوَ الْأَرْشُ فَإِنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْخَطَأِ عِنْدَهُ وَالنَّقْلُ إلَى الدَّفْعِ لِعَارِضِ الرِّقِّ فَإِذَا أَعَادَ الْأَمْرَ إلَى الْأَصْلِ لَا يَبْطُلُ بِالْإِفْلَاسِ وَعِنْدَهُمَا يَصِيرُ الْوَاجِبُ بِمَعْنَى الْحَوَالَةِ أَيْ بِمَعْنَى الْحَالِ بِهِ عَلَى الْمَوْلَى أَوْ يَصِيرُ الْتِزَامُهُ الْفِدَاءَ بِمَعْنَى الْحَوَالَةِ كَانَ الْعَبْدُ أَحَالَ بِالْوَاجِبِ عَلَى الْمَوْلَى فَيَعُودُ بِالْإِفْلَاسِ إلَى رَقَبَتِهِ كَمَا فِي الْحَوَالَةِ الْحَقِيقَةِ وَحَاصِلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا اخْتَارَ الْفِدَاءَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يُؤَدِّيهِ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ كَانَ الْأَرْشُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَالْعَبْدُ عَبْدُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا سَبِيلَ لِغَيْرِهِ عَلَيْهِ. وَعِنْدَهُمَا إنْ أَدَّى الدِّيَةَ مَكَانَهُ وَإِلَّا دَفَعَ الْعَبْدَ إلَى الْأَوْلِيَاءِ إلَّا إنْ رَضَوْا بِأَنْ يَبِيعُوهُ بِالدِّيَةِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَرْجِعُوا عَلَى الْعَبْدِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ نَفْسَ الْعَبْدِ صَارَ حَقًّا لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ إلَّا أَنَّ الْمَوْلَى يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْوِيلِ حَقِّهِمْ مِنْ الْعَبْدِ إلَى الْأَرْشِ بِاخْتِيَارِهِ الْفِدَاءَ فَإِذَا أَعْطَاهُمْ الْأَرْشَ كَانَ هَذَا تَحْوِيلًا لِحَقِّهِمْ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ فِيهِ وَفَاءً لِحَقِّهِمْ فَيَكُونُ صَحِيحًا مِنْهُ وَإِذَا كَانَ مُفْلِسًا كَانَ هَذَا إبْطَالًا لِحَقِّهِمْ لَا تَحْوِيلًا إلَى مَحَلٍّ يُعَدُّ لَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ بَاطِلًا مِنْ الْمَوْلَى وَهَذَا لِأَنَّ الْخِيَارَ لِلْمَوْلَى بِطَرِيقِ النَّظَرِ مِنْ الشَّرْعِ لَهُ إنَّمَا ثَبَتَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ صَاحِبُ الْحَقِّ فَإِذَا آلَ إلَى الضَّرَرِ كَانَ بَاطِلًا كَمَا فِي الْحَوَالَةِ فَإِنَّ انْتِقَالَ الدَّيْنِ إلَى ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ ثَابِتٌ بِشَرْطِ أَنْ يُسَلِّمَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ عَادَ إلَى الْمُحِيلِ كَمَا كَانَ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ الْجَانِي هُوَ الْمَصْرُوفُ إلَى جِنَايَتِهِ كَمَا فِي الْعَمْدِ وَإِنَّمَا صِيرَ إلَى الْأَرْشِ فِي الْخَطَأِ إذَا كَانَ الْجَانِي حُرًّا لِتَعَذُّرِ الدَّفْعِ فَكَانَ اخْتِيَارُ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ نَقْلًا مِنْ الْأَصْلِ إلَى الْعَارِضِ فَكَانَ بِمَعْنَى الْحَوَالَةِ كَانَ صَاحِبُ الْحَقِّ أُحِيلَ عَلَى الْمَوْلَى فَإِذَا تَوَى مَا عَلَيْهِ بِإِفْلَاسِهِ يَعُودُ إلَى الْأَصْلِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحَوَالَاتِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ فِي جِنَايَةِ الْعَبْدِ قَدْ خُيِّرَ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ وَالْمُخَيَّرُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ إذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ وَاجِبًا مِنْ الْأَصْلِ كَالْمُكَفِّرِ إذَا اخْتَارَ أَحَدَ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ فَهَاهُنَا بِاخْتِيَارِهِ الْفِدَاءَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الدِّيَةُ فِي ذِمَّةِ الْمَوْلَى مِنْ الْأَصْلِ وَإِنَّ الْعَبْدَ فَارِغٌ مِنْ الْجِنَايَةِ فَلَا يَكُونُ لِأَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ وَلِأَنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ هُوَ الْأَرْشُ فَإِنَّهُ هُوَ الثَّابِتُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] . وَفِي الْعَبْدِ إنَّمَا صِيرَ إلَى الدَّفْعِ ضَرُورَةً أَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلصِّلَةِ فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ الضَّرُورَةُ بِاخْتِيَارِ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ عَادَ الْأَمْرُ إلَى الْأَصْلِ فَلَا يَبْطُلُ بِالْإِفْلَاسِ وَقِيلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ فِي التَّحْقِيقِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي التَّفْلِيسِ فَعِنْدَهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ التَّفْلِيسُ مُعْتَبَرًا لِأَنَّ الْمَالَ غَادٍ وَرَائِحٌ كَانَ هَذَا التَّصَرُّفُ مِنْ الْمَوْلَى تَحْوِيلًا لِحَقِّ الْأَوْلِيَاءِ إلَى ذِمَّتِهِ لَا إبْطَالًا وَعِنْدَهُمَا لَمَّا كَانَ التَّفْلِيسُ مُعْتَبَرًا وَالْمَالُ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ كَانَ تَاوِيًا كَانَ هَذَا

وَأَمَّا الْمَرَضُ فَإِنَّهُ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْحُكْمِ وَلَا أَهْلِيَّةَ الْعِبَارَةِ وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ سَبَبَ الْمَوْتِ وَالْمَوْتُ عَجْزٌ خَالِصٌ كَانَ الْمَرَضُ مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ وَلَمَّا كَانَ الْمَوْتُ عِلَّةَ الْخِلَافَةِ كَانَ الْمَرَضُ مِنْ أَسْبَابِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْوَارِثِ وَالْغَرِيمِ بِمَا لَهُ وَلَمَّا كَانَ عَجْزًا شُرِعَتْ الْعِبَادَاتُ عَلَيْهِ بِقَدْرِ الْمُكْنَةِ وَلَمَّا كَانَ مِنْ أَسْبَابِ تَعَلُّقِ الْحُقُوقِ فَكَانَ مِنْ أَسْبَابِ الْحَجْرِ بِقَدْرِ مَا يَقَعُ بِهِ صِيَانَةُ الْحَقِّ حَتَّى لَا يُؤَثِّرَ الْمَرَضُ فِيمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ غَرِيمٍ وَلَا وَارِثٍ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِهِ الْحَجْرُ إذَا اتَّصَلَ بِالْمَوْتِ مُسْتَنِدًا إلَى أَوَّلِهِ فَقِيلَ كُلُّ تَصَرُّفٍ وَاقِعٌ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَإِنَّ الْقَوْلَ بِصِحَّتِهِ وَاجِبٌ لِلْحَالِ ثُمَّ التَّدَارُكُ بِالنَّقْصِ إنْ اُحْتِيجَ إلَيْهِ مِثْلُ الْهِبَةِ وَبَيْعِ الْمُحَابَاةِ وَكُلُّ تَصَرُّفٍ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْصَ جُعِلَ كَالْمُتَعَلِّقِ بِالْمَوْتِ كَالْإِعْتَاقِ إذَا وَقَعَ عَلَى حَقِّ الْغَرِيمِ أَوْ الْوَارِثِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالِاخْتِيَارُ مِنْ الْمَوْلَى إبْطَالًا لِحَقِّ الْأَوْلِيَاءِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ وَهَذَا أَيْ الرِّقُّ بِجَمِيعِ أَحْكَامِهِ الَّتِي بَيَّنَّا أَصْلٌ لَا يُحْصَى فُرُوعُهُ قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْمَرَضُ فَكَذَا) قِيلَ الْمَرَضُ حَالَةٌ لِلْبَدَنِ خَارِجَةٌ عَنْ الْمَجْرَى الطَّبِيعِيِّ وَعِبَارَةُ بَعْضِهِمْ هُوَ هَيْئَةٌ لِلْحَيَوَانِ يَزُولُ بِهَا اعْتِدَالُ الطَّبِيعَةِ وَالْمَذْكُورُ فِي بَعْضِ كُتُبِ الطِّبِّ أَنَّ الْمَرَضَ هَيْئَةٌ غَيْرُ طَبِيعِيَّةٍ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ يَجِبُ عَنْهَا بِالذَّاتِ آفَةٌ فِي الْفِعْلِ وَآفَةُ الْفِعْلِ ثَلَاثٌ التَّغَيُّرُ وَالنُّقْصَانُ وَالْبُطْلَانُ فَالتَّغَيُّرُ أَنْ يَتَخَيَّلَ صُوَرًا لَا وُجُودَ لَهَا خَارِجًا وَالنُّقْصَانُ أَنْ يَضْعُفَ بَصَرُهُ مَثَلًا وَالْبُطْلَانُ الْعَمَى وَأَنَّهُ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْحُكْمِ أَيْ ثُبُوتَ الْحُكْمِ وَوُجُوبَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ أَوْ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَالْقِصَاصِ وَنَفَقَةِ الْأَزْوَاجِ وَالْأَوْلَادِ وَالْعَبْدِ. وَلَا أَهْلِيَّةَ الْعِبَارَةِ لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالْعَقْلِ وَلَا يَمْنَعُهُ عَنْ اسْتِعْمَالِهِ حَتَّى صَحَّ نِكَاحُ الْمَرِيضِ وَطَلَاقُهُ وَإِسْلَامُهُ وَانْعَقَدَ تَصَرُّفَاتُهُ وَجَمِيعُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعِبَارَةِ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ الْمَرَضُ مُنَافِيًا لِلْأَهْلِيَّتَيْنِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ عَلَى الْمَرِيضِ الْعِبَادَاتُ كَامِلَةً كَمَا تَجِبُ عَلَى الصَّحِيحِ وَأَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِمَالِهِ حَقُّ الْغَيْرِ وَلَا يَثْبُتُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ سَبَبَ الْمَوْتِ بِوَاسِطَةِ تَرَادُفِ الْآلَامِ وَالْمَوْتُ عَجْزٌ خَالِصٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا لَيْسَ فِيهِ يَشُوبُ الْقُدْرَةَ بِوَجْهٍ كَانَ الْمَرَضُ مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ أَيْ مُوجِبًا لَهُ بِزَوَالِ الْقُوَّةِ وَانْتِقَاصِهَا وَلَمَّا كَانَ الْمَوْتُ عِلَّةً لِخِلَافَةِ الْوَرَثَةِ وَالْغُرَمَاءِ فِي الْمَالِ لِأَنَّ بِالْمَوْتِ يَبْطُلُ أَهْلِيَّةُ الْمِلْكِ فَيَخْلُفُهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ وَالذِّمَّةُ تَخْرَبُ بِالْمَوْتِ فَيَصِيرُ الْمَالُ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ قَضَاءِ الدَّيْنِ مَشْغُولًا بِالدَّيْنِ فَيَخْلُفُهُ الْغَرِيمُ فِي الْمَالِ كَانَ الْمَرَضُ مِنْ أَسْبَابِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْوَارِثِ وَالْغَرِيمِ بِمَالِهِ فِي الْحَالِ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ بِقَدْرِ دَلِيلِهِ وَلِأَنَّ التَّعَلُّقَ لَمَّا ثَبَتَ بِالْمَوْتِ حَقِيقَةً يَسْتَنِدُ هَذَا الْحُكْمُ إلَى أَوَّلِ الْمَرَضِ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَسْتَنِدُ إلَى أَوَّلِ السَّبَبِ كَمَنْ جَرَحَ رَجُلًا خَطَأً ثُمَّ كَفَّرَ قَبْلَ السِّرَايَةِ ثُمَّ سَرَى يَصِحُّ التَّكْفِيرُ لِأَنَّ وُجُوبَ التَّكْفِيرِ حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَوَاتِ فَيَسْتَنِدُ إلَى سَبَبِ الْقَتْلِ فَيَظْهَرُ فِي الْآخِرَةِ أَنَّهُ أَدَّاهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ فَيَجُوزُ فَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ خَرَابُ الذِّمَّةِ وَتَعَلُّقُ الدَّيْنِ بِالْمَالِ حُكْمُ الْمَوْتِ فَيَسْتَنِدُ إلَى سَبَبِهِ وَهُوَ الْمَرَضُ ثُمَّ لِكَوْنِ الْمَرَضِ مِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ شُرِعَتْ الْعِبَادَاتُ عَلَى الْمَرِيضِ بِقَدْرِ الْمُكْنَةِ أَيْ الطَّاعَةِ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا أَوْ مُسْتَلْقِيًا عَلَى مَا عُرِفَ فِي فُرُوعِ الْفِقْهِ وَلِكَوْنِهِ مِنْ أَسْبَابِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْوَارِثِ وَالْغَرِيمِ بِالْمَالِ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ الْحَجَرِ عَلَى الْمَرِيضِ بِقَدْرِ مَا يَقَعُ بِهِ صِيَانَةُ الْحَقِّ أَيْ حَقُّ الْوَارِثِ وَالْغَرِيمِ وَهُوَ مِقْدَارُ الثُّلُثَيْنِ فِي حَقِّ الْوَارِثِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِهَذَا الْقَدْرِ. وَجَمِيعُ الْمَالِ فِي حَقِّ الْغَرِيمِ إنْ كَانَ الدَّيْنُ مُسْتَغْرِقًا حَتَّى لَا يُؤَثِّرَ الْمَرَضُ أَيْ فِي الْحَجْرِ فِيمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ غَرِيمٍ مِثْلُ مَا زَادَ عَلَى الدَّيْنِ وَلَا وَارِثَ مِثْلُ مَا زَادَ عَلَى ثُلْثَيْ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ أَوْ عَلَى ثُلْثَيْ الْجَمِيعِ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَمِثْلُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَاجَةُ الْمَرِيضِ كَالنَّفَقَةِ وَأُجْرَةِ الطَّبِيبِ وَالنِّكَاحِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَنَحْوِهَا قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِهِ) أَيْ بِالْمَرَضِ الْحَجْرُ إذَا اتَّصَلَ بِالْمَوْتِ مُسْتَنِدًا إلَى أَوَّلِ الْمَرَضِ لِأَنَّ عِلَّةَ الْحَجْرِ مَرَضٌ مُمِيتٌ لَا نَفْسُ الْمَرَضِ فَقَبْلَ وُجُودِ الْوَصْفِ لَا يَثْبُتُ الْحَجْرُ لِعَدَمِ التَّمَامِ بِوَصْفِهِ وَإِذَا اتَّصَلَ بِالْمَوْتِ صَارَ أَصْلُ الْمَرَضِ مَوْصُوفًا بِالْأَمَانَةِ وَالسِّرَايَةِ إلَى الْمَوْتِ مِنْ أَوَّلِهِ لِأَنَّ الْمَوْتَ يَحْصُلُ بِضَعْفِ

وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْمَرِيضُ الْإِيصَاءَ لِمَا قُلْنَا لَكِنَّ الشَّرْعَ جَوَّزَ ذَلِكَ نَظَرًا لَهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ اسْتِخْلَاصًا عَلَى الْوَرَثَةِ بِالْقَلِيلِ لِيَعْلَمَ أَنَّ الْحَجْرَ وَالتُّهْمَةَ فِيهِ أَصْلٌ وَلَمَّا تَوَلَّى الشَّرْعَ الْإِيصَاءَ لِلْوَرَثَةِ وَأَبْطَلَ إيصَاءَهُ لَهُمْ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْقُوَى وَتَرَادُفِ الْآلَامِ وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ الْمَرَضِ مُضْعِفٌ مُوجِبٌ لِأَلَمٍ بِمَنْزِلَةِ جِرَاحَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ سَرَتْ إلَى الْمَوْتِ فَإِنَّهُ يُضَافُ إلَى كُلِّهَا دُونَ الْأَخِيرَةِ فَتَمَّ الْمَرَضُ عِلَّةَ الْحَجْرِ بِاتِّصَالِهِ بِالْمَوْتِ مِنْ حِينِ أَصْلِ الْمَرَضِ الَّذِي أَضْنَاهُ كَالنِّصَابِ صَارَ مُتَّصِفًا بِالنَّمَاءِ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ فَيَسْتَنِدُ حُكْمُهُ وَهُوَ الْحَجْرُ إلَى أَصْلِ الْمَرَضِ وَالتَّصَرُّفُ وُجِدَ بَعْدَهُ فَصَارَ تَصَرُّفُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَعْلَمْ قَبْلَ اتِّصَالِهِ بِالْمَوْتِ أَنَّهُ يَتَّصِلُ بِهِ أَمْ لَا لَمْ يُمْكِنْ إثْبَاتُ الْحَجْرِ بِالشَّكِّ إذْ الْأَصْلُ هُوَ الْإِطْلَاقُ فَقِيلَ كُلُّ تَصَرُّفٍ وَاقِعٌ مِنْ الْمَرِيضِ إلَى آخِرِهِ كَالْإِعْتَاقِ إذَا وَقَعَ عَلَى حَقِّ غَرِيمٍ بِأَنْ أَعْتَقَ الْمَرِيضُ عَبْدًا مِنْ مَالِهِ الْمُسْتَغْرَقِ بِالدَّيْنِ. أَوْ وَارِثٌ بِأَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا قِيمَتُهُ تَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ فَحُكْمُ هَذَا الْمُعْتَقِ حُكْمُ الْمُدَبَّرِ قَبْلَ الْمَوْتِ حَتَّى كَانَ عَبْدًا فِي شَهَادَتِهِ وَسَائِرِ أَحْكَامِهِ وَإِذَا لَمْ يَقَعْ إعْتَاقُهُ عَلَى حَقِّ غَرِيمٍ أَوْ وَارِثٍ بِأَنْ كَانَ فِي الْمَالِ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ نَفَذَ فِي الْحَالِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ حَقِّ أَحَدٍ بِهِ قَوْلُهُ (وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْمَرِيضُ الْإِيصَاءَ لِمَا قُلْنَا) أَنَّ الْمَرَضَ سَبَبُ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِالْمَالِ وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْحَجْرِ، وَالْإِيصَاءُ تَبَرُّعٌ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ لِكَوْنِهِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ كَمَا لَا يَصِحُّ مِنْ الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ لَكِنَّ الشَّرْعَ جَوَّزَ ذَلِكَ أَيْ الْإِيصَاءَ نَظَرًا لَهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ فَضَعُوهُ حَيْثُ شِئْتُمْ» وَبِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حَدِيثِ «سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ قَالَ أَفَأُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ إلَى أَنْ قَالَ فَبِثُلُثِهِ الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ لَأَنْ تَدَعَ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» اسْتِخْلَاصًا أَيْ اسْتِخْصَاصًا وَاسْتِيثَارًا لَهُ عَلَى الْوَرَثَةِ بِالْقَلِيلِ وَهُوَ الثُّلُثُ لِيَعْلَمَ بِاسْتِخْلَاصِ الْقَلِيلِ دُونَ الْكَثِيرِ أَنَّ الْحَجْرَ وَالتُّهْمَةَ أَيْ تُهْمَةَ إيثَارِهِ الْأَجْنَبِيَّ عَلَى الْوَارِثِ بِاعْتِبَارِ ضَغِينَةٍ كَانَتْ مَعَهُ لَهُ فِيهِ أَيْ فِي الْإِيصَاءِ أَصْلٌ حَتَّى يَسْتَحِبَّ أَنْ يَنْقُصَ الْوَصِيَّةَ مِنْ الثُّلُثِ وَلَا يَبْلُغُهَا إلَى الثُّلُثِ لِمَا عُرِفَ وَقَوْلُهُ نَظَرًا تَعْلِيلٌ لِجَوَازِ الْإِيصَاءِ. وَقَوْلُهُ اسْتِخْلَاصًا تَعَالِيلُ لِاكْتِفَاءٍ عَلَى الثُّلُثِ إنْ جَازَ ذَلِكَ وَلَوْ قِيلَ لَكِنَّ الشَّرْعَ جَوَّزَ لَهُ ذَلِكَ بِقَدْرِ الثُّلُثِ نَظَرًا لَهُ وَاسْتِخْلَاصًا لَكَانَ أَوْضَحَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِخْلَاصًا بَدَلًا مِنْ نَظَرًا فَيَسْتَقِيمُ بِغَيْرِ وَاوٍ أَوْ يَكُونُ عَطْفًا بِغَيْرِ وَاوٍ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ جَوَّزَهُ قَوْلُهُ (وَلَمَّا تَوَلَّى الشَّرْعُ الْإِيصَاءَ لِلْوَرَثَةِ) كَانَ الْإِيصَاءُ لِلْوَرَثَةِ مُفَوَّضًا إلَى الْمَرِيضِ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 180] وَقَدْ كَانَ يَجْرِي فِي ذَلِكَ مَيْلٌ إلَى الْبَعْضِ وَمُضَارَّةٌ لِلْبَعْضِ فَنُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] الْآيَةُ بَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ بِقَوْلِهِ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» فَالشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَشَارَ إلَى مَا ذَكَرْنَا بِقَوْلِهِ وَلَمَّا تَوَلَّى الشَّرْعُ الْإِيصَاءَ لِلْوَرَثَةِ أَيْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] وَأَبْطَلَ إيصَاءَهُ أَيْ نُسِخَ إيصَاءُ الْمَرِيضِ لِلْوَرَثَةِ بِتَوْلِيَةٍ بِنَفْسِهِ لِعَجْزِ الْعَبْدِ عَنْ حُسْنِ التَّدْبِيرِ فِي مِقْدَارِ مَا يُوصِي بِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ لِجَهْلِهِ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى {لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء: 11] أَوْ لِقَصْدِهِ مُضَارَّةَ الْبَعْضِ كَمَا وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12] وَكَانَ هَذَا نَسْخُ تَحْوِيلٍ

بَطَلَ ذَلِكَ صُورَةً وَمَعْنًى وَحَقِيقَةً وَشُبْهَةً حَتَّى لَا تَصِحَّ مِنْهُ الْبَيْعُ أَصْلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَبَطَلَتْ أَقَارِيرُهُ لَهُ لِلتُّهْمَةِ لِأَنَّ شُبْهَةَ الْحَرَامِ حَرَامٌ وَلَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ مِنْ الْوَارِثِ ـــــــــــــــــــــــــــــQكَنَسْخِ الْقِبْلَةِ إلَى الْكَعْبَةِ بَطَلَ ذَلِكَ أَيْ إيصَاءُ الْعَبْدِ لَهُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَمَّا أَجَازَ الشَّرْعُ لَهُ الْإِيصَاءَ بِالثُّلُثِ وَاسْتَخْلَصَهُ لِلْمَرِيضِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ إيصَاؤُهُ بِذَلِكَ لِلْوَارِثِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ كَمَا جَازَ لِلْأَجْنَبِيِّ وَكَمَا لَوْ وَهَبَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ مَعَ أَنَّ الشَّرْعَ شَرَعَ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ الْوَصِيَّةَ لِلْوَرَثَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة: 180] الْآيَةُ لَكِنَّ الشَّرْعَ لَمَّا تَوَلَّى إيصَاءَ الْوَرَثَةِ بِنَفْسِهِ وَنَسَخَ إيصَاءَهُ لَهُمْ بَطَلَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ صُورَةً وَمَعْنًى وَحَقِيقَةً وَشُبْهَةً لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا حَجَرَهُ عَنْ إيصَالِ النَّفْعِ إلَى وَارِثِهِ مِنْ مَالِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ صَارَتْ صُورَةُ إيصَالِ النَّفْعِ وَمَعْنَاهُ وَحَقِيقَتُهُ وَشُبْهَتُهُ سَوَاءً لِأَنَّ الصُّورَةَ وَالشُّبْهَةَ مُلْحَقَتَانِ بِالْحَقِيقَةِ فِي مَوْضِعِ التَّحْرِيمِ. ثُمَّ بَيَّنَ أَمْثِلَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَمِثَالُ الصُّورَةِ بَيْعُ الْمَرِيضِ مِنْ الْوَارِثِ شَيْئًا مِنْ أَعْيَانِ التَّرِكَةِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَصْلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَوَاءٌ كَانَ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي تَصَرُّفِهِ إبْطَالُ حَقِّ الْوَرَثَةِ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ حَقُّهُمْ بِهِ وَهُوَ الْمَالِيَّةُ فَكَانَ الْوَارِثُ وَالْأَجْنَبِيُّ فِيهِ سَوَاءً يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ كَمَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ الْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِلْأَجْنَبِيِّ ثُمَّ الْبَيْعُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ فِي جَمِيعِ مَالِهِ صَحِيحٌ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ وَصِيَّتُهُ بِشَيْءٍ فَكَذَلِكَ مَعَ الْوَارِثِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ إنَّهُ آثَرَ بَعْضَ وَرَثَتِهِ بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ بِقَوْلِهِ وَهُوَ مَحْجُورٌ عَنْ ذَلِكَ لِحَقِّ سَائِرِ الْوَرَثَةِ فَلَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُعْطِيَ أَحَدَ وَرَثَتِهِ هَذِهِ الدَّارَ بِنَصِيبِهِ مِنْ الْمِيرَاثِ وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِيَّةِ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ فِيمَا بَيْنَهُمْ حَتَّى لَوْ أَرَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَجْعَلَ شَيْئًا لِنَفْسِهِ بِنَصِيبِهِ مِنْ الْمِيرَاثِ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بِدُونِ رِضَاءِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ فَكَمَا أَنَّهُ لَوْ قَصَدَ إيثَارَ الْبَعْضِ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَالِيَّةِ رَدَّ عَلَيْهِ قَصْدَهُ فَكَذَلِكَ إذَا قَصَدَ إيثَارَهُ بِالْعَيْنِ فَلِذَلِكَ يُمْنَعُ بَيْعُهُ مِنْهُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ بِأَكْثَرَ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ التَّصَرُّفِ مَعَهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْعَيْنِ وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْوَرَثَةِ عَنْ ثُلْثَيْ مَالِهِ وَلَيْسَ فِي الْبَيْعِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ إبْطَالُ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ وَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْبَيْعَ مِنْ الْوَارِثِ إيصَاءٌ لَهُ صُورَةً مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إيثَارٌ لَهُ بِالْعَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إيصَاءً مَعْنًى لِاسْتِرْدَادِ الْعِوَضِ مِنْهُ نَقِيضُهُ عَقْدُ الْمُعَاوَضَةِ فَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ وَمِثَالُ الْإِيصَاءِ مَعْنًى الْأَقَارِيرُ فَإِنَّ الْمَرِيضَ إذَا أَقَرَّ بِعَيْنٍ أَوْ بِدَيْنٍ لِوَارِثِهِ لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَصِحُّ لِأَنَّ الْحَجْرَ بِسَبَبِ الْمَرَضِ إنَّمَا ثَبَتَتْ عَنْ التَّبَرُّعِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ وَعَنْ التَّبَرُّعِ مَعَ الْوَارِثِ أَصْلًا وَلَا حَجْرَ عَلَيْهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى السَّعْيِ فِي فِكَاكِ رَقَبَتِهِ فَكَانَ إقْرَارُهُ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ سَوَاءً. أَلَا تَرَى أَنَّ إقْرَارَهُ بِالْوَارِثِ صَحِيحٌ مَعَ أَنَّ فِيهِ إضْرَارًا بِالْوَارِثِ الْمَعْرُوفِ فَكَذَا إقْرَارُهُ لِلْوَارِثِ وَلَنَا أَنَّ فِي إقْرَارِهِ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ تُهْمَةَ الْكَذِبِ إذْ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ غَرَضُهُ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ إيصَالَ مِقْدَارِ الْمَالِ الْمُقِرِّ بِهِ إلَى الْوَارِثِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَيَكُونُ وَصِيَّةً مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ إقْرَارًا صُورَةً فَيَكُونُ حَرَامًا لِأَنَّ شُبْهَةَ الْحَرَامِ حَرَامٌ وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ وَإِنْ كَانَ إخْبَارًا فَقَدْ جُعِلَ كَالْإِيجَابِ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى إنَّ مَنْ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِجَارِيَةٍ

وَإِنْ لَزِمَهُ فِي صِحَّتِهِ وَتَقَوَّمَتْ الْجَوْدَةُ فِي حَقِّهِمْ لِتُهْمَةِ الْعُدُولِ عَنْ خِلَافِ الْجِنْسِ كَمَا تَقَوَّمَتْ فِي حَقِّ الصِّغَارِ وَحَجْرِ الْمَرِيضِ عَنْ الصِّلَةِ إلَّا مِنْ الثُّلُثِ لِمَا قُلْنَا، وَلِذَلِكَ قُلْنَا إذَا أَدَّى فِي مَرَضِ مَوْتِهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى مَالِيًّا كَانَ مِنْ الثُّلُثِ وَكَذَلِكَ إذَا وَصَّى بِذَلِكَ عِنْدَنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا يَسْتَحِقُّ أَوْلَادَهَا وَإِذَا كَانَ كَالْإِيجَابِ مِنْ وَجْهٍ فَهُوَ إيجَابُ مَالٍ لَا يُقَابِلُهُ مَالٌ وَالْمَرِيضُ مَمْنُوعٌ عَنْ مِثْلِهِ مَعَ الْوَارِثِ أَصْلًا فَرَجَّحْنَا هَذَا الْجَانِبَ فِي حَقِّ الْوَارِثِ وَرَجَّحْنَا جَانِبَ الْإِقْرَارِ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ وَصَحَّحْنَاهُ فِي جَمِيعِ الْمَالِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالْوَارِثِ لِأَنَّهُ لَمْ يُلَاقِ مَحَلًّا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ مَعَ أَنَّ النَّسَبَ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ فَيَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ الْوَرَثَةِ وَكَذَا لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُ الْمَرِيضِ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ الَّذِي عَلَى الْوُرَّاثِ مِنْهُ وَإِنْ لَزِمَ الْوَارِثَ الدَّيْنُ فِي حَالِ صِحَّةِ الْمُقِرِّ لِأَنَّ هَذَا إيصَاءٌ لَهُ بِمَالِيَّةِ الدَّيْنِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَإِنَّهَا تُسَلَّمُ لَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَكَذَا لَوْ كَانَ وَارِثُهُ كَفِيلًا عَنْ أَجْنَبِيٍّ لِلْمَرِيضِ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ كَانَ أَجْنَبِيٌّ كَفِيلًا عَنْ وَارِثِهِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ بَطَلَ إقْرَارُهُ بِاسْتِيفَائِهِ لِتَضَمُّنِهِ بَرَاءَةَ الْوَارِثِ عَنْ الدَّيْنِ أَوْ عَنْ الْكَفَالَةِ. وَقَوْلُهُ وَإِنْ لَزِمَهُ فِي الصِّحَّةِ رَدٌّ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ كَانَ لَهُ عَلَى الْوَارِثِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ يَجُوزُ لِأَنَّ الْوَارِثَ لَمَّا عَامَلَهُ فِي الْحِصَّةِ فَقَدْ اسْتَحَقَّ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ عِنْدَ إقْرَارِهِ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقُ بِمَرَضِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ دَيْنُهُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ فَأَقَرَّ بِاسْتِيفَائِهِ فِي مَرَضِهِ كَانَ صَحِيحًا فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ لَكِنَّا نَقُولُ إقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ فِي الْحَاصِلِ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا فَيَجِبُ لِلْمَدْيُونِ عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ عِنْدَ الْقَبْضِ مِثْلُ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَصِيرُ قِصَاصًا بِدَيْنِهِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ فَلَا يَصِحُّ بِخِلَافِ إقْرَارِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّ الْمَنْعَ هُنَاكَ لِحَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ، وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ عِنْدَ الْمَرَضِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّيْنِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ دُيُونِهِ مِنْهُ فَلَمْ يُصَادِفْ إقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ مَحَلًّا تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِهِ، فَأَمَّا حَقُّ الْوَرَثَةِ بِالْعَيْنِ وَالدَّيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ وَالْمَنْعُ مِنْ الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ إنَّمَا كَانَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ فَإِقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ لِأَنَّهُ يُصَادِفُ مَحَلًّا هُوَ مَشْغُولٌ بِحَقِّ الْوَرَثَةِ فَلَا يَجُوزُ مُطْلَقًا كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَمِثَالُ الْحَقِيقَةِ ظَاهِرٌ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الشَّيْخُ. وَأَمَّا مِثَالُ الشُّبْهَةِ فَهُوَ مَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ الْحِنْطَةَ الْجَيِّدَةَ بِالرَّدِيئَةِ أَوْ الْفِضَّةَ الْجَيِّدَةَ بِالرَّدِيئَةِ مِنْ وَارِثِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ فِيهِ شُبْهَةُ الْوَصِيَّةِ بِالْجَوْدَةِ إذْ عُدُولُهُ عَنْ خِلَافِ الْجِنْسِ إلَى الْجِنْسِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَرَضَهُ إيصَالُ مَنْفَعَةِ الْجَوْدَةِ إلَيْهِ فَإِنَّهَا لَا تَتَقَوَّمُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْجِنْسِ فَقُوِّمَتْ الْجَوْدَةُ فِي حَقِّهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْوَرَثَةِ فَإِنَّ حَقَّهُمْ تَعَلَّقَ بِالْأَصْلِ وَالْوَصْفِ جَمِيعًا كَمَا تَقَوَّمَتْ فِي حَقِّ الصِّغَارِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمْ فَإِنَّ الْأَبَ أَوْ الْوَصِيَّ لَوْ بَاعَ مَالَ الصَّغِيرِ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ تَتَقَوَّمُ الْجَوْدَةُ فِيهِ حَتَّى لَمْ يَجُزْ لَهُ بَيْعُ الْجَيِّدِ مِنْ مَالِهِ بِالرَّدِيءِ مِنْ جِنْسِهِ أَصْلًا كَذَا هَاهُنَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ الْجَيِّدَ بِالرَّدِيءِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ يُعْتَبَرُ خُرُوجُهُ مِنْ الثُّلُثِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْجُودَةُ مُعْتَبَرَةً لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى خُرُوجِهِ مِنْ الثُّلُثِ بَلْ جَازَ مُطْلَقًا كَمَا لَوْ بَاعَ شَيْئًا بِمِثْلِ الْقِيمَةِ قَوْلُهُ (وَحَجْرُ الْمَرِيضِ عَنْ الصِّلَةِ) نَحْوُ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْمُحَابَاةِ وَغَيْرِهَا إلَّا مِنْ الثُّلُثِ لِمَا قُلْنَا مِنْ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِمَالِهِ الْمُوجِبِ لِلْحَجْرِ وَمِنْ اسْتِخْلَاصِ الثُّلُثِ لَهُ بِطَرِيقِ النَّظَرِ وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِكَوْنِهِ مَحْجُورًا عَنْ الصِّلَةِ فِيمَا وَرَاءِ الثُّلُثِ وَالْحَاصِلُ إنَّ مَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا مِنْ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ إنْ أَدَّاهُ بِنَفْسِهِ فِي مَرَضِهِ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ سَوَاءٌ وَجَبَتْ مَالًا مِنْ الِابْتِدَاءِ كَالزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ أَوْ صَارَتْ مَالًا

وَلَمَّا تَعَلَّقَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ بِالْمَالِ صُورَةً وَمَعْنًى فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمْ وَمَعْنًى فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ صَارَ إعْتَاقُهُ وَاقِعًا عَلَى مَحَلٍّ مَشْغُولٍ بِعَيْنِهِ بِخِلَافِ إعْتَاقِ الرَّاهِنِ لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ فِي مِلْكِ الْيَدِ دُونَ مِلْكِ الرَّقَبَةِ فَلِذَلِكَ نَفَذَ هَذَا وَلَمْ يَنْفُذْ ذَلِكَ وَهَذَا أَصْلٌ لَا تُحْصَى فُرُوعُهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQبِسَبَبِ الْعَجْزِ كَالْفِدْيَةِ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْإِنْفَاقِ فِي الْحَجِّ. وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهِ بِنَفْسِهِ لَا يَصِيرُ دَيْنًا فِي التَّرِكَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ مُقَدَّمًا عَلَى الْمِيرَاثِ ثُمَّ إنْ أَوْصَى بِهِ يَنْفُذُ مِنْ الثُّلُثِ كَسَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ يَسْقُطُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ مُؤَاخَذًا بِهِ فِي الْآخِرَةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ أَدَّاهُ بِنَفْسِهِ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ يَصِيرُ دَيْنًا فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ مُقَدَّمًا عَلَى الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ كَدُيُونِ الْعِبَادِ أَوْصَى بِهِ أَوْ لَمْ يُوصِ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ قَوْلَهُ عِنْدَنَا مُتَعَلِّقٌ بِالْمَسْأَلَتَيْنِ وَإِشَارَةً إلَى الْخِلَافِ فِيهَا احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِحَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شَبَّهَ فِيهِ دَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِدَيْنِ الْعِبَادِ بِقَوْلِهِ «أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ أَكُنْت تَقْضِينَهُ» الْحَدِيثَ. ثُمَّ دَيْنُ الْعِبَادِ يُقْضَى مِنْ جَمِيعِ التَّرِكَةِ مُقَدَّمًا عَلَى الْمِيرَاثِ فَكَذَا دَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى وَبِأَنَّهُ حَقٌّ كَانَ مُطَالَبًا بِهِ فِي حَيَاتِهِ وَتَجْرِي النِّيَابَةُ فِي إبْقَائِهِ فَيُسْتَوْفَى مِنْ تَرِكَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَدُيُونِ الْعِبَادِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَالَ خَلَفٌ عَنْ الذِّمَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي الْحُقُوقِ الَّتِي تُقْضَى بِالْمَالِ وَالْوَارِثُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُورَثِ فِي أَدَاءِ مَا يَجْرِي النِّيَابَةُ فِي أَدَائِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْدَ الْإِيصَاءِ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْأَدَاءِ فَكَذَلِكَ قَبْلَهُ وَلَنَا أَنَّ الْمَالَ خَرَجَ مِنْ مِلْكِ الَّذِي كَانَ فِي مِلْكِهِ وَصَارَ مِلْكًا لِلْوَارِثِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْوَارِثِ شَيْءٌ لِيُؤْخَذَ مِلْكُهُ بِهِ فَلَا يَصِيرُ دَيْنًا فِي التَّرِكَةِ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى مَتَى اجْتَمَعَ مَعَ حَقِّ الْعَبْدِ فِي مَحَلٍّ يُقَدَّمُ حَقُّ الْعَبْدِ ثُمَّ الْوَاجِبُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِعْلُ الْإِيتَاءِ لَا نَفْسُ الْمَالِ وَلَا يَصْلُحُ فِيهِ إقَامَةُ الْمَالِ مَقَامَ الذِّمَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْوَارِثُ نَائِبًا فِي الْأَدَاءِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عِبَادَةٌ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ فِعْلٍ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا وَخِلَافَةُ الْوَارِثِ تَثْبُتُ جَبْرًا بِدُونِ اخْتِيَارٍ مِنْ الْمُورَثِ وَبِمِثْلِهَا لَا يَتَأَدَّى الْعِبَادَةُ وَاسْتِيفَاءُ الْوَاجِبِ لَا يَجُوزُ إلَّا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي وَجَبَ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ إيجَابُهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ لَمْ يَبْقَ أَصْلًا إلَّا أَنْ يُوصِيَ فَيَكُونُ نَظِيرُ وَصِيَّتِهِ بِسَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ فَيَنْفُذُ مِنْ الثُّلُثِ قَوْلُهُ (وَلَمَّا تَعَلَّقَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ إلَى آخِرِهِ) إشَارَةً إلَى الْجَوَابِ عَمَّا قِيلَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ قَدْ تَعَلَّقَ بِالْمَرْهُونِ كَمَا تَعَلَّقَ حَقُّ الْغَرِيمِ وَالْوَارِثِ بِالْمَالِ فِي الْمَرَضِ بَلْ هُوَ أَقْوَى لِأَنَّهُ مَانِعٌ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي الرَّهْنِ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ لِلرَّاهِنِ وَحَقُّ الْوَارِثِ وَالْغَرِيمِ لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ لَا يَمْنَعُ نَفَاذَ إعْتَاقِ الرَّاهِنِ لِبَقَاءِ الْمِلْكِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَمْنَعَ حَقَّ الْوَارِثِ وَالْغَرِيمِ أَيْضًا لِبَقَاءِ الْمِلْكِ فَقَالَ إنَّمَا تَعَلَّقَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ بِالْمَالِ صُورَةً وَمَعْنًى فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمْ. أَمَّا مَعْنًى فَظَاهِرٌ وَأَمَّا صُورَةً فَلِأَنَّ الْمَرِيضَ لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ مِنْ وَارِثِهِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ وَبِأَكْثَرَ كَمَا لَا يَمْلِكُ أَنْ يُحَابِيَهُ وَلَا يَمْلِكُ الْوَارِثُ أَنْ يَأْخُذَ بِنَصِيبِهِ عَيْنًا مِنْ التَّرِكَةِ أَيْضًا بِدُونِ رِضَاءِ الْبَاقِي وَمَعْنًى فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ وَهُمْ الْأَجَانِبُ حَتَّى جَازَ بَيْعُهُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ وَسَوْقُ هَذَا الْكَلَامِ يُشِيرُ إلَى أَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَالِ صُورَةً وَمَعْنًى كَحَقِّ الْوَارِثِ لَكِنَّهُ نَصَّ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَعْنَى وَهُوَ الْمَالِيَّةُ لَا بِعَيْنِ الْمَالِ وَلِهَذَا كَانَ لِلْوَارِثِ أَنْ يَسْتَخْلِصَ الْعَيْنَ لِنَفْسِهِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ وَذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَيْضًا أَنَّ الْحُرَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ إذَا بَاعَ مَالَهُ مِنْ أَحَدِ الْغُرَمَاءِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ صَحَّ كَمَا لَوْ بَاعَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ وَلَكِنْ لَوْ حَاصَّ الثَّمَنَ بِدَيْنِهِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ فِي الْمَقَاصِدِ إيثَارًا لِلْبَعْضِ بِالْقَضَاءِ وَأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْهُ كَالْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ

وَأَمَّا الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ فَإِنَّهُمَا لَا يُعْدِمَانِ أَهْلِيَّةً بِوَجْهٍ لَكِنَّ الطَّهَارَةَ لِلصَّلَاةِ شَرْطٌ وَقَدْ شُرِعَتْ بِصِفَةِ الْيُسْرِ الْأَدَاءُ وَفِي وَضْعِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ مَا يُوجِبُ الْحَرَجَ فِي الْقَضَاءِ فَلِذَلِكَ وُضِعَ عَنْهُمَا وَقَدْ جُعِلَتْ الطَّهَارَةُ عَنْهُمَا شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّوْمِ أَيْضًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَمْ يَتَعَدَّ إلَى الْقَضَاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــQتَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْمَرِيضِ مِنْ الْغَرِيمِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ يَجُوزُ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمْ كَمَا فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ فَكَانَ الضَّمِيرُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَغَيْرِهِمْ رَاجِعًا إلَى الْوَرَثَةِ دُونَ الْغُرَمَاءِ وَكَانَ لَفْظُ الْغَيْرِ مُتَنَاوِلًا لِلْغُرَمَاءِ وَالْأَجَانِبِ جَمِيعًا أَيْ حَقُّ الْكُلِّ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَالِ فَحَقُّ الْوَرَثَةِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ صُورَةً وَمَعْنًى فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمْ وَمُتَعَلِّقٌ بِهِ مَعْنًى فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ مِنْ الْأَجَانِبِ وَالْغُرَمَاءِ وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ مَعْنًى لَا صُورَةً فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمْ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِمْ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ إعْتَاقُ الْمَرِيضِ وَاقِعًا عَلَى مَحَلٍّ مَشْغُولٍ بِعَيْنِهِ بِحَقِّ الْغَيْرِ أَيْ حَقِّ مِلْكِ الرَّقَبَةِ صُورَةً وَمَعْنًى بِالصُّورَةِ فَلَمْ يَنْفُذْ إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهَذَا أَيْ الْمَرَضُ مَعَ أَحْكَامِهِ أَصْلٌ كَثِيرُ الْفُرُوعِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ) فَكَذَا الْحَيْضُ فِي الشَّرِيعَةِ دَمٌ يَنْفُضُهُ رَحِمُ الْمَرْأَةِ السَّلِيمَةِ عَنْ الدَّاءِ وَالصِّغَرِ وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ رَحِمُ الْمَرْأَةِ عَنْ الرُّعَافِ وَالدِّمَاءِ الْخَارِجَةِ مِنْ الْجِرَاحَاتِ وَعَنْ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ فَإِنَّهُ دَمُ عِرْقٍ لَا رَحِمٍ وَبِقَوْلِهِ السَّلِيمَةُ عَنْ الدَّاءِ عَنْ النِّفَاسِ فَإِنَّ النُّفَسَاءَ فِي حُكْمِ الْمَرِيضَةِ حَتَّى اعْتَبَرَ تَصَرُّفَهَا مِنْ الثُّلُثِ وَبِالصِّغَرِ عَنْ دَمٍ تَرَاهُ مَنْ هِيَ دُونَ بِنْتِ تِسْعِ السِّنِينَ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ فِي الشَّرْعِ وَالنِّفَاسُ الدَّمُ الْخَارِجُ مِنْ قُبُلِ الْمَرْأَةِ عَقِيبَ الْوِلَادَةِ وَأَنَّهُمَا لَا يَعْدِمَانِ أَهْلِيَّةً لَا أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ وَلَا أَهْلِيَّةَ الْأَدَاءِ لِأَنَّهُمَا لَا يُخِلَّانِ بِالذِّمَّةِ وَلَا بِالْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ وَلَا بِقُدْرَةِ الْبَدَنِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَسْقُطَ بِهِمَا الصَّلَاةُ كَمَا لَا يَسْقُطُ الصَّوْمُ لَكِنَّ الطَّهَارَةَ عَنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ شُرِطَتْ لِلصَّلَاةِ عَلَى وِفَاقِ الْقِيَاسِ كَالطَّهَارَةِ عَنْ سَائِرِ الْأَحْدَاثِ وَالْأَنْجَاسِ وَقَدْ شُرِعَتْ الصَّلَاةُ بِصِفَةِ الْيُسْرِ فَإِنَّهَا وَإِنْ وَجَبَتْ بِقُدْرَةٍ مُمْكِنَةٍ لَكِنْ فِي شَرْعِهَا نَوْعُ يُسْرٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا وَجَبَتْ خَمْسَ مَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَلَمْ تَجِبْ خَمْسِينَ مَرَّةً كَمَا فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْحَرَجَ مَدْفُوعٌ فِيهَا حَتَّى لَوْ لَحِقَ الْمُصَلِّيَ حَرَجٌ فِي الْقِيَامِ سَقَطَ الْقِيَامُ عَنْهُ إلَى الْقُعُودِ ثُمَّ إلَى الْإِيمَاءِ وَالِاسْتِلْقَاءِ عَلَى الظَّهْرِ عَلَى مَا عُرِفَ. وَفِي فَوْتِ الشَّرْطِ فَوْتُ الْأَدَاءِ ضَرُورَةً لِتَوَقُّفِ الْمَشْرُوطِ عَلَى الشَّرْطِ وَفِي وَضْعِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ مَا يُوجِبُ الْحَرَجَ فِي الْقَضَاءِ أَيْ قَضَاءِ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّ الْحَيْضَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ أَقَلَّ فِي ثَلَاثِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهَا كَانَ الْوَاجِبُ دَاخِلًا فِي حَدِّ التَّكْرَارِ لَا مَحَالَةَ وَكَذَا النِّفَاسُ فِي الْعَادَةِ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ الْحَيْضِ فَيَتَضَاعَفُ الْوَاجِبَاتُ فِيهِ أَيْضًا وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحَرَجِ وَهُوَ مَدْفُوعٌ شَرْعًا فَلِذَلِكَ أَيْ لِلُزُومِ الْحَرَجِ وُضِعَ أَيْ أُسْقِطَ الْقَضَاءُ عَنْ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَقَدْ جُعِلَتْ الطَّهَارَةُ عَنْهُمَا أَيْ عَنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّوْمِ أَيْضًا نَصًّا وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْحَائِضُ تَدَعُ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ فِي أَيَّامِ أَقْرَائِهَا» وَمَا رُوِيَ عَنْ «عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ لِامْرَأَةٍ سَأَلَتْهَا مَا بَالُنَا نَقْضِي الصَّوْمَ وَلَا نَقْضِي الصَّلَاةَ فِي الْحَيْضِ أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ كُنَّا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَقْضِي الصَّوْمَ وَلَا نَقْضِي الصَّلَاةَ» بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ الصَّوْمَ يَتَأَدَّى مَعَ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ بِالِاتِّفَاقِ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَأَدَّى مَعَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ أَيْضًا لَوْلَا النَّصُّ فَيُؤَثِّرُ اشْتِرَاطُهَا فِي الْمَنْعِ مِنْ الْأَدَاءِ وَلَمْ يَتَعَدَّ إلَى الْقَضَاءِ أَيْ إلَى إسْقَاطِ الْقَضَاءِ يَعْنِي لَمَّا كَانَتْ الطَّهَارَةُ عَنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ شَرْطًا لِأَدَاءِ الصَّوْمِ

وَلَمْ يَكُنْ فِي قَضَائِهِ حَرَجٌ فَلَمْ يَسْقُطْ أَصْلُهُ وَأَحْكَامُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ كَثِيرَةٌ لَا يُحْصَى عَدَدُهَا. وَأَمَّا الْمَوْتُ فَإِنَّهُ عَجْزٌ كُلُّهُ مُنَافٍ لِأَهْلِيَّةِ أَحْكَامِ الدُّنْيَا مِمَّا فِيهِ تَكْلِيفٌ حَتَّى وُضِعَتْ الْعِبَادَاتُ كُلُّهَا عَنْهُ وَالْأَحْكَامُ نَوْعَانِ أَحْكَامُ الدُّنْيَا وَأَحْكَامُ الْآخِرَةِ فَأَمَّا أَحْكَامُ الدُّنْيَا فَأَنْوَاعٌ أَرْبَعَةٌ قِسْمٌ مِنْهَا مَا هُوَ مِنْ بَابِ التَّكْلِيفِ وَالثَّانِي مَا شُرِعَ عَلَيْهِ لِحَاجَةِ غَيْرِهِ وَمِنْهَا مَا شُرِعَ لَهُ لِحَاجَتِهِ وَمِنْهَا مَا لَا يَصْلُحُ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ هَذِهِ أَحْكَامُ الدُّنْيَا فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَقَدْ وُضِعَ عَنْهُ لِفَوَاتِ غَرَضِهِ وَهُوَ الْأَدَاءُ عَنْ اخْتِيَارٍ وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ الزَّكَاةَ يَبْطُلُ عَنْهُ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْقُرَبِ وَإِنَّمَا يَبْقَى عَلَيْهِ الْمَأْثَمُ وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَإِنَّهُ إنْ كَانَ حَقًّا مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ يَبْقَى بِبَقَائِهِ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِيهِ غَيْرُ مَقْصُودٍ وَإِنْ كَانَ دَيْنًا لَمْ يَبْقَ بِمُجَرَّدِ الذِّمَّةِ حَتَّى يُضَمَّ إلَيْهِ مَالٌ أَوْ مَا يُؤَكِّدُ بِهِ الذِّمَمَ وَهُوَ ذِمَّةُ الْكَفِيلِ لِأَنَّ ضَعْفَ الذِّمَّةِ بِالْمَوْتِ فَوْقَ الضَّعْفِ بِالرِّقِّ لِأَنَّ الرِّقَّ يُرْجَى زَوَالُهُ غَالِبًا وَهَذَا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ غَالِبًا فَقِيلَ إنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الدَّيْنَ بِنَفْسِهَا ـــــــــــــــــــــــــــــQبِخِلَافِ الْقِيَاسِ لَا يَظْهَرُ لُزُومُهَا فِيمَا وَرَاءِ صِحَّةِ الْأَدَاءِ بَلْ جُعِلَ فِي حَقِّ الْقَضَاءِ كَأَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وَأَنَّهَا تَرَكَتْ الْأَدَاءَ مُخْتَارًا فَيَجِبُ الْقَضَاءُ وَلَمْ يَكُنْ فِي قَضَائِهِ أَيْ قَضَاءِ الصَّوْمِ حَرَجٌ لِأَنَّ الْحَيْضَ لَا يَزِيدُ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهَا فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَغْرِقًا لِوَقْتِ الصَّوْمِ وَهُوَ الشَّهْرُ فَلَمْ يَسْقُطْ أَصْلُ الصَّوْمِ أَيْ أَصْلُ وُجُوبِهِ عَنْ الذِّمَّةِ وَإِنْ سَقَطَ أَدَاؤُهُ كَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ مَا دُونَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ النِّفَاسُ مُسْقِطًا لِلْقَضَاءِ إذَا اسْتَوْعَبَ الشَّهْرَ كَمَا كَانَ مُسْقِطًا لِقَضَاءِ الصَّلَاةِ قُلْنَا حُكْمُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْحَيْضِ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ الْحَيْضُ مُسْقِطًا لِلصَّوْمِ بِوَجْهٍ كَانَ حُكْمُ النِّفَاسِ كَذَلِكَ وَإِنْ اسْتَوْعَبَ الشَّهْرَ وَلَمَّا أَسْقَطَ الْحَيْضُ الصَّلَاةَ لَا مَحَالَةَ أَسْقَطَ النِّفَاسُ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَسْتَوْعِبْ الْيَوْمَ وَاللَّيْلَةَ وَكَذَا وُقُوعُهُ فِي وَقْتِ الصَّوْمِ مِنْ النَّوَادِرِ فَلَا يُبْنَى الْحُكْمُ عَلَيْهِ كَالْإِغْمَاءِ إذَا اسْتَوْعَبَ الشَّهْرَ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ وُقُوعَهُمَا فِي آوَانِ الصَّلَاةِ مِنْ اللَّوَازِمِ فَأَثَّرَ فِي إسْقَاطِ الْقَضَاءِ لِدُخُولِ الْوَاجِبِ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ لَا مَحَالَةَ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الْجُنُونُ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الْقَضَاءُ عِنْدَ اسْتِغْرَاقِ الشَّهْرِ وَإِنْ كَانَ وُقُوعُهُ فِي وَقْتِ الصَّوْمِ مِنْ النَّوَادِرِ أَيْضًا لِأَنَّ الْجُنُونَ مُعْدِمٌ لِلْأَهْلِيَّةِ أَصْلًا فَكَانَ الْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ يُسْقِطَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَوْعِبْ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ بِالِاسْتِحْسَانِ إذَا لَمْ يَسْتَوْعِبْ كَمَا بَيَّنَّا فَأَمَّا النِّفَاسُ فَلَا يُخِلُّ بِالْأَهْلِيَّةِ فَلَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْقَضَاءِ فَاقْتَرَفَا كَذَا فِي بَعْضِ فَوَائِدِ هَذَا الْكِتَابِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْمَوْتُ) فَكَذَا، الْمَوْتُ ضِدُّ الْحَيَاةِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ وَلِهَذَا قِيلَ تَفْسِيرُ الْمَوْتِ بِزَوَالِ الْحَيَاةِ تَفْسِيرٌ بِلَازِمِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ ضِدَّ الْحَيَاةِ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ زَوَالُ الْحَيَاةِ وَلَمَّا كَانَتْ الْحَيَاةُ مِنْ أَسْبَابِ الْقُدْرَةِ كَانَ الْمَوْتُ مُوجِبًا لِلْعَجْزِ لَا مَحَالَةَ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ فَلِهَذَا قَالَ إنَّهُ عَجْزٌ كُلُّهُ أَيْ لَيْسَ فِيهِ جِهَةُ الْقُدْرَةِ بِوَجْهٍ. وَاحْتَرَزَ عَنْ الْمَرَضِ وَالرِّقِّ وَالصِّغَرِ وَالْجُنُونِ فَإِنَّ الْعَجْزَ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ مُتَحَقِّقٌ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِخَالِصٍ لِبَقَاءِ نَوْعِ قُدْرَةٍ فِيهَا لِلْعَبْدِ بِخِلَافِ الْمَوْتِ مُنَافٍ لِأَهْلِيَّةِ أَحْكَامِ الدُّنْيَا مِمَّا فِيهِ تَكْلِيفٌ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِأَحْكَامِ الدُّنْيَا يَعْتَمِدُ الْقُدْرَةَ فَإِذَا تَحَقَّقَ الْعَجْزُ اللَّازِمُ الَّذِي لَا يُرْجَى زَوَالُهُ سَقَطَ التَّكْلِيفُ بِهَا فِي الدُّنْيَا ضَرُورَةً وَهُوَ الْأَدَاءُ عَنْ اخْتِيَارِ هَذَا الْغَرَضِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ فَالْمَقْصُودُ مِنْ التَّكْلِيفِ تَحَقُّقُ الِابْتِلَاءِ لِيَظْهَرَ مَا عُلِمَ مَعَ بَقَاءِ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ فَيَكُونُ مُبْتَلًى بَيْنَ أَنْ يَفْعَلَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَيُثَابَ بِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَيُعَاقَبَ عَلَيْهِ وَلِهَذَا أَيْ وَلِفَوْتِ الْغَرَضِ وَهُوَ الْأَدَاءُ عَنْ اخْتِيَارٍ قُلْنَا إنَّ الزَّكَاةَ تَبْطُلُ أَيْ تَسْقُطُ عَنْ الْمَيِّتِ فِي حُكْمِ الدُّنْيَا حَتَّى لَا يَجِبَ أَدَاؤُهَا مِنْ التَّرِكَةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا وَقَدْ فَاتَ وَعِنْدَهُ الْمَالُ هُوَ الْمَقْصُودُ دُونَ الْفِعْلِ حَتَّى لَوْ ظَفِرَ الْفَقِيرُ بِمَالِ الزَّكَاةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِقْدَارَ الزَّكَاةِ وَسَقَطَ الزَّكَاةُ بِهِ عِنْدَهُ كَمَا فِي دَيْنِ الْعِبَادِ وَعِنْدَنَا لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْأَخْذِ وَلَا يَسْقُطُ بِهِ الزَّكَاةُ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ وَكَذَلِكَ أَيْ وَمِثْلُ حُكْمِ الزَّكَاةِ حُكْمُ سَائِرِ الْقُرَبِ فِي السُّقُوطِ وَإِنَّمَا يَبْقَى عَلَيْهِ الْمَأْثَمُ لَا غَيْرُ لِأَنَّ الْإِثْمَ مِنْ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَهُوَ مُلْحَقٌ بِالْأَحْيَاءِ فِي تِلْكَ الْأَحْكَامِ قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْقِسْمُ

وَلِهَذَا قِيلَ أَنَّ الْكَفَالَةَ عَنْ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ لَا يَصِحُّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَأَنَّ الدَّيْنَ سَاقِطٌ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ بِالْمُطَالَبَةِ وَقَدْ عُدِمَتْ بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ يُقِرُّ بِالدَّيْنِ فَيَكْفُلُ رَجُلٌ عَنْهُ صَحَّ لِأَنَّ ذِمَّتَهُ فِي حَقِّهِ كَامِلَةٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQالثَّانِي) وَهُوَ الَّذِي شَرَعَ عَلَيْهِ لِحَاجَةِ غَيْرِهِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ أَوْ لَمْ يَكُنْ. فَإِنْ كَانَ حَقًّا مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ كَالْمَرْهُونِ وَالْمُسْتَأْجَرِ وَالْمَغْصُوبِ وَالْمَبِيعِ الْوَدِيعَةِ يَبْقَى بِبَقَائِهِ أَيْ بِبَقَاءِ الْعَيْنِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمُعَيَّنِ لِأَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ فِي الْعَيْنِ غَيْرُ مَقْصُودٍ إذْ الْمَقْصُودُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ هُوَ الْمَالُ وَالْفِعْلُ تَبَعٌ لِتَعَلُّقِ حَوَائِجِهِمْ بِالْأَمْوَالِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَبْقَى حَقُّ الْعَبْدِ فِي الْعَيْنِ بَعْدَ مَوْتِ مَنْ كَانَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَإِنْ فَاتَ الْفِعْلُ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ بَلْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالذِّمَّةِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُهُ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ كَالنَّفَقَةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَالدُّيُونِ الْوَاجِبَةِ بِالْمُعَاوَضَةِ فَإِنْ كَانَ دَيْنًا لَمْ يَبْقَ بِمُجَرَّدِ الذِّمَّةِ حَتَّى يُضَمَّ إلَيْهِ أَيْ إلَى الذِّمَّةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ أَوْ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى الْمُجَرَّدِ لِأَنَّ الرِّقَّ يُرْجَى زَوَالُهُ غَالِبًا يَعْنِي بِالْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَهَذَا أَيْ الْمَوْتُ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ غَالِبًا وَإِنْ احْتَمَلَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ كَمَا كَانَ فِي زَمَانِ عِيسَى وَعُزَيْرٍ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - بِطَرِيقِ الْمُعْجِزَةِ فَلَمَّا لَمْ يَحْتَمِلْ ذِمَّةُ الْعَبْدِ الدَّيْنَ بِدُونِ انْضِمَامِ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ وَالْكَسْبِ إلَيْهَا لِضَعْفِهَا لَا تَحْتَمِلُهُ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ بِالطَّرِيقِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ الذِّمَّةَ لَا تَحْتَمِلُ الدَّيْنَ بِنَفْسِهَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ الْكَفَالَةَ عَنْ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ لَا تَصِحُّ إذَا لَمْ يَبْقَ كَفِيلٌ لِأَنَّ الذِّمَّةَ لَمَّا خَرِبَتْ أَوْ ضَعُفَتْ بِالْمَوْتِ بِحَيْثُ لَا يَحْتَمِلُ الدَّيْنَ بِنَفْسِهَا صَارَ الدَّيْنُ كَالسَّاقِطِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ وَإِنْ بَقِيَ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الذِّمَّةَ ثَابِتَةٌ لِلْإِنْسَانِ بِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا مُتَحَمِّلًا أَمَانَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبِالْمَوْتِ خَرَجَ مِنْ أَهْلِيَّةِ الْخِطَابِ وَالتَّحَمُّلِ لِعَدَمِ صَلَاحِهِ لَهُمَا فَعَرَفْنَا أَنَّ ذِمَّتَهُ لَمْ تَبْقَ صَالِحَةً لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَإِنْ بَقِيَتْ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ لِكَوْنِ الْمَيِّتِ مُعَدًّا لِلْحَيَاةِ الْآخِرَةِ كَالْجَنِينِ مُعَدًّا لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا. أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَمْ تَبْقَ مَحَلًّا لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ فِيهَا ابْتِدَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ وَكَمَا يُشْتَرَطُ الْمَحَلُّ لِابْتِدَاءِ الِالْتِزَامِ يُشْتَرَطُ لِبَقَاءِ الْحَقِّ لِأَنَّ مَا يَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ الِابْتِدَاءُ وَالْبَقَاءُ فِيهِ سَوَاءٌ فَثَبَتَ أَنَّ الدَّيْنَ لَمْ تَبْقَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا لِعَدَمِ مَحَلِّهِ وَيَدُلُّ عَلَى سُقُوطِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا مَا أُشِير إلَيْهِ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ أَنَّ ثُبُوتَ الدَّيْنِ أَيْ وُجُودَهُ يُعْرَفُ بِالْمُطَالَبَةِ وَلِهَذَا فَسَّرَ الدَّيْنَ بِأَنَّهُ وَصْفٌ شَرْعِيٌّ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي تَوْجِيهِ الْمُطَالَبَةِ وَقَدْ سَقَطَتْ الْمُطَالَبَةُ هَاهُنَا لِاسْتِحَالَةِ مُطَالَبَةِ الْمَيِّتِ بِالدَّيْنِ وَعَدَمِ جَوَازِ مُطَالَبَةِ غَيْرِهِ إذْ لَمْ يَبْقَ مَالٌ يُؤْمَرُ الْوَارِثُ أَوْ الْوَصِيُّ بِالْأَدَاءِ مِنْهُ وَلَا كَفِيلٌ يُطَالَبُ بِهِ وَالْكَفَالَةُ شُرِعَتْ لِالْتِزَامِ الْمُطَالَبَةِ بِمَا عَلَى الْأَصِيلِ لَا لِالْتِزَامِ أَصْلِ الدَّيْنِ بِدَلِيلِ بَقَاءِ الدَّيْنِ بَعْدَ الْكَفَالَةِ عَلَى الْأَصِيلِ كَمَا كَانَ قَبْلَهَا وَاسْتِحَالَةُ حُلُولِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مَحَلَّيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَقَدْ عُدِمَتْ الْمُطَالَبَةُ هَاهُنَا فَلَا يَصِحُّ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ بَعْدَ سُقُوطِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا الدَّيْنَ فِي حُكْمِ الْمُطَالَبَةِ دُونَ دَيْنِ الْكِتَابَةِ إذْ الْمُكَاتَبُ يُطَالِبُ بِالْمَالِ وَإِنْ كَانَ لَا يُحْبَسُ فِيهِ وَهُنَاكَ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ لِتَأَدِّيهَا إلَى أَنْ يَكُونَ مَا عَلَى الْكَفِيلِ أَزِيدَ مِمَّا عَلَى الْأَصِيلِ فَهُنَا أَوْلَى أَنْ لَا يَصِحَّ لِأَنَّهَا تُؤَدِّي إلَى أَنْ يَلْزَمَ عَلَى الْكَفِيلِ مَا لَيْسَ عَلَى الْأَصِيلِ أَصْلًا. بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ يُقِرُّ بِالدَّيْنِ فَتَكَفَّلَ

وَإِذَا ضُمَّتْ الْمَالِيَّةُ إلَيْهَا فِي حَقِّ الْمَوْلَى. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ صَحَّ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُطَالَبٌ بِهِ لَكِنَّا عَجَزْنَا عَنْهَا وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ انْعَدَمَ لِمَعْنًى فِي مَحَلِّ الدَّيْنِ لَا لِعَجْزِنَا لِمَعْنًى فِينَا ـــــــــــــــــــــــــــــQعَنْهُ رَجُلٌ صَحَّ هَذَا التَّكَفُّلُ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ مُطَالَبًا بِهِ لِأَنَّ ذِمَّةَ الْعَبْدِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَامِلَةٌ لِأَنَّهُ حَيٌّ عَاقِلٌ بَالِغٌ مُكَلَّفٌ فَتَكُونُ مَحَلًّا لِلدَّيْنِ وَالْمُطَالَبَةُ ثَابِتَةٌ إذْ يُتَصَوَّرُ أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمَوْلَى فَيُطَالَبُ فِي الْحَالِ وَيُتَصَوَّرُ أَنْ يُعْتِقَهُ الْمَوْلَى فَيُطَالَبُ بَعْدَ الْعِتْقِ فَلَمَّا تُصُوِّرَتْ الْمُطَالَبَةُ فِي الْحَالِ وَفِي ثَانِي الْحَالِ بَقِيَتْ الْمُطَالَبَةُ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ فَيَصِحُّ الْتِزَامُهَا بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ ثُمَّ إذَا صَحَّتْ الْكَفَالَةُ يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ بِهِ فِي الْحَالِ وَإِنْ كَانَ الْأَصِيلُ غَيْرَ مُطَالَبٍ بِهِ لِأَنَّ تَأَخُّرَ الْمُطَالَبَةِ عَنْ الْأَصِيلِ مَعَ تَوَجُّهِهَا لِعُذْرٍ عَدَمٌ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ كَمَنْ كَفَلَ بِدَيْنٍ عَنْ مُفْلِسٍ حَيٍّ يُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ وَإِنْ لَمْ يُؤَاخَذْ الْأَصِيلُ بِهِ لِأَنَّ الْعُذْرَ الْمُؤَخَّرَ وَهُوَ الْإِفْلَاسُ مُخْتَصٌّ بِالْأَصِيلِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَفَلَ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ عَلَى الْأَصِيلِ حَيْثُ لَا يُطَالَبُ بِهِ الْكَفِيلُ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ قَدْ سَقَطَتْ عَنْ الْأَصِيلِ إلَى انْقِضَاءِ الْأَجَلِ فَلَا يَقْدِرُ الْكَفِيلُ عَلَى الْتِزَامِهَا حَالَةً وَقَوْلُهُ وَإِنَّمَا ضُمَّتْ الْمَالِيَّةُ إلَيْهَا جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَمَّا كَمُلَتْ ذِمَّتُهُ فِي حَقِّهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ ضَمُّ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ إلَيْهَا لِاحْتِمَالِهَا الدَّيْنَ كَمَا فِي حَقِّ الْحُرِّ فَقَالَ إنَّمَا ضُمَّتْ مَالِيَّةُ الرَّقَبَةِ إلَى الذِّمَّةِ لِأَجْلِ احْتِمَالِ الدَّيْنِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لِيُمْكِنَ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ الْمَالِيَّةِ الَّتِي هِيَ حَقُّ الْمَوْلَى إذَا أَظْهَرَ الدَّيْنَ فِي حَقِّهِ لَا لِأَنَّ الذِّمَّةَ لَيْسَتْ بِكَامِلَةٍ فِي حَقِّ الْعَبْدِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَنْ الْمَيِّتِ وَإِنْ لَمْ يَخْلُفْ مَالًا وَلَا كَفِيلًا لِأَنَّ الدَّيْنَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ إذْ الْمَوْتُ لَمْ يُشْرَعْ مُبْرِمًا لِلْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ وَلَا مُبْطِلًا لَهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَخْلَفَ كَفِيلًا بِهِ ثُمَّ كَفَلَ بِهِ إنْسَانٌ بَعْدَ مَوْتِهِ صَحَّ وَلَوْ كَانَ مَوْتُهُ مُفْلِسًا يُوجِبُ سُقُوطَ الدَّيْنِ عَنْهُ لَمَا صَحَّتْ الْكَفَالَةُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَإِنْ كَانَ بِهِ كَفِيلٌ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَيِّتَ أَهْلٌ لِوُجُوبِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً فَإِنَّهُ لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَتَلَفَ فِيهَا مَالٌ أَوْ إنْسَانٌ بَعْدَ مَوْتِهِ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ فَلَأَنْ يَبْقَى عَلَيْهِ الدَّيْنُ الْوَاجِبُ فِي حَيَاتِهِ كَانَ أَوْلَى فَثَبَتَ أَنَّ الدَّيْنَ بَاقٍ فِي الذِّمَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ وَاجِبُ التَّسْلِيمِ وَالْإِيفَاءُ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ مُطَالَبٌ حَقًّا لِلْمُدَّعِي وَلِهَذَا يُطَالَبُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ ظَهَرَ لَهُ مَالٌ يُطَالَبُ بِهِ فِي الْحَالِ وَلَوْ تَبَرَّعَ أَحَدٌ عَنْ الْمَيِّتِ بِالْأَدَاءِ يَثْبُتُ حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ وَهُوَ فَوْقَ الْمُطَالَبَةِ إذْ الِاسْتِيفَاءُ هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْهَا فَلَمَّا كَانَ حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ بَاقِيًا عُلِمَ أَنَّ الْمُطَالَبَةَ مَمْلُوكَةٌ أَيْضًا لَكِنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْمُطَالَبَةِ لِإِفْلَاسِ الْمَيِّتِ وَعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْأَدَاءِ كَدُرَّةٍ لِإِنْسَانٍ أَسْقَطَهَا آخَرُ فِي الْبَحْرِ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِصَاحِبِهَا وَلَا يَأْخُذُهَا لِلْعَجْزِ وَالْعَجْزُ عَنْ الْمُطَالَبَةِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ كَمَا لَوْ كَفَلَ عَنْ حَيٍّ مُفْلِسٍ وَكَمَا لَوْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا قَالُوا وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا مُؤَيَّدٌ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أُتِيَ بِجِنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ هَلْ عَلَى صَاحِبِكُمْ دَيْنٌ فَقَالُوا نَعَمْ دِرْهَمَانِ أَوْ دِينَارَانِ فَامْتَنَعَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَقَالَ عَلِيٌّ وَأَبُو قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَصَلَّى عَلَيْهِ» فَلَوْ لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ لَمَا صَلَّى لِأَنَّ الْمَانِعَ كَانَ هُوَ الدَّيْنُ وَمَتَى لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُهُ فَبَقِيَ مَانِعًا. وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الدَّيْنَ مُطَالَبٌ بِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَدَمَ أَيْ

فَلِهَذَا لَزِمَتْهُ الدُّيُونُ مُضَافًا إلَى سَبَبٍ صَحَّ فِي حَيَاتِهِ لِهَذَا صَحَّ الضَّمَانُ عَنْهُ إذَا خَلَفَ مَالًا أَوْ كَفِيلًا ـــــــــــــــــــــــــــــQعَدَمَ الْمُطَالَبَةِ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى فِي الْمَحَلِّ وَهُوَ ضَعْفُ الذِّمَّةِ أَوْ خَرَابُهَا فَيَكُونُ الدَّيْنُ غَيْرَ مُطَالَبٍ بِنَفْسِهِ لِمَعْنًى فِيهِ وَهُوَ سُقُوطُهُ لِعَدَمِ الْمَحَلِّ لَا لِعَجْزٍ بِالْمَعْنَى فِينَا كَاَلَّذِي لَيْسَ لَهُ عَلَى أَحَدٍ دَيْنٌ لَا يُمْكِنُ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالدَّيْنِ لِعَدَمِ الدَّيْنِ لَا لِعَجْزٍ فِيهِ عَنْ الْمُطَالَبَةِ كَذَا هُنَا بِخِلَافِ الدُّرَّةِ السَّاقِطَةِ فِي الْبَحْرِ فَإِنَّ الْعَجْزَ عَنْ الْأَخْذِ لِمَعْنًى فِينَا لَا لِأَنَّهَا غَيْرُ مُمْكِنِ الْأَخْذِ فِي نَفْسِهَا وَبِخِلَافِ الْكَفَالَةِ عَنْ الْمُفْلِسِ الْحَيِّ فَإِنَّ الذِّمَّةَ كَامِلَةٌ مُحْتَمِلَةٌ لِلدَّيْنِ بِنَفْسِهَا فَيَبْقَى الدَّيْنُ مُسْتَحَقَّ الْمُطَالَبَةِ كَمَا كَانَ إذْ لَا يَسْتَحِيلُ مُطَالَبَةُ الْمُفْلِسِ خُصُوصًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ الْإِفْلَاسَ لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَهُ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ وَبِخِلَافِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ فِيهِ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى سَبِيلِ التَّأْجِيلِ فَيَصِحُّ الْتِزَامُهَا بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِالْحَدِيثِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ إذْ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَالٌ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَدْ كَانَ وَعَرَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَيْسَ فِيهِ أَيْضًا أَنَّ هَذِهِ كَفَالَةٌ صَحِيحَةٌ مُبْتَدَأَةٌ عَلَى وَجْهٍ يُبْتَنَى عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْكَفَالَةِ مِنْ تَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ وَالْمُلَازَمَةِ وَالْحَبْسِ وَالْجَبْرِ عَلَى الْقَضَاءِ بَلْ احْتَمَلَ الْإِقْرَارَ وَاحْتَمَلَ الْعِدَّةَ وَهِيَ أَقْرَبُ الْوُجُوهِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَا تَصِحُّ لِلْغَائِبِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ وَلَا يَصِحُّ لِلْمَجْهُولِ بِلَا خِلَافٍ وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا كَانَ يَتَبَيَّنُ بِالْمَالِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ إمْكَانُ الْقَضَاءِ قَبْلَ الْهَلَاكِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ سُقُوطَ الدَّيْنِ عَنْ الْمَيِّتِ وَتَعَذُّرَ الْإِيجَابِ عَلَيْهِ لِضَرُورَةِ ضَعْفِ الذِّمَّةِ أَوْ خَرَابِهَا لِذِمَّةِ الْمَيِّتِ الْمَدْيُونِ. مُضَافًا صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ لُزُومًا مُضَافًا إلَى سَبَبٍ صَحَّ فِي حَيَاتِهِ بِأَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَتَلَفَ فِيهَا إنْسَانٌ أَوْ مَالٌ بَعْدَ مَوْتِهِ لَزِمَ ضَمَانُ النَّفْسِ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَضَمَانُ الْمَالِ فِي مَالِهِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ أَهْلًا لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ عَلَيْهِ لِأَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ لَمَّا وُجِدَ مِنْهُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ أَمْكَنَ إسْنَادُ الْوُجُوبِ إلَى أَوَّلِ السَّبَبِ وَقَدْ كَانَتْ الذِّمَّةُ صَالِحَةً لِلْوُجُوبِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِالضَّمَانِ لِانْدِفَاعِ الضَّرُورَةِ الْمَانِعَةِ عَنْ الْإِيجَابِ بِإِمْكَانِ إسْنَادِهِ إلَى حَالِ كَمَالِ الذِّمَّةِ وَلِهَذَا أَيْ وَلِأَنَّ الذِّمَّةَ لَا يَحْتَمِلُ الدَّيْنَ بِنَفْسِهَا وَلَكِنَّهَا إذًا تَفُوتُ بِالْمُؤَكَّدِ احْتَمَلَتْهُ صَحَّ الضَّمَانُ عَنْ الْمَيِّتِ إذَا خَلَفَ مَالًا أَوْ كَفِيلًا لِأَنَّهُ تَرَكَ مَالًا فَقَدْ تَفُوتُ الذِّمَّةُ بِهِ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الِاسْتِيفَاءِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْوُجُوبِ وَقَدْ صَارَ الْمَالُ عَوْنًا لِلذِّمَّةِ فِي بَعْضِ الْمَحَالِّ لِتَحَمُّلِ الدَّيْنِ كَمَا فِي الْعَبْدِ وَالْمَرِيضِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَبْقَى الدَّيْنُ بِبَقَائِهِ فَتُصْبِحُ الْكَفَالَةُ وَكَذَا إذَا خَلَفَ كَفِيلًا لِأَنَّ ذِمَّةَ الْكَفِيلِ لَمَّا انْضَمَّتْ إلَى ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فِي تَحَمُّلِ الْمُطَالَبَةِ تَفُوتُ ذِمَّتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ بِبَقَاءِ ذِمَّةِ الْكَفِيلِ فَيَبْقَى الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ وَقِيلَ مَعْنَاهُ وَلِأَنَّ السُّقُوطَ لِضَرُورَةِ ضَعْفِ الذِّمَّةِ صَحَّ الضَّمَانُ عَنْ الْمَيِّتِ إذَا خَلَفَ مَالًا أَوْ كَفِيلًا لِانْدِفَاعِ الضَّرُورَةِ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا خَلَفَ مَالًا أَمْكَنَ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ الْمَالِ وَمُطَالَبَةُ الْوَصِيِّ بِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَرِيمِ بِالْمَالِ فِي حَالِ الْمَرَضِ وَلَمَّا تَعَلَّقَ الدَّيْنُ بِالْمَالِ حَالَ قِيَامِ الذِّمَّةِ وَالْمُتَعَلِّقُ بِالْمَالِ لَا يَكُونُ إلَّا لِلِاسْتِيفَاءِ بَقِيَ الدَّيْنُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّ سُقُوطَهُ لَمْ يَكُنْ بِاعْتِبَارِ بَرَاءَةِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ أَصْلًا بَلْ لِضَرُورَةٍ رَاجِعَةٍ إلَى الْمَحَلِّ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا فَإِذَا وُجِدَ لَهُ مَحَلٌّ بِوَجْهٍ يَبْقَى وَالْمَالُ مَحَلُّ الِاسْتِيفَاءِ فَيَبْقَى فِي حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ وَلَمَّا بَقِيَ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ. وَإِذَا خَلَفَ كَفِيلًا تَحَوَّلَ الدَّيْنُ

وَإِنْ كَانَ شَرَعَ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ بَطَلَ إلَّا أَنْ يُوصِيَ فَيَصِحَّ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ أَمَّا الَّذِي شُرِعَ لَهُ فَبِنَاءً عَلَى حَاجَتِهِ لِأَنَّ مَرَافِقَ الْبَشَرِ إنَّمَا شُرِعَتْ لَهُمْ لِحَاجَتِهِمْ لِأَنَّ الْعُبُودِيَّةَ لَازِمَةٌ لِلْبَشَرِ وَالْمَوْتُ لَا يُنَافِي الْحَاجَةَ فَبَقِيَ لَهُ مَا يَنْقَضِي بِهِ الْحَاجَةُ وَلِذَلِكَ بَقِيَتْ التَّرِكَةُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ عِنْدَ قِيَامِ الدُّيُونِ عَلَيْهِ وَلِذَلِكَ قُدِّمَ جِهَازُهُ ثُمَّ دُيُونُهُ وَلِذَلِكَ صَحَّتْ وَصَايَاهُ كُلُّهَا وَاقِعَةً وَمُفَوَّضَةً ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَى ذِمَّتِهِ بِخَرَابِ ذِمَّةِ الْأَصِيلِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ وَإِنْ كَانَتْ ضَمَّ الذِّمَّةِ إلَى الذِّمَّةِ فِي الْمُطَالَبَةِ لَا فِي أَصْلِ الدَّيْنِ وَلَكِنَّهَا يَنْعَقِدُ مُجَوِّزَةً لِتَحَوُّلِ الدَّيْنِ إلَى ذِمَّةِ الْكَفِيلِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَمَا إذَا أَدَّى الْكَفِيلُ الدَّيْنَ أَوْ وُهِبَ لَهُ يَتَحَوَّلُ الدَّيْنُ مِنْ ذِمَّةِ الْأَصِيلِ إلَى ذِمَّةِ الْكَفِيلِ ضَرُورَةَ صِحَّةِ الْأَدَاءِ وَالْهِبَةِ وَقَدْ دَعَتْ الضَّرُورَةُ هَاهُنَا إلَى التَّحَوُّلِ لِيُمْكِنَ إيفَاءُ حُكْمِ الْكَفَالَةِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ فَلِذَلِكَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ فَالطَّرِيقُ الْأَوَّلُ يَقْتَضِي أَنْ يَصِحَّ الْكَفَالَةُ عَنْ الْأَصِيلِ وَعَنْ الْكَفِيلِ أَيْضًا وَالطَّرِيقُ الثَّانِي يُوجِبُ أَنْ يَصِحَّ عَنْ الْكَفِيلِ دُونَ الْأَصِيلِ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي الطَّرِيقَةِ الْبُرْغَرِيَّةِ. 1 - وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَا إذَا قَتَلَ الْمُفْلِسُ الْمَدْيُونَ عَمْدًا فَكَفَلَ بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ إنْسَانٌ صَحَّتْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْقِصَاصُ مَالًا لِأَنَّهُ بِعَرَضٍ أَنْ يَصِيرَ مَالًا بِعَفْوِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ أَوْ بِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فَلِتَوَهُّمِ تَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ فِي الدُّنْيَا بِقَضَاءِ ذَلِكَ الدَّيْنِ يُجْعَلُ الدَّيْنُ بَاقِيًا حُكْمًا فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ وَأَمَّا الْمُتَبَرِّعُ إذَا أَدَّى فَإِنَّمَا صَحَّ لِأَنَّ الْأَدَاءَ يُلَاقِي جَانِبَ صَاحِبِ الْحَقِّ دُونَ الْمَدْيُونِ حَتَّى لَوْ كَانَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ لَمْ يَصِرْ الْمَدْيُونُ مُؤَدِّيًا بَلْ يَبْرَأُ كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُ رَبُّ الدَّيْنِ عَنْهُ وَالدَّيْنُ بَاقٍ فِي حَقِّ صَاحِبِ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا بِمَوْتِ الْآخَرِ وَحُكْمُ السُّقُوطِ عَنْ الْمَدْيُونِ لِضَرُورَةِ فَوْتِ الْمَحَلِّ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ مَنْ عَلَيْهِ دُونَ مَنْ لَهُ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ قَوْلُهُ (وَإِنْ كَانَ شُرِعَ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ) أَيْ وَإِنْ كَانَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ لِحَاجَةِ الْغَيْرِ مَشْرُوعًا عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ كَنَفَقَةِ الْمَحَارِمِ وَالزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَنَحْوِهَا بَطَلَ بِالْمَوْتِ أَيْ سَقَطَ بِهِ لِأَنَّ ضَعْفَ الذِّمَّةِ بِالْمَوْتِ فَوْقَ ضَعْفِهَا بِالرِّقِّ وَالرِّقُّ يَمْنَعُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ فَالْمَوْتُ بِهِ أَوْلَى إلَّا أَنْ يُوصِيَ فَيَصِحَّ مِنْ الثُّلُثِ لِأَنَّ الشَّرْعَ جَوَّزَ تَصَرُّفَهُ فِي الثُّلُثِ نَظَرًا لَهُ وَنَفْعُ الْوَصِيَّةِ رَاجِعٌ إلَيْهِ فَيَجِبُ تَصْحِيحُهَا نَظَرًا لَهُ قَوْلُهُ (وَأَمَّا الَّذِي) أَيْ الْحُكْمُ الَّذِي شُرِعَ لِلْعَبْدِ وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ. فَبِنَاءً عَلَى حَاجَتِهِ لِأَنَّ مَرَافِقَ الْبَشَرِ أَيْ مَا يَرْتَفِقُونَ بِهِ مِنْ الْمَشْرُوعَاتِ إنَّمَا شُرِعَتْ لِحَاجَتِهِمْ لِأَنَّ الْعُبُودِيَّةَ لَازِمَةٌ لِلْبَشَرِ فَإِنَّهَا صِفَةٌ تَثْبُتُ فِيهِمْ لِكَوْنِهِمْ مَخْلُوقِينَ مُحْدَثِينَ بِخَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبِإِحْدَاثِهِ وَلَا يُتَصَوَّرُ زَوَالُ هَذِهِ الصِّفَةِ عَنْهُمْ وَالْعُبُودِيَّةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْحَاجَةِ لِأَنَّهَا تُنْبِئُ عَنْ الْعَجْزِ وَالِافْتِقَارِ فَشُرِعَتْ لَهُمْ مِنْ الْمَرَافِقِ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ حَوَائِجُهُمْ وَالْمَوْتُ لَا يُنَافِي الْحَاجَةَ لِأَنَّهَا تَنْشَأُ عَنْ الْعَجْزِ الَّذِي هُوَ دَلِيلُ النُّقْصَانِ وَلِهَذَا قِيلَ الْحَاجَةُ نَقْصٌ يَرْتَفِعُ بِالْمَطْلُوبِ وَيَنْجَبِرُ بِهِ وَلَا عَجْزَ فَوْقَ الْمَوْتِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَوْتَ لَا يُنَافِي الْحَاجَةَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَبْقَى لَهُ أَيْ لِلْمَيِّتِ مِمَّا كَانَ مَشْرُوعًا لَهُ لِحَاجَتِهِ مَا يُقْتَضَى بِهِ الْحَاجَةُ وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِأَنَّ بَقَاءَ التَّرِكَةِ عَلَى مِلْكِهِ لِلْحَاجَةِ قُدِّمَ جِهَازُهُ ثُمَّ دُيُونُهُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى التَّجْهِيزِ أَقْوَى مِنْهَا إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ فَوَجَبَ تَقْدِيمُ التَّجْهِيزِ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ. أَلَا تَرَى أَنَّ فِي حَالِ الْحَيَاةِ لِبَاسُهُ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْغُرَمَاءِ حَتَّى لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَنْزِعُوا ثِيَابَهُ لِمِسَاسِ حَاجَتِهِ إلَيْهَا فَكَذَا بَعْدَ الْمَمَاتِ وَإِنَّمَا يُقَدَّمُ التَّجْهِيزُ عَلَى الدَّيْنِ إذَا لَمْ يَكُنْ حَقُّ الْغَيْرِ مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ فَأَمَّا إذَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِهَا كَمَا فِي الْمُسْتَأْجَرِ وَالْمَرْهُونِ وَالْمُشْتَرَى قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْعَبْدِ الْجَانِي وَنَحْوِهَا فَصَاحِبُ الْحَقِّ أَحَقُّ بِالْعَيْنِ وَأَوْلَى بِهَا مِنْ صَرْفِهَا إلَى التَّجْهِيزِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِالْعَيْنِ

وَلِذَلِكَ بَقِيَتْ الْكِتَابَةُ وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ لِحَاجَةِ الْمُكَاتَبِ وَهِيَ أَقْوَى الْحَوَائِجِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ نُدِبَ فِيهِ حَطُّ بَعْضِ الْبَدَلِ فَإِذَا جَازَ بَقَاءُ مَالِكِيَّةِ الْمَوْلَى بَعْدَ مَوْتِهِ لِيَصِيرَ مُعْتِقًا فَلَأَنْ يَبْقَى هَذِهِ الْمَالِكِيَّةُ لِيَصِيرَ مُعْتِقًا أَوْلَى ـــــــــــــــــــــــــــــQتَعَلُّقًا مُؤَكَّدًا. وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِبَقَاءِ الْحَاجَةِ صَحَّتْ وَصَايَاهُ كُلُّهَا إذَا لَمْ تُجَاوِزْ الثُّلُثَ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا نَظَرَ لَهُ وَقَطَعَ حَقَّ الْوَارِثِ عَنْ الثُّلُثِ لِحَاجَتِهِ إلَى تَدَارُكِ مَا فَرَّطَ فِي حَيَاتِهِ صَحَّتْ وَصَايَاهُ وَاقِعَةً أَيْ مُنَفَّذَةً بِأَنْ أَوْصَى بِنَفْسِهِ بِشَيْءٍ أَوْ تَبَرَّعَ فِي حَالِ مَرَضِهِ بِشَيْءٍ أَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا أَوْ دَبَّرَهُ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَمُفَوِّضُهُ أَيْ إلَى الْوَرَثَةِ بِأَنْ أَوْصَى بِإِعْتَاقِ عَبْدٍ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ بِبِنَاءِ مَسْجِدٍ أَوْ رِبَاطٍ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ وَنَحْوِهَا وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِبَقَاءِ مَا يَنْقَضِي بِهِ حَاجَتُهُ بَقِيَتْ الْكِتَابَةُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ صِحَّةَ الْكِتَابَةِ بِاعْتِبَارِ مَالِكِيَّتِهِ لِيَصِيرَ مُعْتَقًا وَيَحْصُلُ لَهُ الْبَدَلُ مَعَ ذَلِكَ بِمُقَابَلَةِ فَوَاتِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَحَاجَتُهُ إلَى الْأَمْرَيْنِ بَعْدَ الْمَوْتِ بَاقِيَةٌ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى حُصُولِ الْإِعْتَاقِ مِنْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِيَحْصُلَ الْوَلَاءُ لَهُ وَلِيَتَخَلَّصَ بِهِ مِنْ الْعَذَابِ عَلَى مَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَيُّمَا مُسْلِمٌ أَعْتَقَ مُؤْمِنًا أَعْتَقَ اللَّهُ تَعَالَى بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْ النَّارِ» وَيَحْتَاجُ إلَى حُصُولِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عَلَى مِلْكِهِ لِيُسْتَوْفَى مِنْهُ دُيُونُهُ فَيَتَخَلَّصُ بِهِ مِنْ الْعَذَابِ أَيْضًا فَلِذَلِكَ تَبْقَى الْكِتَابَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ قَوْلُهُ (وَلِذَلِكَ) أَيْ وَلِلِاحْتِيَاجِ إلَى بَقَاءِ الْكِتَابَةِ بَقِيَتْ الْكِتَابَةُ عِنْدَنَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُكَاتَبِ عَنْ وَفَاءٍ فَتُؤَدِّي كِتَابَتُهُ وَيُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ فِي آخَرِ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ حَتَّى يَكُونَ مَا بَقِيَ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَنْفَسِخُ الْكِتَابَةُ بِمَوْتِهِ وَالْمَالُ كُلُّهُ لِلْمَوْلَى وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الرَّقَبَةُ إذْ الْعَقْدُ يُضَافُ إلَيْهَا وَعَنْ فَسَادِ الْعَقْدِ يَرْجِعُ إلَى قِيمَتِهَا كَمَا يَرْجِعُ إلَى قِيمَةِ الْمَبِيعِ عِنْدَ فَسَادِ الْعَقْدِ وَقَدْ فَاتَ بِمَوْتِهِ قَبْلَ سَلَامَتِهِ لَهُ فَيُوجِبُ انْفِسَاخَ الْعَقْدِ كَمَا لَوْ مَاتَ عَاجِزًا وَكَمَا لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَلِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ إنَّمَا يَبْقَى لِيُعْتَقَ الْمُكَاتَبُ بِوُصُولِ الْبَدَلِ إلَى الْمَوْلَى إذَا الْمَقْصُودُ مِنْ الْعَقْدِ فِي جَانِبِهِ تَحْصِيلُ الْحُرِّيَّةِ وَالْمَيِّتُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْعِتْقِ ابْتِدَاءً لِمَا فِي الْعِتْقِ مِنْ إحْدَاثِ قُوَّةِ الْمَالِكِيَّةِ وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمَيِّتِ وَلِأَنَّ الرِّقَّ مِنْ شَرْطِهِ وَالْمَيِّتُ لَا يُوصَفُ بِالرِّقِّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنِدَ الْعِتْقُ إلَى حَالِ حَيَاتِهِ لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِالشَّرْطِ لَا يَسْبِقُ الشَّرْطَ وَفِي إسْنَادِهِ إلَى حَالِ حَيَاتِهِ إثْبَاتُ الْعِتْقِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْأَدَاءُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الْمَوْلَى لِأَنَّ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِبَقَاءِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ مَحَلَّ الْعَقْدِ قَائِمٌ قَابِلٌ لِلْعِتْقِ وَالْمَوْلَى إنَّمَا يَصِيرُ مُعْتَقًا عِنْدَ أَدَاءِ الْبَدَلِ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ وَذَلِكَ قَدْ صَحَّ وَلَزِمَ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَمَوْتُهُ لَا يُبْطِلُ الْكِتَابَةَ فَأَمَّا الْعَبْدُ فَمَحَلُّ الْعِتْقِ وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى مَحَلِّيَّةِ التَّصَرُّفِ حَالَ نُفُوذِهِ وَثُبُوتِ حُكْمِهِ وَقَدْ بَطَلَتْ الْمَحَلِّيَّةُ فَيَبْطُلُ الْحُكْمُ. يُوَضِّحُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ إذَا عَلَّقَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ بِشَرْطٍ ثُمَّ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَوَجَدَ الشَّرْطَ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَجْنُونُ أَوْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ أَهْلًا لِلْإِيقَاعِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَلَوْ أَبَانَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ وَجَدَ الشَّرْطَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِأَنَّهَا لَمْ تَبْقَ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ وَلَوْ أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدِهِ أَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي كَانَ صَحِيحًا وَلَوْ قَالَ بَعْدَ مَوْتِكَ كَانَ لَغْوًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْفَرْقَ ثَابِتٌ بَيْنَ مَوْتِ الْمَوْلَى وَبَيْنَ مَوْتِ الْمُكَاتَبِ وَنَحْنُ نَقُولُ الْمُكَاتَبَةُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَتَمْلِيكٍ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْقَاقِ وَاللُّزُومِ فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ مَلَكَ بِهَا يَدَهُ وَتَصَرُّفَهُ مِنْ حَيْثُ الِاكْتِسَابُ وَمَكَاسِبُهُ مِنْ حَيْثُ الْيَدُ وَالتَّصَرُّفُ أَيْضًا عَلَى سَبِيلِ اللُّزُومِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ الْمُكَاتَبُ مَالِكٌ بِحُكْمِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ

وَأَمَّا الْمَمْلُوكِيَّةُ فَهِيَ تَابِعَةٌ فِي الْبَابِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْمَوْلَى مَلَكَ فِي مُقَابَلَتِهِ مَالَ الْكِتَابَةِ مِنْ حَيْثُ يُطَالِبُهُ بِذَلِكَ وَيَحْبِسُهُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ أَصْلَ الْمَالِ وَثَبَتَ لِلْمُكَاتَبِ بِمَا مَلَكَ حَقٌّ أَنْ يُؤَدِّيَ الْكِتَابَةَ مِنْ مِلْكِهِ فَيُحْرِزَ بِهِ نَفْسَهُ وَحُرِّيَّتَهُ كَمَا يَثْبُتُ لِلْمَالِكِ حَقٌّ أَنْ يَقْبِضَ فَيُتَمِّمَ مِلْكَهُ فِي أَصْلِ الْمَالِ فَهَذَا يُتَمِّمُ مِلْكَهُ بِالْقَبْضِ فِي رَقَبَةِ الْمَالِ وَالْمُكَاتَبُ يُتِمُّ إحْرَازَ نَفْسِهِ بِالْأَدَاءِ مِنْ مِلْكِهِ لِكُلِّ أَحَدٍ حَقٌّ قَبْلَ صَاحِبِهِ بِالْعَقْدِ بِحَقِّ الْمَالِكِيَّةِ الثَّابِتَةِ بِهَذَا الْعَقْدِ. وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَالِكِيَّةَ الْمُكَاتَبِ تَثْبُتُ لِحَاجَتِهِ إلَى إحْرَازِ نَفْسِهِ وَصَيْرُورَتِهِ مُعْتَقًا بِوَاسِطَةِ هَذِهِ الْمَالِكِيَّةِ كَمَا أَنَّ مَالِكِيَّةَ الْمَوْلَى الثَّابِتَةَ بِهَذَا الْعَقْدِ شُرِعَتْ لِحَاجَتِهِ إلَى مِلْكِ الْبَدَلِ وَصَيْرُورَتِهِ مُعْتَقًا بِوَاسِطَتِهِ وَإِحْرَازِهِ الْوَلَاءَ الَّذِي صَارَ الْمُعْتَقُ بِهِ بِمَنْزِلِ الْوَلَدِ وَهِيَ أَيْ حَاجَةُ الْمُكَاتَبِ إلَى الْحُرِّيَّةِ أَقْوَى الْحَوَائِجِ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ رَأْسُ مَالِ الْحَيِّ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا إذْ الرَّقِيقُ فِي حُكْمِ الْأَمْوَاتِ لِأَنَّ الرِّقَّ أَثَرُ الْكُفْرِ الَّذِي هُوَ مَوْتٌ حُكْمًا وَيَدْخُلُ بِالْعِتْقِ فِي أَحْكَامِ الْأَحْيَاءِ وَالدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهَا أَقْوَى الْحَوَائِجِ أَنَّهُ نَدَبَ فِي هَذَا الْعَقْدِ إلَى حَطِّ بَعْضِ الْبَدَلِ بِقَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْعِتْقُ ثُمَّ مَا ثَبَتَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ لِلْمَوْلَى يَبْقَى بَعْدِ مَوْتِهِ لِحَاجَتِهِ إلَى مِلْكِ الْبَدَلِ وَنِسْبَةِ الْوَلَاءِ إلَيْهِ بِصَيْرُورَتِهِ مُعْتَقًا فَلِأَنَّ مَا ثَبَتَ لِلْمُكَاتَبِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ بَعْدَ مَوْتِهِ لِحَاجَتِهِ إلَى حُصُولِ الْحُرِّيَّةِ كَانَ أَوْلَى لِأَنَّ حَاجَتَهُ إلَى تَحْصِيلِ الْحُرِّيَّةِ فَوْقَ حَاجَةِ مَوْلَاهُ إلَى الْوَلَاءِ. وَقَوْلُهُ: وَأَمَّا الْمَمْلُوكِيَّةُ فَتَابِعَةٌ فِي الْبَابِ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ قُلْتُمْ بِبَقَاءِ مِلْكِيَّةِ الْمُكَاتَبِ لَزِمَ الْقَوْلُ بِبَقَاءِ مَمْلُوكِيَّتِهِ إذْ الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِبَقَاءِ مَمْلُوكِيَّتِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّ إبْقَاءَ الْمَالِكِيَّةِ لِمَعْنَى الْكَرَامَةِ وَلَا كَرَامَةَ فِي إبْقَاءِ الْمَمْلُوكِيَّةِ لِأَنَّهَا تُنْبِئُ عَنْ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ وَإِذَا لَمْ تَبْقَ الْمَمْلُوكِيَّةُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَصِيرَ مُعَتَّقًا بَعْدَ مَوْتِهِ فَنَفْسَخُ الْكِتَابَةَ فَقَالَ بَقَاءُ الْمَمْلُوكِيَّةِ يَكُونُ تَبَعًا لِبَقَاءِ الْمَالِكِيَّةِ لَا مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ. وَبَيَانُهُ أَنَّا قَدْ احْتَجْنَا إلَى بَقَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إلَّا بِبَقَاءِ الْمَمْلُوكِيَّةِ وَمَحَلِّيَّةِ التَّصَرُّفِ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ فَيَبْقَى الْمَمْلُوكِيَّةُ شَرْطًا لِتَحْقِيقِ الْمَالِكِيَّةِ وَلَيْسَتْ هِيَ بِمَقْصُودَةٍ بِالْبَقَاءِ إنَّمَا الْمَالِكِيَّةُ هِيَ الْمَقْصُودَةُ اسْتِدْلَالًا بِجَانِبِ الْمَوْلَى لَكِنَّ مِنْ شَرْطِ بَقَائِهَا بَقَاءَ الْمَمْلُوكِيَّةِ لِيُمْكِنَ إبْدَالُ الْعِتْقِ فِيهَا فَتَحَقُّقُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشُّرُوطِ اتِّبَاعٌ فَبَقَّيْنَاهَا تَبَعًا يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُكَاتَبَ يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ مَالِكًا مِنْ وَجْهٍ لَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِأَنَّهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ كَذَلِكَ وَمِنْ ضَرُورَةِ بَقَائِهِ مَالِكًا مِنْ وَجْهٍ أَنْ يَبْقَى مَعَهُ مَمْلُوكِيَّةٌ مِنْ وَجْهٍ إذْ لَوْ لَمْ يَبْقَ مَمْلُوكًا مِنْ وَجْهٍ لَصَارَ مَالِكًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَمْ يَكُنْ فِي حَالِ الْحَيَاةِ كَذَلِكَ وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْمَمْلُوكِيَّةَ بَاقِيَةٌ مِنْ وَجْهٍ حَكَمْنَا بِنُفُوذِ الْعِتْقِ لِوُجُودِ شَرْطِهِ وَتَقَرَّرَتْ بِهِ مَالِكِيَّتُهُ الَّتِي اسْتَفَادَهَا بِالْعَقْدِ وَإِذَا ثَبَتَ اسْتَنَدَتْ إلَى آخِرِ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ لِأَنَّ الْإِرْثَ ثَبَتَ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ فَلَا بُدَّ مِنْ إسْنَادِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْعِتْقِ الْمُقَرَّرِ لَهَا إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ كَمَا فِي جَانِبِ الْمَوْلَى ثَبَتَ مِلْكُ الْبَدَلِ عِنْدَ الْقَبْضِ وَاسْتَنَدَ مِلْكُهُ إلَى حَالِ حَيَاتِهِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا كَذَا فِي الطَّرِيقَةِ الْبُرْغَرِيَّةِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَكَمَ بَقَاءَ الْمَمْلُوكِيَّةِ قَصْدًا فَقَالَ لَمَّا جَازَ أَنْ تَبْقَى مَالِكِيَّةُ الْمَوْلَى بَعْدَ مَوْتِهِ لِيَصِيرَ مُعْتَقًا جَازَ أَنْ تَبْقَى مَمْلُوكِيَّةُ الْمُكَاتَبِ بَعْدَ مَوْتِهِ لِيَصِيرَ حُرًّا لِأَنَّ الْمَمْلُوكِيَّةَ الَّتِي هِيَ تُنْبِئُ عَنْ الضَّعْفِ أَلْيَقُ بِحَالِ الْمَيِّتِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ الَّتِي هِيَ ضَرْبُ قُوَّةٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ بَقَاءِ الْمَمْلُوكِيَّةِ

وَلِهَذَا وَجَبَتْ الْمَوَارِيثُ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْمَيِّتِ نَظَرٌ لَهُ مِنْ جِهَةٍ حَتَّى صُرِفَتْ إلَى مَنْ يَتَّصِلُ بِهِ نَسَبًا أَوْ سَبَبًا أَوْ دَيْنًا أَوْ دِينًا بِلَا نَسَبٍ وَسَبَبٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQبَعْدَ مَوْتِهِ لِحَاجَتِهِ أَنْ كَفَنَ الْعَبْدِ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى مَوْلَاهُ وَلَا سَبَبَ لِاسْتِحْقَاقِهِ عَلَيْهِ سِوَى الْمَمْلُوكِيَّةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَا نَحْكُمُ بِبَقَاءِ الْمَمْلُوكِيَّةِ وَلَا نَجْعَلُهُ حُرًّا بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَكِنَّا نُسْنِدُ حُرِّيَّتَهُ إلَى حَالِ حَيَاتِهِ لِأَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ كَانَ فِي ذِمَّتِهِ وَالدَّيْنُ يَتَحَوَّلُ مِنْ الذِّمَّةِ إلَى التَّرِكَةِ لِأَنَّ الذِّمَّةَ لَا تَبْقَى مَحَلًّا صَالِحًا لِلدَّيْنِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلِهَذَا حَلَّ الْأَجَلُ بِالْمَوْتِ فَإِذَا تَحَوَّلَ بَدَلُ الْكِتَابَةِ إلَى التَّرِكَةِ فَرَغَتْ الذِّمَّةُ مِنْهُ وَفَرَاغُ ذِمَّةِ الْمُكَاتَبِ يُوجِبُ حُرْمَتَهُ إلَّا أَنَّهُ لَا نُجَوِّزُ الْحُكْمَ بِحُرِّيَّتِهِ مَا لَمْ يَصِلْ الْمَالُ إلَى الْمَوْلَى فَإِذَا وَصَلَ الْمَالُ إلَيْهِ حُكِمَ بِحُرِّيَّتِهِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَا حَاجَةَ إلَى إبْقَاءِ الْمَمْلُوكِيَّةِ فَإِنْ حَكَمْنَا بِحُرِّيَّتِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ ثُمَّ أَسْنَدْنَاهَا إلَى حَالِ الْحَيَاةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إبْقَاءِ حُرِّيَّةِ أَوْلَادِهِ وَسَلَامَةِ أَكْسَابِهِ لَا حُرِّيَّتَهُ قَصْدًا وَالْوَلَدُ قَائِمٌ قَابِلٌ لِلْعِتْقِ وَالْكَسْبُ قَابِلٌ لِلْمِلْكِ وَلَكِنَّ الشَّرْطَ نُفُوذُ الْعِتْقِ فِي الْمُكَاتَبِ فَيَثْبُتُ عِتْقُهُ شَرْطًا لَا مَقْصُودًا فَلَا يُرَاعَى فِيهِ كَوْنُ الْمَحَلِّ قَابِلًا لِهَذَا الْحُكْمِ كَمَا أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَغْلُوبِ لَمَّا ثَبَتَ شَرْطًا لِمِلْكِ الْبَدَلِ لَا مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ ثَبَتَ عَنْهُ إذْ الْبَدَلُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْغَصْبِ وَإِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مَالِكًا وَآبِقًا وَقْتَ الْأَدَاءِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَا إذَا قُتِلَ الْمُكَاتَبُ خَطَأً وَقَدْ تَرَكَ وَفَاءً بِمُكَاتَبَتِهِ حَيْثُ يَضْمَنُ الْقَاتِلُ قِيمَتَهُ لَا دِيَتَهُ وَلَوْ حُكِمَ بِمَوْتِهِ حُرًّا لَكَانَ الْمَضْمُونُ دِيَتَهُ لِأَنَّا أَسْنَدْنَا حُرِّيَّتَهُ إلَى آخِرِ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ وَالْجُرْحُ وُجِدَ قَبْلَهُ وَمَنْ جَرَحَ مُكَاتَبًا ثُمَّ عَتَقَ ثُمَّ تَوَى يَضْمَنُ قِيمَتَهُ لَا دِيَتَهُ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُضَافٌ إلَى الْجُرْحِ وَهُوَ عَبْدٌ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ. وَلَا يَلْزَمُ أَيْضًا مَا إذَا أَوْصَى إلَى رَجُلٍ أَوْ لِرَجُلٍ بِشَيْءٍ لَا يَجُوزُ إيصَاؤُهُ وَوَصِيَّتُهُ وَكَذَا لَوْ قَذَفَهُ إنْسَانٌ بَعْدَ مَوْتِهِ عَنْ وَفَاءٍ وَأَدَاءٍ بَدَلَ كِتَابَتِهِ لَا يُحَدُّ وَلَوْ حُكِمَ بِحُرِّيَّتِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ لَجَازَ إيصَاؤُهُ وَلَحُدَّ قَاذِفُهُ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إسْنَادَ حُرِّيَّتِهِ فِي حُكْمِ الْكِتَابَةِ لِلضَّرُورَةِ فَلَا يَظْهَرُ فِيمَا لَا ضَرُورَةَ فِيهِ وَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ الثَّابِتَةَ بِالْإِسْنَادِ ثَابِتَةٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَا يَثْبُتُ بِهَا الْإِحْصَانُ وَالْحَدُّ لَا يَجِبُ بِقَذْفِ غَيْرِ الْمُحْصَنِ فَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَيَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ وَكَذَا الْمِيرَاثُ فَلَا يَمْنَعُ لِلْإِسْنَادِ بِثُبُوتِهَا قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّهُ تَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ مَا يَنْقَضِي بِهِ حَاجَةُ الْمَيِّتِ وَجَبَتْ الْمَوَارِيثُ أَيْ ثَبَتَتْ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْمَيِّتِ لِأَنَّ حَاجَتَهُ إلَى مَنْ يَخْلُفُهُ فِي أَمْوَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَخُرُوجِهِ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْمِلْكِ بَاقِيَةٌ فَأَقَامَ الشَّرْعُ أَقْرَبَ النَّاسِ إلَيْهِ مَقَامَهُ لِيَكُونَ انْتِفَاعُهُ بِمِلْكِ الْمَيِّتِ بِمَنْزِلَةِ انْتِفَاعِهِ بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ نَظَرًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَكِنْ مِنْ حَيْثُ إنَّ حَقِيقَةَ الِانْتِفَاعِ لَا يَحْصُلُ لَهُ وَفِي الِانْتِفَاعِ الْحُكْمِيِّ وَهُوَ حُصُولُ الثَّوَابِ لَهُ الْوَارِثُ وَالْأَجْنَبِيُّ سَوَاءٌ لَا يَكُونُ فِيهِ زِيَادَةُ نَظَرٍ فَكَانَ نَظَرًا لَهُ مِنْ وَجْهٍ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ نَظَرًا لَهُ مِنْ وَجْهٍ بِخِلَافِ تَعَلُّقِ الْغَرِيمِ بِمَالِهِ وَأَيْضًا دَيْنِهِ فَإِنَّ نَفْعَهُ رَاجِعٌ إلَيْهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ حَائِلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ فَكَانَ إيفَاؤُهُ سَبَبًا بِوُصُولِهِ إلَى الْجَنَّةِ وَخَلَاصِهِ مِنْ الْعَذَابِ فَكَانَ نَظَرًا لَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَقَوْلُهُ دَيْنًا مُتَعَلِّقٌ بِالنَّسَبِ وَالسَّبَبِ جَمِيعًا وَدَيْنًا كَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ وَالْمُوَالَاةِ وَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ أَوْ دَيْنًا بِلَا نَسَبٍ وَسَبَبٍ كَعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ يُوضَعُ مَالُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ الَّذِي أُعِدَّ لِحَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ. 1 - قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ الْمَوْتَ مِنْ أَسْبَابِ الْخِلَافَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَوَارِيثَ تَجِبُ بِهَذَا الطَّرِيقِ صَارَ التَّعْلِيقُ بِالْمَوْتِ أَيْ تَعْلِيقُ الْإِيجَابِ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ إسْقَاطًا

وَلِهَذَا صَارَ التَّعْلِيقُ بِالْمَوْتِ بِخِلَافِ سَائِرِ وُجُوهِ التَّعْلِيقِ لِأَنَّ الْمَوْتَ مِنْ أَسْبَابِ الْخِلَافَةِ فَيَصِيرُ التَّعْلِيقُ بِهِ وَهُوَ كَائِنٌ بِيَقِينِ إيجَابِ حَقٍّ لِلْحَالِ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ عَنْهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِأَنْ قَالَ إذَا مِتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ تَمْلِيكًا بِأَنْ أَوْصَى بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ وَالْمُرَادُ مِنْ التَّعْلِيقِ الْإِضَافَةُ يُخَالِفُ سَائِرَ وُجُوهِ التَّعْلِيقِ حَتَّى صَحَّ تَعْلِيقُ التَّمْلِيكِ بِهِ إذْ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ هُوَ التَّعْلِيقُ وَلَمْ يَصِحَّ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ وَلَزِمَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِهِ بِحَيْثُ لَمْ يَجُزْ إبْطَالُهُ بِالْبَيْعِ عِنْدَنَا وَلَمْ يَلْزَمْ تَعْلِيقُهُ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ حَتَّى جَازَ إبْطَالُهُ بِالْبَيْعِ وَكَذَا التَّعْلِيقُ بِالْمَوْتِ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ السَّبَبِ فِي الْحَالِ كَشَرْطِ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ بِخِلَافِ سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ وَحَاصِلُ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ الَّذِي عُلِّقَ عِتْقُهُ بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى بِأَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ إذَا مِتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ عَنْ دُبُرٍ مِنِّي أَوْ دَبَّرْتُكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ الْمُقَيَّدِ بِأَنْ قَالَ الْمَوْلَى إنْ مِتُّ مِنْ مَرَضِي هَذَا وَإِنْ قَدِمَ غَائِبِي أَوْ إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَأَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي يَجُوزُ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ لِأَنَّهُ إيجَابٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ وَلَوْ كَانَ إيجَابًا لِلْحَالِ لَمَا اُعْتُبِرَ مِنْ الثُّلُثِ وَالْوَصِيَّةُ لَا تَمْنَعُ التَّصَرُّفَ كَمَا إذَا أَوْصَى بِهِ لِرَجُلٍ وَلَا يُقَالُ هَذِهِ وَصِيَّةٌ لَازِمَةٌ لِأَنَّهَا تَعْلِيقُ عِتْقٍ بِشَرْطٍ. لِأَنَّا نَقُولُ اللُّزُومُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ فِي أَنَّ بَيْعَ الْعَبْدِ الْمَحْلُوفِ بِعِتْقٍ جَائِزٌ سَوَاءٌ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِشَرْطٍ كَائِنٍ كَمَجِيءِ غَدٍ أَوْ بِشَرْطٍ فِيهِ خَطَرٌ كَدُخُولِ الدَّارِ وَنَحْنُ نَقُولُ هَذَا شَخْصٌ تَعَلَّقَ عِتْقُهُ بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ بَيْعُهُ كَمَا فِي أُمِّ الْوَلَدِ وَتَحْقِيقُهُ مَا أُشِيرَ إلَيْهِ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْمَوْتَ مِنْ أَسْبَابِ الْخِلَافَةِ لِمَا بَيَّنَّا فِي الْمَوَارِيثِ فَيَصِيرُ التَّعْلِيقُ أَيْ تَعْلِيقُ الْإِيجَابِ إسْقَاطًا كَانَ أَوْ تَمْلِيكًا بِالْمَوْتِ وَهُوَ أَمْرٌ كَائِنٌ بِيَقِينِ إيجَابِ حَقٍّ لِمَنْ وَقَعَ لَهُ الْإِيجَابُ فِي الْحَالِ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْمَيِّتِ وَقَوْلُهُ وَهُوَ كَائِنٌ بِيَقِينٍ لِبَيَانِ تَحْقِيقِ الْخِلَافَةِ فَإِنَّ الْمَوْتَ لَمَّا كَانَ كَائِنًا لَا مَحَالَةَ كَانَ التَّعْلِيقُ بِهِ إثْبَاتَ الْخِلَافَةِ بِلَا شَكٍّ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الْبُرْغَرِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إنَّ الْإِيصَاءَ إثْبَاتُ عَقْدِ الْخِلَافَةِ فِي مِلْكِهِ لِلْمُوصَى لَهُ مُقَدَّمًا عَلَى الْوَارِثِ فَاعْتُبِرَ لِلْحَالِ سَبَبًا لِإِثْبَاتِ الْخِلَافَةِ كَالنَّسَبِ وَالْوَلَاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّ حَالَ الْمَوْتِ حَالُ زَوَالِ الْمِلْكِ وَتَعْلِيقُ الْإِيجَابِ إسْقَاطًا كَانَ أَوْ تَمْلِيكًا بِحَالِ زَوَالِ الْمِلْكِ لَا يَصِحُّ فَعُلِمَ أَنَّ السَّبَبَ يَكُونُ مُنْعَقِدًا حَالَ بَقَاءِ الْمِلْكِ وَالْحَقُّ ثَابِتٌ لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ التَّأْجِيلِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْخِلَافَةَ يَعْنِي الْخِلَافَةَ الثَّابِتَةَ بِالشَّرْعِ إذَا ثَبَتَ سَبَبُهَا وَهُوَ مَرَضُ الْمَوْتِ ثَبَتَ بِذَلِكَ السَّبَبُ حَقٌّ لِلْخَلِيفَةِ وَهُوَ الْوَارِثُ يَصِيرُ الْمَرِيضُ بِثُبُوتِ ذَلِكَ الْحَقِّ لَهُ مَحْجُورًا عَنْ التَّصَرُّفِ الَّذِي يُبْطِلُ ذَلِكَ الْحَقَّ فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ سَبَبُ الْخِلَافَةِ بِالنَّصِّ أَيْ بِتَنْصِيصِ الْأَصْلِ بِأَنْ قَالَ أَوْصَيْت لِفُلَانٍ بِكَذَا أَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي أَوْ إذَا مِتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ يَثْبُتُ لِلْمُوصَى لَهُ وَلِلْعَبْدِ بِهَذَا السَّبَبِ حَقٌّ فِي الْمُوصَى بِهِ وَفِي الرَّقَبَةِ فِي الْحَالِ عَلَى وَجْهٍ يَصِيرُ الْمُوصَى مَحْجُورًا عَنْ إبْطَالِهِ إذَا كَانَ لَازِمًا. وَصَارَ الْمَالُ مِنْ ثَمَرَاتِهِ أَيْ ثَمَرَاتِ ثُبُوتِ سَبَبِ الْخِلَافَةِ يَعْنِي بِهِ أَنَّ الْإِيصَاءَ إثْبَاتٌ لِلْخِلَافَةِ وَالْمِلْكِ يَثْبُتُ حُكْمًا لِثُبُوتِ سَبَبِ الْخِلَافَةِ لَا أَنْ يَكُونَ الْإِيصَاءُ تَصَرُّفًا فِي الْمَالِ قَصْدًا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ أَوْصَيْت لِفُلَانٍ بِثُلُثِ مَالِي وَلَا مَالَ لَهُ يَصِحُّ حَتَّى لَوْ حَدَثَ لَهُ مَالٌ ثُمَّ مَاتَ كَانَ ثُلُثُهُ لِلْمُوصَى لَهُ وَلَوْ كَانَ تَمْلِيكًا لِلْمَالِ قَصْدًا كَانَ قِيَامُ الْمَالِ شَرْطًا

أَلَا يَرَى أَنَّ الْخِلَافَةَ إذَا ثَبَتَ سَبَبُهَا وَهُوَ مَرَضُ الْمَوْتِ لِلْوَارِثِ ثَبَتَ بِهِ حَقٌّ يَصِيرُ بِهِ الْمَرِيضُ مَحْجُورًا فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَصَارَ الْمَالُ مِنْ ثَمَرَاتِهِ فَيُنْظَرُ مَنْ بَعْدُ فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ لَازِمًا بِأَصْلِهِ مِثْلَ حَقِّ الْعِتْقِ بِالتَّدْبِيرِ مُنِعَ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْلَى لِلُزُومِهِ وَهُوَ مَعْنَى التَّعْلِيقِ فَلِذَلِكَ بَطَلَ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ وَصَارَ ذَلِكَ كَأُمِّ الْوَلَدِ فَإِنَّهَا اسْتَحَقَّتْ شَيْئَيْنِ حَقُّ الْعِتْقِ لِمَا بَيَّنَّا وَسُقُوطُ الْقَوْمِ لِمَا بَيَّنَّا وَسُقُوطُ الْقَوْمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ التَّقَوُّمَ بِالْإِحْرَازِ يَكُونُ وَقَدْ ذَهَبَ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَبِدَلِيلِ أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِلْمُوصَى لَهُ بِمَوْتِ الْمُوصِي مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ كَمَا يَثْبُتُ فِي الْمَوَارِيثِ وَيَمْتَنِعُ بِالدَّيْنِ كَمَا يَمْتَنِعُ بِهِ مِلْكُ وَارِثٍ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِيصَاءَ إيجَابُ سَبَبِ الْخِلَافَةِ لِلْحَالِ وَيَثْبُتُ حُكْمُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَلَمَّا كَانَ سَبَبًا لِلْحَالِ يَثْبُتُ لِلْمُوصَى لَهُ حَقٌّ فِي الْحَالِ يَصِيرُ حَقِيقَةً عِنْدَ الْمَوْتِ كَمَا فِي حَقِّ الْوَارِثِ فَيَنْظُرُ مِنْ بَعْدِ أَيْ مِنْ بَعْدِ ثُبُوتِ الْحَقِّ بِثُبُوتِ سَبَبِ الْخِلَافَةِ فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ غَيْرَ لَازِمٍ بِأَصْلِهِ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ كَانَ لِلْمُوصِي وِلَايَةُ إبْطَالِهِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالرُّجُوعِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّ سَبَبَ الْخِلَافَةِ وَإِنْ كَانَ مُنْعَقِدًا لَكِنَّ الْحَقَّ الثَّابِتَ بِهِ وَهُوَ حَقُّ الْمِلْكِ غَيْرُ لَازِمٍ فَلَمْ يَلْزَمْ سَبَبُهُ أَيْضًا قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْخِلَافَةُ فِي الْمَالِ لَا تَلْزَمُ لِأَنَّهَا خِلَافَةُ تَبَرُّعٍ بِالْمَالِ وَلَوْ وَهَبَ وَنَجَّزَ الْإِيجَابَ لَمْ يَلْزَمْ مَا لَمْ يُسَلِّمْ وَيَقَعُ الْمِلْكُ فَهَذَا أَوْلَى وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ لَازِمًا بِأَصْلِهِ مِثْلُ حَقِّ الْعِتْقِ بِالتَّدْبِيرِ مَنَعَ هَذَا الْحَقُّ الِاعْتِرَاضَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْلَى بِمَا يُبْطِلُهُ لِلُزُومِ هَذَا الْحَقِّ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَازِمٌ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَحَقُّ الْعِتْقِ الثَّابِتِ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ السَّبَبِ لَا يَحْتَمِلُهُ أَيْضًا كَمَا فِي أُمِّ الْوَلَدِ وَلَلَزِمَ فِي سَبَبِهِ وَهُوَ مَعْنَى التَّعْلِيقِ فَإِنَّ تَعْلِيقَ الْعِتْقِ سَائِرَ الشُّرُوطِ لَازِمٌ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ لِكَوْنِهِ يَمِينًا فَتَعْلِيقُهُ بِالْمَوْتِ الَّذِي هُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ وَسَبَبٌ لِلْخِلَافَةِ أَوْلَى بِاللُّزُومِ. وَإِنَّمَا قَالَ مَعْنَى التَّعْلِيقِ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي إضَافَةٌ وَلَيْسَ بِتَعْلِيقٍ صُورَةً وَلَكِنَّ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ بِاعْتِبَارِ تَأَخُّرِ الْحُكْمِ عَنْ زَمَانِ الْإِيجَابِ فَلِذَالِك أَيْ لِلُزُومِ حَقِّ الْعِتْقِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ بَطَلَ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا السَّبَبُ يَعْنِي التَّدْبِيرَ تَقْوَى مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُتَعَلِّقَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ. وَالثَّانِي أَنَّ التَّعْلِيقَ بِمَا هُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْخِلَافَةِ فَلِهَذِهِ الْقُوَّةِ لَا يُحْتَمَلُ الْإِبْطَالُ وَالْفَسْخُ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ وَيَجِبُ لِلْمُدَبَّرِ بِهِ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فِي الْحَالِ عَلَى وَجْهٍ يَمْتَنِعُ بَيْعُهُ وَيَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ الْوَلَاءِ لِلْمَوْلَى عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ بِخِلَافِ التَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ فَإِنَّ دُخُولَ الدَّارِ وَنَحْوَهُ لَيْسَ بِكَائِنٍ لَا مَحَالَةَ وَالتَّدْبِيرَ الْمُقَيَّدَ لَيْسَ بِكَائِنٍ لَا مَحَالَةَ وَالتَّعْلِيقَ بِمَجِيءِ رَأْسِ الشَّهْرِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْخِلَافَةِ وَالْوَصِيَّةُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ لِغَيْرِهِ تَمْلِيكٌ يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ الْقَاضِي الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْضًا فَقَالَ التَّدْبِيرُ عِتْقٌ مُضَافٌ إلَى وَقْتٍ فَيَلْزَمُ كَالْإِضَافَةِ إلَى غَدٍ وَإِنَّمَا أُضِيفَ إلَى الْمَوْتِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْخِلَافَةِ فَيُعْتَبَرُ سَبَبًا فِي الْحَالِ لِاسْتِحْقَاقِ الْعِتْقِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالنَّسَبِ فَيَصِيرُ حُكْمُهُ مَأْخُوذًا مِنْ أَصْلَيْنِ لَا مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِآخَرَ أَعْتِقْ عَبْدِي إنْ شِئْت فَإِنَّهُ يَلْزَمُ وَيَقْتَضِي الْجَوَابَ فِي الْمَجْلِسِ بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ وَبِخِلَافِ الْيَمِينِ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَعْلِيقٌ بِشَرْطِ الْمَشِيئَةِ يَمِينٌ بِالْعِتْقِ فَيَلْزَمُ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُفَوَّضٌ إلَى مَشِيئَتِهِ تَمْلِيكٌ إذْ الْمَالِكُ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ يَتْرُكُ فَيَقْتَضِي الْجَوَابَ فِي الْمَجْلِسِ كَمَا لَوْ قَالَ أَمْرُ عَبْدِي بِيَدِك فَيُؤْخَذُ حُكْمُهُ مِنْ أَصْلَيْنِ لَا مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ. فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْكِتَابِ لِلتَّفَصِّي عَنْ عُهْدَةِ مَا يَرِدُ سُؤَالًا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَصَارَ ذَلِكَ أَيْ الْمُدَبَّرُ فِي عَدَمِ جَوَازِ الْبَيْعِ لِاسْتِحْقَاقِ حَقِّ الْعِتْقِ كَأُمِّ الْوَلَدِ فَإِنَّهَا اسْتَحَقَّتْ بِسَبَبِ الِاسْتِيلَادِ شَيْئَيْنِ حَقُّ الْعِتْقِ لِلْحَالِ لِمَا بَيَّنَّا مِمَّنْ تَعَلَّقَ الْعِتْقُ بِالْمَوْتِ الَّذِي هُوَ أَمْرٌ كَائِنٌ وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ وَسُقُوطُ التَّقْوِيمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -

لِأَنَّ الْأَمَةَ فِي الْأَصْلِ يُحْرِزُ لِمَالِيَّتِهَا وَالْمُتْعَةُ تَابِعَةٌ فَإِذَا صَارَتْ فِرَاشًا صَارَتْ مُحْصَنَةً مُحْرِزَةً لِلْمُتْعَةِ وَالْمَالِيَّةُ تَابِعَةٌ فَصَارَ الْإِحْرَازُ عَدَمًا فِي حَقِّ الْمَالِيَّةِ فَلِذَلِكَ ذَهَبَ التَّقَوُّمُ وَهُوَ غُرَّةُ الْمَالِيَّةِ وَانْتَسَخَتْ بِغُرَّةِ الْمُتْعَةِ فَتَعَدَّى الْحُكْمُ الْأَوَّلُ إلَى الْمُدَبَّرِ لِوُجُودِ مَعْنَاهُ دُونَ الثَّانِي. وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ الْمَرْأَةَ تُغَسِّلُ زَوْجَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ فِي عِدَّتِهَا لِأَنَّ الزَّوْجَ مَالِكٌ فَبَقِيَ مِلْكُهُ إلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِيمَا هُوَ مِنْ حَوَائِجِهِ خَاصَّةً بَعْدَ الْمَوْتِ بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ إذَا مَاتَتْ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ وَقَدْ بَطَلَتْ أَهْلِيَّةُ الْمَمْلُوكِيَّةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQحَتَّى لَا تَضْمَنَ بِالْغَصْبِ وَلَا بِإِعْتَاقِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ مِنْهَا عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هِيَ مُتَقَوِّمَةٌ لِأَنَّ الثَّابِتَ حَقُّ الْعِتْقِ وَذَلِكَ مُؤَثِّرٌ فِي امْتِنَاعِ الْبَيْعِ دُونَ سُقُوطِ التَّقَوُّمِ كَمَا فِي الْمُدَبَّرَةِ إلَّا أَنَّ الْمُدَبَّرَةَ تَسْعَى لِلْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ وَأُمَّ الْوَلَدِ لَا تَسْعَى لَهُمْ لِأَنَّهَا مَصْرُوفَةٌ إلَى حَاجَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ وَحَاجَتُهُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ كَحَاجَتِهِ إلَى الْجِهَازِ وَالْكَفَنِ أَمَّا التَّدْبِيرُ فَلَيْسَ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ فَيُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ إنَّ التَّقَوُّمَ يَثْبُتُ بِالْإِحْرَازِ فَإِنَّ الصَّيْدَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ لَا يَكُونُ مُتَقَوِّمَا وَبَعْدَهُ يَصِيرُ مُتَقَوِّمًا وَقَدْ ذَهَبَ الْإِحْرَازُ هَاهُنَا لِأَنَّ الْأَمَةَ فِي الْأَصْلِ أَيْ الْأَصْلُ فِي الْأَمَةِ أَنَّهَا تُحْرِزُ لِمَالِيَّتِهَا وَالْمُتْعَةُ مِنْهَا تَابِعَةٌ وَلِهَذَا صَحَّ شِرَاءُ أُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ وَشِرَاءُ الْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَشِرَاءُ الْأُخْتَيْنِ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِنَّ الْمُتْعَةُ فَإِذَا صَارَتْ فِرَاشًا بِالِاسْتِيلَادِ صَارَتْ مُحْصَنَةً مُحْرِزَةً لِلْمُتْعَةِ كَالْمَنْكُوحَةِ وَصَارَتْ الْمَالِيَّةُ مِنْهَا تَابِعَةً وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي الشَّرْعِ صُورَةً يَكُونُ الْإِحْرَازُ لِلْأَمْرَيْنِ مَقْصُودًا فَإِذَا ثَبَتَ الْإِحْرَازُ لِلْفِرَاشِ مَقْصُودًا لَمْ يَبْقَ الْإِحْرَازُ لِلْمَالِيَّةِ مَقْصُودًا فَصَارَ الْإِحْرَازُ عَدَمًا فِي حُكْمِ الْمَالِيَّةِ فَلِذَلِكَ أَيْ لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ ذَهَبَ التَّقَوُّمُ وَقَدْ يَنْفَصِلُ مِلْكُ الْمُتْعَةِ عَنْ مِلْكِ الْمَالِيَّةِ كَمَا فِي الْمَنْكُوحَةِ فَيَجُوزُ أَنْ تَبْقَى الْمُتْعَةُ وَتَذْهَبُ الْمَالِيَّةُ فَتَعَدَّى الْحُكْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ ثُبُوتُ حَقِّ الْعِتْقِ فِي الْحَالِ عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ مِنْ الْبَيْعِ إلَى الْمُدَبَّرِ لِوُجُودِ مَعْنَاهُ وَهُوَ تَعَلُّقُ الْعِتْقِ بِالْمَوْتِ الَّذِي هُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ دُونَ الثَّانِي وَهُوَ سُقُوطُ التَّقَوُّمِ لِعَدَمِ مَا يُوجِبُهُ وَهُوَ الْإِحْرَازُ لِلْمُتْعَةِ وَلِهَذَا فَارَقَتْ الْمُدَبَّرَةُ أُمَّ الْوَلَدِ فِي أَنَّهَا لَا تَسْعَى لِلْوَرَثَةِ وَالْغُرَمَاءِ وَتَسْعَى الْمُدَبَّرَةُ لَهُمْ لِأَنَّ صِفَةَ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ لَمَّا لَمْ تَبْقَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ فَلَا تَسْعَى لَهُمْ بَلْ تُعْتَقُ مِنْ كُلِّ الْمَالِ وَالْمُدَبَّرَةُ لَمَّا أُحْرِزَتْ لِلْمَالِيَّةِ لَا لِلْمُتْعَةِ تَقَوَّمَتْ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ فَيَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّهُمْ فَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهَا السِّعَايَةُ لَهُمْ. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ الْمَالِكِيَّةَ تَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ بِقَدْرِ مَا يَنْقَضِي بِهِ حَاجَةُ الْمَيِّتِ قُلْنَا إنَّ الْمَرْأَةَ تُغَسِّلُ زَوْجَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ فِي عِدَّتِهَا لِأَنَّ النِّكَاحَ فِي حُكْمِ الْقَائِمِ لِلْحَاجَةِ مَا لَمْ يَنْقَضِ الْعِدَّةُ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لَا يَحْتَمِلُ التَّحَوُّلَ إلَى الْوَرَثَةِ فَبَقِيَ مَوْقُوفًا عَلَى الزَّوَالِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَمَا بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ وَلَوْ ارْتَفَعَ النِّكَاحُ بِالْمَوْتِ فَقَدْ ارْتَفَعَ إلَى خَلَفٍ وَهُوَ الْعِدَّةُ وَهِيَ حَقُّ النِّكَاحِ فَتَقُومُ مَقَامَ حَقِيقَتِهِ فِي إبْقَاءِ حِلِّ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ كَيْفَ وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَوْ اسْتَقْبَلْنَا مِنْ أَمْرِنَا مَا اسْتَدْبَرْنَا مَا غَسَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا نِسَاؤُهُ تَعْنِي لَوْ عَلِمْنَا أَنَّ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُغَسَّلَ بَعْدَ الْوَفَاةِ لَمَا غَسَّلَهُ إلَّا نِسَاؤُهُ وَقَدْ أَوْصَى أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى امْرَأَتِهِ أَسْمَاءَ أَنْ تُغَسِّلَهُ وَكَذَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ إذَا مَاتَتْ لَمْ يَكُنْ لِزَوْجِهَا أَنْ يُغَسِّلَهَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَوْ مُتِّ غَسَّلْتُك وَكَفَّنْتُك وَصَلَّيْت عَلَيْك» وَقَدْ غَسَّلَ عَلِيٌّ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بَعْدَ مَوْتِهَا وَلِأَنَّ الْمِلْكَ جُعِلَ كَالْقَائِمِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ لِحَاجَتِهِ إلَى الْغُسْلِ فَجُعِلَ كَذَلِكَ فِي حَقِّهَا أَيْضًا لِأَنَّ مِلْكَ الْحِلِّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَلَنَا أَنَّ النِّكَاحَ بِمَوْتِهَا ارْتَفَعَ بِجَمِيعِ عَلَائِقِهِ فَلَا يَبْقَى حِلُّ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ

فَلَا تُبْقِي حَقًّا لَهَا لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ عَلَيْهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهِ بَعْدَهَا وَلَوْ بَقِيَ ضَرْبٌ مِنْ الْمِلْكِ لَوَجَبَتْ مُرَاعَاتُهُ بِالْعِدَّةِ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لَمْ يُشْرَعْ غَيْرُ مُؤَكَّدٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُؤَكَّدُ بِالْحَجَّةِ وَالْمَالِ وَالْمَحْرَمِيَّةَ وَأَمَّا الَّذِي لَا يَصْلُحُ لِحَاجَتِهِ فَالْقِصَاصُ لِأَنَّهُ شَرْعُ عُقُوبَةٍ لِدَرْكِ الثَّأْرِ وَقَدْ وَجَبَ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْحَيَاةِ وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَجِبُ لَهُ إلَّا مَا يَضْطَرُّ إلَيْهِ حَاجَتُهُ وَقَدْ وَقَعَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى حَقِّ أَوْلِيَائِهِ مِنْ وَجْهٍ لِانْتِفَاعِهِمْ بِحَيَاتِهِ فَأَوْجَبْنَا الْقِصَاصَ لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً وَالسَّبَبُ قَدْ انْعَقَدَ لِلْمَيِّتِ وَلِهَذَا صَحَّ عَفْوُ الْوَارِثِ عَنْهُ قَبْلَ مَوْتِ الْمَجْرُوحِ وَصَحَّ عَفْوُ الْمَجْرُوحِ أَيْضًا ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَرْأَةَ مَمْلُوكَةٌ فِي النِّكَاحِ وَقَدْ بَطَلَتْ أَهْلِيَّةُ الْمَمْلُوكِيَّةِ بِالْمَوْتِ فَلَا تَبْقَى أَيْ الْمَمْلُوكِيَّةُ حَقًّا لِلْمَرْأَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْ الْمَمْلُوكِيَّةَ حَقٌّ عَلَيْهَا فَلَا يُمْكِنُ إبْقَاؤُهَا حُكْمًا بَعْدَ فَوَاتِ الْمَحَلِّ بِالْمَوْتِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى إبْقَائِهَا نَظَرًا إلَى الْأَصْلِ لِأَنَّهَا لَمْ تُشْرَعْ لِحَاجَةِ الْمَمْلُوكِ إلَيْهَا بِخِلَافِ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّهَا شُرِعَتْ لِلْحَاجَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِبَقَائِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ عِنْدَ بَقَاءِ مَحَلِّ الْمِلْكِ لِلْحَاجَةِ. ثُمَّ اسْتَوْضَحَ انْقِطَاعَ النِّكَاحِ فِي جَانِبِهَا بِالْكُلِّيَّةِ بِقَوْلِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَى الزَّوْجِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَرْأَةِ حَتَّى حَلَّ لَهُ التَّزَوُّجُ بِأُخْتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ وَلَوْ بَقِيَ بَعْدَ مَوْتِهَا ضَرْبٌ مِنْ الْمِلْكِ لَوَجَبَتْ مُرَاعَاتُهُ بِالْعِدَّةِ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ ثُبُوتًا لَمْ يُشْرَعْ غَيْرَ مُؤَكَّدٍ حَتَّى تَأَكَّدَ بِالْحُجَّةِ أَيْ الشَّاهِدِ وَالْمَالِ أَيْ الْمَهْرُ وَالْمَحْرَمِيَّةِ أَيْ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ فَكَذَا فِي حَالِ الزَّوَالِ بِالْمَوْتِ وَجَبَ مُرَاعَاةُ حَقِّهِ بِالْعِدَّةِ لِأَنَّ النِّكَاحَ إذَا تَأَكَّدَ لَا يُمْكِنُ قَطْعُهُ بِمَرَّةٍ بَلْ تَجِبُ الْعِدَّةُ لِيَسْتَحِقَّ الِانْقِطَاعَ بِمُضِيِّهَا فَيَصِيرُ حَقُّ الزَّوْجِ مُؤَدَّى بِالْبَقَاءِ عَلَى مِلْكِهِ مُدَّةً وَيَعُودُ حَقُّ الْمَرْأَةِ فِي نَفْسِهَا إلَيْهَا وَهَاهُنَا لَمْ يَجِبْ الْعِدَّةُ أَصْلًا فَعُلِمَ أَنَّ فِي جَانِبِهَا لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ الْمِلْكِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - غَسَّلْتُك قُمْت بِأَسْبَابِ غُسْلِك وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أُمَّ أَيْمَنَ غَسَّلَتْ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ عَلِيًّا غَسَّلَهَا فَذَلِكَ لِادِّعَائِهِ الْخُصُوصِيَّةَ بِهِ حَيْثُ قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ أَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَمَا عَلِمْت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ «فَاطِمَةُ زَوْجَتُك فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» قَوْلُهُ (وَأَمَّا الَّذِي لَا يَصْلُحُ لِحَاجَتِهِ) أَيْ الْمَيِّتِ وَهُوَ رَابِعُ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ فَالْقِصَاصُ لِأَنَّهُ شُرِعَ لِدَرْكِ الثَّأْرِ وَلِتَشَفِّي الصُّدُورِ وَلِإِبْقَاءِ الْحَيَاةِ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ بِدَفْعِ شَرِّ الْقَاتِلِ وَالْمَيِّتُ لَمْ يَبْقَ أَهْلًا لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَلَا حَاجَةَ لَهُ إلَيْهَا وَقَدْ وَجَبَ الْقِصَاصُ عِنْدَ انْقِضَاءِ حَيَاةِ الْمَقْتُولِ وَعِنْدَ انْقِضَاءِ حَيَاتِهِ لَا يَجِبُ لَهُ أَيْ لَا يَثْبُتُ لَهُ إلَّا مَا يَصْلُحُ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِ مِنْ تَجْهِيزِهِ وَتَكْفِينِهِ وَقَضَاءِ دُيُونِهِ وَتَنْفِيذِ وَصَايَاهُ وَالْقِصَاصُ لَا يَصْلُحُ لِهَذِهِ الْحَوَائِجِ أَصْلًا. وَقَدْ وَقَعَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى حَقِّ أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ مِنْ وَجْهٍ لِانْتِفَاعِهِمْ بِحَيَاتِهِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَأْنِسُونَ بِهِ وَيَنْتَصِرُونَ بِهِ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَيَنْتَفِعُونَ بِمَالِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَأَوْجَبْنَا الْقِصَاصَ لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً يَعْنِي لَا يَثْبُتُ لِلْمَيِّتِ أَوَّلًا ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَيْهِمْ بِحَيْثُ تَجْرِي فِيهِ سِهَامُ الْوَرَثَةِ كَمَا يَنْتَقِلُ سَائِرُ الْحُقُوقِ بَلْ يَثْبُتُ لَهُمْ ابْتِدَاءً لِحُصُولِ مَنْفَعَةِ التَّشَفِّي لَهُمْ دُونَ الْمَيِّتِ وَلِوُقُوعِ الْجِنَايَةِ عَلَى حَقِّهِمْ مِنْ وَجْهٍ وَالسَّبَبُ انْعَقَدَ لِلْمَيِّتِ لِأَنَّ الْمُتْلَفَ نَفْسَهُ وَحَيَاتَهُ وَقَدْ كَانَ مُنْتَفِعًا بِحَيَاتِهِ أَكْثَرَ مِنْ انْتِفَاعِ أَوْلِيَائِهِ بِهَا فَكَانَتْ الْجِنَايَةُ وَاقِعَةً عَلَى حَقِّهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ لَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَكِنَّهُ لَمَّا خَرَجَ عِنْدَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ لَهُ وَجَبَ ابْتِدَاءُ الْوَلِيِّ لِقَائِمٍ مَقَامَهُ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ كَمَا ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْمَوْلَى فِي كَسْبِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ ابْتِدَاءً عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْعَبْدِ وَكَمَا ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْمُوَكِّلِ ابْتِدَاءً عِنْدَ تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ خِلَافَةً عَنْ الْوَكِيلِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] بَيَّنَ أَنَّ ابْتِدَاءَ ثُبُوتِ الْقِصَاصِ لِلْوَلِيِّ الْقَائِمِ مَقَامَ الْمَقْتُولِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوَجْهَيْنِ صَحَّ عَفْوُ الْوَارِثِ عَنْهُ أَيْ عَنْ الْقِصَاصِ أَوْ عَنْ الْقَاتِلِ قَبْلَ مَوْتِ الْمَجْرُوحِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ لِأَنَّ حَقَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ فَعَفْوُهُ قَبْلَ

وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ الْقِصَاصَ غَيْرُ مَوْرُوثٍ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْغَرَضَ بِهِ دَرْكُ الثَّأْرِ وَإِنْ تَسَلَّمَ حَيَاةَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْعَشَائِرِ وَذَلِكَ يَرْجِعُ إلَيْهِمْ لَكِنَّ الْقِصَاصَ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ جَزَاءٌ قُتِلَ وَاحِدٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَأَنَّهُ يَمْلِكُهُ وَحْدَهُ فَإِذَا عَفَا أَحَدُهُمْ أَوْ اسْتَوْفَاهُ بَطَلَ أَصْلًا ـــــــــــــــــــــــــــــQمَوْتِ الْمَجْرُوحِ يَكُونُ إسْقَاطًا لِلْحَقِّ قَبْلَ ثُبُوتِهِ فَيَكُونُ بَاطِلًا كَمَا لَوْ أَبْرَأَ الْوَارِثُ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِمُوَرِّثِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ. وَصَحَّ عَفْوُ الْمَجْرُوحِ اسْتِحْسَانًا أَيْضًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ لِأَنَّ الْقِصَاصَ إنَّمَا يَجِبُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِلْوَارِثِ لَا لِلْمُوَرِّثِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَارِثَ هُوَ الْمُنْتَفَعُ بِهِ دُونَ الْمُوَرِّثِ فَيَكُونُ الْمُوَرِّثُ بِعَفْوِهِ مُسْقِطًا حَقَّ الْغَيْرِ وَمُسْقِطًا لِلْحَقِّ قَبْلَ وُجُوبِهِ أَيْضًا وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ السَّبَبَ يُجْعَلُ قَائِمًا مَقَامَ حَقِيقَةِ وُجُوبِ الْحَقِّ فِي صِحَّةِ الْعَفْوِ ثُمَّ بِاعْتِبَارِ نَفْسِ الْوَاجِبِ الْحَقِّ لِلْوَارِثِ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ لَا يَجِبُ إلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْمُوَرِّثُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَيْسَ بِأَهْلِ أَنْ يَجِبَ هَذَا الْحَقُّ لَهُ فَيَجِبُ لِلْوَارِثِ وَبِاعْتِبَارِ أَصْلِ السَّبَبِ الْحَقِّ لِلْمُورِثِ لِأَنَّ السَّبَبَ جِنَايَةٌ عَلَى حَقِّهِ وَبَعْدَ وُجُودِ هَذَا السَّبَبِ هُوَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَجِبَ لَهُ الْحَقُّ فَصَحَّحْنَا عَفْوَ الْوَارِثِ اسْتِحْسَانًا مُرَاعَاةً لِلْوَاجِبِ وَصَحَّحْنَا عَفْوَ الْمُوَرِّثِ أَيْضًا اسْتِحْسَانًا مُرَاعَاةً لِلسَّبَبِ وَهَذَا لِأَنَّ الْعَفْوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 43] فَيَجِبُ تَصْحِيحُهُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ) أَيْ وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَيَاةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ الْقِصَاصَ غَيْرُ مُوَرَّثٍ يَعْنِي لَا يَثْبُتُ عَلَى وَجْهٍ يَجْرِي فِيهِ سِهَامُ الْوَرَثَةِ بَلْ يَثْبُتُ ابْتِدَاءً لِلْوَرَثَةِ لِمَا قُلْنَا الْغَرَضُ مِنْ دَرْكِ الثَّأْرِ أَيْ الْحِقْدُ يُقَالُ أَدْرَكَ ثَأْرَهُ إذَا قَتَلَ قَاتِلَ حَمِيمِهِ وَإِنْ تَسْلَمُ أَيْ وَسَلَامَةُ حَيَاةِ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ وَعَشَائِرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وَذَلِكَ أَيْ الْغَرَضُ الْمَذْكُورُ يَرْجِعُ إلَى الْوَرَثَةِ لَا إلَى الْمَيِّتِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ عَلَى سَبِيلِ الْإِرْثِ بَلْ يَثْبُتُ لَهُمْ ابْتِدَاءً. وَقَوْلُهُ لَكِنَّ الْقِصَاصَ وَاحِدٌ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَمَّا كَانَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ لِدَرْكِ خَمَّرَ وَسَلَامَةِ الْحَيَاةِ لِلْأَوْلِيَاءِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَمْلِكَ الْبَعْضُ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ بِدُونِ حُضُورِ الْبَاقِينَ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ لَكِنَّ الْقِصَاصَ إلَى آخِرِهِ كَذَا قِيلَ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لِمَا بَيَّنَ أَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً شَرَعَ فِي بَيَانِ أَنَّهُ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الْكَمَالِ لَا أَنَّهُ يَثْبُتُ قِصَاصٌ وَاحِدٌ لِلْجَمِيعِ كَمَا قَالَ الْخُصُومُ فَقَالَ لَكِنَّ الْقِصَاصَ وَاحِدٌ يَعْنِي فِي جَانِبِ الْمَحَلِّ وَهُوَ الْقَاتِلُ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْ إلَّا قَتْلًا وَاحِدًا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِجْزَاءُ وَاحِدًا وَلَا حَاجَةَ لِصِحَّةِ الْوُجُوبِ إلَى إثْبَاتِ التَّعَدُّدِ حُكْمًا وَكُلُّ وَاحِدٍ كَأَنَّهُ يَمْلِكُ وَحْدَهُ يَعْنِي فِي جَانِبِ الْمُسْتَحَقِّينَ هُوَ فِي حُكْمِ الْمُتَعَدِّدِ لِأَنَّ الْإِيجَابَ لَهُمْ لَمْ يَسْتَقِمْ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَحْتَمِلُ التَّجْزِيءَ إذْ لَا يُمْكِنُ إزَالَةُ الْحَيَاةِ عَنْ بَعْضِ الْمَحَلِّ دُونَ الْبَعْضِ وَقَدْ ثَبَتَ بِسَبَبٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّجْزِيءَ وَهُوَ الْقَتْلُ وَقَدْ تَعَذَّرَ إيجَابُ الْبَعْضِ ابْتِدَاءً بِالْإِجْمَاعِ فَأَمَّا إنْ تَكَامَلَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْ يَبْطُلُ لِتَعَذُّرِ إثْبَاتِهِ مُتَجَزِّئًا وَلَمْ يَبْطُلْ بِالْإِجْمَاعِ فَثَبَتَ أَنَّهُ تَكَامَلَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ. بِمَنْزِلَةِ وِلَايَةِ النِّكَاحِ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ وَهَذَا لَيْسَ بِإِيجَابِ زِيَادَةٍ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ لِأَنَّ هَذَا التَّعَدُّدَ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّهِ بِوَجْهٍ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ مَلَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الِاسْتِيفَاءَ بِانْفِرَادِهِ لِأَنَّهُ لَا زِيَادَةَ فِي حَقِّ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فَإِذَا عَفَا أَحَدُهُمْ أَوْ اسْتَوْفَاهُ سَقَطَ الْقِصَاصُ أَصْلًا لِأَنَّ فِي صُورَةِ الِاسْتِيفَاءِ قَدْ فَاتَ الْمَحَلُّ فَيَسْتَحِيلُ بَقَاؤُهُ بِدُونِ الْمَحَلِّ وَفِي صُورَةِ الْعَفْوِ لَوْ بَقَّيْنَا الْقِصَاصَ

وَمَلَكَ الْكَبِيرُ اسْتِيفَاءَهُ إذَا كَانَ سَائِرُهُمْ صِغَارًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ـــــــــــــــــــــــــــــQلِلْبَاقِينَ بَعْدَ عَفْوِ أَحَدِهِمْ كَانَ مِنْ ضَرُورَتِهِ تَعَدُّدُ الْقِصَاصِ الْوَاجِبِ فِي الْمَحَلِّ وَهُوَ غَيْرُ مُتَعَدِّدٍ فِي الْمَحَلِّ بِالْإِجْمَاعِ وَقَبْلَ الْعَفْوِ لَوْ قُلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَكُونُ مُتَمَكِّنًا مِنْ الِاسْتِيفَاءِ لَا يَكُونُ مِمَّنْ ضَرُورَتُهُ تَعَدُّدُ الْقِصَاصِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ ثُمَّ الْقِصَاصُ وَإِنْ بَطَلَ فِي الصُّورَتَيْنِ لَكِنَّ الْمَالَ يَجِبُ فِي صُورَةِ الْعَفْوِ لِلْبَاقِينَ وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ فِي صُورَةِ الِاسْتِيفَاءِ لِلْبَاقِينَ وَلَا لِلْقَاتِلِ الَّذِي وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَعَذُّرَ الْقِصَاصِ إنْ كَانَ مِنْ جَانِبِ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ يَجِبُ الْمَالُ لِأَنَّ الْقَتْلَ حِينَئِذٍ يَصِيرُ فِي مَعْنَى الْخَطَأِ فَيُوجِبُ الْمَالَ وَإِنْ كَانَ مِنْ جَانِبِ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ جِهَتِهِ فَالتَّعَذُّرُ فِي مَسْأَلَةِ الْعَفْوِ مِنْ جَانِبِ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إذْ الِامْتِنَاعُ لِمُرْعَاةِ الْحُرْمَةِ لِبَعْضِ نَفْسِهِ فَإِنَّ بَعْضَ نَفْسِهِ قَدْ حُبِيَ بِالْعَفْوِ فَصَارَ فِي مَعْنَى الْخَطَأِ فَيَجِبُ الْمَالُ لِغَيْرِ الْعَافِي وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ لِأَنَّ تَعَذُّرَ الِاسْتِيفَاءِ فِي حَقِّهِ كَانَ بِإِسْقَاطِهِ. وَالتَّعَذُّرُ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ جَانِبِ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ بَعْدَ فَوَاتِ الْمَحَلِّ بِالْقَتْلِ كَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بَعْدَ فَوَاتِهِ بِالْمَوْتِ فَلِذَلِكَ لَا يَجِبُ شَيْءٌ قَوْلُهُ (وَمَلَكَ الْكَبِيرُ اسْتِيفَاءَهُ إذَا كَانَ سَائِرُهُمْ صِغَارًا) فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ بَلْ يَتَوَقَّفُ حَتَّى يَكْبَرُوا لِأَنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْوَرَثَةِ فَلَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمْ بِاسْتِيفَائِهِ كَالدِّيَةِ وَكَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ اثْنَيْنِ إذَا قُتِلَ لَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالِاسْتِيفَاءِ وَكَالْوَرَثَةِ إذَا كَانَ فِيهِمْ كَبِيرٌ غَائِبٌ وَهَذَا لِأَنَّ الْوَاجِبَ قِصَاصٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْمَقْتُولَ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ وَيَكُونُ ذَلِكَ وَاجِبًا لِلْمَقْتُولِ بِمَنْزِلَةِ الدِّيَةِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَرَدَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ تَثْبُتُ لِلْوَرَثَةِ إرْثًا عَنْهُ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ وَلِهَذَا تَثْبُتُ عَلَى قَدْرِ سِهَامِهِمْ وَيَظْهَرُ ذَلِكَ عِنْدَ انْقِلَابِ الْقِصَاصِ مَالًا يَعْفُو أَحَدُهُمْ فَإِنَّ نَصِيبَ الْبَاقِينَ يَنْقَلِبُ مَالًا عَلَى قَدْرِ سِهَامِهِمْ فَكَانَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جُزْءًا مِنْهُ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ بِسِهَامٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا كَالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَنَحْوِهَا وَبِمِلْكِ بَعْضِ الْقِصَاصِ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْكُلِّ. وَلَا يُقَالُ إنَّهُ غَيْرُ مُتَجَزِّئٍ لِاسْتِحَالَةِ قَتْلِ بَعْضِ الشَّخْصِ دُونَ بَعْضِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَثْبُتَ لِلْوَرَثَةِ مُتَبَعِّضًا لِأَنَّا نَقُولُ إنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ وُقُوعًا فِي الْمَحَلِّ فَأَمَّا فِي حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَجَزَّأَ لِأَنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ لِلْمُسْتَحِقِّ الْحَقُّ فِي الْبَعْضِ شَرْعًا وَلِهَذَا لَوْ عَفَا وَاحِدٌ لَمْ يَسْقُطْ كُلُّ الْحَقِّ حَتَّى انْقَلَبَ مَالًا إلَّا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَجَزَّأْ وُقُوعًا فِي الْمَحَلِّ كَانَ طَرِيقُ اسْتِيفَائِهِ أَنْ يَجْتَمِعُوا فَيَسْتَوْفُوا وَيَتَنَزَّلُوا بِإِجْمَاعِهِمْ مَنْزِلَةَ الْمَيِّتِ كَمَا إذَا كَانَ الْقِصَاصُ مَوْرُوثًا بِأَنْ قُتِلَ وَلَهُ ابْنٌ ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ عَنْ ابْنَيْنِ وَجَبَ الْقِصَاصُ لَهُمَا وَاسْتَوْفَيَا دُفْعَةً وَاحِدَةً فَأَمَّا إطْلَاقُ الِاسْتِيفَاءِ لِكُلِّ وَاحِدٍ فَيُسْتَدْعَى إثْبَاتُ الْحَقِّ لِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الْكَمَالِ وَأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ لِأَنَّهُ تَعْدِيدُ الْمُتَّحِدِ وَفِيهِ إثْبَاتٌ عَلَى خِلَافِ مَا يَقْتَضِيه السَّبَبِ وَهُوَ الْإِرْثُ فَإِنَّ الْمُزَاحَمَةَ مَتَى ثَبَتَتْ مَنَعَ الْإِثْبَاتُ لَهُ كُلًّا. وَالْجَوَابُ أَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ لِلِاسْتِيفَاءِ لِأَنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ يُعْرَفُ بِأَثَرِهِ وَالْوُجُوبُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الِاسْتِيفَاءِ لَا يَتَجَزَّأُ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ لَا يَتَجَزَّأُ وَمَا لَا يَتَجَزَّأُ إذَا أُضِيفَ إلَى جَمَاعَةٍ وَسَبَبُ ثُبُوتِ الْكُلِّ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كُلًّا كَمَا بَيَّنَّا 1 -

وَلَا يُمْكِنُهُ إنْ كَانَ فِيهِمْ كَبِيرٌ غَائِبٌ لِاحْتِمَالِ الْعَفْوِ وَرُجْحَانِ جِهَةِ وُجُودِهِ لِكَوْنِهِ مَنْدُوبًا شَرْعًا وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْوَارِثِ الْحَاضِرِ إذَا أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى الْقِصَاصِ ثُمَّ حَضَرَ الْغَائِبُ كُلِّفَ إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَإِذْ وَجَبَ كُلًّا أَطْلَقْنَا الِاسْتِيفَاءَ لِكُلِّ وَاحِدٍ فَلَا نَحْتَاجُ إلَى إنْزَالِهِمْ مَنْزِلَةَ شَخْصٍ وَاحِدٍ وَانْدَفَعَ قَوْلُهُمْ بِأَنَّهُ إثْبَاتُ التَّعَدُّدِ لِأَنَّا لَا نُثْبِتُ التَّعَدُّدَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ بَلْ نُضِيفُ هَذَا الْمُتَّحِدَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ كَأَنَّهُ الْمُتَفَرِّدَ بِهِ كَمَا إذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا يُقْتَصُّ الْكُلُّ بِهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَإِنَّ الْقَتْلَ الْحَاصِلَ فِي الْمَحَلِّ يُضَافُ إلَى فِعْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إذَا صَلُحَ لِلْإِضَافَةِ إلَيْهِ وَأَمَّا أَحَدُ الْمَوْلَيَيْنِ فَإِنَّمَا لَا يَنْفَرِدُ بِالِاسْتِيفَاءِ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يَكْمُلْ فِي حَقِّهِ لِأَنَّ حَقَّ الِاسْتِيفَاءِ يَثْبُتُ لَهُ بِالْمِلْكِ وَإِنَّهُ لَيْسَ بِكَامِلٍ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ الْمَوْلَيَيْنِ فِي الْأَمَةِ وِلَايَةُ تَزْوِيجِهَا بِانْفِرَادِهِ أَمَّا الْقَرَابَةُ فَسَبَبٌ كَامِلٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْكُلِّ وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ لِلتَّضَايُقِ لَا لِخَلَلٍ فِي السَّبَبِ بِمَنْزِلَةِ الْمُجْتَمَعَةِ فِي التَّرِكَةِ وَلَا تَجْرِي هَاهُنَا لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا يَقْبَلُهُ فَأَثْبَتنَا كُلًّا وَكَذَا الْحُكْمُ فِي الْقِصَاصِ الْمَوْرُوثِ لِأَنَّ كُلَّ وَارِثٍ اسْتَحَقَّ جُزْءًا مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ بِالنَّصِّ وَثُبُوتُ الْجُزْءِ مِمَّا لَا يَتَجَزَّأُ كَثُبُوتِ الْكُلِّ وَذِكْرُ الْجُزْءِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزُّؤِ كَذِكْرِ الْكُلِّ فَيَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْكُلُّ بِاعْتِبَارِ أَنَّ السَّبَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَهُوَ الْقَرَابَةُ كَامِلٌ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ قَوْلُهُ (وَلَا يَمْلِكُهُ إذَا كَانَ فِيهِمْ كَبِيرٌ غَائِبٌ) أَيْ لَا يَمْلِكُ الْكَبِيرُ الْحَاضِرُ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ إذَا كَانَ فِي الْوَرَثَةِ كَبِيرٌ غَائِبٌ وَإِنْ كَانَ ثَبَتَ لِلْحَاضِرِ جَمِيعُ الْقِصَاصِ لِأَنَّ فِي اسْتِيفَائِهِ شُبْهَةَ الْعَفْوِ مَوْجُودَةٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْغَائِبُ قَدْ عَفَا عَنْ الْقَاتِلِ وَالْحَاضِرُ لَا يَشْعُرُ بِهِ وَعَفْوُ الْغَائِبِ صَحِيحٌ سَوَاءٌ عَلِمَ بِوُجُودِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ فَلِهَذِهِ الشُّبْهَةِ يَمْتَنِعُ الِاسْتِيفَاءُ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ عِنْدَ صِغَرِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ لِأَنَّ الصَّغِيرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعَفْوِ وَإِنَّمَا يُتَوَهَّمُ عَفْوُهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَشُبْهَةُ عَفْوٍ يُتَوَهَّمُ اعْتِرَاضُهُ لَا يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ السَّارِقَ يَقْطَعُ بِخُصُومَةِ الْمُودِعِ عِنْدَ غَيْبَةِ الْمَالِكِ إنْ احْتَمَلَ أَنَّ الْمَالِكَ قَدْ وَهَبَهُ مِنْ السَّارِقِ أَوْ أَقَرَّ لَهُ بِالْمِلْكِ وَكَذَا يَقْطَعُ بِغَيْبَةِ الشُّهُودِ مَعَ تَوَهُّمِ الرُّجُوعِ. فَأَشَارَ إلَى الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ وَرُجْحَانِ جِهَةِ وُجُودِهِ لِكَوْنِهِ مَنْدُوبًا إلَيْهِ شَرْعًا يَعْنِي إنَّمَا اعْتَبَرْنَا هَذَا الْمَوْهُومَ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَنْدُوبٌ إلَى الْعَفْوِ وَالْإِنْسَانُ يَرْغَبُ فِيمَا يَنْدُبُهُ الشَّرْعُ إلَيْهِ فَاعْتُبِرَ هَذَا الِاحْتِمَالُ لِرُجْحَانِ جِهَةِ وُجُودِهِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ فَأَمَّا الشَّاهِدُ فَغَيْرُ مَنْدُوبٍ إلَى الرُّجُوعِ وَالْمَالِكُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِالْإِقْرَارِ فَبَقِيَ مُجَرَّدُ الْوَهْمِ فَلَا يُعْتَبَرُ عَلَى أَنَّ اعْتِبَارَ الْمَوْهُومِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُوجِبُ تَأْخِيرَ الِاسْتِيفَاءِ إلَى حُضُورِ الْغَائِبِ لَا إسْقَاطِ الْقَوَدِ أَصْلًا وَهُنَاكَ اعْتِبَارٌ يُوجِبُ إسْقَاطَ الْقَطْعِ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ بِالتَّقَادُمِ فَلَا يَدُلُّ اعْتِبَارُ الْمُوهِمِ هَاهُنَا عَلَى اعْتِبَارِهِ هُنَاكَ قَوْلُهُ (وَلِذَلِكَ) أَيْ وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً لَا بِطَرِيقِ الْإِرْثِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا إذَا ادَّعَى رَجُلٌ دَمَ أَبِيهِ عَلَى رَجُلٍ وَأَخُوهُ غَائِبٌ وَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ تُقْبَلُ وَيُحْبَسُ الْقَاتِلُ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِالدَّمِ فَإِذَا حَضَرَ الْغَائِبُ كُلِّفَ أَنْ يُعِيدَ الْبَيِّنَةَ وَلَا يُقْضَى لَهُمَا بِالْقِصَاصِ قَبْلَ إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ وَعِنْدَهُمَا لَا يُكَلَّفُ إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا الْقِصَاصُ وَاجِبٌ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ وَأَحَدُ الْوَرَثَةِ يُنْتَصَبُ خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ فِيمَا يَثْبُتُ لَهُ وَعَلَيْهِ وَالْبَيِّنَةُ مَتَى أَقَامَهَا خَصْمٌ لَمْ يَجِبْ إعَادَتُهَا بَعْدَ ذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَتْلَ لَوْ كَانَ خَطَأً لَمْ يَكُنْ عَلَى الْغَائِبِ إذَا حَضَرَ أَنْ يُعِيدَ الْبَيِّنَةَ

وَإِذَا انْقَلَبَ الْقِصَاصُ مَالًا صَارَ مَوْرُوثًا لِأَنَّ مُوجَبَ الْقَتْلِ فِي الْأَصْلِ الْقِصَاصُ وَعِنْدَ الضَّرُورَةِ يَجِبُ الدِّيَةُ خَلَفًا عَنْ الْقِصَاصِ فَإِذَا جَاءَ الْخَلَفُ جُعِلَ كَأَنَّهُ هُوَ الْوَاجِبُ فِي الْأَصْلِ وَذَلِكَ يَصْلُحُ لِحَوَائِجِ الْمَيِّتِ فَجُعِلَ مَوْرُوثًا أَلَا تَرَى أَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَوَدِ وَيَتَعَلَّقُ بِالدِّيَةِ فَاعْتُبِرَ سِهَامُ الْوَرَثَةِ فِي الْخَلَفِ دُونَ الْأَصْلِ وَفَارَقَ الْخَلَفُ الْأَصْلَ لِاخْتِلَافِ حَالِهِمَا وَلِهَذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ لِلزَّوْجِ وَلِلزَّوْجَةِ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْخِلَافَةِ وَدَرْكِ الثَّأْرِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِيَسْتَوْفِيَ نَصِيبَهُ مِنْ الدِّيَةِ فَكَذَلِكَ هَذَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ الْقِصَاصُ وَاجِبًا لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً لَا إرْثًا عَلَى الْمَقْتُولِ لَا يَكُونُ بَعْضُهُمْ نَائِبًا عَنْ الْبَعْضِ فِي إثْبَاتِ حَقِّهِ بِغَيْرِ وَكَالَةٍ مِنْهُ كَمَا لَوْ اشْتَرَوْا عَبْدًا وَجَحَدَ الْبَائِعُ فَأَقَامَ أَحَدُهُمْ الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ الَّتِي أَقَامَهَا الْحَاضِرُ لَا تُثْبِتُ الْقِصَاصَ فِي حَقِّ الْغَائِبِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ لِأَنَّا نَجْعَلُ كُلَّ وَارِثٍ فِي حَقِّ الْقِصَاصِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرَهُ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْقِصَاصِ لِلَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ ثُبُوتُهُ لِغَيْرِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْخَطَأِ فَإِنَّ الْمَالَ وَهُوَ مَوْرُوثٌ لِلْوَرَثَةِ عَنْ الْمَيِّتِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ حَاجَتِهِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ فَيَنْتَصِبُ كُلُّ وَارِثٍ خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ وَعَنْ سَائِرِ الْوَرَثَةِ فِي إثْبَاتِهِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ قَوْلُهُ (وَإِذَا انْقَلَبَ الْقِصَاصُ مَالًا) إشَارَةً إلَى الْجَوَابِ عَمَّا قَالُوا إنَّ الْقِصَاصَ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ بِدَلِيلِ أَنَّ خَلَفَهُ وَهُوَ الْمَالُ مَوْرُوثٌ بِالْإِجْمَاعِ فَقَالَ وَإِذَا انْقَلَبَ الْقِصَاصُ مَالًا بِالصُّلْحِ أَوْ بِعَفْوِ الْبَعْضِ أَوْ بِشُبْهَةٍ صَارَ مَوْرُوثًا حَتَّى يَقْتَضِيَ مِنْهُ دُيُونَ الْمَيِّتِ وَيَنْفُذَ وَصَايَاهُ وَيَجْرِيَ فِيهِ سِهَامُ الْوَرَثَةِ لِأَنَّ مُوجِبَ الْقَتْلِ فِي الْأَصْلِ الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى وَعِنْدَ الضَّرُورَةِ وَهِيَ تَعَذُّرُ الِاسْتِيفَاءِ تَجِبُ الدِّيَةُ خَلَفًا عَنْ الْقِصَاصِ كَمَا تَجِبُ الْقِيمَةُ عِنْدَ فَوْتِ الْمِثْلِ صُورَةً وَمَعْنًى وَكَمَا تَجِبُ الْفِدْيَةُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْقَضَاءِ فِي بَابِ الصَّوْمِ. فَإِذَا جَاءَ الْخَلَفُ جُعِلَ كَأَنَّهُ هُوَ الْوَاجِبُ فِي الْأَصْلِ لِأَنَّ الْخَلَفَ يَجِبُ بِالسَّبَبِ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْأَصْلُ وَالسَّبَبُ وَهُوَ الْقَتْلُ انْعَقَدَ لِلْمَيِّتِ فَيَسْتَنِدُ وُجُوبُ الْحَلِفِ إلَيْهِ وَصَارَ كَأَنَّهُ هُوَ الْوَاجِبُ بِهَذَا الْقَتْلِ كَالدِّيَةِ فِي الْقَتْلِ خَطَأً وَذَلِكَ أَيْ الْخَلَفُ يَصْلُحُ لِحَوَائِج الْمَيِّتِ مِنْ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ وَقَضَاءِ الدُّيُونِ وَتَنْفِيذِ الْوَصَايَا فَيُجْعَلُ مَوْرُوثًا كَسَائِرِ التَّرِكَةِ حَتَّى يُقَدِّمَ حُقُوقَ الْمَيِّتِ فِيهِ عَلَى حَقِّ الْوَرَثَةِ وَكَانَ لَهُ الْأَصْلُ فِي الْقِصَاصِ أَنْ يَجِبَ لِلْمَيِّتِ أَيْضًا لِأَنَّهُ وَاجِبٌ بِمُقَابَلَةِ تَفْوِيتِ دَمِهِ وَحَيَاتِهِ لَكِنَّا أَثْبَتَنَا لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً لِمَانِعٍ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِحَاجَةِ الْمَيِّتِ وَإِنَّ دَرْكَ الثَّأْرِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ حَاصِلٌ لِلْوَرَثَةِ لَا لِلْمَقْتُولِ وَفِي الْخَلَفِ عُدِمَ هَذَا الْمَانِعُ فَجُعِلَ مَوْرُوثَا أَلَا تَرَى تَوْضِيحٌ لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ هُوَ الْوَاجِبُ فِي الْأَصْلِ أَوْ تَوْضِيحٌ لِمُفَارَقَةِ الْخَلَفِ الْأَصْلِ فِي الْمَيِّتِ لِاخْتِلَافِ حَالِهِمَا أَيْ حَالَيْهِمَا وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ لَا يَصْلُحُ لِدَفْعِ حَوَائِجِ الْمَيِّتِ وَلَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ وَالْخَلَفُ يَصْلُحُ لِذَلِكَ وَيَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ وَالْخَلَفُ قَدْ يُفَارِقُ الْأَصْلَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْحَالِ كَالتَّيَمُّمِ يُفَارِقُ الْوُضُوءَ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ لِاخْتِلَافِ حَالَيْهِمَا وَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ مُطَهِّرٌ بِنُقُسِهِ وَالتُّرَابُ مُلَوِّثٌ كَذَلِكَ هَاهُنَا قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ ابْتِدَاءً لِلْوَرَثَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ دَرْكَ الثَّأْرِ حَاصِلٌ لَهُمْ وَيَجِبُ لِلْمَقْتُولِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْوَرَثَةِ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ عِنْدَهُمَا وَجَبَ الْقِصَاصُ لِلزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَيْسَ لَهُمَا حَقٌّ فِي الْقِصَاصِ لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهِمَا الْعَقْدَ وَالْقِصَاصَ لَا يَسْتَحِقُّ بِالْعَقْدِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْقِصَاصِ التَّشَفِّي وَالِانْتِقَامُ وَيَخْتَصُّ بِهِ الْأَقَارِبُ الَّذِينَ يَنْصُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ لِلْمُوصَى لَهُ حَقٌّ

وَلِهَذَا وَجَبَ بِالزَّوْجِيَّةِ نَصِيبٌ فِي الدِّيَةِ أَلَا يُرَى أَنَّ لِلزَّوْجِيَّةِ مِزْيَةَ تَصَرُّفٍ فِي الْمِلْكِ فَصَارَ كَالنَّسَبِ وَأَمَّا أَحْكَامُ الْآخِرَةِ فَأَرْبَعَةٌ مَا يَجِبُ لَهُ وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِمَّا اكْتَسَبَهُ فِي حَيَاتِهِ وَمَا يَلْقَاهُ مِنْ ثَوَابٍ وَكَرَامَةٍ أَوْ عِقَابٍ وَمَلَامَةٍ لِأَنَّ الْقَبْرَ لِلْمَيِّتِ كَالرَّحِمِ لِلْمَاءِ وَالْمِهَادِ لِلطِّفْلِ وُضِعَ فِيهِ لِأَحْكَامِ الْآخِرَةِ رَوْضَةُ دَارٍ أَوْ حُفْرَةُ نَارٍ فَكَانَ لَهُ حُكَّامُ الْأَحْيَاءِ وَذَلِكَ كُلُّهُ بَعْدَ مَا يَمْضِي عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَنْزِلِ الِابْتِلَاءُ فِي الِابْتِدَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي الْقِصَاصِ. وَنَحْنُ نَقُولُ النِّكَاحُ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْخِلَافَةِ أَيْ لِاسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ كَالْقَرَابَةِ حَتَّى لَا يَتَوَقَّفَ الْمِلْكُ عَلَى الْقَبُولِ وَلَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ وَيَصْلُحُ سَبَبًا لِدَرْكِ الثَّأْرِ أَيْضًا لِأَنَّهُ بِنَاءً عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالْمَحَبَّةُ الثَّابِتَةُ بِالزَّوْجِيَّةِ مِثْلُ الْمَحَبَّةِ الثَّابِتَةِ بِالْقَرَابَةِ بَلْ فَوْقَهَا فَثَبَتَ أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ تَصْلُحُ لِاسْتِحْقَاقِ الْقِصَاصِ عَلَى الْأَصْلَيْنِ إلَى الْأَصْلَيْنِ وَإِلَى الْأَصْلَيْنِ أَشَارَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِهِ سَبَبًا لِلْخِلَافَةِ وَدَرْكِ الثَّأْرِ وَلِهَذَا أَيْ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ يَصْلُحُ سَبَبًا وَجَبَ بِالزَّوْجِيَّةِ نَصِيبٌ فِي الدِّيَةِ وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَرِثُ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ مِنْ الدِّيَةِ شَيْئًا لِأَنَّ وُجُوبَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالزَّوْجِيَّةُ تَنْقَطِعُ بِالْمَوَاتِ وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّهَا مَالُ الْمَيِّتِ حَتَّى تُقْضَى مِنْهَا دُيُونُهُ فَيَرِثُ مِنْهَا جَمِيعُ وَرَثَتِهِ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ وَقَوْلُهُ الزَّوْجِيَّةُ تَرْتَفِعُ بِالْمَوْتِ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنَّ سَبَبَ الْخِلَافَةِ زَوْجِيَّةٌ قَائِمَةٌ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ مُنْتَهِيَةٌ بِهِ لَا زَوْجِيَّةٌ قَائِمَةٌ فِي الْحَالِ. أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ الْأَمْوَالِ يُسْتَحَقُّ بِهَذِهِ الزَّوْجِيَّةِ فَكَذَا الدِّيَةُ وَقَدْ «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِضَحَاكِ بْنِ سُفْيَانَ الْكِلَابِيِّ أَنْ يُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ عَقْلِ زَوْجِهَا أَشْيَمَ» وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ثُمَّ اسْتَوْضَحَ الْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ لِلزَّوْجِيَّةِ مَزِيَّةَ تَصَرُّفٍ فِي الْمِلْكِ أَيْ فِي الْمَالِ فَإِنَّ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنْ الْبُسُوطَةِ فِي الْأَمْوَالِ مَا لَمْ يُوجَدْ مِثْلُهَا بَيْنَ الْأَقَارِبِ وَذَلِكَ دَلِيلُ الْمَحَبَّةِ وَالِاتِّحَادِ. فَصَارَ أَيْ النِّكَاحُ كَالنَّسَبِ فِي صَلَاحِيَّتِهِ لِاسْتِحْقَاقِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ قَوْلُهُ (وَأَمَّا أَحْكَامُ الْآخِرَةِ فَأَرْبَعَةٌ) أَيْضًا كَأَحْكَامِ الدُّنْيَا أَحَدُهَا مَا يَجِبُ لَهُ عَلَى الْغَيْرِ مِنْ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ وَالْمَظَالِمِ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى النَّفْسِ وَالْعِرْضِ وَالثَّانِي مَا يَجِبُ لِلْغَيْرِ عَلَيْهِ مِنْ الْحُقُوقِ وَالْمَظَالِمِ وَالثَّالِثُ مَا يَلْقَاهُ مِنْ ثَوَابٍ وَكَرَامَةٍ بِوَاسِطَةِ الْإِيمَانِ وَاكْتِسَابِ الطَّاعَاتِ وَالْخَيْرَاتِ. وَالرَّابِعُ مَا يَلْقَاهُ مِنْ عِقَابٍ وَمَلَامَةٍ بِوَاسِطَةِ الْمَعَاصِي وَالتَّقْصِيرِ فِي الْعِبَادَاتِ لِأَنَّ الْقَبْرَ أَيْ ثُبُوتُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْقَبْرَ لِلْمَيِّتِ كَالرَّحِمِ لِلْمَاءِ وَالْمِهَادِ لِلطِّفْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَيِّتَ وُضِعَ فِيهِ لِلْخُرُوجِ وَلِلْحَيَاةِ بَعْدَ الْفِنَاءِ وَلِأَحْكَامِ الْآخِرَةِ رَوْضَةُ دَارٍ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكَرَامَةِ وَالثَّوَابِ أَوْ حُفْرَةُ نَارٍ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ وَالْعِقَابِ فَكَانَ لِلْمَيِّتِ فِيهِ حُكْمُ الْأَحْيَاءِ فَمَا يَرْجِعُ إلَى أَحْكَامِ الْآخِرَةِ كَمَا أَنَّ لِلْجَنِينِ فِي الرَّحِمِ حُكْمَ الْأَحْيَاءِ فَمَا يَرْجِعُ إلَى أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَذَلِكَ أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحْكَامِ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِ بَعْدَمَا يَمْضِي أَيْ يُجْزِئُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَنْزِلِ وَهُوَ الْقَبْرُ لِلِابْتِلَاءِ فِي الِابْتِدَاءِ وَهُوَ سُؤَالُ الْمُنْكَرِ وَالنَّكِيرِ فَإِنَّ سُؤَالَهُمَا مِنْ الِابْتِلَاءِ وَالْفِتْنَةِ وَلِهَذَا سُمِّيَا فَتَّانِي الْقَبْرِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ إذَا سُئِلَ الْمَيِّتُ مَنْ رَبُّك تَرَاءَى لَهُ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةٍ فَيُشِيرُ إلَى نَفْسِهِ أَيْ أَنَا رَبُّك فَهَذِهِ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى مَكْرُمَةً لِلْمُؤْمِنِ إذَا ثَبَّتَهُ وَلَقَّنَّهُ الْجَوَابَ فَلِذَلِكَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ يَدْعُو لَهُ بِالثَّبَاتِ وَيَقُولُ لِأَصْحَابِهِ سَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ» تَنْوِيهَا مُتَعَلِّقٌ بِمَعْنَى الِابْتِلَاءِ أَيْ جَرَيَانِ الِابْتِلَاءِ فِي ابْتِدَاءِ الْوَضْعِ فِي الْقَبْرِ لِأَجْلِ إعْلَاءِ أَمْرِهِ وَمُبَاهَاتِهِ عَلَى أَقْرَانِهِ فَإِنَّهُ لِمَا سُئِلَ وَأَجَابَ عَلَى مُقْتَضَى الْإِيمَانِ وَأَمَّنَ فِيهِ مِنْ فِتْنَةِ الشَّيْطَانِ بِعَوْنِ اللَّهِ الْكَرِيمِ الْمَنَّانِ بَشَّرَ بِالرَّاحَةِ وَالرِّضْوَانِ وَجَعَلَ قَبْرَهُ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجِنَانِ وَلَا

[باب العوارض المكتسبة وهي نوعان]

بَابُ الْعَوَارِضِ) (الْمُكْتَسَبَةِ) : وَهِيَ نَوْعَانِ مِنْ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَمِنْ غَيْرِهِ عَلَيْهِ أَمَّا الَّتِي مِنْ جِهَتِهِ فَالْجَهْلُ وَالسُّكْرُ وَالْهَزْلُ وَالسَّفَهُ وَالْخَطَأُ وَالسَّفَرُ وَاَلَّذِي مِنْ غَيْرِهِ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ أَمَّا الْجَهْلُ فَأَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ جَهْلٌ بَاطِلٌ بِلَا شُبْهَةٍ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا أَصْلًا فِي الْآخِرَةِ وَجَهْلٌ هُوَ دُونَهُ لَكِنَّهُ بَاطِلٌ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا أَيْضًا فِي الْآخِرَةِ وَجَهْلٌ يَصْلُحُ شُبْهَةً وَجَهْلٌ يَصْلُحُ عُذْرًا أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْكُفْرُ مِنْ الْكَافِرِ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا؛ لِأَنَّهُ مُكَابَرَةٌ وَجُحُودٌ بَعْدَ وُضُوحِ الدَّلِيلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQشَكَّ أَنَّ ذَلِكَ إعْلَاءُ الشَّأْنِ وَسَبَبُ الْمُبَاهَاةِ عَلَى الْأَقْرَانِ وَهَذَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَأَمَّا فِي حَقِّ الْكَافِرِ فَالسُّؤَالُ لِلْإِلْزَامِ وَالتَّخْجِيلِ لَا لِلْإِكْرَامِ وَالتَّبْجِيلِ نَرْجُو اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُصَيِّرَهُ لَنَا رَوْضَةً بِكَرْمِهِ وَفَضْلِهِ وَأَنْ يُعِيذَنَا مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِهِ بِمَنِّهِ وَطَوْلِهِ إنَّهُ الْكَرِيمُ الْمُنْعِمُ الدَّيَّانُ ذُو الطَّوْلِ وَالْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ. [بَاب الْعَوَارِض الْمُكْتَسَبَة وَهِيَ نَوْعَانِ] [النَّوْع الْأَوَّل مِنْ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ] (بَابُ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ) : إنَّمَا جُعِلَ الْجَهْلُ مِنْ الْعَوَارِضِ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا أَصْلِيًّا؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى حَقِيقَةِ الْإِنْسَانِ وَثَابِتٌ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ كَالصِّغَرِ وَمِنْ الْمُكْتَسَبَةِ؛ لِأَنَّ إزَالَتَهُ بِاكْتِسَابِ الْعِلْمِ فِي قُدْرَةِ الْعَبْدِ فَكَانَ تَرْكُ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ مِنْهُ اخْتِيَارًا بِمَنْزِلَةِ اكْتِسَابِ الْجَهْلِ بِاخْتِيَارِ بَقَائِهِ فَكَانَ مُكْتَسَبًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَجَعَلَ السُّكْرَ مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُصُولُهُ فِي قُدْرَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ وَهُوَ شُرْبُ الْمُسْكِرِ بِاخْتِيَارِهِ وَغَرَضُهُ مِنْ الشُّرْبِ حُصُولُ السُّكْرِ كَمَا أَنَّ غَرَضَ شَارِبِ الْمَاءِ حُصُولُ الرِّيِّ فَكَانَ السُّكْرُ مُضَافًا إلَى كَسْبِهِ نَظَرًا إلَى السَّبَبِ وَالْغَرَضِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الرِّقُّ فَإِنَّهُ جُعِلَ مِنْ الْعَوَارِضِ السَّمَاوِيَّةِ وَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ وَهُوَ الْكُفْرُ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ مِنْ الْكُفْرِ لَيْسَ حُصُولُ الرِّقِّ وَلِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْكَافِرِ لَا الْكُفْرِ الْمُجَرَّدِ وَالِاسْتِيلَاءُ لَيْسَ فِي قُدْرَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ فَكَانَ الرِّقُّ سَمَاوِيًّا. قَوْلُهُ (أَمَّا الْجَهْلُ فَكَذَا) قِيلَ الْجَهْلُ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الْمَعْدُومِ شَيْئًا إذْ الْجَهْلُ يَتَحَقَّقُ بِالْمَعْدُومِ كَمَا يَتَحَقَّقُ بِالْمَوْجُودِ أَوْ كَوْنُ الْمَعْدُومِ الْمَجْهُولِ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي الْحَدِّ وَكِلَاهُمَا فَاسِدٌ وَقِيلَ هُوَ صِفَةٌ تُضَادُّ الْعِلْمَ عِنْدَ احْتِمَالِهِ وَتَصَوُّرِهِ وَاحْتُرِزَ بِهِ عَنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا عِلْمَ لَهَا فَإِنَّهَا لَا تُوصَفُ بِالْجَهْلِ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الْعِلْمِ فِيهَا قَالَ السَّيِّدُ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِم - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ رِيَاضَةِ الْأَخْلَاقِ الْجَهْلُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ عَدَمُ الشُّعُورِ وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الشُّعُورُ بِالشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ السَّفَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] وَقَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ: أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلَيْنَا فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِطْرِيَّةٌ وَلَيْسَ بِعَيْبٍ لِشُمُولِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78] وَإِنَّمَا الْعَيْبُ التَّقْصِيرُ فِي إزَالَةِ الْجَهْلِ وَدَوَاؤُهُ التَّعَلُّمُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي هُوَ الْغَلَطُ وَدَوَاؤُهُ التَّوَقُّفُ وَالتَّثَبُّتُ وَسَبَبُهُ الْجَهْلُ الْخُلُقِيُّ مَعَ الْعَجَلَةِ وَالْعُجْبِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ سَيُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُكَابَرَةُ وَالْجُحُودُ الْإِنْكَارُ بَعْدَ حُصُولِ الْعِلْمِ وَوُضُوحِ الدَّلِيلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] وَعَنْ هَذَا قِيلَ لَوْ سَأَلَ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ دَعْوَى الْمُدَّعِي أَتَجْحَدُ أَمْ تُقِرُّ فَبِأَيِّهِمَا أَجَابَ يَكُونُ إقْرَارًا فَالْكُفْرُ جُحُودٌ بَعْدَ وُضُوحِ الدَّلِيلِ؛ لِأَنَّ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الصَّانِعِ جَلَّ جَلَالُهُ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَعَظَمَةِ أُلُوهِيَّتِهِ لَا تُعَدُّ كَثْرَةً وَلَا تَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى لُبٍّ كَمَا قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: فَيَا عَجَبًا كَيْفَ يُعْصَى الْإِلَهُ ... أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ جَاحِدٌ وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ وَكَذَا الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ رِسَالَةِ الرُّسُلِ مِنْ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ وَالْحُجَجِ الْبَاهِرَةِ ظَاهِرَةٌ مَحْسُوسَةٌ فِي زَمَانِهِمْ لَا وَجْهَ إلَى رَدِّهَا وَإِنْكَارِهَا وَقَدْ نُقِلَتْ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتُ بَعْدَ انْقِرَاضِ زَمَانِهِمْ بِالتَّوَاتُرِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ إلَى يَوْمِنَا هَذَا فَكَانَ إنْكَارُهَا بِمَنْزِلَةِ إنْكَارِ الْمَحْسُوسِ

وَاخْتُلِفَ فِي دِيَانَةِ الْكَافِرِ عَلَى خِلَافِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَدْ قَالَ إنَّهَا تَصْلُحُ دَافِعَةً لِلتَّعَرُّضِ وَدَافِعَةً لِدَلِيلِ الشَّرْعِ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي تَحْتَمِلُ التَّغَيُّرَ لِيَصِيرَ الْخِطَابُ قَاصِرًا عَنْهُمْ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا اسْتِدْرَاجًا بِهِمْ وَمَكْرًا عَلَيْهِمْ وَتَرْكًا لَهُمْ عَلَى الْجَهْلِ وَتَمْهِيدًا لِعِقَابِ الْآخِرَةِ وَالْخُلُودِ فِي النَّارِ وَتَحْقِيقًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» فَأَمَّا فِي حُكْمٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّبَدُّلَ فَلَا حَتَّى إنَّهُ لَا يُعْطِي لِلْكُفْرِ حُكْمَ الصِّحَّةِ بِحَالٍ وَلَا يُبْتَنَى عَلَى هَذَا أَنَّهُ جَعَلَ حُكْمَ الصِّحَّةِ بِحَالٍ وَيُبْتَنَى عَلَى هَذَا أَنَّهُ جَعَلَ الْخِطَابَ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ كَأَنَّهُ غَيْرُ نَازِلٍ فِي حَقِّهِمْ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا مِنْ التَّقَوُّمِ وَإِيجَابِ الضَّمَانِ وَجَوَازِ الْبَيْعِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَلِذَلِكَ لَمْ يُجْعَلْ عُذْرًا بِوَجْهِ قَوْلِهِ (وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي دِيَانَةِ الْكَافِرِ عَلَى خِلَافِ الْإِسْلَامِ) أَيْ فِي اعْتِقَادِهِ حُكْمًا مِنْ الْأَحْكَامِ عَلَى خِلَافِ مَا ثَبَتَ فِي الْإِسْلَامِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّهَا تَصْلُحُ دَافِعَةً لِلتَّعَرُّضِ حَتَّى لَوْ بَاشَرَ مَا دَانَ بِهِ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ بِوَجْهٍ وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ وَدَافِعَةً لِدَلِيلِ الشَّرْعِ يَعْنِي دِيَانَتُهُ تَمْنَعُ بُلُوغَ دَلِيلِ الشَّرْعِ إلَيْهِ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي تَحْتَمِلُ التَّغَيُّرَ مِثْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ وَنَحْوِهَا فَلَا يَثْبُتُ الْخِطَابُ فِي حَقِّهِ فَيَبْقَى الْحُكْمُ الَّذِي كَانَ قَبْلَ الْخِطَابِ فِي حَقِّهِ عَلَى الصِّحَّةِ كَمَا كَانَ لِقُصُورِ الْخِطَابِ عَنْهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى قُصُورِ الْخِطَابِ عَنْهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا يَتَبَدَّلُ مِنْ الْأَحْكَامِ بِشَرْعٍ جَدِيدٍ أَنْ لَا يَثْبُتَ فِي حَقِّنَا بِنُزُولِ الْخِطَابِ حَتَّى يَبْلُغَنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ بِهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ إلَّا أَنَّ الْخِطَابَ بَعْدَمَا شَاعَ يَلْزَمُ لِكُلِّ مَنْ عَلِمَ بِهِ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يُمْكِنُهُ التَّبْلِيغُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِ النَّاسِ وَإِنَّمَا فِي وُسْعِهِ الْإِشَاعَةُ فِي النَّاسِ لَا غَيْرُ فَصَارَتْ الْإِشَاعَةُ بِمَنْزِلَةِ التَّبْلِيغِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَلَا يُعْذَرُ الْجَاهِلُ بِالْخِطَابِ بَعْدَ الْإِشَاعَةِ لِبُلُوغِ الْخِطَابِ إلَيْهِ حُكْمًا يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ بَلَغَهُ الْخِطَابُ فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ ثُمَّ بُلُوغُ الْخِطَابِ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ صِدْقَ الْمُبَلِّغِ وَلَا يَرَى كَلَامَهُ حُجَّةً وَالشَّرْعُ أَمَرَنَا أَنْ لَا يُتَعَرَّضَ لَهُ إذَا قَبِلَ الذِّمَّةَ فَبَقِيَ عَلَى الْجَهْلِ كَمَا فِي الْخِطَابِ الَّذِي لَمْ يَشِعْ وَخِطَابِ نَبِيٍّ لَمْ يُثْبِتْ مُعْجِزَتَهُ بَعْدُ وَخَرَجَ الْخِطَابُ بِإِنْكَارِهِ الرَّسُولَ وَيَأْمُرُ الشَّرْعَ إيَّانَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ عَلَيْهِ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً فِي حَقِّهِ فَصَارَ الْبُلُوغُ وَعَدَمُهُ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ (اسْتِدْرَاجًا) مُتَعَلِّقٌ بِقَاصِرٍ أَيْ قُصُورِ الْخِطَابِ عَنْ الْكَافِرِ لَيْسَ لِلتَّخْفِيفِ عَلَيْهِ وَلَكِنْ لِلِاسْتِدْرَاجِ وَهُوَ التَّقْرِيبُ إلَى الْعَذَابِ بِوَجْهٍ لَا شُعُورَ لَهُ بِهِ يُقَالُ اسْتَدْرَجَهُ إلَى كَذَا أَيْ أَدْنَاهُ مِنْهُ عَلَى التَّدْرِيجِ وَمَكْرًا وَهُوَ الْأَخْذُ عَلَى غِرَّةٍ وَتَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» فَإِنَّهُ لَا خِطَابَ فِي الْجَنَّةِ وَلَا تَكْلِيفَ بَلْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي الْأَنْفُسُ وَالدُّنْيَا لِلْكَافِرِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ. وَهَذَا فِي كُلِّ حُكْمٍ يَثْبُتُ بِالشَّرْعِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّنَا إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْخِطَابِ وَقَبْلَهُ يَبْقَى عَلَى مَا كَانَ ثَابِتًا فَأَمَّا فِي كُلِّ حُكْمٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّبَدُّلَ فَلَا أَيْ لَا يَكُونُ دِيَانَتُهُ دَافِعَةً لِدَلِيلِ الشَّرْعِ حَتَّى إنَّهُ الضَّمِيرُ لِلشَّانِّ لَا يُعْطِي لِلْكُفْرِ حُكْمَ الصِّحَّةِ بِحَالٍ يَعْنِي لَا يَعْتَبِرُ دِيَانَةَ الْكَافِرِ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالنَّارِ وَبِمَا يُبَاشِرُهُ مِنْ الْكُفْرِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَحِلَّ بِحَالٍ وَالْمُغَيِّرُ إنَّمَا يَعْمَلُ فِيمَا يَحْتَمِلُ وَيُبْتَنَى عَلَى هَذَا أَيْ عَلَى أَنَّ دِيَانَتَهُمْ دَافِعَةٌ عِنْدَهُ لِلتَّعَرُّضِ وَالْخِطَابِ جَمِيعًا أَنَّهُ أَيْ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَعَلَ الْخِطَابَ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ كَأَنَّهُ غَيْرُ نَازِلٍ فِي حَقِّهِمْ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ بِتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ فِي حَقِّ الْمُضْطَرِّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ نَحْوُ هِبَةِ الْخَمْرِ وَالْوَصِيَّةِ وَالتَّصَدُّقِ بِهَا وَأَخْذِ الْعُشْرِ مِنْ قِيمَتِهَا وَكَذَلِكَ أَيْ وَمِثْلُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ تَحْرِيمُ الْخَنَازِيرِ فِي أَنَّ الْخِطَابَ بِالتَّحْرِيمِ غَيْرُ نَازِلٍ فِي حَقِّهِمْ حَتَّى كَانَ الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ فِي حَقِّهِمْ كَالشَّاةِ وَالْخَلِّ فِي حَقِّنَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَيْضًا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجِبُ بِإِتْلَافِ خَمْرِ الذِّمِّيِّ شَيْءٌ سَوَاءٌ أَتْلَفَهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ وَجَعَلَ أَيْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِنِكَاحِ الْمَحَارِمِ بَيْنَ الْكُفَّارِ حُكْمَ الصِّحَّةِ إذَا دَانُوا بِصِحَّتِهِ بِمَنْزِلَةِ نِكَاحِ الْمَجُوسِيَّةِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِمْ لِقُصُورِ الْخِطَابِ عَنْهُمْ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَ الْمَجُوسِيُّ بِمَحْرَمٍ

وَكَذَلِكَ الْخَنَازِيرُ وَجَعَلَ لِنِكَاحِ الْمَحَارِمِ بَيْنَهُمْ حُكْمَ الصِّحَّةِ حَتَّى قَالَ إذَا وَطِئَهَا بِذَلِكَ ثُمَّ أَسْلَمَا كَانَا مُحْصَنَيْنِ لَوْ قُذِفَا حُدَّ قَاذِفُهُمَا وَإِذَا طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ النَّفَقَةَ بِذَلِكَ النِّكَاحِ قُضِيَ بِهَا عِنْدَهُ وَلَا يَفْسَخ حَتَّى يَتَرَافَعَا فَإِنْ قِيلَ لَا خِلَافَ أَنَّ الدِّيَانَةَ لَا تَصْلُحُ حُجَّةً مُتَعَدِّيًا، أَلَا يُرَى أَنَّ الْمَجُوسِيَّ إذَا تَزَوَّجَ ابْنَتَهُ ثُمَّ هَلَكَ عَنْهَا وَعَنْ ابْنَةٍ أُخْرَى أَنَّهُمَا تَرِثَانِ الثُّلُثَيْنِ وَلَا تَرِثُ الْمَنْكُوحَةُ مِنْهُمَا بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ دِيَانَتَهَا لَا تَصِحُّ حُجَّةً عَلَى الْأُخْرَى فَكَذَلِكَ فِي إيجَابِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ وَاسْتِحْقَاقِ الْقَضَاءِ بِالنَّفَقَةِ وَإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى مُتْلِفِ الْخَمْرِ وَجَبَ أَنْ لَا تُجْعَلَ حُجَّةً مُتَعَدِّيَةً قُلْنَا عَنْهُ هَذَا تَنَاقُضٌ؛ لِأَنَّا نَجْعَلُ الدِّيَانَةَ مُعْتَبَرَةٌ؛ لِأَنَّا نَأْخُذُ نِصْفَ الْعُشْرِ مِنْ خُمُورِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْعُشْرَ مِنْ خُمُورِ أَهْلِ الْحَرْبِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذِهِ غَيْرُ مُتَعَدِّيَةٍ بَلْ هِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ إلَّا أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ الْخِنْزِيرِ؛ لِأَنَّ إمَامَ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ حِمَايَةِ الْخِنْزِيرِ نَفْسِهِ فَلَا يَتَعَدَّى وَلَهُ وِلَايَةُ حِمَايَةِ الْخَمْرِ لِنَفْسِهِ لِلتَّخْلِيلِ فَيَتَعَدَّى وَحَقِيقَةُ الْجَوَابِ أَنَّا لَا نَجْعَلُ الدِّيَانَةَ مُتَعَدِّيَةً؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ إذَا بَقِيَتْ مُتَقَوِّمَةً لَمْ يَثْبُتْ بِالدَّيَّانَةِ إلَّا دَفْعُ الْإِلْزَامِ بِدَلِيلٍ، فَأَمَّا التَّقَوُّمُ فَبَاقٍ عَلَى الْأَصْلِ sss ـــــــــــــــــــــــــــــQوَدَخَلَ بِهَا لَمْ يَسْقُطْ إحْصَانُهَا حَتَّى وَجَبَ الْحَدُّ لَهُمَا عَلَى قَاذِفِهِمَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَجِبُ وَإِذَا طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ النَّفَقَةَ بِذَلِكَ النِّكَاحِ قَضَى بِهَا عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمْ وَلَوْ رَفَعَ أَحَدُهُمَا الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي وَطَلَبَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا عِنْدَهُ حَتَّى يُحْتَمَلَ عَلَى التَّرَافُعِ وَيُفَرَّقُ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّهُ أَيْ دِيَانَةَ الْبِنْتِ الْمَنْكُوحَةِ لَا تَصْلُحُ حُجَّةً مُتَعَدِّيَةً عَلَى الْبِنْتِ الْأُخْرَى وَضَمَّنَ التَّعَدِّي مَعْنَى الْإِجْمَاعِ فَوَصَلَ بِكَلِمَةٍ عَلَى. فَكَذَلِكَ أَيْ فَكَمَا لَمْ تُجْعَلْ الدِّيَةُ مُتَعَدِّيَةً فِي الْإِرْثِ وَجَبَ أَنْ لَا تُجْعَلَ مُتَعَدِّيَةً فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْتَبَرَ دِيَانَتُهُمْ فِي إثْبَاتِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِهَا إثْبَاتَ التَّعَدِّي عَلَى الْغَيْرِ كَمَا لَمْ تُعْتَبَرْ فِي الْإِرْثِ. قَوْلُهُ (هَذَا يَتَنَاقَضُ) أَيْ مَا ذَكَرْت مِنْ عَدَمِ اعْتِبَارِهَا فِي هَذِهِ الصُّوَرِ يُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ؛ لِأَنَّا قَدْ اعْتَبَرْنَا دِيَانَتَهُمْ فِي أَخْذِ الْعُشْرِ؛ لِأَنَّا نَأْخُذُ نِصْفَ الْعُشْرِ مِنْ خُمُورِ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَيْ مِنْ قِيمَتِهَا إذَا مَرُّوا بِهَا عَلَى الْعَاشِرِ وَالْعُشْرُ مِنْ خُمُورِ أَهْلِ الْحَرْبِ أَيْ مِنْ قِيمَتِهَا بِاعْتِبَارِ دِيَانَتِهِمْ وَيَجِبُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ تَوَلَّى ذَلِكَ الْأَمْرَ حَتَّى لَوْ لَمْ يَأْخُذَا ثُمَّ وَلَمْ تُعْتَبَرْ دِيَانَتُهُمْ فِي حَقِّنَا لِمَا أَخَذْنَا مِنْهُمْ شَيْئًا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَذَا الْأَنْكِحَةُ الَّتِي هِيَ فَاسِدَةٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ تَقَعُ صَحِيحَةً فِيمَا بَيْنَهُمْ إذَا دَانُوا بِصِحَّتِهَا فَإِنَّ عَامَّةَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا فِي ذِمِّيٍّ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ أَوْ عَشْرَ نِسْوَةٍ ثُمَّ فَارَقَ إحْدَى الْأُخْتَيْنِ أَيَّتَهُمَا كَانَتْ أَوْ فَارَقَ السِّتَّ مِنْ الْعَشْرِ فِي حَالِ الْكُفْرِ بَقِيَ نِكَاحُ مَنْ بَقِيَ إذَا أَسْلَمُوا عَلَى الصِّحَّةِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْحَرْبِيِّ تَزَوَّجَ خَمْسُ نِسْوَةٍ فِي عُقَدٍ مُتَفَرِّقَةٍ أَوْ عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ أَسْلَمُوا جَمِيعًا كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ الْأَرْبَعَ مِنْهُنَّ وَلَوْ وَقَعَ فَاسِدًا لَمْ يَنْقَلِبْ صَحِيحًا وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ تَبَايَعُوا الْخُمُورَ وَتَقَابَضُوا إنَّ الْعُشْرَ يُؤْخَذُ مِنْ أَثْمَانِ الْخُمُورِ وَإِنْ عَلِمَ بِهِ الْعَاشِرُ وَإِنْ أَسْلَمُوا بَقُوا عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ وَقَعَ عَلَى الْفَسَادِ لَمْ يُطْلَبْ الْمِلْكُ الْفَاسِدُ بِالْإِسْلَامِ وَلَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ عَلَى أَصْلِهِ فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ تَقَعُ عَلَى الصِّحَّةِ بِلَا خِلَافٍ بِاعْتِبَارِ دِيَانَتِهِمْ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ فَلَوْ لَمْ تُعْتَبَرْ دِيَانَتُهُمْ فِيمَا بَيْنَنَا لَمْ تَثْبُتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ دِيَانَتَهُمْ مُعْتَبَرَةٌ بِالِاتِّفَاقِ كَانَ الْقَوْلُ بِعَدَمِ اعْتِبَارِهَا بَعْدَ ذَلِكَ تَنَاقُضًا وَهَذِهِ غَيْرُ مُتَعَدِّيَةٍ أَيْ هَذِهِ الدِّيَانَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْنَا أَخْذَ الْعُشْرِ وَإِثْبَاتَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ لَا تُسَمَّى مُتَعَدِّيَةً بِالِاتِّفَاقِ مَعَ وُجُودِ إلْزَامٍ فِيهَا بَلْ هِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ فِي أَخْذِ الْعُشْرِ مِنْهُمْ فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: إلَّا أَنَّهُ أَيْ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ لَا يُؤْخَذُ مِنْ الْخِنْزِيرِ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَمَّا كَانَ أَخْذُ الْعُشْرِ بِنَاءً عَلَى دِيَانَتِهِمْ وَأَنَّهُمْ قَدْ دَانُوا بِتَقَوُّمِ الْخِنْزِيرِ كَمَا دَانُوا بِتَقَوُّمِ الْخَمْرِ فَوَجَبَ أَنْ يُؤْخَذَ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ مِنْ قِيمَةِ الْخِنْزِيرِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قِيمَةِ الْخَمْرِ فَأَجَابَ بِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلْإِمَامِ بِالْحِمَايَةِ وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ حِمَايَةِ الْخِنْزِيرِ لِنَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ حِمَايَتَهُ لِغَيْرِهِ وَلَهُ وِلَايَةُ حِمَايَةِ الْخَمْرِ لِنَفْسِهِ لِلتَّخْلِيلِ فَيَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ. قَوْلُهُ (وَحَقِيقَةُ الْجَوَابِ) كَذَا يَعْنِي مَا قُلْنَا إنَّهُ تَنَاقُضٌ لِمَنْعِ وُرُودِ السُّؤَالِ وَصِحَّتِهِ فِي نَفْسِهِ فَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ السُّؤَالِ فَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نَجْعَلُ الدِّيَانَةَ مُتَعَدِّيَةً فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسَائِلِ. أَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الْخَمْرِ فَلِأَنَّهَا كَانَتْ مُتَقَوِّمَةً فِي الْأَصْلِ لَكِنْ سَقَطَ تَقَوُّمُهَا بِالنَّصِّ وَدِيَانَتُهُمْ لَمَّا مَنَعْت الْإِلْزَامَ بِالدَّلِيلِ

وَذَلِكَ شَرْطُ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يَجِبُ بِتَقَوُّمِ الْمُتْلَفِ لَكِنْ بِإِتْلَافِ الْمُتْلِفِ وَإِذَا لَمْ تُضَفْ إلَى تَقَوُّمِ الْمَحِلِّ لَمْ تَصِرْ مُتَعَدِّيَةً وَكَذَلِكَ إحْصَانُ الْمَقْذُوفِ شَرْطٌ لَا عِلَّةٌ وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ هِيَ الْمَقْذُوفُ. وَأَمَّا النَّفَقَةُ فَإِنَّمَا شُرِعَتْ بِطَرِيقِ الدَّفْعِ فِي الْأَصْلِ. أَلَا يُرَى أَنَّ الْأَبَ يَجْلِسُ بِنَفَقَةِ الِابْنِ الصَّغِيرِ كَمَا يَحِلُّ دَفْعُهُ إذَا قَصَدَ قَتْلَهُ وَلَا يُحْبَسُ بِدَيْنِهِ جَزَاءً كَمَا لَا يُقْتَلُ قِصَاصًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَتْ الدِّيَانَةُ دَافِعَةً لَا مُوجِبَةً بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهُ صِلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ لَوْ وَجَبَ بِدِيَانَتِهَا كَانَتْ الدِّيَانَةُ بِذَلِكَ مُوجِبَةً لَا دَافِعَةً ـــــــــــــــــــــــــــــQأَيْ أَلِزَامَنَا إيَّاهُمْ سُقُوطَ التَّقَوُّمِ بِالدَّلِيلِ بَقِيَ تَقَوُّمُهَا عَلَى مَا كَانَ فِي الْأَصْلِ فَكَانَتْ دِيَانَتُهُمْ دَافِعَةً لِلْإِلْزَامِ لَا مُثْبِتَةً لِلتَّقَوُّمِ وَذَلِكَ أَيْ لِتَقَوُّمِ شَرْطِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَ الْمَحَلَّ وَالْمَحَالُّ بِأَوْصَافِهَا شُرُوطٌ وَالضَّمَانُ وَجَبَ جَزَاءً عَلَى الْجِنَايَةِ فَلَا يَجِبُ بِتَقَوُّمِ الْمُتْلَفِ لَكِنْ يَجِبُ بِإِتْلَافِ الْمُتْلَفِ الَّذِي هُوَ فِعْلُهُ الْقَائِمُ بِهِ وَلِهَذَا سُمِّيَ ضَمَانُ التَّعَدِّي وَالْكَافِرُ بِدِيَانَتِهِ دَفَعَ سُقُوطَ التَّقَوُّمِ فَبَقِيَ التَّقَوُّمُ عَلَى مَا كَانَ فَيَجِبُ الضَّمَانُ بِوُجُودِ شَرْطِهِ مُضَافًا إلَى سَبَبِهِ وَهُوَ إتْلَافُ مَالِ الذِّمِّيِّ الَّذِي فِي زَعْمِ الْمُتْلَفِ أَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ وَإِذَا لَمْ يُضِفْ الضَّمَانَ إلَى تَقَوُّمِ الْمَحَلِّ لَمْ تَصِرْ الدِّيَانَةُ مُتَعَدِّيَةً إذْ لَوْ كَانَ مُضَافًا إلَيْهِ لَكَانَتْ الدَّيَّانَةُ مُتَعَدِّيَةً حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ سَاقِطٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَلَمْ يَكُنْ السَّبَبُ مَوْجُودًا فِي حَقِّهِ فَلَوْ وَجَبَ الضَّمَانُ لَوَجَبَ بِإِثْبَاتِ التَّقَوُّمِ فِي حَقِّهِ بِدِيَانَةِ الْكَافِرِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَمَا أَنَّ التَّقَوُّمَ شَرْطُ الضَّمَانِ إحْصَانُ الْمَقْذُوفِ شَرْطُ وُجُوبِ حَدِّ الْقَذْفِ لَا عِلَّتِهِ إنَّمَا الْعِلَّةُ هِيَ الْقَذْفُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْجِنَايَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْجَزَاءِ وَلِهَذَا يُضَافُ إلَيْهِ وَالْكَافِرُ بِدِيَانَتِهِ مَنَعَ سُقُوطَ إحْصَانِهِ الثَّابِتِ قَبْلَ الْوَطْءِ فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ فَيَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ مُضَافًا إلَى قَذْفِهِ الَّذِي هُوَ جِنَايَةٌ بِوُجُودِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْإِحْصَانُ فَكَانَتْ الدِّيَانَةُ دَافِعَةً لَا مُوجِبَةً؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ لَمْ يُضِفْ إلَى الْإِحْصَانِ. 1 - فَأَمَّا النَّفَقَةُ فَإِنَّهَا شُرِعَتْ أَيْ وَجَبَتْ بِطَرِيقِ الدَّفْعِ فِي الْأَصْلِ أَيْ دَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ الْمُنْفِقِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ النَّفَقَةِ عَجْزُ الْمُنْفِقِ عَلَيْهِ وَمِنْ أَسْبَابِ الْعَجْزِ الِاحْتِبَاسُ الدَّائِمُ فَإِنَّ دَوَامَهُ مِنْ غَيْرِ إنْفَاقٍ يُؤَدِّي إلَى الْهَلَاكِ إذْ لَا بَقَاءَ لِلْإِنْسَانِ عَادَةً بِدُونِ النَّفَقَةِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ إيجَابَ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجِ لِدَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ الْمَرْأَةِ لِكَوْنِهَا مَحْبُوسَةً عَلَى الدَّوَامِ لِحَقِّهِ فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ فِي طَلَبِ النَّفَقَةِ دَافِعَةً لِلْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهَا بِدِيَانَتِهَا لِبَقَائِهَا مَحْبُوسَةً لِحَقِّهِ فَلَا يَكُونُ دِيَانَتُهَا مُوجِبَةً عَلَيْهِ شَيْئًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ بِطَرِيقِ الدَّفْعِ أَنَّ الْأَبَ يُحْبَسُ بِنَفَقَةِ الِابْنِ الصَّغِيرِ أَيْ بِسَبَبِ مَنْعِهَا عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْعِ النَّفَقَةِ عَنْهُ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْقَاصِدِ لِهَلَاكِهِ إذْ لَا بَقَاءَ لَهُ عَادَةً بِدُونِ النَّفَقَةِ فَيَحِلُّ لِلِابْنِ دَفْعُ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ بِحَبْسِ أَبِيهِ أَوْ يَحِلُّ لِلْقَاضِي دَفْعُ الْهَلَاكِ عَنْ الصَّغِيرِ الْعَاجِزِ بِحَبْسِ أَبِيهِ لِأَجْلِ النَّفَقَةِ كَمَا يَحِلُّ دَفْعُهُ أَيْ دَفْعُ الْأَبِ بِالْقَتْلِ أَوْ دَفْعُ الِابْنِ أَبَاهُ بِالْقَتْلِ إذَا قَصَدَ الْأَبُ قَتْلَ الِابْنِ. وَلَا يَحِلُّ حَبْسُ الْأَبِ بِدَيْنِ الِابْنِ جَزَاءً إذْ الْحَبْسُ جَزَاءُ الظُّلْمِ وَالْمُمَاطَلَةِ كَمَا لَا يَحِلُّ قَتْلُ الْأَبِ بِسَبَبِ قَتْلِ الِابْنِ قِصَاصًا فَثَبَتَ أَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ بِطَرِيقِ الدَّفْعِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ كَانَ وُجُوبُ النَّفَقَةِ بِطَرِيقِ الدَّفْعِ أَوْ كَانَ الشَّأْنُ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ وَالْحَدِّ وَالنَّفَقَةِ لَمْ يَثْبُت وَالدِّيَانَةُ بَلْ بِشَيْءٍ آخَرَ كَانَتْ الدِّيَانَةُ دَافِعَةً لَا مُوجِبَةً بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهُ صِلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الدَّفْعِ. فَلَوْ وَجَبَ أَيْ ثَبَتَ الْمِيرَاثُ لِلْبِنْتِ الْمَنْكُوحَةِ بِدِيَانَتِهَا كَانَتْ دِيَانَتُهَا بِصِحَّةِ النِّكَاحِ مُوجِبَةً عَلَى الْبِنْتِ الْأُخْرَى اسْتِحْقَاقَهَا زِيَادَةَ الْمِيرَاثِ لَا دَافِعَةً. وَلَا يُقَالُ الْبِنْتُ الْأُخْرَى قَدْ تَدَيَّنَتْ بِصِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ أَيْضًا حَيْثُ اعْتَقَدَتْ الْمَجُوسِيَّةَ فَيَكُونُ اسْتِحْقَاقُ زِيَادَةِ الْمِيرَاثِ عَلَيْهَا بِنَاءً عَلَى الْتِزَامِهَا بِدِيَانَتِهَا لِأَنَّا نَقُولُ لَمَّا خَاصَمَتْ إلَى الْقَاضِي فِي الْمِيرَاثِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَعْتَقِدْ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ وَلَا تَرِثُ الْمَنْكُوحَةُ بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ

وَإِذَا لَمْ يُفْسَخْ بِمُرَافَعَةِ أَحَدِهِمَا فَقَدْ جَعَلْنَا الدِّيَانَةَ دَافِعَةً أَيْضًا هَذَا جَوَابٌ قَدْ قِيلَ وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ عِنْدِي عَنْ فَصْلِ النَّفَقَةِ أَنَّهُمَا لَمَّا تَنَاكَحَا فَقَدْ دَانَا بِصِحَّتِهِ فَقَدْ أَخَذَ الزَّوْجُ بِدِيَانَتِهِ وَلَمْ يَصِحَّ مُنَازَعَتُهُ مِنْ بَعْدُ بِخِلَافِ مُنَازَعَةِ مَنْ لَيْسَ فِي نِكَاحِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ هَذِهِ الدِّيَانَةَ وَأَمَّا الْقَاضِي فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِالتَّقْلِيدِ دُونَ الْخُصُومَةِ. وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَكَذَلِكَ قَالَا أَيْضًا إلَّا أَنَّهُمَا قَالَا إنَّ تَقَوُّمَ الْخَمْرِ وَإِبَاحَةَ شُرْبِهَا وَتَقَوُّمَ الْخِنْزِيرِ وَإِبَاحَتَهُ كَانَ حُكْمًا ثَابِتًا أَصْلِيًّا فَإِذَا قَصُرَ الدَّلِيلُ بِالدِّيَانَةِ بَقِيَ عَلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ فَأَمَّا نِكَاحُ الْمَحَارِمِ فَلَمْ يَكُنْ إلَّا أَصْلِيًّا يُرَى أَنَّهُ كَانَ لَا يَصْلُحُ لِلرَّجُلِ أُخْتُهُ مِنْ بَطْنٍ وَاحِدٍ فِي زَمَنِ آدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه ـــــــــــــــــــــــــــــQفَاسِدٌ فِي حَقِّ الَّتِي نَازَعَتْ فِي الْإِرْثِ وَدَانَتْ بِالْفَسَادِ. وَذَكَرَ فِي الطَّرِيقَةِ الْبُرْغَرِيَّةِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ مَشَايِخِنَا قَالُوا الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُهُمَا فَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَيَنْبَغِي أَنْ تَسْتَحِقَّ الْمِيرَاثَ بِالزَّوْجِيَّةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ هَذَا النِّكَاحَ مَحْكُومٌ بِالصِّحَّةِ. وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ النِّكَاحَ وَإِنْ كَانَ مَحْكُومًا بِالصِّحَّةِ لَا يَثْبُتُ الْإِرْثُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَنَا بِالدَّلِيلِ جَوَازُ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ فِي شَرِيعَةِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ سَبَبًا لِلْمِيرَاثِ فِي دِينِهِ فَلَا يَثْبُتُ سَبَبًا لِلْمِيرَاثِ بِاعْتِقَادِهِمْ وَدِيَانَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِدِيَانَةِ الذِّمِّيِّ فِي حُكْمٍ إذَا لَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى شَرْعٍ وَلَمْ يَثْبُتْ بِدِيَانَتِنَا؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ فِي دِيَانَتِنَا فَاسِدٌ. بِخِلَافِ نِكَاحِ الْأَجَانِبِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْمِيرَاثِ فِي دِينِنَا فَيَكُونُ سَبَبًا فِي حَقِّهِمْ إذَا اعْتَقَدُوا ذَلِكَ. وَإِذَا لَمْ يُفْسَخْ أَيْ نِكَاحُ الْمَحَارِمِ بِمُرَافَعَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فَلَمْ يُجْعَلُ دِيَانَةُ الَّذِي لَمْ يَرْفَعْ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي مُلْزَمَةً عَلَى الَّذِي رَفَعَهُ إلَيْهِ وَلَكِنْ جَعَلْنَا دِيَانَتَهُ دَافِعَةً لِمَا أَلْزَمَهُ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا قَدْ دَانَا جَمِيعًا بِصِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ حِينَ أَقْدَمَا عَلَى مُبَاشَرَتِهِ فَإِذَا جَاءَ أَحَدُهُمَا طَالِبًا لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ الْمُلْزِمُ عَلَى صَاحِبِهِ شَيْئًا لَمْ يَعْتَقِدْهُ وَالْآخَرُ مُصِرٌّ عَلَى اعْتِقَادِهِ كَمَا كَانَ فَيَكُونُ دَافِعًا بِدِيَانَتِهِ إلْزَامَ الْغَيْرِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَرَافَعَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ الْتَزَمَا حُكْمَ الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ فَيَجْرِي عَلَيْهِمَا. هَذَا أَيْ مَا أَجَبْنَا عَنْ فَصْلِ النَّفَقَةِ جَوَابٌ قَدْ قِيلَ. فَكَأَنَّهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يَرْضَ بِهَذَا الْجَوَابِ؛ لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَمْ يُسَلِّمَا أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ بِطَرِيقِ الدَّفْعِ وَجَعَلَاهَا صِلَةً مُبْتَدَأَةً كَالنِّكَاحِ وَسَبَبُهَا النِّكَاحُ أَيْضًا كَمَا أَنَّ سَبَبَ الْمِيرَاثِ وَهُوَ النِّكَاحُ فَلِذَلِكَ اخْتَارَ جَوَابًا آخَرَ وَأَشَارَ إلَى فَسَادِ هَذَا الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ عِنْدِي عَنْ فَصْلِ النَّفَقَةِ إنَّهُمَا لَمَّا تَنَاكَحَا فَقَدْ دَانَا بِصِحَّتِهِ فَأَخَذَ الزَّوْجُ بِدِيَانَتِهِ؛ لِأَنَّ دِيَانَتَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ. وَلَمْ تَصِحَّ مُنَازَعَةَ الزَّوْجِ فِي مَنْعِ النَّفَقَةِ بِدَعْوَى فَسَادِ النِّكَاحِ مِنْ بَعْدِ أَيْ مِنْ بَعْدَ مَا أَقْدَمَ عَلَى التَّزَوُّجِ وَدَانَ بِصِحَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ مُوجِبَ النِّكَاحِ حِينَ أَقْدَمَ عَلَيْهِ فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ بِدُونِ رِضَا صَاحِبِ الْحَقِّ. بِخِلَافِ مُنَازَعَةِ مَنْ لَيْسَ فِي نِكَاحِهِمَا فِي مَسْأَلَةِ الْإِرْثِ وَهِيَ الْبِنْتُ الْأُخْرَى. لِأَنَّهَا لَمْ تَلْزَمْ هَذِهِ الدِّيَانَةُ أَيْ الدِّيَانَةُ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ حَيْثُ نَازَعَتْ فِي الْإِرْثِ وَلَمْ يَسْبِقْ مِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الِالْتِزَامِ. وَقَوْله وَأَمَّا الْقَاضِي جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّ دِيَانَتَهُ لَوْ صَلُحَتْ حُجَّةً عَلَيْهِ فِي الْإِيجَابِ لَمْ يَصْلُحْ حُجَّةً عَلَى الْقَاضِي فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْخُصُومَةِ فَكَانَتْ دِيَانَتُهُ مُتَعَدِّيَةً إلَيْهِ فَقَالَ إنَّمَا لَزِمَ الْقَاضِي الْقَضَاءُ بِالتَّقَلُّدِ دُونَ الْخُصُومَةِ فَلَا يَكُونُ الْخُصُومَةُ مُلْزِمَةً عَلَيْهِ بَلْ تَكُونُ شَرْطًا قَوْله (وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَكَذَلِكَ قَالَا أَيْضًا) أَيْ قَالَا كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ دِيَانَتَهُمْ دَافِعَةٌ لِلتَّعَرُّضِ وَدَافِعَةٌ لِلتَّعَرُّضِ لِدَلِيلِ الشَّرْعِ فِي الْأَحْكَامِ فَيَبْقَى الْحُكْمُ الثَّابِتُ قَبْلَ الْخِطَابِ عَلَى مَا كَانَ فِي حَقِّهِمْ لَكِنَّ هَذَا فِي كُلِّ حُكْمٍ كَانَ أَصْلِيًّا قَبْلَ الْخِطَابِ عَلَى وَجْهٍ لَوْ لَمْ يَرِدْ الْخِطَابُ لَبَقِيَ مَشْرُوعًا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا فِي حُكْمٍ ضَرُورِيٍّ لَمْ يَثْبُتْ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ فِي شَرِيعَةٍ قَطُّ وَلَوْ لَمْ يَرِدْ الْخِطَابُ فِي شَرِيعَتِنَا لَمْ يُمْكِنْ إبْقَاؤُهُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَلَا. فَتَقَوُّمُ الْخَمْرِ وَإِبَاحَةُ شُرْبِهَا وَتَقُومُ الْخِنْزِيرِ وَإِبَاحَتُهُ كَانَتْ أَحْكَامًا أَصْلِيَّةً قَبْلَ شَرِيعَتِنَا فَبِقُصُورِ الدَّلِيلِ بِسَبَبِ دِيَانَتِهِمْ يُمْكِنُ أَنْ يَبْقَى عَلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ أَيْ عَلَى التَّقَوُّمِ وَالْإِبَاحَةِ فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِتَقَوُّمِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِي حَقِّهِمْ وَبِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى مُتْلِفِهِمَا وَبِصِحَّةِ تَصَرُّفَاتِهِمْ فِيهِمَا كَمَا قَالَ

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ اسْتِبْقَاؤُهُ بِقَصْرِ الدَّلِيلِ وَلِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ مِنْ جِنْسِ مَا يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَصِيرَ قِيَامُ دَلِيلِ التَّحْرِيمِ شُبْهَةً وَبِالْقَضَاءِ بِالنَّفَقَةِ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ بَاطِلٌ لِمَا قُلْنَا. وَأَمَّا عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ فَلِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الصِّلَاتِ الْمُسْتَحَقَّةِ ابْتِدَاءً حَتَّى لَمْ يُشْتَرَطْ لَهَا حَاجَةُ الْمُسْتَحِقِّ. وَالْجَوَابُ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْحَاجَةَ الدَّائِمَةَ بِدَوَامِ الْجِنْسِ لَا يَرُدُّهَا الْمَالُ الْمُقَدَّرُ فَتَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ لَا مَحَالَةَ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ جَعَلَ الدِّيَانَةَ دَافِعَةً لِلتَّعَرُّضِ لَا غَيْرُ حَتَّى لَا يُحَدُّ الذِّمِّيُّ بِشُرْبِ الْخَمْرِ فَأَمَّا سَائِرُ الْأَحْكَامِ فَلَا يَثْبُتُ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ تَقْوِيمَ الْأَمْوَالِ وَإِحْصَانَ النُّفُوسِ مِنْ بَابِ الْعِصْمَةِ وَتَفْسِيرُ الْعِصْمَةِ الْحِفْظُ فَيَكُونُ فِي تَحْقِيقِ الْعِصْمَةِ بِدِيَانَتِهِمْ حِفْظٌ عَنْ التَّعَرُّضِ أَيْضًا وَقَدْ بَيَّنَّا مَا يَبْطُلُ بِهِ مَذْهَبُهُ وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا قُلْنَا مِنْ بَابِ الدَّفْعِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ اسْتِحْلَالُهُمْ الرِّبَا ـــــــــــــــــــــــــــــQأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فَأَمَّا نِكَاحُ الْمَحَارِمِ فَلَمْ يَكُنْ أَصْلِيًّا فِي شَرِيعَةٍ وَإِنَّمَا شُرِعَ فِي شَرِيعَةِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أُخْتُهُ مِنْ بَطْنِهِ وَإِنَّمَا كَانَ يَحِلُّ لَهُ أُخْتُهُ مِنْ بَطْنٍ آخَرَ وَلَمْ يَبْقَ مَشْرُوعًا بَعْدَهُ فَعُلِمَ أَنَّهُ كَانَ ضَرُورِيًّا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ كَانَ جَوَازُ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ غَيْرَ أَصْلِيٍّ لَمْ يَجُزْ اسْتِبْقَاءُ جَوَازِهِ أَوْ حِلِّهِ لِقِصَرِ الدَّلِيلِ أَيْ بِسَبَبِ قُصُورِهِ عَنْهُمْ. فَهَذَا الطَّرِيقُ يَقْتَضِي عَدَمَ صِحَّةِ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ فِي حَقِّهِمْ إلَّا أَنَّا لَمَّا أُمِرْنَا بِتَرْكِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ لَمْ نَمْنَعْهُمْ عَنْ ذَلِكَ كَمَا لَمْ نَمْنَعْهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. فَإِذَا رَفَعَ أَحَدُهُمَا الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِالْفَسْخِ لِفَسَادِ النِّكَاحِ. وَإِذَا وَطِئَهَا بِهَذَا النِّكَاحِ سَقَطَ إحْصَانُهُ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ. وَلِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ يَعْنِي وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهِ أَيْضًا. لِأَنَّ قِيَامَ دَلِيلِ التَّحْرِيمِ أَيْ تَحْرِيمَ الشَّرْعِ الْمَحَارِمَ عَامًّا يَصِيرُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْ الْقَاذِفِ فَإِنَّ فِي زَعْمِ الْقَاذِفِ أَنَّهُ صَادِقٌ فِي قَوْلِهِ يَا زَانٍ لِقِيَامِ دَلِيلِ الْحُرْمَةِ وَإِنْ كَانَ فِي زَعْمِ الْمَقْذُوفِ أَنَّهُ كَاذِبٌ. وَهَذَا الطَّرِيقُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ. وَالْقَضَاءُ بِالنَّفَقَةِ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنَّ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ لَيْسَ بِأَمْرٍ أَصْلِيٍّ بَاطِلٍ لِمَا قُلْنَا إنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ أَصْلِيًّا لَمْ يَجُزْ اسْتِبْقَاؤُهُ لِقُصُورِ الدَّلِيلِ فَلَا يُوجِبُ النَّفَقَةَ لِفَسَادِهِ كَالْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ الثَّانِي فَكَذَا يَعْنِي أَنَّ الطَّرِيقَ الثَّانِي هُوَ أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ وَالْحَدَّ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ وَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي أَنْ يَصِحَّ الْقَضَاءُ بِالنَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ لَكِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَيْضًا عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ مِنْ جِنْسِ الصِّلَاتِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالنِّكَاحِ ابْتِدَاءً كَالْمِيرَاثِ لَا أَنَّهَا تَجِبُ بِطَرِيقِ الدَّفْعِ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجِ حَاجَةَ الْمَرْأَةِ إلَيْهَا فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ غَنِيَّةً فَائِقَةً فِي الْيَسَارِ تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ عَلَى الزَّوْجِ وَلَوْ كَانَ وُجُوبُهَا بِطَرِيقِ الدَّفْعِ لَمَا وَجَبَتْ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ بِوُجُودِ الْيَسَارِ كَمَا لَا يَجِبُ نَفَقَةُ الصَّغِيرِ عَلَى الْأَبِ وَنَفَقَةُ الْأَبَوَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ إذَا كَانَ لَهُمْ مَالٌ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِإِيجَابِهَا عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ دِيَانَتَهَا تَصِيرُ حِينَئِذٍ مُوجِبَةً كَمَا قُلْنَا جَمِيعًا فِي مَسْأَلَةِ الْمِيرَاثِ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. وَالْجَوَابُ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْحَاجَةَ الدَّائِمَةَ بِدَوَامِ الْحِسِّ لَا يَرُدُّهَا الْمَالُ الْمُقَدَّرُ يَعْنِي أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ غَنِيَّةً تَحْتَاجُ إلَى النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ احْتِبَاسَهَا لَحِقَهُ عَلَى الدَّوَامِ وَمَالُهَا وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا مُقَدَّرٌ فَلَا يَفِي بِالْحَاجَةِ الدَّائِمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى مَعَ دَوَامِ الْحَبْسِ فَثَبَتَ أَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ بِطَرِيقِ الدَّفْعِ كَمَا قُلْنَا. وَلَمَّا لَمْ يَحِلَّ هَذَا لِجَوَابٍ عَنْ تَكَلُّفٍ اخْتَارَ الشَّيْخُ فِي فَصْلِ النَّفَقَةِ جَوَابًا آخَرَ كَمَا بَيَّنَّا. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ جَعَلَ الدِّيَانَةَ دَافِعَةً لِلتَّعَرُّضِ لَا غَيْرُ) يَعْنِي لَمْ يَجْعَلْهَا دَافِعَةً لِلْخِطَابِ؛ لِأَنَّ خِطَابَ التَّحْرِيمِ تَنَاوَلَ الْكَافِرَ كَمَا تَنَاوَلَ الْمُسْلِمَ وَقَدْ بَلَغَهُ الْخِطَابُ حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا بِالْإِشَاعَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ وَإِنْكَارُهُ تَعَنُّتٌ وَجَهْلٌ وَالْجَهْلُ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ لَيْسَ بِعُذْرٍ رَفْعُ التَّعَنُّتِ أَوْلَى إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَنَا أَنْ لَا نَتَعَرَّضَ لَهُمْ بِسَبَبِ عَقْدِ الذِّمَّةِ وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا دَانُوا بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ كَمَا لَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا دَانُوا مِنْ الْكُفْرِ فَمَا يَرْجِعُ إلَى التَّعَرُّضِ مِنْ الْأَحْكَامِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِمْ وَمَا لَا يَرْجِعُ

[جهل صاحب الهوى في صفات الله عز وجل وأحكام الآخرة]

وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِدِيَانَةٍ بَلْ هُوَ فِسْقٌ فِي دِيَانَتِهِمْ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِ دِيَانَتِهِمْ تَحْرِيمَ الرِّبَا وَذَلِكَ مِثْلُ خِيَانَتِهِمْ فِيمَا اُؤْتُمِنُوا فِي كُتُبِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ نُهُوا عَنْهُ فَكَذَلِكَ الرِّبَا كَاسْتِحْلَالِهِمْ الزِّنَا. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَجَهْلُ صَاحِبِ الْهَوَى فِي صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَجَهْلُ الْبَاغِي؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلدَّلِيلِ الْوَاضِحِ الصَّحِيحِ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَيْهِ يَثْبُتَ. فَلَا يَجِبُ عَلَى الذِّمِّيِّ حَدُّ الشُّرْبِ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ زَاجِرًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَفِي إيجَابِهِ عَلَيْهِ تَعَرُّضٌ لَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. فَأَمَّا سَائِرُ الْأَحْكَامِ مِثْلُ إثْبَاتِ التَّقَوُّمِ وَإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُتْلِفِ وَصِحَّةِ الْبَيْعِ وَإِيجَابِ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجِ وَإِيجَابِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ فَلَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّ دِيَانَةَ الْكَافِرِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ عَلَى غَيْرِهِ بَلْ أَثَرُهَا فِي دَفْعِ التَّعَرُّضِ عَنْهُ لَا غَيْرُ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَيْ عَنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ تَقْوِيمَ الْأَمْوَالِ وَإِحْصَانَ النُّفُوسِ مِنْ بَابِ الْعِصْمَةِ وَتَفْسِيرَهَا الْحِفْظَ عَنْ التَّعَرُّضِ فَيَكُونُ فِي تَحْقِيقِ الْعِصْمَةِ لِنُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ تَحْقِيقُ الْحِفْظِ لَهَا عَنْ التَّعَرُّضِ أَيْضًا يَعْنِي كَمَا أَنَّ إسْقَاطَ حَدِّ الشُّرْبِ عَنْ الْكَافِرِ بِدِيَانَتِهِ لَهُ مِنْ بَابِ تَرْكِ التَّعَرُّضِ، وَحِفْظُهُ عَنْهُ إثْبَاتُ تَقَوُّمِ الْخَمْرِ وَإِبْقَاءُ الْإِحْصَانِ بِدِيَانَتِهِ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ عَنْ التَّعَرُّضِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ وَالنُّفُوسَ لَا تَصِيرُ مَعْصُومَةً عَنْ تَعَرُّضِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الْإِتْلَافِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِ الْحِفْظِ عَنْ التَّعَرُّضِ كَسُقُوطِ حَدِّ الشُّرْبِ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ دِيَانَتَهُمْ مُعْتَبَرَةٌ فِي دَفْعِ التَّعَرُّضِ، وَدَفْعُ الْخِطَابِ عَنْهُمْ عَدَمُ اعْتِبَارِ دِيَانَتِهِمْ فِي اسْتِحْلَالِ الرِّبَا حَتَّى إنَّ الذِّمِّيَّ إذَا بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ مِنْ ذِمِّيٍّ آخَرَ ثُمَّ تَرَافَعَا إلَى الْقَاضِي أَوْ أَسْلَمَا أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا يَجِبُ نَقْضُهُ كَمَا لَوْ بَاشَرَهُ مُسْلِمٌ وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي ذَلِكَ دِيَانَتُهُ لِحِلِّ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ وَجَوَازِهِ. لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْ اسْتِحْلَالُ الرِّبَا مِنْهُمْ لَيْسَ بِدِيَانَةٍ؛ لِأَنَّ مِنْ دِيَانَتِهِمْ تَحْرِيمُ الرِّبَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى. {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء: 160] {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161] . وَذَلِكَ أَيْ اسْتِحْلَالُ الرِّبَا مِنْهُمْ فِي كَوْنِهِ فِسْقًا مِثْلُ خِيَانَتِهِمْ فِيمَا اُؤْتُمِنُوا مِنْ كُتُبِهِمْ بِتَغْيِيرِ الْأَحْكَامِ وَتَبْدِيلِ صِفَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. لِأَنَّهُمْ نُهُوا عَنْ ذَلِكَ أَيْ عَنْ الْخِيَانَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ فَكَانَتْ الْخِيَانَةُ مِنْهُمْ فِسْقًا لَا دِيَانَةً. وَلِهَذَا ذَمَّهُمْ اللَّهُ بِقَوْلِهِ. {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46] . فَكَذَلِكَ الرِّبَا وَذَلِكَ الِاسْتِحْلَالُ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَحَلُّوا الزِّنَا أَوْ السَّرِقَةَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِمْ حَتَّى يَجِبَ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ فِسْقٌ مِنْهُمْ وَلَيْسَ بِدِيَانَةٍ؛ لِأَنَّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةَ حِرْمَانٌ فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا فَكَذَلِكَ اسْتِحْلَالُ الرِّبَا وَلِهَذَا يُسْتَثْنَى عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ فَشَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَقْتُلُوا وَأَنْ لَا يَسْرِقُوا وَأَنْ لَا يَزْنُوا وَأَنْ لَا يَسْتَرْبُوا. وَإِلَّا يُقَالُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ اسْتِحْلَالُ الرِّبَا فِسْقًا مِنْ الْيَهُودِ فَإِنَّ النَّهْيَ تَحَقَّقَ فِي حَقِّهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمَجُوسِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِكِتَابٍ وَلَا نَبِيٍّ. لِأَنَّا نَقُولُ كَانَ شَرْعُ تَحْرِيمِ الرِّبَا عَامًّا وَلَمْ يَكُنْ الرِّبَا مَشْرُوعًا قَطُّ فِي دَيْنٍ مِنْ الْأَدْيَانِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الظُّلْمِ وَهُوَ حَرَامٌ فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا وَلَمْ يَكُنْ عَقْدُ الذِّمَّةِ مَشْرُوعًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِيُعْتَبَرَ مَانِعًا مِنْ بُلُوغِ الْخِطَابِ فَيَثْبُتُ التَّحْرِيمُ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ. قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنَّمَا اسْتَثْنَى عَلَيْهِمْ أَنْوَاعَ تَصَرُّفٍ يَقَعُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ عَلَى الشَّرِكَةِ كَالرِّبَا وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَهُمْ مُبَاشَرَتُهَا وَاعْتَادُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي عُقُودِهِمْ مَعَنَا فَتَعَذَّرَ عَلَى التَّاجِرِ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَأَمَّا عُقُودُ مُعَامَلَاتٍ تَجْرِي بَيْنَهُمْ خَاصَّةً لَا يَتَعَدَّى شَرُّهَا إلَيْنَا فَتُرِكُوا وَدِيَانَتُهُمْ كَالْأَنْكِحَةِ وَشُرْبُ الْخَمْرِ. [جَهْل صَاحِبِ الْهَوَى فِي صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَحْكَامِ الْآخِرَةِ] قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي) وَهُوَ الْجَهْلُ الَّذِي دُونَ جَهْلِ الْكَافِرِ وَلَكِنَّهُ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا أَيْضًا فَجَهْلُ صَاحِبِ الْهَوَى فِي صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِثْلُ جَهْلِ الْمُعْتَزِلَةِ بِالصِّفَاتِ فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوهَا حَقِيقَةً بِقَوْلِهِمْ أَنَّهُ تَعَالَى عَالَمٌ بِلَا عِلْمٍ قَادِرٌ بِلَا قُدْرَةٍ سَمِيعٌ بِلَا سَمْعٍ بَصِيرٌ بِلَا بَصَرٍ وَكَذَا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي سَائِرِ الصِّفَاتِ. وَمِثْلُ جَهْلِ الْمُشَبِّهَةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا بِجَوَازِ حُدُوثِ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَزَوَالِهَا عَنْهُ مُشَبِّهِينَ اللَّهَ تَعَالَى بِخَلْقِهِ فِي صِفَاتِهِ. وَهَذَا الْجَهْلُ بَاطِلٌ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا فِي الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلدَّلِيلِ الْوَاضِحِ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ سَمْعًا وَعَقْلًا. أَمَّا السَّمْعُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] . {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] . {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58] . {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 243] إلَى غَيْرِهَا مِنْ الْآيَاتِ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى صِفَاتٍ هِيَ مَعَانٍ وَرَاءَ الذَّاتِ. وَأَمَّا الْعَقْلُ فَهُوَ أَنَّ الْمُحْدَثَاتِ كَمَا دَلَّتْ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ جَلَّ جَلَالُهُ دَلَّتْ عَلَى كَوْنِهِ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا سَمِيعًا بَصِيرًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ وَعِلْمٌ وَقُدْرَةٌ وَسَمْعٌ وَبَصَرٌ وَأَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الصِّفَاتُ مَعَانِيَ وَرَاءَ الذَّاتِ إذْ يُحِيلُ الْعَقْلُ أَنْ يُحْكَمَ بِعَالِمٍ لَا عِلْمَ لَهُ وَحَيٍّ لَا حَيَاةَ لَهُ وَقَادِرٍ لَا قُدْرَةَ لَهُ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ لَيْسَ بِعَالِمٍ وَبَيْن قَوْلِهِ لَا عِلْمَ لَهُ وَكَذَا فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ. وَقَدْ عُرِفَ بِدَلَالَةِ الْعَقْلِ أَيْضًا أَنَّ مَا هُوَ مَحَلُّ الْحَوَادِثِ حَادِثٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ تَعَالَى حَادِثَةً لِاسْتِلْزَامِهِ حُدُوثَ الذَّاتِ الَّذِي هُوَ مُحَالٌ فَثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْوَاضِحِ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مُنَزَّهٌ عَنْ النَّقِيصَةِ وَالزَّوَالِ وَأَنَّ صِفَاتِهِ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ وَلَيْسَتْ بِأَعْرَاضٍ تَحْدُثُ وَتَزُولُ بَلْ هِيَ أَزَلِيَّةٌ لَا أَوَّلَ لَهَا أَبَدِيَّةٌ لَا آخِرَ لَهَا فَكَانَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ بَاطِلًا وَجَهْلًا بَعْدَ وُضُوحِ الدَّلِيلِ فَلَا يَصْلُحُ عُذْرًا فِي الْآخِرَةِ. وَكَذَا جَهْلُهُمْ بِأَحْكَامِ الْآخِرَةِ مِثْلُ جَهْلِ الْمُعْتَزِلَةِ بِسُؤَالِ الْمُنْكَرِ وَالنَّكِيرِ وَعَذَابُ الْقَبْرِ وَالْمِيزَانِ وَالشَّفَاعَةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ وَجَوَازُ الْعَفْوِ عَمَّا دُونَ الشِّرْكِ وَجَوَازُ إخْرَاجِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ النَّارِ وَإِنْكَارِهِمْ إيَّاهَا. وَمِثْلُ إنْكَارِ الْجَهْمِيَّةِ خُلُودَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَأَهَالِيَهُمَا جَهْلٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ النَّاطِقَةَ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ وَاضِحَةٌ لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ تَأَمَّلَ فِيهَا عَنْ إنْصَافٍ فَالْجَهْلُ بِهَا لَا يَكُونُ عُذْرًا فِي الْآخِرَةِ كَجَهْلِ الْكَافِرِ. وَكَذَلِكَ جَهْلُ الْبَاغِي وَهُوَ الَّذِي خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ الْحَقِّ ظَانًّا أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ وَالْإِمَامَ عَلَى الْبَاطِلِ مُتَمَسِّكًا فِي ذَلِكَ بِتَأْوِيلٍ فَاسِدٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْوِيلٌ فَحُكْمُهُ حُكْمُ اللُّصُوصِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلدَّلِيلِ الْوَاضِحِ فَإِنَّ الدَّلَائِلَ عَلَى كَوْنِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ عَلَى الْحَقِّ مَثَلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقَتَهُمْ لَائِحَةٌ عَلَى وَجْهٍ يُعَدُّ جَاحِدُهَا مُكَابِرًا مُعَانِدًا. وَتَوْضِيحُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ قِصَّةِ الْبُغَاةِ وَهِيَ مَا رُوِيَ أَنَّ الْمُخَالَفَةَ لَمَّا اسْتَحْكَمَتْ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَكَثُرَ الْقِتَالُ وَالْقَتْلُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ جَعَلَ أَصْحَابُ مُعَاوِيَةَ الْمَصَاحِفَ عَلَى رُءُوسِ الرِّمَاحِ وَقَالُوا لِأَصْحَابِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى نَدْعُوكُمْ إلَى الْعَمَلِ بِهِ فَأَجَابَ أَصْحَابُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى ذَلِكَ وَامْتَنَعُوا عَنْ الْقِتَالِ ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَأْخُذُوا حَكَمًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَمَنْ اتَّفَقَ الْحَكَمَانِ عَلَى إمَامَتِهِ فَهُوَ الْإِمَامُ وَكَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَرْضَى بِذَلِكَ حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ فَوَافَقَهُمْ عَلَيْهِ فَاخْتِيرَ مِنْ جَانِبِ مُعَاوِيَةَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَكَانَ دَاهِيًا وَمِنْ جَانِبِ عَلِيٍّ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَكَانَ مِنْ شُيُوخِ الصَّحَابَةِ فَقَالَ عَمْرٌو لِأَبِي مُوسَى نَعْزِلُهُمَا أَوَّلًا ثُمَّ نَتَّفِقُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَأَجَابَهُ أَبُو مُوسَى إلَيْهِ ثُمَّ قَالَ لِأَبِي مُوسَى أَنْتَ أَكْبَرُ سِنًّا مِنِّي فَاعْزِلْ

فَكَانَ بَاطِلًا كَالْأَوَّلِ إلَّا أَنَّهُ مُتَأَوَّلٌ بِالْقِرَانِ فَكَانَ دُونَ الْأَوَّلِ وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِمَّنْ يَنْحَلُ الْإِسْلَامَ لَزِمَنَا مُنَاظَرَتُهُ وَإِلْزَامُهُ فَلَمْ نَعْمَلْ بِتَأْوِيلِهِ الْفَاسِدِ وَقُلْنَا فِي الْبَاغِي إذَا أَتْلَفَ مَالَ الْعَادِلِ أَوْ نَفْسَهُ وَلَا مَنَعَةَ لَهُ يَضْمَنُ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَحْكَامِ تَلْزَمُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلِيًّا أَوَّلًا عَنْ الْإِمَامَةِ فَصَعِدَ أَبُو مُوسَى الْمِنْبَرَ وَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَدَعَا لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَذَكَرَ الْفِتْنَةَ ثُمَّ أَخْرَجَ خَاتَمَهُ مِنْ أُصْبُعِهِ. وَقَالَ أَخْرَجْت عَلِيًّا عَنْ الْخِلَافَةِ كَمَا أَخْرَجْت خَاتَمِي مِنْ أُصْبُعِي وَنَزَلَ ثُمَّ صَعِدَ عَمْرٌو الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَدَعَا لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَذَكَرَ الْفِتْنَةَ ثُمَّ أَخَذَ خَاتَمَهُ وَأَدْخُلَهُ فِي أُصْبُعِهِ وَقَالَ أَدْخَلْت مُعَاوِيَةَ فِي الْخِلَافَةِ كَمَا أَدْخَلْت خَاتَمِي هَذَا فِي أُصْبُعِي فَعَرَفَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُمْ أَفْسَدُوا عَلَيْهِ الْأَمْرَ فَخَرَجَ عَلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَرِيبٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفِ رَجُلٍ مِنْ عَسْكَرِهِ زَاعِمِينَ أَنَّ عَلِيًّا كَفَرَ حِينَ تَرَكَ حُكْمَ اللَّهِ وَأَخَذَ بِحُكْمِ الْحَكَمَيْنِ فَهَؤُلَاءِ هُمْ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ تَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ وَزَعَمُوا أَنَّ مَنْ أَذْنَبَ فَقَدْ كَفَرَ. وَكَانَ هَذَا مِنْهُمْ جَهْلًا بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلدَّلِيلِ الْوَاضِحِ فَإِنَّ إمَامَةَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثَبَتَتْ بِاخْتِيَارِ كِبَارِ الصَّحَابَةِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَمَا ثَبَتَتْ إمَامَةُ مَنْ قَبْلَهُ بِهِ وَالرِّضَاءُ بِحُكْمِ الْحَكَمِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ أَمْرٌ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِهِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ فَكَيْفَ يَكُونُ مَعْصِيَةً. وَكَذَا الْمُسْلِمُ لَا يُكَفَّرُ بِالْمَعْصِيَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ اسْمَ الْإِيمَانِ عَلَى مُرْتَكِبِ الذَّنْبِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [التحريم: 8] . {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} [النور: 31] وَنَحْوِهَا فَجَهْلُهُمْ بَعْدَ وُضُوحِ الْأَدِلَّةِ لَا يَكُونُ عُذْرًا كَجَهْلِ الْكَافِرِ إلَّا أَنَّهُ أَيْ لَكِنَّ صَاحِبَ الْهَوَى أَوْ الْبَاغِيَ. مُتَأَوِّلٌ بِالْقُرْآنِ أَيْ مُتَمَسِّكٌ بِهِ مُؤَوِّلٌ لَهُ عَلَى وَفْقِ رَأْيِهِ فَإِنَّ نَافِيَ الصِّفَاتِ تَمَسَّكَ بِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ ذَاتَه بِالْوَحْدَانِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ وَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ الشَّرِيكِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ فَلَوْ أَثْبَتْنَا الصِّفَاتِ لَهُ لَكَانَتْ قَدِيمَةً وَلَكَانَتْ أَغْيَارًا لِلذَّاتِ. ، وَإِثْبَاتُ الْأَغْيَارِ فِي الْأَزَلِ مُنَافٍ لِلتَّوْحِيدِ. وَمُجَوِّزُ الْحُدُوثِ فِي الصِّفَاتِ تَعَلَّقَ بِنَحْوِ قَوْله تَعَالَى {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22] . {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210] . {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام: 158] . وَالْبَاغِي احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ} [الأنعام: 57] . {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 14] . {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93] فَكَانَ هَذَا الْجَهْلُ دُونَ الْجَهْلِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا فِي الْآخِرَةِ. وَلَكِنَّهُ أَيْ هَذَا الْجَاهِلُ وَهُوَ الْبَاغِي وَصَاحِبُ الْهَوَى لَمَّا كَانَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ بِالْبَغْيِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ الْإِسْلَامِ وَكَذَلِكَ بِالْهَوَى إذَا لَمْ يَغْلُ فِيهِ. أَوْ مِمَّنْ يَنْتَحِلُ الْإِسْلَامَ يَعْنِي إذَا غَلَا فِي هَوَاهُ حَتَّى كَفَرَ وَلَكِنَّهُ يَنْتَسِبُ إلَى الْإِسْلَامِ مَعَ ذَلِكَ كَغُلَاةِ الرَّوَافِضِ وَالْمُجَسِّمَةِ. لَزِمَنَا مُنَاظَرَتُهُ وَإِلْزَامُهُ قَبُولَ الْحَقِّ بِالدَّلِيلِ فَلَمْ نَعْمَلْ بِتَأْوِيلِهِ الْفَاسِدِ. فَإِذَا اسْتَحَلَّ الْبَاغِي الْأَمْوَالَ أَوْ الدِّمَاءَ بِتَأْوِيلِ أَنَّ مُبَاشَرَةَ الذَّنْبِ كُفْرٌ لَا يُحْكَمُ بِإِبَاحَتِهَا فِي حَقِّهِ بِتَأْوِيلِهِ كَمَا حَكَمْنَا بِإِبَاحَةِ الْخَمْرِ فِي حَقِّ الْكَافِرِ بِدِيَانَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ الْإِسْلَامَ حَقًّا فَأَمْكَنَ مُنَاظَرَتُهُ وَإِلْزَامُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْمُنَاظَرَةِ وَالْإِلْزَامِ مُنْقَطِعَةٌ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِدِيَانَتِهِ فِي حَقِّهِ. فَلِذَلِكَ قُلْنَا إذَا أَتْلَفَ الْبَاغِي مَالَ الْعَادِلِ أَيْ نَفْسَهُ وَلَا مَنَعَةَ لَهُ يَضْمَنُ كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ غَيْرُهُ لِبَقَاءِ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَوُجُوبِ الضَّمَانِ سَائِرُ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَلْزَمُ الْمُسْلِمِينَ تَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ وَوِلَايَةُ الْإِلْزَامِ

فَإِذَا صَارَ لِلْبَاغِي مَنَعَةٌ سَقَطَ عَنْهُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِتَأْوِيلِهِ الْفَاسِدِ فَلَمْ يُؤْخَذْ بِضَمَانٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQبَاقِيَةٌ. فَإِذَا صَارَ لِلْبَاغِي مَنَعَةٌ سَقَطَ عَنْهُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ بِالدَّلِيلِ حِسًّا وَحَقِيقَةً فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِتَأْوِيلِهِ الْفَاسِدِ فَلَمْ يُؤْخَذْ بِضَمَانٍ فِي نَفْسٍ وَلَا مَالٍ بَعْدَ التَّوْبَةِ كَمَا لَمْ يُؤْخَذْ أَهْلُ الْحَرْبِ بِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَلْزَمُ الضَّمَانُ وَإِنْ كَانَ لَهُ مَنَعَةٌ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ مُلْتَزِمٌ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ وَقَدْ أَتْلَفَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَلَا عِبْرَةَ لِتَأْوِيلِهِ؛ لِأَنَّهُ مُبْطِلٌ فِي ذَلِكَ وَكَيْفَ يُعْتَبَرُ اعْتِقَادُهُ بَعْدَمَا الْتَزَمَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ لِإِثْبَاتِ أَمْرٍ عَلَى خِلَافِهِ. بِخِلَافِ الْحَرْبِيِّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ حُكْمَ الْإِسْلَامِ أَصْلًا. وَلَنَا حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ قَالَ وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا مُتَوَافِرِينَ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ دَمٍ أُرِيقَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ وَكُلَّ مَالٍ أُتْلِفَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ وَكُلَّ فَرْجٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ. وَأَنَّ تَبْلِيغَ الْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ قَدْ انْقَطَعَتْ بِمَنْعِهِ قَائِمَةٌ حِسًّا فَلَمْ تَثْبُتْ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّهِمْ كَمَا لَوْ انْقَطَعَتْ بِحَجْرٍ شَرْعِيٍّ بِأَنْ قَبِلَ الْكَافِرُ الذِّمَّةَ؛ لِأَنَّ حُجَجَ الشَّرْعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الثُّبُوتَ وَالسُّقُوطَ لَا تَلْزَمُ إلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ فَإِذَا انْقَطَعَ الْبُلُوغُ عُدِمَتْ الْحُجَّةُ فَكَانَ تَدَيُّنُ كُلِّ قَوْمٍ عَنْ تَأْوِيلٍ بِمَنْزِلَةِ تَدَيُّنِ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ مَزِيَّةٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَالِاسْتِحْلَالُ بِحُكْمِ مُخَالَفَةِ الدِّينِ حُكْمٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَمَا جَازَ لَنَا فِي الْبُغَاةِ وَإِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ فَسَاوَى تَدَيُّنُهُمْ تَدَيُّنَنَا حَالَ قِيَامِ الْحَرْبِ وَانْقِطَاعِ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ بِالْمَنَعَةِ الْقَائِمَةِ كَمَا جَعَلَ كَذَلِكَ فِي أَهْلِ الْحَرْبِ وَحَقِّ الْأَنْكِحَةِ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِثْمِ فَإِنَّ الْبَاغِيَ يَأْثَمُ وَإِنْ كَانَ لَهُ مَنَعَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَنَعَةَ لَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الشَّارِعِ وَالْخُرُوجُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى حَرَامٌ أَبَدًا وَالْجَزَاءُ وَاجِبٌ لِلَّهِ تَعَالَى أَبَدًا إلَّا أَنْ يَعْفُوَ فَأَمَّا ضَمَانُ الْعِبَادِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ كَمَا فِي الْخَمْرِ وَإِنَّمَا وَجَبَ شَرْعًا فَلَا يَجِبُ إلَّا بِعِلْمِ الْخِطَابِ وَالتَّأَمُّلِ فِيهِ. وَبِخِلَافِ الْبَاغِي الَّذِي لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ التَّبْلِيغِ وَهُوَ الْمَنَعَةُ لَمْ يَتَحَقَّقُ فَكَانَ جَهْلُهُ بِالْحُجَّةِ بِسَبَبِ تَعَنُّتِهِ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ سَمَاعِ الْحُجَّةِ وَالتَّأَمُّلِ فِيهِ وَلَا عِبْرَةَ لِلتَّعَنُّتِ فَصَارَ الْعَدَمُ بِهِ كَأَنْ لَا عَدَمَ، كَذَا فِي الْأَسْرَارِ. وَهَذَا إذَا هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِهِ فَإِنْ كَانَ قَائِمًا فِي يَدِهِ وَجَبَ رَدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ بِالْأَخْذِ كَمَا لَا نَمْلِكُ مَالَ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْفِئَتَيْنِ الْمُقَاتِلَتَيْنِ بِتَأْوِيلِ الدِّينِ فِي الْأَحْكَامِ أَصْلٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ أُفْتِي فِي أَهْلِ الْبَغْيِ إذَا تَابُوا بِأَنْ يَضْمَنُوا مَا أَتْلَفُوا مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَلَا أُلْزِمُهُمْ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَقِدِينَ الْإِسْلَامَ وَقَدْ ظَهَرَ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ فِي التَّأْوِيلِ إلَّا أَنَّ وِلَايَةَ الْإِلْزَامِ كَانَتْ مُنْقَطِعَةً لِلْمَنَعَةِ فَلَا يُجْبَرُونَ عَلَى أَدَاءِ الضَّمَانِ فِي الْحُكْمِ وَلَكِنْ نُفْتِي بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ وَلَا نُفْتِي أَهْلَ الْعَدْلِ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُمْ مُحِقُّونَ فِي قِتَالِهِمْ وَقَتْلِهِمْ مُمْتَثِلُونَ لِلْأَمْرِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. وَحَاصِلُ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الْمُغَيِّرَ لِلْحُكْمِ اجْتِمَاعُ التَّأْوِيلِ وَالْمَنَعَةِ فَإِذَا تَجَرَّدَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ لَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ فِي حَقِّ ضَمَانِ الْمُصَابِ حَتَّى لَوْ أَنَّ قَوْمًا غَيْرَ مُتَأَوِّلِينَ غَلَبُوا عَلَى مَدِينَةٍ فَقَتَلُوا الْأَنْفُسَ وَاسْتَهْلَكُوا الْأَمْوَالَ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْعَدْلِ أَخَذُوا بِجَمِيعِ ذَلِكَ لِتَجَرُّدِ الْمَنَعَةِ عَنْ التَّأْوِيلِ. قَوْلُهُ (وَوَجَبَتْ الْمُجَاهَدَةُ لِمُحَارَبَتِهِمْ) أَيْ لِأَجْلِ مُحَارَبَتِهِمْ يَعْنِي إنَّمَا وَجَبَتْ مُقَاتَلَتُهُمْ بِطَرِيقِ الدَّفْعِ لَا أَنْ تَجِبَ ابْتِدَاءً كَمَا تَجِبُ مُقَاتَلَةُ الْكُفَّارِ فَإِنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لِلْخَوَارِجِ فِي خُطْبَتِهِ وَلَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تُقَاتِلُونَا يَعْنِي

وَوَجَبَتْ الْمُجَاهَدَةُ لِمُحَارَبَتِهِمْ وَوَجَبَ قَتْلُ أَسْرَاهُمْ وَالتَّذْفِيفُ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَلَمْ نَضْمَنْ نَحْنُ أَمْوَالَهُمْ وَدِمَاءَهُمْ وَلَمْ نُحْرَمْ عَنْ الْمِيرَاثِ بِقَتْلِهِمْ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ جَامِعٌ وَالْقَتْلُ حَقٌّ وَهُمْ لَمْ يُحْرَمُوا أَيْضًا إنْ قُتِلُوا أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ مِنْهُمْ فِي حُكْمِ الدُّنْيَا بِشَرْطِ الْمَنَعَةِ فِي حُكْمِ الْجِهَادِ بِنَاءً عَلَى دِيَانَتِهِمْ وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فِي حَقِيقَةٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQحَتَّى تَعْزِمُوا عَلَى الْقِتَالِ بِالتَّجَمُّعِ وَالتَّحَيُّزِ عَنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فَدَلَّ أَنَّهُمْ مَا لَمْ يَعْزِمُوا عَلَى الْخُرُوجِ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ بِالْقَتْلِ وَالْحَبْسِ فَإِذَا تَجَمَّعُوا وَعَزَمُوا عَلَى الْخُرُوجِ وَجَبَ عَلَى كُلِّ مَنْ يَقْوَى عَلَى الْقِتَالِ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ مَعَ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَلِأَنَّهُمْ قَصَدُوا أَذَى الْمُسْلِمِينَ وَتَهْيِيجَ الْفِتْنَةِ، وَإِمَاطَةُ الْأَذَى وَتَسْكِينُ الْفِتْنَةِ مِنْ أَبْوَابِ الدِّينِ. وَخُرُوجُهُمْ مَعْصِيَةٌ فَفِي الْقِيَامِ بِقِتَالِهِمْ نَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ وَهُوَ فَرْضٌ. وَالْإِمَامُ فِيهِ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ قَامَ بِالْقِتَالِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ أُمِرْت بِقِتَالِ الْمَارِقِينَ وَالنَّاكِثِينَ وَالْقَاسِطِينَ. وَوَجَبَ قَتْلُ أُسَرَائِهِمْ وَالتَّذْفِيفِ عَلَى جَرِيحِهِمْ ذَكَرَ هَاهُنَا لَفْظَ الْوُجُوبِ، وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ بِلَفْظِهِ لَا بَأْسَ فَقِيلَ لَا بَأْسَ بِقَتْلِ أَسِيرِهِمْ إذَا كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ؛ لِأَنَّ شَرَّهُ لَمْ يَنْدَفِعْ وَلَكِنَّهُ مَقْهُورٌ لَوْ تَخَلَّصَ لَتَحَيَّزَ إلَى فِئَتِهِ فَإِذَا رَأَى الْإِمَامُ مَصْلَحَةً فِي قَتْلِهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلَهُ. وَإِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ لَا يُقْتَلُ؛ لِأَنَّ إبَاحَةَ الْقَتْلِ لِدَفْعِ الْبَغْيِ وَقَدْ انْدَفَعَ وَكَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُحَلِّفُ مَنْ بَاشَرَهُ مِنْهُمْ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَلَيْهِ ثُمَّ يُخَلِّي سَبِيلَهُ. وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُجْهِزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ إذَا كَانَتْ فِئَتُهُمْ بَاقِيَةً؛ لِأَنَّهُ إذَا بَرِئَ عَادَ إلَى الْفِتْنَةِ وَالشَّرِّ بِقُوَّةِ تِلْكَ الْفِئَةِ. وَلِأَنَّ فِي قَتْلِ الْأَسِيرِ وَالْإِجْهَازِ كَسْرَ شَوْكَةِ أَصْحَابِهِ فَإِذَا بَقِيَتْ لَهُمْ فِئَةٌ يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ تَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ وَالتَّذْفِيفُ الْإِسْرَاعُ فِي الْقَتْلِ وَالْمُرَادُ مِنْ التَّذْفِيفِ هَاهُنَا إتْمَامُ الْقَتْلِ وَلَمْ نَضْمَنْ نَحْنُ أَمْوَالَهُمْ بِالْإِتْلَافِ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَدِمَاءَهُمْ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُمْ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُوجِبُ ضَمَانًا. وَلَمْ نُحَرِّمْ عَنْ الْمِيرَاثِ حَتَّى لَوْ قَتَلَ الْعَادِلُ فِي الْحَرْبِ مُوَرِّثَهُ الْبَاغِيَ وَرِثَهُ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ جَامِعٌ بَيْنَ الْوَارِثِ وَالْمُوَرِّثِ فِي الدِّينِ فَلَمْ يَثْبُتْ اخْتِلَافُ الدِّينُ الَّذِي هُوَ مَانِعٌ مِنْ الْإِرْثِ بِاخْتِلَافِ دِيَانَتِهِمَا وَالْقَتْلُ بِحَقٍّ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْحِرْمَانِ كَالْقَتْلِ رَجْمًا أَوْ قِصَاصًا؛ لِأَنَّ حِرْمَانَ الْمِيرَاثِ عُقُوبَةٌ شُرِعَتْ جَزَاءً عَلَى قَتْلٍ مَحْظُورٍ فَالْقَتْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لَهُ. وَهُمْ أَيْ أَهْلُ الْبَغْيِ لَمْ يُحْرَمُوا عَنْ الْمِيرَاثِ حَتَّى لَوْ قَتَلَ الْبَاغِي أَخَاهُ الْعَادِلَ وَقَالَ كُنْت عَلَى الْحَقِّ وَأَنَا الْآنَ عَلَى الْحَقِّ وَرِثَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَإِنْ قَالَ كُنْت عَلَى بَاطِلٍ لَمْ يَرِثْهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَرِثُهُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيُحْرَمُ بِهِ عَنْ الْمِيرَاثِ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ ظُلْمًا مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ وَهَذَا؛ لِأَنَّ اعْتِقَادَهُ وَتَأْوِيلَهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى مُوَرِّثِهِ الْعَادِلِ وَلَا عَلَى سَائِرِ وَرَثَتِهِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ خَاصَّةً. يُوَضِّحُهُ أَنَّ تَأْوِيلَ أَهْلِ الْبَغْيِ عِنْدَ انْضِمَامِ الْمَنَعَةِ إلَيْهِ يُعْتَبَرُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ أَهْلِ الْحَرْبِ وَتَأْثِيرُ ذَلِكَ فِي إسْقَاطِ ضَمَانِ النَّفْسِ وَالْمَالِ لَا فِي حُكْمِ التَّوْرِيثِ فَكَذَلِكَ تَأْوِيلُ أَهْلِ الْبَغْيِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْمُقَاتَلَةَ بَيْنَ الْفِئَتَيْنِ بِتَأْوِيلِ الدِّينِ فَتَسْتَوِيَانِ فِي الْأَحْكَامِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْإِمَامِ كَمَا فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِلْزَامِ لَمَّا انْقَطَعَتْ بِالْمَنَعَةِ كَانَ الْقَتْلُ مِنْهُمْ فِي حُكْمِ الدُّنْيَا فِي حُكْمِ الْجِهَادِ بِنَاءً عَلَى دِيَانَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَخُصُومَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ فَكَانَتْ مُقَاتَلَتُهُمْ الْخُصُومَ جِهَادًا فِي زَعْمِهِمْ وَأَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيًا عَنْ الْمُنْكَرِ وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فِي الْحَقِيقَةِ. وَقَوْلُهُ اعْتِقَادُهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى

وَوَجَبَ حَبْسُ أَمْوَالِهِمْ زَجْرًا لَهُمْ وَلَمْ نَمْلِكْ أَمْوَالَهُمْ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الدَّارِ وَاحِدَةٌ وَهِيَ بِحُكْمِ الدِّيَانَةِ مُخْتَلِفَةٌ فَثَبَتَتْ الْعِصْمَةُ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ الْإِسْلَامُ دُونَ وَجْهٍ فَلَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ بِالشَّكِّ وَلَمْ يَجِبْ الْمِلْكُ بِالشُّبْهَةِ بِخِلَافِ أَهْلِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ الدَّارَ مُخْتَلِفَةٌ وَالْمَنَعَةُ مُتَبَايِنَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَبَطَلَتْ الْعِصْمَةُ لَنَا فِي حَقِّهِمْ وَلَهُمْ فِي حَقِّنَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَكَذَلِكَ جَهِلَ مِنْ خَالَفَ فِي اجْتِهَادِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مِنْ عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ وَأَئِمَّةِ الْفِقْهِ أَوَعَمِلَ بِالْغَرِيبِ مِنْ السُّنَّةِ عَلَى خِلَافِ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ فَمَرْدُودٌ بَاطِلٌ لَيْسَ بِعُذْرٍ أَصْلًا مِثْلُ الْفَتْوَى بِبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَمِثْلُ الْقَوْلِ بِالْقِصَاصِ فِي الْقَسَامَةِ وَمِثْلُ اسْتِبَاحَةِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا وَالْقَضَاءِ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّا أُمِرْنَا بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ وَعَلَى هَذَا يُبْتَنَى مَا يَنْفُذُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي وَمَا لَا يَنْفُذُ ـــــــــــــــــــــــــــــQمُوَرِّثِهِ الْعَادِلِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ اعْتِقَادَهُ كَمَا لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْعَادِلِ فِي حُكْمِ التَّوْرِيثِ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي حُكْمِ سُقُوطِ حَقِّهِ عَنْ الضَّمَانِ وَلَكِنْ لَمَّا انْقَطَعَتْ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ بِانْضِمَامِ الْمَنَعَةِ إلَى التَّأْوِيلِ جُعِلَ الْفَاسِدُ مِنْ التَّأْوِيلِ كَالصَّحِيحِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ فَكَذَا فِي حَقِّ التَّوْرِيثِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. قَوْلُهُ (وَوَجَبَ حَبْسُ الْأَمْوَالِ) أَيْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ زَجْرًا لَهُمْ عَنْ الْبَغْيِ وَعُقُوبَةً كَمَا وَجَبَ قَتْلُ نُفُوسِهِمْ. فَإِذَا تَفَرَّقَ جَمْعُهُمْ وَانْكَسَرَتْ شَوْكَتُهُمْ تُرَدُّ عَلَيْهِمْ أَمْوَالُهُمْ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُتَمَلَّكْ لِبَقَاءِ الْعِصْمَةِ وَالْإِحْرَازِ فِيهَا. وَلِأَنَّ الْمِلْكَ بِطَرِيقِ الِاسْتِيلَاءِ لَا يَثْبُتُ مَا لَمْ يَتِمَّ بِالْإِحْرَازِ بِدَارٍ تُخَالِفُ دَارَ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ دَارَ الْفِئَتَيْنِ وَاحِدَةٌ. وَقِيلَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَوْمَ الْجَمَلِ أَلَا تَقْسِمُ بَيْنَنَا مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْنَا قَالَ فَمَنْ يَأْخُذُ مِنْكُمْ عَائِشَةُ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ اسْتِبْعَادًا لِكَلَامِهِمْ وَإِظْهَارًا لِخَطَئِهِمْ فِيمَا طَلَبُوا وَقَدْ جَمَعَ مَا أَصَابَ مِنْ عَسْكَرِ أَهْلِ النَّهْرَوَانِ فِي رَحْبَةِ الْكُوفَةِ فَمَنْ كَانَ يَعْرِفُ شَيْئًا أَخَذَهُ. وَهِيَ بِحُكْمِ الدِّيَانَةِ مُخْتَلِفَةٌ حَيْثُ اعْتَقَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ أَنَّ الْفَرِيقَ الْآخَرَ عَلَى الْبَاطِلِ وَأَنَّ دِمَاءَهُمْ مُبَاحَةٌ وَقَدْ غَلَبُوا عَلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَجَعَلُوهَا دَارَ الْحَرْبِ حَيْثُ لَزِمَنَا مُحَارَبَتُهُمْ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَمِثْلُ جَهْلِ الْبَاغِي وَصَاحِبِ الْهَوَى جَهْلُ مَنْ خَالَفَ فِي اجْتِهَادِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ. الْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ مِثْلُ الْفَتْوَى بِبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ. كَانَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ وَدَاوُد الْأَصْبَهَانِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ يَقُولُونَ بِجَوَازِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ مُتَمَسِّكِينَ فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ «جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ كُنَّا نَبِيعُ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَبِأَنَّ الْمَالِيَّةَ وَالْمَحَلِّيَّةَ لِلْبَيْعِ قَبْلَ الْوِلَادَةِ مَعْلُومَةٌ فِيهَا بِيَقِينٍ فَلَا تَرْتَفِعُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ بِالشَّكِّ. وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا لِدَلَالَةِ الْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ عَلَيْهِ مِثْلُ «قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِمَارِيَةَ أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» . وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَيُّمَا أَمَةٍ وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا فَهِيَ مُعْتَقَةٌ عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ» رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ مِنْ غَيْرِ الثُّلُثِ وَأَنْ لَا يُبَعْنَ فِي دَيْنٍ» . وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يُنَادِي عَلَى الْمِنْبَرِ إلَّا أَنَّ بَيْعَ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ حَرَامٌ وَلَا رِقَّ عَلَيْهَا بَعْدَ مَوْتِ مَوْلَاهَا وَقَدْ تَلَقَّاهَا الْقَرْنُ الثَّانِي بِالْقَبُولِ وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِهَا فَكَانَ الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ مُخَالِفًا لِلْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ وَالْإِجْمَاعِ فَكَانَ مَرْدُودًا. وَمِثْلُ الْقَوْلِ بِالْقِصَاصِ فِي الْقَسَامَةِ. إذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ وَلَا يُدْرَى قَاتِلُهُ تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ وَالدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ عِنْدَنَا وَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِحَالٍ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إنْ كَانَ بَيْنَ الْقَتِيلِ وَأَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ أَوْ لَوَثٌ وَهُوَ مَا يَغْلِبُ بِهِ عَلَى ظَنِّ الْقَاضِي وَالسَّامِعِ صِدْقُ الْمُدَّعِي يُؤْمَرُ الْوَلِيُّ بِأَنْ يُعَيِّنَ الْقَاتِلَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَحْلِفَ الْوَلِيُّ خَمْسِينَ يَمِينًا أَنَّهُ قَتَلَهُ عَمْدًا فَإِذَا حَلَفَ يُقْتَصُّ لَهُ مِنْ الْقَاتِلِ. مُتَمَسِّكِينَ فِي ذَلِكَ بِظَاهِرِ «قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ الَّذِي وُجِدَ فِي خَيْبَرَ أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ» الْحَدِيثُ أَيْ دَمَ قَاتِلِ صَاحِبِكُمْ. وَحُجَّةُ مَنْ أَبَى وُجُوبَ الْقِصَاصِ بِالْقَسَامَةِ الْأَحَادِيثُ الْمَشْهُورَةُ

[الجهل في موضع الاجتهاد الصحيح أو في غير موضع الاجتهاد]

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَهُوَ الْجَهْلُ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ الصَّحِيحِ أَوْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ لَكِنْ فِي مَوْضِعِ الشُّبْهَةِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّ مَنْ صَلَّى الظُّهْرَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ بِوُضُوءٍ وَعِنْدَهُ أَنَّ الظُّهْرَ قَدْ أَجْزَأَهُ فَالْعَصْرُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا جَهْلٌ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ وَإِنْ قَضَى الظُّهْرَ ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَعِنْدَهُ أَنَّ الْعَصْرَ أَجْزَأَ عَنْهُ جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ جَهْلٌ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ فِي تَرْتِيبِ الْفَوَائِتِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَضَى بِالْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عَلَى الْيَهُودِ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ» . وَرَوَى زِيَادُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ إنِّي وَجَدْت أَخِي قَتِيلًا فِي بَنِي فُلَانٍ فَقَالَ اخْتَرْ مِنْ شُيُوخِهِمْ خَمْسِينَ رَجُلًا فَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا فَقَالَ وَلَيْسَ لِي مِنْ أَخِي إلَّا هَذَا قَالَ نَعَمْ وَلَك مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» وَفِي الْحَدِيثِ. أَنَّ قَتِيلًا وُجِدَ بَيْنَ وِدَاعَةَ وَأَرْحَبَ وَكَانَ إلَى وِدَاعَةَ أَقْرَبُ فَقَضَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَيْهِمْ بِالْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ فَقَالُوا لَا أَيْمَانُنَا تَدْفَعُ عَنْ أَمْوَالِنَا وَلَا أَمْوَالُنَا تَدْفَعُ عَنْ أَيْمَانِنَا فَقَالَ حَقَنْتُمْ دِمَاءَكُمْ بِأَيْمَانِكُمْ وَأُغَرِّمُكُمْ الدِّيَةَ بِوُجُودِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ فَكَانَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ بِهَا مُخَالِفًا لِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ الظَّاهِرَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» فَكَانَ مَرْدُودًا وَمِثْلُ اسْتِبَاحَةِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا عَمَلًا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «تَسْمِيَةُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ» وَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ بِالنِّسْيَانِ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] . وَمِثْلُ إيجَابِ الْقَضَاءِ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي عَمَلًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَضَى بِذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] إلَى أَنْ قَالَ {وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] وَلِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ الِانْقِطَاعِ فَيَكُونُ مَرْدُودًا. فَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَنَظَائِرِهَا إنْ اعْتَمَدَ الْخَصْمُ عَلَى الْقِيَاسِ فَهُوَ مِنْهُ عَمَلٌ بِالِاجْتِهَادِ عَلَى خِلَافِ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ، وَإِنْ اعْتَمَدَ عَلَى الْخَبَرِ فَهُوَ عَمَلٌ مِنْهُ بِالْغَرِيبِ مِنْ السُّنَّةِ عَلَى خِلَافِهِمَا أَوْ خِلَافِ أَحَدِهِمَا فَيَكُونُ فَاسِدًا. لِأَنَّا أُمِرْنَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ لَيْسَ بِعُذْرٍ أَصْلًا أَيْ أُمِرْنَا بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ وَمِنْ الْمَعْرُوفِ الْعَمَلُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ وَمِنْ الْمُنْكَرِ مُخَالَفَتُهُمَا أَوْ مُخَالَفَةُ أَحَدِهِمَا وَمِنْ النَّصِيحَةِ الْإِرْشَادُ إلَى الصَّوَابِ وَإِظْهَارُ الْحَقِّ بِالْمُنَاظَرَةِ وَإِقَامَةُ الدَّلِيلِ فَيَجِبُ عَلَيْنَا ذَلِكَ وَيَجِبُ عَلَى الْخَصْمِ الطَّلَبُ وَالْقَبُولُ فَلَا يَكُونُ جَهْلُهُ عُذْرًا بِوَجْهٍ. وَعَلَى هَذَا وَهُوَ أَنَّ الْعَمَلَ بِالِاجْتِهَادِ عَلَى خِلَافِ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ بَاطِلٌ يُبْتَنَى مَا يَنْفُذُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي وَمَا لَا يَنْفُذُ فَإِنْ وُجِدَ فِيهِ الْعَمَلُ بِخِلَافِ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ كَمَا فِي هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ لَا يَنْفُذُ؛ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ وَإِنْ عُدِمَ فِيهِ ذَلِكَ كَمَا فِي عَامَّةِ الْمُجْتَهَدَاتِ يَنْفُذُ [الْجَهْلُ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ الصَّحِيحِ أَوْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ] قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ) وَهُوَ الْجَهْلُ الَّذِي يَصْلُحُ شُبْهَةً فَهُوَ الْجَهْلُ فِي مَوْضِعٍ تَحَقَّقَ فِيهِ الِاجْتِهَادُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالصَّحِيحِ. أَوْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ أَيْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ اجْتِهَادٌ وَلَكِنَّهُ مَوْضِعُ الِاشْتِبَاهِ. صَلَّى الظُّهْرَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ يَعْنِي غَيْرَ عَالِمٍ بِعَدَمِ الْوُضُوءِ. ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ عَلَى وُضُوءٍ ذَاكِرًا لِذَلِكَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الظُّهْرَ أَجْزَأَهُ لِكَوْنِهِ غَيْرَ عَالِمٍ بِعَدَمِ الْوُضُوءِ فِيهِ فَالْعَصْرُ فَاسِدَةٌ كَالظُّهْرِ عِنْدَنَا فَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ ظَنَّهُ بِجَوَازِ الظُّهْرِ جَهْلٌ وَاقِعٌ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ ظُهْرَهُ فَاسِدٌ بِلَا خِلَافٍ فَكَانَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي لَا مِنْ هَذَا الْقِسْمِ. وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ إنَّمَا يَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ فَأَمَّا مَنْ لَا يَعْلَمُ بِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ

وَقَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِيمَنْ قُتِلَ وَلَهُ وَلِيَّانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا عَنْ الْقِصَاصِ ثُمَّ قَتَلَهُ الثَّانِي وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الْقِصَاصَ بَاقٍ لَهُ عَلَى الْكَمَالِ وَأَنَّهُ وَجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قِصَاصٌ كَامِلٌ فَإِنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ جَهْلَهُ حَصَلَ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ وَفِي حُكْمٍ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQضَعِيفٌ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْلَمُ بِهِ. وَكَانَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ إذَا كَانَ عِنْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِيهِ فَهُوَ فِي مَعْنَى النَّاسِي لِلْفَائِتَةِ فَيُجْزِيه فَرْضُ الْوَقْتِ. وَلِأَنَّ الْعَصْرَ لَوْ لَمْ يَجُزْ إنَّمَا لَا يَجُوزُ بِاعْتِبَارِ التَّرْتِيبِ وَهُوَ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَكَانَ ظَنُّهُ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ فَيُعْتَبَرُ. لَكِنَّا نَقُولُ إنْ كَانَ الرَّجُلُ مُجْتَهِدًا قَدْ ظَهَرَ عِنْدَهُ أَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ فَهُوَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ نَاسِيًا فَهُوَ مَعْذُورٌ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِأَدَاءِ الْفَائِتَةِ قَبْلَ أَنْ يَتَذَكَّرَ فَأَمَّا إذَا كَانَ ذَاكِرًا وَهُوَ غَيْرُ مُجْتَهِدٍ فَمُجَرَّدُ ظَنِّهِ لَيْسَ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَلَا يُعْتَبَرُ. فَإِنْ قَضَى الظُّهْرَ وَحْدَهَا وَهَذَا الْفَرْعُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ إيرَادِ هَذَا الْمِثَالِ ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الْعَصْرَ أَجْزَأَتْهُ جَازَ الْمَغْرِبُ وَيُعِيدُ الْعَصْرَ فَقَطْ؛ لِأَنَّ ظَنَّهُ بِجَوَازِ الْعَصْرِ جَهْلٌ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ فِي تَرْتِيبِ الْفَوَائِتِ فَإِنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِ التَّرْتِيبِ خِلَافٌ مُعْتَبَرٌ فَكَانَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا. وَحَاصِلُ الْفَرْقِ أَنَّ فَسَادَ الظُّهْرِ بِتَرْكِ الْوُضُوءِ فَسَادٌ قَوِيٌّ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَكَانَتْ مَتْرُوكَةً بِيَقِينٍ فَيَظْهَرُ أَثَرُ الْفَسَادِ فِيمَا يُؤَدِّي بَعْدَهَا وَلَمْ يُعْذَرْ بِالْجَهْلِ فَأَمَّا فَسَادُ الْعَصْرِ بِسَبَبِ تَرْكِ التَّرْتِيبِ فَضَعِيفٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَلَا تَكُونُ مَتْرُوكَةً بِيَقِينٍ فَلَا يَتَعَدَّى حُكْمُهُ إلَى صَلَاةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ وُجُوبَ التَّرْتِيبِ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ فِي مَتْرُوكَةٍ بِيَقِينٍ عِلْمًا وَعَمَلًا وَهُوَ كَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ فِي الْبَيْعِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ بَطَلَ الْعَقْدُ فِيهِمَا بِخِلَافِ مَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ قِنٍّ وَمُدَبَّرٍ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. قَوْلُهُ (وَقَالَ أَصْحَابُنَا) إلَى آخِرِهِ إذَا كَانَ الدَّمُ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا ثُمَّ قَتَلَهُ الْآخَرُ عَمْدًا فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِعَفْوِ الشَّرِيكِ أَوْ عَلِمَ بِذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ بِعَفْوِ أَحَدِهِمَا يَسْقُطُ الْقَوَدُ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً فِي مَالِهِ عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْقَوَدَ سَقَطَ بِعَفْوِ أَحَدِهِمَا عَلِمَ الْآخَرُ بِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ أَوْ لَمْ يَشْتَبِهْ فَبَقِيَ مُجَرَّدُ الظَّنِّ فِي حَقِّ الْآخَرِ وَالظَّنُّ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ بَعْدَمَا تَقَرَّرَ سَبَبٌ كَمَا لَوْ قَتَلَ رَجُلًا عَلَى ظَنٍّ أَنَّهُ قَتَلَ وَلِيَّهُ ثُمَّ جَاءَ وَلِيُّهُ حَيًّا كَانَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ وُجُوبَ الْقِصَاصِ وَمَا عُلِمَ ثُبُوتُهُ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ وَاجِبًا فِي حَقِّهِ ظَاهِرًا وَالظَّاهِرُ يَصِيرُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ. وَكَذَا إذَا عَلِمَ بِالْعَفْوِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْقَوَدَ سَقَطَ بِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ تَصَرُّفَ الْغَيْرِ فِي حَقِّهِ غَيْرُ نَافِذٍ وَسُقُوطُ الْقَوَدِ عِنْدَ عَفْوِ أَحَدِهِمَا بِاعْتِبَارِ مَعْنًى خَفِيٍّ وَهُوَ أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزِّيَ فَإِنَّمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ حُكْمٌ قَدْ يَشْتَبِهُ فَيَصِيرُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الظَّاهِرِ فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ. بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ أَنَّ الْقَوَدَ سَقَطَ بِالْعَفْوِ ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا حَيْثُ يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ قَدْ ظَهَرَ الْمُسْقِطُ عِنْدَهُ وَأَقْدَمَ عَلَى الْقَتْلِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ الْقَوَدُ بِاعْتِبَارِ ظَنِّهِ كَمَا لَوْ رَمَى إلَى شَخْصٍ ظَنَّهُ كَافِرًا فَإِذَا هُوَ مُسْلِمٌ وَإِذَا سَقَطَ الْقَوَدُ عَنْهُ بِالشُّبْهَةِ لَزِمَتْهُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ عَمْدٌ ثُمَّ يُحْسَبُ لَهُ مِنْهَا بِنِصْفِ الدِّيَةِ لَأَنْ يَعْفُوَ الشَّرِيكُ وَجَبَ لَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى الْمَقْتُولِ فَيَصِيرُ نِصْفُ الدِّيَةِ قِصَاصًا بِالنِّصْفِ وَيُؤَدِّي مَا بَقِيَ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. فَعَلَى هَذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْله؛ لِأَنَّ جَهْلَهُ حَصَلَ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ أَنَّ الِاجْتِهَادَ يَقْتَضِي أَنْ يَثْبُتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى الْكَمَالِ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ مَا لَا يَتَجَزَّأُ لِاثْنَيْنِ يُوجِبُ ثُبُوتَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَامِلًا كَوِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ لَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّ بَقَاءَ وِلَايَةِ الِاسْتِيفَاءِ بَعْدَ عَفْوِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِلْآخَرِ أَمْرٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ كَمَا أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَمْرٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ. وَذَكَرَ فِي التَّهْذِيبِ أَنَّ الْقِصَاصَ إذَا ثَبَتَ

وَكَذَلِكَ صَائِمٌ احْتَجَمَ ثُمَّ أَفْطَرَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْحِجَامَةَ فَطَّرَتْهُ وَعَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ لِمَا قُلْنَا وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِاثْنَيْنِ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِقَتْلِهِ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حَتَّى لَوْ عَفَا أَحَدُهُمَا كَانَ لِلْآخَرِ قَتْلُهُ. فَعَلَى هَذَا كَانَ سُقُوطُ الْقِصَاصِ بِعَفْوِ الْبَعْضِ أَمْرًا مُجْتَهَدًا فِيهِ إنْ كَانَ ذَلِكَ الِاجْتِهَادُ صَحِيحًا فَلَا يَحْتَاجُ كَلَامُ الشَّيْخِ إلَى تَأْوِيلٍ. وَفِي حُكْمٍ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ يَعْنِي بَعْدَمَا حَصَلَ جَهْلُهُ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ حَصَلَ فِي حُكْمٍ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ وَهُوَ الْقِصَاصُ فَكَانَ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ الْجَهْلِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَكَالْوَلِيِّ الْقَاتِلُ فِي أَنَّ الْجَهْلَ يَصْلُحُ شُبْهَةً. صَائِمٌ احْتَجَمَ ثُمَّ أَفْطَرَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْحِجَامَةَ فِطْرَتُهُ. وَظَنَّ أَنَّ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ أَيْ تَقْدِيرِ أَنَّ الْحِجَامَةَ فِطْرَتُهُ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ بِالْإِفْطَارِ بَعْدَهَا. أَوْ ظَنَّ أَنَّ عَلَى تَقْدِيرِ الْأَكْلِ بَعْدَ حُصُولِ الْإِفْطَارِ بِالْحِجَامَةِ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ. وَقَوْلُهُ لِمَا قُلْنَا مُتَعَلِّقٌ بِكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ جَوَابَ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ جَوَابَهَا لَيْسَ بِمَذْكُورٍ صَرِيحًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا يَعْنِي وَكَمَا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ بِجَهْلِ الْوَلِيِّ تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ بِجَهْلِ صَائِمٍ إلَى آخِرِهِ لِمَا قُلْنَا إنَّ حُصُولَ الْجَهْلِ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ وَفِي حُكْمٍ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ مُعْتَبَرٌ، وَظَنُّ هَذَا الصَّائِمِ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ، إذْ الْأَوْزَاعِيُّ يَقُولُ بِفَسَادِ الصَّوْمِ بِالْحِجَامَةِ مُعْتَمِدًا عَلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حِين «رَأَى رَجُلَيْنِ حَجَمَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» . وَفِي مَوْضِعٍ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ كَفَّارَةَ الصَّوْمِ تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ لِتَرَجُّحِ جَانِبِ الْعُقُوبَةِ فِيهَا عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ. وَظَنِّي أَنَّ قَوْلَهُ وَعَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ زِيَادَةٌ وَقَعَتْ مِنْ الْكَاتِبِ وَأَنَّ قَوْلَهُ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ وَلِمَا قُلْنَا مُتَعَلِّقٌ بِهِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ مُسْتَقِيمٌ مُتَّضِحٌ بِدُونِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ. ثُمَّ مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ مِنْ سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ بِالظَّنِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ بِمُجْرًى عَلَى ظَاهِرِهِ فَإِنَّ شَيْخَ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ فِي شَرْحِ كِتَابِ الصَّوْمِ أَنَّ الصَّائِمَ لَوْ احْتَجَمَ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُهُ ثُمَّ أَكَلَ مُتَعَمِّدًا وَلَمْ يَسْتَفْتِ عَالِمًا وَلَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ نَسَخَهُ أَوْ بَلَغَهُ وَعَرَفَ تَأْوِيلَهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ ظَنَّهُ حَصَلَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَإِنَّ انْعِدَامَ رُكْنِ الصَّوْمِ بِوُصُولِ الشَّيْءِ إلَى بَاطِنِهِ وَلَمْ يُوجَدْ وَفَسَادُهُ بِالِاسْتِقَاءِ وَالْحَيْضِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيَكُونُ ظَنُّهُ مُجَرَّدَ جَهْلٍ وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ. فَإِنْ اسْتَفْتَى فَقِيهًا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْفِقْهُ وَيُعْتَمَدُ عَلَى فَتْوَاهُ فَأَفْتَاهُ بِالْفَسَادِ فَأَفْطَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ عَلَى الْعَامِّيِّ أَنْ يَعْمَلَ بِفَتْوَى الْمُفْتِي إذَا كَانَ الْمُفْتِي مِمَّنْ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْفِقْهُ وَيُعْتَمَدُ عَلَى فَتَوَاهُ وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُخْطِئًا فِيمَا يُفْتِي؛ لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ لِلْعَامِّيِّ سِوَى هَذَا فَكَانَ مَعْذُورًا فِيمَا صَنَعَ وَلَا عُقُوبَةَ عَلَى الْمَعْذُورِ وَلَوْ لَمْ يَسْتَفْتِ وَلَكِنْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ وَلَمْ يَعْرِفْ نَسْخَهُ وَلَا تَأْوِيلَهُ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ وَإِنْ كَانَ مَنْسُوخًا لَا يَكُونُ أَدْنَى دَرَجَةً مِنْ الْفَتْوَى إذَا لَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ فَيَصِيرُ شُبْهَةً. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْأَخْبَارِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ صَحِيحِهَا وَسَقِيمِهَا وَنَاسِخِهَا وَمَنْسُوخِهَا مُفَوَّضٌ إلَى الْفُقَهَاءِ فَلَيْسَ لِلْعَامِّيِّ أَنْ يَأْخُذَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَصْرُوفًا عَنْ ظَاهِرِهِ أَوْ مَنْسُوخًا إنَّمَا لَهُ الرُّجُوعُ إلَى الْفُقَهَاءِ وَالسُّؤَالُ عَنْهُمْ فَإِذَا لَمْ يَسْأَلْ فَقَدْ قَصَّرَ فَلَا يُعْذَرُ وَهَكَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْضًا فَتَبَيَّنَ أَنَّ الظَّنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِدُونِ اعْتِمَادِهِ عَلَى فَتْوَى أَوْ حَدِيثٍ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ وَأَنَّ قَوْلَ الْأَوْزَاعِيِّ

وَمَنْ زَنَى بِجَارِيَةِ امْرَأَتِهِ أَوْ جَارِيَةِ وَالِدِهِ وَظَنَّ أَنَّهَا تَحِلُّ لَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَدُّ فَيَصِيرُ الْجَهْلُ وَالتَّأْوِيلُ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ شُبْهَةً فِي الْحُدُودِ دُونَ النَّسَبِ وَالْعِدَّةِ بِخِلَافِ مَا إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ أَخِيهِ وَأُخْتِهِ وَكَذَلِكَ حَرْبِيٌّ أَسْلَمَ وَدَخَلَ دَارَنَا فَشَرِبَ الْخَمْرَ وَقَالَ لَمْ أَعْلَمْ بِالْحُرْمَةِ لَمْ يُحَدَّ بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى وَبِخِلَافِ الذِّمِّيِّ إذَا أَسْلَمَ ثُمَّ شَرِبَ الْخَمْرَ وَقَالَ لَمْ أَعْلَمْ بِحُرْمَتِهَا فَإِنَّهُ يُحَدُّ هَذَا بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا. ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا يَصِيرُ شُبْهَةً؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ. قَوْلُهُ (وَمَنْ زَنَى بِجَارِيَةِ امْرَأَتِهِ) بَيَانُ الْقِسْمِ الثَّانِي وَهُوَ الْجَهْلُ فِي مَوْضِعِ الشُّبْهَةِ أَيْ الِاشْتِبَاهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشُّبْهَةَ الدَّارِئَةَ لِلْحَدِّ نَوْعَانِ شُبْهَةٌ فِي الْفِعْلِ وَتُسَمَّى شُبْهَةَ اشْتِبَاهٍ؛ لِأَنَّهَا تَنْشَأُ مِنْ الِاشْتِبَاهِ. وَشُبْهَةٌ فِي الْمَحَلِّ وَتُسَمَّى شُبْهَةَ الدَّلِيلِ وَالشُّبْهَةَ الْحُكْمِيَّةَ فَالْأَوْلَى هِيَ أَنْ يَظُنَّ الْإِنْسَانُ مَا لَيْسَ بِدَلِيلِ الْحِلِّ دَلِيلًا فِيهِ وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الظَّنِّ لِيَتَحَقَّقَ الِاشْتِبَاهُ وَالثَّانِيَةُ أَنْ يُوجَدَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ النَّافِي لِلْحُرْمَةِ فِي ذَاتِهِ مَعَ تَخَلُّفِ حُكْمِهِ عَنْهُ لِمَانِعٍ اتَّصَلَ بِهِ وَهَذَا النَّوْعُ لَا يَتَوَقَّفُ تَحَقُّقُهُ عَلَى ظَنِّ الْجَانِي وَاعْتِقَادِهِ فَمِنْ هَذَا الْقَسَمِ مَا لَوْ وَطِئَ الْأَبُ جَارِيَةَ ابْنِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَإِنْ قَالَ عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» وَهُوَ قَائِمٌ فَلَا يَفْتَرِقُ فِي الْحَالِ بَيْنَ الظَّنِّ وَعَدَمِهِ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ وَمِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مَا إذَا وَطِئَ الِابْنُ جَارِيَةَ أَبِيهِ وَجَارِيَةَ أُمِّهِ أَوْ وَطِئَ الرَّجُلُ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ فَإِنْ قَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهِمَا عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ عَلَيْهِمَا الْحَدُّ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ وَهُوَ الزِّنَا قَدْ تَقَرَّرَ بِدَلِيلِ أَنَّهُمَا لَوْ قَالَا عَلِمْنَا بِالْحُرْمَةِ يَلْزَمُهُمَا الْحَدُّ فَلَوْ سَقَطَ إنَّمَا يَسْقُطُ بِالظَّنِّ وَالظَّنُّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا كَمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَخِيهِ أَوْ أُخْتِهِ وَقَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي وَلَكِنَّا نَقُولُ قَدْ تَمَكَّنَتْ بَيْنَهُمَا شُبْهَةُ اشْتِبَاهٍ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمَرْأَةِ مِنْ وَجْهٍ مَالٌ لِزَوْجٍ. وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] أَيْ بِمَالِ خَدِيجَةَ وَلِأَنَّهَا حَلَالٌ لَهُ فَرُبَّمَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ أَنَّ حَالَ جَارِيَتِهَا كَحَالِهَا وَكَذَا فِي جَارِيَةِ الْأَبِ وَالْأُمِّ قَدْ يَشْتَبِهُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأَمْلَاكَ مُتَّصِلَةٌ بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْمَنَافِي دَائِرَةٌ وَالْوَلَدُ جُزْءُ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَرُبَّمَا يَشْتَبِهُ أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ حَلَالًا لِلْأَصْلِ تَكُونُ حَلَالًا لِلْجُزْءِ أَيْضًا فَيَصِيرُ الْجَهْلُ أَيْ الْجَهْلُ بِالْحُرْمَةِ وَالتَّأْوِيلُ أَيْ تَأْوِيلُ أَنَّ الْجَارِيَةَ تَحِلُّ لِي كَمَا تَحِلُّ نَفْسُ الْمَرْأَةِ وَكَمَا تَحِلُّ جَارِيَتِي لِأَبِي بِالتَّمَلُّكِ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ شُبْهَةَ الِاشْتِبَاهِ مُؤَثِّرَةٌ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ كَقَوْمٍ سُقُوا عَلَى مَائِدَةٍ خَمْرًا فَمَنْ عَلِمَ مِنْهُمْ أَنَّهُ خَمْرٌ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ لَا يُحَدُّ دُونَ النَّسَبِ وَالْعِدَّةِ يَعْنِي يَثْبُتُ النَّسَبُ بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ وَإِنْ ادَّعَاهُ وَلَا تَجِبُ الْعِدَّةُ بِهَا؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ تَمَحَّضَ زِنًا فِي نَفْسِهِ فَيَمْنَعُ ثُبُوتَ النَّسَبِ وَوُجُوبَ الْعِدَّةِ وَإِنْ سَقَطَ الْحَدُّ لِلِاشْتِبَاهِ بِخِلَافِ الشُّبْهَةِ الْحُكْمِيَّةِ حَيْثُ لَا يَثْبُتُ بِهَا النَّسَبُ وَيَجِبُ بِهَا الْعِدَّةُ كَمَا يَسْقُطُ بِهَا الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَتَمَحَّضَ زِنًا نَظَرًا إلَى قِيَامِ الدَّلِيلِ لِهَذَا لَمْ يَفْتَرِقْ الْحَالُ فِيهَا بَيْنَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ وَعَدَمِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ زَنَى بِجَارِيَةِ أَخِيهِ أَوْ أُخْتِهِ وَقَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي حَيْثُ لَمْ يُجْعَلْ الْجَهْلُ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْأَمْلَاكِ بَيْنَهُمَا مُتَبَايِنَةٌ عَادَةً فَلَا يَكُونُ هَذَا مَحَلَّ الِاشْتِبَاهِ فَلَا يَصِيرُ الْجَهْلُ شُبْهَةً. وَكَذَلِكَ أَيْ كَمَا لَا يُحَدُّ الْوَلَدُ بِوَطْءِ جَارِيَةِ أَبِيهِ عِنْدَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ وَيَصِيرُ جَهْلُهُ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْحَدِّ لَا يُحَدُّ الْحَرْبِيُّ الَّذِي أَسْلَمَ وَدَخَلَ دَارَنَا فَشَرِبَ الْخَمْرَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالْحُرْمَةِ يَصِيرُ جَهْلُهُ شُبْهَةً فِي سُقُوطِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى ظَانًّا أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَبِخِلَافِ الذِّمِّيِّ الَّذِي أَسْلَمَ وَشَرِبَ الْخَمْرَ ظَانًّا أَنَّهَا حَلَالٌ حَيْثُ يُحَدَّانِ جَمِيعًا وَهَذَا أَيْ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ شُرْبِ الْخَمْرِ وَبَيْنَ الزِّنَا فِي الْحَرْبِيِّ وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْحَرْبِيِّ وَبَيْنَ الذِّمِّيِّ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ أَنَّ الْجَهْلَ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ

[الجهل في دار الحرب من مسلم لم يهاجر]

وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ فَهُوَ الْجَهْلُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ مُسْلِمٍ لَمْ يُهَاجِرْ أَنَّهُ يَكُونُ عُذْرًا فِي الشَّرَائِعِ حَتَّى إنَّهَا لَا تَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ النَّازِلَ خَفِيَ فَيَصِيرُ الْجَهْلُ بِهِ عُذْرًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَصِّرٍ وَإِنَّمَا جَاءَ مِنْ قِبَلِ خَفَاءِ الدَّلِيلِ فِي نَفْسِهِ وَكَذَلِكَ الْخِطَابُ فِي أَوَّلِ مَا يَنْزِلُ فَإِنْ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ كَانَ مَعْذُورًا مِثْلَ مَا رَوَيْنَا فِي قِصَّةِ أَهْلِ قُبَا وَقِصَّةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] وَقَالَ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] الْآيَةُ فَأَمَّا إذَا انْتَشَرَ الْخِطَابُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ تَمَّ التَّبْلِيغُ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ فَمَنْ جَهِلَ مِنْ بَعْدُ فَإِنَّمَا أُتِيَ مِنْ قِبَلِ تَقْصِيرِهِ لَا مِنْ قِبَلِ خَفَاءِ الدَّلِيلِ فَلَا يُعْذَرُ كَمَنْ لَمْ يَطْلُبْ الْمَاءَ فِي الْعُمْرَانِ وَلَكِنَّهُ تَيَمَّمَ وَالْمَاءُ مَوْجُودٌ فَصَلَّى لَمْ يُجْزِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَصْلُحُ شُبْهَةً دَارِئَةً لِلْحَدِّ وَفِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ فَجَهْلُ الْحَرْبِيِّ بِحُرْمَةِ الْخَمْرِ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ؛ لِأَنَّهَا ثَبَتَتْ بِالْخِطَابِ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ عَنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَدَارُهُمْ دَارُ الْجَهْلِ وَضَيَاعِ الْأَحْكَامِ فَيَصْلُحُ جَهْلُهُ شُبْهَةً دَارِئَةً لِلْحَدِّ. فَأَمَّا جَهْلُهُ بِحُرْمَةِ الزِّنَا فَفِي غَيْرِ مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا فَلَمْ يَتَوَقَّفْ الْعِلْمُ بِحُرْمَتِهِ عَلَى بُلُوغِ خِطَابِ الشَّرْعِ لِتَحَقُّقِ حُرْمَتِهِ قَبْلَهُ فَلَا يَصْلُحُ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْحَدِّ وَكَذَا جَهْلُ الذِّمِّيِّ بِحُرْمَةِ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَتَحْرِيمُ الْخَمْرِ شَائِعٌ فِيهَا فَلَمْ يَصِرْ جَهْلُهُ شُبْهَةً لِعَدَمِ مُصَادَفَتِهِ مَحَلَّهُ بَلْ الِاشْتِبَاهُ وَقَعَ مِنْ تَقْصِيرِهِ فِي الطَّلَبِ فَلَا يُعْذَرُ [الْجَهْلُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ مُسْلِمٍ لَمْ يُهَاجِرْ] قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ) وَهُوَ الَّذِي يَصْلُحُ عُذْرًا فَهُوَ كَذَا وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْقِسْمِ وَبَيْنَ الْقِسْمِ الثَّالِثِ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ بِنَاءٌ عَلَى عَدَمِ الدَّلِيلِ وَالْقِسْمَ الثَّالِثَ بِنَاءٌ عَلَى اشْتِبَاهِ مَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ بِالدَّلِيلِ كَذَا قِيلَ فَالْجَهْلُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ مُسْلِمٍ لَمْ يُهَاجِرْ يَكُونُ عُذْرًا فِي الشَّرَائِعِ حَتَّى لَوْ مَكَثَ مُدَّةً وَلَمْ يُصَلِّ فِيهَا أَوْ لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُمَا وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُمَا؛ لِأَنَّ بِقَبُولِ الْإِسْلَامِ صَارَ مُلْتَزِمًا لِأَحْكَامِهِ وَلَكِنْ قَصُرَ عَنْهُ خِطَابُ الْأَدَاءِ لِجَهْلِهِ بِهِ وَذَلِكَ لَا يُسْقِطُ الْقَضَاءَ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ كَالنَّائِمِ إذَا انْتَبَهَ بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّ الْخِطَابَ النَّازِلَ خَفِيَ فِي حَقِّهِ لِعَدَمِ بُلُوغِهِ إلَيْهِ حَقِيقَةً بِالسَّمَاعِ وَلَا تَقْدِيرًا بِاسْتِفَاضَتِهِ وَشُهْرَتِهِ؛ لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ لَيْسَتْ بِمَحَلِّ اسْتِفَاضَةِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ. فَيَصِيرُ الْجَهْلُ بِالْخِطَابِ عُذْرًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَصِّرٍ فِي طَلَبِ الدَّلِيلِ وَإِنَّمَا جَاءَ الْجَهْلُ مِنْ قِبَلِ خَفَاءِ الدَّلِيلِ فِي نَفْسِهِ حَيْثُ لَمْ يَشْتَهِرْ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِسَبَبِ انْقِطَاعِ وِلَايَةِ التَّبْلِيغِ عَنْهُمْ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَالْخِطَابِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي الْخَفَاءِ الْخِطَابُ فِي أَوَّلِ مَا يَنْزِلُ فَإِنَّهُ خَفِيٌّ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِعَدَمِ اسْتِفَاضَتِهِ بَيْنَهُمْ فَيَصِيرُ الْجَهْلُ بِهِ عُذْرًا مِثْلُ مَا رُوِّينَا بِضَمِّ الرَّاءِ فِي قِصَّةِ أَهْلِ قُبَاءَ فَإِنَّهُمْ صَلُّوا صَلَاةَ الظُّهْرِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ نُزُولِ فَرْضِ التَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ وَافْتَتَحُوا الْعَصْرَ مُتَوَجِّهِينَ إلَيْهِ أَيْضًا فَأُخْبِرُوا بِتَحَوُّلِ الْقِبْلَةِ إلَى الْكَعْبَةِ وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ فَتَوَجَّهُوا إلَيْهَا وَأَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ وَجَوَّزَ ذَلِكَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ لَمْ يَبْلُغْهُمْ وَعَلَيْهِ حَمَلَ الشَّيْخُ قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] أَيْ صَلَاتَكُمْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْمَذْكُورُ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا تَوَجَّهَ إلَى الْكَعْبَةِ قَالُوا كَيْفَ مَنْ مَاتَ قَبْلَ التَّحْوِيلِ مِنْ إخْوَانِنَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَقِصَّةُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَإِنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَانُوا فِي سَفَرٍ فَشَرِبُوا بَعْدَ التَّحْرِيمِ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِحُرْمَتِهَا فَنَزَلَ قَوْلُهُ {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 93] الْآيَةُ وَعَنْ ابْنِ كَيْسَانَ «لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَقَدْ شَرِبُوا الْخَمْرَ وَأَكَلُوا الْمَيْسِرَ وَكَيْفَ بِالْغَاصِبِينَ عَنَّا فِي الْبُلْدَانِ لَا يَشْعُرُونَ بِتَحْرِيمِهَا وَهُمْ يَطْعَمُونَهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة: 93] » أَيْ مِنْ الْأَمْوَاتِ وَالْأَحْيَاءِ فِي الْبُلْدَانِ إثْمٌ فِيمَا طَعِمُوا مِنْ الْخَمْرِ وَالْقِمَارِ إذَا مَا اتَّقَوْا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ سِوَاهُمَا. وَقِيلَ اتَّقَوْا الشِّرْكَ وَآمَنُوا بِاَللَّهِ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي إيمَانِهِمْ ثُمَّ اتَّقَوْا يَعْنِي الْأَحْيَاءُ فِي الْبُلْدَانِ الْخَمْرَ وَالْقِمَارَ

وَكَذَلِكَ جَهْلُ الْوَكِيلِ بِالْوَكَالَةِ وَجَهْلُ الْمَأْذُونِ بِالْإِذْنِ يَكُونُ عُذْرًا؛ لِأَنَّهُ فِيهِ ضَرْبُ إيجَابٍ وَإِلْزَامٍ فَلَا بُدَّ مِنْ عَمَلِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يُبَلِّغُهُ الْعَدَالَةُ وَإِنْ كَانَ فُضُولِيًّا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِلْزَامٍ مَحْضٍ بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ وَجَهْلُ الْوَكِيلِ بِالْعَزْلِ وَجَهْلُ الْمَأْذُونِ بِالْحَجْرِ ـــــــــــــــــــــــــــــQإذَا جَاءَهُمْ تَحْرِيمُهَا وَآمَنُوا صَدَّقُوا بِتَحْرِيمِهَا ثُمَّ اتَّقَوْا مَا تَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ هَذَا بِنَصٍّ يَرِدُ فِي التَّحْرِيمِ لِبَعْضِ مَا أُحِلَّ لَهُمْ وَأَحْسَنُوا فِيمَا تَعَبَّدَهُمْ اللَّهُ وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فَهَذَا مَعْنَى ذِكْرِ التَّقْوَى ثَلَاثًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَذَا فِي التَّيْسِيرِ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حُكْمَ الْخِطَابِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُخَاطَبِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهِ إذْ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ الِائْتِمَارُ قَبْلَ الْعِلْمِ فَلِذَلِكَ يُعْذَرُ، فَأَمَّا إذَا انْتَشَرَ الْخِطَابُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ تَمَّ التَّبْلِيغُ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ إذْ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ التَّبْلِيغُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ إنَّمَا الَّذِي فِي وُسْعِهِ الْإِشَاعَةُ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ نَفْسَهُ مُبَلِّغًا إلَى الْكَافَّةِ يَبْعَثُ الْكُتُبَ وَالرُّسُلَ إلَى مُلُوكِ الْأَطْرَافِ حَتَّى كَانَ يَقُولُ أَلَا هَلْ بَلَغْت اللَّهُمَّ فَاشْهَدْ فَعُلِمَ أَنَّ التَّبْلِيغَ يَتِمُّ بِاشْتِهَارِ الْخِطَابِ وَاسْتِفَاضَتِهِ فَمَنْ جَهِلَ مِنْ بَعْدِ شُهْرَتِهِ فَإِنَّمَا أُتِيَ مِنْ قِبَلِ تَقْصِيرِهِ أَيْ اُبْتُلِيَ بِالْجَهْلِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يُقَالُ مِنْ هَاهُنَا أُتِيت أَيْ مِنْ هَاهُنَا دَخَلَ عَلَيْك الْبَلَاءُ وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْرَابِيِّ وَهَلْ أُتِيت إلَّا مِنْ الصَّوْمِ أَيْ وَهَلْ أَتَانِي الْمَحْذُورُ إلَّا مِنْ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ صَارَ مُتَيَسِّرَ الْإِصَابَةِ بِالِاشْتِهَارِ لَا مِنْ قِبَلِ خَفَاءِ الدَّلِيلِ. فَلِذَلِكَ قُلْنَا إذَا أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَمَكَثَ مُدَّةً وَلَمْ يُصَلِّ وَلَمْ يَعْلَمْ بِوُجُوبِهَا كَانَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا؛ لِأَنَّهُ فِي دَارِ شُيُوعِ الْأَحْكَامِ وَيَرَى شُهُودَ النَّاسِ الْجَمَاعَاتِ وَيُمْكِنُهُ السُّؤَالُ عَنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فَتَرْكُ السُّؤَالِ وَالطَّلَبِ تَقْصِيرٌ مِنْهُ فَلَا يُعْذَرُ كَمَنْ لَمْ يَطْلُبْ الْمَاءَ فِي الْعُمُرِ ظَانًّا أَنَّ الْمَاءَ مَعْدُومٌ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى وَالْمَاءُ مَوْجُودٌ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ مُقَصِّرٌ فِي تَرْكِ الطَّلَبِ فِي مَوْضِعِ الْمَاءِ غَالِبًا بِخِلَافِ مَا إذَا تَرَكَ الطَّلَبَ فِي الْمَفَازَةِ عَلَى ظَنِّ عَدَمِ الْمَاءِ وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى حَيْثُ جَازَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُقَصِّرٍ بِتَرْكِ الطَّلَبِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى طَمَعٍ مِنْ الْمَاءِ لَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَبُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ وَالْمَاءُ مَوْجُودٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي الْوَاقِعِ جَازَتْ صَلَاتُهُ كَذَا فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَكَجَهْلِ مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ جَهْلُ الْوَكِيلِ بِالْوَكَالَةِ وَجَهْلُ الْمَأْذُونِ بِالْإِذْنِ يَكُونُ عُذْرًا حَتَّى لَوْ تَصَرَّفَا قَبْلَ بُلُوغِ الْخَبَرِ إلَيْهِمَا لَمْ يَنْفُذْ تَصَرُّفُهُمَا عَلَى الْمُوَكِّلِ وَالْمَوْلَى. وَلَوْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ شَيْءٍ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْوَكَالَةِ حَتَّى فَسَدَ ذَلِكَ الشَّيْءُ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا وَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَاشْتَرَاهُ الْوَكِيلُ لِنَفْسِهِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْوَكَالَةِ يَصِحُّ وَبَعْدَ الْعِلْمِ لَا يَصِحُّ وَلَوْ بَاعَ مَتَاعًا لِلْمُوَكِّلِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْوَكَالَةِ لَا يَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّلِ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ كَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ لِأَنَّ فِيهِ أَيْ فِي التَّوْكِيلِ وَالْإِذْنِ ضَرْبَ إيجَابٍ وَإِلْزَامٍ حَيْثُ يَلْزَمُهُمَا حُقُوقُ الْعَقْدِ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ وَنَحْوِهِمَا وَيَمْتَنِعُ عَلَى الْوَكِيلِ شِرَاءُ شَيْءٍ وُكِّلَ بِشِرَائِهِ بِعَيْنِهِ وَبَيْعُ شَيْءٍ وُكِّلَ بَيْعُهُ مِمَّنْ لَا يُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ وَيُطَالِبُ الْعَبْدُ بِعُهْدَةِ تَصَرُّفَاتِهِ بَعْدَ الْإِذْنِ فِي الْحَالِ وَلَمْ يَكُنْ مُطَالِبًا بِهَا قَبْلَ الْإِذْنِ فَكَمَا لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْعَزْلِ وَالْحَجْرِ فِي حَقِّهِمَا قَبْلَ الْعِلْمِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمَا لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْوَكَالَةِ وَالْإِذْنِ لِذَلِكَ أَيْضًا أَلَا تَرَى أَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ لَا يَلْزَمُ فِي حَقِّهِ مَعَ كَمَالِ وِلَايَتِهِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ فَلَأَنْ لَا يَثْبُتَ حُكْمٌ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ الَّذِي هُوَ قَاصِرُ الْوِلَايَةِ كَانَ أَوْلَى. إلَّا أَنَّهُ أَيْ لَكِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يُبَلِّغُ الْوَكِيلَ أَوْ الْعَبْدَ أَوْ يُبَلِّغُ الْإِذْنَ أَوْ الْوَكَالَةَ إلَيْهِمَا الْعَدَالَةُ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كَانَ الْمُبَلِّغُ فُضُولِيًّا؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ أَوْ الْإِذْنَ لَيْسَ بِإِلْزَامٍ مَحْضٍ وَإِنْ كَانَ فِيهِ

وَجَهْلُ مَوْلَى الْعَبْدِ الْجَانِي فِيمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ وَجَهْلُ الشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ يَكُونُ عُذْرًا؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ خَفِيٌّ وَفِيهِ إلْزَامٌ فَشَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الَّذِي يُبَلِّغُهُ مِنْ غَيْرِ رِسَالَةٍ الْعَدَالَةَ أَوْ الْعَدَدَ وَكَذَلِكَ جَهْلُ الْمَرْأَةِ الْبِكْرِ بِإِنْكَاحِ الْوَلِيِّ مِثْلُهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي تَبْلِيغِ الشَّرَائِعِ إلَى الْحَرْبِيِّ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُبَلِّغُ رَسُولَ الْإِمَامِ، وَكَذَلِكَ جَهْلُ الْأَمَةِ الْمَنْكُوحَةِ إذَا أُعْتِقَتْ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ بِالْخِيَارِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْإِعْتَاقِ يُجْعَلُ عُذْرًا؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ خَفِيٌّ فِي حَقِّهَا ـــــــــــــــــــــــــــــQإلْزَامٌ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا بَلْ هُوَ أَيْ الْوَكِيلُ أَوْ الْعَبْدُ يُخَيَّرُ بَعْدَ بُلُوغِ الْخَبَرِ إلَيْهِ فِي قَبُولِ الْوَكَالَةِ وَالْإِذْنِ، وَتَحَقُّقُ مَعْنَى الْإِلْزَامِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا لَا يُخِلُّ بِهَذَا الِاخْتِيَارِ بِوَجْهٍ فَلِذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ شَرَائِطِ الْإِلْزَامِ أَيْ الشَّهَادَةِ وَجَهْلُ الْوَكِيلِ بِالْعَزْلِ وَجَهْلُ الْمَأْذُونِ بِالْحَجْرِ عُذْرٌ لِخَفَاءِ الدَّلِيلِ وَلُزُومِ الضَّرَرِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصِحَّةِ الْعَزْلِ وَالْحَجْرِ إذْ الْوَكِيلُ يَتَصَرَّفُ عَلَى أَنْ يَلْزَمَ تَصَرُّفُهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَالْعَبْدُ يَتَصَرَّفُ عَلَى أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ مِنْ كَسْبِهِ وَرَقَبَتِهِ وَبِالْعَزْلِ وَالْحَجْرِ يَلْزَمُ التَّصَرُّفُ عَلَى الْوَكِيلِ وَيَتَأَخَّرُ دَيْنُ الْعَبْدِ إلَى الْعِتْقِ وَيُؤَدِّي بَعْدَ الْعِتْقِ مِنْ خَالِصِ مِلْكِهِ وَفِيهِ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَا يَخْفَى. قَوْلُهُ (وَجَهْلُ مَوْلَى الْعَبْدِ الْجَانِي فِيمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ) أَيْ فِي الْعَبْدِ إذَا جَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةً يُخَيَّرُ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فَإِذَا تَصَرَّفَ الْمَوْلَى فِي هَذَا الْجَانِي بِالْبَيْعِ أَوْ بِالْإِعْتَاقِ وَنَحْوِهِمَا بَعْدَ الْعِلْمِ بِجِنَايَتِهِ يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَهُوَ الْأَرْشُ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْجِنَايَةِ حَتَّى تَصَرَّفَ فِيهِ بِبَيْعٍ وَنَحْوِهِ لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ الْقِيمَةِ وَمِنْ الْأَرْشِ وَيَصِيرُ جَهْلُهُ بِالْجِنَايَةِ عُذْرًا وَجَهْلُ الشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ أَيْ بِسَبَبِ ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ وَهُوَ الْبَيْعُ يَكُونُ عُذْرًا حَتَّى إذَا عَلِمَ بِالْبَيْعِ بَعْدَ زَمَانٍ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الشُّفْعَةِ لِأَنَّ الدَّلِيلَ أَيْ دَلِيلَ الْعِلْمِ فِي الصُّوَرِ الْأَرْبَعِ خَفِيٌّ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا تَكُونُ مَشْهُورَةً وَيَسْتَبِدُّ الْمُوَكِّلُ بِالْعَزْلِ وَالْمَوْلَى بِالْحَجْرِ وَالْعَبْدُ بِالْجِنَايَةِ وَصَاحِبُ الدَّارِ بِالْبَيْعِ فَأَنَّى يَحْصُلُ الْعِلْمُ لِلْوَكِيلِ وَالْعَبْدِ وَالْمَوْلَى وَالشَّفِيعِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَفِيهِ أَيْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ إلْزَامُ ضَرَرٍ حَيْثُ يَلْزَمُ التَّصَرُّفُ بِالْعَزْلِ عَلَى الْوَكِيلِ وَتَصِيرُ الْعَيْنُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ وَتَبْطُلُ وِلَايَةُ الْمَأْذُونِ فِي التَّصَرُّفَاتِ بِالْحَجْرِ وَيَلْزَمُ عَلَى الْمَوْلَى الدَّفْعُ أَوْ الْفِدَاءُ بِجِنَايَةِ الْعَبْدِ وَيَلْزَمُ عَلَى الشَّفِيعِ ضَرَرُ الْجَارِ بِالْبَيْعِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهَا عَلَى الْعِلْمِ كَأَحْكَامِ الشَّرْعِ فَشَرْطُ أَبُو حَنِيفَةَ يَعْنِي وَلَمَّا كَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَعْنَى الْإِلْزَامِ شَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الَّذِي يَبْلُغُهُ مِنْ غَيْرِ رِسَالَةِ الْعَدَدِ أَوْ الْعَدَالَةِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ كِلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ دُونَ الْإِلْزَامَاتِ الْمَحْضَةِ فِي الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا فَلِذَلِكَ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ إلَّا أَحَدُ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ وَقَدْ مَرَّ تَحْقِيقُهُ فِي بَابِ بَيَانِ مَحَلِّ الْخَبَرِ وَكَذَلِكَ أَيْ وَمِثْلُ قَوْلِهِ فِي اشْتِرَاطِ أَحَدِ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ فِي تَبْلِيغِ هَذِهِ الْأُمُورِ قَوْلُهُ فِي تَبْلِيغِ الشَّرَائِعِ إلَى الْحَرْبِيِّ الَّذِي أَسْلَمَ وَلَمْ يُهَاجِرْ يَعْنِي تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ أَوْ الْعَدَدُ عِنْدَهُ وَلَا تُشْتَرَطُ عِنْدَهُمَا. وَمِنْهُمْ مِنْ يَقُولُ تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَخْبَارِ الدِّينِ وَالْعَدَالَةُ فِيهَا شَرْطٌ بِالِاتِّفَاقِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَا تُشْتَرَطُ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مَأْمُورٌ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ بِالتَّبْلِيغِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا مَقَالَةً فَوَعَاهَا كَمَا سَمِعَهَا ثُمَّ أَدَّاهَا إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا» فَهَذَا الْمُبَلِّغُ نَظِيرُ الرَّسُولِ مِنْ الْمَوْلَى وَالْمُوَكِّلِ وَفِي خَبَرِ الرَّسُولِ لَا تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ فِي الْمُخْبِرِ فَكَذَا هَذَا وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا وَكَذَلِكَ أَيْ وَمِثْلُ جَهْلِ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُ مِنْ جَهْلِ الْمَرْأَةِ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ بِإِنْكَاحِ الْوَلِيِّ يَكُونُ عُذْرًا حَتَّى لَا يَكُونَ سُكُوتُهَا قَبْلَ الْعِلْمِ رِضًا بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْعِلْمِ خَفِيٌّ فِي حَقِّهَا لِاسْتِبْدَادِ الْوَلِيِّ بِالْإِنْكَاحِ وَفِيهِ إلْزَامُ حُكْمِ النِّكَاحِ عَلَيْهَا فَيُشْتَرَطُ الْعَدَدُ أَوْ الْعَدَالَةُ فِي الْمُبَلِّغِ عِنْدَهُ وَلَا يُشْتَرَطُ

وَلِأَنَّهَا دَافِعَةٌ بِخِلَافِ الصَّغِيرَةِ الْبِكْرِ إذَا بَلَغَتْ وَقَدْ أَنْكَحَهَا أَخُوهَا فَلَمْ يَعْلَمْ بِالْخِيَارِ لَمْ تُعْذَرْ وَجُعِلَ سُكُوتُهَا رِضًا؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْعِلْمِ فِي حَقِّهَا مَشْهُورٌ غَيْرُ مَسْتُورٍ وَلِأَنَّهَا تُرِيدُ بِذَلِكَ إلْزَامَ الْفَسْخِ ابْتِدَاءً لَا الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهَا وَالْمُعْتَقَةُ تَدْفَعُ الزِّيَادَةَ عَنْ نَفْسِهَا وَلِهَذَا افْتَرَقَ الْخِيَارَانِ فِي شَرْطِ الْقَضَاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــQعِنْدَهُمَا وَكَانَ قَوْلُهُ مِثْلَهُ وَقَعَ زَائِدًا لَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَكَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَا يَدُلُّ هُوَ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَكَجَهْلِ هَؤُلَاءِ جَهْلُ الْأُمَّةِ إذَا أُعْتِقَتْ الْأَمَةُ الْمَنْكُوحَةُ ثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ إنْ شَاءَتْ أَقَامَتْ مَعَ الزَّوْجِ وَإِنْ شَاءَتْ فَارَقَتْهُ «لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبُرَيْدَةَ حِينَ عَتَقَتْ مَلَكْت بُضْعَك فَاخْتَارِي» وَهُوَ يَمْتَدُّ إلَى آخَرِ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِتَخْيِيرِ الشَّرْعِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ بِتَخْيِيرِ الزَّوْجِ وَيُسَمَّى هَذَا خِيَارَ الْعَتَاقَةِ. فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ عَلِمَتْ بِهِ وَلَكِنْ لَمْ تَعْلَمْ بِثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهَا شَرْعًا كَانَ الْجَهْلُ مِنْهَا عُذْرًا حَتَّى كَانَ لَهَا مَجْلِسُ الْعِلْمِ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ الدَّلِيلَ أَيْ دَلِيلَ الْعِلْمِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَفِيٌّ فِي حَقِّهَا أَمَّا فِي الْإِعْتَاقِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مُسْتَبِدٌّ بِهِ فَلَا يُمْكِنُهَا الْوُقُوفُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِخْبَارِ وَأَمَّا فِي الْخِيَارِ فَلَمَّا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْخِيَارِ وَهُوَ زِيَادَةُ الْمِلْكِ عَلَيْهَا خَفِيٌّ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا الْخَوَاصُّ مِنْ النَّاسِ وَلِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى فَلَا تَتَفَرَّغُ لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ فَلَا يَقُومُ اشْتِهَارُ الدَّلِيلِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَقَامَ الْعِلْمِ وَلِأَنَّهَا دَافِعَةٌ عَنْ نَفْسِهَا لُزُومَ زِيَادَةِ الْمِلْكِ عَلَيْهَا وَالْجَهْلُ يَصْلُحُ عُذْرًا لِلدَّفْعِ بِخِلَافِ الصَّغِيرَةِ إذَا زَوَّجَ الصَّغِيرَ أَوْ الصَّغِيرَةَ غَيْرُ الْأَبِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ يَصِحُّ النِّكَاحُ وَيَثْبُتُ لَهُمَا الْخِيَارُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ صَدَرَ مِمَّنْ هُوَ قَاصِرُ الشَّفَقَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَبِ وَقَدْ ظَهَرَ تَأْثِيرُ الْقُصُورِ فِي امْتِنَاعِ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ فِي الْمَالِ فَيَثْبُتُ لَهُمَا الْخِيَارُ إذَا مَلَكَا أَمْرَ نَفْسِهِمَا بِالْبُلُوغِ كَالْأَمَةِ إذَا أُعْتِقَتْ وَيُسَمَّى هَذَا خِيَارَ الْبُلُوغِ وَهُوَ يَبْطُلُ بِالسُّكُوتِ فِي جَانِبِهَا إذَا كَانَتْ بِكْرًا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لَهَا لِعَدَمِ تَمَامِ الرِّضَاءِ مِنْهَا وَرِضَاءُ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ يَتِمُّ بِسُكُوتِهَا شَرْعًا كَمَا لَوْ زُوِّجَتْ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَسَكَتَتْ وَلِذَا لَوْ بَلَغَتْ ثَيِّبًا لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا بِالسُّكُوتِ كَمَا لَا يَبْطُلُ خِيَارُ الْغُلَامِ بِهِ. فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ بِالنِّكَاحِ وَقْتَ الْبُلُوغِ كَانَ الْجَهْلُ مِنْهَا عُذْرًا لِخَفَاءِ الدَّلِيلِ إذْ الْوَلِيُّ مُسْتَبِدٌّ بِالْإِنْكَاحِ وَإِنْ عَلِمَتْ بِالنِّكَاحِ وَلَمْ تَعْلَمْ بِالْخِيَارِ لَمْ تُعْذَرْ وَجُعِلَ سُكُوتُهَا رِضَاءً؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْعِلْمِ بِالْخِيَارِ فِي حَقِّهَا مَشْهُورٌ غَيْرُ مَسْتُورٍ لِاشْتِهَارِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَعَدَمِ الْمَانِعِ مِنْ التَّعَلُّمِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خِيَارُ الْبُلُوغِ أَمْرٌ ظَاهِرٌ يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ وَلِظُهُورِهِ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ يَثْبُتُ فِي إنْكَاحِ الْأَبِ أَيْضًا وَهِيَ لَمْ تَكُنْ مَشْغُولَةً قَبْلَ الْبُلُوغِ بِشَيْءٍ يَمْنَعُهَا عَنْ التَّعَلُّمِ فَكَانَ سَبِيلُهَا أَنْ تَتَعَلَّمَ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَلَا يَتَعَذَّرُ بِالْجَهْلِ وَلِأَنَّهَا أَيْ الصَّغِيرَةُ تُرِيدُ بِذَلِكَ أَيْ بِالْجَهْلِ بِالْخِيَارِ إلْزَامَ فَسْخِ إنْكَاحٍ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْبُلُوغِ شُرِعَ لِإِلْزَامِ النَّقْضِ لَا لِلدَّفْعِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ لَا يَدْفَعُ ضَرَرًا ظَاهِرًا فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ مُصَوَّرَةٌ فِيمَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ كُفُؤًا وَالْمَهْرُ وَافِرًا وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ مَجَانَةً وَفِسْقًا فَثَبَتَ أَنَّهُ شُرِعَ لِلْإِلْزَامِ فِي حَقِّ الْخَصْمِ الْآخَرِ وَالْجَهْلُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلْإِلْزَامِ وَالْمُعْتَقَةُ تَدْفَعُ الزِّيَادَةَ عَنْ نَفْسِهَا وَالْجَهْلُ يَصْلُحُ حُجَّةً لِلدَّفْعِ وَلِهَذَا أَيْ وَلِأَنَّ خِيَارَ الْبُلُوغِ لِلْإِلْزَامِ وَخِيَارَ الْمُعْتَقَةِ لِلدَّفْعِ افْتَرَقَ الْخِيَارَانِ فِي شَرْطِ الْقَضَاءِ فَشَرْطُ الْقَضَاءِ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ فِي خِيَارِ الْبُلُوغِ حَتَّى لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الِاخْتِيَارِ قَبْلَ الْقَضَاءِ يَرِثُهُ الْآخَرُ وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِي خِيَارِ الْعِتْقِ بَلْ تَثْبُتُ الْفُرْقَةُ

وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي صَاحِبِ خِيَارِ الشَّرْطِ فِي الْبَيْعِ إذَا فُسِخَ الْعَقْدُ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ: إنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ وُضِعَ لِاسْتِثْنَاءِ حُكْمِ الْعَقْدِ لِعَدَمِ الِاخْتِيَارِ فَيَصِيرُ الْعَقْدُ بِهِ غَيْرَ لَازِمٍ ثُمَّ يُفْسَخُ لِفَوْتِ اللُّزُومِ لَا أَنَّ الْخِيَارَ لِلْفَسْخِ لَا مَحَالَةَ فَصَيَّرَ هَذَا بِالْفَسْخِ مُتَصَرِّفًا عَلَى الْآخَرِ بِمَا فِيهِ إلْزَامٌ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِعِلْمِهِ فَإِنْ بَلَّغَهُ رَسُولُ صَاحِبِ الْخِيَارِ صَحَّ فِي الثُّلُثِ بِلَا شَرْطِ عَدَالَةٍ وَبَعْدَ الثَّلَاثِ لَا يَصِحُّ وَإِنْ بَلَّغَهُ فُضُولِيٌّ شُرِطَ فِيهِ الْعَدَدُ أَوْ الْعَدَالَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَإِنْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا صَحَّ التَّبْلِيغُ فِي الثَّلَاثِ وَنَفَذَ الْفَسْخُ وَبَعْدَ الثَّلَاثِ لَا يَصِحُّ وَبَطَلَ الْفَسْخُ وَأَبُو يُوسُفَ جَعَلَ صَاحِبَ الْخِيَارِ مُسَلَّطًا عَلَى الْفَسْخِ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِهِ فَأُضِيفَ مَا يَلْزَمُهُ صَاحِبُهُ إلَى الْتِزَامِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQبِنَفْسِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ زِيَادَةُ مِلْكِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ قَبْلَ الْعِتْقِ كَانَ يَمْلِكُ مُرَاجَعَتَهَا فِي قُرْأَيْنِ وَلَمْ يَمْلِكْ عَلَيْهَا تَطْلِيقَتَيْنِ وَقَدْ ازْدَادَ ذَلِكَ بِالْعِتْقِ فَكَانَ لَهَا أَنْ تَدْفَعَ الزِّيَادَةَ وَلَا تَتَوَصَّلَ إلَى دَفْعِ الزِّيَادَةِ إلَّا بِدَفْعِ أَصْلِ الْمِلْكِ فَكَمَا أَنَّ إثْبَاتَ دَفْعِ الْمِلْكِ عِنْدَ عَدَمِ رِضَاهَا يَتِمُّ بِهَا وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَضَاءِ فَكَذَلِكَ دَفْعُ زِيَادَةِ الْمِلْكِ فَأَمَّا فِي خِيَارِ الْبُلُوغِ فَلَا يَزْدَادُ الْمِلْكُ وَإِنَّمَا كَانَ ثُبُوتُ الْخِيَارِ لِتَوَهُّمِ تَرْكِ النَّظَرِ مِنْ الْوَلِيِّ وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ بِهِ فَلَا تَتِمُّ الْفُرْقَةُ إلَّا بِالْقَضَاءِ. فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ الدَّفْعَ فِي خِيَارِ الْعَتَاقَةِ ظَاهِرٌ مَقْصُودٌ وَالْإِلْزَامُ ضِمْنِيٌّ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَضَاءِ فِي خِيَارِ الْبُلُوغِ الْإِلْزَامُ قَصْدِيٌّ وَالدَّفْعُ مُتَوَهَّمٌ ضِمْنِيٌّ فَيَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ) وَهُوَ أَنَّ مَا فِيهِ إلْزَامٌ عَلَى الْغَيْرِ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ عِلْمِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي صَاحِبِ خِيَارِ الشَّرْطِ فِي الْبَيْعِ مُشْتَرِيًا كَانَ أَوْ بَائِعًا إذَا فَسَخَ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ أَيْ بِغَيْرِ عِلْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ الْفَسْخَ لَا يَصِحُّ وَلَهُ أَنْ يَرْضَى بَعْدَ ذَلِكَ مَا لَمْ يَعْلَمْ الْآخَرُ بِفَسْخِهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فَإِنْ عَلِمَ ذَلِكَ فِي الْمُدَّةِ تَمَّ الْفَسْخُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْضَى بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ بَطَلَ ذَلِكَ الْفَسْخُ وَتَمَّ الْبَيْعُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَسْخُهُ جَائِزٌ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْآخَرِ وَبِغَيْرِ عِلْمِهِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ خَالِصُ حَقِّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ رِضَاءُ صَاحِبِهِ فِي تَصَرُّفِهِ بِحُكْمِ الْخِيَارِ وَمُوجِبُ الْخِيَارُ الْفَسْخُ أَوْ الْإِجَازَةُ ثُمَّ الْإِجَازَةُ تَتِمُّ بِغَيْرِ مَحْضَرِ الْآخَرِ كَمَا تَتِمُّ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَكَذَا الْفَسْخُ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ يُشْتَرَطُ لِلْفَسْخِ لَا لِلنَّفَاذِ إذْ النَّفَاذُ ثَابِتٌ بِدُونِ الْخِيَارِ وَهَذَا لِأَنَّهُ بِمُسَاعَدَةِ صَاحِبِهِ عَلَى الشَّرْطِ صَارَ مُسَلَّطًا عَلَى الْفَسْخِ مِنْ جِهَتِهِ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ رِضَاهُ فِي تَصَرُّفِهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ تَصَرُّفُهُ عَلَى عِلْمِهِ كَالْوَكِيلِ إذَا تَصَرَّفَ بِغَيْرِ حَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ وَكَالْمُخَيَّرَةِ إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ حَضْرَةِ الزَّوْجِ بِأَنْ بَلَغَهَا الْخَبَرُ وَهِيَ غَائِبَةٌ. وَهَذَا بِخِلَافِ عَزْلِ الْوَكِيلِ حَيْثُ يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِهِ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ مَا تَسَلَّطَ عَلَى عَزْلِهِ بِمَعْنًى مِنْ قِبَلِ الْوَكِيلِ وَبِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ هُنَاكَ غَيْرُ مُسَلَّطٍ عَلَى الْفَسْخِ وَإِنَّمَا لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ فَإِذَا تَحَقَّقَ عَجْزُ الْبَائِعِ عَنْهُ تَمَكَّنَ مِنْ الْفَسْخِ فَلَا يَتَحَقَّقُ عَجْزُهُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْهُ وَلَهُمَا أَنَّهُ بِالْفَسْخِ يَلْزَمُ غَيْرُهُ حُكْمًا جَدِيدًا لَمْ يَكُنْ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ تَصَرُّفِهِ فِي حَقِّ ذَلِكَ الْغَيْرِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ كَالْمُوَكِّلِ إذَا عَزَلَ الْوَكِيلَ حَالَ غَيْبَتِهِ يَثْبُتُ حُكْمُ الْعَزْلِ فِي حَقِّهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْخِيَارَ وُضِعَ فِي الشَّرْعِ لِاسْتِثْنَاءِ حُكْمِ الْعَقْدِ لِعَدَمِ الِاخْتِيَارِ أَيْ يَمْنَعُ حُكْمَ الْعَقْدِ وَهُوَ الْمِلْكُ عَنْ الثُّبُوتِ لِعَدَمِ رِضَاءِ صَاحِبِ الْخِيَارِ بِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ أَوْ الْخِيَارَ دَاخِلٌ فِي الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ فَيُؤَثِّرُ فِيهِ بِالْمَنْعِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ يَمْنَعُ دُخُولَ الْمُسْتَثْنَى فِي صَدْرِ الْكَلَامِ فَيَصِيرُ الْعَقْدُ بِهِ أَيْ بِاسْتِثْنَاءِ الْحُكْمِ وَامْتِنَاعِهِ عَنْ الثُّبُوتِ أَوْ بِعَدَمِ الِاخْتِيَارِ غَيْرَ لَازِمٍ؛ لِأَنَّ لِفَوَاتِ الِاخْتِيَارِ وَالرِّضَاءِ أَثَرٌ فِي سَلْبِ اللُّزُومِ عَنْ الْعَقْدِ كَمَا فِي بَيْعِ الْمُكْرَهِ وَالْهَازِلِ ثُمَّ يَفْسَخُ سَائِرَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ مِنْ الْوَكَالَاتِ وَالشَّرِكَاتِ وَالْمُضَارَبَاتِ لَا أَنَّ الْخِيَارَ لِلْفَسْخِ لَا مَحَالَةَ يَعْنِي لَا أَنْ يَكُونَ شُرِعَ الْخِيَارُ لِأَجْلِ الْفَسْخِ قَصْدًا بِغَيْرِ عِلْمِ صَاحِبِهِ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذْ لَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْفَسْخِ لَا مَحَالَةَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّهَا ضِدُّ الْفَسْخِ وَكَيْفَ يَكُونُ لِلْفَسْخِ وَفِيهِ سَعْيٌ فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ

(فَصْلٌ فِي السُّكْرِ) (وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي) (السُّكْرُ) نَوْعَانِ سُكْرٌ بِطَرِيقٍ مُبَاحٍ وَسُكْرٌ بِطَرِيقٍ مَحْظُورٍ أَمَّا السُّكْرُ بِالْمُبَاحِ مِثْلُ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ بِالْقَتْلِ فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ، وَكَذَلِكَ الْمُضْطَرُّ إذَا شَرِبَ مِنْهَا مَا يَرُدُّ بِهِ الْعَطَشَ فَسَكِرَ بِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا شَرِبَ دَوَاءً فَسَكِرَ بِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQجِهَتِهِ وَهُوَ بَاطِلٌ. ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا نَصَّا عَلَى الْعَقْدِ وَإِثْبَاتِ الْخِيَارِ لَا عَلَى الْفَسْخِ وَالْفَسْخُ ضِدُّ الْعَقْدِ فَلَا يَكُونُ مُوجِبُهُ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ فِي الْعُقُودِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ لَازِمَةٍ كَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ لَا يَجُوزُ وَلَوْ كَانَ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لِيَتَمَكَّنَ بِهِ مِنْ الْفَسْخِ بِغَيْرِ عِلْمِ صَاحِبِهِ لَصَحَّ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ لِكَوْنِهِ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فِيهَا إذْ هُوَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فَسْخِهَا بِدُونِ عِلْمِ صَاحِبِهِ وَإِنْ كَانَ يَتَمَكَّنُ بِغَيْرِ رِضَاهُ وَحَيْثُ لَمْ يَصِحَّ عَرَفْنَا أَنَّ مُوجِبَهُ رَفْعُ صِفَةِ اللُّزُومِ فَقَطْ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ الْخِيَارَ كَانَ ثَابِتًا لِلْعَاقِدِ فِي أَصْلِ مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ وَإِلْزَامِ الْحُكْمِ جَمِيعًا فَاسْتِثْنَاءُ أَحَدِ الْخِيَارَيْنِ لِيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ لَا يَكُونُ بِإِيجَابِ الْغَيْرِ لَهُ ذَلِكَ وَتَسْلِيطُهُ عَلَيْهِ كَمَا إذَا بَاعَ الْعَبْدَ إلَّا نِصْفَهُ بَقِيَ النِّصْفُ فِي مِلْكِهِ كَمَا كَانَ لَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَوْجَبَ لَهُ مِلْكَ النِّصْفِ وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ مُسَاعِدَةَ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْضَى بِعَقْدٍ لَا حُكْمَ لَهُ وَالْعَقْدُ يَقُومُ بِهِمَا فَلَا يَثْبُتُ إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَتَرَاضَيَانِ عَلَيْهِ ثُمَّ إذَا رَضِيَ بِهِ فَامْتِنَاعُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْمُثْبِتِ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وِلَايَةَ الْفَسْخِ لَهُ لِانْتِفَاءِ صِفَةِ اللُّزُومِ فِي حَقِّهِ لَا لِلتَّسْلِيطِ فَيَصِيرُ هَذَا أَيْ صَاحِبُ الْخِيَارِ بِالْفَسْخِ مُتَصَرِّفًا عَلَى الْآخَرِ بِمَا فِيهِ إلْزَامٌ أَيْ إلْزَامٌ يُوجِبُ الْفَسْخَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ أَوْ إلْزَامُ الضَّرَرِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَتَصَرَّفُ فِي الثَّمَنِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ مُعْتَمِدًا عَلَى صَيْرُورَةِ الْعَقْدِ لَازِمًا فَيَضْمَنُ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِعِلْمِهِ كَعَزْلِ الْوَكِيلِ وَحَجْرِ الْمَأْذُونِ فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ إنَّ الْخِيَارَ وَإِنْ شَابَهُ الِاسْتِثْنَاءَ لَكِنْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُسَاعَدَةِ صَاحِبِهِ فِي ثُبُوتِ الشَّرْطِ فَأَشْبَهَ التَّسْلِيطَ وَهُمَا نَظَرَا إلَى الْحَقِيقَةِ فَقَالَا لَمَّا كَانَ الْخِيَارُ اسْتِثْنَاءً وَهُوَ مَنْعُ الثُّبُوتِ وَذَلِكَ غَيْرُ ثَابِتٍ يَعْنِي بِمَعْنًى مِنْ الْآخَرِ كَانَ حَقُّ الْفَسْخِ غَيْرَ مُسْنَدٍ إلَى تَسْلِيطِ الْآخَرِ فَشَابَهُ عَزْلَ الْوَكِيلِ فَعَلَى هَذَا الْحَرْفِ تَدُورُ الْمَسْأَلَةُ. فَإِنْ قِيلَ فَائِدَةُ الْخِيَارِ أَنْ لَا يَلْزَمُهُ حُكْمُ الْعَقْدِ إلَّا بِرِضَاهُ وَفِي التَّوْقِيفِ عَلَى عِلْمِ صَاحِبِهِ إضْرَارٌ بِهِ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ الْخِيَارِ مُقَدَّرَةٌ وَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَغِيبَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فَتَفُوتَ فَائِدَةُ شَرْطِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَلْزَمُهُ بِدُونِ رِضَاهُ قُلْنَا إنَّ التَّصَرُّفَ مَتَى تَوَقَّفَ عَلَى شَرْطِهِ فَامْتِنَاعُ نَفَاذِهِ لِعَدَمِ الشَّرْطِ لَا يُعَدُّ مِنْ بَابِ الْإِضْرَارِ كَالْمُوَكِّلِ لَا يَمْلِكُ عَزْلَ الْوَكِيلِ وَتَدَارُكَ حَقِّهِ فِيمَا بَدَا لَهُ مِنْ الْعَزْلِ لِعَدَمِ شَرْطِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ بِلَا شَرْطِ عَدَالَةٍ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُرْسَلِ وَبَعْدَ الثُّلُثِ لَا يَصِحُّ أَصْلًا كَمَا لَوْ أَخْبَرَهُ بِنَفْسِهِ لِلُزُومِ الْعَقْدِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ وَإِنْ بَلَّغَهُ فُضُولِيٌّ شُرِطَ الْعَدَدُ أَوْ الْعَدَالَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِوُجُودِ مَعْنَى الْإِلْزَامِ فِي هَذَا الْخَبَرِ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ وَافَقَهُ فِي تَحَقُّقِ مَعْنَى الْإِلْزَامِ فِيهِ لَكِنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ فِي مِثْلِ هَذَا الْخَبَرِ عَدَدًا وَلَا عَدَالَةً وَنَفَذَ الْفَسْخُ لِوُجُودِ شَرْطِهِ وَهُوَ عِلْمُ صَاحِبِهِ بِهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ وَبَعْدَ الثَّلَاثِ لَا يَصِحُّ التَّبْلِيغُ وَإِنْ وُجِدَ الْعَدَدُ وَالْعَدَالَةُ جَمِيعًا لِصَيْرُورَةِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ مَا يُمْضِي الْمُدَّةَ وَبَطَلَ الْفَسْخُ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ وَهُوَ حُصُولُ الْعِلْمِ فِي الْمُدَّةِ وَاشْتِرَاطُ الثَّلَاثِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَيُعْتَبَرُ نَفْسُ الْمُدَّةِ ثُلُثًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فصل السكر قسمان]

مِثْلُ الْبَنْجِ وَالْأَفْيُونِ أَوْ شَرِبَ لَبَنًا فَسَكِرَ بِهِ، وَكَذَلِكَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا شَرِبَ شَرَابًا يُتَّخَذُ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعَسَلِ فَسَكِرَ مِنْهُ حَتَّى لَمْ يُحَدَّ عَلَى قَوْلِهِ فِي ظَاهِرِ الْجَوَابِ فَإِنَّ السُّكْرَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِمَنْزِلَةِ الْإِغْمَاءِ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ اللَّهْوِ فَصَارَ مِنْ أَقْسَامِ الْمَرَضِ، وَبَعْضُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَذْكُورٌ فِي النَّوَادِرِ. وَأَمَّا السُّكْرُ الْمَحْظُورُ فَهُوَ السُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ مُحَرَّمٍ، وَكَذَلِكَ السُّكْرُ مِنْ النَّبِيذِ الْمُثَلَّثِ أَوْ نَبِيذِ الزَّبِيبِ الْمَطْبُوخِ الْمُعْتَقِ؛ لِأَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ حَلَالًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَإِنَّمَا يَحِلُّ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَسْكَرَ مِنْهُ وَذَلِكَ مِنْ جِنْسِ مَا يَتَلَهَّى بِهِ فَيَصِيرُ السُّكْرُ مِنْهُ مِثْلَ السُّكْرِ مِنْ الشَّرَابِ الْمُحَرَّمِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُوجِبُ الْحَدَّ ـــــــــــــــــــــــــــــQ [فَصْلٌ السُّكْر قسمان] [الْقَسْم الْأَوَّل السُّكْر بِطَرِيقِ مُبَاح] فَصْلٌ السُّكْرُ وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي) يَعْنِي مِنْ أَقْسَامِ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ قِيلَ هُوَ سُرُورٌ يَغْلِبُ عَلَى الْعَقْلِ بِمُبَاشَرَةِ بَعْضِ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لَهُ فَيَمْنَعُ الْإِنْسَانَ عَنْ الْعَمَلِ بِمُوجَبِ عَقْلِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُزِيلَهُ وَلِهَذَا بَقِيَ السَّكْرَانُ أَهْلًا لِلْخِطَابِ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَكُونُ مَا حَصَلَ مِنْ شُرْبِ الدَّوَاءِ مِثْلُ الْأَفْيُونِ مِنْ أَقْسَامِ السُّكْرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسُرُورٍ وَقِيلَ هُوَ غَفْلَةٌ تَلْحَقُ الْإِنْسَانَ مَعَ فُتُورٍ فِي الْأَعْضَاءِ بِمُبَاشَرَةِ بَعْضِ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لَهَا مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ وَعِلَّةٍ وَقِيلَ هُوَ مَعْنًى يَزُولُ بِهِ الْعَقْلُ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ بَعْضِ الْأَسْبَابِ الْمُزِيلَةِ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ بَقَاؤُهُ مُخَاطَبًا بَعْدَ زَوَالِ الْعَقْلِ يَكُونُ أَمْرًا حُكْمِيًّا ثَابِتًا بِطَرِيقِ الزَّجْرِ عَلَيْهِ لِمُبَاشَرَتِهِ الْمُحَرَّمَ لَا أَنْ يَكُونَ الْعَقْلُ بَاقِيًا حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ يُعْرَفُ بِأَثَرِهِ وَلَمْ يَبْقَ لِلسَّكْرَانِ مِنْ آثَارِ الْعَقْلِ شَيْءٌ فَلَا يُحْكَمُ بِبَقَائِهِ قَالَ الشَّيْخُ الْحَكِيمُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي نَوَادِرِهِ الْعَقْلُ فِي الرَّأْسِ وَشُعَاعُهُ فِي الصَّدْرِ وَالْقَلْبِ فَالْقَلْبُ يَهْتَدِي بِنُورِهِ لِتَدْبِيرِ الْأُمُورِ وَتَمْيِيزِ الْحَسَنِ مِنْ الْقَبِيحِ فَإِذَا شَرِبَ الْخَمْرَ خَلَصَ أَثَرُهَا إلَى الصَّدْرِ فَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نُورِ الْعَقْلِ فَبَقِيَ الصَّدْرُ مُظْلِمًا فَلَمْ يَنْتَفِعْ الْقَلْبُ بِنُورِ الْعَقْلِ فَسُمِّيَ ذَلِكَ سُكْرًا؛ لِأَنَّهُ سُكْرٌ حَاجِزٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نُورِ الْعَقْلِ فَمَنْ أَجَازَ طَلَاقَ السَّكْرَانِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّبِيِّ فَيَقُولُ إنَّ السُّكْرَ سَدٌّ وَالْعَقْلُ وَرَاءَ السَّدِّ قَائِمٌ وَالصَّبِيُّ لَمْ يُعْطَ عَقْلَ الْحُجَّةِ وَهُوَ تَمَامُ الْعَقْلِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ حُجَّةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ. قَوْلُهُ (مِثْلُ الْبَنْجِ) ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الْمَعْرُوفُ بِخَانِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي فَتَاوِيهِ وَشَرْحِهِ لِلْجَامِعِ الصَّغِيرِ نَاقِلًا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّ الرَّجُلَ إنْ كَانَ عَالِمًا بِفِعْلِ الْبَنْجِ وَتَأْثِيرِهِ فِي الْعَقْلِ ثُمَّ أَقْدَمَ عَلَى أَكْلِهِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ طَلَاقُهُ وَعَتَاقُهُ وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ لَا بَأْسَ أَنْ يَتَدَاوَى الْإِنْسَانُ بِالْبَنْجِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ عَقْلُهُ مِنْهُ بِهِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشُّرْبَ عَلَى قَصْدِ السُّكْرِ حَرَامٌ. قَوْلُهُ (حَتَّى لَمْ يُحَدَّ عَلَى قَوْلِهِ فِي ظَاهِرِ الْجَوَابِ) ذَكَرَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ وَالْعَسَلِ حَلَالٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَتَّى إنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ وَإِنْ سَكِرَ فِي قَوْلِهِ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ يَجِبُ الْحَدُّ بِالسُّكْرِ مِنْهُ وَكَذَلِكَ السَّكْرَانُ مِنْهُ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ لَمْ يَقَعْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ مِنْ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقَعُ بِمَنْزِلَةِ السَّكْرَانِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ تَفْصِيلًا بَيْنَ الْمَطْبُوخِ وَغَيْرِهِ وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْمُتَّخَذَ مِنْ الْحُبُوبِ وَالْفَوَاكِهِ وَالْعَسَلِ إذَا غَلَى وَاشْتَدَّ إنْ كَانَ مَطْبُوخًا أَدْنَى طَبْخَةٍ يَحِلُّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بِمَنْزِلَةِ نَقِيعِ الزَّبِيبِ إذَا طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ بَعْضُهُمْ يَحِلُّ شُرْبُهُ إلَّا الْقَدَحَ الْمُسْكِرَ. وَرَوَى الْقَاضِي أَبُو جَعْفَرٍ رِوَايَةً عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُكْرَهُ وَإِنْ لَمْ يُطْبَخْ حَتَّى غَلَى وَاشْتَدَّ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ كَنَقِيعِ الزَّبِيبِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَطْبُوخًا وَفِي رِوَايَةٍ يَحِلُّ شُرْبُهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْرِبَةَ لَمْ تُتَّخَذْ مِنْ أَصْلِ الْخَمْرِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الطَّبْخُ بِخِلَافِ نَقِيعِ الزَّبِيبِ وَهَذَا

[القسم الثاني السكر بطريق غير مباح]

وَهَذَا السُّكْرُ بِالْإِجْمَاعِ لَا يُنَافِي الْخِطَابَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] وَإِنْ كَانَ هَذَا خِطَابًا فِي حَالِ السُّكْرِ فَلَا شُبْهَةَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الصَّحْوِ فَكَذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ لِلْعَاقِلِ إذَا جُنِنْتَ فَلَا تَفْعَلْ كَذَا ـــــــــــــــــــــــــــــQإذَا لَمْ يَسْتَكْثِرْ فَإِنْ اسْتَكْثَرَ حَتَّى سَكِرَ فَالسُّكْرُ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ وَفِي نَفَاذِ تَصَرُّفَاتِهِ فَمَنْ أَوْجَبَ الْحَدَّ أَلْحَقَهُ بِنَبِيذِ التَّمْرِ وَمَنْ لَمْ يُوجِبْ قَالَ هُوَ مُتَّخَذٌ مِمَّا لَيْسَ مِنْ أَصْلِ الْخَمْرِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ لَبَنِ الرِّمَاكِ. وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَلَا بَأْسَ بِالشُّرْبِ مِنْ سَائِرِ الْأَنْبِذَةِ مِنْ الْعَسَلِ وَالذُّرَةِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ مُعْتَقًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُعْتَقٍ مَطْبُوخًا أَوْ غَيْرَ مَطْبُوخٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرُوِيَ فِي النَّوَادِرِ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إنْ شَرِبَ النِّيءَ مِنْهُ بَعْدَمَا اشْتَدَّ لَا يَحِلُّ. وَذَكَرَ الدَّلَائِلَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ثُمَّ قَالَ وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ شَرِبَ مِمَّا يُتَّخَذُ مِنْ الْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ وَالْفَانِيذِ وَالْكُمَّثْرَى وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ سَكِرَ أَوْ لَمْ يَسْكَرْ؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِالْحَدِّ فِي الْخَمْرِ وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ فَلَوْ أَوْجَبْنَا فِيهِ الْحَدَّ كَانَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ خِلَافًا لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَشْرِبَةِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا يَتَلَهَّى بِهِ أَوْ السُّكْرُ الْحَاصِلُ بِهَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ اللَّهْوِ وَبَعْضُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَهُوَ الْبَنْجُ وَلَبَنُ الرِّمَاكِ وَالْأَفْيُونُ مَذْكُورٌ فِي النَّوَادِرِ فَأَمَّا الْمُتَّخَذُ مِنْ الشَّعِيرِ وَالْحِنْطَةِ وَالْعَسَلِ فَمَذْكُورٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالْمَبْسُوطِ. [الْقَسْم الثَّانِي السُّكْر بِطَرِيقِ غَيْر مُبَاح] قَوْلُهُ (وَكَذَا السُّكْرُ مِنْ النَّبِيذِ الْمُثَلَّثِ) عَصِيرُ الْعِنَبِ إذَا طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ بِالنَّارِ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ ثُمَّ رُقِّقَ بِالْمَاءِ وَتُرِكَ حَتَّى اشْتَدَّ يُسَمَّى مُثَلَّثًا وَيَحِلُّ شُرْبُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِاسْتِمْرَاءِ الطَّعَامِ وَالتَّدَاوِي وَالتَّقَوِّي دُونَ التَّلَهِّي وَاللَّعِبِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ وَيُرْوَى عَنْهُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَوْ سَكِرَ مِنْهُ يَجِبُ الْحَدُّ وَإِنَّ طَلَاقَ السَّكْرَانِ مِنْهُ وَبَيْعُهُ وَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ وَنَبِيذُ الزَّبِيبِ وَنَقِيعُهُ هُوَ الْمَاءُ الَّذِي أُلْقِيَ فِيهِ الزَّبِيبُ لِيُخْرِجَ حَلَاوَتَهُ إلَيْهِ ثُمَّ هُوَ إنْ لَمْ يُطْبَخْ حَتَّى اشْتَدَّ وَغَلَى وَقُذِفَ بِالزُّبْدِ فَهُوَ حَرَامٌ لِلْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِيهِ وَإِنْ اشْتَدَّ بَعْدَ مَا طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةً يَحِلُّ شُرْبُ الْقَلِيلِ مِنْهُ عِنْدَهُمَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى هِشَامٌ فِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ مَا لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَاهُ بِالطَّبْخِ لَا يَحِلُّ كَالْعَصِيرِ فَقَوْلُهُ مِنْ النَّبِيذِ الْمُثَلَّثِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُثَلَّثَ الَّذِي بَيَّنَّا؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى النَّبِيذِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُخْلَطُ بِالْمَاءِ لِلتَّرْقِيقِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مِنْهُ نَبِيذُ الزَّبِيبِ الْمُثَلَّثِ عَلَى رِوَايَةِ هِشَامٍ وَمِنْ الثَّانِي الْمَطْبُوخُ أَدْنَى طَبْخَةٍ وَالشُّرْبُ إلَى السُّكْرِ مِنْ جَمِيعِ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ حَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «حَرُمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ» وَالْمُعَتَّقُ الْمُشْتَدُّ وَتَعْتِيقُ الْخَمْرِ تَرْكُهَا لِتَصِيرَ عَتِيقَةً أَيْ قَدِيمَةً شَدِيدَةً لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْ الْمُثَلَّثَ أَوْ نَبِيذَ الزَّبِيبِ مِنْ جِنْسِ مَا يُتَلَهَّى بِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّخَذٌ مِنْ الْعِنَبِ كَالْخَمْرِ وَالْفُسَّاقُ يَسْتَعْمِلُونَهُ اسْتِعْمَالَ الْخَمْرِ لِلتَّلَهِّي وَالْفِسْقِ فَيَكُونُ السُّكْرُ مِنْهُ مَحْظُورًا، أَلَا يُرَى أَنَّهُ يُوجِبُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ لِلزَّجْرِ عَنْ ارْتِكَابِ سَبَبِهِ وَدَعَا الطَّبْعُ إلَى الشَّرَابِ الْمُتَّخَذِ مِنْ الْعِنَبِ وَالزَّبِيبُ حَاصِلٌ فَيَحْتَاجُ إلَى الزَّاجِرِ بِخِلَافِ الْمُتَّخَذِ مِنْ الْحُبُوبِ قَوْلُهُ (وَهَذَا السُّكْرُ) أَيْ السُّكْرُ الْمَحْظُورُ لَا يُنَافِي الْخِطَابَ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] فَإِنْ كَانَ هَذَا خِطَابًا فِي حَالِ سُكْرِهِ بِلَا شُبْهَةٍ فِيهِ أَيْ فِي أَنَّهُ لَا يُنَافِي الْخِطَابَ وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الصَّحْوِ فَكَذَلِكَ أَيْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُنَافِي الْخِطَابَ أَيْضًا إذْ لَوْ كَانَ مُنَافِيًا لَهُ لَصَارَ كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ إذَا سَكِرْتُمْ وَخَرَجْتُمْ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْخِطَابِ

وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ ثَبَتَ أَنَّ السُّكْرَ لَا يُبْطِلُ شَيْئًا مِنْ الْأَهْلِيَّةِ فَيَلْزَمُهُ أَحْكَامُ الشَّرْعِ كُلُّهَا وَيَصِحُّ عِبَارَاتُهُ كُلُّهَا بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْبَيْعِ وَالشَّرْيِ وَالْأَقَارِيرِ وَإِنَّمَا يَنْعَدِمُ بِالسُّكْرِ الْقَصْدُ دُونَ الْعِبَارَةِ حَتَّى إنَّ السَّكْرَانَ إذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمْ تَبِنْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ اسْتِحْسَانًا ـــــــــــــــــــــــــــــQفَلَا تُصَلُّوا؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ وَالْأَحْوَالُ شُرُوطٌ وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ كَقَوْلِك لِلْعَاقِلِ إذَا جُنِنْت فَلَا تَفْعَلْ كَذَا وَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ إضَافَةُ الْخِطَابِ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لَهُ وَلَمَّا صَحَّ هَاهُنَا عَرَفْنَا أَنَّهُ أَهْلٌ لِلْخِطَابِ فِي حَالَةِ السُّكْرِ فَإِنْ قِيلَ السُّكْرُ يُعْجِزُهُ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ وَفَهْمِ الْخِطَابِ كَالنَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ الْخِطَابُ عَنْهُ أَوْ يَتَأَخَّرَ كَالنَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَإِنْ لَا يَصِحَّ مِنْهُ مَا تُبْتَنَى عَلَى صِحَّةِ الْعِبَارَةِ. قُلْنَا الْخِطَابُ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى الْعَبْدِ بِاعْتِدَالِ الْحَالِ وَأُقِيمَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ وَهُوَ الْبُلُوغُ عَنْ عَقْلٍ مُقَامَهُ تَيْسِيرًا لِعُذْرِ لِلْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَبِالسُّكْرِ لَا يَفُوتُ هَذَا الْمَعْنَى ثُمَّ قُدْرَتُهُ عَلَى فَهْمِ الْخِطَابِ إنْ فَاتَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ يَصْلُحُ عُذْرًا فِي سُقُوطِ الْخِطَابِ أَوْ تَأَخُّرِهِ عَنْهُ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى تَكْلِيفِ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ وَإِلَى الْحَرَجِ فَأَمَّا إذَا فَاتَتْ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ عُدَّتْ قَائِمَةً زَجْرًا عَلَيْهِ فَبَقِيَ الْخِطَابُ مُتَوَجِّهًا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي وُسْعِهِ دَفْعُ السُّكْرِ عَنْ نَفْسِهِ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ الشُّرْبِ كَانَ هُوَ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الشُّرْبِ مُضَيِّعًا لِلْقُدْرَةِ فَيَبْقَى التَّكْلِيفُ مُتَوَجِّهًا عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْإِثْمِ وَإِنْ لَمْ تَبْقَ فِي حَقِّ الْأَدَاءِ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ بَقِيَ التَّكْلِيفُ بِالْعِبَادَاتِ فِي حَقِّهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الْأَدَاءُ كَذَا فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ السَّكْرَانَ مُخَاطَبٌ ثَبَتَ أَنَّ السُّكْرَ لَا يُبْطِلُ شَيْئًا مِنْ الْأَهْلِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا بِالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ، وَالسُّكْرُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْلِ بِالْإِعْدَامِ فَيَلْزَمُهُ أَحْكَامُ الشَّرْعِ كُلُّهَا مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا وَتَصِحُّ عِبَارَاتُهُ كُلُّهَا بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ لَا يَصِحُّ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ أَوْ اخْتِيَارُ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ وَأَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَيْضًا؛ لِأَنَّ غَفْلَتَهُ فَوْقَ غَفْلَةِ النَّائِمِ فَإِنَّ النَّائِمَ يَنْتَبِهُ إذَا نُبِّهَ وَالسَّكْرَانُ لَا يَنْتَبِهُ ثُمَّ طَلَاقُ النَّائِمِ وَعَتَاقِهِ لَا يَقَعُ فَطَلَاقُ السَّكْرَانِ وَعَتَاقُهُ أَوْلَى وَقَدْ مَرَّ الْجَوَابُ عَنْهُ. وَيَصِحُّ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ وَإِقْرَارُهُ وَتَزْوِيجُهُ الْوَلَدَ الصَّغِيرَ وَتَزَوُّجُهُ وَإِقْرَاضُهُ وَاسْتِقْرَاضُهُ وَسَائِرُ تَصَرُّفَاتِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ كَالصَّاحِي وَبِالسُّكْرِ لَا يَنْعَدِمُ عَقْلُهُ إنَّمَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ السُّرُورُ فَيَمْنَعُهُ مِنْ اسْتِعْمَالِ عَقْلِهِ وَذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِي تَصَرُّفِهِ سَوَاءٌ شَرِبَ مُكْرَهًا أَوْ طَائِعًا كَذَا فِي أَشْرِبَةِ الْمَبْسُوطِ، وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِي خَانْ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ مُكْرَهًا ثُمَّ طَلَّقَ أَوْ أَعْتَقَ اخْتَلَفُوا بِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ وَإِنَّمَا يَنْعَدِمُ بِالسُّكْرِ الْقَصْدُ أَيْ الْقَصْدُ الصَّحِيحُ وَهُوَ الْعَزْمُ عَلَى الشَّيْءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْشَأُ عَنْ نُورِ الْعَقْلِ وَقَدْ احْتَجِبْ ذَلِكَ عَنْهُ بِالسُّكْرِ دُونَ الْعِبَارَةِ؛ لِأَنَّهَا تُوجَدُ حِسًّا وَصِحَّتُهَا تُبْتَنَى عَلَى أَهْلِ الْعَقْلِ حَتَّى إنَّ السَّكْرَانَ إذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمْ تَبِنْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ كَالصَّاحِي فِي اعْتِبَارِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الرِّدَّةَ تُبْتَنَى عَلَى الْقَصْدِ وَالِاعْتِقَادِ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ السَّكْرَانَ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لِمَا يَقُولُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَذْكُرُهُ بَعْدَ الصَّحْوِ وَمَا كَانَ عَنْ عَقْدِ الْقَلْبِ لَا يُنْسَى خُصُوصًا الْمَذَاهِبُ فَإِنَّهَا تُخْتَارُ عَنْ فِكْرٍ وَرُؤْيَةٍ وَعَمَّا هُوَ الْأَحَقُّ مِنْ الْأُمُورِ عِنْدَهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ هَذَا عَمَلَ اللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ فَلَا يَكُونُ اللِّسَانُ مُعَبِّرًا عَمَّا فِي الضَّمِيرِ

وَإِذَا أَسْلَمَ يَجِبُ أَنْ يَصِحَّ إسْلَامُهُ كَإِسْلَامِ الْمُكْرَهِ وَإِذَا أَقَرَّهُ بِالْقِصَاصِ أَوْ بَاشَرَ سَبَبَ الْقِصَاصِ لَزِمَهُ حُكْمُهُ وَإِذَا قَذَفَ أَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ السُّكْرَ دَلِيلُ الرُّجُوعِ وَذَلِكَ لَا يَبْطُلُ بِصَرِيحِهِ فَبِدَلِيلِهِ أَوْلَى وَإِنْ زَنَى فِي سُكْرِهِ حُدَّ إذَا صَحَا وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ سَكِرَ مِنْ الْخَمْرِ طَائِعًا لَمْ يُحَدَّ حَتَّى يَصْحُوَ فَيُقِرَّ أَوْ يَقُومَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ وَإِذَا أَقَرَّ بِشَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ لَمْ يُؤْخَذْ بِهِ إلَّا بِحَدِّ الْقَذْفِ وَإِنَّمَا لَمْ يُوضَعْ عَنْهُ الْخِطَابُ وَلَزِمَهُ أَحْكَامُ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ السُّكْرَ لَا يُزِيلُ الْعَقْلَ لَكِنَّهُ سُرُورٌ غَلَبَهُ فَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ مَعْصِيَةً لَمْ يُعَدَّ عُذْرًا، وَكَذَلِكَ. ـــــــــــــــــــــــــــــQفَجُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ حُكْمًا كَمَا لَوْ جَرَى عَلَى لِسَانِ الصَّاحِي كَلِمَةُ الْكُفْرِ خَطَأً كَيْف وَلَا يَنْجُو سَكْرَانُ مِنْ التَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ عَادَةً وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ هَازِلًا؛ لِأَنَّهُ بِنَفْسِهِ اسْتِخْفَافٌ بِالدِّينِ وَهُوَ كُفْرٌ وَقَدْ صَدَرَ عَنْ قَصْدٍ صَحِيحٍ فَيُعْتَبَرُ. وَتَمَسَّكَ بَعْضُهُمْ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ وَاحِدًا مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ سَكِرَ حِينَ كَانَ الشَّرَابُ حَلَالًا فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ أَنْتُمْ إلَّا عَبِيدِي وَعَبِيدَ آبَائِي وَلَمْ يُجْعَلْ ذَلِكَ مِنْهُ كُفْرًا وَقَرَأَ سَكْرَانٌ سُورَةَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَتَرَكَ اللَّاءَاتِ فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} [النساء: 43] وَلَمْ يَحْكُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكُفْرِهِ وَلَا بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَلَا بِتَجْدِيدِ الْإِيمَانِ» فَدَلَّ أَنَّ بِالتَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ فِي حَالِ السُّكْرِ لَا يُحْكَمُ بِالرِّدَّةِ كَمَا لَا يُحْكَمُ بِهَا فِي حَالَةِ الْخَطَأِ وَالْجُنُونِ فَلَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هَذَا التَّمَسُّكُ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ هَاهُنَا أَنَّ كَلَامَنَا فِي السُّكْرِ الْمَحْظُورِ وَكَانَ ذَلِكَ السُّكْرُ مُبَاحًا؛ لِأَنَّ الشُّرْبَ كَانَ حَلَالًا فَصَيْرُورَتُهُ عُذْرًا فِي عَدَمِ اعْتِبَارِ الرِّدَّةِ لَا يَدُلُّ عَلَى صَيْرُورَتِهِ الْمَحْظُورَ عُذْرًا فِيهِ. وَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ فِي حَالِ السُّكْرِ يَجِبُ أَنْ يَصِحَّ إسْلَامُهُ بِوُجُودِ أَحَدِ الرُّكْنَيْنِ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْإِسْلَامِ كَمَا فِي الْمُكْرَهِ وَلَا يُقَالُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ إيمَانُهُ أَنَّ دَلِيلَ الرُّجُوعِ وَهُوَ السُّكْرُ يُقَارِنُهُ فَيَمْنَعُهُ مِنْ الثُّبُوتِ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّهُ لَا يَقْبَلُ الرُّجُوعَ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ رِدَّةٌ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ دَلِيلُ الرُّجُوعِ وَلَوْ أَثْبَتْنَا الرِّدَّةَ فَالسُّكْرُ مَانِعٌ مِنْ صِحَّتِهَا فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا بِمَا يَمْنَعُ عَنْ ثُبُوتِهَا؛ لِأَنَّ السُّكْرَ دَلِيلُ الرُّجُوعِ إذْ السَّكْرَانُ لَا يَكَادُ يَسْتَقِرُّ عَلَى أَمْرٍ وَيَثْبُتُ عَلَى كَلَامٍ وَذَلِكَ أَيْ الْإِقْرَارُ بِالْقِصَاصِ وَالْقَذْفِ وَمُبَاشَرَةُ سَبَبِهِمَا لَا يَبْطُلُ بِصَرِيحِ الرُّجُوعِ؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ السَّبَبِ أَمْرٌ مُعَايَنٌ لَا يَقْبَلُ الرُّجُوعَ وَكَذَا الْإِقْرَارُ بِالْقِصَاصِ وَالْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَبِدَلِيلِ الرُّجُوعِ وَهُوَ السُّكْرُ أَوْلَى أَنْ لَا يَبْطُلَ وَفِي الْمَبْسُوطِ وَإِذَا قَذَفَ السَّكْرَانُ رَجُلًا حُبِسَ حَتَّى يَصْحُوَ ثُمَّ يُحَدُّ لِلْقَذْفِ ثُمَّ يُحْبَسُ حَتَّى يَجِفَّ عَلَيْهِ الضَّرْبُ ثُمَّ يُحَدُّ لِلسُّكْرِ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ فِيهِ مَعْنَى حَقِّ الْعِبَادِ فَيُقَدَّمُ عَلَى حَدِّ السُّكْرِ وَلَا يُوَالِي بَيْنَهُمَا فِي الْإِقَامَةِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى التَّلَفِ وَسُكْرُهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَيْهِ بِالْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ مَعَ سُكْرِهِ مُخَاطَبٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَخَذُوا حَدَّ الشُّرْبِ مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ إذَا شَرِبَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى وَحَدُّ الْمُفْتَرِينَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ثَمَانُونَ جَلْدَةً وَإِذَا زَنَى فِي سُكْرِهِ حُدَّ إذَا صَحَا يَعْنِي إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُشَاهَدٌ لِأَمْرٍ دَلَّهُ وَالسُّكْرُ لَا يَصْلُحُ شُبْهَةً دَارِئَةً؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ لَكِنَّ الْحَدَّ يُؤَخَّرُ إلَى الصَّحْوِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ الِانْزِجَارُ لَا يَحْصُلُ بِالْإِقَامَةِ فِي حَالَةِ السُّكْرِ. وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ سَكِرَ مِنْ الْخَمْرِ طَائِعًا لَمْ يُحَدَّ حَتَّى يَصْحُوَ فَيُقِرَّ ثَانِيًا أَوْ تَقُومَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ سَكِرَ طَائِعًا لِمَا قُلْنَا إنَّ السُّكْرَ أَنْ لَا يَثْبُتَ عَلَى كَلَامٍ وَلَكِنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِالشَّيْءِ وَضِدِّهِ وَالْإِصْرَارُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالسَّبَبِ لَا بُدَّ مِنْهُ لِإِيجَابِ حَدِّ الْخَمْرِ وَإِذَا أَقَرَّ بِشَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ لَمْ يُؤْخَذْ بِهِ إلَّا بِحَدِّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْحُدُودِ يَصِحُّ فِيمَا سِوَى حَدِّ الْقَذْفِ وَقَدْ قَارَنَهُ هَاهُنَا دَلِيلُ الرُّجُوعِ وَهُوَ السُّكْرُ فَمَنَعَهُ عَنْ الثُّبُوتِ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ أَسْهَلُ مِنْ الرَّفْعِ ثُمَّ أَشَارَ الشَّيْخُ

إذَا كَانَ مُبَاحًا مُقَيَّدًا وَهُوَ مِمَّا يُتَلَهَّى بِهِ فِي الْأَصْلِ وَإِذَا كَانَ مُبَاحًا جُعِلَ عُذْرًا. وَأَمَّا مَا تَعْتَمِدُ الِاعْتِقَادَ مِثْلُ الرِّدَّةِ فَإِنْ ذَلِكَ لَا يُثْبِتُ اسْتِحْسَانًا لِعَدَمِ رُكْنِهِ لَا أَنَّ السُّكْرَ جُعِلَ عُذْرًا وَمَا يُبْتَنَى عَلَى صِحَّةِ الْعِبَارَةِ فَقَدْ وُجِدَ رُكْنُهُ وَالسُّكْرُ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا. وَأَمَّا الْحُدُودُ فَإِنَّهَا تُقَامُ عَلَيْهِ إذَا صَحَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ السُّكْرَ بِعَيْنِهِ لَيْسَ بِعُذْرٍ وَلَا شُبْهَةٍ إلَّا أَنَّ مِنْ عَادَةِ السُّكْرِ أَنَّ اخْتِلَاطَ الْكَلَامِ هُوَ أَصْلُهُ وَلَا ثَبَاتَ لَهُ عَلَى الْكَلَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا أَنَّ السُّكْرَ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ هَذَا الْحَدِّ وَقَدْ زَادَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي حَقِّ الْحُدُودِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَدُّهُ فِي غَيْرِ الْحَدِّ هُوَ أَنْ يَخْتَلِطَ كَلَامُهُ وَيَهْذِيَ غَالِبًا وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ أُقِيمَ السُّكْرُ مَقَامَ الرُّجُوعِ فَلَمْ تَعْمَلْ فِيمَا يُعَايَنُ مِنْ أَسْبَابِ الْحَدِّ وَعُمِلَ فِي الْإِقْرَارِ الَّذِي يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ وَلَمْ يَعْمَلْ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُهُ وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِحَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ ـــــــــــــــــــــــــــــQ- رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى دَلَائِلِ مَا ذُكِرَ بِقَوْلِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ وَإِنَّمَا لَمْ يُوضَعْ عَنْ السَّكْرَانِ إلَى آخِرِهِ فَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ أَيْ سَبَبُ السُّكْرِ مَعْصِيَةً بِأَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ أَوْ الْبَاذَقَ أَوْ نَحْوَهُمَا مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ لَمْ يُعَدَّ السُّكْرَ عُذْرًا فِي سُقُوطِ الْخِطَابِ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَصْلُحُ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَذَا الْحُكْمُ إنْ كَانَ سَبَبُهُ مُبَاحًا مُقَيَّدًا بِشَرْطِ الِاحْتِرَازِ عَنْ السُّكْرِ وَذَلِكَ السَّبَبُ مِمَّا يُتَلَهَّى بِهِ فِي أَصْلِ وَضْعِهِ كَالْمُثَلَّثِ وَنَبِيذِ الزَّبِيبِ الْمَطْبُوخِ الْمُعَتَّقِ وَنَحْوِهِمَا. وَقَوْلُهُ: وَهُوَ مِمَّا يُتَلَهَّى بِهِ بَيَانُ التَّقْيِيدِ بِالِاحْتِرَازِ عَنْ السُّكْرِ فِيمَا يُتَلَهَّى بِهِ لَا فِي غَيْرِهِ وَإِذَا كَانَ سَبَبُهُ مُبَاحًا يَعْنِي عَلَى الْإِطْلَاقِ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِالِاحْتِرَازِ عَنْ السُّكْرِ كَالْأَشْرِبَةِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الْحُبُوبِ وَنَحْوِهَا جُعِلَ عُذْرًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَمْ تَكُنْ لِلتَّلَهِّي فِي الْأَصْلِ بَلْ هِيَ لِلتَّغَذِّي وَلَا أَثَرَ لِتَغَيُّرِهَا فِي الْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّ تَغَيُّرَ الطَّعَامِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْحُرْمَةِ وَكَذَا نَفْسُ الشِّدَّةِ لَا تُوجِبُ الْحُرْمَةَ؛ لِأَنَّهَا تُوجَدُ فِي بَعْضِ الْأَدْوِيَةِ كَالْبَنْجِ وَفِي بَعْضِ الْأَشْرِبَةِ كَاللَّبَنِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. قَوْلُهُ (لِأَنَّ السُّكْرَ جُعِلَ عُذْرًا) إشَارَةً إلَى الْجَوَابِ عَمَّا يُقَالُ قَدْ جُعِلَ السُّكْرُ الْمَحْظُورُ عُذْرًا فِي الرِّدَّةِ حَتَّى مَنَعَ صِحَّتَهَا فَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ عُذْرًا فِي غَيْرِهَا أَيْضًا فَقَالَ عَدَمُ صِحَّةِ الرِّدَّةِ لِفَوَاتِ رُكْنِهَا وَهُوَ تَبَدُّلُ الِاعْتِقَادِ، لَا لِأَنَّ السُّكْرَ جُعِلَ عُذْرًا فِيهَا بِخِلَافِ مَا يُبْتَنَى عَلَى الْعِبَارَةِ مِنْ الْأَحْكَامِ مِثْلُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْعُقُودِ؛ لِأَنَّ رُكْنَ التَّصَرُّفِ قَدْ تَحَقَّقَ فِيهَا مِنْ الْأَهْلِ مُضَافًا إلَى الْمَحَلِّ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهَا إلَّا أَنَّ أَيْ لَكِنْ اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ أَمَّا الْحُدُودُ فَإِنَّهَا تُقَامُ عَلَيْهِ يَعْنِي السُّكْرُ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِسَبَبِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ السَّكْرَانِ اخْتِلَاطَ الْكَلَامِ وَعَدَمَ الثَّبَاتِ عَلَى كَلَامٍ هُوَ أَصْلُهُ أَيْ اخْتِلَاطُ الْكَلَامِ أَصْلٌ فِي السُّكْرِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَصْحَابَنَا اتَّفَقُوا أَنَّ السُّكْرَ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ هَذَا الْحَدِّ أَيْ بِدُونِ اخْتِلَاطِ الْكَلَامِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِيهِ وَزَادَ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى اشْتِرَاطِ اخْتِلَاطِ الْكَلَامِ لِثُبُوتِ السُّكْرِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - شَرْطًا آخَرَ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فَقَالَ السُّكْرُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَدُّ أَنْ لَا يَعْرِفَ الْأَرْضَ مِنْ السَّمَاءِ وَلَا الْأُنْثَى مِنْ الذَّكَرِ اعْتِبَارًا لِلنِّهَايَةِ فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ كَمَا فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ كَانَ مُسْتَعْمِلًا لِعَقْلِهِ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ نِهَايَةَ السُّكْرِ وَفِي الْيَقْظَانِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ وَالْحَدُّ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَدُّهُ أَيْ حَدُّ السُّكْرِ عَلَى قَوْلِهِ فِي حَقِّ غَيْرِ وُجُوبِ الْحَدِّ مِنْ الْأَحْكَامِ هُوَ اخْتِلَاطُ الْكَلَامِ وَغَلَبَةُ الْهَذَيَانِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُمَا حَتَّى لَا يَصِحَّ إقْرَارُهُ بِالْحُدُودِ وَلَا ارْتِدَادُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ مَنْ اخْتَلَطَ كَلَامُهُ بِالشُّرْبِ يُعَدُّ سَكْرَانَ فِي النَّاسِ عُرْفًا وَيُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ وَافَقَهُمَا يَعْنِي أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي السُّكْرِ الَّذِي يَحْرُمُ عِنْدَهُ الشُّرْبُ هُوَ اخْتِلَاطُ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ النِّهَايَةِ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبْهَةِ فَأَمَّا الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ فَيُؤْخَذُ فِيهِمَا بِالِاحْتِيَاطِ قَالَ وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا عَلَى قَوْلِهِمَا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ كَانَ السَّكْرَانُ مُخْتَلِطَ الْكَلَامِ أَوْ كَانَ اخْتِلَاطُ الْكَلَامِ أَصْلًا فِي السُّكْرِ أُقِيمَ السُّكْرُ مُقَامَ الرُّجُوعِ إلَى آخِرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فصل الهزل من العوارض المكتسبة]

(فَصْلُ الْهَزْلِ) وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ. وَأَمَّا الْهَزْلُ فَتَفْسِيرُهُ اللَّعِبَ وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِالشَّيْءِ مَا لَمْ يُوضَعْ لَهُ وَهُوَ ضِدُّ الْجَدِّ وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِالشَّيْءِ مَا وُضِعَ لَهُ فَصَارَ الْهَزْلُ يُنَافِي اخْتِيَارَ الْحُكْمِ وَالرِّضَا بِهِ وَلَا يُنَافِي الرِّضَاءَ بِالْمُبَاشَرَةِ وَاخْتِيَارَ الْمُبَاشَرَةِ فَصَارَ بِمَعْنَى خِيَارِ الشَّرْطِ فِي الْبَيْعِ أَنَّهُ بِعَدَمِ الرِّضَاءِ وَالِاخْتِيَارِ جَمِيعًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَلَا يُعْدَمُ الرِّضَاءُ وَالِاخْتِيَارُ فِي حَقِّ مُبَاشَرَةِ السَّبَبِ هَذَا تَفْسِيرُ الْهَزْلِ وَأَثَرُهُ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا مَشْرُوطًا بِاللِّسَانِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُهُ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ بِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ وَالتَّلْجِئَةُ هِيَ الْهَزْلُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُنَافِيًا لِلْأَهْلِيَّةِ وَلَا لِوُجُوبِ شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ وَلَا عُذْرًا فِي وَضْعِ الْخِطَابِ بِحَالٍ لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ أَثَرُهُ مَا. قُلْنَا وَجَبَ النَّظَرُ فِي الْأَحْكَامِ كَيْفَ يَنْقَسِمُ فِي حَقِّ الرِّضَاءِ وَالِاخْتِيَارِ ـــــــــــــــــــــــــــــQ [فَصْلُ الْهَزْلِ مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ] فَصْلُ الْهَزْلِ) وَأَمَّا الْهَزْلُ فَتَفْسِيرُهُ اللَّعِبُ وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِالشَّيْءِ مَا لَمْ يُوضَعْ لَهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الْوَضْعِ هَاهُنَا وَضْعَ أَهْلِ اللُّغَةِ لَا غَيْرُ كَالْأَسَدِ لِلْهَيْكَلِ الْمَعْلُومِ وَالْإِنْسَانِ لِلْحَيَوَانِ النَّاطِقِ بَلْ الْمُرَادُ وَضْعُ الْعَقْلِ أَوْ الشَّرْعِ فَإِنَّ الْكَلَامَ مَوْضُوعٌ عَقْلًا لِإِفَادَةِ مَعْنَاهُ حَقِيقَةً كَانَ أَوْ مَجَازًا وَالتَّصَرُّفُ الشَّرْعِيُّ مَوْضُوعٌ لِإِفَادَةِ حُكْمِهِ فَإِذَا أُرِيدَ بِالْكَلَامِ غَيْرَ مَوْضُوعِهِ الْعَقْلِيِّ وَهُوَ عَدَمُ إفَادَةِ مَعْنَاهُ أَصْلًا أُرِيدَ بِالتَّصَرُّفِ غَيْرَ مَوْضُوعِهِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ عَدَمُ إفَادَتِهِ الْحُكْمَ أَصْلًا فَهُوَ الْهَزْلُ وَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَجَازِ وَالْهَزْلِ فَإِنَّ الْمَوْضُوعَ الْعَقْلِيَّ الْكَلَامُ وَهُوَ إفَادَةُ الْمَعْنَى فِي الْمَجَازِ مُرَادًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَوْضُوعُ لَهُ اللُّغَوِيُّ مُرَادًا وَفِي الْهَزْلِ كِلَاهُمَا لَيْسَ بِمُرَادٍ وَلِهَذَا فَسَّرَهُ الشَّيْخُ بِاللَّعِبِ إذْ اللَّعِبُ مَا لَا يُفِيدُ فَائِدَةً أَصْلًا وَهُوَ مَعْنَى مَا نُقِلَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْهَزْلَ مَا لَا يُرَادُ بِهِ مَعْنًى وَعِبَارَةُ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْهَزْلَ كَلَامٌ لَا يُقْصَدُ بِهِ مَا صَلُحَ لَهُ الْكَلَامُ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَلَا مَا صَلُحَ لَهُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ. وَقَوْلُهُ وَهُوَ ضِدُّ الْجَدِّ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْمَجَازِ كَمَا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ مُقَابِلَ الْمَجَازِ الْحَقِيقَةُ وَمُقَابِلَ الْهَزْلِ الْجَدُّ وَالْمَجَازُ دَاخِلٌ فِي الْجَدِّ كَالْحَقِيقَةِ فَكَانَ الْهَزْلُ مُخَالِفًا لَهُمَا وَلِهَذَا جَازَ الْمَجَازُ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَلَا يَجُوزُ الْهَزْلُ فِيهِ لِاسْتِلْزَامِهِ خُلُوَّهُ عَنْ الْإِفَادَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ فَصَارَ الْهَزْلُ يُنَافِي اخْتِيَارَ الْحُكْمِ وَالرِّضَاءَ بِهِ يَعْنِي لَمَّا كَانَ تَفْسِيرُ الْهَزْلِ مَا قُلْنَا إنَّهُ لَا يَرِدُ بِهِ مَا وُضِعَ لَهُ كَانَ الْهَزْلُ مُنَافِيًا لِاخْتِيَارِ الْحُكْمِ وَالرِّضَاءِ بِهِ ضَرُورَةً وَلَكِنَّهُ لَا يُنَافِي الرِّضَاءَ بِمُبَاشَرَةِ السَّبَبِ وَاخْتِيَارِ الْمُبَاشَرَةِ؛ لِأَنَّ الْهَازِلَ يَتَكَلَّمُ بِمَا هَزِلَ بِهِ عَنْ اخْتِيَارٍ وَرِضَاءٍ فَصَارَ الْهَزْلُ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ بِمَنْزِلَةِ خِيَارِ الشَّرْطِ فَإِنَّ الْخِيَارَ بِعَدَمِ الرِّضَاءِ وَالِاخْتِيَارِ جَمِيعًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ فِي الْحُكْمِ لَا غَيْرُ وَلَا يُعْدَمُ الرِّضَاءُ وَالِاخْتِيَارُ فِي حَقِّ مُبَاشَرَةِ السَّبَبِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ بِعْت وَاشْتَرَيْت يُوجَدُ بِرِضَاءِ الْعَاقِدِ وَاخْتِيَارِهِ فَكَذَا فِي الْهَزْلِ يُوجَدُ الرِّضَاءُ وَالِاخْتِيَارُ فِي حَقِّ السَّبَبِ وَلَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ إلَّا أَنَّ الْهَزْلَ فِي الْبَيْعِ يُفْسِدُهُ وَخِيَارُ الشَّرْطِ لَا يُفْسِدُهُ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ وَإِنَّمَا جَمَعَ بَيْنَ الرِّضَاءِ وَالِاخْتِيَارِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ قَدْ يَنْفَكُّ عَنْ الرِّضَاءِ كَمَا فِي مَسَائِلِ الْإِكْرَاهِ وَشَرْطُهُ أَيْ شَرْطُ ثُبُوتِ الْهَزْلِ وَاعْتِبَارِهِ فِي التَّصَرُّفَاتِ أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا مَشْرُوطًا بِاللِّسَانِ بِأَنْ تَقُولَ إنِّي أَبِيعُ هَذَا الشَّيْءَ هَازِلًا أَوْ أَتَصَرَّفُ التَّصَرُّفَ الْفُلَانِيَّ هَازِلًا وَلَا يُكْتَفَى فِيهِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ. إلَّا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ الْهَازِلِ فِي الْعَقْدِ إذْ لَوْ شَرَطَ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ النَّاسُ التَّصَرُّفَ الَّذِي هَزَلَ بِهِ جِدًّا وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ حَقِيقَةً بِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ ذِكْرُهُ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ وَلَا يُكْتَفَى بِاشْتِرَاطِهِ بِاللِّسَانِ قَبْلَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ لِدَفْعِ الْغَبْنِ وَمَنْعِ الْحُكْمِ عَنْ الثُّبُوتِ بَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالْعَقْدِ وَالتَّلْجِئَةُ هِيَ الْهَزْلُ ذَكَرَ فِي الْمُغْرِبِ أَنَّ التَّلْجِئَةَ أَنْ تُلْجِئَك إلَى أَنْ تَأْتِيَ أَمْرًا بَاطِنُهُ خِلَافُ ظَاهِرِهِ فَتَكُونَ التَّلْجِئَةُ نَوْعًا مِنْ الْهَزْلِ وَالْهَزْلُ أَعَمُّ مِنْهَا؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَهُ قَدْ يَكُونُ سَابِقًا عَلَى الْعَقْدِ وَقَدْ يَكُونُ مُقَارِنًا لَهُ بِأَنْ نَقُولَ بِعْتُك هَازِلًا وَاشْتِرَاطُ التَّلْجِئَةُ لَا يَكُونُ إلَّا سَابِقًا عَلَى الْعَقْدِ كَذَا قِيلَ وَالْأَظْهَرُ

فَيَجِبُ تَخْرِيجُهَا عَلَى هَذَا الْحَدِّ وَذَلِكَ عَلَى وُجُوهٍ إمَّا إنْ يُدْخِلْ التَّلْجِئَةَ وَالْهَزْلَ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ أَوْ فِيمَا يَحْتَمِلُهُ فَهَذَا وَجْهٌ وَوَجْهٌ آخَرُ أَنْ يُدْخِلَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِمَا يَنْفَسِخُ أَوْ لَا وَوَجْهٌ آخَرُ أَنْ يُدْخِلَ فِيمَا يُبْتَنَى عَلَى الِاعْتِقَادِ وَذَلِكَ وَجْهَانِ الْإِيمَانُ وَالرِّدَّةُ، فَأَمَّا إذَا دَخَلَ فِيمَا تَحْتَمِلُ النَّقْضَ مِثْلَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَهْزِلَا بِأَصْلِهِ أَوْ بِقَدْرِ الْعِوَضِ أَوْ بِجِنْسِهِ وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ إمَّا إنْ يَتَوَاضَعَا عَلَى الْهَزْلِ ثُمَّ يَتَّفِقَا عَلَى الْإِعْرَاضِ أَوْ عَلَى الْبِنَاءِ أَوْ عَلَى أَنْ لَا يَحْضُرَهُمَا شَيْءٌ أَوْ يَخْتَلِفَا فَأَمَّا إذَا تَوَاضَعَا عَلَى الْهَزْلِ بِأَصْلِهِ ثُمَّ اتَّفَقَا عَلَى الْبِنَاءِ فَإِنَّ الْبَيْعَ مُنْعَقِدٌ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْهَازِلَ مُخْتَارٌ وَرَاضٍ بِمُبَاشَرَةِ السَّبَبِ لَكِنَّهُ غَيْرُ مُخْتَارٍ وَلَا رَاضٍ بِحُكْمِهِ وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ خِيَارِ الشَّرْطِ مُؤَبَّدًا فَانْعَقَدَ الْعَقْدُ فَاسِدًا غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْمِلْكِ كَخِيَارِ الْمُتَبَايِعَيْنِ مَعًا عَلَى احْتِمَالِ الْجَوَازِ كَرَجُلٍ بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ أَبَدًا أَوْ عَلَى أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ أَبَدًا فَإِنْ نَقَضَهُ أَحَدُهُمَا يُنْقَضُ وَإِنْ أَجَازَاهُ جَازَ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُقَدَّرًا بِالثَّلَاثِ وَهَذَا لَمْ يَقَعْ الْمِلْكُ بِهَذَا الْبَيْعِ وَإِنْ اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ وَدَلَالَةُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ الْهَزْلَ لَا يُؤَثِّرُ فِي النِّكَاحِ بِالسُّنَّةِ فَعُلِمَ بِهِ أَنَّهُ لَا يُنَافِي الْإِيجَابَ وَإِنَّمَا دَخَلَ عَلَى الْحُكْمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الِاصْطِلَاحِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ وَفِي الْمَبْسُوطِ مَعْنَى قَوْلِهِ أُلْجِئُ إلَيْك دَارِي أَجْعَلُك ظَهْرًا لَا تُمَكَّنُ بِجَاهِك مِنْ صِيَانَةِ مِلْكِي يُقَالُ الْتَجَأَ فُلَانٌ إلَى فُلَانٍ وَأَلْجَأَ ظَهْرَهُ إلَى كَذَا وَالْمُرَادُ هَذَا الْمَعْنَى وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَا مُلْجَأٌ مُضْطَرٌّ إلَى مَا أُبَاشِرُهُ مِنْ الْبَيْعِ مَعَك وَلَسْت بِقَاصِدٍ حَقِيقَةً لَكِنَّهُ الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ لَمَّا كَانَ أَثَرُ الْهَزْلِ مَا قُلْنَا إنَّهُ يُنَافِي اخْتِيَارَ الْحُكْمِ وَالرِّضَاءَ بِهِ فَيَجِبُ تَخْرِيجُهَا أَيْ تَخْرِيجُ الْأَحْكَامِ مَعَ الْهَزْلِ عَلَى هَذَا الْحَدِّ أَيْ عَلَى انْقِسَامِهَا فِي حُكْمِ الرِّضَاءِ وَالِاخْتِيَارِ فَكُلُّ حُكْمٍ يَتَعَلَّقُ بِالسَّبَبِ وَلَا يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهُ عَلَى الرِّضَاءِ وَالِاخْتِيَارِ يَثْبُتُ مَعَ الْهَزْلِ وَكُلُّ حُكْمٍ يَتَعَلَّقُ بِالرِّضَاءِ وَالِاخْتِيَارِ لَا يَثْبُتُ مَعَ الْهَزْلِ كَمَا سَيَأْتِيك بَيَانُهُ. وَذَلِكَ أَيْ تَخْرِيجُ الْأَحْكَامِ مَعَ الْهَزْلِ بِحَسَبِ انْقِسَامِهَا فِي الرِّضَاءِ عَلَى وُجُوهٍ فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ، مِثْلُ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ أَوْ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُهُ، مِثْلُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَهَذَا وَجْهٌ إنَّمَا جَعَلَهُمَا وَجْهًا لِيَصِيرَ الْجَمِيعُ أَرْبَعَةً إذْ أَكْثَرُ تَقَاسِيمِ الْكِتَابِ عَلَيْهَا. الْمُوَاضَعَةُ الْمُوَافَقَةُ يُقَالُ وَاضَعْته فِي الْأَمْرِ إذَا وَافَقْته عَلَيْهِ وَالتَّوَاضُعُ هَاهُنَا بِمَعْنَى التَّوَافُقِ عَلَى الشَّيْءِ فَانْعَقَدَ الْعَقْدُ فَاسِدًا غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْمِلْكِ وَإِنْ حَصَلَ الْقَبْضُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْفَسَادُ فِي الْبَيْعِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ يُوجِبُ الْمِلْكَ عِنْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْهَزْلَ أُلْحِقَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ فَفِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ كَخِيَارِ الْمُتَبَايِعَيْنِ مَعًا يَعْنِي إذَا شُرِطَ الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي الْعَقْدِ لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ خِيَارَ كُلِّ وَاحِدٍ يَمْنَعُ زَوَالَ مِلْكِهِ عَمَّا فِي يَدِهِ فَكَذَا الْهَزْلُ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا اتَّفَقَا عَلَيْهِ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَازِلًا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لَهُمَا عَلَى احْتِمَالِ الْجَوَازِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ انْعَقَدَ فَاسِدًا فَإِنْ نَقَضَ الْعَقْدَ أَحَدُهُمَا يَعْنِي فِي مَسْأَلَةِ الْهَزْلِ انْتَقَضَتْ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةَ النَّقْضِ فَيَنْفَرِدُ بِهِ وَإِنْ أَجَازَاهُ جَازَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ إنَّمَا لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا حُكْمَهُ لِعَدَمِ اخْتِيَارِهِمَا لِلْحُكْمِ وَقَدْ اخْتَارَ ذَلِكَ بِالْإِجَازَةِ وَإِنْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا وَسَكَتَ الْآخَرُ لَمْ يَجُزْ عَلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الْهَزْلَ لَمَّا كَانَ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لَهُمَا كَانَ الْمُخَيَّرُ مُسْقِطًا خِيَارَهُ وَلَكِنَّ خِيَارَ الْآخَرِ يَكْفِي فِي الْمَنْعِ مِنْ جَوَازِ الْعَقْدِ فَإِنْ أَجَازَ صَاحِبُهُ بَعْدُ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ أَسْقَطَا خِيَارَهُمَا. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ أَنْ يَكُونَ وَقْتَ الْإِجَازَةِ مُقَدَّرًا بِالثَّلَاثِ حَتَّى لَوْ أَجَازَاهُ فِي الثَّلَاثِ صَحَّ الْعَقْدُ بَعْدَهُ لَمْ يَصِحَّ كَمَا فِي الْخِيَارِ الْمُؤَبَّدِ لَوْ أَسْقَطَاهُ فِي الثُّلُثِ يَصِحُّ لِتَقَرُّرِ الْفَسَادِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ كَذَا هَاهُنَا وَلِهَذَا أَيْ وَلِأَنَّ الْهَزْلَ بِمَنْزِلَةِ خِيَارِ الْمُتَبَايِعَيْنِ لَمْ يَقَعْ الْمِلْكُ بِهَذَا الْبَيْعِ هَزْلًا وَإِنْ اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ عَبْدًا فَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي وَأَعْتَقَهُ لَا يَنْفُذُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ غَيْرُ ثَابِتٍ لِعَدَمِ اخْتِيَارِهِمَا لِلْحُكْمِ بِالْقَصْدِ إلَى الْهَزْلِ فَيَتَوَقَّفُ الْحُكْمُ عَلَى اخْتِيَارِهِمَا لَهُ فَقَبْلَ الِاخْتِيَارِ لَا مِلْكَ لِلْمُشْتَرِي فَلَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُكْرَهِ مُخْتَارًا لِلْحُكْمِ غَيْرَ رَاضٍ بِهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْجَدِّ مِنْ الْكَلَامِ وَإِنَّمَا أُكْرِهَ عَلَى الْجَدِّ وَأَجَابَ إلَى ذَلِكَ فَلِهَذَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ بَعْدَ الْقَبْضِ حَتَّى لَوْ كَانَ أُكْرِهَ عَلَى بَيْعِ تَلْجِئَةٍ فَبَاعَهُ لَمْ يَجُزْ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي فِيهِ أَيْضًا وَدَلَالَةُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَيْ الدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْهَزْلَ لَا يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ وَلَا الِاخْتِيَارَ وَالرِّضَاءَ

وَأَمَّا إذَا اتَّفَقَا عَلَى الْإِعْرَاضِ فَإِنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ وَقَدْ بَطَلَ الْهَزْلُ بِإِعْرَاضِهِمَا عَنْ الْمُوَاضَعَةِ وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْهُمَا شَيْءٌ أَوْ اخْتَلَفَا فِي الْبِنَاءِ وَالْإِعْرَاضِ فَإِنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْحَالَيْنِ فَجَعَلَ صِحَّةَ الْإِيجَابِ أَوْلَى إذَا سَكَتَا، وَكَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا سَكَتَا وَاتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْهُمَا شَيْءٌ فَإِنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ وَإِنْ اخْتَلَفَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْبِنَاءَ فَاعْتَبَرَ الْمُوَاضَعَةَ وَأَوْجَبَ الْعَمَلَ بِهَا إلَّا أَنْ يُوجَدَ النَّصُّ عَلَى مَا يَنْقُضُهَا كَذَلِكَ حَكَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَوْلُهُ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ لَكِنَّهُ قَالَ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا أَعْلَمُ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا أَعْلَمُ لَيْسَ بِشَكٍّ فِي الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مَنْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فِيمَا أَعْلَمُ أَنَّهُ لَازِمٌ وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ هَذَا بِقَوْلِ الشَّاهِدِ عِنْدَ الْقَاضِي أَشْهَد أَنَّ لِهَذَا عَلَى هَذَا أَلْفَ دِرْهَمٍ فِيمَا أَعْلَمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ فَلَمْ يَثْبُتْ الِاخْتِلَافُ. وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ وَقَوْلُهُ فِيمَا أَعْلَمُ مُلْحَقٌ بِرِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ لَا بِفَتْوَى أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْعَقْدُ الْمَشْرُوعُ لِإِيجَابِ حُكْمِهِ فِي الظَّاهِرِ جِدٌّ؛ لِأَنَّ الْهَزْلَ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِهِ نَصًّا ـــــــــــــــــــــــــــــQبِمُبَاشَرَةِ السَّبَبِ أَنَّ الْهَزْلَ لَا يُؤَثِّرُ فِي النِّكَاحِ بِالنِّسْبَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْيَمِينُ» فَعُلِمَ بِهِ أَيْ بِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ فِي النِّكَاحِ أَنَّهُ لَا يُنَافِي الْإِيجَابَ أَيْ السَّبَبَ إذْ لَوْ كَانَ مُنَافِيًا لِنَفْسِ الْكَلَامِ وَانْعِقَادِهِ سَبَبًا لَمَا صَحَّ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِالْكَلَامِ الْفَاسِدِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِعِبَارَةِ الْمَجْنُونِ لِفَسَادِهَا فَعُلِمَ أَنَّ كَلَامَ الْهَازِلِ صَحِيحٌ فِي انْعِقَادِهِ سَبَبًا. قَوْلُهُ (وَأَمَّا إذَا اتَّفَقَا عَلَى الْإِعْرَاضِ) عَنْ الْمُوَاضَعَةِ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ لَازِمٌ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمُوَاضَعَةَ لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً فَتَرْتَفِعُ بِمَا قَصَدَا مِنْ الْجِدِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَقْدَ بَعْدَ الْعَقْدِ يَكُونُ نَاسِخًا لِلْعَقْدِ الْأَوَّلِ فَالْعَقْدُ بَعْدَ الْمُوَاضَعَةِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لَهَا وَإِنْ اتَّفَقَا أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْهُمَا شَيْءٌ عِنْدَ الْعَقْدِ أَوْ اخْتَلَفَا فِي الْبِنَاءِ وَالْإِعْرَاضِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا بَنَيْنَا عَلَى تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ وَقَالَ الْآخَرُ بَلْ أَعْرَضْنَا عَنْهَا فَإِنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْحَالَيْنِ أَيْ فِيمَا إذَا لَمْ يَحْضُرْهُمَا شَيْءٌ وَفِيمَا إذَا اخْتَلَفَا فَإِنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ أَيْ فَاسِدٌ إلَّا أَنْ يُوجَدَ النَّصُّ عَلَى مَا يَنْقُضُهَا وَهُوَ اتِّفَاقُهُمَا عَلَى الْإِعْرَاضِ كَذَلِكَ أَيْ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ قَوْلُهُ أَيْ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ لَكِنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِيمَا أَعْلَمُ يَعْنِي ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ لَفْظَةَ فِيمَا أَعْلَمُ حِينَ رَوَى قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ شَكًّا فِي الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مَنْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فِيمَا أَعْلَمُ أَنَّهُ لَازِمٌ؛ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ وَاجِبٍ عَلَيْهِ وَالْإِنْسَانُ يَعْرِفُ حَقِيقَةَ الْحَالِ فِيمَا عَلَيْهِ فَكَانَ قَوْلُهُ فِيمَا أَعْلَمُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ فِيمَا أَتَيَقَّنُ بِهِ وَكَانَ الْإِخْبَارُ عَنْ نَفْسِهِ بِالْعِلْمِ مُؤَكِّدًا لِإِقْرَارِهِ لَا مُبْطِلًا لَهُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا يَكُونُ قَوْلُهُ فِيمَا أَعْلَمُ تَأْكِيدًا لِلرِّوَايَةِ أَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ تَحَقُّقٍ لَا تَشْكِيكًا فَيَكُونُ الْخِلَافُ ثَابِتًا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَمِنْهُمْ أَيْ وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ اعْتَبَرَ هَذَا أَيْ قَوْلَهُ فِيمَا أَعْلَمُ هَاهُنَا بِقَوْلِ الشَّاهِدِ أَشْهَدُ أَنَّ لِهَذَا عَلَى هَذَا أَلْفَ دِرْهَمٍ فِيمَا أَعْلَمُ أَنَّهُ أَيْ قَوْلُ الشَّاهِدِ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فِيمَا أَعْلَمُ اسْتِثْنَاءٌ لِيَقِينِهِ وَبَيَانٌ لَشَكَّهُ بِمَنْزِلَةِ فِيمَا أَحْسَبُ أَوْ أَظُنُّ فَكَذَا هَاهُنَا يَكُونُ قَوْلُهُ فِيمَا أَعْلَمُ تَشْكِيكًا؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ الْغَيْرِ كَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَثْبُتْ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ مَا رُوِيَ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ لِلشَّكِّ وَالْأَصْلُ هُوَ الْمُوَافَقَةُ لَمْ يَثْبُتْ الِاخْتِلَافُ فَيَكُونُ الْبَيْعُ فَاسِدًا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ. وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ هَاهُنَا لِلتَّحْقِيقِ لَا لِلتَّشْكِيكِ فَكَانَ الِاخْتِلَافُ ثَابِتًا؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّى رَوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مُطْلَقًا أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ قَوْلِهِ هَاهُنَا فِيمَا أَعْلَمُ بِمَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِهِ بِمَسْأَلَةِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ مَحْضٌ عَمَّا كَانَ ثَابِتًا فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي وَلَمْ يُشْتَرَطْ لِصِحَّتِهِ زِيَادَةُ تَوْكِيدٍ وَالرِّوَايَةُ مِثْلُهُ فَتَلْحَقُ بِهِ فَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَفِيهَا مَعْنَى الْإِلْزَامِ وَيُشْتَرَطُ فِيهَا زِيَادَةُ تَوْكِيدٍ حَتَّى اخْتَصَّتْ بِلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُعَايَنَةِ وَحُضُورِ الْحَادِثَةِ وَلَا تَتَأَدَّى بِلَفْظَةِ أَعْلَمُ أَوْ أَتَيَقَّنُ فَكَانَ قَوْلُ الشَّاهِدِ فِيمَا أَعْلَمُ مُوهِمًا لِلشَّكِّ فِي الشَّهَادَةِ فَلِذَلِكَ تُرَدُّ الشَّهَادَةُ كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ وَقَوْلُهُ فِيمَا أَعْلَمُ مُلْحَقٌ بِرِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ لَا بِفَتْوَى أَبِي حَنِيفَةَ رَدٌّ لِمَا زَعَمَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ مُلْحَقٌ بِجَوَابِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا بِكَلَامِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ حَتَّى قَالَ الْإِمَامُ خُوَاهَرْ زَادَهْ - رَحِمَهُ اللَّهُ -

فَهُوَ أَوْلَى بِالتَّحْقِيقِ مِنْ الْمُوَاضَعَةِ وَهُمَا اُعْتُبِرَا لِعَادَةٍ وَهُوَ تَحْقِيقُ الْمُوَاضَعَةِ مَا أَمْكَنَ. أَلَا تَرَى أَنَّهَا أَسْبَقُ الْأَمْرَيْنِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْآخَرُ نَاسِخٌ وَأَمَّا إذَا اتَّفَقَا عَلَى الْجِدِّ فِي الْعَقْدِ لَكِنَّهُمَا تَوَاضَعَا عَلَى الْبَيْعِ بِأَلْفَيْنِ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا هَزْلٌ وَتَلْجِئَةٌ فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْإِعْرَاضِ كَانَ الثَّمَنُ بِالْيَقِينِ وَإِنْ اتَّفَقَا أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْهُمَا شَيْءٌ أَوْ اخْتَلَفَا فَالْهَزْلُ بَاطِلٌ وَالتَّسْمِيَةُ صَحِيحَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا الْعَمَلُ بِالْمُوَاضَعَةِ وَاجِبٌ وَالْأَلْفُ الَّذِي هَزَلَا بِهِ بَاطِلٌ لِمَا ذُكِرَ مِنْ الْأَصْلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ الْبَيْعُ جَائِزٌ فِيمَا أَعْلَمُ. وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا يَعْلَمُهُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَا الْبَيْعُ فَاسِدٌ فَأُلْحِقَ قَوْلُهُ فِيمَا أَعْلَمُ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُلْحَقًا بِقَوْلِهِ لَا يَكُونُ الِاخْتِلَافُ ثَابِتًا؛ لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ قَوْلَهُ فِيمَا أَعْلَمُ مُوجِبٌ لِلشَّكِّ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ فَلَا يَثْبُتُ قَوْلُهُ مَعَ التَّرَدُّدِ وَالشَّكِّ. كَمَا لَوْ قَالَ أَنَا أَشُكُّ فِي جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلَا يَثْبُتُ الِاخْتِلَافُ وَغَرَضُ الشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إثْبَاتُ الِاخْتِلَافِ فَقَالَ هُوَ مُلْحَقٌ بِرِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ عِنْدَهُ هَذَا اللَّفْظَ لَا يُوجِبُ شَكًّا فِي الرِّوَايَةِ فَيَكُونُ الِاخْتِلَافُ ثَابِتًا فَصَارَ كَأَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ إنْ فِيمَا أَتَيَقَّنُ وَأَعْلَمُ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ الصِّحَّةُ وَاللُّزُومُ وَإِنَّمَا يَتَغَيَّرُ لِعَارِضٍ فَمَنْ ادَّعَى عَدَمَ الْبِنَاءِ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ فَهُوَ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَكَانَ دَعْوَى الْآخَرِ الْبِنَاءَ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ كَدَعْوَاهُ خِيَارَ الشَّرْطِ فَلَا يُقْبَلُ يُوَضِّحُهُ أَنَّ تِلْكَ الْمُوَاضَعَةَ لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً بَلْ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِإِبْطَالِهَا فَإِعْرَاضُ أَحَدِهِمَا عَنْ تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ كَإِعْرَاضِهِمَا وَإِذَا بَطَلَتْ الْمُوَاضَعَةُ بَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا ثُمَّ اخْتِلَافُهُمَا فِي بِنَاءِ الْعَقْدِ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِهِمَا فِي أَصْلِ الْمُوَاضَعَةِ وَلَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْمُوَاضَعَةَ السَّابِقَةَ وَجَحَدَهُ الْآخَرُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ وَكَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ لِلْآخَرِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمَا فَكَذَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الْبِنَاءِ عَلَيْهَا. وَفِيمَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْهُمَا شَيْءٌ إنَّمَا صَحَّ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَهُ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ وَالْمُوَاضَعَةَ السَّابِقَةَ لَمْ تُذْكَرْ فِي الْعَقْدِ فَلَا تَكُونُ مُؤَثِّرَةً فِيهِ. كَمَا لَوْ تَوَاضَعَا عَلَى شَرْطِ خِيَارٍ أَوْ أَجَلٍ وَلَمْ يَذْكُرَا ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ لَمْ يَثْبُتْ الْخِيَارُ وَالْأَجَلُ فَهَذَا مِثْلُهُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ الْعَقْدُ الْمَشْرُوعُ لِإِيجَابِ حُكْمِهِ فِي الظَّاهِرِ جِدٌّ أَيْ الْعَقْدُ شُرِعَ لِإِيجَابِ حُكْمِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ جِدٌّ هَاهُنَا لِعَدَمِ اتِّصَالِ الْهَزْلِ بِهِ نَصًّا فَهُوَ أَيْ الْجِدُّ أَوْلَى بِالتَّحْقِيقِ لِكَوْنِهِ أَصْلًا مِنْ الْمُوَاضَعَةِ الَّتِي هِيَ عَارِضَةٌ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لِمَنْ يَدَّعِي الْبِنَاءَ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ؛ لِأَنَّهُمَا مَا تَوَاضَعَا إلَّا لِيَبْنِيَا عَلَيْهِ صَوْنًا لِلْمَالِ عَنْ يَدِ الْمُتَغَلِّبِ فَيَكُونُ فِعْلُهُمَا بِنَاءً عَلَى تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ خِلَافُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُجْعَلْ بِنَاءً عَلَيْهَا كَانَ اشْتِغَالُهُمَا بِهَا اشْتِغَالًا بِمَا لَا يُفِيدُ وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ الصِّحَّةُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ هَذَا الظَّاهِرُ مُعَارِضًا لَهُ فَتَرَجَّحَ السَّابِقُ مِنْهُمَا إذْ السَّبَقُ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حَالَةَ الْهَزْلِ لَمْ يُعَارِضْهَا شَيْءٌ فَثَبَتَ حُكْمُهُ بِلَا مُعَارِضٍ وَالسُّكُوتُ فِي حَالَةِ الْعَقْدِ أَوْ الِاخْتِلَافِ فِي الْبِنَاءِ وَالْإِعْرَاضِ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَرِّضٍ لِلْجِدِّ وَلَا لِلْهَزْلِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالسَّابِقِ. وَالْجَوَابُ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْآخَرَ يَصْلُحُ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ إذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ مَا يُوجِبُ تَغَيُّرَهُ نَصًّا؛ لِأَنَّ الْجِدَّ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ شَرْعًا وَعَقْلًا وَكَمَا يَجِبُ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ تَسْبِقْهُ مُوَاضَعَةٌ عَلَى الْهَزْلِ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ إذَا سَبَقَهُ مُوَاضَعَةٌ إنْ أَمْكَنَ عَمَلًا بِالْأَصْلِ وَقَدْ أَمْكَنَ هَاهُنَا لِخُلُوِّهِ عَنْ الْهَزْلِ نَصًّا وَعَدَمِ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْبِنَاءِ عَلَى الْهَزْلِ فَيُحْمَلُ

وَأَمَّا إذَا اتَّفَقَا عَلَى الْبِنَاءِ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ فَإِنَّ الثَّمَنَ أَلْفَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُمَا جَدَّا فِي الْعَقْدِ، وَالْعَمَلُ بِالْمُوَاضَعَةِ يَجْعَلُهُ شَرْطًا فَاسِدًا فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ فَكَانَ الْعَمَلُ بِالْأَصْلِ عِنْدَ التَّعَارُضِ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِالْوَصْفِ أَعْنِي تَعَارُضَ الْمُوَاضَعَةِ فِي الْبَدَلِ وَالْمُوَاضَعَةِ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ بِخِلَافِ تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي رِوَايَتِهِ فِيمَا أَعْلَمُ كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا إذَا تَوَاضَعَا عَلَى الْبَيْعِ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَأَنَّ ذَلِكَ تَلْجِئَةٌ وَإِنَّمَا الثَّمَنُ كَذَا كَذَا دِرْهَمًا فَإِنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ هَا هُنَا فَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْهَزْلِ فِي الْقَدْرِ قَالَا؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْمُوَاضَعَتَيْنِ مُمْكِنٌ ثَمَّةَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ بِأَحَدِ الْأَلْفَيْنِ، وَالْهَزْلُ بِالْأَلْفِ الْأُخْرَى شَرْطٌ لَا طَالِبَ لَهُ فَلَا يَفْسُدُ الْبَيْعُ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَيْهِ وَيُجْعَلُ نَاسِخًا لِلْمُوَاضَعَةِ السَّابِقَةِ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ. بِخِلَافِ مَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى الْبِنَاءِ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ لِوُجُودِ التَّصْرِيحِ بِالْعَمَلِ بِخِلَافِ مُوجِبِ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ فَلَا يُمْكِنُ الْحَمْلُ عَلَى الصِّحَّةِ وَالتَّسْمِيَةُ صَحِيحَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَتَّى يَنْعَقِدَ الْبَيْعُ بِأَلْفَيْنِ عِنْدَهُ وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بِأَلْفٍ وَالْأَلْفُ الَّذِي هَزَلَا بِهِ بَاطِلٌ وَهُوَ قَوْلُهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَصْلِ يَعْنِي مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَإِنَّ عِنْدَهُ الْأَصْلَ هُوَ الْجِدُّ وَالْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى مَا أَمْكَنَ وَعِنْدَهُمَا الْأَصْلُ هُوَ الْمُوَاضَعَةُ فَكَانَ الْعَمَلُ بِهَا أَحَقَّ عِنْدَ الْإِمْكَانِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا إذَا اتَّفَقَا عَلَى الْبِنَاءِ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ فَإِنَّ الثَّمَنَ أَلْفَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) أَيْضًا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَهِيَ رِوَايَةُ كِتَابِ الْإِقْرَارِ وَهِيَ الْأَصَحُّ وَعِنْدَهُمَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَهُوَ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ فِي الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُمَا قَصَدَا السُّمْعَةَ بِذِكْرِ أَحَدِ الْأَلْفَيْنِ وَلَا حَاجَةَ فِي تَصْحِيحِ الْعَقْدِ إلَى اعْتِبَارِ تَسْمِيَتِهِمَا الْأَلْفَ الَّذِي هَزَلَا بِهِ فَكَانَ ذِكْرُهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ سَوَاءٌ كَمَا فِي النِّكَاحِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُوَاضَعَةَ السَّابِقَةَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ إذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهَا وَقَدْ وُجِدَ هَاهُنَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمَا جَدَّا فِي أَصْلِ الْعَقْدِ وَقَصَدَا بَيْعًا جَائِزًا وَلَوْ اُعْتُبِرَتْ الْمُوَاضَعَةُ فِي الْبَدَلِ لَصَارَ الْعَقْدُ فَاسِدًا؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْأَلْفَيْنِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْعَقْدِ فَيَصِيرُ قَبُولُ الْعَقْدِ فِيهِ شَرْطًا لِانْعِقَادِ الْبَيْعِ بِأَلْفٍ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ بِعْتُك بِأَلْفَيْنِ عَلَى أَنْ لَا يَجِبَ أَحَدُ الْأَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْهَزْلِ فِي مَنْعِ الْوُجُوبِ لَا فِي الْإِخْرَاجِ بَعْدَ الْوُجُوبِ بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ الْخِيَارِ وَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ وَفِيهِ نَفْعٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ لَهُمَا فَيَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ كَمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ فِي الْبَيْعِ وَفَصَّلَ الثَّمَنَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْ الْعَمَلُ بِمَا قَصَدَا مِنْ تَصْحِيحِ الْعَقْدِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْمُوَاضَعَةِ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ مَعَ الْعَمَلِ بِالْمُوَاضَعَةِ فِي الْبَدَلِ لِانْدِفَاعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُوَاضَعَتَيْنِ بِالْأُخْرَى فَكَانَ الْعَمَلُ بِالْمُوَاضَعَةِ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ وَهِيَ أَنْ يَنْعَقِدَ الْبَيْعُ صَحِيحًا عِنْدَ تَعَارُضِ الْمُوَاضَعَتَيْنِ أَوَّلًا مِنْ الْعَمَلِ بِالْمُوَاضَعَةِ فِي الْوَصْفِ وَهِيَ أَنْ لَا يَجِبَ الْأَلْفُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ تَابِعٌ وَالْأَصْلُ مَتْبُوعٌ فَكَانَ هُوَ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ الْوَصْفِ وَدَلِيلُ كَوْنِ الثَّمَنِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصْفِ قَدْ مَرَّ فِي بَابِ النَّهْيِ وَإِذَا كَانَ الْعَمَلُ بِالْأَصْلِ أَوْلَى وَجَبَ اعْتِبَارُ التَّسْمِيَةِ فَكَانَ الثَّمَنُ أَلْفَيْنِ بِخِلَافِ تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ يَعْنِي الْمُوَاضَعَةَ عَلَى الْهَزْلِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ إذَا اتَّفَقَا عَلَى الْبِنَاءِ حَيْثُ الْعَمَلُ بِهَا بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ هُنَاكَ مُعَارِضٌ يَمْنَعُ عَنْ الْعَمَلِ بِهَا، وَقَدْ وُجِدَ الْمُعَارِضُ هَاهُنَا وَهُوَ قَصْدُهُمَا إلَى تَصْحِيحِ الْعَقْدِ فَلِذَلِكَ سَقَطَ الْعَمَلُ بِهَا وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا الْفَصْلِ أَيْ فِي الْهَزْلِ بِقَدْرِ الْبَدَلِ فِي رِوَايَتِهِ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا أَعْلَمُ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْهَزْلُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَلَكِنَّ الْمُعَلَّى رَوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَوْلَهُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ فَيَحْتَمِلُ قَوْلَهُ فِيمَا أَعْلَمُ عَلَى التَّحْقِيقِ لَا عَلَى التَّشْكِيكِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا إذَا تَوَاضَعَا عَلَى الْبَيْعِ بِمِائَةِ دِينَارٍ) عَلَى أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَإِنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ بِالْمُسَمَّى بِالِاتِّفَاقِ عَلَى كُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ اتَّفَقَا عَلَى الْإِعْرَاضِ أَوْ عَلَى الْبِنَاءِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْهُمَا شَيْءٌ أَوْ اخْتَلَفَا وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَفِي الْقِيَاسِ الْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُمَا قَصَدَا الْهَزْلَ بِمَا سَمَّيَا

فَأَمَّا هَا هُنَا فَإِنَّ الْعَمَلَ بِالْمُوَاضَعَةِ فِي الْعَقْدِ مَعَ الْمُوَاضَعَةِ بِالْهَزْلِ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ لِغَيْرِ ثَمَنٍ فَصَارَ الْعَمَلُ بِالْمُوَاضَعَةِ فِي الْعَقْدِ أَوْلَى. وَأَمَّا مَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مَا لَا مَالَ فِيهِ وَمَا كَانَ الْمَالُ فِيهِ تَبَعًا وَمَا كَانَ الْمَالُ فِيهِ مَقْصُودًا أَمَّا الَّذِي لَا مَالَ فِيهِ هُوَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ وَالْيَمِينِ وَالنَّذْرِ وَذَلِكَ كُلُّهُ صَحِيحٌ وَالْهَزْلُ بَاطِلٌ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْيَمِينُ» وَلِأَنَّ الْهَازِلَ مُخْتَارٌ لِلسَّبَبِ رَاضٍ بِهِ دُونَ حُكْمِهِ وَحُكْمُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ وَالتَّرَاخِي، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ خِيَارَ الشَّرْطِ. وَأَمَّا الَّذِي يَكُونُ الْمَالُ تَبَعًا مِثْلَ النِّكَاحِ فَعَلَى أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَهْزِلَا بِأَصْلِهِ أَوْ بِقَدْرِ الْبَدَلِ أَوْ بِجِنْسِهِ أَمَّا الْهَزْلُ بِأَصْلِهِ فَبَاطِلٌ وَالْعَقْدُ لَازِمٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَلَمْ يَذْكُرَا فِي الْعَقْدِ مَا قَصَدَا أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا وَلَا يُكْتَفَى بِالذِّكْرِ قَبْلَ الْعَقْدِ بَلْ يُشْتَرَطُ ذِكْرُ الْبَدَلِ فِيهِ فَبَقِيَ الْبَيْعُ بِلَا ثَمَنٍ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الْبَدَلِ وَهُمَا قَصَدَا الْجِدَّ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ هَاهُنَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْحِيحِهِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَنْعَقِدَ الْبَيْعُ بِمَا سَمَّيَا مِنْ الْبَدَلِ يُوَضِّحُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُعَاقَدَةَ بَعْدَ الْمُعَاقَدَةِ فِي الْبَيْعِ إبْطَالٌ لِلْعَقْدِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُمَا لَوْ تَبَايَعَا بِمِائَةِ دِينَارٍ ثُمَّ تَبَايَعَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ كَانَ الْبَيْعُ الثَّانِي مُبْطِلًا لِلْأَوَّلِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بَعْدَ الْمُوَاضَعَةِ بِخِلَافِ جِنْسِ مَا تَوَاضَعَا عَلَيْهِ مُبْطِلًا لِلْمُوَاضَعَةِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ فَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بَيْنَ هَذَا أَيْ بَيْنَ الْهَزْلِ فِي جِنْسِ الْبَدَلِ وَبَيْنَ الْهَزْلِ فِي قَدْرِهِ وَقَالَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ هُنَاكَ بِالْأَلْفِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْمُوَاضَعَتَيْنِ وَهُمَا الْمُوَاضَعَةُ عَلَى صِحَّةِ أَصْلِ الْعَقْدِ وَالْمُوَاضَعَةُ عَلَى الْهَزْلِ فِي مِقْدَارِ الْبَدَلِ مُمْكِنٌ بِأَنْ يُجْعَلَ الْعَقْدُ مُنْعَقِدًا بِأَلْفٍ وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى أَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ فِي الْأَلْفَيْنِ مَوْجُودٌ وَالْهَزْلُ بِالْأَلْفِ الْآخَرِ شَرْطٌ لَا طَالِبَ لَهُ؛ لِأَنَّهُمَا وَإِنْ ذَكَرَاهُ فِي الْعَقْدِ لَا يَطْلُبُهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى أَنَّهُ هَزْلٌ وَلَيْسَ لِغَيْرِهِمَا وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ وَكُلُّ شَرْطٍ لَا طَالِبَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ لَا يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ كَمَا إذَا اشْتَرَى فَرَسًا عَلَى أَنْ يَعْلِفَهُ كُلَّ يَوْمٍ كَذَا مَنًا مِنْ الشَّعِيرِ أَوْ اشْتَرَى حِمَارًا عَلَى أَنْ لَا يُحْمَلَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ كَذَا مَنًا مِنْ الْحِنْطَةِ لَا يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ كَذَا هُنَا. وَهُوَ جَوَابٌ عَنْ كَلَامِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِأَلْفٍ وَيَبْطُلُ الْآخَرُ فَأَمَّا هَاهُنَا أَيْ فِي الْهَزْلِ بِجِنْسِ الْبَدَلِ فَالْعَمَلُ بِالْمُوَاضَعَةِ فِي الْعَقْدِ وَهِيَ أَنْ يَقَعَ الْعَقْدُ صَحِيحًا مَعَ الْمُوَاضَعَةِ بِالْهَزْلِ أَيْ مَعَ الْعَمَلِ بِهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ لِمَا ذُكِرَ فَصَارَ الْعَمَلُ بِالْمُوَاضَعَةِ فِي الْعَقْدِ وَهِيَ أَنْ يَنْعَقِدَ صَحِيحًا أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ أَصْلٌ وَالثَّمَنَ تَبَعٌ وَلَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهَا إلَّا بِاعْتِبَارِ التَّسْمِيَةِ فَلِذَلِكَ انْعَقَدَ الْبَيْعُ عَلَى الدَّنَانِيرِ الْمُسَمَّاةِ لَا عَلَى الدَّرَاهِمِ. قَوْلُهُ (أَمَّا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ) أَيْ لَا يَجْرِي فِيهِ الْفَسْخُ وَالْإِقَالَةُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَكَذَا لَا مَالَ فِيهِ أَصْلًا أَيْ لَا يَثْبُتُ الْمَالُ فِيهِ بِدُونِ الشَّرْطِ وَالذِّكْرِ وَلَمْ يُذْكَرْ أَيْضًا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ» الْحَدِيثُ فَفِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ الْحُكْمُ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَفِي الْبَاقِي ثَابِتٌ بِالدَّلَالَةِ لَا بِالْقِيَاسِ كَذَا قِيلَ وَحُكْمُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ أَيْ الْعِلَلِ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ وَالتَّرَاخِيَ أَيْ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ بِالْإِقَالَةِ وَالْفَسْخِ وَلَا التَّرَاخِي بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَبِالتَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ لَا يُؤَثِّرُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بَلْ يَبْطُلُ وَالتَّعْلِيقُ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ يُؤَخِّرُ السَّبَبَ بِحُكْمِهِ إلَى حِينِ وُجُودِ الشَّرْطِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ الْمُضَافُ فَإِنَّهُ سَبَبٌ فِي الْحَالِ وَقَدْ تَرَاخَى حُكْمُهُ لِأَنَّا نَقُولُ الْمُرَادُ مِنْ الْأَسْبَابِ الْعِلَلُ، وَالطَّلَاقُ الْمُضَافُ سَبَبٌ مُفْضٍ إلَى الْوُقُوعِ وَلَيْسَ بِعِلَّةٍ فِي الْحَالِ وَلِهَذَا لَا يَسْتَنِدُ حُكْمُهُ إلَى وَقْتِ الْإِيجَابِ وَلَوْ كَانَ عِلَّةً لَاسْتَنَدَ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ لَا تَقْبَلُ الْفَصْلَ عَنْ أَحْكَامِهَا فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهَا الْهَزْلُ كَمَا لَا يُؤَثِّرُ خِيَارُ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْهَزْلَ لَا يَمْنَعُ مِنْ انْعِقَادِ السَّبَبِ وَإِذَا انْعَقَدَ وُجِدَ حُكْمُهُ لَا مَحَالَةَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ الرَّدَّ وَالْفَسْخَ، وَحُكْمُهُ يَقْبَلُ التَّرَاخِيَ عَنْهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَلَا جَرَمَ أَثَّرَ فِيهِ الْهَزْلُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَيْ هَذَا النَّوْعَ. قَوْلُهُ (أَمَّا الْهَزْلُ بِأَصْلِهِ فَبَاطِلٌ) وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَةٍ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَك بِأَلْفٍ تَزَوُّجًا

وَأَمَّا الْهَزْلُ بِالْقَدْرِ فِيهِ فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْإِعْرَاضِ فَإِنَّ الْمَهْرَ أَلْفَانِ وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْبِنَاءِ فَالْمَهْرُ أَلْفٌ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ يَفْسُدُ وَالنِّكَاحُ بِمِثْلِهِ لَا يَفْسُدُ وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْهُمَا شَيْءٌ أَوْ اخْتَلَفَا فَإِنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ بِأَلْفٍ بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ تَابِعٌ فِي هَذَا فَلَا يُجْعَلُ مَقْصُودًا بِالصِّحَّةِ وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْمَهْرَ أَلْفَانِ فَإِنَّ التَّسْمِيَةَ فِي الصِّحَّةِ مِثْلُ ابْتِدَاءِ الْبَيْعِ جَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْعَمَلَ بِصِحَّةِ الْإِيجَابِ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِصِحَّةِ الْمُوَاضَعَةِ فَكَذَلِكَ هَذَا وَهَذَا أَصَحُّ. وَأَمَّا إذَا تَوَاضَعَا عَلَى الدَّنَانِيرِ عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ فِي الْحَقِيقَةِ دَرَاهِمُ فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْإِعْرَاضِ فَالْمَهْرُ مَا سَمَّيَا وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْبِنَاءِ وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ بِالْإِجْمَاعِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الثَّمَنِ وَالنِّكَاحُ يَصِحُّ بِلَا تَسْمِيَةٍ وَإِنْ اتَّفَقَا أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْهُمَا شَيْءٌ أَوْ اخْتَلَفَا فَعَلَى شَيْءٍ أَوْ اخْتَلَفَا فَعَلَى رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ بِلَا خِلَافٍ وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجِبُ الْمُسَمَّى وَيَطْلُبُ الْمُوَاضَعَةَ ـــــــــــــــــــــــــــــQبَاطِلًا وَهَزْلًا وَوَافَقَتْهُ الْمَرْأَةُ وَوَلِيُّهَا عَلَى ذَلِكَ وَحَضَرَ الشُّهُودُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا كَانَ النِّكَاحُ لَازِمًا فِي الْقَضَاءِ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا سَمَّيَا مِنْ الْمَهْرِ لِلْحَدِيثِ وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْهَزْلَ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ تَمَامِهِ وَالنِّكَاحُ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِلْفَسْخِ وَلِهَذَا لَا يَجْرِي فِيهِ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ. وَأَمَّا الْهَزْلُ بِالْقَدْرِ فِيهِ أَيْ بِقَدْرِ الْبَدَلِ فِي النِّكَاحِ بِأَنْ يَقُولَ لِامْرَأَةٍ وَوَلِيِّهَا أَوْ قَالَ لِوَلِيِّهَا دُونَهَا إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَك أَوْ أَتَزَوَّجَ فُلَانَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَظْهَرَ فِي الْعَلَانِيَةِ أَلْفَيْنِ وَأَجَابَهُ الْوَلِيُّ أَوْ الْمَرْأَةُ إلَى ذَلِكَ فَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفَيْنِ عَلَانِيَةً كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا بِكُلِّ حَالٍ وَالْمَهْرُ أَلْفَانِ إنْ اتَّفَقَا عَلَى الْإِعْرَاضِ وَأَلْفٌ بِالِاتِّفَاقِ إنْ اتَّفَقَا عَلَى الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّهُمَا قَصَدَا الْهَزْلَ بِذِكْرِ أَحَدِ الْأَلْفَيْنِ وَالْمَالُ مَعَ الْهَزْلِ لَا يَجِبُ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذَا الْوَجْهِ حَيْثُ يَجِبُ تَمَامُ الْأَلْفَيْنِ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ أَحَدِ الْأَلْفَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْهَزْلِ بِمَنْزِلَةِ شَرْطٍ فَاسِدٍ وَالشَّرْطُ الْفَاسِدُ يُؤَثِّرُ فِي الْبَيْعِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِي النِّكَاحِ لَا فِي أَصْلِ الْعَقْدِ وَلَا فِي الصَّدَاقِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ بِأَلْفٍ بِخِلَافِ الْبَيْعِ حَيْثُ يَنْعَقِدُ بِأَلْفَيْنِ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ تَابِعٌ فِي النِّكَاحِ إذْ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ فِيهِ ثُبُوتُ الْحِلِّ فِي الْجَانِبَيْنِ الَّذِي بِهِ يَحْصُلُ التَّنَاسُلُ وَإِنَّمَا شُرِعَ الْمَالُ فِيهِ إظْهَارًا لِخَطَرِ الْمَحَلِّ لَا مَقْصُودًا وَلِهَذَا يَصِحُّ النِّكَاحُ بِدُونِ ذِكْرِ الْمَهْرِ وَيَتَحَمَّلُ فِيهِ مِنْ الْجَهَالَةِ مَا لَا يَتَحَمَّلُ فِي غَيْرِهِ. فَلَا يُجْعَلُ أَيْ الْمَهْرُ مَقْصُودًا بِالصِّحَّةِ أَيْ بِصِحَّةِ التَّسْمِيَةِ بِأَنْ يُرَجِّحَ جَانِبَ الْجِدِّ عَلَى الْهَزْلِ إذْ لَوْ اُعْتُبِرَتْ صِحَّةُ التَّسْمِيَةِ فِيهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَجُعِلَ الْمَهْرُ أَلْفَيْنِ لَصَارَ الْمَهْرُ بِنَفْسِهِ مَقْصُودًا بِالصِّحَّةِ إذْ أَصْلُ النِّكَاحِ صَحِيحٌ بِلَا شُبْهَةٍ لِعَدَمِ تَأْثِيرِ الْهَزْلِ فِيهِ وَلِعَدَمِ افْتِقَارِهِ فِي الصِّحَّةِ إلَى ذِكْرِ الْمَهْرِ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ مَقْصُودًا فِيهِ بِخِلَافِ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ مَقْصُودٌ فِيهِ بِالصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ رُكْنَيْ الْبَيْعِ وَلِهَذَا يَفْسُدُ الْبَيْعُ بِفَسَادِهِ وَجَهَالَتِهِ كَمَا يَفْسُدُ بِفَسَادِ الْمَبِيعِ وَجَهَالَتِهِ وَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ بِدُونِ ذِكْرِهِ وَإِذَا كَانَ مَقْصُودًا وَجَبَ تَصْحِيحُهُ بِتَرْجِيحِ جَانِبِ الْجِدِّ عَلَى الْهَزْلِ إذَا أَمْكَنَ وَلَا يُقَالُ الثَّمَنُ تَابِعٌ فِي الْبَيْعِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصْفِ عَلَى مَا مَرَّ لِأَنَّا نَقُولُ وَهُوَ تَابِعٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَبِيعِ فِي مَحَلِّيَّةِ الْبَيْعِ وَلَكِنَّهُ مَقْصُودٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَائِعِ إذْ لَا غَرَضَ لَهُ فِي الْبَيْعِ سِوَى حُصُولِ الثَّمَنِ وَلِهَذَا كَانَ أَحَدُ رُكْنَيْ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالِ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْمُبَادَلَةُ بِدُونِهِ إلَّا أَنَّهُ رُكْنٌ زَائِدٌ كَالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ مَعَ سَائِرِ الْأَرْكَانِ وَالْإِقْرَارِ مَعَ التَّصْدِيقِ فِي الْأَيْمَان فَأَمَّا الْمَهْرُ فِي النِّكَاحِ فَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ ثُبُوتُ الْحِلِّ فِي الْجَانِبَيْنِ كَمَا بَيَّنَّا فَلِذَلِكَ افْتَرَقَا. وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْمَهْرَ أَلْفَانِ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ كَمَا فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ فِي الصِّحَّةِ مِثْلُ ابْتِدَاءِ الْبَيْعِ أَيْ التَّسْمِيَةُ بِالْمَهْرِ فِي حُكْمِ الصِّحَّةِ وَافْتِقَارُهُ إلَيْهَا مِثْلُ ابْتِدَاءِ الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ إنَّ التَّسْمِيَةَ فِي النِّكَاحِ لَا تَثْبُتُ إلَّا قَصْدًا وَنَصًّا كَابْتِدَاءِ الْبَيْعِ لَا يَثْبُتُ إلَّا قَصْدًا وَنَصًّا وَكَذَا الْجَهَالَةُ الْفَاحِشَةُ تَمْنَعُ صِحَّتَهَا كَمَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ وَكَذَا الْهَزْلُ يُؤَثِّرُ فِيهَا بِالْإِفْسَادِ كَمَا يُؤَثِّرُ فِي ابْتِدَاءِ الْبَيْعِ وَفِي ابْتِدَاءِ الْبَيْعِ أَيْ فِيمَا هَزَلَا بِأَصْلِ الْبَيْعِ وَاتَّفَقَا أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْهُمَا شَيْءٌ أَوْ اخْتَلَفَا جَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْعَمَلَ بِصِحَّةِ الْإِيجَابِ فِي الصُّورَتَيْنِ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِالْمُوَاضَعَةِ تَرْجِيحًا لِلصِّحَّةِ عَلَى الْفَسَادِ

وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَأَمَّا الَّذِي يَكُونُ الْمَالُ فِيهِ مَقْصُودًا، مِثْلُ الْخُلْعِ وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ أَيْضًا فَإِنْ هَزَلَا بِأَصْلِهِ وَاتَّفَقَا عَلَى الْبِنَاءِ فَقَدْ ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ فِي الْخُلْعِ أَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ وَالْمَالَ لَازِمٌ وَهَذَا عِنْدَنَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ خِيَارِ الشَّرْطِ وَقَدْ نَصَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي خِيَارِ الشَّرْطِ فِي الْخُلْعِ فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ وَلَا يَجِبُ الْمَالُ حَتَّى تَشَاءَ الْمَرْأَةُ فَيَقَعَ الطَّلَاقُ وَيَجِبَ الْمَالُ لِمَا عُرِفَ ثَمَّةَ وَعِنْدَهُمَا الطَّلَاقُ وَاقِعٌ وَالْمَالُ وَاجِبٌ وَالْخِيَارُ بَاطِلٌ فَكَذَلِكَ هَذَا لَكِنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِالثَّلَاثِ فِي هَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَإِنْ هَزَلَا بِالْكُلِّ لَكِنَّهُمَا أَعْرَضَا عَنْ الْمُوَاضَعَةِ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَوَجَبَ الْمَالُ بِالْإِجْمَاعِ وَأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْإِعْرَاضَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ مُؤَثِّرًا فِي أَصْلِ الطَّلَاقِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَكَذَلِكَ هَذَا أَيْ فَكَالْبَيْعِ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّ الْهَزْلَ مُؤَثِّرٌ فِي تَسْمِيَتِهِ بِالْإِفْسَادِ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَهَذَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّ فِيهِ إهْدَارَ جَانِبِ الْهَزْلِ وَاعْتِبَارَ الْجِدِّ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ. قَوْلُهُ (وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْبِنَاءِ وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ) بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُمَا قَصَدَا الْهَزْلَ بِمَا سَمَّيَاهُ فِي الْعَقْدِ وَمَعَ الْهَزْلِ لَا يَجِبُ الْمَالُ وَمَا تَوَاضَعَا عَلَى أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا بَيْنَهُمَا لَمْ يَذْكُرَاهُ فِي الْعَقْدِ وَالْمُسَمَّى لَا يَثْبُتُ بِدُونِ التَّسْمِيَةِ فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَارَ كَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى غَيْرِ مَهْرٍ فَيَكُونُ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا بِخِلَافِ فَصْلِ الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ قَدْ سَمَّيَا مَا تَوَاضَعَا عَلَى أَنْ يَكُونَ مَهْرًا وَزِيَادَةً؛ لِأَنَّ فِي تَسْمِيَةِ الْأَلْفَيْنِ تَسْمِيَةَ الْأَلْفِ وَبِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الثَّمَنِ فَيَجِبُ الْإِعْرَاضُ عَنْ الْمُوَاضَعَةِ وَاعْتِبَارِ التَّسْمِيَةِ ضَرُورَةً وَالنِّكَاحُ يَصِحُّ بِلَا تَسْمِيَةٍ فَيُمْكِنُ الْعَمَلُ بِالْمُوَاضَعَةِ وَتُؤَثِّرُ فِي فَسَادِ التَّسْمِيَةِ. وَإِنْ اتَّفَقَا أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْهُمَا شَيْءٌ أَوْ اخْتَلَفَا فَعَلَى رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ تَابِعٌ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالْهَزْلِ لِئَلَّا يَصِيرَ مَقْصُودًا بِالصِّحَّةِ إذْ لَا حَاجَةَ لِانْعِقَادِ النِّكَاحِ إلَى صِحَّتِهِ كَمَا فِي الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَإِذَا وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْهَزْلِ بَطَلَتْ التَّسْمِيَةُ فَيَبْقَى النِّكَاحُ بِلَا تَسْمِيَةٍ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجِبُ الْمُسَمَّى وَبَطَلَتْ الْمُوَاضَعَةُ كَمَا فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ فِي حُكْمِ الصِّحَّةِ مِثْلُ ابْتِدَاءِ الْبَيْعِ إلَى آخِرِ مَا بَيَّنَّا. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الَّذِي يَكُونُ الْمَالُ فِيهِ مَقْصُودًا) إنَّمَا كَانَ الْمَالُ فِي هَذَا الْقَسَمِ مَقْصُودًا؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَجِبُ فِيهِ بِدُونِ الذِّكْرِ فَلَمَّا شَرْطَا الْمَالَ فِيهِ عُلِمَ أَنَّهُ فِيهِ مَقْصُودٌ فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ أَيْضًا يَعْنِي الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ الْمُنْقَسِمَةَ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ وَجْهًا فَإِنَّهُمَا إمَّا إنْ هَزَلَا بِأَصْلِ التَّصَرُّفِ أَوْ بِقَدْرِ الْبَدَلِ فِيهِ أَوْ بِجِنْسِهِ وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ فَإِنْ هَزَلَا بِأَصْلِهِ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى الَّذِي بَانَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ عَلَى مَالٍ أَوْ خَالَعَهَا بِطَرِيقِ الْهَزْلِ أَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ عَلَى وَجْهِ الْهَزْلِ أَوْ صَالَحَ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ هَازِلًا وَقَدْ تَوَاضَعَا قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ هَزْلٌ ثُمَّ اتَّفَقَا عَلَى الْبِنَاءِ فَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ فِي الْخُلْعِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ وَالْمَالُ لَازِمٌ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ. قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَهَذَا الْجَوَابُ عِنْدَنَا أَرَادَ بِهِ نَفْسِهِ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَالطَّلَاقُ لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّ الْهَزْلَ بِمَنْزِلَةِ خِيَارِ الشَّرْطِ لِمَا مَرَّ. وَقَدْ نَصَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَعْنِي فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إلَى آخِرِهِ فَقَدْ ذُكِرَ فِيهِ رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّك بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَقَالَتْ قَبِلْت إنْ رَدَّتْ الطَّلَاقَ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ بَطَلَ الطَّلَاقُ وَإِنْ اخْتَارَتْ الطَّلَاقَ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ أَوْ لَمْ تَرُدَّ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ وَالْأَلْفُ لَازِمٌ لِلزَّوْجِ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ وَالْمَالُ لَازِمٌ وَالْخِيَارُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ قَبُولَهَا شَرْطٌ لِلْيَمِينِ فَلَا يَحْتَمِلُ الْخِيَارَ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ جَانِبَهَا يُشْبِهُ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكُ مَالٍ بِعِوَضٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْبِدَايَةَ لَوْ كَانَتْ مِنْ جَانِبِهَا فَرَجَعَتْ قَبْلَ قَبُولِ الزَّوْجِ صَحَّ رُجُوعُهَا وَلَوْ قَامَتْ عَنْ مَجْلِسِهَا قَبْلَ قَبُولِ الزَّوْجِ بَطَلَ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَإِنَّمَا جُعِلَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي حَقِّ الزَّوْجِ فَأَمَّا فِي نَفْسِهِ فَهُوَ تَمْلِيكُ مَالٍ جُعِلَ شَرْطًا بِهَذَا الْوَصْفِ كَرَجُلٍ قَالَ لِآخَرَ إنْ بِعْتُك هَذَا الْعَبْدَ بِكَذَا

وَعِنْدَهُمَا هُوَ جَائِزٌ وَلَا يُفِيدُ الِاخْتِلَافُ وَإِنْ سَكَتَا وَلَمْ يَحْضُرْهُمَا شَيْءٌ فَهُوَ جَائِزٌ لَازِمٌ بِإِجْمَاعٍ. وَأَمَّا إذَا تَوَاضَعَا عَلَى الْهَزْلِ فِي بَعْضِ الْبَدَلِ فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْبِنَاءِ فَعِنْدَهُمَا الطَّلَاقُ وَاقِعٌ وَالْمَالُ كُلُّهُ لَازِمٌ؛ لِأَنَّهُمَا جَعَلَا الْمَالَ لَازِمًا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَعَبْدِي هَذَا الْآخَرُ حُرٌّ إنَّهُ مُعَلَّقٌ بِالْمُعَارَضَةِ فَكَذَلِكَ هَذَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ فِيهِ الْخِيَارُ فَإِذَا بَطَلَ بِحُكْمِ الْخِيَارِ بَطَلَ كَوْنُهُ شَرْطًا؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ شَرْطًا بِهَذَا الْوَصْفِ وَهُوَ أَنَّهُ تَمْلِيكُ مَالٍ كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ لِمَا عُرِفَ ثَمَّةَ أَيْ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ فِيهِ فَكَذَلِكَ هَذَا أَيْ مِثْلُ الْخِيَارِ الْهَزْلُ يَكُونُ عَلَى الِاخْتِلَافِ لَكِنَّهُ أَيْ لَكِنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِالثَّلَاثِ فِي الْخُلْعِ وَأَمْثَالِهِ عِنْدَهُ حَتَّى لَوْ اشْتَرَطَا الْخِيَارَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ جَازَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ فِي بَابِ الْخُلْعِ عَلَى وِفَاقِ الْقِيَاسِ إذْ الطَّلَاقُ مِنْ الْإِسْقَاطَاتِ وَتَعْلِيقُهَا بِالشُّرُوطِ جَائِزٌ مُطْلَقًا فَلَا يَجِبُ التَّقْدِيرُ بِمُدَّةٍ. أَمَّا الشَّرْطُ فِي الْبَيْعِ فَعَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْإِثْبَاتَاتِ وَتَعْلِيقُهَا بِالشُّرُوطِ لَا يَجُوزُ لَكِنَّهُ ثَبَتَ فِيهِ بِالنَّصِّ مُقَدَّرًا بِالثُّلُثِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُ هَذِهِ الْمُدَّةِ وَيَبْطُلُ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيمَا وَرَاءَ الثَّلَاثِ عَمَلًا بِالْقِيَاسِ كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ فَعَلَى هَذَا لَا يَبْطُلُ خِيَارُ الْمَرْأَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِمُضِيِّ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ الْهَزْلَ بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ الْخِيَارِ مُؤَبَّدًا فَيَكُونُ لَهَا خِيَارٌ ثَابِتٌ فِيمَا فَوْقَ الثَّلَاثِ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ لَهَا فِي الثَّلَاثِ فَكَانَ لَهَا وِلَايَةُ النَّقْضِ وَالْإِثْبَاتِ مَتَى شَاءَتْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا يَبْطُلُ الْهَزْلُ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ مُقَدَّرًا بِالثَّلَاثِ فِي الْخُلْعِ وَأَمْثَالِهِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ فِي جَانِبِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْمَالُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ لَا بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الطَّلَاقِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَتَقَدَّرَ بِالثَّلَاثِ كَمَا فِي حَقِيقَةِ الْبَيْعِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَالَ وَإِنْ كَانَ مَقْصُودًا فِيهِ بِالنَّظَرِ إلَى الْعَاقِدِ لَكِنَّهُ تَابِعٌ فِي الثُّبُوتِ لِلطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُ الْعَقْدِ كَمَالِ الثَّمَنِ تَابِعٌ فِي الْبَيْعِ وَبِالنَّظَرِ الْمَقْصُودِ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَتَقَدَّرَ بِالثَّلَاثِ كَمَا بَيَّنَّا وَإِنْ هَزَلَا بِالْكُلِّ أَيْ بِأَصْلِ التَّصَرُّفِ وَالْبَدَلِ جَمِيعًا لَكِنَّهُمَا أَعْرَضَا عَنْ الْمُوَاضَعَةِ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَوَجَبَ الْمَالُ بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ إذْ الْهَزْلُ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَوُجُوبِ الْمَالِ وَأَمَّا عِنْدَهُ فَكَذَلِكَ لِبُطْلَانِ الْهَزْلِ بِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَإِنْ اخْتَلَفَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْإِعْرَاضَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَتَّى لَزِمَ التَّصَرُّفُ وَوَجَبَ الْمَالُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْهَزْلَ مُؤَثِّرًا فِي أَصْلِ الطَّلَاقِ بِالْمَنْعِ مِنْ الْوُقُوعِ كَمَا جَعَلَهُ مُؤَثِّرًا فِي الْبَيْعِ ثُمَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْبَيْعِ يُعْتَبَرُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْإِعْرَاضَ تَرْجِيحًا لِلْجِدِّ الَّذِي هُوَ أَصْلٌ عِنْدَهُ عَلَى الْهَزْلِ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ وَكَذَلِكَ هَاهُنَا وَعِنْدَهُمَا هُوَ أَيْ التَّصَرُّفُ جَائِزٌ أَيْ لَازِمٌ وَالْمَالُ وَاجِبٌ. وَلَا يُفِيدُ الِاخْتِلَافُ أَيْ اخْتِلَافُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْبِنَاءِ عَلَى الْهَزْلِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْهَزْلَ عِنْدَهُمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي أَصْلِ التَّصَرُّفِ وَلَا فِي الْمَالِ فِي حَالِ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْبِنَاءِ فَفِي حَالِ الِاخْتِلَافِ أَوْلَى وَإِنْ سَكَتَا وَلَمْ يَحْضُرْهُمَا شَيْءٌ فَالتَّصَرُّفُ جَائِزٌ لَازِمٌ حَتَّى وَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَزِمَ الْمَالُ بِالْإِجْمَاعِ لِبُطْلَانِ الْهَزْلِ عِنْدَهُمَا وَلِرُجْحَانِ الْجِدِّ عِنْدَهُ فَصَارَ الْجَوَابُ فِي الْفَصْلَيْنِ وَاحِدًا وَحَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى الْجَوَابِ فِيهِمَا مَعَ اخْتِلَافِ التَّجَرُّعِ. قَوْلُهُ (فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْبِنَاءِ فَعِنْدَهُمَا الطَّلَاقُ وَاقِعٌ) ؛ لِأَنَّ الْهَزْلَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ بِالْمَنْعِ عِنْدَهُمَا مَعَ أَنَّهُمَا جَادَّانِ فِي أَصْلِ التَّصَرُّفِ وَالْمَالُ كُلُّهُ لَازِمٌ؛ لِأَنَّ الْهَزْلَ وَإِنْ كَانَ مُؤَثِّرًا فِي الْمَالِ لَكِنَّ الْمَالَ ثَابِتٌ فِي ضِمْنِ الْخُلْعِ تَبَعًا فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ إذْ

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ أَنْ يَتَعَلَّقَ الطَّلَاقُ بِاخْتِيَارِهَا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ الْبَدَلِ وَقَدْ تَعَلَّقَ بَعْضُهُ بِالشَّرْطِ وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْإِعْرَاضِ لَزِمَ الطَّلَاقُ وَالْمَالُ كُلُّهُ وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ يَحْضُرُهُمَا شَيْءٌ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَوَجَبَ الْمَالُ كُلُّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى الْجِدِّ وَجَعَلَ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ الْمُوَاضَعَةِ وَعِنْدَهُمَا كَذَلِكَ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَلَفَا. وَأَمَّا إذَا هَزَلَا بِأَصْلِ الْمَالِ فَذَكَرَا الدَّنَانِيرَ تَلْجِئَةً وَغَرَضُهُمَا الدَّرَاهِمُ فَإِنَّ الْمُسَمَّى هُوَ الْوَاجِبُ عِنْدَهُمَا فِي هَذَا بِكُلِّ حَالٍ وَصَارَ كَاَلَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ تَبَعًا. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْإِعْرَاضِ وَجَبَ الْمُسَمَّى وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْبِنَاءِ تَوَقَّفَ الطَّلَاقُ وَإِنْ اتَّفَقَا أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْهُمَا شَيْءٌ وَجَبَ الْمُسَمَّى وَوَقَعَ الطَّلَاقُ وَإِنْ اخْتَلَفَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْإِعْرَاضَ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي نَظَائِرِهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعِبْرَةُ لِلْمُتَضَمِّنِ لَا لِلْمُتَضَمَّنِ كَالْوَكَالَةِ الثَّابِتَةِ فِي ضِمْنِ عَقْدِ الرَّهْنِ تَلْزَمُ بِلُزُومِهِ فَلِذَلِكَ يَجِبُ تَمَامُ الْمُسَمَّى فَإِنْ قِيلَ لَا يَسْتَقِيمُ جَعْلُ الْمَالِ فِي هَذَا النَّوْعِ تَبَعًا؛ لِأَنَّهُ سَمَّاهُ فِيهِ مَقْصُودًا بِقَوْلِهِ وَأَمَّا الَّذِي يَكُونُ الْمَالُ فِيهِ مَقْصُودًا وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ فِيهِ تَبَعٌ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْهَزْلَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ كَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي أَصْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ فِي النِّكَاحِ تَابِعٌ وَقَدْ أَثَّرَ الْهَزْلُ فِيهِ حَتَّى كَانَ الْمَهْرُ أَلْفًا فِيمَا إذَا هَزَلَا فِيهِ بِقَدْرِ الْبَدَلِ دُونَ الْأَلْفَيْنِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ قُلْنَا الْمَالُ هَاهُنَا مَقْصُودٌ بِالنَّظَرِ إلَى الْعَاقِدِ. فَأَمَّا فِي حَقِّ الثُّبُوتِ فَهُوَ تَابِعٌ لِلطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقُ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ فِيهِ وَالشُّرُوطُ أَتْبَاعٌ عَلَى مَا عُرِفَ فَيُؤْخَذُ حُكْمُهُ مِنْ الْأَصْلِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ فَأَمَّا الْمَالُ فِي النِّكَاحِ فَتَابِعٌ بِالنَّظَرِ إلَى الْعَاقِدَيْنِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ كُلِّ وَاحِدٍ فِي الْأَصْلِ حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْآخَرِ وَحُصُولُ الِازْدِوَاجِ دُونَ الْمَالِ فَأَمَّا فِي حَقِّ الثُّبُوتِ فَلَهُ نَوْعُ أَصَالَةٍ حَيْثُ لَا يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَاقِدَيْنِ بَلْ يَثْبُتُ بِلَا ذِكْرٍ وَيَثْبُتُ مَعَ النَّفْيِ صَرِيحًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يُعْتَبَرُ هُوَ بِنَفْسِهِ فِي حُكْمِ الْهَزْلِ فَيُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ كَمَا يُؤَثِّرُ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ فِي شَرْحِ كِتَابِ الْإِكْرَاهِ فِي بَابِ التَّلْجِئَةِ أَنَّهُمَا لَوْ تَوَاضَعَا فِي النِّكَاحِ عَلَى أَلْفٍ فِي السِّرِّ ثُمَّ عَقَدَا فِي الْعَلَانِيَةِ بِأَلْفَيْنِ كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا بِأَلْفٍ ثُمَّ قَالَ وَكَذَا الطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ وَالْعَتَاقُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ مِثْلُ النِّكَاحِ إذَا كَانَ الْهَزْلُ فِي قَدْرِ الْبَدَلِ فِي أَنَّ الْبَدَلَ مَا تَوَاضَعَا عَلَيْهِ فِي السِّرِّ دُونَ الْمُسَمَّى فَلَا يَحْتَاجُ إلَى فَرْقٍ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا لَهُ أَنْ يَتَعَلَّقَ الطَّلَاقُ بِاخْتِيَارِهَا أَيْ بِاخْتِيَارِ الْمَرْأَةِ الطَّلَاقَ بِجَمِيعِ الْمُسَمَّى عَلَى سَبِيلِ الْجِدِّ لَأَنْ يَتَعَلَّقَ بِكُلِّ الْبَدَلِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَا عَلَّقَهُ الزَّوْجُ بِهِ إذْ هُوَ الْمَالِكُ لِلطَّلَاقِ وَهُوَ إنَّمَا عَلَّقَهُ بِجَمِيعِ الْبَدَلِ حَيْثُ ذَكَرَ الْأَلْفَيْنِ فِي الْعَقْدِ دُونَ الْأَلْفِ وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ الْهَزْلَ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فِي جَانِبِهِ كَمَا لَا يُؤَثِّرُ خِيَارُ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ فِي جَانِبِهِ يَمِينٌ فَإِنَّهُ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِقَبُولِ الْمَرْأَةِ الْبَدَلَ وَالْهَزْلَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْيَمِينِ فَكَانَ الْهَزْلُ وَالْجِدُّ فِيهِ سَوَاءً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الطَّلَاقُ مُتَعَلِّقًا بِجَمِيعِ الْبَدَلِ. وَقَدْ تَعَلَّقَ بَعْضُهُ أَيْ بَعْضُ الْبَدَلِ بِالشَّرْطِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمَرْأَةِ يَعْنِي لَمَّا تَعَلَّقَ الطَّلَاقُ بِجَمِيعِ الْبَدَلِ كَانَ شَرْطُ وُقُوعِهِ قَبُولَ الْجَمِيعِ، وَالْمَرْأَةُ لَمْ تَقْبَلْ الْجَمِيعَ؛ لِأَنَّهَا هَازِلَةٌ فِي قَبُولِ أَحَدِ الْأَلْفَيْنِ وَالْهَزْلُ مُؤَثِّرٌ فِي جَانِبِهَا كَخِيَارِ الشَّرْطِ فَصَارَ كَأَنَّهَا قَبِلَتْ أَحَدَ الْأَلْفَيْنِ فِي الْحَالِ وَتَعَلَّقَ قَبُولُهَا الْأَلْفَ الْآخَرَ بِإِعْرَاضِهَا عَنْ الْهَزْلِ وَقَبُولُهَا إيَّاهُ بِطَرِيقِ الْجِدِّ فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَقَدْ تَعَلَّقَ بَعْضُهُ بِالشَّرْطِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفَيْنِ فَقَبِلَتْ أَحَدَ الْأَلْفَيْنِ وَلَمْ تَقْبَلْ الْآخَرَ وَعَلَى رِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَيَلْزَمُ الْأَلْفُ فَإِنْ قِيلَ لَمَّا أُلْحِقَ جَانِبُ الْمَرْأَةِ بِالْبَيْعِ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ فِي الْحَالِ بِجَمِيعِ الْبَدَلِ عِنْدَهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ فِي هَذَا الْفَصْلِ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ بِجَمِيعِ الْمُسَمَّى قُلْنَا إنَّمَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِتَمَامِ الْمُسَمَّى لِعَدَمِ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِالْمُوَاضَعَةِ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إلَى فَسَادِ الْعَقْدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَأَمَّا الْخُلْعُ فَلَا يَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فَأَمْكَنَ الْعَمَلَ بِالْمُوَاضَعَةِ فِيهِ وَالْعَمَلُ بِهَا يُوجِبُ هَاهُنَا أَنْ يَتَعَلَّقَ الطَّلَاقُ بِجَمِيعِ الْبَدَلِ وَلَا يَقَعُ فِي الْحَالِ فَلِذَلِكَ افْتَرَقَا قَوْلُهُ

وَأَمَّا تَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ كَالسُّكُوتِ مُخْتَارٌ فَتَبْطُلُ الشُّفْعَةُ وَبَعْدَ الطَّلَبِ وَالْإِشْهَادِ السَّلَمُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يَبْطُلُ بِخِيَارِ الشَّرْطِ، وَكَذَلِكَ إبْرَاءُ الْغَرِيمِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQوَأَمَّا إذَا هَزَلَا بِأَصْلِ الْمَالِ أَيْ بِجِنْسِهِ فَذَكَرَا الدَّنَانِيرَ تَلْجِئَةً وَغَرَضُهُمَا الدَّرَاهِمُ فَإِنَّ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ هُوَ الْوَاجِبُ عِنْدَهُمَا فِي هَذَا الْوَجْهِ بِكُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ اتَّفَقَا عَلَى الْبِنَاءِ أَوْ عَلَى الْإِعْرَاضِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْهُمَا شَيْءٌ أَوْ اخْتَلَفَا؛ لِأَنَّ الْهَزْلَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي أَصْلِ التَّصَرُّفِ عِنْدَهُمَا وَلَا فِي الْمَالِ تَبَعًا لَهُ فَصَارَ الْمُسَمَّى بِمَنْزِلَةِ مَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ أَيْضًا تَبَعًا لِلْأَصْلِ وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْبِنَاءِ تَوَقَّفَ الطَّلَاقُ عَلَى قَبُولِ الْمَرْأَةِ الْمُسَمَّى بِطَرِيقِ الْجِدِّ وَاخْتِيَارُهَا الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّ الْهَزْلَ لَمَّا كَانَ بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ الْخِيَارِ مَنَعَ صِحَّةَ قَبُولِ الْمَرْأَةِ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ فَصَارَ كَأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِقَبُولِ الدَّنَانِيرِ وَهِيَ لَمْ تَقْبَلْ فَيَتَوَقَّفُ إلَى الْقَبُولِ كَمَا فِي شَرْطِ الْخِيَارِ وَفِي الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَوَجَبَ الْمَالُ اعْتِبَارًا لِلْجِدِّ وَأُشِيرَ فِي الْمَبْسُوطِ إلَى أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ وَيَجِبُ الْمُسَمَّى بِكُلِّ حَالٍ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ وَكَذَلِكَ هَذَا فِي نَظَائِرِهِ أَيْ مِثْلُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ وَالتَّفْرِيعِ فِي الْخُلْعِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ وَالتَّفْرِيعِ فِي نَظَائِرِهِ مِنْ الْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ يَعْنِي الْكُلُّ سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ وَالتَّفْرِيعِ. قَوْلُهُ وَأَمَّا تَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ أَيْ بِطَرِيقِ الْهَزْلِ طَلَبُ الشُّفْعَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ وَهُوَ أَنْ يَطْلُبَهَا كَمَا عُلِمَ بِالْبَيْعِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَطْلُبْ عَلَى الْفَوْرِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ. وَالثَّانِي طَلَبُ التَّقْرِيرِ وَالْإِشْهَادِ وَهُوَ أَنْ يَنْهَضَ بَعْدَ الطَّلَبِ وَيَشْهَدَ عَلَى الْبَائِعِ أَوْ عَلَى الْمُشْتَرِي أَوْ عِنْدَ الْعَقَارِ عَلَى طَلَبِ الشُّفْعَةِ فَيَقُولُ إنَّ فُلَانًا اشْتَرَى هَذِهِ الدَّارَ وَأَنَا شَفِيعُهَا وَقَدْ طَلَبْت الشُّفْعَةَ وَأَطْلُبُهَا الْآنَ فَاشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ وَبِهَذَا الطَّلَبِ تَسْتَقِرُّ شُفْعَتُهُ حَتَّى لَا تَبْطُلَ بِالتَّأْخِيرِ بَعْدُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَالثَّالِثُ طَلَبُ الْخُصُومَةِ وَالتَّمَلُّكِ فَإِذَا سَلَّمَ الشُّفْعَةَ هَازِلًا قَبْلَ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ بِطَرِيقِ الْهَزْلِ كَالسُّكُوتِ مُخْتَارًا إذْ اشْتِغَالُهُ بِالتَّسْلِيمِ هَازِلًا سُكُوتٌ عَنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ عَلَى الْفَوْرِ ضَرُورَةً وَأَنَّهَا تَبْطُلُ بِحَقِيقَةِ السُّكُوتِ مُخْتَارًا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ فَكَذَا بِالسُّكُوتِ حُكْمًا وَبَعْدَ الطَّلَبِ وَالْإِشْهَادِ أَيْ بَعْدَ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ وَطَلَبِ الْإِشْهَادِ التَّسْلِيمُ بِطَرِيقِ الْهَزْلِ بَاطِلٌ وَالشُّفْعَةُ بَاقِيَةٌ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ مِنْ جِنْسِ مَا يَبْطُلُ بِخِيَارِ الشَّرْطِ حَتَّى لَوْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ بَعْدَ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ وَالتَّقْرِيرِ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَطَلَ التَّسْلِيمُ وَبَقِيَتْ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الشُّفْعَةِ فِي مَعْنَى التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِبْقَاءُ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ عَلَى مِلْكِهِ وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ تَسْلِيمَ شُفْعَةِ الصَّبِيِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ كَمَا يَمْلِكَانِ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ لَهُ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الرِّضَاءِ بِالْحُكْمِ، وَالْخِيَارُ يَمْنَعُ الرِّضَاءَ بِهِ فَيَبْطُلُ التَّسْلِيمُ فَكَذَا الْهَزْلُ يَمْنَعُ الرِّضَاءَ بِالْحُكْمِ فَيَبْطُلُ بِهِ التَّسْلِيمُ كَمَا يَبْطُلُ بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَتَبْقَى الشُّفْعَةُ. وَكَذَلِكَ أَيْ وَمِثْلُ تَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ إبْرَاءُ الْغَرِيمِ فِي أَنَّهُ يَبْطُلُ بِالْهَزْلِ حَتَّى لَوْ أَبْرَأهُ هَازِلًا لَا يَصِحُّ وَيَبْقَى الدَّيْنُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ أَبْرَأْتُك عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ لَا يَسْقُطُ الدَّيْنُ؛ لِأَنَّ فِي الْإِبْرَاءِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَلِهَذَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَإِلَى مَعْنَى التَّمْلِيكِ أُشِيرُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 280] فَيُؤَثِّرُ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ فَكَذَا الْهَزْلُ يُؤَثِّرُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ خِيَارِ الشَّرْطِ. وَكَذَا لَوْ أَبْرَأَ الْكَفِيلُ هَازِلًا لَا يَصِحُّ مَعَ أَنَّهُ مِمَّا لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ صَالَحَ الْكَفِيلُ

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ الْإِقْرَارُ فَإِنْ الْهَزْلَ يُبْطِلُهُ سَوَاءٌ كَانَ إقْرَارًا بِمَا يَحْتَمِلُهُ الْفَسْخُ أَوْ بِمَا لَا يَحْتَمِلُهُ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ صِحَّةَ الْمُخْبَرِ بِهِ، وَالْهَزْلُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمُخْبَرِ بِهِ فَصَارَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِمَّا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ يَبْطُلُ بِالْكُرْهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى عَيْنٍ وَهَلَكَتْ الْعَيْنُ أَوْ رَدَّهَا بِعَيْبٍ يَنْفَسِخُ الصُّلْحُ وَتَعُودُ الْكَفَالَةُ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَعْمَلُ فِيهِ الْهَزْلُ فَيَمْنَعُهُ مِنْ الثُّبُوتِ كَالْخِيَارِ كَذَا رَأَيْت مَكْتُوبًا بِخَطِّ شَيْخِي قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي) أَيْ مِنْ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَّلِ هَذَا الْفَصْلِ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَلَوْ تَوَاضَعَا عَلَى أَنْ يُخْبِرَا أَنَّهُمَا تَبَايَعَا هَذَا الْعَبْدَ أَمْسِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا بَيْعٌ فِي الْحَقِيقَةِ ثُمَّ قَالَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي قَدْ كُنْت بِعْتُك عَبْدِي هَذَا يَوْمَ كَذَا بِكَذَا وَقَالَ الْآخَرُ صَدَقْت فَلَيْسَ هَذَا بِبَيْعٍ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ مُتَمَيِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ إذَا كَانَ بَاطِلًا فَبِالْإِخْبَارِ بِهِ لَا يَصِيرُ حَقًّا. أَلَا تَرَى أَنَّ فِرْيَةَ الْمُفْتَرِينَ وَكُفْرَ الْكَافِرِينَ لَا يَصِيرُ حَقًّا بِإِخْبَارِهِمْ بِهِ وَهَاهُنَا ثَبَتَ كَوْنُ الْمُخْبَرِ عَنْهُ كَذِبًا بِالْمُوَاضَعَةِ السَّابِقَةِ فَلَا يَصِيرُ حَقًّا بِالْإِقْرَارِ وَلَوْ أَجْمَعَا عَلَى إجَازَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَيْعًا؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ إنَّمَا تَلْحَقُ الْعَقْدَ الْمُنْعَقِدَ وَبِالْإِقْرَارِ كَاذِبًا لَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ فَلَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ صَنَعَا مِثْلَ ذَلِكَ فِي طَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ أَوْ نِكَاحٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نِكَاحًا وَلَا طَلَاقًا وَلَا عَتَاقًا وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ الْمُوَاضَعَةِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نِكَاحًا وَلَا طَلَاقًا وَلَا عَتَاقًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي لَا يُصَدِّقُهُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ عَلَى أَنَّهُ كَذِبٌ إذَا أَقَرَّ بِهِ طَائِعًا فَثَبَتَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مَعَ التَّلْجِئَةِ كَمَا ثَبَتَ مَعَ الْإِكْرَاهِ. لِأَنَّهُ أَيْ الْإِقْرَارَ يَعْنِي صِحَّتَهُ يَعْتَمِدُ صِحَّةَ الْمُخْبَرِ بِهِ أَيْ وُجُودَهُ وَتَحَقُّقَهُ فِي الْمَاضِي. وَالْهَزْلُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمُخْبَرِ بِهِ فِي الْمَاضِي فَيَمْنَعُ انْعِقَادَهُ أَصْلًا فَصَارَ ذَلِكَ كُلُّهُ أَيْ الْإِقْرَارُ بِمَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَبِمَا لَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ جِنْسِ مَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْجَمِيعَ يَعْتَمِدُ وُجُودَ الْمُخْبَرِ بِهِ فَيُؤَثِّرُ الْهَزْلُ فِي الْكُلِّ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ يَبْطُلُ بِالْكُرْهِ أَصْلًا حَتَّى كَانَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَتَهُ وَالْعَبْدُ عَبْدَهُ كَمَا كَانَا لَمَّا قُلْنَا إنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَالْإِكْرَاهُ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ قَاصِدٌ إلَى دَفْعِ الشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ فَكَذَلِكَ أَيْ فَكَمَا يَبْطُلُ بِالْإِكْرَاهِ يَبْطُلُ بِالْهَزْلِ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيهِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَاذِبًا لَمَا كَانَ هَذَا الْإِقْرَارُ مِنْهُ هَزْلًا بُطْلَانًا لَا يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ تَلْحَقُ بِشَيْءٍ يَنْعَقِدُ وَيَحْتَمِلُ الصِّحَّةَ وَالْبُطْلَانَ وَهَذَا الْإِقْرَارُ لَمْ يَنْعَقِدْ مُوجِبًا لِشَيْءٍ أَصْلًا لِكَوْنِهِ كَذِبًا وَبِالْإِجَازَةِ لَا يَصِيرُ الْكَذِبُ صِدْقًا بِوَجْهٍ فَكَانَ كَبَيْعِ الْحُرِّ بِخِلَافِ الْبَيْعِ أَوْ الْإِجَارَةِ هَزْلًا؛ لِأَنَّهُ إنْشَاءٌ يَعْتَمِدُ انْعِقَادُهُ أَهْلِيَّةَ الْمُتَكَلِّمِ وَصِحَّةَ الْعِبَارَةِ وَقَدْ تَحَقَّقْنَا وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ فَيَجُوزُ أَنْ يَنْعَقِدَ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ. قَوْلُهُ (لَا بِمَا هَزَلَ بِهِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّ مَبْنَى الرِّدَّةِ عَلَى تَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا لِوُجُودِ الْهَزْلِ فَإِنَّهُ يُنَافِي الرِّضَاءَ بِالْحُكْمِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ الْهَزْلُ بِالرِّدَّةِ كُفْرًا كَمَا فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ وَالسُّكْرِ فَقَالَ الْهَزْلُ بِالرِّدَّةِ كُفْرٌ لَا بِمَا هَزَلَ بِهِ لَكِنْ بِعَيْنِ الْهَزْلِ يَعْنِي أَنَّا لَا نَحْكُمُ بِكُفْرِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ اعْتَقَدَ مَا هَزَلَ بِهِ مِنْ الْكُفْرِ بَلْ نَحْكُمُ بِكُفْرِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ نَفْسَ الْهَزْلِ بِالْكُفْرِ كُفْرٌ؛ لِأَنَّ الْهَازِلَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِحُكْمٍ مَا هَزَلَ بِهِ لِكَوْنِهِ هَازِلًا فِيهِ فَهُوَ جَادٌّ فِي نَفْسِ التَّكَلُّمِ بِهِ مُخْتَارٌ لِلسَّبَبِ رَاضٍ بِهِ فَإِنَّهُ إذَا سَبَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هَازِلًا مَثَلًا أَوْ دَعَا لِلَّهِ تَعَالَى شَرِيكًا هَازِلًا فَهُوَ رَاضٍ بِالتَّكَلُّمِ بِهِ مُخْتَارٌ لِذَلِكَ

[السفه من العوارض المكتسبة]

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَإِنَّ الْهَزْلَ بِالرِّدَّةِ كُفْرٌ لَا بِمَا هَزَلَ بِهِ لَكِنْ بِعَيْنِ الْهَزْلِ؛ لِأَنَّ الْهَازِلَ جَادٌّ فِي نَفْسِ الْهَزْلِ مُخْتَارٌ رَاضٍ وَالْهَزْلُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ اسْتِخْفَافٌ بِالدِّينِ الْحَقِّ فَصَارَ مُرْتَدًّا بِعَيْنِهِ لَا بِمَا هَزَلَ بِهِ إلَّا أَنَّ أَثَرَهُمَا سَوَاءٌ بِخِلَافِ الْمُكْرَه؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لَعَيْنِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ فَأَمَّا الْكَافِرُ إذَا هَزَلَ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ وَتَبَرَّأَ عَنْ دِينِهِ هَازِلًا يَجِبُ أَنْ يَحْكُمَ بِإِيمَانِهِ كَالْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءٍ لَا يَحْتَمِلُ حُكْمُهُ الرَّدَّ وَالتَّرَاخِيَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهُوَ السَّفَهُ السَّفَهُ هُوَ الْعَمَلُ بِخِلَافِ مُوجِبِ الشَّرْعِ مِنْ وَجْهٍ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى وَخِلَافُ دَلَالَةِ الْعَقْلِ فَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ مَشْرُوعًا وَهُوَ السَّرَفُ وَالتَّبْذِيرُ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْبَيْعِ وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ مَشْرُوعٌ إلَّا أَنَّ الْإِسْرَافَ حَرَامٌ كَالْإِسْرَافِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ خَلَلًا فِي الْأَهْلِيَّةِ وَلَا يَمْنَعُ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَلَا يُوجِبُ وَضْعَ الْخِطَابِ بِحَالٍ وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْهُ مَالَهُ فِي أَوَّلِ مَا بَلَغَ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] ثُمَّ عَلَّقَ الْإِيتَاءَ بِإِينَاسٍ مِنْ الرُّشْدِ فَقَالَ {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] ـــــــــــــــــــــــــــــQلِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَقِدًا لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُهُ وَالتَّكَلُّمُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ هَازِلًا اسْتِخْفَافٌ بِالدِّينِ الْحَقِّ وَهُوَ كُفْرٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65] {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66] فَصَارَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْكُفْرِ بِطَرِيقِ الْهَزْلِ مُرْتَدًّا بِعَيْنِ الْهَزْلِ لِاسْتِخْفَافِهِ بِالدَّيْنِ الْحَقِّ لَا بِمَا هَزَلَ بِهِ أَيْ لَا بِاعْتِقَادِ مَا هَزَلَ بِهِ إلَّا أَنَّ أَثَرَهُمَا أَيْ أَثَرَ الْهَزْلِ بِالْكُفْرِ وَأَثَرَ مَا هَزَلَ بِهِ سَوَاءٌ فِي إزَالَةِ الْإِيمَانِ وَإِثْبَاتِ الْكُفْرِ بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْكُفْرِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِالسَّبَبِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا بَلْ يُجْرِيهِ عَلَى لِسَانِهِ اضْطِرَارًا وَدَفْعًا لِلشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ غَيْرَ مُعْتَقِدٍ لَهُ أَصْلًا. وَلَا يُقَالُ إنَّ الْهَازِلَ لَا يَعْتَقِدُ الْكُفْرَ أَيْضًا لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ مُعْتَقِدٌ لِلْكُفْرِ؛ لِأَنَّ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ حُرْمَةُ الِاسْتِخْفَافِ بِالدِّينِ وَعَدَمُ الرِّضَاءِ بِهِ وَلَمَّا رَضِيَ بِالْهَزْلِ مُعْتَقِدًا لَهُ كَانَ كَافِرًا كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ فَأَمَّا الْكَافِرُ إذَا هَزَلَ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ وَتَبَرَّأَ عَنْ دِينِهِ هَازِلًا فَيَجِبُ أَنْ يَحْكُمَ بِإِيمَانِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ وَقَدْ بَاشَرَ أَحَدَ الرُّكْنَيْنِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ عَلَى سَبِيلِ الرِّضَاءِ، وَالْإِقْرَارُ هُوَ الْأَصْلُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِالْإِيمَانِ بِنَاءً عَلَيْهِ كَالْمُكْرَهِ عَلَى الْإِسْلَامِ إذَا أَسْلَمَ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِنَاءً عَلَى وُجُودِ أَحَدِ الرُّكْنَيْنِ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِالتَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءٍ لَا يَقْبَلُ حُكْمُهُ الرَّدَّ وَالتَّرَاخِيَ فَإِنَّهُ إذَا أَسْلَمَ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ مُتَرَاخِيًا عَنْهُ وَلَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَدَّ إسْلَامُهُ بِسَبَبٍ كَمَا يُرَدُّ الْبَيْعُ بِخِيَارِ الْعَيْبِ وَالرُّؤْيَةِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ. [السَّفَه مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ] قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ) أَيْ مِنْ أَقْسَامِ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ فَهُوَ السَّفَهُ السَّفَهُ فِي اللُّغَةِ وَهُوَ الْخِفَّةُ وَالتَّحَرُّكُ يُقَالُ تَسَفَّهَتْ الرِّيَاحُ الثَّوْبَ إذَا اسْتَخَفَّتْهُ وَحَرَّكَتْهُ وَمِنْهُ زِمَامٌ سَفِيهٌ أَيْ خَفِيفٌ وَفِي الشَّرِيعَةِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ خِفَّةٍ تَعْتَرِي الْإِنْسَانَ فَتَحْمِلُهُ عَلَى الْعَمَلِ بِخِلَافِ مُوجِبِ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ مَعَ قِيَامِ الْعَقْلِ حَقِيقَةً كَذَا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ وَهَذَا التَّعْرِيفُ يَتَنَاوَلُ ارْتِكَابَ جَمِيعِ الْمَحْظُورَاتِ فَإِنَّ ارْتِكَابَهَا مِنْ السَّفَهِ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَيَّدَ بِقَوْلِهِ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ غَلَبَ هَذَا الِاسْمُ عَلَى تَبْذِيرِ الْمَالِ وَإِتْلَافِهِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَلَمْ يُفْهَمْ عِنْدَ إطْلَاقِهِ ارْتِكَابُ مَعْصِيَةٍ أُخْرَى مِثْلُ شُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ سَفَهًا حَقِيقَةً فَكَأَنَّهُ بِذِكْرِ هَذَا الْقَيْدِ يُشِيرُ إلَى أَنَّ غَرَضَهُ تَعْرِيفُ السَّفَهِ الْمُصْطَلَحِ الَّذِي تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ وَتَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ بِهِ مِنْ مَنْعِ الْمَالِ وَوُجُوبِ الْحَجْرِ لَا جَمِيعِ أَنْوَاعِ السَّفَهِ وَلِهَذَا فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ وَهُوَ السَّرَفُ وَالتَّبْذِيرُ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى الْعَمَلِ أَيْ نَعْنِي بِالْعَمَلِ بِخِلَافِ مُوجِبِ الشَّرْعِ مِنْ وَجْهٍ إلَى آخِرِهِ السَّرَفُ وَالتَّبْذِيرُ لِأَنَّ أَصْلَ الْبِرِّ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ أَيْ أَصْلُ ذَلِكَ الْعَمَلِ مَشْرُوعًا وَالسَّرَفُ وَالْإِسْرَافُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَالتَّبْذِيرُ تَفْرِيقُ الْمَالِ إسْرَافًا وَذَلِكَ أَيْ السَّفَهُ لَا يُوجِبُ خَلَلًا فِي الْأَهْلِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالْقُدْرَةِ ظَاهِرًا لِسَلَامَةِ التَّرْكِيبِ وَبَقَاءِ الْقُوَى الْغَرِيزِيَّةِ عَلَى حَالِهَا وَلَا بَاطِنًا لِبَقَاءِ نُورِ الْعَقْلِ بِكَمَالِهِ إلَّا أَنَّهُ يُكَابِرُ عَقْلَهُ فِي عَمَلِهِ فَلَا جَرَمَ يَبْقَى مُخَاطَبًا بِتَحَمُّلِ أَمَانَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيُخَاطَبُ بِالْأَدَاءِ فِي الدُّنْيَا ابْتِلَاءً وَيُجَازَى عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ. وَإِذَا بَقِيَ أَهْلًا لِتَحَمُّلِ أَمَانَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَوُجُوبِ حُقُوقِهِ بَقِيَ أَهْلًا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَهِيَ التَّصَرُّفَاتُ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُ فَإِنَّهَا لَا تُحْمَلُ إلَّا عَلَى مَنْ هُوَ كَامِلُ الْحَالِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّبِيَّ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفَاتِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِإِيجَابِ حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَحَمُّلِ أَمَانَتِهِ فَمَنْ

قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَوَّلُ أَحْوَالِ الْبُلُوغِ قَدْ لَا يُفَارِقُهُ السَّفَهُ فَإِذَا امْتَدَّ الزَّمَانُ وَظَهَرَتْ الْخِبْرَةُ وَالتَّجْرِبَةُ حَدَثَ ضَرْبٌ مِنْ الرُّشْدِ لَا مَحَالَةَ وَالشَّرْطُ رُشْدٌ نَكِرَةٌ فَسَقَطَ الْمَنْعُ؛ لِأَنَّهُ إمَّا عُقُوبَةٌ وَإِمَّا حُكْمٌ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ فَيَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ النَّصِّ فَإِذَا دَخَلَهُ شُبْهَةٌ أَوْ صَارَ الشَّرْطُ فِي حُكْمِ الْوُجُودِ بِوَجْهٍ وَجَبَ جَرَّاؤُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQهُوَ أَهْلٌ لِتَحَمُّلِ أَمَانَتِهِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفَاتِ فَثَبَتَ أَنَّ السَّفَهَ لَا يَمْنَعُ أَحْكَامَ الشَّرْعِ وَلَا يَجِبُ سُقُوطُ الْخِطَابِ عَنْ السَّفِيهِ بِحَالٍ سَوَاءٌ مُنِعَ مِنْهُ الْمَالُ أَوْ لَمْ يُمْنَعْ حُجِرَ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يُحْجَرْ وَأَجْمَعُوا أَنَّ السَّفِيهَ يُمْنَعُ مَالُهُ فِي أَوَّلِ مَا يَبْلُغُ بِالنَّصِّ يَعْنِي إذَا بَلَغَ سَفِيهًا يُمْنَعُ عَنْهُ مَالُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] أَيْ لَا تُؤْتُوا الْمُبَذِّرِينَ أَمْوَالَكُمْ الَّذِينَ يُنْفِقُونَهَا فِيمَا لَا يَنْبَغِي أَمْوَالُهُمْ الَّتِي فِي أَيْدِيكُمْ أَضَافَ الْأَمْوَالَ إلَى الْأَوْلِيَاءِ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ أَمْوَالُ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ مَا يُقِيمُ النَّاسُ بِهِ مَعَايِشَهُمْ كَمَا قَالَ {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] وَكَمَا تَقُولُ لِمَنْ قَدَّمَ طَعَامًا بَيْنَ يَدَيْك هَذَا طَعَامِي فِي مَنْزِلِي كُلَّ يَوْمٍ أَيْ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ لِأَنَّهُمْ الْقَوَّامُونَ عَلَيْهَا وَالْمُتَصَرِّفُونَ فِيهَا {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] أَيْ تَقُومُونَ بِهَا وَلَوْ ضَيَّعْتُمُوهَا لَضِعْتُمْ فَكَأَنَّهَا فِي أَنْفُسِهَا قِيَامُكُمْ وَانْتِعَاشُكُمْ ثُمَّ عَلَّقَ الْإِيتَاءَ بِإِينَاسِ الرُّشْدِ أَيْ بِإِبْصَارِهِ فَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] أَيْ عَرَفْتُمْ وَرَأَيْتُمْ فِيهِمْ صَلَاحًا فِي الْعَقْلِ وَحِفْظًا لِلْمَالِ {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا بَلَغَ السَّفِيهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَلَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ دُفِعَ الْمَالُ إلَيْهِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يُدْفَعُ إلَى السَّفِيهِ مَا لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ الْإِيتَاءَ بِإِينَاسِ الرُّشْدِ فَلَا يَجُوزُ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، أَلَا تَرَى أَنَّ عِنْدَ الْبُلُوغِ إذَا لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ الْمَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَكَذَا إذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً؛ لِأَنَّ السَّفَهَ يَسْتَحْكِمُ بِطُولِ الْمُدَّةِ. وَلِأَنَّ السَّفَهَ فِي حُكْمِ مَنْعِ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الْجُنُونِ وَالْعَتَهِ وَإِنَّهُمَا يَمْنَعَانِ دَفْعَ الْمَالِ إلَيْهِ بَعْدَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً كَمَا قَبْلَهُ فَكَذَلِكَ السَّفَهُ وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] مَعْنَاهُ مَخَافَةَ أَنْ يَكْبَرُوا فَيَلْزَمَكُمْ دَفْعُ الْمَالِ إلَيْهِمْ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] وَالْمُرَادُ الْبَالِغُونَ وَسُمُّوا يَتَامَى لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِهِ فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى وُجُوبِ دَفْعِ مَالِ الْيَتِيمِ إلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ إلَّا أَنَّهُ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى مَنْعِ الْمَال مِنْهُ عِنْدَ الْبُلُوغِ إذَا لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] وَحَرْفُ الْفَاءِ لِلْوَصْلِ وَالتَّعْقِيبِ فَيَكُونُ بَيَانًا إنْ دَفْعَ الْمَالَ إلَيْهِ عَقِيبَ الْبُلُوغِ بِشَرْطِ إينَاسِ الرُّشْدِ وَمَا يَقْرَبُ مِنْ الْبُلُوغِ فِي مَعْنَى حَالَةِ الْبُلُوغِ فَأَمَّا إذَا بَعُدَ عَنْ ذَلِكَ فَوُجُوبُ دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ مُطْلَقٌ لِمَا تَلَوْنَا غَيْرُ مُعَلَّقٍ بِشَرْطٍ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مَنْعَ الْمَالِ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِبَقَاءِ أَثَرِ الصَّبِيِّ وَبَقَاءِ أَثَرِهِ كَبَقَاءِ عَيْنِهِ فِي مَنْعِ الْمَالِ وَأَثَرِهِ قَدْ يَبْقَى إلَى أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ زَمَانٌ، وَيَنْقَطِعُ بَعْدَمَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً لِتَطَاوُلِ الزَّمَانِ فَيَجِبُ دَفْعُ الْمَالِ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَوْ بَلَغَ رَشِيدًا ثُمَّ صَارَ سَفِيهًا لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ الْمَالُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِأَثَرِ الصِّبَا فَلَا يُعْتَبَرُ فِي مَنْعِ الْمَالِ أَوْ مَنْعِ الْمَالِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْدِيبِ لَهُ، وَالِاشْتِغَالُ بِالتَّأْدِيبِ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ رَجَاءَ التَّأْدِيبِ فَإِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَلَمْ يُؤْنَسْ رُشْدُهُ فَقَدْ انْقَطَعَ رَجَاءُ التَّأْدِيبِ؛ لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَصِيرَ جِدًّا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ فَلَا مَعْنَى بَعْدَ ذَلِكَ لِمَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ بِطَرِيقِ التَّأْدِيبِ. ثُمَّ نَقُولُ إنَّ الْإِنْسَانَ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ الْبُلُوغِ قَدْ لَا يُفَارِقُهُ السَّفَهُ لِقُرْبِهِ بِزَمَانِ الصِّبَا وَبَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ بِهِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْتَفِيدَ رُشْدًا مَا بِطَرِيقِ التَّجْرِبَةِ وَالِامْتِحَانِ إذْ التَّجَارِبُ تُفَّاحُ الْعُقُولِ وَالشَّرْطُ رُشْدٌ نَكِرَةٌ فَيَتَحَقَّقُ بِأَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ كَمَا فِي سَائِرِ الشُّرُوطِ الْمُنْكَرَةِ فَسَقَطَ الْمَنْعُ أَيْ مَنْعُ الْمَالِ بِوُجُودِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الرُّشْدِ؛ لِأَنَّهُ أَيْ مَنْعُ الْمَالِ إمَّا عُقُوبَةً ثَبَتَتْ زَجْرًا لَهُ عَنْ الْفِعْلِ الْحَرَامِ وَهُوَ التَّبْذِيرُ أَوْ حُكْمٌ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ مَنْعَ الْمَالِ عَنْ مَالِكِهِ مَعَ كَمَالِ عَقْلِهِ وَتَمَيُّزِهِ غَيْرُ مَعْقُولٍ إذْ الْمِلْكُ هُوَ الْمُطْلَقُ الْحَاجِزُ فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِعَيْنِ النَّصِّ أَيْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ رُشْدٌ تَحْقِيقًا وَلَا تَقْدِيرًا؛ لِأَنَّ مَا كَانَ عُقُوبَةً أَوْ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى لَا يُمْكِنُ تَعْدِيَتُهُ فَإِذَا دَخَلَهُ أَيْ مَنْعَ الْمَالِ

وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ النَّظَرِ لِلسَّفِيهِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا كَانَ السَّفَهُ مُكَابَرَةً وَتَرْكًا لِمَا هُوَ الْوَاجِبُ عَنْ عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلنَّظَرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَنْ قَصَّرَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَجَانَةً وَسَفَهًا لَمْ يُوضَعْ عَنْهُ الْخِطَابُ نَظَرًا بَلْ كَانَ مُؤَكَّدًا لَازِمًا وَقَدْ يُحْبَسُ عُقُوبَةً وَلَا يُوضَعُ عَنْهُ الْخِطَابُ وَلَا يُبْطِلُ فِي ذَلِكَ عِبَارَاتِهِ وَلَا يُعَطِّلُ عَلَيْهِ أَسْبَابَ الْحُدُودِ وَالْعُقُوبَاتِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالثَّابِتِ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ شُبْهَةٌ بِحُصُولِ الشَّرْطِ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ إصَابَةُ نَوْعٍ مِنْ الرُّشْدِ بِالتَّجْرِبَةِ سَقَطَ؛ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ أَوْ صَارَ الشَّرْطُ أَيْ شَرْطُ الدَّفْعِ فِي حُكْمِ الْوُجُودِ مِنْ وَجْهٍ بِوُجُودِ دَلِيلِهِ وَهُوَ اسْتِيفَاءُ مُدَّةِ التَّجْرِبَةِ يَعْنِي عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا ثَابِتًا بِالنَّصِّ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى يَسْقُطُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الثَّابِتَ بِالنَّصِّ رُشْدٌ نَكِرَةٌ فَإِذَا وُجِدَ رُشْدٌ مَا فَقَدْ تَحَقَّقَ الشَّرْطُ فَوَجَبَ جَزَاؤُهُ وَهُوَ دَفْعُ الْمَالِ إلَيْهِ. قَوْلُهُ (وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ النَّظَرِ لِلسَّفِيهِ) بِجَعْلِهِ مَحْجُورًا عَنْ التَّصَرُّفَاتِ وَإِثْبَاتِ الْوِلَايَةِ لِلْغَيْرِ عَلَى مَالِهِ صَوْنًا لِمَالِهِ عَنْ الضَّيَاعِ كَمَا وَجَبَ لِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ مُخَاطَبٌ فَيَكُونُ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ كَالرَّشِيدِ فَإِنَّ كَوْنَهُ مُخَاطَبًا يُثْبِتُ أَهْلِيَّةَ التَّصَرُّفِ إذْ التَّصَرُّفُ كَلَامٌ مُلْزِمٌ وَأَهْلِيَّةُ الْكَلَامِ بِكَوْنِهِ مُمَيِّزًا وَالْكَلَامُ الْمُلْزِمُ بِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا وَبِالْحُرِّيَّةِ تَثْبُتُ الْمِلْكِيَّةُ وَبِكَوْنِ الْمَالِ خَالِصُ مِلْكِهِ تَثْبُتُ الْمَحَلِّيَّةُ وَبَعْدَمَا صَدَرَ التَّصَرُّفُ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ لَا يَمْتَنِعُ نُفُوذُهُ إلَّا لِمَانِعٍ وَالسَّفَهُ لَا يَصْلُحُ مَانِعًا مِنْ نُفُوذِ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّ بِالسَّفَهِ لَا يُنْتَقَصُ الْعَقْلُ وَلَكِنَّ السَّفِيهَ يُكَابِرُ عَقْلَهُ فِي التَّبْذِيرِ مَعَ عِلْمِهِ بِقُبْحِهِ وَفَسَادِ عَاقِبَتِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ السَّفَهُ سَبَبًا لِلنَّظَرِ لِكَوْنِهِ مَعْصِيَةً وَالدَّلِيلُ أَنَّ السَّفِيهَ يُحْبَسُ فِي دُيُونِ الْعِبَادِ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْخِطَابُ بِحُقُوقِ الشَّرْعِ حَتَّى يُعَاقَبَ عَلَى تَرْكِهَا وَلَا يَبْطُلُ فِي ذَلِكَ أَيْ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ عِبَارَاتُهُ حَتَّى صَحَّ طَلَاقُهُ وَعَتَاقُهُ وَنِكَاحُهُ وَنَذْرِهِ وَيَمِينُهُ وَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ. 1 - وَلَا يُعَطَّلُ عَلَيْهِ أَسْبَابُ الْحُدُودِ وَالْعُقُوبَاتِ حَتَّى لَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ أَوْ زَنَى أَوْ سَرَقَ أَوْ قَتَلَ إنْسَانًا عَمْدًا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحُدُودُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَهَذِهِ الْعُقُوبَاتُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَوْ بَقِيَ السَّفَهُ مُعْتَبَرًا بَعْدَ الْبُلُوغِ عَنْ عَقْلٍ فِي إيجَابِ النَّظَرِ لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُعْتَبَرَ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَلَوْ جَازَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ النَّظَرِ لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ يَلْحَقُ بِنَفْسِهِ وَالْمَالُ تَابِعٌ لِلنَّفْسِ فَإِذَا لَمْ يُنْظَرْ لَهُ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ فَعَنْ مَالِهِ أَوْلَى. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَجُوزُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِهَذَا السَّبَبِ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْفَسْخِ وَهِيَ مَا يُبْطِلُهُ الْهَزْلُ دُونَ مَا لَا يُبْطِلُهُ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَنَحْوِهِمَا إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا إنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ النَّظَرِ لَهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى سَبِيلِ الزَّجْرِ وَالْعُقُوبَةِ وَيَظْهَرُ الْخِلَافُ فِيمَا إذَا كَانَ مُفْسِدًا فِي دِينِهِ مُصْلِحًا فِي مَالِهِ كَالْفَاسِقِ فَعِنْدَهُ يُحْجَرُ عَلَيْهِ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْفَسَادِ بِطَرِيقِ الزَّجْرِ وَالْعُقُوبَةِ وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ الْفَاسِقُ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ وَعِنْدَهُمَا لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ. احْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] نَصَّ عَلَى إثْبَاتِ الْوِلَايَةِ عَلَى السَّفِيهِ وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَ يُفْنِي مَالَهُ فِي اتِّخَاذِ الضِّيَافَاتِ حَتَّى اشْتَرَى لِلضِّيَافَةِ دَارًا بِمِائَةِ أَلْفٍ وَفِي رِوَايَةٍ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ فَطَلَبَ عَلِيٌّ مِنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ فَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ لِعَبْدِ اللَّهِ أَشْرِكْنِي فِيهَا فَأَشْرَكَهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ كَيْفَ أَحْجُرُ عَلَى رَجُلٍ شَرِيكُهُ الزُّبَيْرُ وَهُوَ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْكِيَاسَةِ فِي التِّجَارَةِ فَثَبَتَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ الْحَجْرَ بِسَبَبِ التَّبْذِيرِ وَبِأَنَّ السَّفِيهَ مُبَذِّرٌ فِي مَالِهِ فَيُحْجَرُ عَلَيْهِ نَظَرًا لَهُ كَالصَّبِيِّ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ إنَّمَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ لِتَوَهُّمِ التَّبْذِيرِ وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ هَاهُنَا فَلَأَنْ يَكُونَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ كَانَ أَوْلَى وَكَانَ هَذَا الْحَجَرُ بِطَرِيقِ النَّظَرِ وَاجِبًا حَقًّا لِلْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ الْجَصَّاصَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ يَقُولُ ضَرَرُ السَّفَهِ يَعُودُ إلَى الْكَافَّةِ فَإِنَّهُ لَمَّا أَفْنَى مَالَهُ بِالسَّفَهِ

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ النَّظَرُ وَاجِبٌ حَقًّا لِلْمُسْلِمِينَ وَحَقًّا لَهُ لِدِينِهِ لَا لِسَفَهِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ حَسَنٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِنْ أَصَرَّ عَلَيْهَا وَقَاسَاهُ بِمَنْعِ الْمَالِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - النَّظَرُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ جَائِزٌ لَا وَاجِبٌ كَمَا فِي صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ وَإِنَّمَا يَحْسُنُ إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ ضَرَرًا فَوْقَهُ وَهَا هُنَا يَتَضَمَّنُ ضَرَرًا فَوْقَهُ وَهُوَ وَقْفُ أَهْلِيَّتِهِ وَإِلْحَاقِهِ بِالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْبَهَائِمِ بِخِلَافِ مَنْعِ الْمَالِ لِمَا قُلْنَا إنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَلِأَنَّهُ عُقُوبَةً لَا يَحْتَمِلُ الْمُقَايَسَةَ وَلِأَنَّ الْيَدَ لِلْآدَمِيِّ نِعْمَةٌ زَائِدَةٌ، وَاللِّسَانُ وَالْأَهْلِيَّةُ نِعْمَةٌ أَصْلِيَّةٌ فَيَبْطُلُ الْقِيَاسُ لِإِبْطَالِ أَعْلَى النِّعْمَتَيْنِ بِاعْتِبَارِ أَدْنَاهُمَا وَقَالَا هَذِهِ الْأُمُورُ صَارَتْ حَقًّا لِلْعَبْدِ رِفْقًا بِهِ فَإِذَا أَدَّى إلَى الضَّرَرِ وَجَبَ الرَّدُّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ حَقٌّ فِي عَيْنِ الْمَالِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالتَّبْذِيرِ صَارَ وَبَالًا عَلَى النَّاسِ وَعِيَالًا عَلَيْهِمْ يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَالْحَجْرُ عَلَى الْحُرِّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْعَامَّةِ مَشْرُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا فِي الْمُفْتِي لَمَّا جُنَّ وَالطَّبِيبِ الْجَاهِلِ وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسِ وَحَقًّا لِدِينِهِ لَا لِسَفَهٍ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا لِسَفَهٍ فَهُوَ مُسْتَحَقُّ النَّظَرِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ دِينِهِ فَإِنَّهُ بِالنَّظَرِ إلَى أَصْلِ دِينِهِ حَبِيبُ اللَّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَكَذَا كُلُّ فَاسِقٍ حَقًّا لِإِسْلَامِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ فَإِنَّهُمَا شُرِعَا بِطَرِيقِ النَّظَرِ لِلْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ حَقًّا لِدِينِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ. قَوْلُهُ (لَا لِسَفَهٍ) إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَمَّا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - السَّفَهُ جِنَايَةٌ مِنْهُ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ النَّظَرَ وَعَمَّا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - السَّفِيهُ جَانٍ فَيَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ لَا بِطَرِيقِ النَّظَرِ فَقَالَ النَّظَرُ لَهُ وَاجِبٌ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْجِنَايَةَ مُسْتَدْعِيَةٌ لِلنَّظَرِ وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ فِي عَامَّةِ أَحْوَالِهِ وَعِنْدَ السَّفَهِ يَفُوتُ لَهُ النَّظَرُ وَتَظْهَرُ الْحَالَةُ الَّتِي تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى وُجُوبِ النَّظَرِ لَهُ فَنَظَرُ الشَّرْعِ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِوُجُودِ الْمَعْنَى الدَّاعِي إلَى النَّظَرِ. أَلَا يُرَى أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ حَسَنٌ حَتَّى كَانَ الْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ وَعَنْ كُلِّ جِنَايَةٍ مَنْدُوبًا إلَيْهِ قَالَ تَعَالَى {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] وَكَذَا الْعَفْوُ عَنْهُ فِي الْآخِرَةِ حَسَنٌ وَإِنْ مَاتَ مُصِرًّا عَلَى الْكَبِيرَةِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ حَتَّى جَازَ أَنْ يُدْخِلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِهِ وَكَرْمِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمِ عُقُوبَةٍ رَغْمًا لِأُنُوفِ الْمُعْتَزِلَةِ وَقَاسَاهُ بِمَنْعِ الْمَالِ فَإِنَّ مَنْعَ الْمَالَ عَنْهُ كَانَ بِطَرِيقِ النَّظَرِ لِيَبْقَى مَصُونًا عَنْ التَّلَفِ وَلَا يَضِيعُ بِالتَّبْذِيرِ وَالْإِسْرَافِ فَكَذَلِكَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَنْعَ الْمَالِ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِعَيْنِهِ بَلْ لِإِبْقَاءِ مِلْكِهِ وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ مَا لَمْ يَقْطَعْ لِسَانَهُ عَنْ مَالِهِ تَصَرُّفًا فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ لَا يُفِيدُ مَنْعَ الْمَالِ شَيْئًا وَإِنَّمَا يَكُونُ فِيهِ زِيَادَةُ مُؤْنَةٍ وَكُلْفَةٍ عَلَى الْوَلِيِّ فِي حِفْظِ مَالِهِ إلَى أَنْ يُتْلِفَهُ بِتَصَرُّفِهِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَثْبُتْ الْحَجْرُ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لِسَبَبِ السَّفَهِ فِي التَّصَرُّفَاتِ كَالْهَازِلِ فَإِنَّ الْهَازِلَ يَخْرُجُ كَلَامُهُ عَلَى غَيْرِ نَهْجِ كَلَامِ الْعُقَلَاءِ لِقَصْدِ اللَّعِبِ بِهِ دُونَ مَا وُضِعَ الْكَلَامُ لَهُ لَا لِنُقْصَانٍ فِي عَقْلِهِ فَكَذَلِكَ السَّفِيهُ يَخْرُجُ كَلَامُهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ عَلَى غَيْرِ نَهْجِ كَلَامِ الْعُقَلَاءِ لِاتِّبَاعِ الْهَوَى وَمُكَابَرَةِ الْعَقْلِ لَا لِنُقْصَانٍ فِي عَقْلِهِ فَكُلُّ تَصَرُّفٍ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ السَّفَهُ أَيْضًا وَكُلُّ تَصَرُّفٍ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ وَهُوَ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ يُؤَثِّرُ فِيهِ السَّفَهُ. قَوْلُهُ (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) يَعْنِي فِي الْجَوَابِ عَنْ كَلَامِهِمَا أَنَّ النَّظَرَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلنَّظَرِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ جَائِزٌ لَا وَاجِبٌ كَمَا فِي صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ يَجُوزُ الْعَفْوُ وَلَا يَجِبُ وَمِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ الْحَجْرَ وَاجِبٌ فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال ثُمَّ النَّظَرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إنَّمَا يَحْسُنُ إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ ضَرَرًا فَوْقَ هَذَا النَّظَرِ هَاهُنَا قَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ بِخِلَافِ مَنْعِ الْمَالِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى لِمَا بَيَّنَّا فَلَا يُمْكِنُ تَعْدِيَتُهُ إلَى غَيْرِهِ وَلِأَنَّهُ ثَبَتَ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا لَا بِطَرِيقِ النَّظَرِ فَإِنَّ سَبَبَهُ جِنَايَةٌ وَهُوَ مُكَابَرَةُ الْعَقْلِ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى وَالْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ وَهُوَ مَنْعُ الْمَالِ يَصْلُحُ جَزَاءً كَإِيجَابِ الْمَالِ فَيُجْعَلُ جَزَاءً فَإِنَّا عَرَفْنَا سَائِرَ الْأَجْزِيَةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَهُوَ إنَّا نَظَرْنَا إلَى سَبَبٍ فَوَجَدْنَاهُ جِنَايَةً وَنَظَرْنَا إلَى الْحُكْمِ فَوَجَدْنَاهُ صَالِحًا لِلْعُقُوبَةِ فَسَمَّيْنَاهُ عُقُوبَةً كَالْجَلْدِ فِي الزِّنَا وَقَطْعِ الْيَدِ فِي السَّرِقَةِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ عُقُوبَةٌ لَا يُمْكِنُ تَعْدِيَتُهُ إلَى مَنْعِ اللِّسَانِ وَقَصْرِ الْعِبَارَةِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَجْرِي فِي الْعُقُوبَاتِ. وَلَا يُقَالُ إنَّ الْمَنْعَ لَوْ كَانَ عُقُوبَةً لَفَوَّضَ أَيْ الْإِمَامُ وَالْأَوْلِيَاءُ هُمْ الْمُخَاطَبُونَ بِهِ دُونَ الْأَئِمَّةِ لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ عُقُوبَةُ تَعْزِيرٍ وَتَأْدِيبٍ لَا حَدٌّ فَيَجُوزُ أَنْ يُفَوَّضَ إلَى الْأَوْلِيَاءِ كَمَا فِي تَعْزِيرِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ النَّصَّ مَعْقُولُ الْمَعْنَى وَأَنَّهُ مَعْلُولٌ بِعِلَّةِ النَّظَرِ لَا بِالْعُقُوبَةِ لَا نُسَلِّمُ جَوَازَ قِيَاسِ الْحَجْرِ

وَهَذَا قِيَاسُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَنْ تَصَرَّفَ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ بِمَا يَضُرُّ جِيرَانَهُ أَنَّهُ يُمْنَعُ عَنْهُ فَصَارَ الْحَجْرُ عِنْدَهُمَا مَشْرُوعًا بِطَرِيقِ النَّظَرِ وَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يُنْظَرَ إلَى مَا فِيهِ نَظَرٌ لَهُ أَبَدًا فَلَا يُلْحَقُ بِالصَّبَى خَاصَّةً وَلَا بِالْمَرِيضِ وَلَا بِالْمُكْرَهِ لَكِنْ يَجِبُ إثْبَاتُ النَّظَرِ بِأَيِّ أَصْلٍ أَمْكَنَ اعْتِبَارُهُ عَلَى مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْمَبْسُوطِ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى الْمَنْعِ أَيْضًا لِعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ؛ لِأَنَّ مَنْعَ الْمَالِ إبْطَالُ نِعْمَةٍ زَائِدَةٍ عَلَيْهِ وَهِيَ الْيَدُ وَإِلْحَاقُهُ بِالْفُقَرَاءِ وَإِثْبَاتُ الْحَجْرِ إبْطَالُ وِلَايَتِهِ وَأَهْلِيَّتِهِ وَإِلْحَاقِهِ بِالْبَهَائِمِ وَهِيَ نِعْمَةٌ أَصْلِيَّةٌ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَمْتَازُ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ بِالْبَيَانِ فَبَانَ جَوَازُ إلْحَاقِ ضَرَرٍ يَسِيرٍ بِهِ فِي مَنْعِ نِعْمَةٍ زَائِدَةٍ وَإِلْحَاقِهِ بِالْفُقَرَاءِ لِتَوْفِيرِ النَّظَرِ عَلَيْهِ لَا يُسْتَدَلُّ عَلَى جَوَازِ إلْحَاقِ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ بِهِ بِتَفْوِيتِ النِّعْمَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَإِلْحَاقِهِ بِالْبَهَائِمِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ. وَالْجَوَابُ عَنْ الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ السَّفِيهِ عَلَى مَا قِيلَ هُوَ الصَّبِيُّ الَّذِي عَقَلَ فَإِنَّ بَعْضَ تَصَرُّفَاتِهِ يَخْرُجُ عَنْ نَهْجِ الِاسْتِقَامَةِ وَمِنْ الضَّعِيفِ الصَّبِيُّ الصَّغِيرُ وَمِنْ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ الْمَجْنُونُ وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْ السَّفِيهِ هُوَ الْمُبَذِّرُ الَّذِي اخْتَلَفْنَا فِيهِ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْوَلِيِّ هُوَ وَلِيُّ الْحَقِّ لَا وَلِيُّ السَّفِيهِ وَفِي الْآيَةِ كَلَامٌ طَوِيلٌ وَعَنْ الْحَدِيثِ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَطْلُبْ الْحَجْرَ بِسَبَبِ السَّفَهِ بِدَلِيلِ أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَرَكَ الْحَجْرَ بِسَبَبِ إشْرَاكِ الزُّبَيْرِ وَمَنْ يَرَى الْحُجَّةَ لَا يُتْرَكُ بِمِثْلِ هَذَا الْعُذْرِ فَإِنَّ الْغَبْنَ الْوَاقِعَ فِي الْعَقْدِ لَا يَرْتَفِعُ بِإِشْرَاكِ الْغَيْرِ وَلَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَآهُ إسْرَافًا حِينَ أَنْفَقَ مَالًا عَظِيمًا فِي شِرَاءِ دَارٍ وَهِيَ حَظُّ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهُ مَتَى أَنْفَقَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي كُلِّ حُظُوظِ الدُّنْيَا رُبَّمَا يُقَصِّرُ فِي حُظُوظِ الْآخِرَةِ فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّخْوِيفِ وَعَنْ قَوْلِهِمْ لَا فَائِدَةَ فِي مَنْعِ الْمَالِ مَعَ إطْلَاقِ التَّصَرُّفِ أَنَّ السَّفِيهَ إنَّمَا يُتْلِفُ مَالَهُ عَادَةً فِي التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لَا يَتِمُّ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَى الْمَالِ مِنْ اتِّخَاذِ الضِّيَافَةِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ فَإِذَا كَانَتْ يَدُهُ مَقْصُورَةً عَنْ الْمَالِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَنْفِيذِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِمَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ ثُمَّ أَجَابَ الشَّيْخُ لَهُمَا عَمَّا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَيْلًا مِنْهُ إلَى قَوْلِهِمَا بِقَوْلِهِ وَقَالَا هَذِهِ الْأُمُورُ يَعْنِي الْيَدَ وَاللِّسَانَ وَالْأَهْلِيَّةَ صَارَتْ حَقًّا لِلْعَبْدِ رِفْقًا بِهِ يَعْنِي ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ لِلْعَبْدِ لِأَجْلِ أَنْ يَرْتَفِقَ بِهَا الْعَبْدُ فَإِذَا أَدَّى ثُبُوتُ هَذِهِ الْأُمُورِ إلَى الضَّرَرِ فِي حَقِّهِ وَفِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ وَجَبَ الرَّدُّ أَيْ رَدُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ كَيْ لَا يَصِيرَ ثُبُوتُهَا عَائِدًا عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ وَلِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِدُونِ الْوَاوِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَقَوْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ حَقٌّ فِي عَيْنِ الْمَالِ أَيْ مَالِ السَّفِيهِ إشَارَةٌ إلَى رَدِّ مَا أُجِيبَ عَنْ قَوْلِهِمَا فَإِنَّهُمَا لَمَّا قَالَا النَّظَرُ وَاجِبٌ بِالْحَجْرِ حَقًّا لِلْمُسْلِمِينَ أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي حَقِّهِمْ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ فَلَا يَجِبُ الْحَجْرُ فَرَدَّا ذَلِكَ الْجَوَابَ وَقَالَا إنَّهُ وَإِنْ تَصَرَّفَ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ وَلَا حَقَّ لِلْمُسْلِمِينَ فِي مَالِهِ يُؤَدِّي تَصَرُّفُهُ إلَى الْإِضْرَارِ بِالْمُسْلِمِينَ فِي الْمَالِ فَيَجِبُ دَفْعُهُ عَنْهُمْ بِالْحَجْرِ فِي الْحَالِ وَهَذَا أَيْ وُجُوبُ الرَّدِّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ قِيَاسُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَنْ تَصَرَّفَ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ بِمَا يَضُرُّ جِيرَانَهُ يُمْنَعُ حَتَّى لَوْ اتَّخَذَ طَاحُونَةً لِلْأُجْرَةِ يُمْنَعُ وَلَوْ نَصَبَ مِنْوَالًا لِاسْتِخْرَاجِ الْإِبْرَيْسَمِ مِنْ الْفَيْلَقِ فَلِلْجِيرَانِ الْمَنْعُ إذَا تَضَرَّرُوا بِالدُّخَانِ وَرَائِحَةِ الدِّيدَانِ وَلِلْجِيرَانِ مَنْعُ دَقَّاقِ الذَّهَبِ لِتَضَرُّرِهِمْ بِدَقِّهِ وَكَذَا النَّدَّافُ إذَا كَانَ ضَرَرُهُ بَيِّنًا يُمْنَعُ كَذَا فِي مُخْتَصَرِ الْمُنْيَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ فَثَبَتَ أَنَّ شَرْعِيَّةَ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ عَنْهُ هُمَا بِطَرِيقِ النَّظَرِ. 1 - قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يُنْظَرَ إلَى مَا فِيهِ نَظَرٌ لَهُ أَبَدًا) يَعْنِي لَا يُجْعَلُ السَّفِيهُ عِنْدَهُمَا كَالْهَازِلِ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ وَلَا كَالصَّبِيِّ وَلَا كَالْمَرِيضِ بَلْ الْمُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ تَوْفِيرُ النَّظَرِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ ثَبَتَ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ فَبِحَسْبِهِ يَلْحَقُ بِبَعْضِ هَذِهِ الْأُصُولِ. فَإِذَا أَعْتَقَ عَبْدًا نَفَذَ عِتْقُهُ؛ لِأَنَّ السَّفَهَ كَالْهَزْلِ وَلَكِنَّهُ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ ثَبَتَ بِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْحَجْرِ عَلَى الْمَرِيضِ لِغُرَمَائِهِ وَوَرَثَتِهِ وَهُنَاكَ وَجَبَتْ السِّعَايَةُ لِلْغُرَمَاءِ فِي كُلِّ الْقِيمَةِ وَلِلْوَرَثَةِ فِي ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ رَدَّا لِلْعِتْقِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ

وَهُوَ أَنْوَاعٌ عِنْدَهُمَا حَجْرٌ بِسَبَبِ السَّفَهِ مُطْلَقًا وَذَلِكَ يَثْبُتُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِنَفْسِ السَّفَهِ إذَا حَدَثَ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَوْ بَلَغَ كَذَلِكَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا بُدَّ مِنْ حُكْمِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ بَابَ النَّظَرِ إلَى الْقَاضِي. وَالنَّوْعُ الثَّانِي إذَا امْتَنَعَ الْمَدْيُونُ عَنْ بَيْعِ مَالِهِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ بَاعَ الْقَاضِي عَلَيْهِ أَمْوَالَهُ وَالْعُرُوضُ وَالْعَقَارُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَذَلِكَ ضَرْبُ حَجْرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــQفَكَذَا هَاهُنَا وَإِنْ جَاءَتْ جَارِيَةٌ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَكَانَ الْوَلَدُ حُرًّا لَا سَبِيلٍ عَلَيْهِ وَالْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدٍ لَا سَبِيلَ عَلَيْهَا لِأَحَدٍ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ تَوْفِيرَ النَّظَرِ فِي إلْحَاقِهِ بِالْمُصْلِحِ فِي حُكْمِ الِاسْتِيلَاءِ لِحَاجَتِهِ إلَى إبْقَاءِ نَسْلِهِ وَصِيَانَةِ مَائِهِ فَيَلْحَقُ فِي هَذَا بِالْمَرِيضِ الْمَدْيُونِ إذَا ادَّعَى نَسَبَ وَلَدِ جَارِيَتِهِ كَانَ هُوَ فِي ذَلِكَ كَالصَّحِيحِ حَتَّى إنَّهَا تَعْتِقُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ بِمَوْتِهِ وَلَا تَسْعَى هِيَ وَلَا وَلَدُهَا فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَقِّ غُرَمَائِهِ وَلَوْ اشْتَرَى هَذَا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ ابْنَهُ وَهُوَ مَعْرُوفٌ وَقَبَضَهُ كَانَ شِرَاؤُهُ فَاسِدًا وَيَعْتِقُ الْغُلَامُ حِين قَبَضَهُ وَيُجْعَلُ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ شِرَاءِ الْمُكْرَهِ فَيَثْبُتُ لَهُ الْمِلْكُ بِالْقَبْضِ وَيَعْتِقُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ ابْنِهِ ثُمَّ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ لِلْبَائِعِ وَلَا يَكُونُ لِلْبَائِعِ فِي مَالِ الْمُشْتَرِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ مَلَكَهُ لِلْقَبْضِ فَالْتِزَامُ الثَّمَنِ أَوْ الْقِيمَةِ مِنْهُ بِالْعَقْدِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ فَهُوَ فِي هَذَا الْحُكْمِ مُلْحَقٌ بِالصَّبِيِّ. وَلَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ أَوْ نَذَرَ نُذُورًا مِنْ هَدْيٍ أَوْ صَدَقَةٍ لَمْ يُنْفِذْ لَهُ الْقَاضِي شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَدَعْهُ يُكَفِّرُ أَيْمَانَهُ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْإِتْلَافِ فَهُوَ مُلْحَقٌ بِالصَّبِيِّ فِي هَذَا الْحُكْمِ أَيْضًا وَلَكِنَّهُ يَصُومُ لِكُلِّ يَمِينٍ حَنِثَ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ وَإِنْ كَانَ هُوَ مَالِكًا؛ لِأَنَّ يَدَهُ مَقْصُورَةٌ عَنْ مَالِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ ابْنِ السَّبِيلِ الْمُنْقَطِعِ عَنْ مَالِهِ فَلَهُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ. قَوْلُهُ (وَهُوَ) أَيْ الْحَجْرُ بِسَبَبِ النَّظَرِ عِنْدَهُمَا أَنْوَاعٌ حَجَرٌ بِسَبَبِ السَّفَهِ مُطْلَقًا يَعْنِي سَوَاءٌ كَانَ أَصْلِيًّا بِأَنْ بَلَغَ سَفِيهًا أَوْ عَارِضًا بِأَنْ حَدَثَ بَعْدَ الْبُلُوغِ رَشِيدًا وَذَلِكَ أَيْ هَذَا الْحَجْرُ يَثْبُتُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ بِنَفْسِ السَّفَهِ بِدُونِ حَجْرِ الْقَاضِي أَصْلِيًّا كَانَ أَوْ عَارِضًا؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ قَامَتْ لَنَا عَلَى أَنَّ السَّفَهَ فِي ثُبُوتِ الْحَجْرِ بِهِ نَظِيرُ الْجُنُونِ وَالْعَتَهِ وَالصِّغَرِ وَالرِّقِّ، وَالْحَجْرُ يَثْبُتُ بِنَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي فَكَذَلِكَ بِالسَّفَهِ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ لَا يَصِيرُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ مَا لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ الْقَاضِي فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ وَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ النَّظَرِ وَالضَّرَرِ فَفِي إبْقَاءِ الْمِلْكِ لَهُ نَظَرٌ وَفِي إهْدَارِ قَوْلِهِ ضَرَرٌ وَبِمِثْلِ هَذَا لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ مِنْهُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي يُوَضِّحُهُ أَنَّ السَّفَهَ لَيْسَ بِشَيْءٍ مَحْسُوسٍ وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِأَنْ يُغْبَنَ فِي التَّصَرُّفَاتِ وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِلسَّفَهِ وَقَدْ يَكُونُ حِيلَةً لِاسْتِجْلَابِ قُلُوبِ الْمُجَاهِرِينَ فَإِذَا كَانَ مُحْتَمِلًا مُتَرَدِّدًا لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِخِلَافِ الصِّغَرِ وَالْجُنُونِ وَالْعَتَهِ وَلِأَنَّ الْحَجْرَ بِهَذَا السَّبَبِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي كَالْحَجْرِ بِسَبَبِ الدِّينِ. فَلَوْ أَدْرَكَ سَفِيهًا فَلَمْ يَرْفَعْ أَمْرَهُ إلَى الْقَاضِي حَتَّى بَاعَ شَيْئًا مِنْ تَرِكَةِ وَالِدِهِ وَأَقَرَّ بِدُيُونٍ وَوَهَبَ هِبَاتٍ وَتَصَدَّقَ بِصَدَقَاتٍ صَحَّ جَمِيعُهَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ. رَحِمَهُمَا اللَّهُ النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْحَجْرِ أَنَّ الْمَدْيُونَ إذَا امْتَنَعَ عَنْ بَيْعِ مَالِهِ لِقَضَاءِ الدِّينِ بَاعَ الْقَاضِي عَلَيْهِ أَمْوَالَهُ عُرُوضًا كَانَ أَوْ عَقَارًا عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَبِيعُ عَلَيْهِ مَالَهُ إلَّا أَحَدَ النَّقْدَيْنِ بِالْآخِرِ اسْتِحْسَانًا لِقَضَاءِ دَيْنِهِ احْتَجَّا فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ «مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ رَكِبَتْهُ الدُّيُونُ فَبَاعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَالَهُ وَقَسَّمَ ثَمَنَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ» وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي خُطْبَتِهِ إيَّاكُمْ وَالدَّيْنَ فَإِنَّ أَوَّلَهُ هَمٌّ وَآخِرَهُ حُزْنٌ وَإِنَّ أُسَيْفِعَ جُهَيْنَةَ قَدْ رَضِيَ مِنْ دِينه وَأَمَانَته أَنْ يُقَال قَدْ سَبَقَ الْحَاجّ فادان مُعْرِضًا فَأَصْبَحَ وَقَدْ رِينَ عَلَيْهِ أَلَا إنِّي بَائِعٌ عَلَيْهِ مَالَهُ وَقَاسِمٌ ثَمَنَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ مِمَّنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَغْدُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَكَانَ هَذَا اتِّفَاقًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُبَاعُ عَلَى الْمَدْيُونِ مَالُهُ وَبِأَنَّ بَيْعَ الْمَالِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُحْبَسُ إذَا امْتَنَعَ مِنْهُ وَهُوَ مِمَّا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ وَالْأَصْلُ أَنَّ مَنْ امْتَنَعَ عَنْ إيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ وَهُوَ مِمَّا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ كَالذِّمِّيِّ إذَا أَسْلَمَ عَبْدُهُ فَأَبَى أَنْ يَبِيعَهُ بَاعَهُ الْقَاضِي، وَالْعِنِّينُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ

وَالثَّالِثُ أَنْ يَخَافَ عَلَى الْمَدْيُونِ أَنْ يُلْجِئَ أَمْوَالَهُ بِبَيْعٍ أَوْ إقْرَارٍ فَيَحْجُرَ عَلَيْهِ عَلَى أَنْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ إلَّا مَعَ هَؤُلَاءِ الْغُرَمَاءِ وَالرَّجُلُ غَيْرُ سَفِيهٍ فَإِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ لِيُعْلَمَ أَنَّ طَرِيقَ الْحَجْرِ عِنْدَهُمَا النَّظَرُ لِلْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ السَّفَهُ مِنْ أَسْبَابِ النَّظَرِ فَلَا لَكِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَضْلِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQإذَا أَبَى أَنْ يُفَارِقَهَا نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وَبَيْعُ الْمَالِ عَلَى الْمَدْيُونِ بِغَيْرِ رِضَاهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ عَنْ تَرَاضٍ وَبِأَنَّ بَيْعَ الْمَالِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ قَضَاءُ الدَّيْنِ وَبَيْعُ الْمَالِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ قَضَائِهِ بِالِاسْتِيهَابِ وَالِاسْتِقْرَاضِ وَسُؤَالِ الصَّدَقَةِ مِنْ النَّاسِ فَلَا يَكُونُ لِلْقَاضِي تَعْيِينُ هَذِهِ الْجِهَةِ عَلَيْهِ بِمُبَاشَرَةِ بَيْعِ مَالِهِ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ كَالْإِجَارَةِ وَالتَّزْوِيجِ. الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَحْبِسُهُ بِالِاتِّفَاقِ وَلَوْ جَازَ لَهُ بَيْعُ مَالِهِ لَمْ يَشْتَغِلْ بِحَبْسِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهِ وَبِالْغُرَمَاءِ فِي تَأْخِيرِ وُصُولِ حَقِّهِمْ إلَيْهِمْ فَلَا مَعْنَى لِلْمَصِيرِ إلَيْهِ بِدُونِ الْحَاجَةِ وَهَذَا بِخِلَافِ عَبْدِ الذِّمِّيِّ إذَا أَسْلَمَ؛ لِأَنَّ عِنْدَ إصْرَارِ الْمَوْلَى عَلَى الشِّرْكِ إخْرَاجَ الْعَبْدِ عَنْ مِلْكِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ فَيَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ. وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعِنِّينِ لَمَّا تَحَقَّقَ عَجْزُهُ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ اُسْتُحِقَّ عَلَيْهِ التَّسْرِيحُ بِعَيْنِهِ فَأَمَّا مُبَادَلَةُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ بِأَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ وَمَالُهُ دَنَانِيرَ فَفِي الْقِيَاسِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُبَاشِرَ هَذِهِ الْمُصَارَفَةَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَضَاءُ الدَّيْنِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُفْعَلُ ذَلِكَ. الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ جِنْسَانِ صُورَةً، وَجِنْسٌ وَاحِدٌ مَعْنًى وَلِهَذَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ وَلَوْ كَانَ مَالُهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ صُورَةً كَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِهِ دَيْنَهُ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَالُهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ مَعْنًى وَلَكِنْ لَا يَكُونُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ وِلَايَةُ الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ كَمَا لَوْ ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ صُورَةً وَإِنْ كَانَا جِنْسًا وَاحِدًا حُكْمًا فَلِعَدَمِ الْمُجَانَسَةِ صُورَةً لَا يَنْفَرِدُ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِأَخْذِهِ وَلِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ مَعْنًى كَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنَّمَا بَاعَ مَالَهُ بِسُؤَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَفَاءً بِدَيْنِهِ فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَوَلَّى بَيْعَ مَالِهِ لِيَنَالَ مَالُهُ بَرَكَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَصِيرَ وَفَاءً بِدَيْنِهِ. وَهَذَا؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا يَأْمُرُ الْقَاضِي الْمَدْيُونَ بِبَيْعِ مَالِهِ أَوَّلًا فَإِذَا امْتَنَعَ فَحِينَئِذٍ يَبِيعُ مَالَهُ وَلَا يُظَنُّ بِمُعَاذٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْبَى أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيَّاهُ بِبَيْعِ مَالِهِ حَقٌّ يَحْتَاجُ بِبَيْعِهِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَإِنَّهُ كَانَ سَمْحًا جَوَادًا لَا يَمْنَعُ أَحَدًا شَيْئًا وَلِأَجْلِهِ رَكِبَتْهُ الدُّيُونُ فَكَيْفَ يَمْتَنِعُ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ بِمَالِهِ بَعْدَ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمَشْهُورُ فِي حَدِيثِ أُسَيْفِعَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ إنِّي قَاسِمٌ مَالَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ مَالَهُ كَانَ مِنْ جِنْسِ دَيْنِهِ وَإِنْ ثَبَتَ الْبَيْعُ فَإِنَّمَا كَانَ بِرِضَاهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ عِنْدَهُمَا الْقَاضِيَ لَا يَبِيعُهُ إلَّا عِنْدَ طَلَبِ الْغُرَمَاءِ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ الْغُرَمَاءَ طَالَبُوهُ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا الْمَنْقُولُ أَنَّهُ ابْتَدَأَهُمْ بِذَلِكَ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَغْدُوَا إلَيْهِ فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ بِرِضَاهُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. قَوْلُهُ (وَالثَّالِثُ أَنْ يَخَافَ عَلَى الْمَدْيُونِ) إلَى آخِرِهِ إذَا خِيفَ عَلَى مَنْ رَكِبَتْهُ الدُّيُونُ أَنْ يُلْجِئَ مَالَهُ بِطَرِيقِ الْإِقْرَارِ أَوْ الْبَيْعِ فَطَلَبَ الْغُرَمَاءُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ لَا يَحْجُرُ الْقَاضِي عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا يَحْجُرُ عَلَيْهِ وَبَعْدَ الْحَجْرِ لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي الْمَالِ الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ عِنْدَ الْحَجْرِ وَيُنْفِذُ تَصَرُّفَاتِهِ فِيمَا يَكْتَسِبُ مِنْ الْمَالِ بَعْدَهُ وَفِي هَذَا الْحَجْرِ نَظَرٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَإِذَا جَازَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا بِطَرِيقِ النَّظَرِ لَهُ فَلِذَلِكَ يَحْجُرُ عَلَيْهِ لِأَجْلِ النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا لَا يَحْجُرُ عَلَى الْمَدْيُونِ نَظَرًا لَهُ لَا يَحْجُرُ عَلَيْهِ نَظَرًا لِلْغُرَمَاءِ لِمَا فِي الْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّصَرُّفَاتِ فِي مَالِهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَجُوزُ النَّظَرُ لِغُرَمَائِهِ بِطَرِيقٍ لَا يَكُونُ فِيهِ أَلْحَقَ الضَّرَرَ بِهِ إلَّا بِقَدْرِ مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ وَهُوَ الْحَبْسُ فِي الدَّيْنِ لِأَجْلِ ظُلْمِهِ الَّذِي تَحَقَّقَ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ وَخَوْفِ التَّلْجِئَةِ ظُلْمٌ مَوْهُومٌ مِنْهُ فَلَا يُجْعَلُ كَالْمُتَحَقِّقِ ثُمَّ الضَّرَرُ فِي إهْدَارِ قَوْلِهِ فَوْقَ الضَّرَرِ فِي حَبْسِهِ وَلَا يُسْتَدَلُّ بِثُبُوتِ الْأَدْنَى عَلَى ثُبُوتِ الْأَعْلَى كَمَا فِي مَنْعِ الْمَالِ مِنْ

[السفر من العوارض المكتسبة]

الْقِسْمُ الْخَامِسُ وَهُوَ السَّفَرُ السَّفَرُ هُوَ الْخُرُوجُ الْمَدِيدُ وَأَدْنَاهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا عَلَى مَا عُرِفَ وَأَنَّهُ لَا يُنَافِي شَيْئًا مِنْ الْأَهْلِيَّةِ وَلَا يَمْنَعُ شَيْئًا مِنْ الْأَحْكَامِ لَكِنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ التَّخْفِيفِ بِنَفْسِهِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الْمَشَقَّةِ لَا مَحَالَةَ بِخِلَافِ الْمَرَضِ؛ لِأَنَّهُ مُتَنَوِّعٌ عَلَى مَا قُلْنَا وَاخْتَلَفُوا فِي أَثَرِهِ فِي الصَّلَوَاتِ فَهُوَ عِنْدَنَا سَبَبٌ لِلْوَضْعِ أَصْلًا حَتَّى إنَّ ظُهْرَ الْمُسَافِرِ وَفَجْرَهُ سَوَاءٌ لَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالسَّفِيهِ مَعَ الْحَجْرِ ثُمَّ هَذَا الْحَجْرُ عِنْدَهُمَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْأَوَّلِ فَيَقُولُ هَذَا الْحَجْرُ لِأَجْلِ النَّظَرِ لِلْغُرَمَاءِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى طَلَبِهِمْ وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَالْحَجْرُ عَلَى السَّفِيهِ لِأَجْلِ النَّظَرِ لَهُ وَهُوَ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى طَلَبِ أَحَدٍ فَثَبَتَ حُكْمُهُ بِدُونِ الْقَضَاءِ فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ إيجَابِ الْحَجْرِ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ طَرِيقَ الْحَجْرِ عِنْدَهُمَا هُوَ النَّظَرُ لِلْمُسْلِمِينَ لَا أَنْ تَكُونَ نَفْسُ السَّفَهِ الَّذِي هُوَ مَعْصِيَةٌ مِنْ أَسْبَابِ النَّظَرِ فَإِنَّ السَّفَهَ لَمْ يُوجَدْ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ وَقَدْ وَجَبَ الْحَجْرُ نَظَرًا لِلْمُسْلِمِينَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَالرَّجُلُ غَيْرُ سَفِيهٍ إلَى آخِرِهِ. لَكِنَّهُ أَيْ السَّفَهَ بِمَنْزِلَةِ الْعَضْلِ أَيْ الْمَنْعِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ فِي أَنَّهُ يُوجِبُ الْحَجْرَ نَظَرًا فَإِنَّ الْوَلِيَّ إذَا امْتَنَعَ عَنْ تَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ عِنْدَ خِطْبَةِ الْكُفْءِ وَخِيفَ فَوْتُهُ يُزَوِّجُهَا الْقَاضِي مِنْهُ وَيَصِيرُ الْوَلِيُّ مَحْجُورًا سَاقِطَ الْوِلَايَةِ فِي هَذَا الْعَقْدِ حَتَّى لَمْ تَكُنْ لَهُ وِلَايَةُ إبْطَالِهِ نَظَرًا لِلْمَرْأَةِ لَا أَنْ يَكُونَ الْعَضْلُ الَّذِي هُوَ ظُلْمٌ مِنْ أَسْبَابِ النَّظَرِ لَهُ فَكَذَا السَّفِيهُ إذَا أَتْلَفَ مَالِهِ يُحْجَرُ عَلَيْهِ نَظَرًا لِلْمُسْلِمِينَ لَا أَنْ يَكُونَ السَّفَهُ بِنَفْسِهِ مِنْ أَسْبَابِ النَّظَرِ لَهُ. [السَّفَر مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ] قَوْلُهُ (الْقِسْمُ الْخَامِسُ) أَيْ مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ وَهُوَ السَّفَرُ السَّفَرُ قَطْعُ الْمَسَافَةِ لُغَةً وَفِي الشَّرِيعَةِ هُوَ الْخُرُوجُ عَلَى قَصْدِ الْمَسِيرِ إلَى مَوْضِعٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَوْقَهَا سَيْرُ الْإِبِلِ وَمَشْيُ الْأَقْدَامِ عَلَى مَا عُرِفَ يَعْنِي فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا هُوَ الْمُخْتَارُ وَأَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا» يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ وَأَنَّهُ لَا يُنَافِي شَيْئًا مِنْ الْأَهْلِيَّةِ أَيْ لَا يَحِلُّ بِهَا بِوَجْهٍ لِبَقَاءِ الْقُدْرَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ بِكَمَالِهَا. وَلَا يَمْنَعُ شَيْئًا أَيْ وُجُوبَ شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ نَحْوَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهَا لَكِنَّهُ جَعَلَ فِي الشَّرْعِ مِنْ أَسْبَابِ التَّخْفِيفِ بِنَفْسِهِ مُطْلَقًا يَعْنِي مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى كَوْنِهِ مُوجِبًا لِلْمَشَقَّةِ أَوْ غَيْرَ مُوجِبٍ لَهَا لِأَنَّهُ أَيْ السَّفَرَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَشَقَّةِ لَا مَحَالَةَ يَعْنِي فِي الْغَالِبِ حَتَّى لَوْ تَنَزَّهَ سُلْطَانٌ مِنْ بُسْتَانٍ إلَى بُسْتَانٍ فِي خَدَمِهِ وَأَعْوَانِهِ لَحِقَهُ مَشَقَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى حَالِ إقَامَتِهِ فَلِذَلِكَ اُعْتُبِرَ نَفْسُ السَّفَرِ سَبَبًا لِلرُّخْصِ وَأُقِيمَ مُقَامَ الْمَشَقَّةِ بِخِلَافِ الْمَرَضِ حَيْثُ لَمْ تَتَعَلَّقْ الرُّخْصَةُ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَنَوِّعٌ إلَى مَا يَضُرُّ بِهِ الصَّوْمُ وَإِلَى مَا لَا يَضُرُّ بِهِ بَلْ يَنْفَعُهُ فَلِذَلِكَ تَعَلَّقَتْ الرُّخَصُ بِالْمَرَضِ الَّذِي يُوجِبُ الْمَشَقَّةَ بِازْدِيَادِ الْمَرَضِ لَا بِمَا لَا يُوجِبُهَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَدَثَ بِهِ بَرَصٌ فِي حَالِ الصَّوْمِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ بِالْإِفْطَارِ مَعَ أَنَّهُ مِنْ الْأَمْرَاضِ الصَّعْبَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْحُكْمَ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِنَفْسِ الْمَرَضِ كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَاخْتُلِفَ فِي أَثَرِ السَّفَرِ فِي الصَّلَوَاتِ فَأَثَرُهُ فِي حَقِّ الصَّلَوَاتِ عِنْدَنَا إسْقَاطُ الشَّطْرِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ إلَّا كَمَالٌ مَشْرُوعٌ أَصْلًا فَكَانَ ظُهْرُ الْمُسَافِرِ وَفَجْرُهُ سَوَاءً وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حُكْمُ السَّفَرِ ثُبُوتُ حَقِّ التَّرَخُّصِ لَهُ بِأَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ إنْ شَاءَ كَمَا فِي الْإِفْطَارِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يُجْزِهِ إلَّا الْأَرْبَعُ وَإِذَا فَاتَتْ لَزِمَهُ قَضَاءُ الْأَرْبَعِ عِنْدَهُ وَقَدْ أَوْضَحَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ هَاهُنَا غَايَةَ الْإِيضَاحِ وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهَا فِي بَابِ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ شَرْحٍ دَلِيلَانِ ظَاهِرَانِ مِنْ النَّصِّ وَالْمَعْقُولِ وَدَلِيلَانِ خَفِيَّانِ مِنْهُمَا أَيْضًا الْقَصْرُ أَصْلٌ قَالَ مُقَاتِلٌ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بِمَكَّةَ رَكْعَتَيْنِ بِالْغَدَاةِ وَرَكْعَتَيْنِ بِالْعَشِيِّ فَلَمَّا عُرِجَ بِهِ إلَى السَّمَاءِ أُمِرَ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَصَارَتْ الرَّكْعَتَانِ لِلْمُسَافِرِ وَلِلْمُقِيمِ أَرْبَعًا» كَذَا فِي التَّيْسِيرِ إلَّا بِنَصٍّ وَالنَّصُّ فِي حَالِ الْإِقَامَةِ دُونَ السَّفَرِ «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» يَعْنِي الْقَصْرُ الْمُتَعَلِّقُ بِالسَّفَرِ صَدَقَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْكُمْ فَاعْمَلُوا بِهَا وَاعْتَقِدُوهَا وَالْقَصْرُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ الْمُعَلَّقِ بِالْخَوْفِ غَيْرُ هَذَا الْقَصْرِ وَهُوَ قَصْرُ الْأَحْوَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ حَقٍّ يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ سَبَبُ رُخْصَةٍ فَلَا يُبْطِلُ الْعَزِيمَةَ كَمَا قِيلَ فِي حَقِّ الصَّائِمِ وَلَنَا عَلَى مَا قُلْنَا دَلِيلَانِ ظَاهِرَانِ وَدَلِيلَانِ خَفِيَّانِ أَمَّا الْأَوَّلَانِ فَأَحَدُهُمَا أَنَّ الْقَصْرَ أَصْلٌ وَالْإِكْمَالَ زِيَادَةٌ قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَأُقِرَّتْ فِي السَّفَرِ وَزِيدَتْ فِي الْحَضَرِ وَالْأَصْلُ لَا يَحْتَمِلُ الْمَزِيدَ إلَّا بِالنَّصِّ. وَالثَّانِي أَنَّا وَجَدْنَا الْفَضْلَ عَلَى رَكْعَتَيْنِ إنْ أَدَّاهُ أُثِيبَ عَلَيْهِ وَإِنْ تَرَكَهُ لَا يُعَاتَبُ عَلَيْهِ وَهَذَا حَدُّ النَّوَافِلِ. وَأَمَّا الْوَجْهَانِ الْخَفِيَّانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذِهِ رُخْصَةُ إسْقَاطٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ وُضِعَ عَنَّا مِثْلُ وَضْعِ الْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ، «قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَا رَسُولَ اللَّهِ مَالَنَا نَقْصُرُ وَقَدْ أَمِنَّا فَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِصَدَقَةٍ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» وَحَقُّ الصَّلَاةِ عَلَيْنَا حَقٌّ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ وَلَا مَالِيَّةَ فِيهِ وَكَانَتْ صَدَقَتُهُ إسْقَاطًا مَحْضًا لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ أَرَأَيْت عَفْوَ اللَّهِ عَنَّا إلَّا تَامًّا وَهِبَتَهُ الْعِتْقَ مِنْ النَّارِ أَيَحْتَمِلُ الرَّدَّ هَذَا أَمْرٌ يُعْرَفُ بِبُدَاءَةِ الْعُقُولِ ـــــــــــــــــــــــــــــQكَالْإِرْثِ فَإِسْقَاطُ حَقٍّ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ أَوْلَى أَنْ لَا يَحْتَمِلَ الرَّدَّ وَهَذَا بِخِلَافِ إبْرَاءِ الدَّيْنِ مِنْ الْعِبَادِ حَيْثُ يَحْتَمِلُ الرَّدَّ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَا يَكُونُ إسْقَاطًا مَحْضًا فَيَجُوزُ أَنْ يَرْتَدَّ بِالرَّدِّ عَمَلًا بِجِهَةِ التَّمْلِيكِ وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ صِحَّتُهُ عَلَى الْقَبُولِ عَمَلًا بِجِهَةِ الْإِسْقَاطِ فَأَمَّا هَذَا فَإِسْقَاطٌ مَحْضٌ فَلَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ بِوَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ يَتِمُّ بِالْمُسْقِطِ وَهُوَ جَوَابٌ عَنْ تَمَسُّكِ الْخَصْمِ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ قَالَ سَمَّاهُ صَدَقَةً وَأَمَرَ بِالْقَبُولِ فَيَتَوَقَّفُ التَّرَخُّصُ عَلَى الْقَبُولِ فَأَجَابَ بِمَا ذُكِرَ لَكَانَ اخْتِيَارًا فِي وَضْعِ الشَّرْعِ يَعْنِي لَوْ عَلَّقَ التَّرَخُّصَ بِاخْتِيَارِهِ عَلَى مَعْنَى إنْ شَاءَ قَبِلَ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ لَكَانَ ذَلِكَ نَصْبَ شَرِيعَةٍ مُفَوَّضًا إلَى رَأْيِ الْعِبَادِ وَصَارَ كَأَنَّ الشَّارِعَ قَالَ اُقْصُرُوا إنْ شِئْتُمْ وَهَذَا أَمْرٌ لَا نَظِيرَ لَهُ فَأَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ نَدْبٍ أَوْ إبَاحَةٍ أَوْ وُجُوبٍ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِرَأْيِ الْعَبْدِ بَلْ حُكْمُهُ نَافِذٌ فِي الْحَالِ وَلَوْ عَلَّقَ بِهِ لَمْ يَكُنْ شَرْعًا فِي الْحَالِ كَالطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ بِالْمَشِيئَةِ وَإِذَا شَاءَ الْعَبْدُ كَانَ الثُّبُوتُ مُضَافًا إلَى الْمَشِيئَةِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ بِالْمَشِيئَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الشُّرُوطِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِالْمَشِيئَةِ تَمْلِيكٌ وَلَا يَجُوزُ إضَافَةُ نَصْبِ الشَّرِيعَةِ إلَّا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ رُسُلِهِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْعِبَادِ فَإِنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِاخْتِيَارِ الْمُتَصَدِّقِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْمُتَصَدِّقِ غَيْرُ نَافِذَةٍ فَلِهَذَا تَعَلَّقَ بِهِ أَمَّا صَيْرُورَةُ الصَّلَاةِ رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعًا فَلَيْسَ إلَيْنَا بَلْ الْأَدَاءُ إلَيْنَا وَمُبَاشَرَةُ الْعِلَلِ مِنْ سَفَرٍ وَإِقَامَةٍ دُونَ إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ ثُبُوتُ الْخِيَارِ بَيْنَ الْمَشْرُوعَيْنِ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ مَعَ الظُّهْرِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَكَمَا فِي أَنْوَاعِ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ خِيَارَهُ هُنَاكَ فِي تَعْيِينِ الْمَشْرُوعِ لَا فِي أَصْلِ الْمَشْرُوعِ أَمَّا هَاهُنَا فَلَيْسَ مَشْرُوعُ الْوَقْتِ إلَّا صَلَاةً وَاحِدَةً مَقْصُورَةً أَوْ كَامِلَةً فَمَتَى تَعَيَّنَ الْقَصْرُ مَشْرُوعًا لَمْ يَبْقَ إلَّا كَمَالٌ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ كَالظُّهْرِ مَعَ الْعَصْرِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَهَذَا؛ لِأَنَّ السَّفَرَ مَتَى أَوْجَبَ الْقَصْرَ طَارِئًا لَمْ يَبْقَ الْأَرْبَعُ كَالْإِبْرَاءِ عَنْ بَعْضِ الدَّيْنِ إذَا وَجَبَ السُّقُوطُ لَمْ يَبْقَ الْكَمَالُ إلَّا بِالرَّدِّ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا لَا تَكْمُلُ الصَّلَاةُ إلَّا بِرَدِّ هَذَا الشَّرْعِ وَمَا لِلْعَبْدِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ وَهَذَا أَيْ إثْبَاتُ الْخِيَارِ عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى الشَّرِكَةِ فِي وَضْعِ الشَّرْعِ غَلَطٌ ظَاهِرٌ أَلَا تَرَى تَوْضِيحًا لِقَوْلِهِ إنَّمَا لِلْعَبْدِ اخْتِيَارُ مَا يَرْتَفِقُ بِهِ وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ فِي جِنَايَاتِهِ يَعْنِي يَلْزَمُهُ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الْأَرْشِ وَلَا يُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ كَانَ الْأَقَلُّ مُتَعَيِّنًا فِي هَذَا الْمَسَائِلِ وَلَمْ يَثْبُتْ الْخِيَارُ وَالْجِنْسُ وَاحِدٌ احْتِرَازٌ عَنْ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَالظُّهْرِ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فِي الْجُمُعَةِ الثَّوَابُ فِي حُسْنِ الطَّاعَةِ لَا فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «رَكْعَتَانِ مِنْ تَقِيٍّ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ رَكْعَةٍ مِنْ مُخَلِّطٍ» فَكَذَلِكَ أَيْ مِثْلُ ظُهْرِ الْعَبْدِ وَجُمُعَةِ الْحُرِّ ظُهْرُ الْمُقِيمِ وَظُهْرُ الْمُسَافِرِ لَا يَصِحُّ بِنَاؤُهُ عَلَى حُكْمِ الْآخِرَةِ بَلْ يَجِبُ بِنَاؤُهُ عَلَى مَا نَعْقِلُهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ لُزُومٍ وَبَرَاءَةٍ بِلَا أَدَاءً كَمَا فِي الِاخْتِيَارِ فِي أَنْوَاعِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْيُسْرِ الْحَالِيِّ فِي الدُّنْيَا لَا عَلَى الثَّوَابِ. قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا الْحُكْمُ) وَهُوَ قَصْرُ الصَّلَاةِ بِالسَّفَرِ إذَا اتَّصَلَ السَّفَرُ بِسَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْجُزْءُ الَّذِي يَتَّصِلُ بِالْأَدَاءِ ثَبَتَ هَذَا إذْ الْجُزْءُ الْأَخِيرُ مِنْ الْوَقْتِ حَتَّى ظَهَرَ أَثَرُهُ أَيْ أَثَرُ السَّفَرِ فِي أَصْلِ الْوَاجِبِ وَهُوَ الْأَدَاءُ بِالْقَصْرِ فَظَهَرَ فِي قَضَائِهِ الَّذِي هُوَ خَلْفُهُ فَلِهَذَا لَوْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ فِي السَّفَرِ قَضَاهَا فِي السَّفَرِ وَفِي الْحَضَرِ رَكْعَتَيْنِ وَإِذَا لَمْ يَتَّصِلْ السَّفَرُ بِالسَّبَبِ فَلَا أَيْ لَا يَثْبُتُ الْقَصْرُ حَتَّى لَوْ فَاتَتْهُ رُبَاعِيَةٌ فِي الْحَضَرِ قَضَاهَا فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُقَارِنَ الْمَانِعَ الْمُثْبِتَ لِيَمْنَعَهُ عَنْ الْعَمَلِ فَإِذَا تَأَخَّرَ ثَبَتَ الْحُكْمُ وَتَقَرَّرَ فَلَا يَزُولُ إلَّا بِالْأَدَاءِ أَوْ الرَّافِعِ وَالسَّفَرُ مَانِعٌ لَا رَافِعٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا مَضَى مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُصَلَّى فِيهِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ ثُمَّ خَرَجَ مُسَافِرًا صَلَّى أَرْبَعًا وَعِنْدَنَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الصَّلَاةِ عِنْدَهُ يَتَعَلَّقُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ فَإِذَا كَانَ مُقِيمًا فِي أَوَّلِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْمُقِيمِينَ وَعِنْدَنَا الْوُجُوبُ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي

بِخِلَافِ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ أَوْجَبَ تَأْخِيرَهُ بِالسَّفَرِ لَا سُقُوطَهُ فَبَقِيَ فَرْضًا فَصَحَّ أَدَاؤُهُ وَثَبَتَ أَنَّهُ رُخْصَةُ تَأْخِيرٍ وَفِي الصَّلَاةِ رُخْصَةُ إسْقَاطٍ وَفَسْخٍ فَانْعَدَمَ أَدَاؤُهُ الثَّانِي أَنَّ الْعُبُودِيَّةَ تُنَافِي الْمَشِيئَةَ الْمُطْلَقَةَ وَالِاخْتِيَارَ الْكَامِلَ وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْبَارِّ جَلَّ جَلَالُهُ وَإِنَّمَا لِلْعَبْدِ اخْتِيَارُ مَا يَرْتَفِقُ بِهِ وَلِلَّهِ تَعَالَى الِاخْتِيَارُ الْمُطْلَقُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ بِلَا رِفْقٍ يَعُودُ إلَيْهِ وَلَا حَقَّ يَلْزَمُهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَالِفَ إذَا حَنِثَ فِي الْيَمِينِ خُيِّرَ بَيْنَ أَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ مِنْ الْكَفَّارَةِ لِرِفْقٍ يَخْتَارُهُ وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَوْ ثَبَتَ لَهُ الِاخْتِيَارُ بَيْنَ الْقَصْرِ وَالْإِكْمَالِ لَكَانَ اخْتِيَارًا فِي وَضْعِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ لَا رِفْقَ لَهُ بَلْ الرِّفْقُ وَالْيُسْرُ مُتَعَيِّنٌ فِي الْقَصْرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ الِاخْتِيَارَ رِفْقًا كَانَ رُبُوبِيَّةً لَا عُبُودِيَّةً وَهَذَا غَلَطٌ ظَاهِرٌ وَخَطَأٌ بَيِّنٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُدَبَّرَ إذَا جَنَى جِنَايَةً لَمْ يُخَيَّرْ مَوْلَاهُ بَيْنَ قِيمَتِهِ وَهِيَ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَبَيْنَ الدِّيَةِ وَهِيَ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَكَذَلِكَ إذَا جَنَى عَبْدٌ ثُمَّ أَعْتَقَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِجِنَايَتِهِ غَرِمَ قِيمَتَهُ إذَا كَانَتْ دُونَ الْأَرْشِ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ. وَكَذَلِكَ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَوَّلِ الْوَقْتِ بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالتَّأْخِيرِ وَالْوُجُوبُ يَنْفِي التَّخْيِيرَ فَإِذَا كَانَ مُسَافِرًا فِي آخِرِهِ كَانَ عَلَيْهِ صَلَاةُ السَّفَرِ. قَوْلُهُ (وَلَمَّا كَانَ السَّفَرُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُخْتَارَةِ) أَيْ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ وُجُودُهَا بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ وَكَسْبِهِ وَلَمْ يَكُنْ مُوجِبًا ضَرُورَةً لَازِمَهُ يَعْنِي بَعْدَمَا تَحَقَّقَ لَا يُوجِبُ ضَرُورَةً تَدْعُو إلَى الْإِفْطَارِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ قَادِرٌ عَلَى الصَّوْمِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ تَلْحَقَهُ آفَةٌ فِي بَدَنِهِ أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّ الضَّرُورَةَ الدَّاعِيَةَ إلَى الْفِطْرِ غَيْرُ لَازِمَةٍ لِإِمْكَانِ دَفْعِهَا بِالِامْتِنَاعِ عَنْ السَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُخْتَارَةِ بِخِلَافِ الْمَرَضِ قِيلَ لَهُ أَيْ لِلْمُسَافِرِ إنَّ الْمُسَافِرَ هُوَ مِنْ قَبِيلِ إقَامَةِ الْمُظْهَرِ مَقَامَ الْمُضْمَرِ وَلَوْ لَمْ تُذْكَرْ كَلِمَةُ لَهُ لَكَانَ أَوْضَحَ أَيْ أُجِيبَ وَأُفْتِيَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ إذَا نَوَى الصِّيَامَ فِي رَمَضَانَ وَشَرَعَ فِيهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْفِطْرُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ وَتَقَرَّرَ الْوُجُوبُ بِالشُّرُوعِ وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ وَشَرَعَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَزَمَ عَلَى الصَّوْمِ ثُمَّ فَسَخَهُ قَبْلَ انْفِجَارِ الصُّبْحِ يُبَاحُ لَهُ الْإِفْطَارُ كَمَنْ عَزَمَ عَلَى صَوْمِ النَّفْلِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ قَبْلَ الصُّبْحِ يُبَاحُ لَهُ الْأَكْلُ وَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الشُّرُوعُ فِي الصَّوْمِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا بِخِلَافِ الْمَرِيضِ إذَا تَكَلَّفَ لِلصَّوْمِ بِتَحَمُّلِ زِيَادَةِ الْمَرَضِ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُفْطِرَ حَلَّ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إلَى الْمَفْهُومِ أَيْ الْمَرَضُ سَبَبٌ ضَرُورِيٌّ لِلْمَشَقَّةِ أَيْ هُوَ يُوجِبُ مَشَقَّةً لَازِمَةً عَلَى تَقْدِيرِ الصَّوْمِ إذْ لَوْ لَمْ يُوجِبْ مَشَقَّةً لَمَا صَلُحَ سَبَبًا لِلتَّرَخُّصِ بِالْإِفْطَارِ وَكَذَا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ سَمَاوِيٌّ وَهَذَا أَيْ السَّفَرُ مَوْضُوعٌ لِلْمَشَقَّةِ أَيْ أُقِيمَ مُقَامَ الْمَشَقَّةِ فِي إبَاحَةِ الْإِفْطَارِ لَا أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلْمَشَقَّةِ حَقِيقَةً لَا مَحَالَةَ فَكَانَتْ الْمَشَقَّةُ فِيهِ مَوْجُودَةً تَقْدِيرًا لَا تَحْقِيقًا فَلَا تُؤَثِّرُ فِي إبَاحَةِ نَقْضِ الصَّوْمِ الَّذِي شُرِعَ فِيهِ مَعَ أَنَّ السَّفَرَ لَا يُنَافِي اسْتِحْقَاقَ الصَّوْمِ. وَلَكِنَّهُ أَيْ الْمُسَافِرَ اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْفِطْرُ وَإِذَا أَصْبَحَ رَجُلٌ مُقِيمًا وَعَزَمَ عَلَى الصَّوْمِ ثُمَّ سَافَرَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْفِطْرُ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الصَّوْمِ وَجَبَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا إنْشَاءُ السَّفَرِ بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ مَا تَقَرَّرَ وُجُوبُهُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا مَرِضَ الْمُقِيمُ حَيْثُ حَلَّ لَهُ الْفِطْرُ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ سَمَاوِيٌّ مُوجِبٌ لِلْمَشَقَّةِ حَقِيقَةً فَيُؤَثِّرُ فِي إبَاحَةِ الْإِفْطَارِ وَإِذَا أَفْطَرَ أَيْ فِي حَالِ السَّفَرِ مَعَ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الْفِطْرُ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِاقْتِرَانِ السَّبَبِ الْمُبِيحِ بِالْفِطْرِ فَإِنَّ السَّفَرَ مُبِيحٌ لِلْفِطْرِ فِي الْجُمْلَةِ فَصُورَتُهُ تَمَكُّنُ شُبْهَةٍ وَإِنْ لَمْ تُوجِبْ إبَاحَةً وَذُكِرَ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُخْتَصَرِ الْبُوَيْطِيِّ أَنَّهُ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ اعْتِبَارًا لِآخِرِ النَّهَارِ بِأَوَّلِهِ وَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنَّ فِي أَوَّلِهِ يُعَرِّي فِطْرَهُ عَنْ شُبْهَةٍ وَبَعْدَ السَّفَرِ يَقْتَرِنُ السَّبَبُ الْمُبِيحُ بِالْفِطْرِ وَلَوْ وُجِدَ هَذَا السَّبَبُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ فَإِذَا وُجِدَ فِي آخِرِهِ يَصِيرُ شُبْهَةً كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. وَإِذَا نَظَرَ أَيْ الْمُقِيمُ الْعَازِمُ عَلَى الصَّوْمِ ثُمَّ سَافَرَ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ بِخِلَافِ مَا إذَا مَرِضَ بَعْدَ الْفِطْرِ مَرَضًا يُبِيحُ الْإِفْطَارَ حَيْثُ تَسْقُطُ بِهِ الْكَفَّارَةُ عَنْهُ لِمَا قُلْنَا إنَّ السَّفَرَ مُكْتَسَبٌ وَلَا يُزِيلُ اسْتِحْقَاقَ الصَّوْمِ عَلَيْهِ حَقٌّ لَا يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ وَلَا يَصِيرُ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ حُكْمٍ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ شَرَعَا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ أَسْقَطَهُ بِاخْتِيَارِهِ هَذَا أَيْ الْمَرَضُ سَمَاوِيٌّ وَإِذَا وُجِدَ فِي آخِرِ النَّهَارِ يُزِيلُ اسْتِحْقَاقَ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ يُبِيحُ لَهُ الْفِطْرَ لَوْ كَانَ صَائِمًا وَزَوَالُ الِاسْتِحْقَاقِ لَا يَتَجَزَّأُ فَيَصِيرُ زَائِلًا مِنْ أَوَّلِهِ كَالْحَيْضِ يُعْدِمُ الصَّوْمَ مِنْ أَوَّلِهِ فَيَصِيرُ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ حَتَّى لَوْ صَارَ السَّفَرُ خَارِجًا عَنْ اخْتِيَارِهِ أَيْضًا بِأَنْ أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ عَلَى السَّفَرِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ مُتَعَمِّدًا سَقَطَ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ كَذَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنْ قِيلَ السَّبَبُ الْمُبِيحُ إنَّمَا يَعْمَلُ فِي الْقَائِمِ وَلَمْ يَبْقَ الصَّوْمُ فَكَيْفَ يَعْمَلُ فِي الْمَعْدُومِ قُلْنَا وَلَوْ كَانَ الصَّوْمُ قَائِمًا لَمَا أَوْجَبَ الْإِبَاحَةَ حَقِيقَةً مِنْ أَوَّلِ

الْمُكَاتَبِ فِي جِنَايَاتِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ الِاخْتِيَارَ لِلرِّفْقِ وَلَا رِفْقَ فِي اخْتِيَارِ الْكَثِيرِ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْجِنْسُ وَاحِدٌ وَيُخَيَّرُ فِي جِنَايَةِ الْعَبْدَيْنِ إمْسَاكُ رَقَبَتِهِ، وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَبَيْنَ الْفِدَاءِ بِعَشَرَةِ آلَافٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُفِيدُ رِفْقًا وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَا رِفْقَ فِي اخْتِيَارِ الْكَثِيرِ فَبَقِيَ اخْتِيَارُهُ مُطْلَقًا وَمَشِيئَةً وَهِيَ رُبُوبِيَّةٌ وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَإِنْ قِيلَ فِيهِ فَضْلُ ثَوَابٍ قُلْنَا عَنْهُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَمَا الثَّوَابُ إلَّا فِي حُسْنِ الطَّاعَةِ لَا فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ. أَلَا تَرَى أَنَّ ظُهْرَ الْمُقِيمِ لَا يَزِيدُ عَلَى فَجْرِهِ ثَوَابًا وَأَنَّ ظُهْرَ الْعَبْدِ لَا يَزِيدُ عَلَى جُمُعَةِ الْحُرِّ ثَوَابًا فَكَذَلِكَ هَذَا عَلَى أَنَّ الِاخْتِيَارَ وَهُوَ حُكْمُ الدُّنْيَا لَا يَصْلُحُ بِنَاؤُهُ عَلَى حُكْمِ الْآخِرَةِ وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ وَجْهَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَضَمَّنُ يُسْرًا مِنْ وَجْهٍ وَعُسْرًا مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ يَتَضَمَّنُ يُسْرًا مُوَافَقَةَ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ يُسْرٌ بِلَا شُبْهَةٍ وَيَتَضَمَّنُ عُسْرًا بِحُكْمِ السَّفَرِ وَالتَّأْخِيرِ إلَى حَالَةِ الْإِقَامَةِ يَتَضَمَّنُ عُسْرًا مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ عُسْرُ الِانْفِرَادِ وَيُسْرًا مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ الِاسْتِمْتَاعُ بِحَالِ الْإِقَامَةِ فَصَحَّ ـــــــــــــــــــــــــــــQالنَّهَارِ لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ مَعْدُومًا صَارَ شُبْهَةً؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ إنَّمَا يَكُونُ عِلَّةً لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الصَّوْمَ مُسْتَحَقٌّ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ الْجُزْءُ مُسْتَحَقًّا عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ تَحَقُّقِ الْمُبِيحِ إلَى آخِرِ النَّهَارِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَتَجَزَّأُ ثُبُوتُهُ فَإِذَا زَالَ فِي الْبَعْضِ زَالَ فِي الْكُلِّ. قَوْلُهُ (وَأَحْكَامُ السَّفَرِ) أَيْ الرُّخْصُ الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِهِ ثَبَتَ بِنَفْسِ الْخُرُوجِ مِنْ عُمَرَ أَنَّ الْمُصَرَّحَ بِالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَتَرَخَّصُ تَرَخُّصَ الْمُسَافِرِينَ حِينَ يَخْرُجُ إلَى السَّفَرِ» وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ خَرَجَ مِنْ الْبَصْرَةِ يُرِيدُ الْكُوفَةَ صَلَّى الظُّهْرَ أَرْبَعًا ثُمَّ نَظَرَ إلَى خُصٍّ أَمَامَهُ وَقَالَ لَوْ جَاوَزْنَا ذَلِكَ الْخُصَّ صَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ. وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يُثْبِتَ الْأَحْكَامَ إلَّا بَعْدَ تَمَامِ السَّفَرِ بِالْمَسِيرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ تَتِمُّ بِهِ وَالْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ تَمَامِ الْعِلَّةِ لَكِنْ تَرَكَ الْقِيَاسَ بِالسُّنَّةِ تَحْقِيقًا لِلرُّخْصَةِ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ فَإِنَّ شَرْعِيَّةَ رُخَصِ السَّفَرِ لِلتَّرْفِيهِ فَلَوْ تَوَقَّفَ التَّرَخُّصُ بِهَا عَلَى تَمَامِ الْعِلَّةِ بِتَمَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَتَعَطَّلَتْ الرُّخَصُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَقْصِدُهُ سِوَى مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَمْ تُفِدْ فَائِدَتَهَا فِي حَقِّهِ فَتَعَلَّقَتْ بِنَفْسِ الْخُرُوجِ تَعْمِيمًا لِلْحُكْمِ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ وَإِثْبَاتًا لِلتَّرْفِيهِ فِي جَمِيعِ مُدَّةِ السَّفَرِ ثُمَّ اسْتَوْضَحَ عَدَمَ تَمَامِ السَّفَرِ عِلَّةً بِقَوْلِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا نَوَى رَفْضَ السَّفَرِ بِأَنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مِصْرِهِ قَبْلَ أَنْ يَسِيرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ صَارَ مُقِيمًا حَتَّى صَلَّى صَلَاةَ الْمُقِيمِ فِي انْصِرَافِهِ وَلَمْ يُشْتَرَطْ لِصَيْرُورَتِهِ مُقِيمًا مَحَلُّ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ لَمَّا لَمْ يَتِمَّ عِلَّةً بِالْمَسِيرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَانَتْ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ مِنْهُ نَقْضًا لِلْعَارِضِ وَهُوَ السَّفَرُ لَا ابْتِدَاءُ عِلَّةٍ وَصَارَ كَأَنَّ السَّفَرَ لَمْ يَكُنْ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُقِيمًا كَمَا كَانَ فَلَمْ يُشْتَرَطْ مَحَلُّ الْإِقَامَةِ. وَإِذَا سَارَ ثَلَاثًا ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ إقَامَةٍ لَا تَصِحُّ لِأَنَّ هَذَا أَيْ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْقَصْدِ إيجَابٌ أَيْ إثْبَاتُ إقَامَةٍ ابْتِدَاءً لَا نَقْضَ السَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَمَّ فَلَمْ يَصِحَّ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ أَيْ لَمْ يَصِحَّ الْإِيجَابُ وَهُوَ الْإِقَامَةُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ وَهُوَ الْمَفَازَةُ. قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة: 173] وَجْهُ تَمَسُّكِهِ بِهِ أَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ التَّرَخُّصَ بِأَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ الْمَوْصُوفِ بِكَوْنِهِ غَيْرَ بَاغٍ أَيْ خَارِجٍ عَلَى الْإِمَامِ وَلَا عَادٍ أَيْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ فَبَقِيَتْ الْحُرْمَةُ فِي حَقِّ الْبَاغِي وَالْعَادِي بِأَوَّلِ الْآيَةِ كَمَا بَقِيَتْ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُضْطَرِّ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الشَّرْطُ فِي التَّرَخُّصِ بِقِصَرِ الصَّلَاةِ وَالْإِخْطَارِ وَسَائِرِ رُخَصِ السَّفَرِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ أَوْ بِالْقِيَاسِ أَوْ بِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ. وَلِأَنَّهُ أَيْ الْبَاغِي وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ عَاصٍ فِي مُبَاشَرَةِ هَذَا السَّبَبِ؛ لِأَنَّ عَيْنَهُ مَعْصِيَةٌ فَلَمْ يَصْلُحْ سَبَبُ رُخْصَةٍ؛ لِأَنَّهَا نِعْمَةٌ وَهِيَ لَا تُسْتَحَقُّ بِالْمَعْصِيَةِ وَجُعِلَ مَعْدُومًا زَجْرًا وَعُقُوبَةً كَمَا جُعِلَ السُّكْرُ الْمَحْظُورُ مَعْدُومًا فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَلَنَا أَنَّ سَبَبَ التَّرَخُّصِ وَهُوَ السَّفَرُ مَوْجُودٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالْخُرُوجِ وَالْقَصْدِ إلَى مَكَانِ بَعِيدٍ وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ مِنْهُ مَعَ قَصْدِ الْإِغَارَةِ وَالتَّمَرُّدِ فَيُنْظَرُ أَنَّهُ كَانَ مُسَافِرًا بِقَصْدِ الْإِغَارَةِ وَالتَّمَرُّدِ أَوْ بِقَصْدِهِ مَكَانًا بَعِيدًا عَيَّنَهُ لِلْإِغَارَةِ فِيهِ فَوَجَدْنَاهُ مُسَافِرًا بِقَصْدِهِ الْمَكَانَ الْبَعِيدَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَصَدَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ بِدُونِ قَصْدِ الْإِغَارَةِ يَصِيرُ مُسَافِرًا وَلَوْ قَصَدَ الْإِغَارَةَ بِدُونِ الْقَصْدِ إلَى الْمَكَانِ الْبَعِيدِ لَمْ يَصِرْ مُسَافِرًا وَإِنْ طَافَ الدُّنْيَا بِهَذَا الْقَصْدِ فَإِذَا وُجِدَ الْأَمْرَانِ هَاهُنَا جَعَلْنَاهُ مُسَافِرًا بِقَصْدِهِ ذَلِكَ الْمَكَانَ وَأَلْغَيْنَا قَصْدَ الْإِغَارَةِ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ عَلَى مَا قُرِّرَ فِي الْكِتَابِ بِخِلَافِ السُّكْرِ؛ لِأَنَّهُ حَدَثَ مِنْ شُرْبِهِ وَشُرْبِ مَا يُسْكِرُهُ حَرَامٌ فَصَارَ النَّهْيُ عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَيْ عَنْ سَفَرِ الْبَغْيِ وَسَفَرِ الْإِبَاقِ وَسَفَرِ قَطْعِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ احْتِرَازٌ عَنْ النَّهْيِ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مُتَّصِلٌ بِهِ وَصْفًا كَصَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ. وَبِذَلِكَ أَيْ بِالنَّهْيِ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُ الْفِعْلِ مَشْرُوعًا بِالِاتِّفَاقِ كَالصَّلَاةِ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ فَلَا يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُ الْفِعْلِ سَبَبًا لِلرُّخْصَةِ بِهَذَا النَّهْيِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ صِفَةَ الْحِلِّ فِي السَّبَبِ

[الخطأ من العوارض المكتسبة]

التَّأْخِيرُ لِطَلَبِ الرِّفْقِ بَيْنَ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَكَانَ ذَلِكَ عُبُودِيَّةً لَا رُبُوبِيَّةً وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَإِنَّمَا يَثْبُتُ هَذَا الْحُكْمُ بِالسَّفَرِ إذَا اتَّصَلَ بِسَبَبِ الْوُجُوبِ حَتَّى ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي أَصْلِهِ وَهُوَ الْأَدَاءُ فَظَهَرَ فِي قَضَائِهِ إذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ فَلَا وَلَمَّا كَانَ السَّفَرُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُخْتَارَةِ وَلَمْ يَكُنْ مُوجِبًا ضَرُورَةً لَازِمَةً قِيلَ لَهُ إنَّ الْمُسَافِرَ إذَا نَوَى الصِّيَامَ فِي رَمَضَانَ وَشَرَعَ فِيهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْفِطْرُ بِخِلَافِ الْمَرِيضِ إذَا تَكَلَّفَ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُفْطِرَ حَلَّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ ضَرُورِيٌّ لِلْمَشَقَّةِ وَهَذَا مَوْضُوعٌ لَهَا وَلَكِنَّهُ إذَا أَفْطَرَ كَانَ قِيَامُ السَّفَرِ الْمُبِيحِ عُذْرًا وَشُبْهَةً فِي الْكَفَّارَةِ وَإِذَا أَصْبَحَ مُقِيمًا وَعَزَمَ عَلَى الصَّوْمِ ثُمَّ سَافَرَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْفِطْرُ بِخِلَافِ مَا إذَا مَرِضَ وَإِذَا أَفْطَرَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا وَإِذَا أَفْطَرَ ثُمَّ سَافَرَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ بِخِلَافِ الْمَرَضِ لِمَا قُلْنَا إنَّ السَّفَرَ مُكْتَسَبٌ وَهَذَا سَمَاوِيٌّ وَأَحْكَامُ السَّفَرِ تَثْبُتُ بِنَفْسِ الْخُرُوجِ بِالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَإِنْ لَمْ يُتِمَّ السَّفَرُ عِلَّةً بَعْدُ تَحْقِيقًا لِلرُّخْصَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQدُونَ صِفَةِ الْقُرْبَةِ فِي الْمَشْرُوعِ مَقْصُودَةٌ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ لِلتَّقَرُّبِ، وَصِفَةُ الْحِلِّ فِي السَّبَبِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِنَفْسِهِ بَلْ هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَقْصُودِ وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى صِفَةِ الْحِلِّ لِيَصْلُحَ سَبَبًا لِلْمَشْرُوعِ، وَمُنَافَاةُ النَّهْيِ الْقُرْبَةُ أَقْوَى مِنْ مُنَافَاتِهِ الْحِلَّ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ لَا تَثْبُتُ بِدُونِ الطَّلَبِ وَالنَّدْبِ وَالْحِلُّ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْإِبَاحَةِ فَكَانَ النَّهْيُ الَّذِي هُوَ لِلْمَنْعِ أَقْوَى مُنَافَاةً لِلطَّلَبِ مِنْ مُنَافَاتِهِ لِلْحِلِّ ثُمَّ النَّهْيُ الَّذِي وَرَدَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يُوجِبَ زَوَالَ صِفَةِ الْقُرْبَةِ عَنْ الْمَشْرُوعِ وَلَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَهُ كَالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ فَلَأَنْ لَا يُوجِبَ زَوَالَ صِفَةِ الْحِلِّ عَنْ السَّبَبِ وَلَا يَمْنَعَ تَحَقُّقَهُ كَانَ أَوْلَى أَوْ يُقَالُ زَوَالُ صِفَةِ الْقُرْبَةِ عَنْ الْمَشْرُوعِ بِمِثْلِ هَذَا النَّهْيِ لَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الْمَشْرُوعِ كَالطَّلَاقِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ زَوَالَ صِفَةِ الْحِلِّ عَنْ السَّبَبِ بِهَذَا النَّهْيِ عَنْ تَحَقُّقِ السَّبَبِ كَانَ أَوْلَى كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ. وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ وَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {غَيْرَ بَاغٍ} [البقرة: 173] فِي نَفْسِ الْفِعْلِ يَعْنِي تَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة: 173] الْبَغْيُ وَالْعَدَاءُ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ وَكَذَلِكَ أَيْ الْبَغْيُ وَالْعَدَاءُ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ أَنْ يَتَعَدَّى الْمُضْطَرُّ إلَى الْمَيْتَةِ فِي الْأَكْلِ عَمَّا يُمْسِكُ بِهِ مُهْجَتَهُ فَعَلَى هَذَا كَانَ الْبَغْيُ وَالْعَدَاءُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ قَالَ الْإِمَامُ نَجْمُ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي التَّيْسِيرِ قِيلَ هُمَا وَاحِدٌ وَمَعْنَاهُمَا مُجَاوَزَةُ قَدْرِ الْحَاجَةِ وَالتَّكْرَارُ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] وَقِيلَ {غَيْرَ بَاغٍ} [البقرة: 173] أَيْ طَالِبٍ لِلْمُحَرَّمِ وَهُوَ يَجِدُ غَيْرَهُ وَلَا عَادٍ أَيْ مُجَاوِزٍ قَدْرَ مَا يَقَعُ بِهِ دَفْعُ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ. وَقِيلَ هُمَا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ {فَمَنِ اضْطُرَّ} [البقرة: 173] أَيْ الْمُضْطَرُّ هُوَ الَّذِي يَكُونُ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فِي الْأَكْلِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: 25] فَإِنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلْمُحْصَنَاتِ وَقِيلَ {غَيْرَ بَاغٍ} [البقرة: 173] أَيْ مُتَلَذِّذٍ وَلَا عَادٍ أَيْ مُتَزَوِّدٍ وَفِي الْكَشَّافِ غَيْرَ بَاغٍ عَلَى مُضْطَرٍّ آخَرَ بِالِاسْتِيثَارِ عَلَيْهِ وَلَا عَادٍ سَدًّا لِجَوْعَةٍ فَتَبَيَّنَ بِهَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْبَغْيِ وَالْعَدْوِ عَنْ نَفْسِ الْفِعْلِ وَهُوَ الْأَكْلُ وَأَنَّ التَّقْدِيرَ فَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى الْمُحَرَّمِ فَأَكَلَهُ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فِي أَكْلِهِ وَصِيغَةُ الْكَلَامِ أَدَلُّ عَلَى هَذَا أَيْ عَلَى رُجُوعِ الْبَغْيِ وَالْعَدْوِ إلَى الْأَكْلِ مِمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ رُجُوعِهِمَا إلَى الِاضْطِرَارِ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ لِبَيَانِ حُرْمَةِ الْأَكْلِ وَحِلِّهِ فَكَانَ صَرْفُ الْبَغْيِ وَالْعَدْوِ إلَى الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُ الْكَلَامِ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ إلَى مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِيهِ وَذَكَرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّهُ لَا فَتْوَى أَضْيَعُ مِنْ فَتْوَاهُ هَذِهِ؛ لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ لَا يَأْخُذُ بِفُتْيَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْتَنِعْ عَنْ الْبَغْيِ أَوْ قَطْعِ الطَّرِيقِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ كَثِيرُ ضَرَرٍ فِي الِامْتِنَاعِ عَنْهُ فَكَيْفَ يَمْتَنِعُ عَنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَفِي ذَلِكَ هَلَاكُهُ ثُمَّ هَذَا مُنَاقَضَةٌ مِنْهُ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْبَاغِي الْمُقِيمِ يَمْسَحُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَإِذَا سَافَرَ هَذَا الْبَاغِي لَمْ يُرَخَّصْ لَهُ الْمَسْحُ وَالْمَسْحُ كَمَا هُوَ رُخْصَةٌ فِي السَّفَرِ رُخْصَةٌ فِي الْحَضَرِ فَمَا بَالُهُ حَرَّمَ إحْدَى الرُّخْصَتَيْنِ وَأَبَاحَ الْأُخْرَى مَعَ وُجُودِ الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ مَا ذُكِرَ مِنْ الْمَعْنَى. [الْخَطَأُ مِنْ الْعَوَارِض الْمُكْتَسِبَة] (الْفَصْلُ السَّادِسُ وَهُوَ الْخَطَأُ) قَالَ الْإِمَامُ اللَّامِشِيُّ الصَّوَابُ مَا أُصِيبَ بِهِ الْمَقْصُودُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ وَالْخَطَأُ ضِدُّ الصَّوَابِ وَالْعُدُولِ عَنْهُ وَقِيلَ الْخَطَأُ فِعْلٌ أَوْ قَوْلٌ يَصْدُرُ عَنْ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِ قَصْدِهِ بِسَبَبِ تَرْكِ التَّثَبُّتِ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ أَمْرٍ مَقْصُودٍ سِوَاهُ قَالَ السَّيِّدُ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْخَطَأُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ ضِدُّ الصَّوَابِ وَمِنْهُ يُسَمَّى الذَّنْبُ خَطِيئَةً وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء: 31] هُوَ ضِدُّ الصَّوَابِ لَا ضِدُّ الْعَمْدِ وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ ضِدُّ الْعَمْدِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} [النساء: 92] . وَقَوْلُهُ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» ثُمَّ قَالَ وَالْخَطَأُ أَنْ يَكُونَ عَامِدًا إلَى الْفِعْلِ لَا إلَى الْمَفْعُولِ كَمَنْ رَمَى إلَى إنْسَانٍ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ صَيْدٌ فَهُوَ قَاصِدٌ إلَى الرَّمْيِ لَا إلَى

أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا نَوَى رَفْضَهُ صَارَ مُقِيمًا وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ لَمَّا لَمْ يُتِمَّ عِلَّةً كَانَتْ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ نَقْضًا لِلْعَارِضِ لِإِقَامَةِ ابْتِدَاءِ عِلَّةٍ وَإِذَا سَارَ ثُلُثًا ثُمَّ نَوَى الْمُقَامَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ إقَامَةٍ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ هَذَا ابْتِدَاءُ إيجَابٍ فَلَا يَصِحُّ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ وَإِذَا اتَّصَلَ بِهَذَا السَّفَرِ عِصْيَانٌ مِثْلُ سَفَرِ الْآبِقِ وَقَاطِعُ الطَّرِيقِ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ التَّرَخُّصِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ التَّرَخُّصِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة: 173] وَلِأَنَّهُ عَاصٍ فِي هَذَا السَّبَبِ فَلَمْ يَصْلُحْ سَبَبَ رُخْصَةٍ وَجُعِلَ مَعْدُومًا زَجْرًا وَتَنْكِيلًا كَمَا سَبَقَ فِي السُّكْرِ وَقُلْنَا نَحْنُ إنَّ سَبَبَ وُجُوبِ التَّرَخُّصِ مَوْجُودٌ وَهُوَ السَّفَرُ. وَأَمَّا الْعِصْيَانُ فَلَيْسَ فِيهِ بَلْ فِي أَمْرٍ يَنْفَصِلُ عَنْهُ وَهُوَ التَّمَرُّدُ عَلَى مَنْ يَلْزَمُهُ طَاعَتُهُ وَالْبَغْيُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالتَّعَدِّي عَلَيْهِمْ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ، أَلَا تَرَى أَنَّ ذَلِكَ يَنْفَصِلُ عَنْهُ فَإِنَّ التَّمَرُّدَ عَلَى الْمَوْلَى فِي الْمِصْرِ بِغَيْرِ سَفَرٍ مَعْصِيَةٌ، وَكَذَلِكَ الْبَغْيُ وَقَطْعُ الطَّرِيقِ صَارَ جِنَايَةً لِوُقُوعِهِ عَلَى مَحَلِّ الْعِصْمَةِ مِنْ النَّفْسِ وَالْمَالِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَرْمِيِّ إلَيْهِ وَهُوَ الْإِنْسَانُ هَذَا النَّوْعُ جُعِلَ عُذْرًا. اُخْتُلِفَ فِي جَوَازِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الْخَطَأِ فَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَجُوزُ الْمُؤَاخَذَةُ عَلَيْهِ فِي الْحِكْمَةِ؛ لِأَنَّ الْخَاطِئَ غَيْرُ قَاصِدٍ الْخَطَأَ، وَالْجِنَايَةُ لَا تَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْقَصْدِ وَعِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ تَجُوزُ الْمُؤَاخَذَةُ عَقْلًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِأَنْ نَسْأَلَهُ عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْخَطَأِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ إخْبَارًا عَنْ قَوْلِ الرَّسُولِ أَوْ تَعْلِيمًا لِلْعِبَادِ {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وَلَوْ كَانَ الْخَطَأُ غَيْرَ جَائِزِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ فِي الْحِكْمَةِ لَكَانَتْ الْمُؤَاخَذَةُ جَوْرًا وَصَارَ الدُّعَاءُ فِي التَّقْدِيرِ رَبَّنَا لَا تَجُرْ عَلَيْنَا بِالْمُؤَاخَذَةِ لَكِنَّ الْمُؤَاخَذَةَ مَعَ جَوَازِهَا فِي الْحِكْمَةِ سَقَطَتْ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا اُسْتُجِيبَ لَهُ فِي دُعَائِهِ فَالشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِهِ جُعِلَ عُذْرًا أَشَارَ إلَى مَا ذَكَرْنَا يَعْنِي أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ جَائِزَ الْمُؤَاخَذَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ تَقْصِيرٍ جُعِلَ عُذْرًا صَالِحًا لِسُقُوطِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إذَا حَصَلَ عَنْ اجْتِهَادٍ حَتَّى لَوْ أَخْطَأَ فِي الْقِبْلَةِ بَعْدَمَا اجْتَهَدَ جَازَتْ صَلَاتُهُ وَلَا إثْمَ وَلَوْ أَخْطَأَ فِي الْفَتْوَى بَعْدَمَا اجْتَهَدَ لَا يَأْثَمُ وَيَسْتَحِقُّ أَجْرًا وَاحِدًا وَكَذَا لَوْ رَمَى إلَى إنْسَانٍ عَلَى اجْتِهَادٍ أَنَّهُ صَيْدٌ فَقَتَلَهُ لَا يَأْثَمُ الْقَتْلَ الْعَمْدَ وَإِنْ كَانَ يَأْثَمُ إثْمَ تَرْكِ التَّثَبُّتِ وَلَا يُؤَاخَذُ حَتَّى لَوْ زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ فَوَطِئَهَا عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ. وَلَمْ يُجْعَلْ الْخَطَأُ عُذْرًا فِي سُقُوطِ حُقُوقِ الْعِبَادِ حَتَّى لَوْ أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ خَطَأً بِأَنْ رَمَى إلَى شَاةٍ أَوْ بَقَرَةٍ عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا صَيْدٌ وَأَكَلَ مَالَ إنْسَانٍ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ مِلْكُهُ يَجِبُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَالٍ جَزَاءَ فِعْلٍ فَيَعْتَمِدُ عِصْمَةَ الْمَحَلِّ، وَكَوْنُهُ خَاطِئًا مَعْذُورٌ لَا يُنَافِي عِصْمَةَ الْمَحَلِّ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ بَدَلُ الْمَحَلِّ لَا جَزَاءُ الْفِعْلِ أَنَّ جَمَاعَةً لَوْ أَتْلَفُوا مَالَ إنْسَانٍ يَجِبُ عَلَى الْكُلِّ ضَمَانُ وَاحِدٍ كَمَا لَوْ كَانَ الْمُتْلِفُ وَاحِدًا وَلَوْ كَانَ جَزَاءُ الْفِعْلِ لَوَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ ضَمَانٌ كَامِلٌ كَمَا فِي الْقِصَاصِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَوَجَبَتْ بِهِ أَيْ بِسَبَبِ الْخَطَأِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ وَجَبَتْ ضَمَانٌ لِلْمَحَلِّ فَلَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُهَا بِعُذْرِ الْخَطَإِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ فِي الْحَالِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ كَضَمَانِ الْأَمْوَالِ لَكِنَّهَا وَجَبَتْ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ وَالْخَطَأُ فِي نَفْسِهِ عُذْرٌ صَالِحٌ فِي سُقُوطِ بَعْضِ الْحُقُوقِ فَيَصْلُحُ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ أَيْ فِي الْفِعْلِ وَهُوَ الْأَدَاءُ فِيمَا هُوَ صِلَةٌ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الصِّلَاتِ عَلَى التَّوَسُّعِ وَالتَّخْفِيفِ وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ فِي أَصْلِ الْبَدَلِ فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ وَوَجَبَتْ عَلَى الْخَاطِئِ الْكَفَّارَةُ وَلَمْ يُجْعَلْ الْخَطَأُ عُذْرًا فِي وُجُوبِهَا؛ لِأَنَّ الْخَاطِئَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ ضَرْبِ تَقْصِيرٍ وَهُوَ تَرْكُ التَّثَبُّتِ وَالِاحْتِيَاطِ فَصَلَحَ الْخَطَأُ سَبَبًا بِالْوُجُوبِ مَا يُشْبِهُ الْعِبَادَةَ وَالْعُقُوبَةَ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ جَزَاءٌ قَاصِرٌ فَيَسْتَدْعِي سَبَبًا مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَالْخَطَأِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْفِعْلِ وَهُوَ الرَّمْيُ إلَى الصَّيْدِ مُبَاحٌ وَتَرْكُ التَّثَبُّتِ فِيهِ مَحْظُورٌ فَكَانَ قَاصِرًا فِي مَعْنَى الْجِنَايَةِ فَصَلَحَ سَبَبًا لِلْجَزَاءِ الْقَاصِرِ. قَوْلُهُ (وَصَحَّ طَلَاقُ الْخَاطِئِ) بِأَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ مَثَلًا اسْقِنِي فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِالْكَلَامِ، وَالْكَلَامُ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا صَدَرَ عَنْ قَصْدٍ صَحِيحٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَبَّغَاءَ إذَا لُقِّنَ فَهُوَ وَالْآدَمِيُّ سَوَاءٌ فِي صُورَةِ الْكَلَامِ وَكَذَا الْمَجْنُونُ وَالْعَاقِلُ سَوَاءٌ فِي أَصْلِ الْكَلَامِ إلَّا أَنَّهُ فَسَدَ لِعَدَمِ قَصْدِ الصَّحِيحِ وَالْمُخْطِئُ غَيْرُ قَاصِدٍ فَلَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ كَطَلَاقِ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَأَصْحَابُنَا قَالُوا الْقَصْدُ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فَلَا يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ حَقِيقَةً بَلْ يَتَعَلَّقُ بِالسَّبَبِ الظَّاهِرِ الدَّالِ عَلَيْهِ وَهُوَ أَهْلِيَّةُ الْقَصْدِ بِالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ نَفْيًا لِلْحَرَجِ كَمَا فِي السَّفَرِ مَعَ الْمَشَقَّةِ فَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَلَوْ قَامَ الْبُلُوغُ أَيْ الْبُلُوغُ عَنْ عَقْلٍ مَقَامَ اعْتِدَالِ الْعَقْلِ أَيْ مَقَامَ الْعَمَلِ بِاعْتِدَالِ الْعَقْلِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ عَنْ قَصْدٍ يَعْنِي لَوْ كَانَ الْبُلُوغُ عَنْ عَقْلٍ مَقَامَ الْقَصْدِ فِي حَقِّ طَلَاقِ الْخَاطِئِ يَصِحُّ طَلَاقُ النَّائِمِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَلَقَامَ الْبُلُوغُ يَعْنِي عَنْ عَقْلٍ مَقَامَ الرِّضَا فِيمَا يُعْتَمَدُ الرِّضَا مِنْ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا كَمَا قَامَ مَقَامَ الْقَصْدِ؛ لِأَنَّ

وَالسَّفَرُ فِعْلٌ يَقَعُ عَلَى مَحَلٍّ آخَرَ. أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَخْرُجُ غَازِيًا ثُمَّ قَدْ يَسْتَقْبِلُهُ عِيرٌ فَيَبْدُو لَهُ فَيَقْطَعُ عَلَيْهِمْ فَصَارَ النَّهْيُ عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ نَهْيًا لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَبِذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُ الْفِعْلِ مَشْرُوعًا فَلَا يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُ الْفِعْلِ سَبَبًا لِلرُّخْصَةِ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْحِلِّ فِي السَّفَرِ دُونَ صِفَةِ الْقُرْبَةِ فِي الْمَشْرُوعِ بِخِلَافِ السُّكْرِ؛ لِأَنَّهُ عِصْيَانٌ بِعَيْنِهِ فَلَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَتَعَلَّقَ الرُّخْصَةُ بِأَثَرِهِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة: 173] فِي نَفْسِ الْفِعْلِ أَنْ يَتَعَدَّى الْمُضْطَرُّ عَنْ الَّذِي بِهِ يُمْسِكُ مُهْجَتَهُ، وَصِيغَةُ الْكَلَامِ أَدَلُّ عَلَى هَذَا مِمَّا قَالَ وَأَحْكَامُ السَّفَرِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى. (الْفَصْلُ السَّادِسُ) وَهُوَ الْخَطَأُ هَذَا النَّوْعُ نَوْعٌ جُعِلَ عُذْرًا صَالِحًا لِسُقُوطِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إذَا حَصَلَ عَنْ اجْتِهَادٍ وَشُبْهَةٍ فِي الْعُقُوبَةِ حَتَّى قِيلَ إنَّ الْخَاطِئَ لَا يَأْثَمُ وَلَا يُؤَاخَذُ بِحَدٍّ وَلَا قِصَاصٍ؛ لِأَنَّهُ جَزَاءٌ كَامِلٌ مِنْ أَجْزِئَةِ الْأَفْعَالِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَعْذُورِ وَلَمْ يُجْعَلْ عُذْرًا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ حَتَّى وَجَبَ ضَمَانُ الْعُدْوَانِ عَلَى الْخَاطِئِ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَالٍ لَا جَزَاءُ فِعْلٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQالرِّضَا أَمْرٌ بَاطِنٌ كَالْقَصْدِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ وَحَيْثُ لَمْ يَقُمْ مَقَامَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَقِيقَةُ الْقَصْدِ كَحَقِيقَةِ الرِّضَا وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَيْ عَنْ جَوَابِ الشَّافِعِيِّ لِكَلَامِنَا أَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يَقُومُ مَقَامَ غَيْرِهِ بِشَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَيْهِ. وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ فِي الْوُقُوفِ عَلَى الْأَصْلِ حَرَجٌ لِخَفَائِهِ فَيُنْقَلُ الْحُكْمُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطَيْنِ إلَى دَلِيلٍ وَيُقَامُ مَقَامَ الْمَدْلُولِ تَيْسِيرًا وَدَفْعًا لِلْحَرَجِ وَأَحَدُ الشَّرْطَيْنِ فِي حَقِّ النَّائِمِ مَفْقُودٌ؛ لِأَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي الْوُقُوفِ عَلَى الْعَمَلِ بِأَصْلِ الْعَقْلِ فَإِنَّهُ يُعْرَفُ بِالنَّظَرِ فِيمَا يَأْتِيهِ وَيَذَرُهُ وَنَحْنُ نَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ النَّوْمَ يُنَافِي أَصْلَ الْعَمَلِ بِالْعَقْلِ؛ لِأَنَّ النَّوْمَ مَانِعٌ عَنْ اسْتِعْمَالِ نُورِ الْعَقْلِ فَكَانَتْ أَهْلِيَّةُ الْقَصْدِ مَعْدُومَةً بِيَقِينٍ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ فِي دَرْكِهِ فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّهِ إقَامَةُ الْبُلُوغِ عَنْ عَقْلٍ مَقَامَ الْقَصْدِ لِانْتِفَاءِ الشَّرْطِ. وَالرِّضَا عِبَارَةٌ عَنْ امْتِلَاءِ الِاخْتِيَارِيِّ أَيْ بُلُوغِهِ نِهَايَتَهُ بِحَيْثُ يُفْضِي أَثَرُهُ إلَى الظَّاهِرِ مِنْ ظُهُورِ الْبَشَاشَةِ فِي الْوَجْهِ وَنَحْوِهَا كَمَا يُفْضِي أَثَرُ الْغَضَبِ إلَى الظَّاهِرِ مِنْ حَمَالِيقِ الْعَيْنِ وَالْوَجْهِ بِسَبَبِ غَلَيَانِ دَمِ الْقَلْبِ وَلِهَذَا أَيْ وَلِأَنَّ مَعْنَى الرِّضَا مَا ذَكَرْنَا كَانَ الرِّضَا وَالْغَضَبُ الَّذِي هُوَ ضِدُّهُ مِنْ الْمُتَشَابِهِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِثُبُوتِهِمَا فِي حَقِّهِ جَلَّ جَلَالُهُ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ امْتِلَاءِ الِاخْتِيَارِ وَعَنْ غَلَيَانِ دَمِ الْقَلْبِ كَمَا لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِثُبُوتِ الْيَدِ وَالْوَجْهِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى الْجَارِحَةِ وَالْعُضْوِ الَّذِي هُوَ مَوْضُوعُهُمَا فَلَمْ يَجُزْ إقَامَةُ غَيْرِ الرِّضَا وَهُوَ الْبُلُوغُ عَنْ عَقْلٍ مُقَامَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَمْرٍ بَاطِنٍ بَلْ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِذَلِكَ السَّبَبِ الظَّاهِرِ وَهُوَ ظُهُورُ أَثَرِهِ لَا بِأَهْلِيَّةِ الرِّضَا. وَلِهَذَا أَيْ وَلِأَنَّ الْخَطَأَ لَمْ يَصْلُحْ سَبَبًا لِلْكَرَامَةِ قُلْنَا إنَّ مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا لِلصَّوْمِ اسْتَوْجَبَ بَقَاءَ الصَّوْمِ مِنْ غَيْرِ أَدَاءً وَهَذَا كَرَامَةٌ ثَبَتَتْ لَهُ شَرْعًا فَلَمْ يُلْحَقْ بِهِ الْخَاطِئُ وَهُوَ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يُمَضْمِضَ فَسَبَقَ الْمَاءُ حَلْقَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ هَذِهِ الْكَرَامَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى النَّاسِي لِتَمَكُّنِ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّهِ بِخِلَافِ النَّاسِي. وَإِذَا جَرَى الْبَيْعُ عَلَى لِسَانِ الْمَرْءِ خَطَأً بِأَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ سُبْحَانَ اللَّهِ فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ بِعْت هَذَا الْعَيْنَ بِكَذَا وَقَالَ الْآخَرُ قَبِلْت وَصَدَّقَهُ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى الْخَطَإِ خَصْمُهُ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ يَجِبُ أَنْ يَنْعَقِدَ يَعْنِي لَا رِوَايَةَ فِيهِ عَنْ أَصْحَابِنَا وَلَكِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَنْعَقِدَ انْعِقَادَ بَيْعِ الْمُكْرَهِ فَاسِدًا لِوُجُودِ الِاخْتِيَارِ وَضْعًا يَعْنِي جَرَيَانَ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى لِسَانِهِ فِي أَصْلِ وَضْعِهِ اخْتِيَارِيٌّ وَلَيْسَ بِطَبْعِيٍّ كَجَرَيَانِ الْمَاءِ وَطُولِ الْقَامَةِ فَيَنْعَقِدُ الْبَيْعُ لِوُجُودِ أَصْلِ الِاخْتِيَارِ وَيَفْسُدُ لِفَوَاتِ الرِّضَا أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّ الِاخْتِيَارَ مَوْجُودٌ تَقْدِيرًا بِإِقَامَةِ الْبُلُوغِ عَنْ عَقْلٍ مُقَامَ الْقَصْدِ وَلَكِنَّ الرِّضَا فَاتَتْ لِعَدَمِ الْقَصْدِ حَقِيقَةً فَيَنْعَقِدُ وَلَا يَنْفُذُ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْفَصْلُ الْآخَرُ) مِنْ أَقْسَامِ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ فَهُوَ فَصْلُ الْإِكْرَاهِ قِيلَ الْإِكْرَاهُ حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ وَلَا يُرِيدُ مُبَاشَرَتَهُ لَوْلَا الْمَحَلُّ عَلَيْهِ وَيَدْخُلُ فِي هَذَا التَّعْرِيفِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْكِتَابِ وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ هُوَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ بِغَيْرِهِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاؤُهُ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْقِسْمُ الثَّالِثُ الَّذِي ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ مِنْ أَقْسَامِ الْإِكْرَاهِ لِعَدَمِ تَرَتُّبِ أَحْكَامِهِ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ فِي الْإِكْرَاهِ يُعْتَبَرُ مَعْنًى فِي الْمُكْرِهِ وَمَعْنًى فِي الْمُكْرَهِ وَمَعْنًى فِيمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ وَمَعْنًى فِيمَا أُكْرِهَ بِهِ. فَالْمُعْتَبَرُ فِي الْمُكْرِهِ تَمَكُّنُهُ مِنْ إيقَاعِ مَا هَدَّدَهُ بِهِ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ ذَلِكَ فَإِكْرَاهُهُ هَذَيَانٌ وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْمُكْرَهِ أَنْ يَصِيرَ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُكْرِهِ فِي إيقَاعِ مَا هَدَّدَهُ بِهِ عَاجِلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَلْجَأً مَحْمُولًا عَلَيْهِ طَبْعًا إلَّا بِذَلِكَ وَفِيمَا أُكْرِهَ بِهِ أَنْ يَكُونَ مُتْلِفًا أَوْ مُزْمِنًا أَوْ مُتْلِفًا عُضْوًا أَوْ مُوجِبًا عَمَّا يَنْعَدِمُ الرِّضَا بِاعْتِبَارِهِ وَفِيمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ مُمْتَنِعًا مِنْهُ قَبْلَ الْإِكْرَاهِ إمَّا لِحَقِّهِ أَوْ لِحَقِّ إنْسَانٍ آخَرَ أَوْ لِحَقِّ الشَّرْعِ وَبِحَسَبِ اخْتِلَافِ

وَوَجَبَتْ بِهِ الدِّيَةُ لَكِنَّ الْخَطَأَ لَمَّا كَانَ عُذْرًا صَلَحَ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ بِالْفِعْلِ فِيمَا هُوَ صِلَةٌ لَا يُقَابِلُ مَالًا وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ الْخَاطِئَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ ضَرْبِ تَقْصِيرٍ يَصْلُحُ سَبَبًا لِمَا يُشْبِهُ الْعِبَادَةَ وَالْعُقُوبَةَ؛ لِأَنَّهُ جَزَاءٌ قَاصِرٌ. وَصَحَّ طَلَاقُهُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَصِحُّ لِعَدَمِ الِاخْتِيَارِ مِنْهُ وَصَارَ كَالنَّائِمِ وَلَوْ قَامَ الْبُلُوغُ مَقَامَ اعْتِدَالِ الْعَقْلِ لَصَحَّ طَلَاقُ النَّائِمِ وَلَقَامَ الْبُلُوغُ مَقَامَ الرِّضَا أَيْضًا فِيمَا يَعْتَمِدُ الرِّضَا. وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يَقُومُ مَقَامَ غَيْرِهِ إذَا صَلَحَ دَلِيلًا وَكَانَ فِي الْوُقُوفِ عَلَى الْأَصْلِ حَرَجٌ فَيَقِلُّ تَيْسِيرًا وَلَيْسَ فِي أَصْلِ الْعَمَلِ بِالْعَقْلِ حَرَجٌ فِي دَرْكِهِ وَلِنَوْمٍ يُنَافِي أَصْلَ الْعَمَلِ بِهِ وَلَا حَرَجَ فِي مَعْرِفَتِهِ فَلَمْ يَقُمْ الْبُلُوغُ مَقَامَهُ وَالرِّضَا عِبَارَةٌ عَنْ امْتِلَاءِ الِاخْتِيَارِ حَتَّى يُفْضِيَ إلَى الظَّاهِرِ وَلِهَذَا كَانَ الرِّضَا وَالْغَضَبُ مِنْ الْمُتَشَابِهِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَمْ يَجُزْ إقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ فَأَمَّا دَوَامُ الْعَمَلِ بِالْعَقْلِ بِلَا سَهْوٍ وَلَا غَفْلَةٍ فَأَمْرٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا بِحَرَجٍ فَأُقِيمَ الْبُلُوغُ مَقَامَهُ عِنْدَ قِيَامِ كَمَالِ الْعَقْلِ وَلَمَّا كَانَ الْخَطَأُ لَا يَخْلُو عَنْ ضَرْبِ ـــــــــــــــــــــــــــــQهَذِهِ الْأَحْوَالِ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فَعَلَى هَذِهِ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ الْإِكْرَاهُ حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى أَمْرٍ يَمْتَنِعُ عَنْهُ بِتَخْوِيفٍ بِقَدْرِ الْحَامِلِ عَلَى إيقَاعِهِ وَيَصِيرُ الْغَيْرُ خَائِفًا بِهِ فَأَتَتْ الرِّضَاءُ بِالْمُبَاشَرَةِ فَيَتِمُّ التَّعْرِيفُ بِهَذِهِ الْقُيُودِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ فَوَاتُ الرِّضَا دَاخِلًا فِي الِامْتِنَاعِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُمْتَنِعًا عَنْهُ قَبْلَ الْإِكْرَاهِ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِهِ فَيَكْفِي بِذِكْرِ أَحَدِ الْقَيْدَيْنِ نَوْعٌ بِعَدَمِ الرِّضَا وَيَفْسُدُ الِاخْتِيَارُ، نَحْوُ التَّهْدِيدِ بِمَا يَخَافُ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْأَعْضَاءِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ تَبَعًا لَهَا وَالِاخْتِيَارُ هُوَ الْقَصْدُ إلَى أَمْرٍ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ دَاخِلٍ فِي قُدْرَةِ الْفَاعِلِ بِتَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ كَذَا قِيلَ. وَالصَّحِيحُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ فِي قَصْدِهِ مُسْتَبِدًّا وَالْفَاسِدُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ اخْتِيَارُهُ مَبْنِيًّا عَلَى اخْتِيَارِ الْآخَرِ فَإِذَا اُضْطُرَّ إلَى مُبَاشَرَةِ أَمْرِ الْإِكْرَاهِ كَانَ قَصْدُهُ فِي الْمُبَاشَرَةِ دَفْعَ الْإِكْرَاهِ حَقِيقَةً فَيَصِيرُ الِاخْتِيَارُ فَاسِدًا لِابْتِنَائِهِ عَلَى اخْتِيَارِ الْمُكْرَهِ وَإِنْ لَمْ يَنْعَدِمْ أَصْلًا وَنَوْعٌ بِعَدَمِ الرِّضَاءِ وَلَا يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ، نَحْوُ الْإِكْرَاهِ بِالْقَيْدِ أَوْ الْحَبْسِ مُدَّةً مَدِيدَةً أَوْ بِالضَّرْبِ الَّذِي لَا يَخَافُ بِهِ التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنَّمَا لَمْ يَفْسُدُ بِهِ الِاخْتِيَارُ لِعَدَمِ الِاضْطِرَارِ إلَى مُبَاشَرَةِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى مَا هُدِّدَ بِهِ. وَنَوْعٌ آخَرُ لَا يَعْدَمُ الرِّضَا فَلَا يَفْسُدُ بِهِ الِاخْتِيَارُ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّ الرِّضَا مُسْتَلْزِمٌ لِصِحَّةِ الِاخْتِيَارِ وَهُوَ أَنْ يَهْتَمَّ أَيْ يَقْصِدَ الْمُكْرِهُ بِحَبْسِ أَبِي الْمُكْرَهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ يَغْتَمَّ الْمُكْرَهُ بِسَبَبِ حَبْسِ أَبِيهِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِنْ حَبْسِ زَوْجَتِهِ وَأُخْتِهِ وَأُمِّهِ وَأَخِيهِ وَكُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُتَأَبِّدَةَ بِالْمَحْرَمِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْوِلَادِ. وَكَانَ مَا ذَكَرَ جَوَابَ الْقِيَاسِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَلَوْ قِيلَ لَهُ لَنَحْبِس أَبَاك وَابْنَك فِي السِّجْنِ أَوْ لَتَبِيعَنَّ عَبْدَك هَذَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَفَعَلَ فَفِي الْقِيَاسِ الْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُهَدِّدْهُ بِشَيْءٍ فِي نَفْسِهِ وَحَبْسُ أَبِيهِ فِي السِّجْنِ لَا يُلْحِقُ ضَرَرًا بِهِ فَالتَّهْدِيدُ بِهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ بَيْعِهِ وَإِقْرَارِهِ وَهِبَتِهِ وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ ذَلِكَ إكْرَاهٌ وَلَا يَنْفُذُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ؛ لِأَنَّ حَبْسَ أَبِيهِ يُلْحِقُ بِهِ مِنْ الْحُزْنِ وَالْهَمِّ مَا يُلْحِقُ بِهِ حَبْسُ نَفْسِهِ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنَّ الْوَلَدَ إذَا كَانَ بَارًّا يَسْعَى فِي تَخْلِيصِ أَبِيهِ مِنْ السِّجْنِ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ حُبِسَ وَرُبَّمَا يَدْخُلُ السِّجْنَ مُخْتَارًا وَيَجْلِسُ مَكَانَ أَبِيهِ لِيَخْرُجَ أَبُوهُ فَكَمَا أَنَّ التَّهْدِيدَ بِالْحَبْسِ فِي حَقِّهِ بِعَدَمِ تَمَامِ الرِّضَا فَكَذَلِكَ التَّهْدِيدُ بِحَبْسِ أَبِيهِ. قَوْلُهُ (وَالْإِكْرَاهُ بِجُمْلَتِهِ) أَيْ بِجَمِيعِ أَقْسَامِهِ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ أَيْ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ وَلَا أَهْلِيَّةَ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ بِالذِّمَّةِ، وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْإِكْرَاهُ لَا يَحِلُّ بِشَيْءٍ مِنْهَا وَلَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْخِطَابِ عَنْ الْمُكْرَهِ بِحَالٍ سَوَاءٌ كَانَ مَلْجَأً أَوْ لَمْ يَكُنْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَيْ الْمُكْرَهَ فِي الْإِتْيَانِ بِمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ فَرْضٍ أَيْ بَيْنَ كَوْنِهِ مُبَاشِرَ فَرْضٍ كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ بِمَا يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ فَإِنَّهُ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْإِقْدَامُ عَلَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ صَبَرَ وَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى قُتِلَ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ لِثُبُوتِ الْإِبَاحَةِ فِي حَقِّهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله تَعَالَى {إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] وَمِنْ أُكْرِهَ عَلَى مُبَاحٍ يُفْرَضُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ فَكَذَا هَاهُنَا وَحَظْرٍ أَيْ مَحْظُورٍ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا وَقَتْلِ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ وَإِبَاحَةٍ كَمَا فِي إكْرَاهِ الصَّائِمِ عَلَى إفْسَادِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ يُبِيحُ لَهُ الْفِطْرَ وَرُخِّصَتْ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ فَإِنَّهُ تُرَخَّصَ لَهُ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ وَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ الْإِبَاحَةِ فِي التَّحْقِيقِ؛ لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْفَرْضِ أَوْ فِي الرُّخْصَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِهَا أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْفِعْلِ يُبَاحُ لَهُ بِالْإِكْرَاهِ وَلَوْ صَبَرَ حَتَّى قُتِلَ لَا يَأْثَمُ فَهُوَ مَعْنَى الرُّخْصَةِ. وَإِنْ أَرَادَ بِهَا أَنَّهُ يُبَاحُ وَلَوْ تَرَكَهُ يَأْثَمُ فَهُوَ مَعْنَى الْفَرْضِ فَإِكْرَاهُ الصَّائِمُ عَلَى الْفِطْرِ إنْ كَانَ مُسَافِرًا مِنْ قَبِيلِ الْإِكْرَاهِ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ حَتَّى لَوْ لَمْ يُفْطِرْ حَتَّى قُتِلَ كَانَ آثِمًا وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْإِكْرَاهِ

تَقْصِيرٍ لَمْ يَصْلُحْ سَبَبًا لِلْكَرَامَةِ، أَلَا تَرَاهُ صَالِحًا لِلْجَزَاءِ وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ النَّاسِيَ اسْتَوْجَبَ بَقَاءَ الصَّوْمِ مِنْ غَيْرِ أَدَاءٍ وَجُعِلَ الْمُنَاقِضُ عَدَمًا فِي حَقِّهِ فَلَمْ يُلْحَقْ بِهِ الْخَاطِئُ. وَإِذَا جَرَى الْبَيْعُ عَلَى لِسَانِ الْمَرْءِ خَطَأً بِلَا قَصْدٍ وَصَدَّقَهُ عَلَيْهِ خَصْمُهُ يَجِبُ أَنْ يَنْعَقِدَ وَيَكُونَ كَبَيْعِ الْمُكْرَهِ لِوُجُودِ الِاخْتِيَارِ وَضْعًا وَلِعَدَمِ الرِّضَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْفَصْلُ الْآخَرُ فَهُوَ فَصْلُ الْإِكْرَاهِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ نَوْعٌ بِعَدَمِ الرِّضَا وَيُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ وَهُوَ الْمُلْجِئُ وَنَوْعٌ بِعَدَمِ الرِّضَا وَلَا يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ وَهُوَ الَّذِي لَا يُلْجِئُ وَنَوْعٌ آخَرُ لَا يَعْدَمُ الرِّضَا وَهُوَ أَنْ يَهْتَمَّ بِحَبْسِ أَبِيهِ أَوْ وَلَدِهِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ. وَالْإِكْرَاهُ بِجُمْلَتِهِ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةً وَلَا يُوجِبُ وَضْعَ الْخِطَابِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ مُبْتَلًى وَالِابْتِلَاءُ يُحَقِّقُ الْخِطَابَ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ فَرْضٍ وَحَظْرٍ وَإِبَاحَةٍ وَرُخْصَةٍ وَذَلِكَ آيَةُ الْخِطَابِ فَيَأْثَمُ مَرَّةً وَيُؤْجَرُ أُخْرَى وَلَا يُنَافِي الِاخْتِيَارَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَقَطَ لَبَطَلَ الْإِكْرَاهُ. أَلَا يُرَى أَنَّهُ حُمِلَ عَلَى الِاخْتِيَارِ وَقَدْ وَافَقَ الْحَامِلُ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ مُخْتَارًا وَلِذَلِكَ كَانَ مُخَاطَبًا فِي عَيْنِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَصْلُحُ لِإِبْطَالِ حُكْمِ شَيْءٍ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ جُمْلَةً إلَّا بِدَلِيلِ غَيْرِهِ عَلَى مِثَالِ فِعْلِ الطَّائِعِ وَإِنَّمَا أَثَّرَ الْإِكْرَاهُ إذَا تَكَامَلَ فِي تَبْدِيلِ النِّسْبَةِ وَأَثَرُهُ إذَا قَصَّرَ فِي تَفْوِيتِ الرِّضَا وَأَمَّا فِي الْإِهْدَارِ فَلَا فَهَذَا أَصْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ثُمَّ الْحَاجَةُ إلَى التَّفْصِيلِ وَتَرْتِيبِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَالْجُمْلَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْإِكْرَاهَ الْبَاطِلَ مَتَى جُعِلَ عُذْرًا فِي الشَّرِيعَةِ كَانَ مُبْطِلًا لِلْحُكْمِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْكُفْرِ حَتَّى لَوْ صَبَرَ عَلَيْهِ وَقُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا وَلَا يُؤَجَّلُ هُنَا مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ ثَوَابٌ وَلَا بِتَرْكِهِ عِقَابٌ فَيَثْبُتُ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ لَفْظِ الْإِبَاحَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَ الْإِمَامُ الْبُرْغَرِيُّ مُسْتَدِلًّا عَلَى أَنَّهُ مُخَاطَبٌ أَنَّ أَفْعَالَ الْمُكْرَهِ مُنْقَسِمَةٌ مِنْهَا مَا هُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِ كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَمِنْهَا فَرْضٌ عَلَيْهِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ مِنْهَا مَا هُوَ مُرَخَّصٌ لَهُ فِيهِ كَإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَالْإِفْطَارِ وَإِتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ وَهَذَا عَلَامَةُ كَوْنِ الشَّخْصِ مُخَاطَبًا فَذَكَرَ الْفَرْضَ وَالْحَظْرَ وَالرُّخْصَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْإِبَاحَةَ فَعَرَفْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِقِسْمٍ آخَرَ إلَّا أَنَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَيْنَ الْإِفْطَارِ وَبَيْنَ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ فَرْقًا فِي غَيْرِ حَالِ الْإِكْرَاهِ فَإِنَّ حُرْمَةَ الْإِفْطَارِ قَدْ تَسْقُطُ بِعُذْرِ السَّفَرِ وَالْمَرَضِ وَحُرْمَةِ الْكُفْرِ لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ فَلَعَلَّ الشَّيْخَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَذَلِكَ أَيْ تَرَدُّدُ الْمُكْرَهِ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَامَةٌ لِثُبُوتِ الْخِطَابِ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تَثْبُتُ بِدُونِ الْخِطَابِ وَيَأْثَمُ الْمُكْرَهُ مَرَّةً بِالْإِقْدَامِ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا وَقَتْلِ النَّفْسِ وَيُؤْجَرُ أُخْرَى كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ فَإِنَّ الْإِقْدَامَ لَمَّا صَارَ فَرْضًا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْإِجْرَاءَ كَمَا فِي سَائِرِ الْفُرُوضِ أَوْ يَأْثَمُ بِالِامْتِنَاعِ مَرَّةً كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ وَالْإِكْرَاهِ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَإِنَّ الصَّبْرَ عَنْهُمَا إلَى أَنْ قُتِلَ حَرَامٌ وَيُؤْجَرُ أُخْرَى كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ فَإِنَّ الصَّبْرَ عَنْهُ عَزِيمَةٌ وَالْإِثْمُ وَالْأَجْرُ مُتَعَلِّقَانِ بِالْخِطَابِ. وَلَا يُنَافِي أَيْ الْإِكْرَاهُ الِاخْتِيَارَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ لَوْ سَقَطَ لَتَعَطَّلَ الْإِكْرَاهُ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ فِيمَا لَا اخْتِيَارَ فِيهِ لَا يُتَصَوَّرُ فَإِنَّ الطَّوِيلَ لَا يُكْرَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ قَصِيرًا وَلَا لِقَصِيرٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ طَوِيلًا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُكْرِهَ حَمَلَهُ عَلَى اخْتِيَارِ الْفِعْلِ وَقَدْ وَافَقَ الْمُكْرَهُ الْحَامِلُ فَيَكُونُ مُخْتَارًا فِي الْفِعْلِ ضَرُورَةً إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُخْتَارًا لَمْ يَكُنْ مُوَافِقًا بَالُهُ فَلَا يَكُونُ مُكْرَهًا. وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِكَوْنِهِ مُخْتَارًا كَانَ مُخَاطَبًا فِي عَيْنِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ كَمَا بَيَّنَّا؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ كَمَا يَعْتَمِدُ الْأَهْلِيَّةَ يَعْتَمِدُ الِاخْتِيَارَ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ الْقُدْرَةَ وَهِيَ بِدُونِ الِاخْتِيَارِ لَا يَتَحَقَّقُ فَيَثْبُتُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ وَهِيَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّتَهُ وَلَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْخِطَابِ وَلَا يُنَافِي الِاخْتِيَارَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ بِنَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ لِإِبْطَالِ حُكْمِ شَيْءٍ مِنْ الْأَقْوَالِ مِثْلِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْبَيْعِ وَنَحْوِهَا وَالْأَفْعَالِ مِثْلِ الْقَتْلِ وَإِتْلَافِ الْمَالِ وَإِفْسَادِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا فَيَثْبُتُ مُوجِبُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِكَوْنِهَا صَادِرَةً عَنْ أَهْلِيَّةٍ وَاخْتِيَارٍ إلَّا بِدَلِيلِ غَيْرِهِ عَلَى مِثَالِ فِعْلِ الطَّابَعِ الضَّمِيرِ لِلْحُكْمِ أَيْ لَكِنْ يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِدَلِيلِ غَيْرِهِ بَعْدَمَا صَحَّ الْفِعْلُ فِي نَفْسِهِ كَمَا يَتَغَيَّرُ فِعْلُ الطَّابَعِ بِدَلِيلٍ يَلْحَقُ بِهِ يُوجِبُ تَغْيِيرَ مُوجِبِهِ فَإِنَّ مُوجِبَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ وَهُوَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ يَثْبُتُ عَقِيبَ التَّكَلُّمِ بِهِ إلَّا إذَا لَحِقَ بِهِ مُغَيِّرٌ مِنْ تَعْلِيقٍ أَوْ اسْتِثْنَاءٍ وَكَذَا مُوجِبُ فِعْلِهِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ إلَّا إذَا تَحَقَّقَ مَانِعٌ بِأَنْ تَحَقَّقَتْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ تَحَقَّقَتْ فِيهَا شُبْهَةٌ فَكَذَا يَثْبُتُ مُوجِبُ أَقْوَالِ الْمُكْرَهِ وَأَفْعَالِهِ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْمُغَيِّرِ لِمَا قُلْنَا إنَّهَا صَادِرَةٌ عَنْ عَقْلٍ، وَالْأَهْلِيَّةُ خِطَابٌ وَاخْتِيَارٌ كَأَفْعَالِ الطَّابَعِ وَأَقْوَالِهِ. قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا أَثَّرَ الْإِكْرَاهُ) أَيْ الْإِكْرَاهُ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَمَّا لَمْ يُؤَثِّرْ الْإِكْرَاهُ فِي إبْطَالِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ فَأَيْنَ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فَقَالَ لَا أَثَرَ لَهُ إلَّا فِي أَمْرَيْنِ فَأَثَرُهُ إذَا تَكَامَلَ بِأَنْ كَانَ مُلْجِئًا فِي تَبْدِيلِ النِّسْبَةِ إذَا احْتَمَلَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَمْ يَمْنَعْ عَنْهُ مَانِعٌ حَتَّى يَصِيرَ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرَهِ وَأَثَرُهُ إذَا قَصَّرَ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مُلْجِئًا كَالْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ أَوْ الْقَيْدِ فِي تَفْوِيتِ الرِّضَا لَا فِي تَبْدِيلِ النِّسْبَةِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْإِكْرَاهُ مُؤَثِّرًا فِي إهْدَارِ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ فَلَا. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ لَا يُجْعَلُ فِعْلُهُ لَغْوًا بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ الْبَهِيمَةِ

عَنْ الْمُكْرَهِ أَصْلًا فِعْلًا كَانَ أَوْ قَوْلًا لِمَا قُلْنَا إنَّ الْإِكْرَاهَ يُبْطِلُ الِاخْتِيَارَ وَصِحَّةُ الْقَوْلِ بِالْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ لِيَكُونَ تَرْجَمَةً عَمَّا فِي الضَّمِيرِ فَتَبْطُلُ عِنْدَ عَدَمِهِ وَالْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ مِثْلُ الْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ عِنْدَهُ. أَلَا يُرَى أَنَّهُ يَعْدَمُ الرِّضَا وَتَحْقِيقَ الْعِصْمَةِ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ عِنْدَ عَدَمِ الرِّضَا وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ وَالْأَقَارِيرُ كُلُّهَا وَإِذَا وَقَعَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْفِعْلِ فَإِذَا تَمَّ الْإِكْرَاهُ بَطَلَ حُكْمُ الْفِعْلِ عَنْ الْفَاعِلِ وَتَمَامِهِ بِأَنْ يُجْعَلَ عُذْرًا يُبِيحُ الْفِعْلَ فَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُنْسَبَ إلَى الْمُكْرَهِ نُسِبَ إلَيْهِ وَإِلَّا فَيَبْطُلُ حُكْمُهُ أَصْلًا وَلِهَذَا قَالَ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْمُكْرَهِ وَقَالَ فِي الْأَقْوَالِ أَجْمَعَ أَنَّهَا تَبْطُلُ وَقَالَ فِي إتْلَافِ صَيْدِ الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ وَالْإِفْطَارِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى الْفَاعِلِ وَلَكِنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْمُكْرَهِ وَقَالَ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا أَنَّهُ يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَى الْفَاعِلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ بِهِ الْفِعْلَ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْمُكْرَهِ عَلَى الْقَتْلِ أَنَّهُ يُقْتَلُ لِمَا قُلْنَا. وَأَمَّا الْمُكْرِهُ فَإِنَّمَا يَقْتُلُ بِالتَّسْبِيبِ وَقَالَ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ أَنَّ الْمُكْرَهَ إذَا كَانَ ذِمِّيًّا لَمْ يَصِحَّ إسْلَامُهُ وَإِنْ كَانَ حَرْبِيًّا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ إكْرَاهِ الذِّمِّيِّ بَاطِلٌ وَإِكْرَاهُ الْحَرْبِيِّ جَائِزٌ فَعُدَّ الِاخْتِيَارُ قَائِمًا وَكَذَلِكَ الْقَاضِي إذَا أَكْرَهَ الْمَدْيُونَ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ فَبَاعَهُ صَحَّ؛ لِأَنَّ هَذَا إكْرَاهُ حَقٍّ وَكَذَلِكَ الْمَوْلَى إذَا أُكْرِهَ فَطَلَّقَ صَحَّ لِمَا قُلْنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQوَلَكِنْ يُجْعَلُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرَهِ فَلَوْ اُعْتُبِرَ الْإِكْرَاهُ لِإِعْدَامِ الْفِعْلِ فِي جَانِبِ الْمُكْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرَهِ لَكَانَ تَأْثِيرُهُ فِي الْإِلْغَاءِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ هَذَا أَصْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَيْ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ أَثَرَ الْإِكْرَاهِ تَبْدِيلُ النِّسْبَةِ أَوْ تَفْوِيتُ الرِّضَا أَصْلُ جُمْلَةِ أَنْوَاعِ الْإِكْرَاهِ عِنْدَنَا لَا إبْطَالَ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَثَرِ الْإِكْرَاهِ هُوَ الْأَصْلُ فِي جُمْلَةِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِكْرَاهِ وَالْجُمْلَةُ أَيْ الْأَصْلُ الْجَامِعُ فِي هَذَا الْبَابِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْإِكْرَاهَ الْبَاطِلَ وَهُوَ الَّذِي يَحْرُمُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ حَتَّى جُعِلَ عُذْرًا فِي الشَّرْعِيَّةِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَبِالْإِجْمَاعِ حَتَّى سَقَطَ الْإِثْمُ عَنْ الْمُكْرَهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ بِلَا خِلَافٍ كَانَ مُبْطِلًا لِلْحُكْمِ عَنْ الْمُكْرَهِ أَصْلًا فِعْلًا كَانَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَوْ قَوْلًا لِمَا قُلْنَا يَعْنِي فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ يُبْطِلُ الِاخْتِيَارَ. أَوْ لِمَا قُلْنَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ يُبْطِلُ الِاخْتِيَارَ أَيْ يُفْسِدُهُ وَصِحَّةُ الْقَوْلِ بِالْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ لِيَكُونَ الْقَوْلُ بِاعْتِبَارِ الْقَصْدِ تَرْجَمَةً عَمَّا فِي الضَّمِيرِ وَدَلِيلًا عَلَيْهِ فَيَبْطُلُ أَيْ الْقَوْلُ عِنْدَ عَدَمِ الْقَصْدِ أَلَا يُرَى أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَصِحُّ مِنْ النَّائِمِ لِعَدَمِ الِاخْتِيَارِ وَلَا مِنْ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ لِعَدَمِ الْقَصْدِ الصَّحِيحِ فَعَرَفْنَا أَنَّ صِحَّةَ الْكَلَامِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ تَرْجَمَةً عَمَّا فِي الْقَلْبِ وَالْإِكْرَاهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُكْرَهَ مُتَكَلِّمٌ لِدَفْعِ الشَّرِّ لَا لِبَيَانِ مَا هُوَ مُرَادُ قَلْبِهِ فَصَارَ فِي الْإِفْسَادِ فَوْقَ الَّذِي لَا قَصْدَ لَهُ وَلَمْ يُرِدْ شَيْئًا آخَرَ وَكَانَ كُلُّ كَلَامِهِ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ لَمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُقِرَّ لَمْ يُرِدْ إظْهَارَ أَمْرٍ قَدْ سَبَقَ بَلْ قَصَدَ دَفْعَ الشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ كَانَ إقْرَارُهُ كَإِقْرَارِ الْمَجْنُونِ فَكَذَلِكَ سَائِرُ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ دَالٌّ عَلَى عَدَمِ قَصْدِ الْقَلْبِ الَّذِي صِحَّةُ الْكَلَامِ تُبْتَنَى عَلَيْهِ، وَالْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ الدَّائِمِ مِثْلُ الْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ عِنْدَهُ فِي إبْطَالِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ عَنْ الْمُكْرَهِ أَصْلًا، أَلَا يُرَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ بِالْحَبْسِ بِعَدَمِ الرِّضَا بِالِاتِّفَاقِ وَبُطْلَانِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ عَنْ الْمُكْرَهِ فِي الْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ لِتَحْقِيقِ عِصْمَةِ حُقُوقِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَفُوتَ حُقُوقُهُ بِدُونِ اخْتِيَارِهِ، وَتَحْقِيقُ الْعِصْمَةِ هَاهُنَا فِي دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُكْرَهِ عِنْدَ عَدَمِ الرِّضَا بِزَوَالِ حَقِّهِ فَيَجِبُ إلْحَاقُ الْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ. قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ كِتَابِ الْإِكْرَاهِ فِي جَانِبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْإِكْرَاهُ بِعَدَمِ الرِّضَاءِ فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ يُزِيلُ حُقُوقَهُمْ وَأَمْلَاكَهُمْ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُمْ بِهِ أَدَّى إلَى أَنْ لَا تَظْهَرَ فَائِدَةُ حُرْمَةِ الْحُقُوقِ، وَالرِّضَا شَرْطٌ فِي التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ فَيَكُونُ شَرْطًا فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَجْمَعُ الْكُلَّ وَهُوَ صِيَانَةُ الْحُقُوقِ الْمُحْتَرَمَةِ فَوَجَبَ إلْحَاقُ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ لِفَوَاتِ الرِّضَا فِيهِ بِالْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ مُحْيِي السُّنَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَحَدُّ الْإِكْرَاهِ أَنْ يُخَوِّفَهُ بِعُقُوبَةٍ تَنَالُ مِنْ بَدَنِهِ عَاجِلًا لَا طَاقَةَ لَهُ بِهَا، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ إنْ فَعَلْت كَذَا وَإِلَّا لَأَقْتُلَنَّكَ أَوْ لَأَقْطَعَنَّ عُضْوًا مِنْك وَلَأَضْرِبَنَّكَ ضَرْبًا مُبَرِّحًا أَوْ لَأُخَلِّدَنَّكَ فِي السِّجْنِ وَكَانَ الْقَائِلُ مِمَّنْ يُمْكِنُهُ تَحْقِيقَ مَا يُخَوِّفُهُ بِهِ فَإِنْ خَوَّفَهُ بِعُقُوبَةٍ آجِلَةٍ بِأَنْ قَالَ لَأَضْرِبَنَّكَ غَدًا أَوْ بِضَرْبٍ غَيْرِ مُبَرِّحٍ بِأَنْ قَالَ لَأَضْرِبَنَّكَ سَوْطًا أَوْ سَوْطَيْنِ أَوْ بِمَا لَا يَنَالُ مِنْ بَدَنِهِ بِأَنْ قَالَ لَأَقْتُلَنَّ وَلَدَك أَوْ زَوْجَتَك فَلَا يَكُونُ إكْرَاهًا. وَالنَّفْيُ عَنْ الْبُلْدَانِ كَانَ فِيهِ تَفْرِيقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ فَهُوَ إكْرَاهٌ كَالتَّخْلِيدِ فِي السِّجْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَجْهَانِ، أَمَّا مَا يَئُولُ إلَى إذْهَابِ الْجَاهِ، مِثْلُ أَنْ تَقُولَ لِلْمُحْتَشِمِ لَأُسَوِّدَنَّ وَجْهَك أَوْ لَأَطُوفَنَّ بِك فِي الْبَلَدِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ أَوْ لَأُتْلِفَنَّ مَالَك فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إكْرَاهًا إذَا كَانَ يُكْرِهُهُ عَلَى قَتْلٍ أَوْ قَطْعٍ وَإِنْ كَانَ يُكْرِهُهُ عَلَى إتْلَافِ مَالٍ أَوْ عَلَى طَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ فَهُوَ إكْرَاهٌ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُصِيبُ بَدَنَهُ بِهِ مَا لَا يُطِيقُهُ هَذَا كُلُّهُ مِنْ التَّهْذِيبِ. قَوْلُهُ (وَتَمَامُهُ) بِأَنْ يُجْعَلَ عُذْرًا يُبِيحُ الْفِعْلُ شَرْعًا كَالْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ أَوْ الْحَبْسِ الدَّائِمِ عَلَى إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ الْإِفْطَارِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ أَوْ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ فَإِنَّهُ يُبِيحُ الْفِعْلَ عِنْدَهُ وَلَكِنْ لَا يَجِبُ كَلِمَةُ

وَذَلِكَ بَعْدَ الْمُدَّةِ عِنْدَهُ وَقَدْ ذَكَرْنَا نَحْنُ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَعْدَمُ الِاخْتِيَارَ لَكِنَّهُ يَعْدَمُ الرِّضَا فَكَانَ دُونَ الْهَزْلِ وَشَرْطِ الْخِيَارِ وَدُونَ الْخَطَإِ لَكِنَّهُ يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ فَإِذَا عَارَضَهُ اخْتِيَارٌ صَحِيحٌ وَجَبَ تَرْجِيحُ الصَّحِيحِ عَلَى الْفَاسِدِ إنْ أَمْكَنَ فَيُجْعَلُ الِاخْتِيَارُ الْفَاسِدُ مَعْدُومًا فِي مُقَابَلَتِهِ وَإِذَا جُعِلَ مَعْدُومًا صَارَ بِمَنْزِلَةِ عَدِيمِ الِاخْتِيَارِ فَيَصِيرُ آلَةً لِلْمُكْرِهِ فِيمَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَفِيمَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَا يَسْتَقِيمُ نِسْبَتُهُ إلَى الْمُكْرَهِ فَلَا يَقَعُ الْمُعَارَضَةُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحُكْمِ فَبَقِيَ مَنْسُوبًا إلَى الِاخْتِيَارِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّهُ صَالِحٌ لِذَلِكَ وَإِنَّمَا كَانَ يَسْقُطُ بِالتَّرْجِيحِ. أَلَا يُرَى أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الِاخْتِيَارِ صَالِحٌ لِلْخِطَابِ وَصَارَتْ التَّصَرُّفَاتُ كُلُّهَا مُنْقَسِمَةً إلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ الْأَقْوَالُ قِسْمٌ وَاحِدٌ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ فِيهَا لَا يَصْلُحُ آلَةً لِغَيْرِهِ فَاقْتَصَرَتْ عَلَيْهِ وَالْأَفْعَالُ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا مِثْلُ الْأَقْوَالِ. وَالثَّانِي مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ فِيهِ آلَةً لِغَيْرِهِ وَالْأَقْوَالُ قِسْمَانِ أَيْضًا مَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى الرِّضَا وَمَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ دُونَ الرِّضَا وَالْإِكْرَاهُ نَوْعَانِ كَامِلٌ يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ وَيُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَقَاصِرٌ يَعْدَمُ الرِّضَا وَلَا يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَالْحُرُمَاتُ أَنْوَاعٌ حُرْمَةٌ لَا تَنْكَشِفُ وَلَا يَدْخُلُهَا رُخْصَةٌ بَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ وَحُرْمَةٌ تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ أَصْلًا وَحُرْمَةٌ لَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ لَكِنْ تَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ وَحُرْمَةٌ تَحْتَمِلُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالرِّدَّةِ بِالْإِكْرَاهِ وَيَجِبُ غَيْرُهَا وَلَا يُبَاحُ الْقَتْلُ وَالزِّنَا بِالْإِكْرَاهِ كَذَا فِي مُلَخَّصِهِمْ وَإِنَّمَا جَعَلَ الْإِبَاحَةَ دَلِيلًا عَلَى تَمَامِ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى تَمَامِ الْعُذْرِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي حَقِّ الْمُضْطَرِّ فَإِذَا ثَبَتَتْ الْإِبَاحَةُ فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ عُرِفَ أَنَّ الِاضْطِرَارَ قَدْ تَحَقَّقَ وَأَنَّ الْإِكْرَاهَ صَارَ مُلْجِئًا فَكَانَ تَامًّا وَلِهَذَا أَيْ وَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَصْلِ لَهُ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ أَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ الْفَاعِلَ يَصْلُحُ آلَةً لَهُ فِي الْإِتْلَافِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُنْسَبَ الْفِعْلُ إلَيْهِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ. وَقَالَ فِي إتْلَافِ صَيْدِ الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ وَالْإِفْطَارِ بِأَنَّ إكْرَاهَ الْحَلَالِ عَلَى قَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ أَوْ إكْرَاهَ الْمُحْرِمِ عَلَى قَتْلِ صَيْدٍ أَوْ إكْرَاهَ الصَّائِمِ عَلَى الْإِفْطَارِ فَفَعَلُوا لَا شَيْءَ عَلَى الْفَاعِلِ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَلَكِنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ بَهِيمَةٍ مَضْمُونَةٍ بِالْإِتْلَافِ فَأَشْبَهَ ضَمَانَ الشَّاةِ وَيُتَصَوَّرُ قَتْلُ الصَّيْدِ مِنْ الَّذِي أَكْرَهَ بِيَدِ الَّذِي بَاشَرَ فَيُنْسَبُ الْقَتْلُ إلَى الْمُكْرِهِ إذَا تَمَّ الْإِكْرَاهُ وَقَدْ تَمَّ؛ لِأَنَّ الَّذِي بَاشَرَ أُبِيحَ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ وَلَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ فِي صُورَةِ الْإِفْطَارِ؛ لِأَنَّ الْحَظْرَ يَزُولُ بِالْإِكْرَاهِ فَالْتُحِقَ الْإِفْطَارُ بِابْتِلَاعِ الْبُزَاقِ وَالْأَكْلِ نَاسِيًا بِخِلَافِ بِالْمَرَضِ؛ لِأَنَّ الْحَظْرَ وَإِنْ زَالَ فَصَوْمُ الْعِدَّةِ لَزِمَهُ بِالنَّصِّ فَالشَّرْعُ أَقَامَ الْعِدَّةَ فِي حَقِّهِ مَقَامَ الشَّهْرِ لَا أَنَّ صَوْمَ الْعِدَّةِ يَلْزَمُهُ قَضَاءً بِحُكْمِ الْإِفْطَارِ مَعَ زَوَالِ الْحَظْرِ أَلَا يُرَى أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْأَدَاءِ حَتَّى لَوْ مَاتَ فِي بَعْضِ الْعِدَّةِ لَمْ يَلْزَمُهُ قَضَاءً مَا بَقِيَ وَمَا يَجِبُ بِحُكْمِ الْإِفْطَارِ لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَمَا قَالَ فِي الزِّنَا قَالَ فِي الْمُكْرَهِ عَلَى الْقَتْلِ إنَّ الْمُكْرَهَ يُقْتَلُ لِمَا قُلْنَا إنَّهُ لَمْ يَحِلَّ بِهِ الْفِعْلُ فَلَمْ يَتِمَّ الْإِكْرَاهُ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ الْمُبَاشِرُ آلَةً وَلِهَذَا يَأْثَمُ بِالِاتِّفَاقِ وَلَوْ صَارَ آلَةً لَمَا أَثِمَ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْمُكْرَهُ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ كَمَا اقْتَصَرَ الْفِعْلُ عَلَى الْمُكْرَهِ حَتَّى وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْتَصَّ مِنْ الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُبَاشِرٍ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا لِاقْتِصَارِ الْفِعْلِ عَلَى الْمُكْرَهِ فَقَالَ إنَّمَا يُقْتَلُ الْمُكْرَهُ بِالتَّسْبِيبِ لَا بِالْمُبَاشَرَةِ حَقِيقَةً فَإِنَّ التَّسْبِيبَ إذَا تَعَيَّنَ لِلْقَتْلِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاشَرَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقِصَاصَ شُرِعَ لِلْإِحْيَاءِ بِسَدِّ بَابِ الْقَتْلِ عُدْوَانًا ابْتِدَاءً خَوْفًا مِنْ الْقِصَاصِ، وَالْقَتْلُ بِالْإِكْرَاهِ بَابٌ مَفْتُوحٌ فِي النَّاسِ لِلْأَكَابِرِ وَالْمُتَغَلِّبَةِ فَلَوْ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقِصَاصُ لَمَا انْسَدَّ الْبَابُ بِقَتْلِ الْمُبَاشِرِ؛ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَيْهِ وَالِاضْطِرَارُ جَاءَ مِنْ جِهَةِ الْمُتَغَلِّبِ وَهَذَا كَمَا يُقْتَلُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الْآدَمِيِّ فِي الْعَادَاتِ إنَّمَا يَكُونُ بِالتَّغَالُبِ وَالِاجْتِمَاعِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ يَدْفَعُ الْوَاحِدَ عَنْ نَفْسِهِ فَلَوْ لَمْ تُقْتَلْ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ قِصَاصًا لَمَا انْسَدَّ بَابُ الْقَتْلِ عُدْوَانًا بِالْقِصَاصِ ثُمَّ أَنَّهُ سَبَبٌ عَلَى وَجْهِ التَّعْيِينِ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ لَا يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ إلَّا بِقَتْلِ ذَلِكَ الشَّخْصِ بِعَيْنِهِ فَصَارَ كَالسَّيْفِ لَهُ بِخِلَافِ حَفْرِ الْبِئْرِ وَوَضْعِ الْحَجَرِ عَلَى الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ إكْرَاهَ الذِّمِّيِّ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّا أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ وَإِكْرَاهُ الْحَرْبِيِّ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ بِقِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ جَبْرًا لَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ فَعُدَّ الِاخْتِيَارُ قَائِمًا فِي حَقِّهِ إعْلَاءً لِلْإِسْلَامِ كَمَا عُدَّ قَائِمًا فِي حَقِّ السَّكْرَانِ زَجْرًا لَهُ حَتَّى صَحَّتْ تَصَرُّفَاتُهُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ إذَا كَانَ بِحَقٍّ فَقَدْ أَمَرَنَا الشَّرْعُ بِإِكْرَاهِهِ عَلَى ذَلِكَ التَّصَرُّفِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الشَّرْعِ طَلَبًا لِلتَّصَرُّفِ وَمَا كَانَ مَطْلُوبًا شَرْعًا يَكُونُ مَحْكُومًا بِصِحَّتِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَا يَأْمُرُ بِشَيْءٍ غَيْرِ صَحِيحٍ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ بَاطِلًا فَهُوَ مَحْظُورٌ وَذَلِكَ التَّصَرُّفُ مَمْنُوعٌ عَنْهُ شَرْعًا فَلَا يَثْبُتُ وَلَا يَصِحُّ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَالْمَدْيُونِ الْمَوْلَى إذَا أُكْرِهَ عَلَى التَّطْلِيقِ فَطَلَّقَ صَحَّ طَلَاقُهُ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْإِكْرَاهَ حَقٌّ وَذَلِكَ أَيْ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِالْإِكْرَاهِ بَعْدَ الْمُدَّةِ عِنْدَهُ أَيْ يُتَصَوَّرُ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ عَلَى أَصْلِهِ؛ لِأَنَّ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عِنْدَهُ وَلَكِنَّهَا تَسْتَحِقُّ التَّفْرِيقَ عَلَيْهِ كَامْرَأَةِ الْعِنِّينِ بَعْدَ الْحَوْلِ فَإِذَا امْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ فَأُكْرِهَ عَلَيْهِ كَانَ الْإِكْرَاهُ حَقًّا لَا بَاطِلًا فَلَا يَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فَأَمَّا قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَالْإِكْرَاهُ بَاطِلٌ فَيَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ. قَوْلُهُ (وَقَدْ ذَكَرْنَا نَحْنُ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَعْدَمُ الِاخْتِيَارَ) فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ طُلِبَ مِنْهُ أَنْ يَخْتَارَ أَهْوَنَ الْأَمْرَيْنِ عَلَيْهِ

السُّقُوطَ لَكِنَّهَا لَمْ تَسْقُطْ بِعُذْرِ الْمُكْرَهِ وَاحْتَمَلَتْ الرُّخْصَةَ أَيْضًا وَجُمْلَةُ الْفِقْهِ فِيهِ مَا قُلْنَا إنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُوجِبُ تَبْدِيلَ الْحُكْمِ بِحَالٍ وَلَا تَبْدِيلَ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ وَلَا يُوجِبُ النِّسْبَةَ إلَّا بِطَرِيقٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنْ تَجْعَلَ الْمُكْرَهَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ لَا وَجْهَ لِنَقْلِ الْحُكْمِ بِدُونِ نَقْلِ الْفِعْلِ وَلَا وَجْهَ لِنَقْلِ الْفِعْلِ ذَاتِهِ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ فَإِنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا وَجَبَ الْقَصْرُ عَلَى الْمُكْرَهِ فَفِي الْأَقْوَالِ كُلِّهَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَتَكَلَّمَ الْمَرْءُ بِلِسَانِ غَيْرِهِ فَاقْتَصَرَ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا لَا يَنْفَسِخُ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَكَيْفَ لَا يَكُونُ مُخْتَارًا أَوْ لَكِنَّهُ بِعَدَمِ الرِّضَاءِ فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ فَكَانَ الْإِكْرَاهُ دُونَ الْهَزْلِ وَشَرْطُ الْخِيَارِ دُونَ الْخَطَإِ فِي الْمَانِعِيَّةِ وَقَدْ شَبَّهَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا بِالْهَزْلِ؛ لِأَنَّ الْهَزْلَ بِعَدَمِ الرِّضَا بِحُكْمِ السَّبَبِ مَعَ وُجُودِ الْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ فِي نَفْسِ السَّبَبِ وَشَبَّهَهُ بَعْضُهُمْ بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فَإِنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ بِعَدَمِ الرِّضَا بِحُكْمِ السَّبَبِ دُونَ نَفْسِ السَّبَبِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ فَقَالَ الشَّيْخُ هُوَ دُونَهُمَا دُونَ الْخَطَإِ؛ لِأَنَّ فِي الْهَزْلِ وَشَرْطِ الْخِيَارِ عَمَّ اخْتِيَارُ الْحُكْمِ وَالرِّضَا بِهِ أَصْلًا وَإِنْ وُجِدَ الرِّضَا بِالسَّبَبِ وَفِي الْخَطَإِ الِاخْتِيَارُ مَوْجُودٌ تَقْدِيرًا لَا تَحْقِيقًا فَأَمَّا فِي الْإِكْرَاهِ فَالِاخْتِيَارُ فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ مَوْجُودٌ حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا فَكَانَ دُونَ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ فِي الْمَنْعِ وَأَقْرَبَ إلَى فِعْلِ الطَّابَعِ مِنْهَا فَكَانَ تَصَرُّفُ الْمُكْرَهِ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ تَصَرُّفِ الْهَازِلِ وَالْخَاطِئِ وَلَا يُقَالُ الرِّضَا بِالسَّبَبِ مَوْجُودٌ فِي الْهَزْلِ وَشَرْطُ الْخِيَارِ دُونَ الْإِكْرَاهِ وَاخْتِيَارُ الْحُكْمِ مَوْجُودٌ فِي الْإِكْرَاهِ دُونَ الْهَزْلِ وَشَرْطِ الْخِيَارِ فَيَسْتَوِي الْكُلُّ فَلَا يَكُونُ الْإِكْرَاهُ دُونَهُمَا؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْحُكْمُ هُوَ الْمَقْصُودُ دُونَ السَّبَبِ فَلَا يُعَادَلُ الرِّضَا بِالسَّبَبِ فِي الْهَزْلِ وَشَرْطِ خِيَارِ اخْتِيَارِ الْحُكْمِ فِي الْإِكْرَاهِ فَلَا تَثْبُتُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ وَالْهَزْلِ وَشَرْطِ الْخِيَارِ بَلْ كَانَ الْإِكْرَاهُ دُونَهُمَا كَمَا بَيَّنَّا وَقَوْلُهُ لَكِنَّهُ أَيْ الْإِكْرَاهَ يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَمَّا كَانَ الْإِكْرَاهُ دُونَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي الْمَنْعِ لِوُجُودِ الِاخْتِيَارِ فِيهِ يَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِرَ الْحُكْمُ عَلَى الْمُكْرَهِ كَمَا فِي الْهَزْلِ وَالْخَطَأِ. فَقَالَ الْإِكْرَاهُ لَا يَعْدَمُ الِاخْتِيَارَ وَلَكِنَّهُ يُفْسِدُهُ لِمَا بَيَّنَّا فَإِذَا عَارَضَ الِاخْتِيَارَ الْفَاسِدَ اخْتِيَارٌ صَحِيحٌ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُكْرَهِ وَجَبَ تَرْجِيحُ الصَّحِيحِ عَلَى الْفَاسِدِ إنْ أَمْكَنَ وَذَلِكَ بِاحْتِمَالِ الْفِعْلِ النِّسْبَةَ إلَى الْمُكْرَهِ بِجَعْلِ الْمُكْرَهِ آلَةً لَهُ نِسْبَتُهُ أَيْ نِسْبَةُ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ أَيْ الِاخْتِيَارَ الْفَاسِدَ صَالِحٌ لِذَلِكَ أَيْ لِاسْتِحْقَاقِ الْحُكْمِ صَالِحٌ لِلْخِطَابِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُكْرَهَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ فَرْضٍ وَحَظْرٍ وَرُخْصَةٍ وَلَمَّا فَرَغَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ تَمْهِيدِ أَصْلِهِ وَتَأْسِيسِ قَاعِدَتِهِ شَرَعَ فِي تَرْتِيبِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ وَتَفْصِيلِ الْجُمْلَةِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ ثُمَّ الْحَاجَةُ إلَى التَّفْصِيلِ وَتَرْتِيبِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَقَالَ وَصَارَتْ التَّصَرُّفَاتُ الصَّادِرَةُ مِنْ الْمُكْرَهِ كُلُّهَا مُنْقَسِمَةً إلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ مَا يُمْكِنُ نِسْبَتُهُ إلَى الْمُكْرِهِ بِجَعْلِ الْمُكْرَهِ آلَةً لَهُ وَمَا لَا يُمْكِنُ نِسْبَتُهُ إلَيْهِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْمُكْرِهِ وَالْإِكْرَاهُ نَوْعَانِ أَيْ الْإِكْرَاهُ الَّذِي لَهُ أَثَرٌ فِي الْأَحْكَامِ نَوْعَانِ حُرْمَةٌ لَا تَنْكَشِفُ أَيْ لَا تَزُولُ وَلَا تَسْقُطُ نَحْوَ حُرْمَةِ الزِّنَا وَالْقَتْلِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَا يَحِلُّ لِضَرُورَةٍ مَا فَلَا يَحِلُّ بِهَذِهِ الضَّرُورَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ نَفْسِ غَيْرِهِ مِثْلُ حُرْمَةِ نَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ إهْلَاكَ نَفْسِ غَيْرِهِ طَرِيقًا لِصِيَانَةِ نَفْسِهِ وَالزِّنَا فِي حُكْمِ الْقَتْلِ أَيْضًا وَحُرْمَةٌ تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ أَصْلًا مِثْلُ حُرْمَةِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ لِمَا مَرَّ. وَحُرْمَةٌ لَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ لَكِنَّهَا تَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ نَحْوُ حُرْمَةِ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ فَإِنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ أَبَدًا لَكِنْ تَدْخُلُهَا الرُّخْصَةُ أَيْ تَسْقُطُ الْمُؤَاخَذَةُ بِالْمُبَاشَرَةِ مَعَ قِيَامِ الْحُرْمَةِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ وَحُرْمَةٌ تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ لَكِنَّهَا لَمْ تَسْقُطْ بِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ وَاحْتَمَلَتْ الرُّخْصَةَ كَحُرْمَةِ إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ فَإِنَّهَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِإِبَاحَةِ صَاحِبِهِ وَلَمْ تَسْقُطْ بِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ كَمَا لَمْ تَسْقُطْ بِعُذْرِ الْمَخْمَصَةِ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهُ لِحَقِّ الْغَيْرِ وَحَقُّهُ بَاقٍ فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ وَالِاضْطِرَارِ لَكِنَّهَا تَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ حَتَّى رُخِّصَ لَهُ الْإِتْلَافُ بِالْإِكْرَاهِ وَالْأَكْلُ بِالْمَخْمَصَةِ مَعَ بَقَاءِ الْحُرْمَةِ. قَوْلُهُ (وَجُمْلَةُ الْفِقْهِ) أَيْ الْمَعْنَى الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ أَنَّ الْإِكْرَاهَ عِنْدَنَا لَا يُوجِبُ تَبْدِيلَ الْحُكْمِ بِحَالٍ أَيْ لَا يُوجِبُ تَغَيُّرَ حُكْمِ السَّبَبِ وَإِبْطَالِهِ عَنْهُ مُلْجِئًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُلْجِئٍ بَلْ يَبْقَى حُكْمُهُ كَمَا لَوْ كَانَ طَائِعًا لِصُدُورِهِ عَنْ عَقْلٍ وَتَمْيِيزٍ وَأَهْلِيَّةِ خِطَابٍ مِثْلُ صُدُورِهِ عَنْ الطَّائِعِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ قَدْ أَوْجَبَ تَبْدِيلَ الْحُكْمِ حَتَّى لَا يُحْكَمَ بِكُفْرِ الْمُكْرَهِ وَلَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ وَلَوْ صَدَرَ عَنْ الطَّائِعِ حُكِمَ بِكُفْرِهِ وَبِالْبَيْنُونَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ

وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الرِّضَا وَالِاخْتِيَارُ لَمْ يَبْطُلْ بِالْإِكْرَاهِ مِثْلُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَبْطُلُ بِالْهَزْلِ وَهُوَ يُنَافِي الِاخْتِيَارَ وَالرِّضَا بِالْحُكْمِ وَلَا يَبْطُلُ شَرْطُ الْخِيَارِ وَهُوَ يُنَافِي الِاخْتِيَارَ أَصْلًا فَلَأَنْ لَا يَبْطُلُ بِمَا يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ أَوْلَى. ـــــــــــــــــــــــــــــQالرِّدَّةُ فِي الْحَقِيقَةِ تَثْبُتُ بِتَبْدِيلِ الِاعْتِقَادِ، وَالتَّكَلُّمُ بِاللِّسَانِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَقِيَامُ الْإِكْرَاهِ هَاهُنَا مَنَعَ كَوْنَ التَّكَلُّمِ دَلِيلًا عَلَى تَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِقْرَارِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ الِارْتِدَادُ فَلَا تَقَعُ الْبَيْنُونَةُ وَلَا يُوجِبُ تَبْدِيلَ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ فِي تَبْدِيلِ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ تَبْدِيلَ مَحَلِّ الْحُكْمِ أَيْضًا عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي مَسْأَلَةِ إكْرَاهِ الْمُحْرِمِ عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ وَلَا يُوجِبُ تَبْدِيلَ النِّسْبَةِ إلَّا بِطَرِيقٍ وَاحِدٍ كَأَنَّهُ أَشَارَ بِهِ إلَى رَدِّ مَا ذَكَرَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ أَثَرَ الْإِكْرَاهِ التَّامِّ فِي نَقْلِ الْفِعْلِ عَنْ الْمُكْرَهِ إلَى الْمُكْرِهِ فَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّهُ لَا تَصَوُّرَ لِنَقْلِ الْفِعْلِ الْمَوْجُودِ حَقِيقَةً مِنْ شَخْصٍ إلَى غَيْرِهِ وَالْمَسَائِلُ تَشْهَدُ بِخِلَافِ هَذَا أَيْضًا فَإِنَّ الْبَالِغَ إذَا أَكْرَهَ صَبِيًّا عَلَى قَتْلِ الْغَيْرِ يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرِهِ وَهَذَا الْفِعْلُ فِي مَحَلِّهِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقَوَدِ فَلَا يَصِيرُ مُوجِبًا بِانْتِقَالِهِ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ. بَلْ الصَّحِيحُ أَنَّ تَأْثِيرَ الْإِكْرَاهِ فِي جَعْلِ الْمُكْرَهِ آلَةً لِلْمُكْرِهِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ فَيَصِيرُ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ ابْتِدَاءً بِهَذَا الطَّرِيقِ لَا بِطَرِيقِ النَّقْلِ وَجَعْلُ الْمُكْرَهِ آلَةً لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ بِالْإِكْرَاهِ يَفُوتُ اخْتِيَارُهُ أَصْلًا وَلَكِنْ؛ لِأَنَّهُ يَفْسُدُ اخْتِيَارُهُ بِهِ لِتَحَقُّقِ الْإِلْجَاءِ إذْ الْإِنْسَانُ مَجْبُولٌ عَلَى حُبِّ حَيَاتِهِ وَذَلِكَ بِحَمْلِهِ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ فَيَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَالْفَاسِدُ فِي مُعَارَضَةِ الصَّحِيحِ كَالْمَعْدُومِ فَيَصِيرُ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرَهِ لِوُجُودِ الِاخْتِيَارِ الصَّحِيحِ وَالْمُكْرَهُ يَصِيرُ آلَةً لَهُ لِعَدَمِ اخْتِيَارِهِ حُكْمًا فِي مُعَارَضَةِ الِاخْتِيَارِ الصَّحِيحِ وَإِلَى مَا ذَكَرَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ وَلَا وَجْهَ لِنَقْلِ الْفِعْلِ ذَاتِهِ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ فَإِنْ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِالنَّقْلِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ وَإِلَّا وَجَبَ قَصْرُ الْفِعْلِ بِحُكْمِهِ عَلَى الْمُكْرَهِ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْفَضْلِ الْكَرْمَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْإِيضَاحِ وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِنَا يَصْلُحُ آلَةً أَنَّ الْمُكْرِهَ يُمْكِنُهُ إيجَادُ الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ بِنَفْسِهِ فَإِذَا حَمَلَ غَيْرُهُ عَلَيْهِ بِوَعِيدِ التَّلَفِ صَارَ كَأَنَّهُ فِعْلُ نَفْسِهِ وَمِنْ قَوْلِنَا لَا يَصْلُحُ آلَةً أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ مُبَاشَرَةُ ذَلِكَ الْفِعْلِ بِنَفْسِهِ فَإِذَا حَمَلَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ يَبْقَى مَقْصُورًا عَلَيْهِ فَفِي الْأَقْوَالِ كُلِّهَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَتَكَلَّمَ الْمَرْءُ بِلِسَانِ غَيْرِهِ حِسًّا عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى لِلِسَانِ الْمُتَكَلِّمِ اخْتِيَارٌ فَاقْتَصَرَ الْأَقْوَالُ بِأَحْكَامِهَا عَلَى الْمُتَكَلِّمِ وَلَا يُجْعَلُ كَأَنَّ الْمُكْرِهَ طَلَّقَ امْرَأَةَ الْمُكْرَهِ أَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَصْلُحُ آلَةً لِلْمُكْرَهِ فَإِنَّ مَنْ وَكَّلَ رَجُلًا بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ وَإِعْتَاقِ عَبْدِهِ يَصِحُّ وَمَتَى طَلَّقَ الْوَكِيلُ كَانَ عَامِلًا لِلْمُوَكِّلِ حَتَّى لَوْ حَلَفَ الرَّجُلُ لَا يُطَلِّقُ وَلَا يَعْتِقُ فَوَكَّلَ غَيْرَهُ بِالطَّلَاقِ وَالْإِعْتَاقِ حَنِثَ فَعُلِمَ أَنَّ الْوَكِيلَ صَارَ آلَةً لِلْمُوَكِّلِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُكْرِهَ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْمُكْرَهِ وَفِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ يَرْجِعُ بِضَمَانِ نِصْفِ الصَّدَاقِ عَلَى الْمُكْرَهِ وَلَوْ لَمْ يَصِرْ آلَةً لَهُ لِمَا رَجَعَ وَإِذَا صَارَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ صَارَ كَأَنَّ الْمُكْرِهَ طَلَّقَ امْرَأَةَ الْمُكْرَهِ أَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْغُوَ. قُلْنَا الْمُكْرَهُ إنَّمَا يَصْلُحُ آلَةَ الْمُكْرِهِ فِيمَا لَوْ أَرَادَ الْمُكْرَهُ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ لَقَدَرَ عَلَيْهِ فَيَنْزِلُ فَاعِلًا بِمُبَاشَرَةِ غَيْرِهِ تَقْدِيرًا وَاعْتِبَارًا، فَأَمَّا فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ فَاعِلًا حُكْمًا فَفِي تَطْلِيقِ امْرَأَةِ نَفْسِهِ وَإِعْتَاقِ عَبْدِهِ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ مُتَصَرِّفًا بِنَفْسِهِ فَإِذَا وَكَّلَ غَيْرَهُ بِذَلِكَ وَاسْتَعْمَلَهُ جُعِلَ عَامِلًا تَقْدِيرًا وَاعْتِبَارًا فَأَمَّا فِي تَطْلِيقِ امْرَأَةِ الْمُكْرَهِ وَإِعْتَاقِ عَبْدِهِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُبَاشِرًا بِنَفْسِهِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ الْمُكْرَهُ آلَةً لَهُ فَبَقِيَ الْفِعْلُ مُقْتَصِرًا عَلَى الْمُكْرَهِ وَهَكَذَا نَقُولُ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ نَحْوِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهِمَا فَنَحْنُ لَا نَنْظُرُ إلَى التَّكَلُّمِ بِلِسَانِ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ وَإِمَّا نَنْظُرُ إلَى الْمَقْصُودِ بِالْكَلَامِ وَإِلَى الْحُكْمِ فَمَتَى كَانَ فِي وُسْعِهِ تَحْصِيلُ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ يُجْعَلُ غَيْرُهُ آلَةً لَهُ وَمَتَى لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ لَمْ يُجْعَلْ غَيْرُهُ آلَةً لَهُ كَذَا فِي الطَّرِيقَةِ الْبُرْغَرِيَّةِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ كَلَامُ الرَّسُولِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ كَلَامِ الْمُرْسِلِ عَلَى مَا قِيلَ لِسَانُ الرَّسُولِ لِسَانُ الْمُرْسِلِ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا هُوَ الْأَمْرُ الْحَقِيقِيُّ وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ الْمَجَازِ فَلَا يَرِدُ نَقْضًا عَلَيْهِ وَذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّبْلِيغِ لَا مِنْ بَابِ التَّكَلُّمِ بِلِسَانِ الْغَيْرِ إذْ التَّبْلِيغُ قَدْ يَكُونُ بِلَا وَاسِطَةٍ كَالْمُشَافَهَةِ وَقَدْ يَكُونُ بِوَاسِطَةٍ كَالْكِتَابِ وَالْإِرْسَالِ عَلَى وُجُودِ

وَإِذَا اتَّصَلَ الْإِكْرَاهُ بِقَبُولِ الْمَالِ فِي الْخُلْعِ فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ وَالْمَالُ لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَعْدَمُ الِاخْتِيَارَ فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا وَيَعْدَمُ الرِّضَا بِالسَّبَبِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا أَوْ الْتِزَامُ الْمَالِ يَنْعَدِمُ عِنْدَ عَدَمِ الرِّضَا فَكَأَنَّ الْمَالَ لَمْ يُوجَدْ فَلَمْ يَتَوَقَّفْ الطَّلَاقُ عَلَيْهِ بَلْ وَقَعَ كَطَلَاقِ الصَّغِيرَةِ عَلَى مَالٍ بِخِلَافِ الْبَدَلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّهُ يَعْدَمُ الرِّضَا وَالِاخْتِيَارِ جَمِيعًا بِالْحُكْمِ وَلَا يُمْنَعُ الرِّضَا وَلَا الِاخْتِيَارُ فِي السَّبَبِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ إيجَابُ الْمَالِ فَيَتَوَقَّفُ الطَّلَاقُ كَشَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّهُ لَمَّا دَخَلَ عَلَى الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ أَوْجَبَ تَوَقُّفَ الطَّلَاقِ عَلَى الْمَالِ كَذَلِكَ هَهُنَا وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ يَعْدَمُ الرِّضَا بِالسَّبَبِ وَالْحُكْمِ وَلَا يَمْنَعُ الِاخْتِيَارَ فِيهِمَا أَيْضًا فَلَمْ يَصِحَّ إيجَابُ الْمَالِ لِعَدَمِ الرِّضَا بِلُزُومِ الْمَالِ فَكَأَنْ لَمْ يُوجَدْ فَوَقَعَ بِغَيْرِ مَالٍ بِخِلَافِ الْبَدَلِ؛ لِأَنَّهُ يَعْدَمُ الرِّضَا وَالِاخْتِيَارَ فِي الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ وَعِنْدَهُمَا مَا يَدْخُلُ عَلَى الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ لَا يُؤَثِّرُ فِي بَدَلِ الْخُلْعِ أَصْلًا كَشَرْطِ الْخِيَارِ وَمَا دَخَلَ عَلَى السَّبَبِ يُؤَثِّرُ فِي الْمَالِ دُونَ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا بِالشَّرْطِ فَكَانَ فِي الْإِيجَابِ مِثْلَ الثَّمَنِ وَبَعْدَ صِحَّةِ الْإِيجَابِ الطَّلَاقَ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالرِّضَا وَالِاخْتِيَارِ أَيْ الِاخْتِيَارِ الصَّحِيحِ وَلَا يَبْطُلُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَهُوَ يُنَافِي الِاخْتِيَارَ أَيْ اخْتِيَارَ الْحُكْمِ وَالرِّضَا بِهِ أَيْضًا فَلَأَنْ لَا يَبْطُلُ بِمَا يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ وَلَا يُعْدِمُهُ أَوْلَى. قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: الْهَزْلُ ضِدُّ الْجِدِّ كَالْكَذِبِ ضِدُّ الصِّدْقِ وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْجِدِّ فَلَمَّا صَحَّتْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ مَعَ الْهَزْلِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْجِدِّ فَلَأَنْ تَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ جَادٌّ فِي تَصَرُّفِهِ؛ لِأَنَّهُ دُعِيَ إلَى التَّصَرُّفِ بِطَرِيقِ الْجِدِّ فَإِنْ أَجَابَ إلَى مَا دُعِيَ إلَيْهِ فَهُوَ جَادٌّ وَإِنْ أَتَى بِشَيْءٍ آخَرَ فَهُوَ طَابِعٌ. قَوْلُهُ (وَإِذَا اتَّصَلَ الْإِكْرَاهُ بِقَبُولِ الْمَالِ فِي الْخُلْعِ) إلَى آخِرِهِ إنَّمَا تَعَرَّضَ بِجَانِبِ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ إذَا أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يُخَالِعَ امْرَأَتَهُ عَلَى أَلْفٍ وَقَدْ دَخَلَ بِهَا وَالْمَرْأَةُ غَيْرُ مُكْرَهَةٍ فَالْخُلْعُ وَاقِعٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ طَلَاقٌ وَالْإِكْرَاهُ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَالْمَالُ لَازِمٌ عَلَى الْمَرْأَةِ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا الْتَزَمَتْ الْمَالَ طَائِعَةً بِإِزَاءِ مَا سَلَّمَ لَهَا مِنْ الْبَيْنُونَةِ فَأَمَّا إذَا أُكْرِهَتْ امْرَأَةٌ بِوَعِيدِ تَلَفٍ أَوْ حَبْسٍ عَلَى أَنْ تَقْبَلَ مِنْ زَوْجِهَا الْخُلْعَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبِلَتْ لَك مِنْهُ وَقَدْ دَخَلَ بِهَا فَالطَّلَاقُ يَقَعُ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الْمَالِ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا وَبِالْإِكْرَاهِ يَفُوتُ الرِّضَا سَوَاءٌ كَانَ الْإِكْرَاهُ بِحَبْسٍ أَوْ بِقَتْلٍ وَلَكِنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ يَعْتَمِدُ وُجُودَ الْقَبُولِ لَا وُجُودَ الْمَقْبُولِ كَمَا لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الصَّغِيرَةَ عَلَى مَالٍ يَتَوَقَّفُ الطَّلَاقُ عَلَى قَبُولِهَا فَإِذَا قَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَا يَجِبُ الْمَالُ وَبِالْإِكْرَاهِ لَا يَنْعَدِمُ الْقَبُولُ فَلِهَذَا كَانَ الطَّلَاقُ وَاقِعًا ثُمَّ إنَّ أَصْحَابَنَا جَمِيعًا احْتَاجُوا إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ وَالْهَزْلِ فِي الْخُلْعِ فَأَشَارَ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ الْهَزْلِ فِي أَصْلِ الْخُلْعِ وَبَدَلِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ تَرْضَ الْمَرْأَةُ بِالْتِزَامِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْهَزْلَ يُعْدِمُ الرِّضَا وَالِاخْتِيَارَ بِالْحُكْمِ وَلَا يَمْنَعُ الرِّضَا وَالِاخْتِيَارَ فِي السَّبَبِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ كَانَ الْهَزْلُ غَيْرَ مَانِعٍ لِلرِّضَى وَالِاخْتِيَارِ فِي السَّبَبِ صَحَّ إيجَابُ الْمَالِ أَيْ الْتِزَامُهُ بِالْهَزْلِ مَوْقُوفًا عَلَى أَنْ يَلْزَمَ عِنْدَ تَمَامِ الرِّضَا بِهِ فَيَتَوَقَّفُ الطَّلَاقُ عَلَيْهِ كَشَرْطِ الْخِيَارِ لَمَّا دَخَلَ عَلَى الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ وُجِدَ الِاخْتِيَارُ وَالرِّضَا بِالسَّبَبِ دُونَ الْحُكْمِ فَيَتَوَقَّفُ الْحُكْمُ وَهُوَ وُجُوبُ الْمَالِ وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَى وُجُودِ الِاخْتِيَارِ وَالرِّضَا بِهِ فَأَمَّا الْإِكْرَاهُ فَلَا يُعْدِمُ الِاخْتِيَارَ فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ وَإِنَّمَا يُعْدِمُ الرِّضَا بِالْحُكْمِ فَلِوُجُودِ الِاخْتِيَارِ فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ تَمَّ الْقَبُولُ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ وَلِعَدَمِ الرِّضَا لَا يَجِبُ الْمَالُ فَكَأَنَّ الْمَالَ لَمْ يُذْكَرْ أَصْلًا. هَذَا هُوَ الْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ الْإِكْرَاهِ وَالْهَزْلِ فِي الْخُلْعِ أَمَّا بَيَانُ الْفَرْقِ لَهُمَا بَيْنَهُمَا فَهُوَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ بِعَدَمِ الرِّضَا بِالسَّبَبِ وَالْحُكْمِ وَلَا يُعْدِمُ الِاخْتِيَارَ فِيهِمَا أَيْضًا يَعْنِي جَوَابُهُمَا فِي الْإِكْرَاهِ كَجَوَابِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلَمْ يَصِحَّ إيجَابُ الْمَالِ لِعَدَمِ الرِّضَا فَصَارَ كَأَنَّ الْمَالَ لَمْ يُذْكَرْ أَصْلًا فَوَقَعَ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ مَالٍ ثُمَّ إنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى قَبُولِ الطَّلَاقِ بِمَالٍ بِأَنْ أُكْرِهَتْ عَلَى أَنْ تَقْبَلَ مِنْ زَوْجِهَا تَطْلِيقَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ كَانَ الْوَاقِعُ رَجْعِيًّا بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ بِصَرِيحِ اللَّفْظِ رَجْعِيٌّ إذَا لَمْ يَجِبْ عِوَضٌ بِمُقَابِلَتِهِ وَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى قَبُولِ الْخُلْعِ بِمَالٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَاقِعُ بَائِنًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْكِنَايَاتِ بِخِلَافِ الْهَزْلِ حَيْثُ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَيَجِبُ الْمَالُ عِنْدَهُمَا عَلَى مَا مَرَّ؛ لِأَنَّ الْهَزْلَ يُعْدِمُ الرِّضَا وَالِاخْتِيَارَ فِي الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ فَصَحَّ إيجَابُ الْمَالِ لِوُجُودِ الرِّضَا فِي السَّبَبِ. وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ مَا يَدْخُلُ عَلَى الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ لَا يُؤَثِّرُ فِي بَدَلِ الْخُلْعِ بِالْمَنْعِ أَصْلًا كَشَرْطِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ أَثَرَهُ فِي الْمَنْعِ وَلَمْ تُؤَثِّرْ فِي أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ وَهُوَ الطَّلَاقُ بِالْمَنْعِ حَتَّى لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى الِاخْتِيَارِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ الْآخَرِ وَهُوَ لُزُومُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ فِيهِ تَابِعٌ فَيَتْبَعُ الطَّلَاقَ وَيَلْزَمُ حَسَبَ لُزُومِهِ فَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ الْهَزْلُ وَشَرْطُ الْخِيَارِ وَمَا دَخَلَ عَلَى السَّبَبِ مِثْلُ الْإِكْرَاهِ يُؤَثِّرُ فِي الْمَالِ دُونَ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَجِبُ فِي الْخُلْعِ إلَّا بِالشَّرْطِ بِالذِّكْرِ فِيهِ كَمَا أَنَّ الثَّمَنَ لَا يَجِبُ فِي الْبَيْعِ إلَّا بِالذِّكْرِ. فَكَانَ الْمَالُ فِي الْإِيجَابِ أَيْ فِي الْإِثْبَاتِ فِي

وَأَمَّا الَّذِي يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى الرِّضَا مِثْلُ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمُبَاشِرِ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ يَفْسُدُ لِعَدَمِ الرِّضَا وَلَا يَصِحُّ الْأَقَارِيرُ كُلُّهَا؛ لِأَنَّ صِحَّتَهَا تَعْتَمِدُ قِيَامَ الْمُخْبَرِ بِهِ وَقَدْ قَامَتْ دَلَالَةُ عَدَمِهِ وَلَا نُسَلِّمُ قَوْلَ الْخَصْمِ أَنَّ الضَّرَرَ مَوْقُوفٌ عَلَى الرِّضَا بَلْ عَلَى الِاخْتِيَارِ. أَلَا يُرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَخْتَارُ الضَّرَرَ كَارِهًا غَيْرَ رَاضٍ كَالْفَصْدِ وَشُرْبِ الدَّوَاءِ وَإِنَّمَا الرِّضَا لِلُّزُومِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ لَا غَيْرُ وَهَذَا بِخِلَافِ أَقَارِيرِ السَّكْرَانِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ عَلَى مَا قُلْنَا؛ لِأَنَّ السُّكْرَ لَمَّا لَمْ يَصْلُحْ عُذْرًا لَمْ يَصْلُحْ دَلَالَةً عَلَى عَدَمِ الْمُخْبَرِ بِهِ بَلْ جُعِلَ دَلَالَةً عَلَى الرُّجُوعِ بِخِلَافِ السَّكْرَانِ إذَا ارْتَدَّ فَإِنَّ امْرَأَتَهُ لَا تَبِينُ وَجُعِلَ السُّكْرُ دَلَالَةً عَلَى عَدَمِ الْمُخْبَرِ بِهِ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تَعْتَمِدُ مَحْضَ الِاعْتِقَادِ وَقَدْ وَقَعَ فِيهِ الشَّكُّ وَالشُّبْهَةُ فَلَمْ يَثْبُتْ وَمَا يَعْتَمِدُ الْعِبَارَةَ لَا يَبْطُلُ بِالشُّبْهَةِ أَيْضًا وَالْكَامِلُ مِنْ الْإِكْرَاهِ وَالْقَاصِرِ فِي هَذَا سَوَاءٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْخُلْعِ مِثْلَ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مِثْلَ الْيَمِينِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ فَكَمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ صِحَّةِ الْإِيجَابِ لِثُبُوتِ الثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ لَا بُدَّ مِنْ صِحَّتِهِ أَيْضًا لِثُبُوتِ الْمَالِ فِي الْخُلْعِ وَمَا دَخَلَ عَلَى السَّبَبِ بِمَنْعِ صِحَّةِ الْإِيجَابِ فِي الْبَيْعِ فَكَذَلِكَ فِي الْخُلْعِ وَمَا دَخَلَ عَلَى الْحُكْمِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِيجَابِ فِي الْبَيْعِ فَلَا يَمْنَعُ فِي الْخَلْعِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ فِي الْبَيْعِ مَا دَخَلَ عَلَى الْحُكْمِ يَمْنَعُ اللُّزُومَ وَفِي الْخُلْعِ لَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الطَّلَاقُ هَاهُنَا وَالْمَالُ تَابِعٌ وَهَذَا الْمَانِعُ لَا يُؤَثِّرُ فِي مَنْعِ لُزُومِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي مَنْعِ لُزُومِ التَّابِعِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ حُكْمَ التَّابِعِ يُؤْخَذُ مِنْ الْمَتْبُوعِ أَبَدًا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَبَعْدَ صِحَّةِ الْإِيجَابِ يَتْبَعُ الطَّلَاقَ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ. قَوْلُهُ (فَأَمَّا الَّذِي) أَيْ التَّصَرُّفُ الَّذِي يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى الرِّضَا مِثْلُ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمُبَاشِرِ أَيْضًا كَاَلَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ؛ لِأَنَّ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا تَقْتَصِرُ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ إلَّا أَنَّهُ أَيْ لَكِنَّ الَّذِي يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى الرِّضَا يَفْسُدُ أَيْ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ إلَّا أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ أَصْلِ التَّصَرُّفِ لِصُدُورِهِ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ وَلَكِنَّهُ يَمْنَعُ نَفَاذَهُ لِفَوَاتِ الرِّضَا الَّذِي هُوَ شَرْطُ النَّفَاذِ بِالْإِكْرَاهِ فَيَنْعَقِدُ بِصِفَةِ الْفَسَادِ فَلَوْ أَجَازَ التَّصَرُّفَ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً صَحَّ؛ لِأَنَّ رِضَاءَهُ قَدْ تَمَّ وَلِلْفَسَادِ كَانَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ مَا يَتِمُّ بِهِ الْعَقْدُ فَيَزُولُ الْمَعْنَى الْمُفْسِدُ بِالْإِجَازَةِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ أَجَلٍ فَاسِدٍ أَوْ خِيَارٍ فَاسِدٍ إذَا أَسْقَطَ مَنْ لَهُ الْأَجَلُ أَوْ الْخِيَارُ مَا شُرِطَ لَهُ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا فَكَذَا هَذَا وَلَا يَصِحُّ الْأَقَارِيرُ كُلُّهَا حَتَّى لَوْ أُكْرِهَ بِقَتْلٍ أَوْ إتْلَافِ عُضْوٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ قَيْدٍ عَلَى أَنْ يُقِرَّ بِعِتْقٍ مَاضٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ رَجْعَةٍ أَوْ فَيْءٍ فِي إيلَاءٍ أَوْ عَفْوٍ عَنْ دَمِ عَمْدٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ دَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ لِإِنْسَانٍ أَوْ إبْرَاءٍ عَنْ دَيْنٍ أَوْ عَلَى أَنْ يُقِرَّ بِإِسْلَامٍ مَاضٍ كَانَ الْإِقْرَارُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ إذَا هُدِّدَ بِمَا يَخَافُ التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ مُلْجِئٌ إلَى الْإِقْرَارِ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ وَالْإِقْرَارُ خَبَرٌ مُتَمَيِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَإِنَّمَا يُوجِبُ الْحَقَّ بِاعْتِبَارِ رُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ وَدَلَالَتِهِ عَلَى وُجُودِ الْمُخْبَرِ بِهِ وَذَلِكَ يَفُوتُ بِالْإِلْجَاءِ؛ لِأَنَّ قِيَامَ السَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إقْرَارَهُ هَذَا لَا يَصْلُحُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمُخْبَرِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِهِ دَفْعًا لِلسَّيْفِ عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَقَدْ قَامَتْ دَلَالَةُ عَدَمِهِ أَيْ عَدَمِ الْمُخْبَرِ بِهِ بِهَذَا الْإِقْرَارِ. وَكَذَا إنْ هُدِّدَ بِحَبْسٍ أَوْ قَيْدٍ؛ لِأَنَّ الرِّضَا يَنْعَدِمُ بِالْحَبْسِ وَالْقَيْدِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْهَمِّ، وَعَدَمُ الرِّضَا يَمْنَعُ تَرْجِيحَ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي إقْرَارِهِ ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِكْرَاهَ مِثْلُ الْهَزْلِ فِي تَفْوِيتِ الرِّضَا وَمَنْ هَزَلَ بِإِقْرَارٍ لِغَيْرِهِ وَتَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ هَزْلٌ بِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ فَكَذَا إذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا قَالَ لِمَنْ هُوَ أَكْبَرُ سِنًّا مِنْهُ هَذَا ابْنِي يَعْتِقُ عَلَيْهِ وَهُنَاكَ يَتَيَقَّنُ بِكَذِبِهِ فِيمَا قَالَ فَوْقَ مَا يَتَيَقَّنُ بِالْكَذِبِ عِنْدَ الْإِقْرَارِ مُكْرَهًا فَإِذَا نَفَذَ الْعِتْقُ ثَمَّةَ يَنْفُذُ هَاهُنَا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى قُلْنَا أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَعَلَ ذَلِكَ الْكَلَامَ مَجَازًا فِي الْإِقْرَارِ بِالْعِتْقِ كَأَنَّهُ قَالَ عَتَقَ عَلَيَّ مِنْ حِينِ مَلَكْته وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَجَازِ لَا يَظْهَرُ رُجْحَانُ جَانِبِ الْكَذِبِ فِي إقْرَارِهِ فَأَمَّا عِنْدَ الْإِكْرَاهِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ إقْرَارُهُ مَجَازًا فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالتَّكَلُّمِ بِالْحَقِيقَةِ وَقَدْ يُرَجِّحُ جِهَةَ الْكَذِبِ فِيهِ بِالْإِكْرَاهِ فَبَطَلَ. قَوْلُهُ (بِخِلَافِ السَّكْرَانِ إذَا ارْتَدَّ) جَوَابٌ عَنْ نَقْضٍ يَرُدُّ عَلَى إقْرَارِ السَّكْرَانِ فَإِنَّ السُّكْرَ لَمَّا لَمْ يَصْلُحْ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ الْمُخْبَرِ بِهِ فِي الْإِقْرَارِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصْلُحَ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِهِ فِي الرِّدَّةِ أَيْضًا فَقَالَ الرِّدَّةُ تَعْتَمِدُ مَحْضَ الِاعْتِقَادِ أَيْ اعْتِقَادِ الْكُفْرِ وَالتَّكَلُّمُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ دَلِيلٌ مَحْضٌ عَلَيْهِ وَقَدْ وَقَعَ فِي الِاعْتِقَادِ الشَّكُّ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ بِالنَّظَرِ إلَى أَصْلِ عَقْلِهِ يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الِاعْتِقَادِ مِثْلَ كَلَامِ الصَّاحِي وَبِالنَّظَرِ إلَى انْطِمَاسِ نُورِ الْعَقْلِ بِالسُّكْرِ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَيْهِ فَلَا يَثْبُتُ اعْتِقَادُ الْكُفْرِ بِالشَّكِّ فَلَا تَثْبُتُ الرِّدَّةُ وَلَا الْبَيْنُونَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ بِالشَّكِّ وَمَا يَعْتَمِدُ الْعِبَارَةَ نَحْوُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِهِمَا لَا يَبْطُلُ بِالشُّبْهَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ صُدُورَ كَلَامِهِ

وَالْقِسْمُ الَّذِي يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ آلَةً لِغَيْرِهِ فَمِثْلُ إتْلَافِ الْمَالِ وَإِتْلَافِ النَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَأْخُذَهُ فَيَضْرِبَ بِهِ نَفْسًا أَوْ مَالًا فَيُتْلِفَهُ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ مَا أَوْجَبَ جُرْحُهُ وَجَبَ بِهِ الْقَوَدُ فِي النَّفْسِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَبْدِيلُ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ أَيْضًا فَلِذَلِكَ جُعِلَ آلَةً فَإِذَا جُعِلَ آلَةً لَهُ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا صَارَ ابْتِدَاءُ وُجُودِ الْفِعْلِ مُضَافًا إلَيْهِ فَلَزِمَهُ حُكْمُ الْفِعْلِ ابْتِدَاءً وَخَرَجَ الْمُكْرَهُ مِنْ الْوَسَطِ وَلِذَلِكَ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَنْ عَقْلٍ وَأَهْلِيَّةِ خِطَابٍ يُوجِبُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَصِحَّةَ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ إلَّا أَنَّ قِيَامَ السُّكْرِ يُورِثُ شُبْهَةَ عَدَمِ الصِّحَّةِ فِيهِ فَلَا يَبْطُلُ مَا ثَبَتَ بِأَصْلِ الْكَلَامِ بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ وَالْكَامِلُ مِنْ الْإِكْرَاهِ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ بِالْقَتْلِ أَوْ الْقَطْعِ وَالْقَاصِرُ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ أَوْ الْقَيْدِ فِي هَذَا أَيْ فِي الَّذِي يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى الرِّضَا وَالْأَقَارِيرُ كُلُّهَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْقَاصِرَ يُعْدِمُ الرِّضَا وَعَدَمُهُ يَمْنَعُ النَّفَاذَ وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمُخْبَرِ بِهِ وَالْحَدُّ فِي الْحَبْسِ الَّذِي هُوَ الْإِكْرَاهُ مَا يَجِيءُ مِنْهُ الِاغْتِمَامُ الْبَيِّنُ بِهِ وَفِي الضَّرْبِ الَّذِي هُوَ إكْرَاهٌ مَا يَجِدُ مِنْهُ الْأَلَمَ الشَّدِيدَ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدٌّ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ وَلَا يَنْقُصُ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ وَلَكِنَّ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى الْحَاكِمُ إذَا رُفِعَ ذَلِكَ إلَيْهِ فَمَا رَأَى أَنَّهُ إكْرَاهٌ أَفْسَدَ الْعَقْدَ وَأَبْطَلَ الْإِقْرَارَ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ فَلِلْوَجِيهِ الَّذِي يَضَعُ الْحَبْسَ مِنْ جَاهِهِ تَأْثِيرُ الْحَبْسِ وَالْقَيْدِ يَوْمًا فِي حَقِّهِ فَوْقَ تَأْثِيرِ حَبْسِ شَهْرٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَلِهَذَا لَمْ يُقَدَّرْ فِيهِ بِشَيْءٍ وَجُعِلَ مَوْكُولًا إلَى رَأْيِ الْقَاضِي لِيَبْنِيَ ذَلِكَ عَلَى حَالِ مَنْ اُبْتُلِيَ بِهِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. قَوْلُهُ (وَالْقَسَمُ الَّذِي يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ فِيهِ آلَةً لِغَيْرِهِ فَمِثْلُ إتْلَافِ الْمَالِ وَإِتْلَافِ النَّفْسِ) ؛ لِأَنَّهُ أَيْ الْمُكْرِهَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَأْخُذَهُ فَيَضْرِبُ الْمُكْرِهُ بِهِ نَفْسًا أَوْ مَالًا فَيُتْلِفُهُ فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمُكْرَهِ أَيْ مَعَهُ مَا أَوْجَبَ جُرْحَ الْمَقْتُولِ بِأَنْ قَالَ اُقْتُلْهُ بِالسَّيْفِ أَوْ لَأَقْتُلَنَّكَ فَقَتَلَهُ بِهِ وَجَبَ بِهِ أَيْ بِسَبَبِ هَذَا الْإِكْرَاهِ أَوْ الْقَتْلِ أَوْ الْجُرْحِ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرَهِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا شَرَطَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى الْقَتْلِ بِعَصًا أَوْ بِحَجَرٍ كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَتْلِ الْمُثَقَّلِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثُمَّ أَنَّهُ ذَكَرَ الْإِجْمَاعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ وَالْمَبْسُوطِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرَهِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى أَحَدٍ بَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْمُكْرَهِ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرَهِ دُونَ الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ عَمْدًا فَيَلْزَمُهُ الْقَوَدُ كَمَا لَوْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ فَقَتَلَ إنْسَانًا وَأَكَلَ مِنْ لَحْمِهِ. أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُكْرَهِ بِالْإِكْرَاهِ بِسَائِرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَتْلِ مِنْ الْأَحْكَامِ كَالْإِثْمِ وَالتَّفْسِيقِ وَرَدِّ الشَّهَادَةِ وَإِبَاحَةِ قَتْلِهِ لِلْمَقْصُودِ بِالْقَتْلِ فَكَذَا الْقَوَدُ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الضَّرُورَةِ فِي إسْقَاطِ الْإِثْمِ دَوْمُ الْحُكْمِ حَتَّى أَنَّ مَنْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ تُبَاحُ لَهُ تَنَاوُلُ مَالِ الْغَيْرِ وَلَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ وَإِثْمُ الْقَتْلِ هَاهُنَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْ الْمُكْرَهِ بِالْإِكْرَاهِ فَلَأَنْ لَا يَسْقُطَ عَنْهُ حُكْمُ الْقَتْلِ أَوْلَى وَاسْتَدَلَّ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَنَّ بَقَاءَ الْإِثْمِ فِي حَقِّ الْمُكْرَهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ كُلَّهُ لَمْ يَصِرْ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرَهِ وَالْقِصَاصُ لَا يَجِبُ إلَّا بِمُبَاشَرَةِ جِنَايَةٍ تَامَّةٍ وَقَدْ عُدِمَتْ مِنْ الْمُكْرَهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَلَا يَلْزَمُهُ الْقَوَدُ. وَلَنَا أَنَّ الْمُكْرَهَ مُلْجَأٌ إلَى هَذَا الْفِعْلِ وَالْإِلْجَاءُ بِأَبْلَغِ الْجِهَاتِ يَجْعَلُ الْمُلْجَأَ آلَةَ الْمُلْجِئِ فِيمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لَهُ إذَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ تَغْيِيرُ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَجْبُولٌ عَلَى حُبِّ الْحَيَاةِ فَلَمَّا هُدِّدَ بِالْقَتْلِ يَطْلُبُ لِنَفْسِهِ مَخْلَصًا عَنْ الْهَلَاكِ وَلَمَّا لَمْ يَتَوَصَّلْ إلَيْهِ إلَّا بِالْإِقْدَامِ عَلَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ يُقْدِمُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا طَلَبًا لِلْخَلَاصِ فَيَفْسُدُ اخْتِيَارَهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَيَصِيرُ مَجْبُولًا عَلَى هَذَا الْفِعْلِ بِقَضِيَّةِ الطَّبْعِ وَإِذَا فَسَدَ اخْتِيَارُهُ اُلْتُحِقَ بِالْآلَةِ الَّتِي لَا اخْتِيَارَ لَهَا وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ سَيْفٍ فِي يَدِ الْمُكْرِهِ اسْتَعْمَلَهُ فِي قَتْلِهِ فَيَصِيرُ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ لَا إلَى الْآلَةِ ثُمَّ الْمُكْرَهُ هَاهُنَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ فِي الْقَتْلِ بِأَنْ يَأْخُذَ يَدَهُ مَعَ السِّكِّينِ فَيَقْتُلَ بِهِ غَيْرَهُ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ أَيْ فِي جَعْلِهِ آلَةً تَبْدِيلُ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَتْلَ لَوْ كَانَ طَوْعًا مِنْ الْفَاعِلِ لَكَانَ جِنَايَةً عَلَى الْمَقْتُولِ مُوجِبَةً لِلْقَوَدِ وَبِأَنْ جَعْلَ الْفَاعِلَ آلَةً وَنَسَبَ الْفِعْلَ إلَى الْمُكْرَهِ لَا يُفَوِّتُ الْجِنَايَةَ عَلَى الْقَتِيلِ بَلْ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ نَفْسُ الْمَقْتُولِ كَمَا كَانَتْ فَلِذَلِكَ أَيْ فَلِصَلَاحِهِ لِلْآلَةِ وَعَدَمِ لُزُومِ تَبَدُّلِ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ جُعِلَ الْمُكْرَهُ آلَةً لِلْمُكْرِهِ وَنُسِبَ الْفِعْلُ إلَيْهِ وَإِذَا جُعِلَ الْمُكْرَهُ آلَةً بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا صَارَ ابْتِدَاءُ وُجُودِ الْفِعْلِ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ لَا أَنَّهُ نُقِلَ مِنْ الْمُكْرِهِ إلَيْهِ كَمَا

وَلِذَلِكَ قُلْنَا فِيمَنْ أُكْرِهَ عَلَى رَمْيِ صَيْدٍ فَرَمَاهُ فَأَصَابَ إنْسَانًا أَنَّ الدِّيَةَ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُكْرِهِ وَالْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ ضَمَانُ الْمُتْلِفِ وَالْكَفَّارَةُ جَزَاءُ الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ لِحُرْمَةِ هَذَا الْمَحَلِّ أَيْضًا وَكَذَلِكَ إتْلَافُ الْمَالِ يُنْسَبُ إلَى الْمُكْرِهِ ابْتِدَاءً وَهَذِهِ نِسْبَةٌ ثَبَتَتْ شَرْعًا لِمَا قُلْنَا وَهَذَا كَالْأَمْرِ فَإِنَّهُ مَتَى صَحَّ اسْتَقَامَ نَقْلُ الْجِنَايَةِ بِهِ أَيْضًا كَمَنْ أَمَرَ عَبْدَهُ بِأَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي فِنَائِهِ وَذَلِكَ مَوْضِعُ إشْكَالٍ قَدْ يَخْفَى عَلَى النَّاسِ أَنَّهُ مِلْكُهُ أَوْ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ فَحَفَرَ فَوَقَعَ فِيهِ إنْسَانٌ وَمَاتَ أَنَّ الْمَوْلَى هُوَ الْقَاتِلُ لِمَا قُلْنَا مِنْ صِحَّةِ الْأَمْرِ ـــــــــــــــــــــــــــــQاخْتَارَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا فَلَزِمَ الْمُكْرَهَ حُكْمُ الْفِعْلِ وَهُوَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ ابْتِدَاءً وَخَرَجَ الْمُكْرَهُ مِنْ الْوَسَطِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ حُكْمِ الْفِعْلِ مِنْ قِصَاصٍ وَلَا دِيَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ شَيْئًا مِنْ الْمَقْصُودِ لَا يَحْصُلُ لِلْمُكْرَهِ فَلَعَلَّ الْمَقْتُولَ مِنْ أَخَصِّ أَصْدِقَائِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ لَهُ. وَلِذَلِكَ أَيْ وَلِصَيْرُورَةِ الْفِعْلِ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ كَأَنَّهُ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ إنَّ الْمُكْرَهَ مَعَ فَسَادِ اخْتِيَارِهِ يَبْقَى مُخَاطَبًا فَلِبَقَائِهِ مُخَاطَبًا كَانَ عَلَيْهِ إثْمُ الْقَتْلِ وَلِفَسَادِ اخْتِيَارِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ حُكْمِ الْقَتْلِ وَلَا يَدُلُّ لُزُومُ الْإِثْمِ عَلَى بَقَاءِ الْحُكْمِ كَمَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ اقْطَعْ يَدِي فَقَطَعَهَا كَانَ آثِمًا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الْقَطْعِ بَلْ فِي الْحُكْمِ يُجْعَلُ كَأَنَّ الْآمِرَ فَعَلَ بِنَفْسِهِ كَذَا هُنَا وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو يُوسُفَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ مُبَاشِرٌ شَرْعًا بِدَلِيلِ أَنَّ سَائِرَ الْأَحْكَامِ سِوَى الْقَوَدِ نَحْوَ حِرْمَانِ الْمِيرَاثِ وَالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ تَجِبُ عَلَيْهِ فَكَذَا الْقَوَدُ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص: 4] فَقَدْ نُسِبَ الْفِعْلُ إلَى اللَّعِينِ وَهُوَ مَا كَانَ يُبَاشِرُ صُورَتَهُ وَلَكِنَّهُ كَانَ مُطَاعًا يَأْمُرُ بِهِ وَأَمْرُهُ إكْرَاهٌ. قَوْلُهُ (وَلِذَلِكَ) أَيْ وَلِأَنَّ الْفِعْلَ مَنْسُوبٌ إلَى الْمُكْرَهِ قُلْنَا كَذَا وَالْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ ضَمَانُ الْمُتْلِفِ وَالْإِتْلَافُ مَنْسُوبٌ إلَى الْمُكْرَهِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ وَالْكَفَّارَةُ جَزَاءُ الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ لِأَجْلِ حُرْمَةِ هَذَا الْمَحَلِّ يَعْنِي أَنَّ حُرْمَةَ قَتْلِ الْآدَمِيِّ لَمْ تَثْبُتْ مِنْ جِهَةِ الْفَاعِلِ لِيَقْتَصِرَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْفَاعِلِ كَمَا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ بَلْ تَثْبُتُ لِاحْتِرَامِ الْمَحَلِّ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَحَلَّ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَرَمًا لَمَا ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ وَلَمْ تَجِبْ الْكَفَّارَةُ كَمَا فِي قَتْلِ الْمُرْتَدِّ وَإِذَا كَانَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِاعْتِبَارِ حُرْمَةٍ فِي الْمَحَلِّ وَجَبَتْ عَلَى الْمُكْرَهِ كَالدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ جُعِلَ آلَةً فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ وَإِتْلَافُ الْمَحَلِّ بِجَمِيعِ أَحْكَامِهِ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا وَجَبَتْ لِمَعْنًى فِي الْفَاعِلِ وَهُوَ كَوْنُهُ مُحْرِمًا لَا لِمَعْنًى فِي الْمَحَلِّ فَلَا يَصْلُحُ الْمُكْرَهُ أَنْ يَصِيرَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْفَاعِلِ كَمَا سَتَعْرِفُهُ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَقَتْلِ النَّفْسِ إتْلَافُ الْمَالِ يُنْسَبُ إلَى الْمُكْرَهِ ابْتِدَاءً حَتَّى لَا يَكُونَ عَلَى الْمُكْرِهِ شَيْءٌ مِنْ حُكْمِ الْإِتْلَافِ بِالْإِجْمَاعِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُبَاشِرَ وَالْمُسَبِّبَ إنْ اجْتَمَعَنَا فِي الْإِتْلَافِ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُبَاشِرِ دُونَ الْمُسَبِّبِ لَمَّا وَجَبَ ضَمَانُ الْمَالِ عَلَى الْمُكْرَهِ عُلِمَ أَنَّ الْإِتْلَافَ مَنْسُوبٌ إلَى الْمُكْرَهِ شَرْعًا وَلَا طَرِيقَ لِلنِّسْبَةِ سِوَى جَعْلِ الْمُكْرَهِ آلَةً فَعَرَفْنَا أَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي بَابِ الْإِكْرَاهِ. فَإِنْ قِيلَ نَحْنُ لَا نَقُولُ بِأَنَّ الْمُكْرَهَ آلَةٌ فِي الْإِتْلَافِ بَلْ الْمُتْلِفَ وَالضَّمَانُ عَلَيْهِ أَلَا أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ فَكَذَا الْقَاتِلُ هُوَ الْمُبَاشِرُ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ ثُمَّ الرُّجُوعُ بِالْقِصَاصِ لَا يُتَصَوَّرُ قُلْنَا لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرَهِ الْمُبَاشِرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ لَمَا رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فَاسِدٌ فَلَا يُجْعَلُ مُسْتَعْمِلًا إيَّاهُ لِيَرْجِعَ بِحُكْمِ الِاسْتِعْمَالِ فَعُلِمَ أَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرَهِ بِحُكْمِ أَنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ لَا بِحُكْمِ الْآمِرِ كَذَا فِي الطَّرِيقَةِ الْبُرْغَرِيَّةِ. قَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ الْإِكْرَاهُ فِي كَوْنِهِ مُؤَثِّرًا فِي تَبْدِيلِ النِّسْبَةِ مِثْلُ الْأَمْرِ فَإِنَّ الْأَمْرَ مَتَى صَحَّ بِأَنْ صَدَرَ مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى الْمَأْمُورِ شَرْعًا اسْتَقَامَ نَقْلُ الْجِنَايَةِ إلَى الْآمِرِ أَيْضًا كَمَا اسْتَقَامَ نِسْبَةُ الْفِعْلِ إلَى الْمُكْرَهِ بِالْإِكْرَاهِ كَمَنْ أَمَرَ عَبْدَهُ بِأَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي فِنَائِهِ وَهُوَ سَعَةٌ أَمَامَ الْبُيُوتِ اخْتَصَّ صَاحِبُ الْبَيْتِ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ حَيْثُ كَسْرُ الْحَطَبِ وَإِيقَافُ الدَّابَّةِ وَإِلْقَاءُ الْكُنَاسَةِ فِيهِ وَذَلِكَ الْفِنَاءُ مَوْضِعُ إشْكَالٍ كَمَا بَيَّنَهُ فِي الْكِتَابِ وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالْفِنَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي غَيْرِ فِنَائِهِ كَانَ الضَّمَانُ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ يَدْفَعُ بِهِ أَوْ يَفْدِي كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَأَمْرِ الْعَبْدِ إذَا اسْتَأْجَرَ حُرًّا لِلْحَفْرِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَوْ اسْتَعَانَ بِالْحُرِّ عَلَى الْحَفْرِ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ مَلَكَهُ أَمْ لَا فَإِنَّ ضَمَانَ مَا يَعْطَبُ بِهِ أَيْ بِالْحَفْرِ أَوْ بِالْمَحْفُورِ عَلَى الْآمِرِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الضَّمَانُ عَلَى الْأَجِيرِ أَوْ الْمُعَيِّنِ؛ لِأَنَّهُ

وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَ حُرًّا أَوْ اسْتَعَانَ بِهِ وَذَلِكَ مَوْضِعُ إشْكَالٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ فَإِنَّ ضَمَانَ مَا يَعْطَبُ بِهِ عَلَى الْآمِرِ اسْتِحْسَانًا لِمَا قُلْنَا مِنْ صِحَّةِ الْأَمْرِ وَإِذَا كَانَ فِي جَادَّةِ الطَّرِيقِ لَا يُشْكِلُ حَالُهُ بَطَلَ الْأَمْرُ وَاقْتَصَرَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى الْمُبَاشِرِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَتَلَ عَبْدَ غَيْرِهِ بِأَمْرِ الْمَوْلَى انْتَقَلَ إلَى الْمَوْلَى نَفْسُ الْقَتْلِ فِي حَقِّ حُكْمِهِ كَأَنَّهُ بَاشَرَهُ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ شُبْهَةٍ بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَ حُرًّا بِأَمْرِ حُرٍّ آخَرَ فِي أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْمُبَاشِرِ وَالْإِكْرَاهُ صَحِيحٌ بِكُلِّ حَالٍ فَوَجَبَ أَنْ يُنْسَبَ الْفِعْلُ إلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ الَّذِي لَا يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ فَلَا يُوجِبُ النَّقْلَ؛ لِأَنَّهُ يُعْدِمُ الرِّضَا وَلَا يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ وَالْمَشِيئَةَ فَلِذَلِكَ لَمْ يُجْعَلْ آلَةً لَهُ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُجْعَلَ الْفَاعِلُ فِيهِ آلَةً لِغَيْرِهِ فَذَلِكَ مِثْلُ الْأَكْلِ وَالْوَطْءِ وَالزِّنَا؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ بِفَمِ غَيْرِهِ لَا يُتَصَوَّرُ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ نَفْسُ الْفِعْلِ مِمَّا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ فِيهِ آلَةً لِغَيْرِهِ صُورَةً إلَّا أَنَّ الْمَحَلَّ غَيْرُ الَّذِي يُلَاقِيهِ الْإِتْلَافُ صُورَةً وَكَانَ ذَلِكَ يَتَبَدَّلُ بِأَنْ يُجْعَلَ آلَةً بَطَلَ ذَلِكَ وَاقْتَصَرَ الْفِعْلُ عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ الَّذِي إذَا تَبَدَّلَ كَانَ فِي تَبْدِيلِهِ بُطْلَانُ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ (رَابِعٌ) لَا أَثَرَ لَهُ فِي تَبْدِيلِ الْمَحَالِّ وَفِي تَبْدِيلِ الْمَحَلِّ خِلَافٌ لِلْإِكْرَاهِ وَفِي خِلَافِهِ بُطْلَانُ الْإِكْرَاهِ وَإِذَا بَطَلَ اقْتَصَرَ الْفِعْلُ عَلَى الْفَاعِلِ وَعَادَ الْأَمْرُ إلَى الْمَحَلِّ الْأُولَى وَبَطَلَ التَّبْدِيلُ ـــــــــــــــــــــــــــــQبَاشَرَ إحْدَاثَهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَصَاحِبُ الدَّارِ مَمْنُوعٌ عَنْ إحْدَاثِهِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ أَمْرُهُ فِيمَا لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ بِنَفْسِهِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْأَجِيرَ يَعْمَلُ لِلْآجِرِ وَلِهَذَا يَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ الْأَجْرَ وَقَدْ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ حِينَ لَمْ يُعْلِمْهُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ لَيْسَ فِي مِلْكِهِ أَوْ تَصَرُّفِهِ وَإِنَّمَا حَفَرَ اعْتِمَادًا عَلَى أَمْرِهِ وَعَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِنَائِهِ فَلِدَفْعٍ ضَرَرِ الْغُرُورِ يُنْقَلُ فِعْلُهُمْ إلَى الْآمِرِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ حَفَرَ بِنَفْسِهِ وَإِذَا كَانَ الْحَفْرُ فِي جَادَّةِ الطَّرِيقِ لَا يُشْكِلُ حِلُّهُ أَيْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي فِنَائِهِ بَطَلَ الْأَمْرُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِلْحَفْرِ بِنَفْسِهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ أَمْرُهُ لِإِثْبَاتِ صِفَةِ الْحِلِّ بِهِ أَوْ لِدَفْعِ الْغُرُورِ عَنْ الْحَافِرِ وَقَدْ عُدِمَا جَمِيعًا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ أَمْرِهِ فَاقْتَصَرَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى الْمُبَاشِرِ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَالْحُرِّ الْمُسْتَأْجِرِ مَنْ قَتَلَ عَبْدَ غَيْرِهِ بِأَمْرِ مَوْلَاهُ انْتَقَلَ إلَى الْمَوْلَى نَفْسُ الْقَتْلِ فِي حَقِّ حُكْمِهِ كَأَنَّ الْمَوْلَى بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْتَقِلْ فِي حَقِّ الْإِثْمِ حَتَّى لَمْ يَجِبْ ضَمَانٌ وَلَا قَوَدٌ؛ لِأَنَّهُ أَيْ قَتْلَ الْعَبْدِ بِأَمْرِ مَوْلَاهُ مَوْضِعُ شُبْهَةٍ أَيْ اشْتِبَاهٍ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ وَإِنْ كَانَ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ الدَّمِ وَالْحَيَاةِ فَلَا يَصِحُّ الْأَمْرُ بِقَتْلِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَكِنَّ مَالِيَّتَهُ لِلْمَوْلَى فَيَصِحُّ أَمْرُهُ بِإِتْلَافِهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَمَا يَصِحُّ الْأَمْرُ بِقَتْلِ شَاةٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ فَيَصِيرُ هَذَا الْوَجْهُ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ وَالضَّمَانِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَ حُرًّا بِأَمْرِ حُرٍّ آخَرَ يَعْنِي مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ فَإِنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْمُبَاشِرِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَمْ يَصِحَّ بِوَجْهٍ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ فَلَا يَصِيرُ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ وَالضَّمَانِ. وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْآمِرُ ذَا سَلْطَنَةٍ فَإِنْ كَانَ سُلْطَانًا فَأَمْرُهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِكْرَاهِ إذَا كَانَ الْمَأْمُورُ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ بِمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْمُتَجَبِّرِينَ التَّرَفُّعَ عَنْ التَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ وَلَكِنَّهُمْ يَأْمُرُونَ ثُمَّ لَا يُعَاقِبُونَ مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُمْ إلَّا بِالْقَتْلِ فَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْعَادَةِ كَانَ الْأَمْرُ مِنْ مِثْلِهِ بِمَنْزِلَةِ التَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالْإِكْرَاهُ صَحِيحٌ كُلَّ حَالٍ يَعْنِي إنَّمَا يُنْسَبُ الْفِعْلُ إلَى الْآمِرِ بِالْأَمْرِ إذَا صَحَّ الْأَمْرُ وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ اقْتَصَرَ عَلَى الْفَاعِلِ كَمَا بَيَّنَّا فَأَمَّا فِي الْإِكْرَاهِ فَيُنْسَبُ الْفِعْلُ إلَى الْمُكْرِهِ إذَا أَمْكَنَ بِكُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ أَكْرَهَ حُرًّا عَلَى قَتْلِ عَبْدِهِ أَوْ عَلَى قَتْلِ حُرٍّ آخَرَ وَسَوَاءٌ أَكْرَهَ عَلَى الْحَفْرِ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ أَوْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ كَجَادَّةِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ صَحِيحٌ أَيْ مُتَحَقِّقٌ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ فَوَجَبَ نِسْبَةُ الْفِعْلِ إلَى الْمُكْرَهِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ الَّذِي لَا يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ) كَالْإِكْرَاهِ بِحَبْسٍ أَوْ بِقَيْدٍ أَوْ بِضَرْبٍ لَا يَخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يُوجِبُ نَقْلَ الْفِعْلِ إلَى الْمُكْرِهِ حَتَّى اقْتَصَرَ الضَّمَانُ وَالْقَوَدُ عَلَى الْفَاعِلِ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ إنَّمَا يَصِيرُ كَالْآلَةِ عِنْدَ تَمَامِ الْإِلْجَاءِ لِفَسَادِ الِاخْتِيَارِ بِاعْتِبَارِ خَوْفِ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ وَلَيْسَ فِي التَّهْدِيدِ بِالْحَبْسِ وَالْقَيْدِ مَعْنَى خَوْفِ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ فَبَقِيَ الْفِعْلُ مَقْصُورًا عَلَى الْمُكْرَهِ. قَوْلُهُ (مِثْلُ الْأَكْلِ وَالْوَطْءِ) الْأَكْلُ يَحْتَمِلُ النِّسْبَةَ إلَى الْمُكْرَهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَكَلَ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَصْحَابِنَا حَتَّى لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْأَكْلِ وَهُوَ صَائِمٌ يَفْسُدُ صَوْمُهُ وَلَا يَفْسُدُ صَوْمُ الْمُكْرِهِ لَوْ كَانَ صَائِمًا؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ لَا يَصْلُحُ آلَةً لِلْمُكْرِهِ فِي نَفْسِ الْأَكْلِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْمُكْرَهِ فَأَمَّا نِسْبَتُهُ إلَى الْمُكْرَهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إتْلَافٌ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فَذَكَرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَالْخُلَاصَةِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرَهِ دُونَ الْمُكْرِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ يَصْلُحُ آلَةً لَهُ مِنْ حَيْثُ الْإِتْلَافُ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَكْلِ هَاهُنَا حَصَلَتْ لِلْمُكْرَهِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ. كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَا لَا يَجِبُ الْحَدُّ وَيَجِبُ الْعُقْرُ عَلَى الزَّانِي وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْوَطْءِ حَصَلَتْ لَهُ بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِعْتَاقِ حَيْثُ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ مَالِيَّةَ الْعَبْدِ تَلِفَتْ بِالْإِكْرَاهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَحْصُلَ الْمَنْفَعَةُ لِلْمُكْرَهِ، وَذَكَرَ صَاحِبُ

وَذَلِكَ مِثْلُ إكْرَاهِ الْمُحْرِمِ عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ أَوْ إكْرَاهِ الْحَلَالِ عَلَى قَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ أَنَّ ذَلِكَ الْقَتْلَ يَقْتَصِرُ عَلَى الْفَاعِلِ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ إنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى أَنْ يَجْنِيَ عَلَى إحْرَامِ نَفْسِهِ أَوْ عَلَى دِينِ نَفْسِهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ آلَةً لِغَيْرِهِ وَلَوْ جُعِلَ آلَةً لَتَبَدَّلَ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ فَيَصِيرُ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ إحْرَامَ الْمُكْرَهِ وَدِينِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُحِيطِ فِي التَّتِمَّةِ أَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ طَعَامِ نَفْسِهِ فَأَكَلَ إنْ كَانَ جَائِعًا لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرَهِ بِشَيْءٍ وَإِنْ كَانَ شَبْعَانَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ حَصَلَتْ مَنْفَعَةُ الْأَكْلِ لِلْمُكْرَهِ وَلَمْ يَحْصُلْ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي. قَالَ وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ طَعَامِ الْغَيْرِ فَأَكَلَ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرِهِ لَا عَلَى الْمُكْرَهِ وَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ جَائِعًا وَحَصَلَ لَهُ مَنْفَعَةُ الْأَكْلِ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ أَكَلَ طَعَامَ الْمُكْرِهِ بِإِذْنِهِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْأَكْلِ إكْرَاهٌ عَلَى الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْأَكْلُ بِدُونِ الْقَبْضِ فِي الْغَالِبِ وَكَمَا قَبَضَ الْمُكْرِهُ الطَّعَامَ صَارَ قَبْضُهُ مَنْقُولًا إلَى الْمُكْرَهِ فَكَأَنَّ الْمُكْرِهَ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ وَقَالَ لَهُ كُلْ وَلَوْ قَبَضَ بِنَفْسِهِ صَارَ غَاصِبًا ثُمَّ مَالِكًا لِلطَّعَامِ بِالضَّمَانِ ثُمَّ أَذِنَ لَهُ بِالْأَكْلِ وَهُنَاكَ لَا يَضْمَنُ الْآكِلُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ طَعَامَ الْغَاصِبِ بِإِذْنِهِ كَذَا هَاهُنَا وَفِي طَعَامِ نَفْسِهِ لَمْ يَصِرْ آكِلًا طَعَامَ الْمُكْرِهِ بِإِذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْمُكْرَهُ غَاصِبًا لِلطَّعَامِ قَبْلَ الْأَكْلِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ لَا يَجِبُ إلَّا بِإِزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ وَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِزَالَةُ مَا دَامَ الطَّعَامُ فِي يَدِهِ أَوْ فَمِهِ فَتَعَذَّرَ إيجَابُ ضَمَانِ الْغَصْبِ قَبْلَ الْأَكْلِ فَلَا يَصِيرُ الطَّعَامُ مِلْكًا لَهُ قَبْلَ الْأَكْلِ وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ سَبَبُ الضَّمَانِ صَارَ آكِلًا طَعَامَ نَفْسِهِ لَا طَعَامَ الْمُكْرِهِ إلَّا أَنَّ الْمُكْرَهَ مَتَى كَانَ شَبْعَانَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَنْفَعَةُ الْأَكْلِ فَكَانَ هَذَا إكْرَاهًا عَلَى إتْلَافِ مَالِهِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ كُلِّهِ مِنْ التَّتِمَّةِ وَكَذَلِكَ أَيْ وَمِثْلُ الْقِسْمِ الَّذِي لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ آلَةً فِي أَنَّ الْحُكْمَ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ كَوْنُ الْفِعْلِ مِمَّا يُتَصَوَّرُ إلَى آخِرِهِ إلَّا أَنَّ الْمَحَلَّ أَيْ مَحَلَّ الْإِكْرَاهِ وَكَانَ ذَلِكَ أَيْ مَحَلُّ الْإِكْرَاهِ بَطَلَ ذَلِكَ أَيْ جَعْلُهُ آلَةً وَفِي تَبْدِيلِ الْمَحَلِّ أَيْ مَحَلِّ الْإِكْرَاهِ خِلَافُ الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَكْرَهَهُ عَلَى إيقَاعِ فِعْلٍ فِي مَحَلٍّ كَانَ إيقَاعُهُ فِي مَحَلٍّ آخَرَ مُخَالَفَةً لَهُ ضَرُورَةً. قَوْلُهُ (وَذَلِكَ) أَيْ مِثَالُ هَذَا الْفَصْلِ إكْرَاهُ الْمُحْرِمِ عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ وَإِكْرَاهُ الْحَلَالِ عَلَى قَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَصِرُ عَلَى الْفَاعِلِ يَعْنِي فِي حَقِّ الْإِثْمِ وَالْجَزَاءِ جَمِيعًا فِي مَسْأَلَةِ الْمُحْرِمِ وَفِي حَقِّ الْإِثْمِ دُونَ الْجَزَاءِ فِي حَقِّ الْحَلَالِ. فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَلَوْ أَنَّ مُحْرِمًا قِيلَ لَهُ لَنَقْتُلَنَّكَ أَوْ لَتَقْتُلَنَّ هَذَا الصَّيْدَ فَقَتَلَهُ لَا شَيْءَ عَلَى الَّذِي أَمَرَهُ؛ لِأَنَّهُ حَلَالٌ لَوْ بَاشَرَ قَبْلَ الصَّيْدِ بِيَدِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ فَكَذَا إذَا أَكْرَهَ غَيْرُهُ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَأْمُورِ فِي الْقِيَاسِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ بِالْإِلْجَاءِ التَّامِّ فَيَنْعَدِمُ الْفِعْلُ فِي جَانِبِهِ. أَلَا يُرَى أَنَّ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ لَا يَكُونُ الْمُكْرَهُ ضَامِنًا شَيْئًا لِهَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ لَا يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْقَتْلِ فَفِي قَتْلِ الصَّيْدِ أَوْلَى وَفِي الِاسْتِحْسَانِ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ مِنْهُ جِنَايَةٌ عَلَى إحْرَامِهِ وَهُوَ بِالْجِنَايَةِ عَلَى إحْرَامِ نَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِغَيْرِهِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ إذْ لَا يُمْكِنُ لِلْمُكْرَهِ أَنْ يَجْنِيَ عَلَى إحْرَامِ الْغَيْرِ بِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ بِالْإِكْرَاهِ وَلَمَّا لَمْ تَجِبْ الْكَفَّارَةُ هَاهُنَا عَلَى الْآمِرِ لَا بُدَّ مِنْ إيجَابِهَا عَلَى الْمَأْمُورِ إذَا لَوْ لَمْ تَجِبْ كَانَ تَأْثِيرُ الْإِكْرَاهِ فِي الْإِهْدَارِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْإِكْرَاهِ فِي الْإِهْدَارِ وَإِنْ كَانَا مُحْرِمَيْنِ جَمِيعًا فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ. وَأَمَّا عَلَى الْمُكْرَهِ فَلِمَا بَيَّنَّاهُ وَأَمَّا عَلَى الْمُكْرَهِ فَلِأَنَّهُ لَوْ بَاشَرَ قَتْلَ الصَّيْدِ بِيَدِهِ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فَكَذَا إذَا بَاشَرَ بِالْإِكْرَاهِ وَلَا حَاجَةَ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ هَاهُنَا إلَى نِسْبَةِ أَصْلِ الْفِعْلِ إلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِالدَّلَالَةِ وَالْإِشَارَةِ وَإِنْ لَمْ يَصِرْ أَصْلُ الْفِعْلِ مَنْسُوبًا إلَيْهِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. وَبِهِ فَارَقَ كَفَّارَةَ الْقَتْلِ إذَا كَانَ خَطَأً فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى الْمُكْرَهِ دُونَ الْمُكْرِهِ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الدِّيَةِ وَالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ إلَّا بِمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ وَمِنْ ضَرُورَةِ نِسْبَةِ الْمُبَاشَرَةِ إلَى الْمُكْرِهِ أَنْ لَا يَبْقَى فِعْلٌ فِي جَانِبِ الْمُكْرَهِ وَهَاهُنَا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ لَا يَعْتَمِدُ مُبَاشَرَةَ الْقَتْلِ فَيَجُوزُ إيجَابُهَا عَلَى الْمُكْرَهِ بِالْمُبَاشَرَةِ وَعَلَى الْمُكْرِهِ بِالتَّسْبِيبِ. وَلِأَنَّ السَّبَبَ هَاهُنَا الْجِنَايَةُ عَلَى الْإِحْرَامِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَانٍ عَلَى إحْرَامِ نَفْسِهِ فَأَمَّا السَّبَبُ هُنَاكَ فَهُوَ الْجِنَايَةُ عَلَى

وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْقَتْلِ يَأْثَمُ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُوجِبُ الْمَأْثَمَ جِنَايَةٌ عَلَى دِينِ الْقَاتِلِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ آلَةً فَصَارَ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ دِينُ الْمُكْرَهِ لَوْ جُعِلَ آلَةً فَصَارَهُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ الْمُكْرِهُ فَاعِلًا وَصَارَ الْمُكْرَهُ فِي حَقِّ الْمَأْثَمِ فَاعِلًا فَقِيلَ لَهُ لَا تَفْعَلُ وَصَارَ الْمُكْرَهُ آثِمًا؛ لِأَنَّهُ اخْتَارَ مَوْتَهُ وَحَقَّقَهُ بِمَا فِي وُسْعِهِ فَلَحِقَهُ الْمَأْثَمُ وَالْمَأْثَمُ يَعْتَمِدُ عَزَائِمَ الْقُلُوبِ إذَا اتَّصَلَتْ بِالْفِعْلِ وَلِهَذَا قُلْنَا فِي الْمُكْرَهِ عَلَى الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ أَنَّ تَسْلِيمَهُ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِعْلًا؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ تَصَرُّفٌ فِي الْبَيْعِ وَإِنَّمَا أُكْرِهَ لِيَتَصَرَّفَ فِي بَيْعِ نَفْسِهِ بِالْإِتْمَامِ وَهُوَ فِيهِ لَا يَصْلُحُ آلَةً وَلَوْ جُعِلَ آلَةً لَتَبَدَّلَ الْمَحَلُّ وَلَتَبَدَّلَ دَأْبُ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ غَصْبًا مَحْضًا وَقَدْ نَسَبْنَاهُ إلَى الْمُكْرَهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ غَصْبٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَحَلِّ وَالْمَحَلُّ وَاحِدٌ فَإِذَا أَوْجَبْنَا الْكَفَّارَةَ بِاعْتِبَارِهِ عَلَى الْمُكْرَهِ قُلْنَا لَا تَجِبُ عَلَى الْمُكْرِهِ. وَلَوْ تَوَعَّدَهُ بِالْحَبْسِ وَهُمَا مُحْرِمَانِ فَفِي الْقِيَاسِ الْجَزَاءُ عَلَى الْقَاتِلِ دُونَ الْآمِرِ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ فِعْلٌ وَلَا أَثَرَ لِلْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ فِي الْأَفْعَالِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الْجَزَاءُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَّا عَلَى الْقَاتِلِ فَلَا يُشْكِلُ وَأَمَّا عَلَى الْمُكْرِهِ فَلِأَنَّ تَأْثِيرَ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ أَكْثَرُ مِنْ تَأْثِيرِ الدَّلَالَةِ وَالْإِشَارَةِ وَيَجِبُ الْجَزَاءُ بِهِمَا فَبِالْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ أَوْلَى وَلَوْ كَانَا حَلَالَيْنِ فِي الْحَرَمِ وَقَدْ تَوَعَّدَهُ بِقَتْلٍ كَانَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْجَزَاءَ فِي حُكْمِ ضَمَانِ الْمَالِ وَلِهَذَا لَا يَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ وَلَا يَجِبُ بِالدَّلَالَةِ وَلَا يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْفَاعِلِينَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ بِاعْتِبَارِ حُرْمَةِ الْمَحَلِّ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الْمَالِ وَبِمَنْزِلَةِ الْكَفَّارَةِ فِي قَتْلِ الْآدَمِيِّ خَطَأً فَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْفَاعِلِ فِي قَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ الِاقْتِصَارُ فِي حَقِّ الْإِثْمِ دُونَ الْجَزَاءِ عَلَى إحْرَامِ نَفْسِهِ أَيْ فِي صُورَةِ الْمُحْرِمِ أَوْ عَلَى دَيْنِ نَفْسِهِ أَيْ فِي صُورَةِ الْحَلَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لِلصَّيْدِ فِي نَفْسِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْحَلَالَ لَوْ اصْطَادَ يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُهُ إذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ صُنْعٌ مِنْ الْإِشَارَةِ وَنَحْوِهَا. وَكَذَا الصَّيْدُ إذَا خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ يَحِلُّ اصْطِيَادُهُ فَكَانَ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ هُوَ الْإِحْرَامُ أَوْ الدَّيْنُ فِي الْحَقِيقَةِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ أَيْ الْجِنَايَةُ عَلَى الْإِحْرَامِ أَوْ عَلَى الدَّيْنِ لَا يَصْلُحُ آلَةً لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْمُكْرِهُ وَلَوْ جُعِلَ آلَةً يَعْنِي مَعَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ آلَةً لَوْ جُعِلَ آلَةً لَتَبَدَّلَ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ فَيَصِيرُ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ إحْرَامَ الْمُكْرَهِ لَوْ كَانَ مُحْرِمًا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَدَيْنَهُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي وَفِي ذَلِكَ بُطْلَانُ الْإِكْرَاهِ. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ وَلِأَنَّ مَحَلَّ الْجِنَايَةِ إذَا تَبَدَّلَ بِالنِّسْبَةِ يَقْتَصِرُ الْفِعْلُ عَلَى الْفَاعِلِ قُلْنَا إنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْقَتْلِ يَأْثَمُ إثْمَ الْقَتْلِ وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ مِمَّا يَصْلُحُ الْفَاعِلُ فِيهِ آلَةً لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُوجِبُ الْمَأْثَمَ جِنَايَةٌ عَلَى دَيْنِ الْقَتْلِ وَالْمُكْرَهُ فِي ذَلِكَ أَيْ فِي الْإِثْمِ لَا يَصْلُحُ آلَةً لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الدَّيْنِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِغَيْرِهِ إذْ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَكْتَسِبَ الْإِثْمَ عَلَى غَيْرِهِ وَلَوْ جَعَلْنَا الْمُكْرَهَ آلَةً كَانَتْ الْجِنَايَةُ وَاقِعَةً عَلَى دَيْنِ الْمُكْرَهِ وَأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ فَتَبَيَّنَ أَنَّا لَوْ أَخْرَجْنَا الْمُكْرَهَ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا فِي حَقِّ الْإِثْمِ لَتَبَدَّلَ بِهِ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ فَصَارَ فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَهُوَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ وَحِرْمَانِ الْإِرْثِ الْمُكْرَهُ فَاعِلًا بِنِسْبَةِ الْفِعْلِ إلَيْهِ يُجْعَلُ الْمُكْرَهُ آلَةً لَهُ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَبَدُّلُ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ وَصَارَ الْمُكْرَهُ فِي حَقِّ الْمَأْثَمِ فَاعِلًا لِتَعَذُّرِ النِّسْبَةِ إلَى الْمُكْرَهِ بِلُزُومِ تَبَدُّلِ الْمَحَلِّ فَقِيلَ لَهُ أَيْ لِلْمُكْرَهِ لَا تَفْعَلْ يَعْنِي لَمَّا بَقِيَ فَاعِلًا صَحَّ أَنْ يُنْهَى عَنْهُ شَرْعًا وَيَلْحَقُهُ الْإِثْمُ بِالْمُبَاشَرَةِ ثُمَّ بَيَّنَ جِهَةَ تَأْثِيمِهِ فَقَالَ وَصَارَ الْمُكْرَهُ آثِمًا؛ لِأَنَّهُ اخْتَارَ مَوْتَ الْمَقْتُولِ وَحَقَّقَ مَوْتَهُ بِمَا فِي وُسْعِهِ وَهُوَ الْجُرْحُ الصَّالِحُ لِزَهُوقِ الرُّوحِ وَآثَرَ رُوحَ نَفْسِهِ عَلَى مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي الْحُرْمَةِ وَأَطَاعَ الْمَخْلُوقَ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى نَهَاهُ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ وَقَصَدَ ذَلِكَ وَحَقَّقَهُ بِالْفِعْلِ وَالْقَصْدُ عَمَلُ الْقَلْبِ وَهُوَ لَمْ يَصْلُحْ فِيهِ آلَةً لِغَيْرِهِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقْصِدَ الْإِنْسَانُ تَقَلُّبَ غَيْرِهِ كَمَا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِلِسَانِ غَيْرِهِ فَلِهَذَا بَقِيَ الْإِثْمُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ إذَا اتَّصَلَتْ بِالْفِعْلِ إشَارَةٌ إلَى مَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ. قَوْلُهُ (وَلِهَذَا قُلْنَا) أَيْ وَلَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ عِنْدَ تَبَدُّلِ الْمَحَلِّ يَقْتَصِرُ الْفِعْلُ عَلَى الْفَاعِلِ قُلْنَا كَذَا إذَا بَاعَ مُكْرَهًا وَسَلَّمَ مُكْرَهًا مَلَكَهُ الْمُشْتَرِي مِلْكًا فَاسِدًا حَتَّى نَفَذَ فِيهِ إعْتَاقُهُ وَتَدْبِيرُهُ وَاسْتِيلَادُهُ عِنْدَنَا. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَمْلِكُهُ وَلَوْ سَلَّمَ طَائِعًا يَنْفُذُ الْبَيْعُ وَيَقَعُ الْمِلْكُ بِهِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ إجَازَةً لِلْبَيْعِ دَلَالَةً بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْهِبَةِ فَوَهَبَ وَسَلَّمَ طَائِعًا حَيْثُ لَا يَكُونُ إجَازَةً؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْهِبَةِ إكْرَاهٌ عَلَى التَّسْلِيمِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّا حَكَمْنَا بِانْعِقَادِ بَيْعِ الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ فِيهِ آلَةً لِغَيْرِهِ فَيَبْقَى مَقْصُورًا عَلَيْهِ فَأَمَّا التَّسْلِيمُ فَأَمْرٌ حِسِّيٌّ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ فِيهِ آلَةً لِلْمُكْرَهِ فَيَنْتَقِلُ إلَيْهِ وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَحْكَامِ التَّسْلِيمِ وَإِذَا انْتَقَلَ

وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ صِرْنَا إلَيْهِ اسْتَقَامَ ذَلِكَ فِيمَا يَعْقِلُ وَلَا يُحِسُّ قُلْنَا إنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْإِعْتَاقِ بِمَا فِيهِ إلْجَاءٌ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ وَمَعْنَى الْإِتْلَافِ مِنْهُ مَنْقُولٌ إلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ فَصْلٍ فِي الْجُمْلَةِ يَحْتَمِلُ لِلنَّقْلِ بِأَصْلِهِ. وَأَمَّا بَيَانُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْسِيمِ الْحُرُمَاتِ ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَيْهِ صَارَ كَأَنَّهُ سَلَّمَ بِنَفْسِهِ مَالَ الْمُكْرَهِ إلَى الْمُشْتَرِي فَلَا يَقَعُ بِهِ الْمِلْكُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَقَعُ بِهَذَا التَّسْلِيمِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ وَهَبَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ أَوْ بَاعَهُ تُفْسَخُ عَلَيْهِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ وَلَوْ وَقَعَ الْمِلْكُ بِهَذَا التَّسْلِيمِ لَكَانَ لَا تُفْسَخُ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَلَنَا أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ مُنْعَقِدٌ بِصِفَةِ الْفَسَادِ فَيُوجِبُ الْمِلْكَ عِنْدَ اتِّصَالِ الْقَبْضِ كَسَائِرِ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ أَمَّا الِانْعِقَادُ فَلِمُسَاعِدَةِ الْخَصْمِ عَلَيْهِ فَلِهَذَا لَوْ أَجَازَ أَوْ سَلَّمَ طَائِعًا يَنْفُذُ. وَأَمَّا الْفَسَادُ فَلِفَوَاتِ شَرْطِهِ وَهُوَ الرِّضَا فَإِنَّ فَوَاتَ الشَّرْطِ يُوجِبُ الْفَسَادَ فِي الْبَيْعِ كَفَوَاتِ شَرْطِ الْمُسَاوَاةِ فِي بَدَلَيْ الرِّبَا يُوجِبُ الْفَسَادَ دُونَ الْبُطْلَانِ وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ يُفِيدُ الْمِلْكَ وَقَدْ وُجِدَ فَإِنَّ التَّسْلِيمَ قَدْ تَحَقَّقَ مِنْ الْبَائِعِ وَلَمْ يَنْتَقِلْ إلَى الْمُكْرَهِ بِالْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ مِنْ الْبَائِعِ مُتَمِّمٌ سَبَبَ الْمِلْكِ وَلِهَذَا كَانَ لَهُ شُبْهَةٌ بِابْتِدَاءِ الْعَقْدِ عَلَى مَا عُرِفَ وَقَدْ أَكْرَهَهُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي بَيْعِ نَفْسِهِ بِالْإِتْمَامِ وَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَصْلُحُ آلَةً لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُكْرِهَ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَمْلِيكِ مَالِ الْغَيْرِ وَإِتْمَامِ تَصَرُّفِهِ لِيُجْعَلَ الْمُكْرَهُ آلَةً لَهُ فِيهِ وَلَوْ جُعِلَ آلَةً لَتَبَدَّلَ الْمَحَلُّ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ حِينَئِذٍ تَصَرُّفًا فِي الْمَغْصُوبِ وَقَدْ أَمَرَ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ وَلَتَبَدَّلَ ذَاتُ الْفِعْلِ فَأَنَّا لَوْ خَرَّجْنَا هَذَا التَّسْلِيمَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَمِّمًا لِلْعَقْدِ جَعَلْنَاهُ غَصْبًا مَحْضًا ابْتِدَاءً بِنِسْبَتِهِ إلَى الْمُكْرَهِ وَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَبَدَّلَ مَحَلُّ الْفِعْلِ بِالْإِكْرَاهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَتَبَدَّلَ ذَاتُهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ بَقِيَ التَّسْلِيمُ مُقْتَصِرًا عَلَى الْبَائِعِ فَيَحْصُلُ الْمِلْكُ بِهِ لِلْمُشْتَرِي كَمَا لَوْ سَلَّمَ طَائِعًا وَقَدْ نَسَبْنَاهُ إلَى الْمُكْرَهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ غَصْبٌ يَعْنِي أَنَّ هَذَا التَّسْلِيمَ مُتَمِّمٌ لِلتَّصَرُّفِ مِنْ وَجْهٍ وَمُفَوِّتٌ يَدَ الْمَالِكِ مِنْ وَجْهٍ فَجَعَلْنَاهُ مُقْتَصِرًا عَلَى الْبَائِعِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إتْمَامٌ لِلْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ آلَةً لِلْغَيْرِ فِيهِ وَنَسَبْنَاهُ إلَى الْمُكْرَهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ غَصْبٌ؛ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ آلَةً لَهُ فِيهِ فَيَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَيْهِ فَأَمَّا أَنْ يَجْعَلَهُ غَصْبًا مَحْضًا حَتَّى لَا يَنْفُذَ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي أَوْ تَسْلِيمًا مَحْضًا حَتَّى لَا يَكُونَ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُكْرَهِ بِالضَّمَانِ فَلَا. ثُمَّ هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُكْرَهَ قِيمَتَهُ يَوْمَ سَلَّمَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تُفْسَخُ التَّصَرُّفَاتُ هَاهُنَا وَفِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لَا تُفْسَخُ فَهُوَ أَنَّ الْقَبْضَ مَعَ كَوْنِ الْبَيْعِ فَاسِدًا حَصَلَ بِغَيْرِ رِضَا الْبَائِعِ وَفِي الْبَيْعِ الْجَائِزِ لَوْ حَصَلَ الْقَبْضُ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ بِدُونِ رِضَا الْبَائِعِ وَتَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي فِيهِ تَصَرُّفًا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ يُفْسَخُ فَفِي الْفَاسِدِ أَوْلَى وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وُجُوبَ الْفَسْخِ لِحَقِّ الشَّرْعِ فَإِذَا بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِهِ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَبْدِ فَإِذَا اجْتَمَعَ الْحَقَّانِ يُرَجَّحُ حَقُّ الْعَبْدِ عَلَى حَقِّ الشَّرْعِ إذْ الْأَصْلُ هُوَ تَرْجِيحُ حَقِّ الْعَبْدِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْحَقَّيْنِ لِحَاجَةِ الْعَبْدِ وَغِنَاءِ الشَّرْعِ فَبَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ فَأَمَّا هَاهُنَا فَحَقُّ الْفَسْخِ لِحَقِّ الْبَائِعِ وَإِذَا بَاعَهُ مِنْ غَيْرِهِ وَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُشْتَرِي أَيْضًا فَتَرَجَّحَ حَقُّ الْبَائِعِ لِكَوْنِهِ أَسْبَقَ فَبَقِيَتْ لَهُ وِلَايَةُ الْفَسْخِ إذَا كَانَ التَّصَرُّفُ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ وَكَذَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وُجِدَ التَّصَرُّفُ مِنْ الْمُشْتَرِي بِتَسْلِيطٍ صَحِيحٍ مِنْ الْبَائِعِ إيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ التَّصَرُّفِ وَلَمْ يُوجَدْ التَّسْلِيطُ هَاهُنَا وَلَوْ وُجِدَ فَهُوَ تَسْلِيطٌ فَاسِدٌ فَافْتَرَقَا (قَوْلُهُ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ) أَيْ انْتِقَالُ الْفِعْلِ مِنْ الْمُكْرَهِ إلَى الْمُكْرِهِ يَعْنِي نِسْبَتُهُ إلَيْهِ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ صِرْنَا إلَيْهِ فِي إتْلَافِ النَّفْسِ وَالْمَالِ لَا حِسِّيٌّ اسْتَقَامَ ذَلِكَ الِانْتِقَالُ فِيمَا يُعْقَلُ وَلَا يُحَسُّ أَيْ فِيمَا يَعْقِلُ وُجُودُهُ مِنْ الْمُكْرَهِ وَلَا يُحَسُّ وُجُودُهُ مِنْهُ يَعْنِي مِنْ شَرْطِ هَذِهِ النِّسْبَةِ أَنْ يَتَصَوَّرَ ذَلِكَ الْفِعْلَ مِنْ الْمُكْرَهِ وَلَكِنْ لَا يُوجَدُ مِنْهُ حِسًّا إذْ لَوْ لَمْ يُتَصَوَّرْ وُجُودُهُ مِنْهُ لَا يَسْتَقِيمُ النِّسْبَةُ إلَيْهِ أَصْلًا وَلَوْ تَصَوَّرَ وُجُودَهُ مِنْهُ وَوُجِدَ مِنْهُ حِسًّا كَانَتْ النِّسْبَةُ حَقِيقِيَّةً لَا حُكْمِيَّةً. فَقُلْنَا إنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْإِعْتَاقِ بِمَا فِيهِ الْإِلْجَاءُ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ حَتَّى كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ؛ لِأَنَّ التَّكَلُّمَ بِالْإِعْتَاقِ أَعْنِي التَّكَلُّمَ بِمَا يُوجِبُ عِتْقَ هَذَا الْعَبْدِ لَا يُعْقَلُ وَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ لِلْعَبْدِ وَالْإِعْتَاقُ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ لَا يُتَصَوَّرُ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ بِأَنْ يُجْعَلَ الْمُكْرَهَ آلَةً لَهُ فِيهِ وَمَعْنَى الْإِتْلَافِ مِنْهُ أَيْ مِنْ هَذَا الْإِعْتَاقِ مَنْقُولٌ إلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ أَيْ هَذَا الْإِعْتَاقُ

فَإِنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ هُوَ الزِّنَا بِالْمَرْأَةِ وَالْقَتْلِ وَالْجُرْحِ لَا يَحِلُّ ذَلِكَ بِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ وَلَا يُرَخَّصُ فِيهِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الرُّخْصَةِ خَوْفُ التَّلَفِ وَالْمُكْرِهُ وَالْمُكْرَهُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ فَسَقَطَ الْإِكْرَاهُ فِي حَقِّ تَنَاوُلِ دَمِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ لِلتَّعَارُضِ وَفِي الزِّنَا فَسَادُ الْفِرَاشِ وَضَيَاعُ النَّسْلِ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْقَتْلِ أَيْضًا حَتَّى إنَّ مَنْ قِيلَ لَهُ لَنَقْتُلَنَّكَ أَوْ لَنَقْطَعَنَّ يَدَك حَلَّ لَهُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ نَفْسِهِ فَوْقَ حُرْمَةِ يَدِهِ عِنْدَ التَّعَارُضِ وَيَدُ غَيْرِهِ وَنَفْسِهِ سَوَاءٌ وَالْحُرْمَةُ الَّتِي تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ أَصْلًا هِيَ حُرْمَةُ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ الْمُلْجِئَ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَتَضَمَّنُ إتْلَافَ مَالِيَّةِ الْعَبْدِ مَعْنًى فَيُنْقَلُ ذَلِكَ الْإِتْلَافُ الْمَعْنَوِيُّ إلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْإِتْلَافُ حِسًّا فَيُمْكِنُ نِسْبَتُهُ إلَيْهِ بِجَعْلِ الْمُكْرَهِ آلَةً لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أَيْ الْإِتْلَافَ مُنْفَصِلٌ عَنْ الْإِعْتَاقِ فِي الْجُمْلَةِ لِتَحَقُّقِهِ بِالْقَتْلِ بِلَا إعْتَاقٍ مُحْتَمِلٍ لِلنَّقْلِ إلَى الْمُكْرَهِ بِأَصْلِهِ لِتَصَوُّرِهِ مِنْ الْمُكْرَهِ ابْتِدَاءً كَمَا بَيَّنَّا فَلِذَلِكَ يَرْجِعُ الْمُكْرِهُ عَلَى الْمُكْرَهِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ مُوسِرًا كَانَ الْمُكْرَهُ أَوْ مُعْسِرًا؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْإِيسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَيَجُوزُ أَنْ يَجِبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ وَيَثْبُتُ الْوَلَاءُ لِلْغَيْرِ كَمَا فِي الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ عَلَى الْعِتْقِ فَإِنَّ الضَّمَانَ عَلَى الشَّاهِدِ وَالْوَلَاءِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَلَا يَمْنَعُ ثُبُوتُهُ لِلْغَيْرِ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ؛ وَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ لِأَحَدٍ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ نَفَذَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ مَالِكِهِ وَلَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِي مَالِهِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا الْمُحْرِمَ إذَا قَتَلَ الصَّيْدَ حَيْثُ لَا يَثْبُتُ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُكْرَهِ بِالضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ ضَمَانًا يُفْتَى بِهِ وَلَا يُقْضَى بِهِ فَلَوْ رَجَعَ بِضَمَانٍ يُقْضَى بِهِ وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ ضَمَانَ الْعُدْوَانِ مُقَدَّرٌ بِالْمِثْلِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا أَتْلَفَ. قَوْلُهُ (فَإِنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ) وَهُوَ الْحُرْمَةُ الَّتِي لَا تَنْكَشِفُ وَلَا تَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ هُوَ كَالزِّنَاءِ بِالْمَرْأَةِ قُيِّدَ بِالْمَرْأَةِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ زِنَا الرَّجُلِ فَإِنَّ زِنَا الْمَرْأَةِ يَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ لَا يَحِلُّ ذَلِكَ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ بِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ كَمَا يَحِلُّ شُرْبُ الْخَمْرِ وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ بِهِ وَلَا يُرَخَّصُ فِيهِ مَعَ بَقَاءِ الْحُرْمَةِ كَمَا رُخِّصَ فِي إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ مَعَ الْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ ثُبُوتِ الرُّخْصَةِ خَوْفُ التَّلَفِ فَإِنَّهُ إذَا خَافَ تَلَفَ النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ جَازَ لَهُ التَّرَخُّصُ بِالْمُحَرَّمِ وَصِيَانَةً لِلنَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ عَنْ التَّلَفِ وَالْمُكْرَهُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمُكْرَهُ عَلَيْهِ بِفَتْحِهَا أَيْضًا وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْقَتْلِ فِي ذَلِكَ أَيْ فِي اسْتِحْقَاقِ الصِّيَانَةِ عِنْدَ خَوْفِ التَّلَفِ سَوَاءٌ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَبْذُلَ نَفْسَ غَيْرِهِ لِصِيَانَةِ نَفْسِهِ فَسَقَطَ الْإِكْرَاهُ فِي حَقِّ تَنَاوُلِ دَمِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ لِلتَّعَارُضِ أَيْ صَارَ الْإِكْرَاهُ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ فِي حَقِّ إبَاحَةِ قَتْلِ الْمَقْصُودِ بِالْقَتْلِ وَالتَّرَخُّصِ بِهِ لِتَعَارُضِ الْحُرْمَتَيْنِ فَإِنَّ التَّرَخُّصَ لَوْ ثَبَتَ بِالْإِكْرَاهِ لِصِيَانَةِ حُرْمَةِ نَفْسِ الْمُكْرَهِ مَنَعَ ثُبُوتُهُ وُجُوبَ صِيَانَةِ حُرْمَةِ نَفْسِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الصِّيَانَةِ فَلَا يَثْبُتُ لِلتَّعَارُضِ وَفِي الزِّنَا فَسَادُ الْفِرَاشِ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَنْكُوحَةَ الْغَيْرِ وَضَيَاعُ النَّسْلِ إنْ لَمْ تَكُنْ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْقَتْلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ لَمَّا انْقَطَعَ عَنْ الزَّانِي لَا يُمْكِنُ إيجَابُ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ وَلَمْ تَكُنْ لِلْمَرْأَةِ قُوَّةُ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْوَلَدِ لِعَجْزِهَا عَنْ الْكَسْبِ فَيَهْلِكُ الْوَلَدُ ضَرُورَةً فَكَانَ الزِّنَا بِمَنْزِلَةِ الْإِهْلَاكِ حُكْمًا فَلَا يَثْبُتُ التَّرْخِيصُ فِيهِ بِالْإِكْرَاهِ لِلتَّعَارُضِ أَيْضًا قِيلَ فَإِنَّ أُلْحِقَ الزِّنَا بِالْقَتْلِ فِيمَا إذَا لَمْ تَكُنْ الْمَرْأَةُ ذَاتَ زَوْجٍ مُسَلَّمٍ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مَنْكُوحَةً فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ حِينَئِذٍ يُنْسَبُ إلَى الْفِرَاشِ وَإِنْ خُلِقَ مِنْ الزِّنَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَتْ نَفَقَةُ الْوَلَدِ وَتَرْبِيَتُهُ عَلَى صَاحِبِ الْفِرَاشِ فَلَا يَكُونُ الزِّنَا إهْلَاكًا. قُلْنَا الْأَصْلُ أَنْ يُنْسَبَ الْوَلَدُ إلَى مَنْ خُلِقَ مِنْ مَائِهِ وَتَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ جُزْؤُهُ فَلَمَّا انْقَطَعَ النَّسَبُ عَنْ الزَّانِي كَانَ إهْلَاكًا حُكْمًا بِالنَّظَرِ إلَى الْأَصْلِ وَقَدْ يَنْفِي صَاحِبُ الْفِرَاشِ نَسَبَ مِثْلِ هَذَا الْوَلَدِ عَنْ نَفْسِهِ عَادَةً فَيُؤَدِّي إلَى الْهَلَاكِ أَيْضًا وَقَوْلُهُ حَتَّى إنَّ مَنْ قَتَلَ مُتَعَلِّقٌ بِالتَّعَارُضِ يَعْنِي لَوْ لَمْ يَثْبُتْ التَّعَارُضُ فِي صُورَةِ التَّعَارُضِ ثَبَتَ التَّرَخُّصُ كَمَا لَوْ أُكْرِهَ بِالْقَتْلِ عَلَى قَطْعِ يَدِهِ حَلَّ لَهُ الْقَطْعُ وَفِي الْمَبْسُوطِ كَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الطَّرَفِ تَابِعَةٌ لِحُرْمَةِ النَّفْسِ وَالتَّابِعُ لَا يُعَارِضُ الْأَصْلَ وَلَكِنْ يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الْأَصْلِ فَفِي إقْدَامِهِ عَلَى قَطْعِ الْيَدِ مُرَاعَاةُ حُرْمَةِ نَفْسِهِ وَفِي امْتِنَاعِهِ مِنْ ذَلِكَ تَعْرِيضُ النَّفْسِ عَلَى التَّلَفِ وَتَلَفُهَا يُوجِبُ تَلَفَ الْأَطْرَافِ لَا مَحَالَةَ وَلَا شَكَّ أَنَّ إتْلَافَ الْبَعْضِ لِإِبْقَاءِ

يُوجِبُ إبَاحَتَهُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَمْ يَثْبُتْ بِالنَّصِّ إلَّا عِنْدَ الِاخْتِيَارِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] قَالَ تَعَالَى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] وَإِنْ كَانَ التَّحْرِيمُ فِي الْأَصْلِ يَثْبُتُ مُقَيَّدًا بِالِاسْتِثْنَاءِ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ خَارِجَةً عَنْ التَّحْرِيمِ فَيَبْقَى عَلَى الْإِبَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ كَاَلَّذِي لَا يَضْطَرُّ إلَى ذَلِكَ لِجُوعٍ أَوْ عَطَشٍ يَرَى أَنَّ رِفْقَ التَّحْرِيمِ يَعُودُ إلَى الْمُتَنَاوَلِ مِنْ خُبْثٍ فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] . وَقَالَ تَعَالَى {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] فَإِذَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى فَوْتِ الْكُلِّ كَانَ فَوْتُ الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ فَوْتِ الْكُلِّ عَلَى مِثَالِ قَوْلِنَا لَنَقْطَعَنَّ يَدَك أَنْتَ أَوْ لَنَقْتُلَنَّكَ نَحْنُ فَإِذَا سَقَطَتْ الْحُرْمَةُ أَصْلًا كَانَ الْمُمْتَنِعُ مِنْ تَنَاوُلِهِ وَهُوَ مُكْرَهٌ مُضَيِّعًا لِدَمِهِ فَصَارَ آثِمًا وَهَذَا إذَا تَمَّ الْإِكْرَاهُ فَأَمَّا إذَا قَصُرَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ التَّنَاوُلُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ إلَّا أَنَّهُ إذَا تَنَاوَلَ لَمْ يُحَدَّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَكَامَلَ أَوْجَبَ الْحِلَّ فَإِذَا قَصُرَ صَارَ شُبْهَةً بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْقَتْلِ بِالْحَبْسِ إذَا قَتَلَ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَمَّ لَمْ يَحِلَّ لَكِنَّهُ انْتَقَلَ عَنْهُ فَإِذَا قَصُرَ لَمْ يَنْتَقِلْ وَلَمْ يَصِرْ شُبْهَةً. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْكُلِّ أَوْلَى مِنْ إتْلَافِ الْكُلِّ كَمَنْ وَقَعَتْ فِي يَدِهِ آكِلَةٌ يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ لِيَدْفَعَ بِهِ الْهَلَاكَ عَنْ نَفْسِهِ فَهَذَا الْمُكْرَهُ فِي مَعْنَاهُ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ الْهَلَاكَ عَنْ نَفْسِهِ بِقَطْعِ يَدِهِ إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْآكِلَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَحُرْمَةُ النَّفْسِ كَحُرْمَةِ الطَّرَفِ مِنْ وَجْهٍ فَلِهَذَا تَحَرَّزَ عَنْ الْإِثْبَاتِ وَقَالَ هُوَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ وَيَدُ غَيْرِهِ وَنَفْسُهُ أَيْ نَفْسُ الْغَيْرِ أَوْ نَفْسُ الْمُكْرَهِ سَوَاءٌ حَتَّى لَوْ قِيلَ لَهُ لَتَقْطَعَنَّ يَدَ فُلَانٍ أَوْ لَنَقْتُلَنَّكَ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ وَلَوْ فَعَلَ كَانَ آثِمًا كَمَا لَوْ قِيلَ لَهُ لَتَقْتُلَنَّ فُلَانًا أَوْ لَنَقْتُلَنَّكَ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ وَلَوْ فَعَلَ كَانَ آثِمًا؛ لِأَنَّ لِطَرَفِ الْمُؤْمِنِ مِنْ الْحُرْمَةِ مَا لِنَفْسِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ. أَلَا يُرَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ طَرَفَ الْغَيْرِ لِيَأْكُلَهُ كَمَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ فَيَتَحَقَّقَ التَّعَارُضُ فَلَا يَثْبُتُ التَّرَخُّصُ إلَّا أَنَّ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى قَطْعِ يَدِ نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ مُقَابَلَةِ طَرَفِهِ بِنَفْسِهِ جَوَّزْنَا لَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَدْنَى الضَّرَرَيْنِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَهُ مُقَابَلَةُ طَرَفِ الْغَيْرِ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ أَشَدُّ عَلَى الْغَيْرِ مِنْ قَتْلِ الْمُكْرَهِ بَلْ مَنْ قَتْلِ جَمِيعِ الْخَلْقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ فَوَاتُ طَرَفِهِ فَثَبَتَ أَنَّهُمَا فِي الْحُرْمَةِ سَوَاءٌ عِنْدَ مُقَابَلَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ وَلَا يُقَالُ الْأَطْرَافُ مُلْحَقَةٌ بِالْأَمْوَالِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُرَخَّصَ فِي قَطْعِ يَدِ الْغَيْرِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ التَّامِّ كَمَا رُخِّصَ فِي إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ إلْحَاقُ الطَّرَفِ بِالْمَالِ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ لَا فِي حَقِّ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَبْذُلُونَ أَطْرَافَهُمْ صِيَانَةً لِنَفْسِ الْغَيْرِ وَيَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ فِيهَا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الرُّخْصَةِ فِي إتْلَافِ الْمَالِ ثُبُوتُهَا فِي إتْلَافِ طَرَفِهِ. قَوْلُهُ (يُوجِبُ إبَاحَتَهُ) أَيْ إبَاحَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَالَ اللَّهُ {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] اسْتَثْنَى حَالَةَ الضَّرُورَةِ وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ التَّحْرِيمِ إبَاحَةٌ إذَا الْكَلَامُ صَارَ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى وَقَدْ كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ التَّحْرِيمِ فَبَقِيَ عَلَى مَا كَانَ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ. وَقَالَ تَعَالَى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] نَفَى الْإِثْمَ الَّذِي هُوَ نَتِيجَةُ الْحُرْمَةِ عَنْ الْمُضْطَرِّ فَيَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُرْمَةِ كَاَلَّذِي يُضْطَرُّ إلَى ذَلِكَ أَيْ إلَى الْأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ لِجُوعٍ أَوْ عَطَشٍ الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَا يُبَاحُ تَنَاوُلُهُ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ يُبَاحُ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ إذَا كَانَ مُلْجِئًا وَمَا لَا فَلَا وَمَعْنَى الضَّرُورَةِ فِي الْمَخْمَصَةِ أَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ عَنْ التَّنَاوُلِ يَخَافُ تَلَفَ النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ فَمَتَى أُكْرِهَ بِالْقَتْلِ أَوْ بِقَطْعِ الْعُضْوِ عَلَى الْأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ فَقَدْ تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ الْمُبِيحَةُ لِتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ؛ لِأَنَّهُ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ فَدَخَلَ تَحْتَ النَّصِّ. فَصَارَ آثِمًا يَعْنِي إذَا كَانَ عَالِمًا بِسُقُوطِ الْحُرْمَةِ فَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ يَسَعُهُ يُرْجَى أَنْ لَا يَكُونَ آثِمًا؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ إقَامَةَ حَقِّ الشَّرْعِ فِي التَّحَرُّزِ عَنْ ارْتِكَابِ الْحَرَامِ فِي زَعْمِهِ وَهَذَا لِأَنَّ انْكِشَافَ الْحُرْمَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَدَلِيلُهُ خَفِيٌّ فَيُعْذَرُ فِيهِ بِالْجَهْلِ كَمَا أَنَّ عَدَمَ وُصُولِ الْخِطَابِ إلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَهِرَ يُجْعَلُ عُذْرًا فِي تَرْكِ مَا ثَبَتَ بِخِطَابِ الشَّرْعِ كَالصَّلَاةِ فِي حَقِّ مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ هَذَا أَيْ سُقُوطُ الْحُرْمَةِ إذَا تَمَّ الْإِكْرَاهُ بِأَنْ كَانَ مُلْجِئًا. فَإِنْ قَصَّرَ بِأَنْ أُكْرِهَ بِالْحَبْسِ سَنَةً أَوْ بِالْحَبْسِ الْمُؤَبَّدِ أَوْ بِالْقَيْدِ مَعَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُمْنَعُ عَنْهُ طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ لَا يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ إذْ الْحَبْسُ أَوْ الْقَيْدُ يُوجِبُ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ وَلَا يُخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسٍ وَلَا عُضْوٍ وَلَا يَسَعُهُ تَنَاوُلُ الْحَرَامِ لِدَفْعِ الْحُزْنِ، أَلَا يُرَى أَنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ فِي الْعَادَةِ إنَّمَا يَقْصِدُ بِشُرْبِهَا دَفْعَ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَوْ تَحَقَّقَ الْإِلْجَاءُ بِالْحَبْسِ لَتَحَقَّقَ بِحَبْسِ يَوْمٍ أَوْ نَحْوِهِ وَذَلِكَ بَعِيدٌ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخ بَلْخٍ إنَّمَا أَجَابَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِنَاءً عَلَى مَا كَانَ مِنْ الْحَبْسِ فِي زَمَانِهِ فَأَمَّا الْحَبْسُ الَّذِي أَحْدَثُوهُ الْيَوْمَ فِي زَمَانِنَا فَإِنَّهُ يُبِيحُ التَّنَاوُلَ؛ لِأَنَّهُمْ يُحْبَسُونَ تَعْذِيبًا كَذَا فِي الْمُغْنِي إلَّا أَنَّهُ أَيْ الْمُكْرَهَ بِالْإِكْرَاهِ الْقَاصِرِ إذَا تَنَاوَلَ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ بِأَنْ شَرِبَ

وَأَمَّا الَّذِي لَا يَسْقُطُ وَيَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ فَمِثْلُ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ وَالْقَلْبُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ فَإِنَّ هَذَا ظُلْمٌ فِي الْأَصْلِ لَكِنَّهُ رُخِّصَ فِيهِ بِالنَّصِّ فِي قِصَّةِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَبَقِيَ الْكُفْرُ عَزِيمَةً بِحَدِيثِ خُبَيْبٍ وَذَلِكَ أَنَّ حُرْمَتَهُ لَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ وَفِي هَتْكِ الظَّاهِرِ مَعَ قَرَارِ الْقَلْبِ ضَرْبُ جِنَايَةٍ لَكِنَّهُ دُونَ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هَتْكٌ صُورَةً وَهَذَا هَتْكٌ صُورَةً وَمَعْنًى فَوَجَبَتْ الرُّخْصَةُ وَبَقِيَ الْكَفُّ عَنْهُ عَزِيمَةً لِبَقَاءِ الْحُرْمَةِ نَفْسِهَا فَإِذَا صَبَرَ فَقَدْ بَذَلَ نَفْسَهُ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَكَانَ شَهِيدًا وَإِذَا أَجْرَى فَقَدْ تَرَخَّصَ بِالْأَدْنَى صِيَانَةً لِلْأَعْلَى وَكَذَلِكَ هَذَا فِي سَائِرِ حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِثْلَ إفْسَادِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَقَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ أَوْ فِي الْإِحْرَامِ لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ فِي اسْتِهْلَاكِ أَمْوَالِ النَّاسِ يُرَخَّصُ فِيهِ بِالْإِكْرَاهِ التَّامِّ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ فَوْقَ حُرْمَةِ الْمَالِ فَاسْتَقَامَ أَنْ يُجْعَلَ وِقَايَةً لَهَا وَلَكِنَّ أَخْذَ الْمَالِ وَإِتْلَافَهُ ظُلْمٌ وَعِصْمَةُ صَاحِبِهِ فِيهِ قَائِمَةٌ فَبَقِيَ حَرَامًا فِي نَفْسِهِ لِبَقَاءِ دَلِيلِهِ وَالرُّخْصَةُ مَا يُسْتَبَاحُ بِعُذْرٍ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرَّمِ فَإِذَا صَبَرَ حَتَّى قُتِلَ فَقَدْ بَذَلَ نَفْسَهُ لِدَفْعِ الظُّلْمِ وَلِإِقَامَةِ حَقٍّ مُحْتَرَمٍ فَصَارَ شَهِيدًا. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْخَمْرَ لَمْ يُحَدَّ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ يُحَدُّ؛ لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ فِي الْأَفْعَالِ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ أَلَا يُرَى أَنَّ الْعَطْشَانَ الَّذِي لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلَاكَ إذَا شَرِبَ الْخَمْرَ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ فَالْمُكْرَهُ بِالْحَبْسِ كَذَلِكَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَوْ تَكَامَلَ بِأَنْ كَانَ مُلْجِئًا أَوْجَبَ الْحِلَّ فَإِذَا وُجِدَ جُزْءٌ مِنْهُ يَصِيرُ شُبْهَةً كَالْمِلْكِ فِي الْجُزْءِ فِي الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ يَصِيرُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُ بِوَطْئِهَا فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ وَلَا يَصِيرُ قِيَامُ الْإِكْرَاهِ شُبْهَةً؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَوْ تَمَّ لَمْ يَحِلَّ لِلْمُكْرَهِ قَتْلُ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ كَمَا بَيَّنَّا. لَكِنَّهُ أَيْ الْقَتْلَ يَنْتَقِلُ بِهِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ عَنْ الْمُكْرَهِ إلَى الْمُكْرِهِ فَإِذَا قَصَّرَ لَا يُؤَثِّرُ فِي نِسْبَةِ الْفِعْلِ إلَى الْمُكْرَهِ وَلَا فِي إبَاحَةِ الْقَتْلِ فَلَا يَصِيرُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ عَنْ الْقَاتِلِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الَّذِي) أَيْ الْقِسْمُ الَّذِي لَا يَسْقُطُ مِنْ الْحُرُمَاتِ وَيَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ فَمِثْلُ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ بِشَرْطِ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ فَإِنَّ هَذَا أَيْ الْإِجْرَاءَ عَلَى اللِّسَانِ ظُلْمٌ فِي أَصْلِ وَضْعِهِ؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَالْكُفْرُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْكَافِرَ ظَالِمًا فِي آيٍ كَثِيرَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ لَكِنَّهُ رَخَّصَ فِي الْإِجْزَاءِ بِالنَّصِّ فِي قِصَّةِ عَمَّارٍ وَقَدْ بَيَّنَّا قِصَّتَهُ وَقِصَّةَ خُبَيْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي بَابِ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ حُرْمَتَهُ أَنَّ حُرْمَةَ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ لَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ؛ لِأَنَّ التَّوْحِيدَ وَاجِبٌ عَلَى الْعِبَادِ إلَى الْأَبَدِ وَهُوَ اعْتِقَادُ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِقْرَارُ بِهَا بِاللِّسَانِ. وَالْكُفْرُ بِاَللَّهِ تَعَالَى حَرَامٌ دَائِمًا إلَى الْأَبَدِ لَا تَسْقُطُ حُرْمَتُهُ بِالْإِكْرَاهِ بَلْ بَقِيَ حَرَامًا مَعَ الْإِكْرَاهِ إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ لِلْعَبْدِ إجْرَاءَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ فِيهِ فَوَاتَ التَّوْحِيدِ صُورَةً لَا مَعْنًى؛ لِأَنَّهُ مُعْتَقِدٌ وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْقَلْبِ وَهُوَ الْأَصْلُ وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ مَرَّةً وَاحِدَةً كَافٍ لِتَمَامِ الْإِيمَانِ وَمَا بَعْدَهَا دَوَامٌ عَلَى ذَلِكَ الْإِقْرَارِ وَبِالْإِجْرَاءِ يَفُوتُ الدَّوَامُ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ خَلَلًا فِي أَصْلِ الْإِيمَانِ لِبَقَاءِ الطُّمَأْنِينَةِ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْإِجْرَاءُ كُفْرًا صُورَةً كَانَ حَرَامًا؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ حَرَامٌ صُورَةً وَمَعْنًى وَلَوْ امْتَنَعَ عَنْهُ يَفُوتُ حَقُّهُ فِي النَّفْسِ صُورَةً وَمَعْنًى فَاجْتَمَعَ هَاهُنَا حَقَّانِ حَقُّ الْعَبْدِ فِي النَّفْسِ وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِيمَانِ فَتَرَجَّحَ حَقُّهُ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَوْ اسْتَوَى الْحَقَّانِ لِشِدَّةِ حَاجَتِهِ وَغَنَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَكَيْفَ إذَا تَرَجَّحَ حَقُّهُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ فِي الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَفُتْ مَعْنًى فَلِهَذَا رُخِّصَ لَهُ الْإِقْدَامُ مَعَ كَوْنِهِ حَرَامًا كَذَا فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ. لَكِنَّهُ الضَّمِيرُ لِلضَّرْبِ دُونَ الْقَتْلِ هُوَ مَصْدَرُ قَتَلَ لَا مَصْدَرُ قَتَّلَ أَيْ الْإِجْرَاءُ عَلَى اللِّسَانِ فِي هَتْكِ حُرْمَةِ الشَّرْعِ وَكَوْنُهُ جِنَايَةً عَلَى حَقِّهِ دُونَ أَنْ يُقْتَلَ الْمُكْرَهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ فَوَاتَ الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى وَفِي الْأُولَى فَوَاتُ الصُّورَةِ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْ الْإِجْرَاءُ وَهَذَا أَيْ الْقَتْلُ فَكَانَ شَهِيدًا لِمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ أَنَّ «الْمُخَيَّرَ فِي نَفْسِهِ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنْ أَبَى الْكُفْرَ حَتَّى يُقْتَلَ» وَلِحَدِيثِ خُبَيْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَكَذَلِكَ هَذَا أَيْ وَكَمَا بَيَّنَّا مِنْ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ هُوَ الْحُكْمُ فِي سَائِرِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى لَوْ أُكْرِهَ بِمَا فِيهِ الْإِلْجَاءُ عَلَى إفْسَادِ الصَّلَاةِ أَوْ عَلَى تَرْكِهَا أَوْ عَلَى إفْسَادِ الصَّوْمِ وَهُوَ مُقِيمٌ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَرَخَّصَ بِمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي نَفْسِهِ يَفُوتُ أَصْلًا وَحَقُّ صَاحِبِ الشَّرْعِ يَفُوتُ إلَى خَلَفٍ فَإِنْ صَبَرَ وَلَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ حَتَّى قُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا؛ لِأَنَّهُ تَمَسَّكَ بِالْعَزِيمَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِالْإِكْرَاهِ وَفِيمَا فَعَلَهُ إظْهَارُ الصَّلَابَةِ فِي الدِّينِ. وَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَى الْإِفْطَارِ مُسَافِرًا فَأَبَى أَنْ يُفْطِرَ حَتَّى قُتِلَ كَانَ آثِمًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لَهُ الْفِطْرَ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] فَعِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ أَيَّامَ رَمَضَانَ فِي حَقِّهِ كَلَيَالِيِهِ وَكَأَيَّامِ شَعْبَانَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَيَكُونُ آثِمًا فِي الِامْتِنَاعِ بِمَنْزِلَةِ الْمُضْطَرِّ فِي فَصْلِ الْمَيْتَةِ بِخِلَافِ الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ

وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إذَا أُكْرِهَتْ عَلَى الزِّنَا بِالْقَتْلِ أَوْ الْقَطْعِ رُخِّصَ لَهَا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَعَرُّضٌ لِحَقٍّ مُحْتَرَمٍ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَعْنَى الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ عَنْهَا لَا يَنْقَطِعُ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّهَا إذَا أُكْرِهَتْ عَلَى الزِّنَا بِالْحَبْسِ أَنَّهَا لَا تُحَدُّ؛ لِأَنَّ الْكَامِلَ يُوجِبُ الرُّخْصَةَ فَصَارَ الْقَاصِرُ شُبْهَةً بِخِلَافِ الرَّجُلِ فَصَارَ هَذَا الْقِسْمُ قِسْمَيْنِ قِسْمُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الْإِيمَانِ الْقَائِمِ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِحَالٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقِيدَةِ ضَرُورَةٌ لَمْ تَحْتَمِلْ الرُّخْصَةُ بِالتَّبْدِيلِ وَدَخَلَتْ الرُّخْصَةُ فِي الْأَدَاءِ لِلضَّرُورَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِأَنَّ الصَّوْمَ فِي حَقِّهِ عَزِيمَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَالْفِطْرُ لَهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ رُخْصَةٌ فَإِنْ تَرَخَّصَ بِالرُّخْصَةِ فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ تَمَسَّكَ بِالْعَزِيمَةِ فَهُوَ أَفْضَلُ لَهُ. قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَمِثْلُ إفْسَادِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى اسْتِهْلَاكُ أَمْوَالِ النَّاسِ يُرَخَّصُ فِيهِ أَيْ اسْتِهْلَاكِهَا بِالْإِكْرَاهِ التَّامِّ دُونَ الْقَاصِرِ حَتَّى لَوْ قِيلَ لَهُ لَنَقْتُلَنَّكَ أَوْ لَتَأْخُذَنَّ مَالَ هَذَا الرَّجُلِ فَتَدْفَعُهُ إلَيَّ أَوْ تَرْمِيهِ فِي مُهْلِكَةٍ كَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ فَوْقَ حُرْمَةِ الْمَالِ فَاسْتَقَامَ أَنْ يَجْعَلَ الْمَالَ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ وَإِنْ كَانَ مَالُ الْغَيْرِ بِخِلَافِ طَرَفِ الْغَيْرِ حَيْثُ لَا يَسْتَقِيمُ جَعْلُهُ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ مُبْتَذَلٌ فِي نَفْسِهِ وَالْحُرْمَةُ لِحَقِّ الْغَيْرِ وَلِهَذَا يُبَاحُ بِإِبَاحَتِهِ فَأَمَّا الطَّرَفُ فَمُحْتَرَمٌ احْتِرَامَ النَّفْسِ وَلِهَذَا لَا يُبَاحُ قَطْعُهُ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ فَلَا يَصْلُحُ جَعْلُهُ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ وَلَكِنَّ أَخْذُ الْمَالِ ظُلْمٌ يَعْنِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ الصَّبْرُ عَنْهُ كَمَا فِي مَالِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لِلِابْتِذَالِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَحُرْمَتُهُ دُونَ حُرْمَةِ النَّفْسِ لَكِنَّ أَخْذَ مَالِ الْغَيْرِ وَإِتْلَافِهِ ظُلْمٌ وَعِصْمَةُ صَاحِبِ الْمَالِ فِي الْمَالِ قَائِمَةٌ أَيْ عِصْمَتُهُ لِأَجْلِ صَاحِبِ الْمَالِ بَاقِيَةٌ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ لِلْحَاجَةِ وَحَاجَتُهُ إلَيْهِ بَاقِيَةٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَبَقِيَ الْمَالُ حَرَامَ التَّعَرُّضِ فِي نَفْسِهِ لِبَقَاءِ دَلِيلِ الِاحْتِرَامِ. وَالرُّخْصَةُ مَا يُسْتَبَاحُ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرَّمِ أَيْ يُعَامَلُ بِهِ مُعَامَلَةَ الْمُبَاحِ فَإِذَا صَبَرَ عَنْ التَّعَرُّضِ حَتَّى قُتِلَ فَقَدْ بَذَلَ نَفْسَهُ لِدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ مَالِ الْغَيْرِ وَلِإِقَامَةِ حَقٍّ مُحْتَرَمٍ وَهُوَ حَقُّ صَاحِبِ الْمَالِ فَصَارَ شَهِيدًا وَأَلْحَقَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاسْتِثْنَاءَ بِهَذَا الْجَوَابِ فَقَالَ كَانَ مَأْجُورًا إنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّمَا قَيَّدَ بِالِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ فِيهِ نَصًّا بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا قَالَهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَلَيْسَ هَذَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ الْأَخْذِ هَاهُنَا لَا يَرْجِعُ إلَى إعْزَازِ الدِّينِ فَلِهَذَا قَيَّدَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ) أَيْ وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ الْمَرْأَةُ إذَا أُكْرِهَتْ عَلَى الزِّنَا بِالْقَتْلِ أَوْ بِالْقَطْعِ رُخِّصَ لَهَا فِي ذَلِكَ أَيْ فِي التَّمْكِينِ مِنْ الزِّنَا حَتَّى سَقَطَ الْحَدُّ وَالْإِثْمُ عَنْهَا وَلَوْ صَبَرَتْ كَانَتْ مَأْجُورَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْ تَمْكِينَهَا مِنْ الزِّنَا تَعَرُّضٌ لِحَقٍّ مُحْتَرَمٍ فِي الْمَحَلِّ لِصَاحِبِ الشَّرْعِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ حُقُوقِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَيَكُونُ حَرَامًا وَلَيْسَ فِي التَّمْكِينِ مَعْنَى الْقَتْلِ الَّذِي هُوَ الْمَانِعُ مِنْ التَّرَخُّصِ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ لِمَا ذَكَرَ فَيَثْبُتُ التَّرَخُّصُ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ الْكَامِلِ وَلِهَذَا أَيْ وَلِأَنَّ الْإِكْرَاهَ الْكَامِلَ فِي جَانِبِهَا يُوجِبُ التَّرَخُّصَ صَارَ الْقَاصِرُ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ أَوْ بِالْقَيْدِ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْهَا كَمَا فِي شُرْبِ الْخَمْرِ بِخِلَافِ الرَّجُلِ فَإِنَّ الْكَامِلَ لَمَّا لَمْ يُوجِبْ التَّرَخُّصَ فِي حَقِّهِ لَا يَصِيرُ الْقَاصِرُ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهُ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْقَتْلِ وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَسْقُطَ الْحَدُّ عَنْهُ بِالْكَامِلِ أَيْضًا كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الرَّجُلِ إلَّا بِانْتِشَارِ الْآلَةِ وَذَلِكَ دَلِيلُ الطَّوَاعِيَةِ فَإِنَّ الِانْتِشَارَ لَا يَحْصُلُ عِنْدَ الْخَوْفِ بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّ التَّمْكِينَ يَتَحَقَّقُ مِنْهَا مَعَ الْخَوْفِ فَلَا يَكُونُ تَمْكِينُهَا دَلِيلَ الطَّوَاعِيَةِ. إلَّا أَنَّ فِي الِاسْتِحْسَانِ يَسْقُطُ كَمَا رَجَعَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ قَوْلُهُمَا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ مَشْرُوعٌ لِلزَّجْرِ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُنْزَجِرًا إلَى أَنْ تَحَقَّقَ الْإِكْرَاهُ وَخَوْفُ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنَّمَا قَصَدَ بِالْإِقْدَامِ دَفْعَ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ لَا اقْتِضَاءَ الشَّهْوَةِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ بِشُبْهَةٍ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُ وَانْتِشَارُ الْآلَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْخَوْفِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ طَبْعًا بِالْفُحُولِيَّةِ الْمُرَكَّبَةِ فِي الرِّجَالِ وَقَدْ يَكُونُ طَوْعًا أَلَا يَرَى أَنَّ النَّائِمَ قَدْ تَنْتَشِرُ آلَتُهُ طَبْعًا مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ لَهُ وَلَا قَصْدٍ فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ الْخَوْفِ. قَوْلُهُ (فَصَارَ هَذَا الْقِسْمُ) أَيْ الَّذِي لَا يَسْقُطُ وَيَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ قِسْمَيْنِ قِسْمٌ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ أَصْلًا مِثْلُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِيمَانِ الْقَائِمِ أَيْ الْمَوْجُودِ فَإِنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى رُكْنَيْنِ أَحَدُهُمَا الِاعْتِقَادُ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِيهِ وَحُرْمَةُ

وَلَمَّا سَبَقَ أَنَّ أَصْلَ الشَّرْعِ التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ. وَالْأَصْلُ فِيهِ الِاعْتِقَادُ وَالْأَدَاءُ فِيهِ رُكْنٌ ضُمَّ إلَيْهِ فَصَارَتْ عُمْدَةَ الشَّرْعِ وَهُوَ أَسَاسُ الدِّينِ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ وَالتَّعَدِّيَ مِنْ الْبَشَرِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَصَارَ غَيْرُهُ عُرْضَةً لِلْعَوَارِضِ وَمَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ مِنْ جِنْسِ مَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ وَمِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى قِسْمًا آخَرَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِأَصْلِهِ لَكِنَّ دَلِيلَ السُّقُوطِ لَمَّا لَمْ يُوجَدْ وَعَارَضَهُ أَمْرٌ فَوْقَهُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِإِثْبَاتِ الرُّخْصَةِ وَالْعَمَلُ وَجَبَ بِأَصْلِهِ بِأَنْ جُعِلَ أَصْلُهُ عَزِيمَةً وَهَذَا كَمَنْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ حُلَّ لَهُ تَنَاوُلُ طَعَامِ غَيْرِهِ رُخْصَةً لَا إبَاحَةً مُطْلَقَةً حَتَّى إذَا تَرَكَ فَمَاتَ كَانَ شَهِيدًا بِخِلَافِ طَعَامِ نَفْسِهِ وَإِذَا اسْتَوْفَاهُ ضَمِنَهُ لِكَوْنِهِ مَعْصُومًا فِي نَفْسِهِ وَذَلِكَ مِثْلُ تَنَاوُلِ مَحْظُورِ الْإِحْرَامِ عَنْ ضَرُورَةٍ بِالْمُحْرِمِ أَنَّهُ يُرَخَّصُ لَهُ وَيَضْمَنُ الْجَزَاءَ فَكَذَلِكَ هَهُنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQتَبْدِيلِهِ بِضِدِّهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِوَجْهٍ وَلَا يَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ الدَّاعِيَةَ إلَى التَّرَخُّصِ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ لِعَدَمِ احْتِمَالِهِ التَّعَدِّي مِنْ الْبَشَرِ. وَالرُّكْنُ الثَّانِي الْأَدَاءُ وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ وَحُرْمَةُ تَبْدِيلِهِ بِضِدِّهِ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ أَيْضًا وَلَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّرَخُّصَ لِاحْتِمَالِهِ التَّعَدِّي مِنْ الْبَشَرِ فَهَذَا الرُّكْنُ هُوَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ الْمَذْكُورِينَ وَالثَّانِي مِنْهُمَا مَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ فِي نَفْسِهِ وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ دَلِيلُ السُّقُوطِ بَقِيَ فَعِنْدَ الضَّرُورَةِ يَثْبُتُ التَّرَخُّصُ فِيهِ مَعَ بَقَاءِ الْحُرْمَةِ وَذَلِكَ مِثْلُ حُقُوقِ الْعِبَادِ وَمَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَحُرْمَةِ تَرْكِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَإِنَّهَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ فِي ذَاتِهَا كَمَا سَقَطَتْ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ دَلِيلُ السُّقُوطِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ بَقِيَتْ فَتَثْبُتُ الرُّخْصَةُ مَعَ بَقَاءِ الْحُرْمَةِ وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ الرُّكْنَ الْأَوَّلَ مِنْ إيمَانٍ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ رُخْصَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقِسْمَ فِي بَيَانِ مَا لَا يَحْتَمِلُ التَّرَخُّصَ مَعَ تَحْقِيقِ الضَّرُورَةِ وَهَذَا الرُّكْنُ لَا يَحْتَمِلُ التَّرَخُّصَ لِعَدَمِ احْتِمَالِهِ التَّعَدِّي مِنْ الْبَشَرِ الْمُؤَدِّي إلَى الضَّرُورَةِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ الْقِسْمِ وَلِمَا سَبَقَ بِكَسْرِ اللَّامِ وَلِأَنَّ فِيهِ أَيْ فِي الْإِيمَانِ رُكْنًا ضُمَّ إلَى الِاعْتِقَادِ أَيْ هُوَ رُكْنٌ زَائِدٌ وَصَارَ غَيْرُهُ أَيْ غَيْرُ الِاعْتِقَادِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ وَعَارَضَهُ أَيْ هَذَا الْقِسْمَ أَمْرٌ آخَرُ فَوْقَهُ وَهُوَ تَلَفُ النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ أَيْ بِالْأَمْرِ الَّذِي فَوْقَهُ وَهُوَ صِيَانَةُ النَّفْسِ عَنْ التَّلَفِ وَالْعَمَلُ وَجَبَ بِأَصْلِهِ أَيْ بِأَصْلِ الْحَقِّ بِإِبْقَاءِ الْحُرْمَةِ وَهَذَا أَيْ إبْقَاءُ الْعَزِيمَةِ وَإِثْبَاتُ التَّرَخُّصِ بِالْإِكْرَاهِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِثْلَ إثْبَاتِ التَّرَخُّصِ وَإِبْقَاءِ الْعَزِيمَةِ بِالْمَخْمَصَةِ فِيمَنْ اُضْطُرَّ إلَى تَنَاوُلِ طَعَامِ الْغَيْرِ حَيْثُ ثَبَتَ لَهُ التَّنَاوُلُ رُخْصَةً لَا إبَاحَةً مُطْلَقَةً وَلَا يَصِيرُ كَطَعَامِ نَفْسِهِ فِي الْإِبَاحَةِ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ بِالتَّنَاوُلِ لَوْ صَبَرَ كَانَ مَأْجُورًا بِخِلَافِ طَعَامِ نَفْسِهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQقَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ أَدَامَ اللَّهُ عَلَيْهِ عَافِيَتَهُ وَخَتَمَ بِالْخَيْرِ عَاقِبَتَهُ هَذَا آخِرُ مَا يَسَّرَ اللَّهُ لِي مِنْ شَرْحِ مُشْكِلَاتِ هَذَا الْكِتَابِ وَكَشْفِ مُعْضِلَاتِهِ وَوَفَّقَ لِي عَلَى حِلِّ عُقَدِهِ وَفَسْرِ مُجْمَلَاتِهِ فَبَذَلْت مَجْهُودِي فِي تَصْحِيحِ أَلْفَاظِهِ وَتَنْقِيحِ مَعَانِيهِ وَأَنْجَزْت مَوْعِدِي فِي تَشْيِيدِ قَوَاعِدِهِ وَتَمْهِيدِ مَبَانِيهِ وَاجْتَهَدْت فِي إيضَاحِ مَا اسْتَبْهَمَ مِنْ خَفَايَاهُ بِتَفْسِيرٍ كَاشِفٍ عَنْ أَسْرَارِهَا وَبَالَغْت فِي إفْصَاحِ مَا اسْتَعْجَمَ مِنْ خَبَايَاهُ بِبَيَانٍ رَافِعٍ لِأَسْتَارِهَا بَعْدَ مُطَالَعَاتٍ طَوِيلَةٍ لِكُتُبِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ السَّلَفِ وَمُرَاجَعَاتٍ كَثِيرَةٍ إلَى الْمُدَقَّقَيْنِ فِي فُحُولِ الْخَلَفِ فِي طَلَبِ مَا يُزِيلُ الْإِغْفَالَ وَتَحْصِيلِ مَا يُزِيحُ الْإِشْكَالَ. وَقَدْ كَانَ يَهْجِسُ فِي قَلْبِي وَيَدُورُ فِي خُلْدِي مِنْ قَدِيمِ الدَّهْرِ أَنْ أَكْتُبَ لِهَذَا الْكِتَابِ شَرْحًا شَافِيًا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُتَنَبِّهُ الْمُبْتَدِئُ وَيَرْجِعُ إلَيْهِ الْمُنَبِّهُ الْمُنْتَهِي وَكَانَ يُثَبِّطُنِي عَنْ ذَلِكَ قِلَّةُ الْبِضَاعَةِ وَيَمْنَعُنِي عَنْهُ عِرْفَانِي أَنِّي لَسْت مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ حَتَّى أَفْضَى بِهِ قَضَاءُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ إلَى أَنْ شَرَعْت فِي هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي يَحَارُ فِيهِ نَحَارِيرُ الْعُلَمَاءِ وَيَقْصُرُ دُونَهُ خَطْوُ الْفُصَحَاءِ وَالْبُلَغَاءِ فَتَيَسَّرَ لِي هَذَا الْأَمْرُ الْعَظِيمُ بِفَضْلِ اللَّهِ وَطَوْلِهِ وَاسْتَتَمَّ هَذَا الْخَطْبُ الْجَسِيمُ بِقُوَّتِهِ وَحَوْلِهِ وَوَصَلْت إلَى مَا قَصَدْت بِبِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ وَوَفَّيْت بِمَا عَلَيْهِ عَقَدْت بِجُودِهِ وَامْتِنَانِهِ فَبَرَزَ مُصَنَّفِي هَذَا خَرِيدَةً حَسْنَاءَ أَرْسَلْتهَا إلَى خُطَّابِهَا وَفَرِيدَةً زَهْرَاءَ أَهْدَيْتهَا إلَى طُلَّابِهَا وَتُحْفَةً لِلْأَصْحَابِ أَبْهَى مِنْ الدُّرِّ وَالْجَوْهَرِ وَهَدِيَّةً إلَى الْأَحْبَابِ أَزْكَى مِنْ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ لِاحْتِوَائِهِ عَلَى حَقَائِقِ الْمَعَانِي الْفِقْهِيَّةِ وَانْطِوَائِهِ عَلَى دِقَاقِ اللَّطَائِفِ الْمَلِيَّةِ وَاطِّلَاعِهِ عَلَى خَفِيَّاتٍ لَمْ يُفْطَنْ قَبْلُ بِمَسَالِكِهَا وَمَنَاهِجِهَا وَإِبْرَازِهِ عَنْ مُهِمَّاتٍ لَمْ يُفْطَنْ بِمَدَاخِلِهَا وَمَخَارِجِهَا فَمَنْ أَحَاطَ بِمَا ضُمِّنَ فِيهِ مِنْ اللَّطَائِفِ الْغَرِيبَةِ وَأَتْقَنَ مَا بُيِّنَ فِيهِ مِنْ الطَّرَائِفِ الْعَجِيبَةِ تَبَيَّنَّ لَهُ فِي الْخِطَابِ مِنْهَاجُ التَّحْقِيقِ وَسَهُلَ عَلَيْهِ فِي تَخْرِيجِ الصِّعَابِ سُلُوكُ مَسَالِكِ التَّدْقِيقِ. وَهَذَا وَإِنِّي وَإِنْ بَذَلْت طَاقَتِي فِي التَّهْذِيبِ وَالتَّنْقِيحِ وَحَرَّفْت هِمَّتِي إلَى التَّوْضِيحِ وَالتَّصْحِيحِ مُتَيَقِّنٌ بِأَنَّ غَيْرِي قَدْ يُطْلِعُ مَا أُخْفِيَ عَلَيَّ مِنْ مَعْنًى أَدَقَّ وَوَجْهٍ أَحَقَّ وَتَفْسِيرٍ أَوْضَحَ وَتَقْرِيرٍ أَفْصَحَ وَمُعْتَرِفٌ بِأَنَّ بَعْضَ الْآحَادِ فَضْلًا عَنْ الْأَفْرَادِ قَدْ يَقِفُ فِيهِ عَلَى عَثَرَاتٍ أَوْ يَعْثُرُ عَلَى زَلَّاتٍ فَإِنَّ التَّصَوُّنَ عَنْ الْخَطَأِ وَالْخَلَلِ فِي التَّصْنِيفِ وَالتَّحَرُّزَ عَنْ الْهَفْوَةِ وَالزَّلَلِ فِي التَّأْلِيفِ نَجَزَتْ عَنْ إحَاطَتِهِ الْقُوَى وَالْقَدَرُ وَيَعْجِزُ عَنْهُ كَافَّةُ الْبَشَرِ إلَّا مَنْ اُخْتُصَّ بِالْهِدَايَةِ إلَى مَسَالِكِ الرُّشْدِ وَالسَّدَادِ وَالْوِقَايَةِ عَنْ مَهَالِكِ الْغَيِّ وَالْفَسَادِ فَالْمُتَوَقَّعُ مِمَّنْ نَظَرَ فِيهِ وَعَثَرَ عَلَى مَا لَا يَرْتَضِيهِ أَنْ يَكُونَ عَاذِرًا لَا عَاذِلًا وَنَاصِرًا لَا خَاذِلًا فَيَسْعَى فِي إصْلَاحِ مَا عَثَرَ عَلَيْهِ مِنْ الْفَسَادِ مُتَجَنِّبًا فِي ذَلِكَ طَرِيقَ التَّحَاسُدِ وَالْعِنَادِ رَاجِيًا حُسْنَ الثَّوَابِ مِنْ الْمَلِكِ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ. وَأَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ الَّذِي شَمِلَ إحْسَانُهُ كَافَّةَ الْبَرَايَا وَالرَّبَّ الْكَرِيمَ الَّذِي عَمَّ غُفْرَانُهُ جَمِيعَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا أَنْ يَجْعَلَ مَا قَاسَيْت فِي هَذَا التَّصْنِيفِ وَعَانَيْت فِي هَذَا التَّأْلِيفِ مُوجِبًا لِلثَّنَاءِ الْجَمِيلِ فِي الدُّنْيَا وَسَبَبًا لِلثَّوَابِ الْجَزِيلِ فِي الْعُقْبَى وَأَنْ يَحْفَظَنَا مِنْ اخْتِلَالِ الْآرَاءِ وَيَعْصِمَنَا مِنْ اتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ وَأَنْ يَجْعَلَ مَطْرَحَ أَبْصَارِنَا كَمَالَ ذَاتِهِ وَمَسْرَحَ أَفْكَارِنَا جَلَالَ صِفَاتِهِ وَيُصَيِّرَنَا مِنْ الذَّاكِرِينَ لِقَسْمِهِ وَالشَّاكِرِينَ لِنِعَمِهِ وَيَجْعَلَ مَرَاتِعَنَا رِيَاضَ الْيُمْنِ وَالْكَرَامَةِ وَمَشَارِعَنَا حِيَاضَ الْأَمْنِ وَالسَّلَامَةِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَمَنِّهِ وَرَأْفَتِهِ إنَّهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَأَكْرَمُ الْغَافِرِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ أَجْمَعِينَ.

§1/1