كيف تصبح عالما

راغب السرجاني

كيف تصبح عالما [1]

سلسلة كيف تصبح عالماً [1] العلم أعظم دعامة لقيام الأمم، فحين اهتم المسلمون الأوائل بالعلم سادوا الأمم، وحين تخلى المسلمون عن العلم قادهم وسادهم غيرهم من الأمم الكافرة، فهذه دعوة إلى الاهتمام بالعلم والقيام بإحيائه في الأمة بنوعيه: العلم الشرعي، والعلم الحياتي؛ حتى تستعيد الأمة الإسلامية مجدها وسيادتها على الأمم.

مقدمة في أهمية الصبر في طلب العلم وغيره

مقدمة في أهمية الصبر في طلب العلم وغيره أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين. موضوع الحديث اليوم أعتبره من أهم الموضوعات التي يجب أن تنشغل بها الأمة، ولكن قبل البداية أحب أن أقدم مقدمة لا بد منها. يجب على الإنسان أن يقف ويتفكر ويتدبر في كل الأحداث التي مرت قبل ذلك بأمتنا ليخرج منها بالعبرة، واسألوا أنفسكم: لماذا نزلت الرسالة النبوية في بلد كمكة؟ ولماذا هاجر صلى الله عليه وسلم إلى بلد كالمدينة، والجو -كما تعلمون- حار والصحراء قاحلة والمياه نادرة والهواء ساخن؟ نحن لا نستطيع أن نتحمل إلا بضعة أيام نقضيها في العمرة أو في الحج مع وجود المكيفات والمراوح ووسائل الرفاهية الكثيرة، فهذا يدل على أن الدعوة والأمة لا تنشأ إلا في جو صعب يربي الناس تربية قوية راسخة على تحمل المشاق في سبيل الله عز وجل، ونحن الآن وقوف في صلاة مع رب العالمين سبحانه وتعالى، نسمع كلامه ونتوجه إليه بدعائنا، ومع ذلك ننشغل أحياناً بالحر وقطرات العرق الخفيفة جداً بالقياس إلى ما عاناه الذين بنوا هذه الأمة قبل ذلك، فالتقلبات الجوية من حر وبرد ما كانت تقف أبداً بأي حال من الأحوال أمام عظماء الأمة الذين أقاموا هذا البنيان الضخم، ما كانت تقف أمامهم في جهاد، ولا في صلاة، ولا في طلب علم، ولا في رحلة في سبيل الله لأي غرض يرضي الله عز وجل، وكلنا يعلم أحداث غزوة تبوك، حيث كانت في الحر، وكان الابتلاء فيها شديداً، والمسافة من المدينة المنورة إلى تبوك (700) كيلو متر، ونحن نضجر ونتعب من المكوث ساعة أو ساعتين في مسجد به مراوح وبه بعض المكيفات وفي الليل؛ لأننا لا نتحمل هذا الحر؛ لو عُرض علينا أن نتجه إلى تبوك من المدينة سيراً على الأقدام، أي حال سيكون حالنا؟ هذه وقفة مع النفس، نحن ندرب أنفسنا، نحن لا نحرم المكيفات ولا المراوح وما إلى ذلك من وسائل الترف أو الرفاهية، لا نحرمها إن كانت من حلال وتستخدم في حلال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف:32]، ولكن إذا حُرمنا منها لا نضجر، بل نستكمل مسيرتنا في جهادنا، وفي طلبنا للعلم، وفي عبادتنا، ونحن نرجو ثواب ذلك عند الله عز وجل. هذه الوقفة في هذا الحر لعلها تكون المنجية يوم القيامة، فيوم القيامة يكون الحر شديداً، والعرق غزيراً، فمن الناس من يبلغ عرقه إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً ويغرق في عرقه. وقفة في سبيل الله في هذا الحر قد تنجيك من حر يوم القيامة: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} [التوبة:81] لما قال المنافقون: {لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة:81] كان الرد: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} [التوبة:81]. فالصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم قطعوا هذه المسافات من المدينة إلى تبوك في الحر الشديد، وكذلك فعلوا في البرد الشديد، وكلنا يذكر قول خالد رضي الله عنه عندما قال: ما ليلة تزف إليّ فيها عروس أو أُبشّر فيها بغلام بأحب عندي من ليلة شديدة البرد في سرية من المهاجرين أُصبّح بهم أعداء الله هذه أعظم لياليه، ليلة شديدة البرد شديدة الجليد، لماذا هذه الليلة أحب لياليه؟ لأنها في سبيل الله، يصبّح بها أعداء الله. فهذا المجلس الذي تجلسونه الآن تحفه الملائكة، وتغشاه الرحمة، وتتنزل عليه السكينة، ويذكرنا ربنا سبحانه وتعالى بأسمائنا وأعياننا في ملأ خير من هذا الملأ، أي نعمة هذه؟ إنها نعمة كبيرة فلا تشغلنا قطرات عرق ولا يشغلنا مكيف لا يعمل، ولا تشغلنا مروحة بعيدة في السطح، ولا شدة زحام، ولا كل هذه الأشياء التي أعد الانشغال بها من الترف، والترف مهلك حقيقة، وراجعوا تاريخ الأمم السابقة الهالكة تجدون أنها غالباً ما تكون أمماً مترفة: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء:16]. فالإنسان الذي لا يتحمل الحر ولا الجوع ولا البرد ولا الفقر ولا طول المسافات هذا إنسان قد يبيع كل شيء في سبيل ترفه وفي سبيل شهوته ودنياه، وقد يبيع دينه في سبيل ترفه هذا، فعلينا أن ندرب أنفسنا، فنحن في مجلس عظّم الله عز وجل أجره وثوابه، وهذا المجلس بالذات مجلس العلم هو محور حديثنا في هذه الأيام المقبلة؛ لذلك وجب التنبيه على أهمية الصبر والتصبر في مثل هذه المجالس التي تحفها الملائكة.

العلم ودوره في بناء الأمة

العلم ودوره في بناء الأمة كلنا يشاهد ما يحدث لأمة الإسلام هنا وهناك، وجلسنا في هذا المجلس في هذا المسجد منذ شهور نتحدث عن مصابنا في حبيبنا صلى الله عليه وسلم، عندما رسمه الرسامون الدنماركيون بما رسموه، وجلسنا أيضاً في هذا المسجد قبل ذلك نتحدث عن الحصار الذي قام به أعداء الأمة لحماس عندما صعدت إلى الحكم في فلسطين، وجلسنا قبل ذلك بشهور وسنوات نتحدث عن أزمات مشابهة مرت في فلسطين وفي لبنان وفي العراق وفي أفغانستان وفي السودان وفي الشيشان، وهكذا، والآن سمعنا ما تحدث به البابا، {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118] تتوالى الضربات للأمة الإسلامية فلا بد من وقفة، لا بد أن نعرف ماذا يحدث؟ كنا قد حللنا أسباب ضعف الأمة الإسلامية التي تجرأ عليها عدوها بهذه الصورة في محاضرات سابقة. وسآخذ مرضاً واحداً من هذه الأمراض وأظن أننا لو عالجناه لكانت البداية صحيحة إن شاء الله رب العالمين، أنا منشغل هذه الأيام وقبلها بدراسة كيف تُبنى الأمم؛ سواء كانت هذه الأمم إسلامية أو غير إسلامية، هناك بعض الفروقات بين أمة الإسلام وغيرها من الأمم وهي فروق هامة، لكن هناك قواعد عامة تطبق على كل الأمم، كيف تُبنى الأمم؟ كيف تتحول أمة ضعيفة إلى أمة قوية؟ كيف تتحول أمة تابعة إلى أمة متبوعة؟ كيف ترفع أمة عن كاهلها الظلم والاستبداد والقهر؟ كيف بُنيت أمة الإسلام؟ وكيف بُنيت الأمم المعاصرة لنا من غير أمة الإسلام؟ سأراجع في هذه الدراسة الدول المعاصرة لنا إسلامية كانت أو غير إسلامية، التي تحولت في خلال خمسين سنة أو ستين سنة من دولة ضعيفة فقيرة مهيضة الجناح إلى دولة قوية لها كلمة مسموعة في العالم، ندرس في هذه التجارب مثلاً: تجربة كوريا الجنوبية، تجربة اليابان، تجربة ألمانيا، تجربة أمريكا، تجربة ماليزيا، تجربة إيران، بل ندرس تجربة إسرائيل التي زُرعت في باطن البلد الحبيب فلسطين، نسأل الله عز وجل أن يحررها كاملة. هناك عوامل مختلفة كثيرة تؤدي إلى بناء أمة، منها على سبيل المثال لا الحصر: القوة، فالبلاد التي مُكّنت في الأرض ورفعت رأسها بلاد قوية في الأغلب، لكن هناك بلاد ضعيفة أيضاً عسكرياً ومع ذلك لها كلمة مسموعة، هناك الوحدة في الصف سواء في الدولة الواحدة أو بين أكثر من دولة، هناك الشورى أو عندهم الديمقراطية، هناك الأخلاق الحسنة، هناك الانتماء إلى البلد الذي يعيشون فيه، هناك عوامل مختلفة، لكن كل هذه العوامل لا يستقيم لها أن تبني أمة إلا بأساس هام جداً واحد، للأسف الشديد هذا العامل تفتقده الأمة الإسلامية الآن، وإن اكتسبته الأمة الإسلامية كما أمر به الشرع الحنيف، فإنها بإذن الله تبدأ أول الطريق، هذا العامل هو العلم. لا توجد دولة من الدول القوية التي رفعت رأسها في العالم وحسّنت من اقتصادها وقويت شوكتها واستُمع إلى كلمتها متخلفة في مجال العلوم. فالعلم أصل يجمع كل هذه الدول، وليس في هذا أي تعارض مع ديننا، بل تدبروا وتفكروا في ديننا، وأنا أهتم جداً بالإحصائيات والأرقام، وأهتم جداً بأوائل الأشياء، فما بالكم لو كانت هذه الأرقام وهذه الأوائل من الأشياء في كتاب ربنا وفي سنة حبيبنا صلى الله عليه وسلم، وفي سيرته العطرة عليه وعلى الأنبياء أفضل الصلاة والتسليم؟!

منزلة العلم في الإسلام

منزلة العلم في الإسلام لابد أن نقف وقفة ونتفكّر: لماذا كان أول شيء نزل في هذه الرسالة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5]؟ تدبروا وتفكروا، فالقرآن الكريم أكثر من ستة آلاف آية، من كل هذه الآيات اختار ربنا سبحانه وتعالى أن يكون مفتاح هذا الدين والبداية والأساس الذي تُبنى عليه الأمة هذه الآيات الخمس، تكررت في هذه الآيات الخمس كلمة العلم بمشتقاتها ثلاث مرات، وتكررت كلمة القراءة مرتان، وجاءت كلمة القلم مرة، كل هذا في خمس آيات قصيرة، ألا يُعطي لنا هذا التركيز انطباعاً؟ أليس من المحرج جداً لهذه الأمة أن تكون في ذيل المتعلمين والعلماء في العالم الآن، وهي التي افتُتح دستورها بهذه الآيات الخمس؟! هذا أمر يحتاج إلى وقفة حقيقية، وغريب أن تنزل هذه الآيات الخمس أول ما تنزل على رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولم يقرأ ولم يكتب طيلة حياته، والله عز وجل يعلم ذلك تماماً، ومع ذلك نزلت الآيات لتلفت الأنظار إلى أهم ما في هذا الدين وهو العلم، في الحقيقة هذا أهم ما في هذا الدين، وبعض الناس قد يعقد مقارنات مع الأخلاق وهي هامة، ومع العقيدة وهي أيضاً هامة، ومع الجهاد في سبيل الله وهو هام، وسنذكر الآن أن العلم يسبق هذه الأمور، العلم ضروري لكي تعمل كل هذه الأمور بشكل صحيح، فلو أنك أسست بيتاً وجئت فيه بثلاجة وبوتاجاز ومروحة وغير ذلك من أدوات المنزل الكهربائية، ثم لم تأت بالكهرباء ولم تأت بالغاز، كل هذه الأشياء الجميلة لا قيمة لها بالمرة ولا معنى لها، وبغير العلم لا قيمة للأخلاق، وبغير العلم لا قيمة للجهاد في سبيل الله، بل إن العقيدة تحتاج إلى علم، فقد قال ربنا سبحانه وتعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] فالعقيدة تحتاج إلى علم؛ لأن الذين عبدوا الله عز وجل بظن ولم يعبدوه بعلم ضلوا وأضلوا، فوصل بهم جهلهم إلى عبادة أحجار من دون الله، ووصل بهم جهلهم إلى عبادة أبقار من دون الله، ووصل بهم جهلهم إلى عبادة بشر من دون الله، هذا هو الجهل وهذا هو العلم، وهذه قيمة العلم. إذاً: نزول هذه الآيات على رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو أمي لا يكتب ولا يقرأ تلفت النظر إلى قيمة العلم، ونزلت هذه الآيات أيضاً في بيئة كبيئة العرب التي اشتُهرت بالأمية، ففي ذلك الوقت كانت أمة لا تكتب ولا تقرأ إلا أقل القليل، وكانوا متخلفين في معظم العلوم، اللهم إلا الشعر والبلاغة واللغة، ومن هنا جاء القرآن الكريم ليتحداهم في هذا المجال، لكن في معظم العلوم الأخرى كانوا في حالة جهل كبير جداً، لدرجة أن الله عز وجل سمى الفترة التي تسبق الإسلام بالجاهلية فقال: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة:50]، فالفترة التي سبقت الإسلام كانت فترة جهل، والتي بعد الإسلام فترة علم. فالإسلام ثورة علمية حقيقية، وتغيير كامل لمنهج الأمة التي كانت تعيش في هذه البقاع، ونقلة هائلة من أمة جاهلة لا تكتب ولا تقرأ ولا تخترع ولا تسبق غيرها، ولا تفكّر إلا في التبعية لفارس أو الروم أو غيرهما، من أمة جاهلة إلى دولة رائدة قوية تنشر الحق والعدل والإسلام والتوحيد في مشارق الأرض ومغاربها. أول خمس آيات تتحدث عن العلم، ولم يكن هذا فقط في الآيات الأولى من القرآن الكريم، بل كان مستمراً في كل الآيات، فقد قمت بإحصائية لكلمة العلم بمشتقاتها في القرآن الكريم ففوجئت مفاجئة كبيرة جداً، حيث إن كلمة العلم هي أكثر كلمة جاءت في كتاب الله عز وجل بعد لفظ الجلالة، وهذه إحصائية لها مغزى ولها معنى، فالتركيز على كلمة العلم بهذه الصورة ليس أمراً عشوائياً أبداً، حاشا لله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] كل كلمة محسوبة، وكل كلمة في مكانها العلم بمشتقاته أتى في القرآن (779) مرة بالضبط، والقرآن الكريم عدد سوره (114) سورة، فيكون العلم قد ذكر أكثر من (7) مرات في السورة الواحدة، قد تأتي في سور أكثر وفي سور أخرى أقل، لكن المتوسط سبع مرات في السورة، فأي تكريم للعلم؟! فالعلم بهذا المعنى هو أساس حقيقي لبناء الأمة، وأساس حقيقي لدخول الجنة: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة) فكل منكم أتى من مكان معين بعيداً كان أو قريباً، فمشوارك إلى هنا هذا طريق للجنة، وصبرك في هذا المكان هو صبر لدخول الجنة؛ لما جاء تصريحاً في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة). إذاً: أول ما نزل من القرآن يختص بالعلم، وأكثر كلمة بعد لفظ الجلالة هي العلم بمشتقاته، فأول ما خلق آدم عل

أنواع العلم

أنواع العلم العلم نوعان كما ذكرنا منذ قليل: علم شرعي، وعلم حياتي. وهذه العلوم الشرعية والحياتية تنقسم بدورها إلى نوعين: علم فرض عين، وعلم فرض كفاية. فرض عين، أي: يتعين على المسلم أن يعرفه، وفي بعض العلوم الشرعية يتعين علينا جميعاً أن نعرفها، يتعين علينا جميعاً أن نعتقد في الله اعتقاداً صحيحاً، وأن نعلم أنه قادر وحكيم وخبير، وأن نعلم أن رسولنا صلى الله عليه وسلم قد بُعث بالحق، وقد بلغ عن ربه وما كتم شيئاً، وأن نعلم كيف نصلي وكيف نصوم وكيف نزكي، وما الذي ينقض صلاتنا، وما الذي ينقض صيامنا، وما الذي يجعل زكاتنا غير متقبلة أو غير صحيحة، وما الذي يجب أن نعرفه في أمور العمرة والحج لمن يعتمر أو يحج، وأمور الحلال والحرام، وبعض الدقائق لبعض المتخصصين. فمثلاً: لو أنك تاجر لا بد أن تعرف فقه التجارة؛ حتى لا تقع في حرام وأنت لا تعرف، ولو أنك طبيب لا بد أن تعرف فقه الطب الذي تعالج به؛ لئلا تضع المريض في حرج شرعي وأنت لا تعلم وهكذا، هنا فرض عين على بعض المسلمين الذي إذا تخصص في مجال لا بد أن يُبدع فيه. أما فرض الكفاية فهو إن قام به بعض أفراد الأمة كفى عن الآخرين، وعلى سبيل المثال: الهندسة فرض كفاية، لا بد للأمة أن تُخرج من أبنائها عدداً من المهندسين يكفون حاجتها، إن أخرجت الأمة هذا العدد رُفع الإثم عن الأمة ونجت في هذه النقطة، وإن نقص عدد المهندسين في البلد المسلم أثم الجميع، حتى يُخرج العدد الكافي للبلد وبهذا المفهوم ما أكثر الآثام التي توضع على أكتافنا؛ لأننا أحياناً نفكر في العلوم كعلوم شرعية فقط، مع أن العلوم الحياتية لا بد أن توضع في الصورة مع العلوم الشرعية، وسنفرد لها بإذن الله محاضرة خاصة. الشاهد من الأمر أنه يتعين عليك نوعان من العلوم: علم عام لا بد أن يعرفه الجميع، وعلم خاص في مجال تخصصك، من هذا المنطلق لا يستقيم لطالب أن يكون فاشلاً في مجاله وهو يطلب العلو والسمو لأمة الإسلام، ويدعو الله مبتهلاً أن تُرفع الغمة، وأن يُرفع الاحتلال وأن تسود الأمة ويُحكم بالقرآن، ثم هو متخلف في مجال صنعته ومهنته، أو في علمه الذي وكّل به. فهذا العلم فرض عين عليه في هذا الوقت، فالمهندس لا بد أن يكون عالماً بهندسته، والكيميائي كذلك، والمدرس كذلك، والطبيب كذلك، وكل مهنة إن كنت ضعيفاً فيها فأنت من أسباب ضعف الأمة بصفة عامة، وأنت آثم تحمل إثماً كبيراً بحجم التقصير الذي قصّرت فيه. وإن فشلت الأمة كما ذكرنا في إخراج العلماء الذين يكفون حاجتها أثمت الأمة بكاملها، وتخلفت عن ركب الحضارة، وقادها غيرها ووقعت في الأزمات والمشاكل، وسقطت من عيون الآخرين، فانتهكوا حرماتها واحتلوا أراضيها، وسلبوا ثرواتها، وضاعت الأمم بين أقدام الغزاة. هذه الدروس ليست دروس موعظة، ولكنها دروس بناء للأمة، تحتاج أن تأخذ المعلومة وتنطلق للعمل بسرعة، فالموت يأتي بغتة، ولو ضاع من العمر قبل ذلك عشر أو عشرون أو ثلاثون سنة في غير علم فابدأ الآن في مجال تخصصك، وليس هناك شيء اسمه انتهى من البكالوريوس ووقف عند ذلك، هناك شيء اسمه دراسات عليا، هناك ماجستير ودكتوراه وتفوق وإبداع، وهناك سبق واختراع، وهناك قيادة للآخرين، تذكروا قصة الدنمارك والمقاطعة مع الدنمارك وجميعنا قاطع الدنمارك والحمد لله، لكن الدنمارك تصنع جبناً وزبدة، وليس من المشكلة أن نقاطعها فعندنا بدائل كثيرة، كنت قد سألتكم سؤالاً: ماذا لو كانت الصور التي رُسم فيها حبيبنا صلى الله عليه وسلم ظهرت في مجلات وجرائد الصين؟ من كان يجرؤ على رفع شعار: فلنقاطع الصين؟ صعب جداً، فحياتنا معتمدة على الصين الآن، وكل شيء من الصين في هذا الوقت، حتى فوانيس رمضان -وكل سنة وأنتم طيبون- تأتي من الصين، وبأغانيها الإسلامية، السجاد من الصين وعليها كتابات إسلامية، ساعة الأذان من الصين، يقول أحدهم وهو يتكلم بجدية: الحمد لله أن الله سخّرهم لنا، فهم يصنعون لنا كل شيء! وهو سعيد بهذا أيضاً، أقول: هذا ضعف شديد في الفهم، فهو أيضاً عندما يصنع لك هذا، فإنه يصنع سلاحاً وأنت لا تصنع، ويصنع كمبيوتراً وأنت لا تصنع، ويصنع طائرة وأنت لا تصنع، ما الذي ستفعله لو قاطعك هو؟! إذاً: فالذي نعطيه للبشرية كلها هو العلم، ونعلو فوق البشرية ونقودها بهذا العلم، وعلمنا خير للدنيا جميعاً، وسنتعرض لتاريخنا العلمي إن شاء الله في غضون هذه المحاضرات، وستعرفون كيف سادت أمة الإسلام العالم أجمع بالعلم أولاً، وهناك عوامل كثيرة، لكن لا بد من العلم. وخلاصة القول في هذه المحاضرة: أن الأساس الأول الذي بُنيت عليه أمة الإسلام، والذي بُنيت عليه الأمم الأخرى في زماننا وفي الأزمان السابقة هو أساس العلم، وبغيره لا تقوم أمة، ونتميز نحن المسلمين بأن عندنا العلم الحياتي نعظّمه ونجلّه، وكذلك العلم الشرعي الذي أوحى به ربنا سبحانه وتعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، ونزل في كتاب الله عز وجل وفي سنة حبيبنا صلى الله عليه وسلم، فهذا تفتقده الأمم الأخرى، فتجد معايير الأخلاق والعقيدة والآداب عندهم مختلة بينما عن

كيف تصبح عالما [2]

سلسلة كيف تصبح عالماً [2] بالمقارنة بين الدول العربية والإسلامية وبين الدول الأخرى في العلوم الحياتية نجد فجوة كبيرة؛ وما ذلك إلا لأن الدول العربية والإسلامية أهملت العلوم الحياتية إلا ما ندر، أما الدول الأخرى فقد اهتمت بهذه العلوم فقادت العالم، فعلى المسلمين أن يجعلوا العلوم الحياتية نصب أعينهم، وأن يعطوها حقها، حتى يتحرروا من التبعية لغيرهم من الأمم الكافرة.

مشاهدات وظواهر تتعلق بالعلوم الحياتية في واقع الأمة الإسلامية

مشاهدات وظواهر تتعلق بالعلوم الحياتية في واقع الأمة الإسلامية أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين. استكمالاً لما كنا نتحدث عنه في محاضرة العلم وبناء الأمم ذكرنا أن هناك نوعين من العلوم: علوم شرعية كالفقه والحديث والعقيدة وغيرها من علوم الشرع، وعلوم حياتية كالطب والهندسة والفلك والكيمياء والفيزياء والجغرافيا وغيرها من أنواع العلوم الحياتية. لا شك أن الذي يرصد حال الأمة الإسلامية في السنوات الأخيرة يجد أنه بفضل الله عز وجل أن هناك صحوة إسلامية ملموسة؛ فنحن نشاهد المساجد ممتلئة وخارج المساجد أيضاً ممتلئ، والصبر على الصلوات الطويلة وختم القرآن, وصلاة التهجد والعبادات العظيمة التي كانت قد فترت عقوداً طويلة من الزمان قبل الصحوة الإسلامية الأخيرة. نرى بفضل الله الشباب المتحمس يقرأ ويتعلم ويدرس في كتاب الله عز وجل، وفي سنة حبيبنا صلى الله عليه وسلم، ويتفقه في الدين، بل منهم من يتخصص إلى جوار مهنته في هذه الأمور الشرعية، لا شك أن هذه صحوة تسعدنا، لكن لابد من الوقوف وقفة هامة جداً، هذه الوقفة الهامة هي مع العلوم الحياتية، ما حال أمتنا في العلوم الحياتية؟ ما حال أمتنا في علوم الطب والهندسة؟ لا شك أن أمتنا تعاني حالة من التردي في العلوم الحياتية، وليس هذا كلاماً عاطفياً، إنما هناك ظواهر ومشاهدات واستقراءات نريد أن نتحدث عنها اليوم، فأي مشكلة لها حل، وأول وسائل الحل أن تعرف الواقع، ليست هذه دعوة للإحباط ولا دعوة للتشاؤم؛ فعندما يأتي إلينا مريض يعالج من مرض كذا أو كذا لابد أن تعرف واقع المريض: هل عنده أمراض أخرى؟ عمره كم سنة؟ ما هي ظروفه؟ هل عمل عمليات قبل ذلك أم لا؟ أخذ أدوية أو لم يأخذ؟ إذاً نعرف واقع المريض حتى نصف له العلاج السليم. فحديثنا اليوم سيكون بالأرقام والإحصائيات والتقارير الرسمية في بلادنا، وفي بلاد العالم العربي والإسلامي، وفي العالم، هذه الإحصائيات والأرقام قد تكون مؤلمة، لكنه ألم لابد منه، إذا أردت القيام فلابد من معرفة الواقع. ذكرنا بالمحاضرة السابقة أن العلم أساس بناء الأمة، وأن أهم شيء في بناء الأمة العلم، فإن اختفى هذا العلم سقط البناء لا محالة، فلا أمل لأمتنا في قيام إلا بالعلم، لكن هناك فهم عند بعض المسلمين أو عند كثير من المسلمين الملتزمين أن هذا العلم هو العلم الشرعي فقط، فتهمل العلوم الحياتية ويهتم بالعلوم الشرعية.

عدم اهتمام الملتزمين بتخصصاتهم في العلوم الحياتية

عدم اهتمام الملتزمين بتخصصاتهم في العلوم الحياتية العلوم الحياتية يجب أن يهتم بها المسلمون، لكن الواقع الذي فيه المسلمون هل هم مهتمون حقيقة بها أم هم غافلون عنها؟ هذه مشاهدات وظواهر: الظاهرة الأولى: قمت بنوع من الرصد للمتفوقين دراسياً في أكثر من جامعة، فوجدت أن القليل جداً من المائة الأوائل في الكليات المختلفة في الأماكن المختلفة في البلاد المختلفة من بلاد المسلمين، القليل جداً يكون من الملتزمين إسلامياً، من أصحاب التوجه الإسلامي الواضح، نعم، هناك من يصلي هناك من يصوم، لكن لا يتخذ الإسلام منهجاً له في حياته، الذي يتخذ الإسلام منهجاً له في حياته ويتفوق ويسبق قليل، هذا أمر مشاهد وهذه حقيقة واقعة، بهذه الظاهرة نجد أن أصحاب التوجه الإسلامي أولوياتهم أثناء الدراسة مرتبة بصورة يبدو فيها خلل كبير، قد يهتم جداً بلقاء ديني أو مقرأة للقرآن وهذا طيب، لكنه لا يهتم أبداً بحضور محاضرة علمية في تخصصه، قد يهتم بالخروج في مسيرة أو مظاهرة وهذا أيضاً بضوابطه الشرعية طيب، لكن قد لا يهتم بالذهاب إلى مؤتمر علمي أو ندوة علمية أو محفل علمي يتعلم فيه أموراً لا يعرفها في تخصصه، قد يهتم بالقراءة في فروع الحديث والفقه والقرآن وغيرها من فروع العلوم الشرعية وهذا أيضاً طيب، لكنه لا يهتم في ذات الوقت بالقراءة في مجال تخصصه، نعم هناك رموز طيبة والحمد لله، لكن نحن نتكلم على عموم حال الأمة، النتيجة في آخر العام أن عدداً كبيراً من الطلاب الملتزمين ينجحون، لكن يأتي بمقبول أو جيد أو يسقط في مادة أو مادتين وقد يعيد السنة، والحجة أنه مشغول بدين الله عز وجل، أنه مشغول بالعمل في الدعوة إلى الله عز وجل، أقول: لا يستقيم أبداً أن يدعي مدع أنه داعية إلى الله عز وجل ثم هو فاشل في علومه التي أوكلت إليه، وفاشل في الثغرة التي يقف عليها. فهذه ظاهرة ليست استثنائية نجدها في بلادنا وفي بلاد أخرى من بلاد المسلمين هذه واحدة.

خوف غير الملتزمين من الالتزام لاعتقادهم أن الالتزام يسبب الفشل في الدراسة

خوف غير الملتزمين من الالتزام لاعتقادهم أن الالتزام يسبب الفشل في الدراسة الظاهرة الثانية: أن كثيراً من الطلاب غير الملتزمين بالتوجه الإسلامي يخشون الالتزام مخافة أن يكونوا مثل هؤلاء الملتزمين ودار بيني وبينهم حديث طويل عن أهمية العلم في الإسلام، فقالوا: كلام جميل على الورق وكلام نظري ليس له واقع في تطبيق حياة الملتزمين، ينظر غير الملتزم إلى ذاك الملتزم فيجد أنه في حالة متردية في الناحية العلمية، فيقول: ما وصل إلى هذه الحال إلا بسبب الالتزام، وهذا لم يلتزم وليس أصلاً مسلماً أو علمانياً أو غير ذلك من التوجهات الأخرى ثم هو يتفوق ويسبق ويتقدم، وهذه دول علمانية وتسبق الدول الإسلامية، وهذه دولة كافرة وتسبق الدول الإسلامية، وهذه دولة تعبد البقر وتسبق الدول الإسلامية، وهذه دولة تنكر وجود الإله أصلاً وتسبق الدول الإسلامية، هذه فتنة كبيرة جداً، لكنه واقع مشاهد.

ظاهرة تسخير غير المسلمين للمسلمين في العلوم الحياتية

ظاهرة تسخير غير المسلمين للمسلمين في العلوم الحياتية الظاهرة الثالثة: كنت مع أحد الإخوة من بلد عربي، وكنت قد أعطيت محاضرة عن أهمية العلم في الإسلام، وكان ذلك في أمريكا، وعلق بعد المحاضرة عن أنه لا ضرورة، ويتبنى هذا الرأي بقوة، ومعه مشجعون وجميعهم ملتزمون بالهدي الظاهر بالإسلام، ويقرءون كثيراً جداً في العلوم الشرعية، لكن الرأي عندهم أن الله عز وجل قد سخر هؤلاء النصارى والمجوس والبوذيين والهندوس والشيوعيين وغيرهم سخرهم لتصنيع احتياجات المسلمين، وأعطى الله عز وجل من فضله وكرمه المال للمسلمين، فالمسلمون عندهم مال والآخرون مسخرون لتصنيع الأشياء للمسلمين، انظروا هذا فكر معوج عجيب، اكتشفت أنه ظاهرة ليس من واحد، بل أصبح له مشجعون يرتاح إلى كثرة المال وإلى الشراء من هنا وهناك بماله، دون أن يفكر في تصنيع أو اختراع أو إبداع أو سبق أو ريادة لغيره في هذه العلوم الحياتية.

عدم اهتمام أهل الأموال الخيرين بالإنفاق على العلم وأهله كغيره من أوجه الخير

عدم اهتمام أهل الأموال الخيرين بالإنفاق على العلم وأهله كغيره من أوجه الخير الظاهرة الرابعة، ظاهرة أيضاً ملموسة بشدة وهي: طرق إنفاق المسلمين في أوجه الخير، قد يتحمس المسلمون جداً للإنفاق على بناء مسجد، لكن القليل الذي ينفق على بناء مؤسسة علمية، أو ينفق على طلبة العلم المغتربين، أنا أريد واحداً منكم يزور مدينة البعوث، ويرى الطلاب المغتربين القادمين من أفريقيا ليتعلموا في الأزهر أو في غيره العلوم الإسلامية وغيرها، ينظر إلى حالهم سيجد (10) و (15) و (20) شخصاً يسكنون في حجرة أو حجرتين وهم في حالة متردية من الفقر والضياع، والواحد منهم سيتعلم ويعود إلى بلد لعله الوحيد الذي يعرف فيها الدين، ومع ذلك الإنفاق على طلبة العلم ليس وارداً عند كثير من أهل الخير من المسلمين، نعم هم أهل خير ويدفعون في سبيل الله أموالاً كثيرة، لكن لم يدخل العلم في بؤرة اهتمامهم فهم ينفقون على الفقراء والمساكين وعلى أمور أخرى عظيمة؛ لكن لا يفكرون في إنشاء مؤسسة علمية أو رعاية مثل هؤلاء الطلاب، أو إنشاء موقع إسلامي يرد الشبهات عن المسلمين، أو بناء مدرسة تربي المسلمين تربية صحيحة، سليمة على كتاب الله وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، حتى في البلاد الغربية في أمريكا في المدينة الواحدة قد تجد (10) و (15) و (20) مسجداً ولا تجد مدرسة واحدة، فيتعلم أطفال المسلمين في مدارس الأمريكان مع ما فيها من موبقات وأفكار منحرفة وبعد عن الدين كلية، ويضيع الأطفال والمسلمون مشغولون جداً ببناء مسجد عاشر أو عشرين أو ثلاثين ولا يجتمعون لبناء مدرسة، العلم ليس في بؤرة الاهتمام. حديثنا اليوم في هذه المحاضرة لو خرجنا فقط بوضع العلم في بؤرة اهتمامنا حتى دون معرفة الوسائل لتحقيقه فهذا أمر جيد، ونقلة هائلة أن نصبح من المهتمين جداً بقضايا العلم والتعليم في الأمة الإسلامية، والوسائل بعد ذلك بإذن الله كثيرة، والموفق من وفقه الله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] إذاً: ينبغي لنا أن نعرف أن هذه قضية مهمة تحتاج إلى بذل وقت وجهد وفكر وعرق ومال وحياة، تبذل حياتك لأجل هذه القضية العظيمة الهامة.

هجرة العقول الإسلامية إلى بلاد الغرب

هجرة العقول الإسلامية إلى بلاد الغرب الظاهرة الخامسة: هجرة العقول الإسلامية من بلاد المسلمين إلى بلاد الغرب، وتسمى ظاهرة استنزاف العقول، فأي واحد فيه أمل أن يكون عالماً من العلماء، أو عنده رغبة وحماسة في التعلم يلتقط إلى بلاد الغرب ويبدع ويبتكر هناك، فيضيف قوته إلى قوتهم وعلمه إلى علمهم، وتتردى الحالة في بلاد المسلمين أكثر وأكثر، وهذا ليس مجرد واحد أو اثنين أو عشرة بل هذه ظاهرة. انظروا إلى البلاد الغربية ماذا تعمل لاستقطاب العلماء؟ عندما نضرب أمثلة من بلاد الغرب أو أمريكا لا نقصد أبداً الإحباط للمسلمين، لا، نحن نرفع واقعاً كما قلنا، الواقع قد يكون مراً، لكن لابد من معرفته لتغييره، لابد أن أعرف أسباب القوة عندهم وأسباب الضعف عندنا؛ لنعدل بعد ذلك من المسار، فنصبح نحن أقوياء ونسود العالم كما أراد لنا ربنا سبحانه وتعالى. فأمريكا في التسعينات أعطت (12) مليون تأشيرة هجرة إليها، وفي عام (1995م) قاموا بتعديل في قانون الهجرة؛ لكي يستقطبوا العقول المفكرة والمبدعة في العالم، فخصصوا (200) ألف تأشيرة سنوياً للعقول المبدعة، انظروا إليها تحاول أن تبني نفسها أكثر وأكثر، مع أن أمريكا رقم واحد في العالم في العلوم الآن؛ ومع ذلك أي عقل يظهر فيه نوع من الذكاء أو الإبداع تعمل له إغراءات حتى يأتي إليها، لا يأتي بعقد عمل ويعيش كالأجير عندهم، ولكن يعطى الجنسية ويعطى كل الصلاحيات، أحياناً المسلم يعيش في بلاد مسلمة سنوات وسنوات ولا يستطيع أن يحصل على هذه الجنسية، بينما إذا ذهب إلى أمريكا بتأشيرة الهجرة ثلاث سنوات ويحصل على الجنسية الأمريكية، ويصبح كأي مواطن أمريكي. نحن نريد أن نستفيد من كل الخبرات ما دامت لا تتعارض مع الشرع، ونحن المسلمون جنسيتنا مسلمة، قابلت واحداً في الكويت ليس معه أي جنسية أبداً، فهو يعيش من غير جنسية سموه بدون، يعني: بدون جنسية، يعيش في منطقة ما بين الكويت والسعودية والعراق؛ فقد قاموا بإحصائيات للسكان فسقط هذا وأمثاله من الإحصاء فلا هم عراقيون ولا هم كويتيون ولا هم سعوديون فأصبحوا بدون جنسية، عاش (20) سنة في الكويت يحاول أن يأخذ الجنسية فلا يستطيع، ثم ذهب إلى كندا وظل سنة واحدة وأخذ الجنسية الكندية، وهو يعمل في الكمبيوتر، فكل إبداعاته في مجال الكمبيوتر لصالح كندا، هذه كارثة. وأمريكا كما ذكرت تعطي (200) ألف تأشيرة سنوياً للعقول المبدعة، ولو حصل في سنة من السنوات أنها أعطت (150) ألفاً فقط فالسنة التي بعدها تأخذ (250) ألفاً حتى تعوض النقص في العقول المبدعة، و (200) ألف تأشيرة هذه يأتي منهم تقريباً (100) ألف من الهند؛ لأن الهند تفوقت جداً في مجال الكمبيوتر، بل سبقت حتى بعض الشركات الأمريكية، فأمريكا تأخذ (100) ألف مبرمج كمبيوتر من الهند سنوياً، فانظر مدى الإضافة إلى علوم الكمبيوتر في أمريكا ومدى الحرمان الذي ستعاني منه الهند بفقد هؤلاء، فأمريكا تفكر أن تستقطب العقول المفكرة لا أن تطردها بعيداً، تأتي بهم حتى وإن كانوا من دين مخالف ومن عقيدة مخالفة، وحتى وإن كان بينهم وبينهم عوائق كثيرة جداً، سواء كانت جغرافية أو مالية أو اجتماعية أو دينية أو عقائدية وغير ذلك من العوائق، كل ذلك يلتغي مع الإتيان بالعقل المتعلم الذي يرفع بلادنا عالياً أكثر وأكثر. (50%) من الأطباء العرب يهاجرون إلى أمريكا وأوروبا، هذه الإحصائية مزعجة جداً بالنسبة لنا، وقد لا نصدقها، وليس في مصر فقط، بل في تونس والجزائر وسوريا والمغرب ولبنان وغيرها من البلاد العربية معظم الأطباء فيها يهاجرون إلى الغرب، وأصبحت هناك موضة في مصر من حوالي عشر سنين تقريباً، بدأت هذه الموضة وهي أن كل الطلاب عندنا في كلية الطب يجتهدون قدر الاستطاعة عمل المعادلة الأمريكية أو المعادلة الفرنسية أو معادلة جنوب إفريقيا، حتى جنوب إفريقيا، كذلك نيوزيلندا وأستراليا، ويحاول الطالب أنه يجد فرصة للخروج بلا عودة، الذي سينجح بقانون الانتخاب الطبيعي، أفضلهم سيهاجر، ويقعد هنا الذي لا يأتي بمجموع يؤهله للهجرة، (54%) من الطلاب العرب الذين يدرسون في أمريكا وأوروبا لا يرجعون مرة أخرى، يذهب ليدرس دراسات عليا فلا يرجع مرة أخرى. (34%) من أطباء بريطانيا من أصول عربية، ثلث الطب في بريطانيا قائم على العرب. (23%) من أصول عربية أيضاً في بريطانيا من المهندسين. علماء الفيزياء والكيمياء في بريطانيا (15%) منهم من أصول عربية، كل هؤلاء عرب فقط، فكيف لو فتحنا المجال وتكلمنا على الدول الإسلامية؟! هذه أرقام مفزعة، باكستان يهاجر منها أعداد هائلة، الهند يهاجر منها أعداد هائلة، الهند وإن كانت دولة تدين بالهندوسية والمسلمون فيها أقلية، لكن هذه الأقلية المسلمة (100) مليون، وكثير منهم يهاجرون إلى إنجلترا وإلى فرنسا وإلى كندا وإلى أمريكا وإلى غيرها من بلاد أوروبا، دولة إسلامية كبرى هجرت إلى الآن (21) ألف طبيب نيجيري إلى أمريكا فقط. انظروا إلى استنزاف العقول، عقول كثيرة تهاجر إلى غير بلادنا. إفريقيا وأغلبها بلاد إسلامية تصدر سنوياً (20) ألف مهاجر سنوياً

اهتمام بعض الدول غير الإسلامية بتنمية اقتصادها بالعلم

اهتمام بعض الدول غير الإسلامية بتنمية اقتصادها بالعلم الظاهرة السادسة: مشاهدات في دول غير إسلامية: كوريا، اليابان، ألمانيا، كوريا الشمالية وغيرها من البلاد، هذه البلاد وغيرها بدأت الإصلاح والتعليم والنهضة من حوالي خمسين أو ستين سنة، هذه البلاد كانت مدمرة تماماً ممسوحة بالأرض، ألمانيا خرجت من الحرب العالمية الثانية ممسوحة بالأرض، كذلك اليابان، كذلك كوريا الشمالية، وكوريا الجنوبية، وإن شاء الله في أثناء هذه المحاضرات سندرس تجربة إحدى هذه الدول من البداية إلى النهاية؛ لنرى كيف كان الطريق بداية ونهاية بالعلم، كان العلم هو السلاح الأول وأحياناً الأوحد عند هذه البلاد للقيام ولرفع الرأس في وسط العالم الآن، وحتى لا نقول: نحن فقراء فهذه الهند بلد فقير شديد الفقر، وعندها تكدس سكاني رهيب، فتعداد سكانها الآن حوالي (1300) مليون إنسان أكثر من مليار، فهي تقترب من الصين الآن في عدد السكان، والهند سنة (1990م) كانت تصدر برامج كمبيوتر بـ (150) مليون دولار، وفي سنة (1999م) صدرت بـ (4) مليار دولار، انظروا إلى النمو وفي سنة (2008م) بعد سنتين من الآن ستصدر بـ (50) مليار دولار، فالكثير والكثير من الشركات الإلكترونية في أمريكا وفي بريطانيا وفي فرنسا تدار من الهند، والأجور أقل والخبرة أعلى. رأيت بنفسي في أوروبا وفي أمريكا عندما يريد الطبيب أن يكتب تقريره عن الحالة لا يكتبه بيده؛ لأنه لا يوجد لديه وقت، فالوقت له ثمن، وإنما يسجله في كاست وبعد ذلك يكتبه غيره؛ حتى لا يضيع وقته بالكتابة؛ لأن عنده وقتاً يصرفه في العلم، فالتقرير ينتقل من فمه عبر جهاز إلى الهند فيكتب في الهند ويرجع، انظروا من أمريكا إلى العند، ومن إنجلترا إلى الهند، لأن الهندي أقل أجرة من الذي سيكتب في إنجلترا أو في أمريكا، فانظر قدر ماذا النمو الحضاري الذي عند بلد مكدس بالسكان ويعبدون البقر! إذاً: هذه مشكلة تحتاج إلى وقفة منا؛ لأن هذا الوضع لا يسر أبداً.

ضآلة إنفاق الدول العربية على الأبحاث العلمية

ضآلة إنفاق الدول العربية على الأبحاث العلمية الظاهرة السابعة: الإنفاق على الأبحاث العلمية، بعض الأرقام المفزعة في تقرير لمنظمة اليونسكو لعام (2004م) يقول: إن العالم العربي مجتمعاً ينفق (0. 2%) من الدخل القومي على الأبحاث العلمية، المعدل العالمي للدول القوية (3%) من الإنتاج القومي، العالم العربي يصرف (2. %) يعني: اثنين في الألف، المعدل المفروض (3%)، كل الدول العربية تصرف اثنين في الألف على الأبحاث العلمية وهذا يوازي حوالي (1. 7) مليار دولار، وإسرائيل وحدها تنفق (4. 7%) من ناتج إسرائيل القومي على الأبحاث العلمية، هذا تقرير اليونسكو لعام (2004م) فأعلى نسبة في العالم في الإنفاق على العلم في إسرائيل، أمريكا تصرف (2. 7%) وإسرائيل تصرف (4. 7%)؛ لأن الدخل القومي عندها كبير عن بلاد العالم الإسلامي، أما نحن فالأموال عندنا مكدسة، لكن ليست داخلة في حساب الناتج القومي، و (4. 7%) تساوي (6. 1) مليار دولار، يعني: العالم العربي كله يصرف (1. 7) مليار دولار وإسرائيل لوحدها تنفق (6) مليار دولار على العلم سنوياً، أظن هذا شيئاً يحتاج إلى وقفة. أمريكا تصرف (2. 7%) أو (2. 9%) من ناتجها القومي على العلم، لكن الناتج القومي لأمريكا رهيب، فالمبلغ هذا يساوي (295) مليار دولار سنوياً، فأمريكا تنفق (295) مليار دولار على العلم سنوياً، يمثل هذا المبلغ (35%) من الإنفاق على العلم في العالم كله. إذاً: لابد أن يكون هناك مردود، فأمريكا لما تصرف هذه الكمية على العلم تصبح الدولة الأولى، والنتيجة أن تجوب أمريكا بأساطيلها مشارق الأرض ومغاربها، وأن تحتل أفغانستان والعراق وتساعد إسرائيل في احتلال فلسطين ولا يتكلم أحد، هذا مردود العلم. الذي نراه في الواقع ليس مستغرباً عند النظر إلى الأرقام، ومرة أخرى أنا لا أقول هذا الكلام دعوة للإحباط، نحن نريد أن نقوم على أرجلنا، فلابد أن نعرف حقيقة المشكلة، لكن يبدو أننا ننظر في حل المشكلة من مجال آخر، وتركنا المجال الذي أمرنا برعايته وأوتينا من قبيله، وكما ذكرنا في محاضرة سابقة أن أول كلمة نزلت في القرآن الكريم الأمر بالقراءة والعلم، فنحن مأمورون بالعلم من أول أيام الرسالة. يحزنني أن أقول: إسرائيل، لكن للأسف هو واقع مفروض علينا لابد أن نغيره، فإحصائيات اليونسكو وبلاد العالم بصفة عامة بما فيها بلاد المسلمين تعترف بوجود إسرائيل، فإسرائيل عندهم (217) جهاز كمبيوتر لكل (1000) مواطن، وهؤلاء فيهم أطفال وفيهم نساء وفيهم رجال، يعني: لا يخلو بيت ولا مصلحة من جهاز كمبيوتر، أما مصر ففيها (9) أجهزة لكل (1000) مواطن، والأردن فيها (52)، ولبنان (39)، والباحثون العلميون في العالم العربي كله (136) باحثاً لكل مليون مواطن عربي، وإسرائيل لكل مليون يهودي يعيش في إسرائيل فيهم (1395) باحثاً، نحن نتكلم على الدول العربية مجتمعة ليس على مصر، الدول العربية مجتمعة لديها (136) باحثاً لكل مليون مواطن، وإسرائيل التي هي عبارة عن (5) مليون فقط لديها (1395) باحثاً لكل مليون مواطن، وأمريكا لديها (4374) باحثاً لكل مليون مواطن، واليابان (5000) باحث، هناك فجوة، فـ (5000) في اليابان، و (1395) في إسرائيل أو (4374) في أمريكا يعملون في العلم لابد أن ينتجوا شيئاً، و (136) فقط لكل الدول العربية مجتمعة بكل إمكانياتها المالية والبشرية ولا حول ولا قوة إلا بالله، لو أخذنا الميزانية المخصصة للعلم في البلاد على عدد السكان، نجد أنه يصرف على المواطن الإسرائيلي في العلم (922) دولاراً سنوياً، والمواطن الأمريكي (1005) دولارات سنوياً، والمواطن المصري (6) دولارات سنوياً لأجل العلم، قد يقول شخص: نحن فقراء، نقول: لكن العلم هو أحد بؤر الاهتمام، ومع ذلك تصرف في وجوه أخرى فممكن يدفع لمدرب كرة قدم (30) ألف دولار و (25) ألف دولار، ولا ندفعها لعالم ولا لمؤسسة علمية، وهذا خلل في الفهم والفقه في العالم العربي كله، ينشر في السنة الواحدة في العلوم البيولوجية على سبيل المثال: علوم الأحياء (447) بحثاً، وإسرائيل لوحدها تنشر (593) بحثاً سنوياً، وأمريكا تنشر (14050) بحثاً سنوياً، وهذا فرع من فروع العلم، كذلك في الطب والهندسة وعلوم الفلك والفضاء والنووية وغير ذلك من الأمور. هذه معلومات موثقة وإحصائيات رسمية لم نأت بها من جرائد المعارضة، لا، هذه إحصائيات رسمية حكومية سواء في مصر أو في العالم العربي أو في العالم الإسلامي أو في العالم ككل، إحصائيات اليونسكو والأمم المتحدة، وقلت لكم: ليست المشكلة مشكلة نقود، فهنا مؤسسة علمية كبرى في مصر -بدون ذكر أسماء- أنا رأيتها بنفسي تصرف (15) مليون جنيه لتجميل الصورة الخاصة بالمؤسسة، ومستحيل أن تدفع (1000) أو (2000) جنيه لبحث علمي، وقد تقوم بإنشاء مكتب بمليون جنيه ويكون تأثيث المكتب من الرخام بأنواعه المختلفة المستوردة من إيطاليا وأسبانيا وتركيا وغيرها من بلاد العالم، وممكن ينفق عليه أكثر مما ينفق على أبحاث علمية لسنة كاملة.

فئات العالم حسب الإنجاز التقني ومكان العالم الإسلامي في ذلك

فئات العالم حسب الإنجاز التقني ومكان العالم الإسلامي في ذلك الظاهرة الثامنة: ينقسم العالم إلى خمس فئات حسب الإنجاز التقني في الدولة: الأولى: مجموعة القادة، هؤلاء منهم (18) دولة في العالم بحسب الإنجاز التقني، منهم للأسف إسرائيل أرقام وإحصائيات، وهناك دول يحتمل أن تكون من القادة بفضل الله ومنهم ماليزيا وهي دولة واحدة إسلامية. وفي الدرجة الثالثة: هناك (6) دول إسلامية وهي: مصر بفضل الله، وإندونيسيا، وتونس، وسوريا، والجزائر، وإيران، وإن كنت أعتقد أن إيران وضعت هنا لظروف سياسية، أتوقع أنها أعلى من ذلك. ثم الدرجة الرابعة: المهمشون، وهم معظم بلاد العالم الإسلامي. والدرجة الخامسة: ناس ليس لهم دخل في أي شيء، ما هو العلم أساساً؟ هل العلم مجرد القراءة والكتابة؟! ماذا يعني جامعة؟! وماذا يعني مدرسة؟! فهؤلاء لا داعي أن ندخلهم في التقسيم، فأنت ترى ربط الأمم المتحدة لقضية القيادة: دول قائدة ودول يحتمل أن تكون قائدة بالإنجاز التقني، لم يربطوها بقوة السلاح ولا بكثرة المال، ولا بعدد السكان، ولا بالوضع الجغرافي، لا، بل ربطوها بالعلم، وهذا لا يتعارض مع ديننا، نحن قلنا في محاضرة سابقة: إن أساس بناء الأمم العلم، والأمم التي تتصف بالعلم تقود وتسود.

ترتيب جامعات العالم وموقع الجامعات العربية والإسلامية من هذا الترتيب

ترتيب جامعات العالم وموقع الجامعات العربية والإسلامية من هذا الترتيب الظاهرة التاسعة: أقول هذا الكلام وأنا أعلم أنني أخاطب أناساً إذا وضعوا أيديهم على المرض عالجوه بفضل الله عز وجل، فإمكانياتنا وقدراتنا هائلة، وإذا كانت كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية والهند وغيرها تستطيع أن تقود فلا شك أن المسلمين يستطيعون القيام، بل والسبق، ولا يمكن أبداً لأي عقل أن يقبل للمسلمين حالة التخلف وهم يمسكون بكتاب الله عز وجل وسنة الحبيب صلى الله عليه وسلم في أيديهم، فالذي يقبل عقلاً القيادة في حق الآخرين فمن المؤكد أن يقبل عقلاً في حقنا، بل وأكثر، لكن المهم أن نضع القضية في اهتمامنا، نتكلم عن ترتيب الجامعات في العالم، لعلكم قرأتم تقرير جامعة جياوتونج في شنغهاي في الصين على ترتيب الخمسمائة جامعة الأوائل على العالم كان عام (2004م)، أطلعت على تقرير عام (2005م) أيضاً الذي لم ينشر بعد في الجرائد ولم يشتهر وقارنت بين التقريرين فوجدت النتائج متقاربة جداً جداً، مما يعطي نوعاً من الانطباع أن هناك دقة في المعايير لهذه التقارير؛ لأن بعض الناس تشكك في هذه التقارير، أقول: حتى لو كان فيها بعض الانحياز فعندما تقرأ التقرير لا تجد مخالفة كثيرة عن الواقع، فهم لم يضطهدونا، فنحن نقرأ الأرقام ونرى الواقع مطابقاً لهذه الأرقام. فهذا الترتيب فيه عدل إلى حد كبير، قد يكون هناك ظلم في نقطة أو نقطتين، لكن من حيث العموم تجد التقارير صحيحة؛ لأن مشاهدات المسلمين لهذه الأمور مشاهدات صحيحة، فهؤلاء قاموا بعمل ترتيب للجامعات في العالم من جامعة (1 - 500) بحسب درجة التفوق في التدريس في هذه الجامعات، وعدد الجوائز العالمية التي أخذتها هذه الجامعة، وعدد الباحثين والأساتذة الذين نشروا بحوثاً عالمية في مجالات محترمة علمياً، وعدد التخصصات النادرة في داخل الجامعة، وعدد الطلاب المتفوقين، وعدد الطلاب المرموقين في الشركات الكبرى في العالم، وعدد المحركين للأمم الذين درسوا في هذه الجامعات، هذه معايير قوية جداً. فخرجوا بترتيب (500) جامعة أوائل في تقرير عام (2004م) وليس هناك جامعة إسلامية واحدة من الـ (500) جامعة الأوائل، وفي تقرير عام (2005م) الحمد لله دخلت دولة إسلامية واحدة وهي تركيا، ودخلت بجامعتين: جامعة رقم (409)، وجامعة رقم (468) على العالم. فإذا كنت في وضع مترد وبعد الـ (500) فلا تتوقع أن تكون الأول فجأة، لا، لكن ينبغي لنا أن نحاول ونتقدم، وتركيا فيها نهضة قوية جداً، وتجربة تركيا أيضاً تحتاج إلى دراسة. أما أمريكا فهي الدولة الأولى في العالم في الجامعات، وهذا شيء ليس مستغرباً؛ لأن في الـ (500) الجامعة الأولى التي على مستوى العالم فيها (168) جامعة أمريكية، والتي قامت بعمل هذا التقرير الصين، يعني: لو كان هناك نوع من الاضطهاد سيضطهدون أمريكا؛ لأن علاقة الصين بأمريكا ليست جيدة. إذاً: هذه وقائع رأيناها بأعيننا، فهذه جامعات علمية بشكل حقيقي (168) جامعة في الـ (500) الأوائل، المائة الأوائل منها (53) جامعة أمريكية، والـ (20) الأوائل منها (17) جامعة أمريكية، وجامعتان من بريطانيا رقم (3) و (10)، وجامعة واحدة من اليابان وهي رقم (20)، في تقرير عام (2005م) وفي تقرير (2004م) كانت رقم (14)، لكن (17) جامعة من الـ (20) الأوائل على العالم جامعات أمريكية: الجامعة الأولى: (هارفارد)، وتسبق التي وراءها التي هي (كمبردج) في إنجلترا تسبقها بمسافات كبيرة. الدولة الثانية: جامعات إنجلترا، وعدد جامعات إنجلترا في التقرير (40) جامعة، انظروا حجم الفجوة، لذلك أمريكا قائد وإنجلترا تابع، مع وجود التاريخ العريق لإنجلترا فهي الإمبراطورية التي كانت لا تغرب عنها الشمس، ولها تاريخ طويل، وهي الآن تابعة لأمريكا؛ لأن العلم مع أمريكا، فهناك فجوة كبيرة بينها وبين إنجلترا. الدولة الثالثة: اليابان (34) جامعة. إسرائيل رقم (12) على العالم فيها (7) جامعات في هذا التقرير، أول جامعة رقم (78) في تقرير (2004م) كانت برقم (90) يعني: أنها تتقدم. في إفريقيا كلها لا توجد سوى دولة واحدة التي هي جنوب أفريقيا فيها (4) جامعات فقط، لا يقول أحد: السبب هو الفقر، أقول: هناك نقود كثيرة في البلد. هناك دول فقيرة كثيرة موجودة في القائمة منها: المجر، الهند، البرازيل، البرازيل لها (4) جامعات، الأرجنتين نسمع عنها في الكرة، لكن هي بلد فقير جداً، ألم تسمعوا الأزمة الاقتصادية الرهيبة التي كانت هناك؟ ومع ذلك عندهم جامعات موجودة في التقرير، شيلي، المكسيك، الدول الصناعية الثمان الكبرى سبع منها في العشر الأوائل على العالم ليست صدفة، باستثناء روسيا فقط هي التي خرجت وصار ترتيبها الـ (17) لقد كانت في أيام الاتحاد السوفييتي قوية، لكن كما تعلمون أن الفرقة ضعف، ولما تفككت جامعاتها تدنى مستواها جداً. إذاً: هذه ظواهر موجودة التقرير الذي عمل عام (2004م) وعمل عام (2005م) وسيعمل عام (2006م) ومعاييره معايير علمية، وهذه المعايير تقول: إن الجامعات الإسلامية تحتاج إلى وقفة، والطلاب والأساتذة المسلمون محتاجون إلى وقفة.

مرتبات أساتذة الجامعات في العالم ومقارنتها مع مرتبات أساتذة الجامعات العربية والإسلامية

مرتبات أساتذة الجامعات في العالم ومقارنتها مع مرتبات أساتذة الجامعات العربية والإسلامية الظاهرة العاشرة والأخيرة: مرتبات الهيئات التعليمية، أساتذة الجامعة، الأستاذ الجامعي في مصر يأخذ (1/ 50) على الأقل من مرتبات الأستاذ الجامعي في أمريكا، هذه كارثة؛ أنا لا أقول ذلك لأني أستاذ جامعي وأريد أن يرتفع مرتبي، لا؛ أنا أقول ذلك لأن معظم الأساتذة الجامعيين يشتغلون بعد الظهر والصبح؛ لأنه يريد يعيش، ولأنه لم يعط مبلغاً يستطيع أن يعيش به، بينما هناك في الغرب الأستاذ الجامعي يأخذ خمسين ضعفاً على الأقل، وبعض الجامعات تعطي مائة ضعف، والأسعار هناك أرخص من عندنا، فهذا الفارق يجعل الواحد هناك من الساعة الثامنة إلى الساعة الخامسة في منتهى الدقة؛ لأن معه ما يرضيه، وهذا الاتفاق ليس هكذا بلا وزن ولا حساب، بل هذا الإنفاق يأتي بمال؛ لأنه لو كان عندك علماء وتصرف عليهم فسيأتون لك بنقود، فبدل ما يكون أقصى أحلامك أنك تستورد جهاز مكينة من الدرجة الثانية أو الثالثة ستصنع عندك جهازاً من الدرجة الأولى، وبالتالي سيجرى العالم كله إليك؛ لكي يشتري منك، وسيكون عندك الذي ليس عندهم، ويكون القرار في يدك، وتكون رافعاً رأسك بالعلم، فهم عندما ينفقون هذا الإنفاق على هؤلاء العلماء يصبحون دولاً قوية صاحبة سيادة وقرار في العالم، ولا نقول أيضاً: الفقر مرة أخرى؛ لأن الوزير عندنا يأخذ أكثر من الوزير عندهم، نعم والله، المرتب القانوني عندنا أكثر من المرتب القانوني عندهم، فعندهم مرتبات مجحفة خاصة بالوزراء وخاصة برئيس الجمهورية وعندهم تضييقات شديدة جداً، وغير مسموح له أن يقبل هدية في أثناء فترة وزارته أو حكمه، حتى إسرائيل نفسها تحاكم زعيم الدولة، إذا أعطى بعض التسهيلات لشركة من الشركات، أو يشك أنه أعطى هذه التسهيلات، لكن الوزراء عندنا يأخذون مبالغ خيالية، فالوزير ونائب الوزير ورئيس المصلحة يأخذون مبالغ خيالية، ورئيس هيئة كذا، تصل المبالغ إلى (200) ألف و (250) ألفاً وأكثر شهرياً وليس سنوياً، وهذا المبلغ لا يحصل عليه وزير هناك سنوياً، فهذا خلل في التوزيع وخلل في الاهتمام وخلل في القضايا الماسة للأمة الإسلامية. نحن نتكلم على أساتذة الجامعة، فلنأت إلى مدرسين وهم موجودون معنا بأعداد لا بأس بها، لكنهم بؤساء فهم يعملون في التدريس، ودور الواحد منهم أن يعلم ويربي ويبدع ويخرج جيلاً قادراً على قيادة العالم، وفي آخر الشهر يعطى (150) جنيهاً أو (200) جنيه أو (300) جنيه، مما جعلهم يعلنون في صفحات الجرائد عن الدروس الخصوصية، ماذا يعمل إذاً؟ يسرق؟ أنا لست مع الدروس الخصوصية، لكن في نفس الوقت لست مع إعطاء المدرس (100) جنيه أو (200) جنيه ثم نقول له: لا تعط دروساً خصوصية. إذاً: القضية في الأساس فهم قضية العلم واهتمامي بها مع أولادي ومع مدرستي، أو مع المصلحة التي أنا فيها، أو الوزارة التي أنا فيها، أو الهيئة التي أنا فيها، أو الجامعة التي أنا فيها، أو المدرسة التي أنا فيها، فقضية العلم قضية ينبغي أن تشغل أذهاننا، أما مجرد النجاح، الحمد لله الولد نجح من سنة إلى سنة فهناك طلاب في الإعدادية ما يستطيعون أن يقرءوا ويكتبوا، بل هناك بعض الباحثين في الجامعة أنا كنت أعطي محاضرة في كلية دار علوم والتي كان أحد فروعها الرئيسية اللغة العربية، فأرسلت إلي طالبة بسؤال بعد المحاضرة، أجاركم الله من اللغة التي كتب بها الخطاب! والله لولا أنني داخل الكلية ومتأكد وفي حالة وعي كامل، لظننت أنني بين أطفال تمهيدي أو أول ابتدائي أو ثاني ابتدائي بالكثير، خط ركيك جداً وكلمات عجيبة كل قاف طبعاً مكتوبة كاف، والهمزات كلها مضروبة، طبعاً ناهيك عن الإعراب والنحو والصرف والإملاء، فقواعد الإعراب والنحو والصرف اصرف ذهنك عن أي شيء متعلق باللغة في قراءة هذا الخطاب. هذه كارثة، هل يا ترى هذه القضايا في رءوسنا أم الذي يهمنا أن آخذ الشهادة وأعلقها في البيت، وأكون أخذت بكالوريوس أو ليسانس كذا أو كذا وانتهت القضية والحمد لله؟ ما تريدون أكثر من ذلك؟ لا، القضية تحتاج إلى وقفة جادة، هذه الحالة التي وصفناها الآن في الأمة يتهم بها الإسلام، هذا واقع، فأعداء الإسلام يقولون: الإسلام دين تخلف ودين رجعية، ويقولون: إن وضع المسلمين كذا وكذا وكذا، وما هذا إلا لأنهم مسلمون، فلماذا الدول الأخرى التي تعبد أي شيء: من شجر أو بقر أو بشر أو لا يعبدون شيئاً تتقدم؟ لماذا؟ إذاً: الإسلام يدعو إلى التخلف، هذا كلام يقال في الغرب ويكتب في كتب وفي تحليلات، هل سنرد أيضاً بالكلام أم سنرد بأبحاث علمية وسنرد بتحرك نحو العلم منذ الطفولة وإلى الكبر؟ هؤلاء القاعدون لابد أن يرتقوا في علومهم اليوم عن الأمس وغداً عن اليوم، الكلام ليس مزحاً، الذي يريد لأمته أن تقوم لابد أن يعلم أنه بغير ذلك لن تقوم الأمة؛ لأن من سنن الشمس أن تطلع من المشرق وتغرب من المغرب، والأرض تدور حول الشمس، هذه سنن ليس فيها تغيير إلا في آخر الزمان عندما ينهار الكون وتقوم القيامة، أما في حياتنا فنحن مطالبون بتطبيق السنن، وكل شيء واضح في كتاب ربنا وفي سنة نبينا صلى الله عليه وسلم: (

كيف تصبح عالما [3]

سلسلة كيف تصبح عالماً [3] مما يبرز أهمية العلوم الحياتية إشادة القرآن الكريم والسنة النبوية بها، وهي علوم متجددة بتجدد الزمان والمكان، فالذي ينبغي لأمة الإسلام أن تكون الرائدة في كافة العلوم: الشرعية والحياتية، وينبغي لنا أن نعلم أنه ليس هناك تعارض بين العلوم الشرعية والحياتية، فالعلوم الحياتية بالإخلاص لله تتحول إلى علوم شرعية، ويثاب من يقوم بها؛ لحاجة الأمة الماسة إليها.

ضرورة الحديث عن العلوم الحياتية وإبراز مكانتها وأهميتها بالنسبة لعزة الأمة وقوتها

ضرورة الحديث عن العلوم الحياتية وإبراز مكانتها وأهميتها بالنسبة لعزة الأمة وقوتها أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد. فأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين. اللهم اجعل هذه الدقائق شاهدة لنا لا علينا، اللهم اغفر لنا بها، اللهم ارحمنا رحمة تامة عامة واسعة، لا تغادر لنا ذنباً صغيراً ولا كبيراً إلا غفرته، ولا إثماً صغيراً ولا كبيراً إلا محوته، اللهم اغفر لنا أجمعين، وتقبل منا أجمعين، وأعز الإسلام والمسلمين، وارفع رايات الموحدين، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم آمين. نستكمل ما كنا قد بدأناه حول قضية العلم، أمة الإسلام بين علوم الشرع وعلوم الحياة. بداية نذكر بعض التعليقات وبعض الأسئلة على المحاضرتين السابقتين: محاضرة العلم وبناء الأمم، ومحاضرة قراءة في واقعنا العلمي. أولاً: بعض الناس كانت تتمنى أن يكون الحديث في رمضان عن الرقائق والتوبة والعودة إلى الله عز وجل وفقه الصيام وأحكامه، وما إلى ذلك من أمور عظيمة هامة. أنا أقول: الحمد لله الكثير من إخواننا الذين يتحدثون في الدعوة وفي الإسلام وفي الخطابة وفي غيرها يتحدثون في هذه الأمور، لكن لا يُقبل أبداً أن تنعزل الأمة عن مشاكلها في رمضان، وأن تتخلى الأمة عن أزماتها في رمضان، ليس شهر رمضان شهر عبادة بالمفهوم القاصر فقط على الصلاة والصيام، إنما هو شهر عبادة، والسنة كلها عبادة، والعمر كله عبادة بالمفهوم الواسع للعبادة، وهي أن أنفذ كل ما أمرني به ربي سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]. ويوم الفرقان كان في رمضان لم يؤخر إلى ما بعد رمضان، ولم يوظف رمضان في العام الثاني من الهجرة للصلاة والقيام والتراويح والقرآن والدعاء والذكر فقط، بل فُعلت فيه هذه الأمور وإلى جوارها الجهاد في سبيل الله يوم الفرقان. وكذلك حفر الخندق كان في رمضان، وفتح مكة كان في رمضان، وكسر الأصنام في الجزيرة العربية كان في رمضان، والثأر من فارس بعد وقعة الجسر والانتصار على الفرس في موقعة البويب كان في رمضان، وفتح الأندلس كان في رمضان، وكسر شوكة التتار أعتى قوى الأرض وأكثر جبابرة الأرض طغياناً كان في رمضان، ما تعطّل المسلمون أبداً في رمضان، وما وقفت حركتهم ونصرتهم لدين الله عز وجل في رمضان. بالحوار والحديث الذي تكلمنا به في المحاضرة السابقة ألا تشعرون أن الأمة في أزمة؟ هل على المسلمين أن يؤجلوا الحديث عن أزماتهم هذه وهي أزمات ماسة وخطيرة إلى ما بعد رمضان؟ ويأتي موسم الحج ونؤجل إلى ما بعد الحج؟ ويأتي موسم المذاكرة أو موسم الزواج أو موسم العمل المضغوط لسداد الديون أو موسم كذا وكذا؟ ومشاغل الحياة كثيرة جداً فهل نؤجل مشاكل الأمة إلى أن ننتهي من مشاكلنا الخاصة وأحوالنا الخاصة؟ هذا لا يستقيم، المسلم الصادق يقدم هموم أمته على هموم نفسه، يعيش لأمته لا لنفسه، ويضحي بنفسه من أجل رفعة هذا الدين وسيادة هذه الأمة. قد يكون الموضوع ليس بالإمتاع الذي فيه الحديث عن التاريخ أو القصص أو التفسير أو الإعجاز، أو ما إلى ذلك من أمور هي عظيمة جداً، لكن ليس بالضرورة أن يكون حديثنا في كل مرة حديث المتعة أو اللذة، ولكن هو حديث الإفادة، حتى وإن كان حديثاً مؤلماً فلا بد منه، فنحن نأخذ الدواء وهو مر، ونفعل الجراحة وهي مؤلمة؛ لأنها تحقق فائدة. بعض الإخوة وللأسف الشديد -مع أني كررت أكثر من مرة أني لست متشائماً ولا أدعو إلى التشاؤم، ولا نذكر هذه الأمور دعوة للإحباط، إلا أنهم أُحبطوا- أُحبطوا نتيجة ذكر الأرقام والإحصائيات المفجعة التي تحدثنا عنها في المحاضرة السابقة، وأنا أسأل إخواني الذين لم يسمعوا المحاضرة السابقة أن يعودوا إلى الأشرطة المسجلة عن هذه المحاضرة لأهميتها القصوى، وأنا أعتقد أن هذه من أهم المحاضرات التي يجب أن نتناولها في هذه الآونة، وفي هذه السنوات، وليس فقط في هذه الأيام، هذه الفجوة الهائلة بيننا وبين الغرب، وبيننا وبين أمريكا أو إنجلترا أو فرنسا أو إسرائيل أو الصين أو غيرها من دول العالم الآن، هذه الفجوة الهائلة أصابت بعض الإخوة كما ذكرت بالإحباط. وأقول: لا يمكن أبداً لمسلم فاهم وواع أن يُحبط، فالإحباط ليس من شيم المؤمنين أبداً: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]. {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] فالإحباط ليس من شيم المؤمنين، ونصر الله عز وجل قادم لا محالة، والذي يشك ف

مسئولية الحكومات والأفراد تجاه العلوم الحياتية

مسئولية الحكومات والأفراد تجاه العلوم الحياتية أيضاً هناك أناس علّقت وتقول: إن هذه الأرقام التي ذكرتها مسئولية الحكومات، فهي التي أنفقت هذا الإنفاق الضئيل على العلم، وهي التي حرمت الناس من التعليم الجيد أو المناهج التعليمية الجيدة، وهي التي وجهت الأموال إلى غير مصارفها التي ينبغي أن تُصرف فيها، وهي وهي، ولا شك أن الحكومة تتحمل مسئولية ضخمة في هذا الأمر، وأنه لا بد للحكومة الصالحة أن ترفع من شأن أمتها، وأن ترفع من شأن شعبها في كل المجالات، وهم غير معذورين في ذلك، ولكن ليس هناك مبرر للبقاء في ذيل الأمم سنوات وسنوات، نعم لا نعفيهم من المسئولية، لكن أيضاً لا نعفي أنفسنا من المسئولية، فنحن عندنا مساحات ضخمة جداً، ومن الممكن أن نشتغل فيها وننتج ونبرع، فالطالب الذي عنده مناهج تعليمية ليست على المستوى الأمثل، لم يمنعك أحد أن تتقن هذه المناهج قدر المستطاع، ثم تخرج إلى خارج هذه المناهج وتطالع العلوم الموجودة في كتب ومراجع مختلفة موجودة في الإنترنت، وموجودة في مكتبات هنا وهناك؛ لترفع من حصيلتك العلمية، فلو أن عندك حمية صحيحة لأمتك لعملت هكذا، أما إذا كان الإنسان يدخل الكلية من أجل أن ينجح ويأخذ الشهادة فلن يعمل ولن يتحرك أبداً، فعندما يكون هناك جو عام من حب العلم في البلد، فمن الطبيعي أن يتوجه البلد بعد هذا إلى العلم شاء أم أبى متخذو القرار في البلد، فالسياسيون سيجدون أنه من الأفضل أن يسيروا مع هذه الموجة العلمية كما يسيرون مثلاً مع الموجة الدينية، مع أن الكثير منهم يكرهون الدين، لكن تجدهم يسيرون معه ويحضرون الاحتفالات الدينية، ويعطون الجوائز على القرآن الكريم وحفظ القرآن الكريم، ويرسلون كذا وكذا فهذا طبيعي في جو عام من الاهتمام بالدين، فلا بد أن يهتموا معهم بالدين ولو ظاهراً، كذلك لو كانت هناك ثورة علمية، وجميع الناس يحبون العلم ويتحركون من أجل العلم، في الوقت نفسه ستجد السياسي من أجل نجاحه في الانتخابات يضع في برنامجه مؤسسات علمية، وليس فقط أن يوفر السكر والأكل والعيش! لا، فهموم الأمة ليس في الطعام والشراب، ولكن هموم الأمة في العلم، فيضع في برنامجه الانتخابي أنه سينشئ مؤسسة علمية، وسيخصص ويضخم ويكبّر من ميزانية الدولة المتجهة إلى العلوم، فأعلى دولة تعطي جانباً كبيراً من ميزانيتها الحكومية للعلم على مستوى العالم هي إسرائيل، فالميزانية للحكومة بأكملها منها (30%) مصروف للعلم، فلا بد أن يكون هناك فجوة، ولا بد أن نفهم الدولة التي تُزرع داخل فلسطين منذ ستين سنة فقط، ومع ذلك تصل إلى هذا المستوى ليس بالسحر ولا بالشعوذة، فهناك سنن كونية ربانية: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود:15] فالذي يعمل يصل إلى النتائج، نعم ليس له في الآخرة نصيب؛ لأنه لا يعمل ذلك لله عز وجل، لكن نحن المسلمين أمرنا أن نعمل في الدنيا ونسود ونقود في الدنيا العالم أجمع إلى الخير وإلى العدل وإلى الإسلام، ونحن في الآخرة من المفلحين، فكلا الأمرين مطلوب من المسلمين، غير المسلمين هم الذين يعملون للدنيا فقط، لكن كما ذكرت الذي يعمل يصل إلى النتائج وهذه من السنن. فهناك أحد الإخوة كان يسأل عن هجرة العقول، وظاهرة استنزاف العقول، وأن العلماء المسلمين والطلاب المسلمين يهاجرون إلى بلاد الغرب ليتعلموا هناك ويمكثون هناك، ألا نسافر إلى هناك للتعلم؟ فأحد الإخوة يقول: أنا عندي بعثة وأريد أن أسافر لأتعلم ألا أسافر للتعلم؟ هذا الأخ فهم أني أمنع السفر للتعلم، لكن أقول: أبداً ما ذكرت هذا الكلام، بل إن من وسائل التعلم الرأسية كما سيأتي إن شاء الله في المحاضرات: أن تبدأ من حيث انتهى الآخرون، فالنقل عن الغير في الأمور غير الشرعية أمر محمود، والحضارة الإسلامية في بداياتها قامت على النقل من الحضارات الأخرى المختلفة، ثم نبغ المسلمون وعلماء المسلمين وطوروا وأحدثوا الأمور الكثيرة واخترعوا وزادوا، وقادوا العالم بعد ذلك سنوات وقروناً في حركة العلم، لكن كانت البداية أنهم نقلوا عن الآخرين، وما أُعيب على أحد أبداً أن يسافر ليأخذ العلم من هناك، لكن أعيب عليه أن يبقى هناك، وأن يسافر بدون خطة، فهل يسافر أربع سنوات أم ست سنوات أم عشراً، أو أنك لا تعرف؟ هل ستظل هناك؛ لأن الجو هناك مريح والظروف مريحة، أم أنك سترجع إلى أمتك التي هي في حاجتك؟ وهل العلم الذي تعلمته ستضيفه إلى قوة أمريكا أو قوة إنجلترا أو قوة فرنسا أم تضيفه إلى قوة المسلمين؟ قابلت في أمريكا أحد الإخوة الملتزمين، ولكن في رأيي كان بدون فقه وبدون علم صحيح، فهو لديه بكالوريوس في الطب، وبكالوريوس في العلوم، وأيضاً بكالوريوس في الهندسة، وسافر أمريكا لتزويد علمه، ولم يكن لديه المال فاشتغل سواق تاكسي؛ ليرفع من دخله ويستطيع أن يصرف على نفسه في العلم، أعطاه التاكسي أموالاً لم يكن يحلم بها، فأُعجب بالدولار، والدولار له بريق، فهو أراد أن يشتغل شهراً وشهرين ليصرف على نفسه ويأخذ بكالوريو

سبب الفجوات الهائلة بين أمة الإسلام وبين غيرها من الأمم في العلوم الحياتية

سبب الفجوات الهائلة بين أمة الإسلام وبين غيرها من الأمم في العلوم الحياتية هناك فجوات هائلة بين أمتنا وبين غيرها من الأمم في العالم في أمر العلوم الحياتية، لماذا هذه الفجوات الكبيرة؟ هناك أسباب كثيرة جداً، وفي رأيي أن أهم سبب هو فكري ألا وهو الفهم، نحن لا نفهم قيمة العلوم الحياتية حقيقة، وبالذات الشباب الملتزم الذي له واجهة إسلامية واضحة، فهو لا يعطي هذا الأمر قدراً، وقد ساهم في ذلك -وللأسف الشديد- بعض علماء المسلمين، فبعض علماء المسلمين قديماً وإلى الآن يسير على نهجهم البعض صنّفوا العلوم إلى علوم شرعية وحياتية، إلى علوم دينية ودنيوية، أو علوم أخروية ودنيوية، فقالوا: علوم الدين كالفقه والتوحيد والتفسير والحديث وما إلى ذلك، وقالوا: علوم الدنيا كالطب والهندسة والفلك وغيرها من العلوم، فما الذي نتج عن ذلك؟ نتج أن الإنسان الملتزم بدينه يشعر بحرج شديد أن يفرغ من وقته وقوته لأجل الدنيا ويترك الدين، فالدنيا دائماً في كتاب الله عز وجل مذمومة، يقول الله سبحانه وتعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} [التوبة:38]. إذاً: الدكتور الذي يخترع الجهاز الطبي أو الذي يعمل دواء أو جهازاً هندسياً أو كذا يكون قد رضي بالحياة الدنيا! ففي فهم هؤلاء لقوله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} [التوبة:38] أي: اترك العلوم الحياتية وانشغل بأمور الفقه والحديث وغيرها، حتى رأينا بعض الطلاب في الهندسة يترك كليته ويفرش أمام الكلية يبيع سواكاً ومصاحف، هذه ليست مبالغات، ولكنا نراها وهي موجودة حقيقة، ويعتقد أنه بذلك يخدم أمته خير الخدمة؛ لأنه مشغول بأمور الدين وليس بالدنيا. كارثة أن يكون هذا الفهم عند المسلمين، وأنا عندي الكثير من الأدلة بأن العلوم الحياتية علوم أخروية شرعية، والذي يقف عليها يسد ثغرة مهمة جداً لقيام أمته، كما هو مهم أن يقف العالم للعلوم الشرعية على ثغرته تماماً بتمام، لا تقوم أمة فقط على الأمور الشرعية حتى وإن كانت الأمة الإسلامية.

ذكر الأدلة التي تدل على كون العلوم الحياتية علوما أخروية شرعية

ذكر الأدلة التي تدل على كون العلوم الحياتية علوماً أخروية شرعية هناك أمثلة على أن العلوم الحياتية علوم أخروية شرعية، سنذكر ذلك من واقع حياة حبيبنا صلى الله عليه وسلم، ومن واقع تاريخنا، هناك أدلة شرعية كثيرة نذكر عشرة أدلة:

الحكمة من خلق الإنسان في الأرض وجعله فيها

الحكمة من خلق الإنسان في الأرض وجعله فيها الدليل الأول: يقول الله سبحانه وتعالى عند بداية خلقه لنا للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] والله سبحانه وتعالى خلقنا في الأرض، قال عز وجل: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61] فإذا كان خلق الإنسان وعلم الإنسان وعبادة الإنسان كخلق وعبادة الملائكة فأي فائدة من خلقه؟ ولماذا يوضع على الأرض؟ نقول: إنما وضع الإنسان على الأرض وجُعل فيها خليفة؛ ليتدبر في علوم الأرض، ويُبدع ويستعمر الأرض، وينشأ في الأرض الإنشاءات والعلوم والمخترعات، وليعرف ربه أكثر وأكثر كما سيأتي. إذاً: الله سبحانه وتعالى جعلنا خلفاء في الأرض وليس في السماء، ولا بد أن نعرف علوم الأرض ونبدع فيها؛ لنكون خلفاء حق الخلافة في الأرض. وقال سبحانه وتعالى للملائكة: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31] ما هي هذه الأسماء؟ هل هذه الأسماء هي الصلاة والزكاة والذكر والتسبيح والقيام، وما أعظم هذه الأمور؟ هل هذه الأسماء هي أسماء العبادات المختلفة؟ أبداً، يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31] أي قال له: هذا جبل، وهذا سهل، وهذا بحر، وهذه نخلة، وهذه وهذه علمه علوم الأرض، وبذلك أصبح أهلاً ليكون خليفة في الأرض، الملائكة لا تعرف هذه الأسماء؛ لأنها لا تحتاجها، أما الذي يحتاج هذه العلوم فهو الإنسان الذي يعيش على الأرض، ويعبد الله عز وجل على الأرض، وأُمر أن يستعمر الأرض، فهذا من أبلغ الأدلة على أن العلوم الحياتية هي مستندات أو مؤهلات الخلافة في الأرض، فإن فقدت الأمة مؤهلات الخلافة في الأرض فلا بد أن تكون في ذيل الأمم، تظل فترة من الزمان في ذيل الأمم ثم تُستبدل، نسأل الله عز وجل العفو والعافية، فلو أن الناس أهملت علوم الحياة وتركت الغرب والشرق واليهود والمجوس وعباد البقر يقودون العالم ويقودون المسلمين، فالله عز وجل سيستبدل هؤلاء ثم {يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]. إذاً: من مصلحتنا أن نقف على الثغرة في هذا الوقت قبل أن يستبدل بنا رب العالمين سبحانه وتعالى.

استمرار التجدد في العلوم الحياتية على مر العصور

استمرار التجدد في العلوم الحياتية على مر العصور الدليل الثاني: قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم في شأن العلوم الشرعية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] العلوم الشرعية بفضل الله تمت، فقبل وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام تمت العلوم الشرعية، فكل شيء نحتاجه من العلوم الشرعية ذُكر في كتاب الله وفي سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] وهذه الآية واضحة الدلالة جداً في تمام العلوم الشرعية، ومع أن هناك اجتهاداً جديداً لتغير الزمان والمكان والبيئة، لكن الأصول ثابتة، لا يُنكر ذلك أحد، الأصول ثابتة بفضل الله عز وجل، وهذا نعمة كبيرة على المسلمين، لكن هل تمت العلوم الحياتية؟ وانظروا إلى ما قاله رب العالمين سبحانه وتعالى في شأن العلوم الحياتية، قال بصيغة المستقبل: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53] سنريهم في الآفاق وفي الأنفس علوم الكون بصفة عامة وعلوم الإنسان بصفة خاصة، كل هذا سيرينا الله عز وجل إياه مع تقدم الزمن، وتظل هذه الآية تُقرأ إلى يوم القيامة بصيغة المستقبل، فالعلم الحياتي متجدد، ما كنا نعتقد أنه يقين في قضية من قضايا العلم منذ ألف سنة، وفي هذا الوقت قلنا: لا، فهذا الكلام لم يكن صحيحاً، فالصحيح هو كذا وكذا! فالذي كنا نعتقده منذ سنتين أو ثلاث سنوات نعتقد حالياً غيره، فالعلم الذي كان حجمه عشرة قراريط أصبح حجمه ألف قيراط، وسوف يصبح مليون قيراط، وسيصبح أكثر وأكثر. إذاً: العلوم الحياتية دائمة التطور، فإن بقيت أمة الإسلام سنة أو سنتين أو ثلاثاً راكدة والعلم فيها راكداً لا يتحرك، اتسعت الفجوة بشكل هائل بينها وبين الأمم، فلا بد من حركة سريعة، وكما ذكرت بالأمس لا داعي للتسويف، فتبدأ من اليوم، والأخ الذي أخبرتكم عنه الذي ذهب ليتعلم الإنجليزية، في نفس الليلة ذهب للتعلم، وهذه أمثلة طيبة جداً. وهناك مثل طيب ذُكر لي قبل المحاضرة بقليل، والحمد لله أنه يبعث شيئاً من الأمل في نفوس المسلمين، فأحد الإخوة اطّلع على تقرير جامعة جياوتونج في شنغهاي التي عملت التقرير الذي ذكرناه في الدرس السابق على ترتيب الجامعات في العالم (500) جامعة، فوجد أنه بفضل الله في تقرير سنة (2006م) دخلت مصر في التصنيف جامعة القاهرة بترتيب (403) على العالم، وهذا شيء مبهر وجيد جداً، أي عندما نذكر هذا أيضاً نذكر هذا، فالحمد لله أن هناك حركة، وعندما نتحدث عن براءات الاختراع في العالم، فمصر تطورت أيضاً، صحيح أنه تطور بطيء غير متوافق أبداً مع إمكانيات هذا البلد العظيم، ومع ذلك فالحمد لله أنا بدأنا نتطور، لكن دورنا نحن الملتزمين الذين يحبون دينهم وأمتهم ويريدون أن يضحوا من أجلها أن يدفعوا هذه العجلة أسرع وأسرع. إذاً: العلوم الحياتية لم تتم وتحتاج إلى جهود كبيرة من علماء المسلمين.

حاجة الفقهاء وعلماء الشريعة إلى علماء العلوم الحياتية

حاجة الفقهاء وعلماء الشريعة إلى علماء العلوم الحياتية الدليل الثالث: ألا يحتاج الفقهاء وعلماء الشريعة إلى فقهاء وعلماء في العلوم الحياتية لفقه الدين؟ نحن نريد أن نفقه بعض الأمور في الفقه، فإذا كنت أنا أفقه علوماً شرعية، وتخرجت من كلية أصول الدين، أو كلية الشريعة، أو كلية الدعوة، ولا أعرف دقائق الطب، ولا دقائق الاقتصاد، ولا دقائق الهندسة، ولا دقائق كذا وكذا فلا أستطيع أن أقول للمسلمين: هذا حلال أو حرام، فأحتاج إلى أحد أهل التخصص الفاهمين لهذا التخصص فهماً جيداً والمحب لدينه أن يأتي ويعرض الصورة علي حتى أخرج بالحكم الشرعي المناسب، فمثلاً في مجال الطب: هات فقيهاً درس أربع سنوات في كلية أصول الدين أو في كلية الشريعة، وكمّل بعدها الماجستير ثم الدكتوراه في نفس العلوم، وقل له: ما تقول في الاستنساخ؟ إذا كان لم يعرف هذه القضية خلال دراسته فهو بحاجة إلى معرفة الاستنساخ، فيحتاج إلى دكتور يفهم في دينه ويعرف القواعد الشرعية إجمالاً الخاصة بالطب، وفي نفس الوقت هو فاهم جداً لتخصصه، وفاهم للقضية بكامل أبعادها، فيذهب للفقيه ويقول له: الوضع كذا وكذا، فالفقيه عندما يطّلع على هذا الأمر يستطيع أن يقول: هذا حلال وهذا حرام. كذلك نقل الدم وزرع القرنية والتخصيب بالأنابيب مليون مشكلة يمكن أن تكون موجودة، وهناك من يسأل: أحلال هي أم حرام؟ إذاً: الفقيه يحتاج إلى عالم مسلم متخصص في العلوم الحياتية يخبره، ويحتاج إلى عالم اقتصاد إسلامي متخصص خريج تجارة أو خريج اقتصاد أو علوم سياسية يخبره كيف يبني مشروعاً إسلامياً موافقاً للشرع، وأنا كعالم في الدين ورجل أصول في الدين أو الشريعة سأعطيك أطراً عامة، لكن لا أستطيع أن أقول لك: كيف تعمل بنكاً، البنك ضرورة؛ لأن البنوك كما ترون لوثت بالربا هنا وهناك، فنحن بحاجة إلى بنك إسلامي خالص موافق للشرع، من الذي سيبنيه؟ هل يبنيه يهودي أو أمريكي؟ لا، ولكن لا بد أن يكون عالم اقتصاد مسلم يجلس مع فقيه مسلم يشرح له الموضوع، وهذا الفقيه يقول له: هذا حلال وهذا حرام، ويعرض عليه المعاملات، مثل: نظام الأسهم، ونظام السندات والبنوك، كيف أتعامل مع البنك الدولي؟ كيف أتعامل مع أمريكا؟ كيف أتعامل مع أوروبا؟ كيف أتعامل مع هؤلاء الناس، وأنا أريد أن يكون كياني إسلامياً؟ هل لو بقيت إسلامياً فهل معنى ذلك أن أنقطع كلياً عن التعامل الاقتصادي مع أي دولة في العالم؟ لا، هناك ضوابط وأطر، والرسول صلى الله عليه وسلم تعامل مع هذا وذاك بضوابط إسلامية. إذاً: أنا أحتاج إلى فقيه في كذا وفقيه في كذا، فقيه في العلوم الشرعية، وفقيه في العلوم الحياتية في التخصص، فلكي أفقه ديني أحتاج إلى متخصص في العلوم الحياتية في كل مجال. هذا مثال أو مثالان وقس جميع هذه الأمثلة في العلوم الحياتية.

نتائج عدم الاهتمام بالعلوم الحياتية

نتائج عدم الاهتمام بالعلوم الحياتية الدليل الرابع: ما البديل إذا فشلنا في العلوم الحياتية؟ لو لم يهتم المسلم بالقضية وبقي معتكفاً ليل نهار قائماً وصائماً، وترك الكلية ولم يشتغل، ما هي النتيجة الأخيرة؟ النتيجة الأخيرة أن نعتمد اعتماداً كلياً على غيرنا في كل شيء، وغيرنا من الممكن أن يكون عدونا الذي يحتلنا، ومن البلوى أن يعتمد المسلمون على عدوهم في حياتهم، وهذه معضلة، فهل من الممكن أن يقول أحدنا: إن هذا وضع شرعي، وإن المسلمين لهم أن يتخلفوا في صناعاتهم وفي علومهم ويعتمدوا اعتماداً شبه أساسي على أعدائهم، أو على غيرهم بصفة عامة؟! على سبيل المثال والأمثلة كثيرة جداً: السلاح، فأمريكا هي الدولة الأولى في تصنيع السلاح، وهي الدولة الأولى المصدرة للسلاح في العالم، (39 %) من السلاح الأمريكي يتجه إلى البلاد العربية والإسلامية، يعني: (39 %) من حصيلة الخزائن الأمريكية من مليارات الدولارات التي تدخل من السلاح أتت من البلاد الإسلامية. هل هذا يُعقل؟ أمريكا محتلة لأفغانستان ومحتلة للعراق وتساعد إسرائيل في احتلال فلسطين الحبيبة، نسأل الله أن يحرر كل هذه البلاد وغيرها من بلاد المسلمين كاملة، هل يُعقل أن أستورد السلاح من البلد المحتل لي؟ هذا لا يقبله عقل ولا شرع، هل من المعقول أن يقول الشرع ذلك؟ هل من المعقول إذا كان بيننا عالم شرعي أو إنسان مسلم متحمس لدينه أن يقبل بهذا الوضع؟ و (70 %) من صادرات بريطانيا من السلاح للعالم العربي. و (40 %) من صادرات فرنسا من السلاح للعالم العربي. و (15 %) من صادرات روسيا للعالم العربي. و (18 %) من صادرات الصين للعالم العربي من السلاح. أي: أننا اعتمدنا شبه اعتماد كلي على البلاد الغربية والشرقية في التسليح، وافرض جرى بيننا وبينهم في يوم من الأيام حرب، ألا يشعر المسلمون بغضاضة لهذا الأمر؟ ألا يشعر المهندسون والكيميائيون وعلماء الذرة في بلاد المسلمين بغضاضة في أنهم يخرجون من الكلية ليس له إلا الشهادة؟ وليس لأحد منهم طموح بأنه في يوم من الأيام يصبح مصنّع سلاح؟ نعم، السلاح قرار إستراتيجي أو سياسي، لكن افرض أخذت الحكومة القرار السياسي بتصنيع السلاح، لكن العلماء غير موجودين فهل تستطيع تصنيع السلاح؟ لا، إذاً: لابد أن أكون مستعداً، على الأقل أُعذر إلى الله عز وجل، أقول: يا رب أنا فعلت وتعلمت وهم أصروا على استيراد السلاح وعلى قتل المواهب الموجودة في البلد، لكني بذلت ما بوسعي، وهذا الفشل في مجال العلوم الحياتية غير مقبول من المسلمين. وإسرائيل في السلاح هي الدولة الرابعة في العالم في التصدير، فهي الدولة الرابعة بعد أمريكا وروسيا وبريطانيا تأتي إسرائيل وتسبق فرنسا والصين وصربيا والتشيك وأوكرانيا ودولاً أخرى لها تاريخ في السلاح، فهي الرابعة على مستوى العالم، والدولة الأولى في تلقي صادرات السلاح من إسرائيل الهند، وهي العدو اللدود لباكستان المسلمة، وهذا الكلام ليس عشوائياً. فأعلى دولة في العالم نسبة لإنتاج السلاح بالنسبة للصادرات إجمالاً هي إسرائيل، يعني: لو أن إسرائيل تصدر مائة وحدة فـ (40 %) من هذه الوحدات من السلاح، فإسرائيل أعلى نسبة في العالم من الصادرات عندها نسبة السلاح إلى بقية الصادرات، وهذا يعني: أن الدولة مجيشة لتصنيع السلاح، وإسرائيل على بعد خطوات منا، والفاصل بيننا وبين إسرائيل خط شائك بسيط جداً في رفح، وإن شعر المسلمون بالأمان في هذا الوضع فهذا -والله- هو الغرور بعينه، من الغرور والغفلة أن ينام المسلمون مطمئنين في هذا الوضع وبهذه الصورة، وهذه كارثة. إذاً: لا بد أن يتحرك المسلمون، وليس شرطاً أن يتحرك أولاً السياسيون، بل من الممكن أن يتحرك الشعب، ومن الممكن أن يبدع الشعب في العلوم وينتج، فالله سبحانه وتعالى إذا اطّلع على هذه الأمة فوجد فيها الإخلاص فسيرزقها من يأخذ بيدها إلى القرار الصائب، إن وجد الله عز وجل في الأمة صلاحاً فسيرسل إليها صلاحاً إن شاء الله، أي: أن صلاح الدين لا يظهر هكذا، وإنما يظهر في أناس هيئت وجُهّزت، وراجعوا قصة صلاح الدين رحمه الله، فالإعداد كان قبل صلاح الدين بستين أو سبعين سنة ليظهر بعد ذلك صلاح الدين، هناك جهد كبير قام به علماء الأمة ومن قادتها وساستها ومن شعبها، وممن نعرف وممن لا نعرف، وفي الأخير أين ولد صلاح الدين رحمه الله؟! وهنا عندي إحصائيات خاصة بالاستيراد في العالم العربي والإسلامي، وفي الحقيقة إنها إحصائيات مفجعة، فقد يصل الأمر أحياناً إلى استيراد أشياء مستفزة، فمثلاً: مصر تستورد (32) نوعاً من الجبن من الخارج، مع أن مصر فيها الكثير من الحيوانات والحمد لله، واستوردنا في السنة الماضية بخمسة ملايين دولار (آيسكريم)، وفي ستة أشهر صرفنا اثنين مليون جنيه لاستيراد أغذيه للقطط والكلاب. وهناك شيء اسمه: براءات الاختراع، وهناك شيء اسمه: المنظمة العالمية لبراءات الاختراع، فأي إنسان في العالم يخترع شيئاً يذهب ليسجل فيها؛ ليبقى حقه فيه

العلوم الحياتية طريق لمعرفة الله عز وجل

العلوم الحياتية طريق لمعرفة الله عز وجل الدليل الخامس: أن العلوم الحياتية طريق لمعرفة الله عز وجل. ما أكثر الآيات التي جاءت في القرآن الكريم لتدعو إلى التفكر والتدبر في الكون، وهذه آيات كثيرة جداً في كتاب الله عز وجل، وكلما تفكّرت أكثر وأكثر قلت: سبحان الله! وعرفت الله عز وجل أكثر وأكثر، ومن أكثر الأشياء التي تزرع الإخلاص في قلوب المسلمين القراءة في كتاب الله عز وجل المقروء، وكتاب الله عز وجل المنظور، وكتاب الله عز وجل المقروء هو المصحف أو القرآن الكريم، والكتاب المنظور هو الكون الفسيح، وأمرنا ربنا سبحانه وتعالى مئات المرات بالسير في الأرض، والتفكر في خلق السماوات والأرض، وفي خلق الحيوان، وفي خلق النبات، وفي خلق الإنسان، وفي كذا وكذا فعندما تكون معلوماتي هي معلومات ألف سنة مضت أهذا تدبر وتفكر؟ أين التفكر والتدبر؟ التفكر والتدبر أن تنظر إلى الشيء بإمعان، وتنظر فيه مرة وثانية وثالثة فتخرج في كل مرة أمراً جديداً، هذا هو التفكر، وانظروا إلى قول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] في أي سياق جاءت؟ هل جاءت في سياق الحديث عن العلوم الشرعية، أم جاءت في سياق الحديث عن العلوم الحياتية؟ فقبلها يقول الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر:27 - 28] فالعلماء الذين يخشون الله عز وجل المذكورون في هذه الآية هم الذين نظروا إلى النبات، وإلى علوم الأرض، وإلى علوم الحيوان، وإلى علوم الإنسان، فبرعوا فيها وتدبروا وتفكروا، فشعروا بالخشية من الله عز وجل. وهذا أينشتاين الذي عمل النظرية النسبية نظر إلى الكون الفسيح ورأى السرعات الهائلة الموجودة في الكون وفي الفلك، ثم قال -وهو ليس من المسلمين ولا يعرف القرآن ولا السنة- قال: وراء هذا الكون قوة خارقة، وأنا لا أعرفها. فمن المستحيل أن يكون هذا الكلام عشوائياً، ونحن ربنا سبحانه وتعالى عرفنا به، وهذه نعمة كبيرة جداً، ألا نتقي الله عز وجل في هذه النعمة؟ وهل نترك هذه المجالات لـ نيوتين وأينشتاين وغيرهما من الكفار؟ فالتفكر في هذا الكون طريق لمعرفة الله عز وجل، وكلما عرفت أكثر وأكثر عرفت الله عز وجل، وإن أردت أن تخشع في صلاتك وأن تتدبر في قرآنك، وأن تطيع ربك حق الطاعة فاعرفه، وطريق المعرفة التدبر والتفكر في خلقه وفي كونه، ويسبق ذلك القراءة في كتابه المقروء وهو القرآن، وكذلك القراءة في السنة النبوية، وليس هناك تعارض أبداً، بل بالعكس فالقرآن يحض على العلوم الحياتية، وأنا على يقين أن معظم كلمات العلم التي جاءت في كتاب الله عز وجل جاءت لتشمل العلم بنوعيه: العلم الشرعي، والعلم الحياتي، العلم النافع بكل صوره، أليس الذي يصنّع سلاحاً للمسلمين يعمل بعمل نافع؟! أليس الذي يصنّع كمبيوتراً خاصاً بالمسلمين يعلم علماً نافعاً ويعمل به؟! أليس الذي يصنع كذا وكذا يكفي الأمة مؤنة مد يدها لغيرها لشحذ العلم أو لاستيراد حتى لعب الأطفال والأغذية والقمح وغير ذلك؟ أليس هذا الذي يُبدع في مجاله يعمل ويعلم علماً شرعياً يجازى عليه من رب العالمين خير الجزاء إن أخلص فيه النية لله عز وجل؟ بلى وربي. إذاً: هذه من العلوم الأخروية حقاً، بشرط إخلاص النية لله عز وجل، فإذا سعيت إلى إصلاح أمتك وأن تكون أمتك أمة رائدة قائدة وفعلت ذلك ابتغاء المثوبة من الله عز وجل وابتغاء وجه الله فأنت بإذن الله من الصالحين المجازين خيراً من رب العالمين سبحانه وتعالى. كانت هذه خمسة أدلة، وفي المرة القادمة سأحدثكم بخمسة أخرى وهي في غاية الأهمية، وهي أيضاً تؤكد على هذا المعنى وتقويه، ومنها بإذن الله ننطلق إلى ماذا نعمل؟ وكيف نتحرك بأمتنا لتكون في الصدارة؟ وليس هذا على الله عز وجل بمعجز. ونسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كيف تصبح عالما [4]

سلسلة كيف تصبح عالماً [4] هناك أسباب لا بد من اتخاذها للنهوض بالأمة علمياً، وهذا واجبنا جميعاً أفراداً وجماعات، وليس من واجبنا النتائج، فالنتائج إلى الله عز وجل، فهو سبحانه إذا علم صدقنا وأنا قد بذلنا جهدنا في النهوض بالأمة علمياً، فسيحقق لنا ما فيه عزنا ونهضتنا ومجدنا، وهذا الدور ليس مقتصراً على الرجال فقط، بل على النساء أيضاً أدوار عظيمة في النهوض بالأمة علمياً.

ضرورة بذل الأسباب في النهوض بالأمة علميا دون النظر إلى النتائج

ضرورة بذل الأسباب في النهوض بالأمة علمياً دون النظر إلى النتائج أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين. نستكمل ما كنا قد بدأناه من حلقات حول موضوع أمة الإسلام بين علوم الشرع وعلوم الحياة، وتحدثنا في عدة محاور، كان المحور الأول هو قيمة العلم بصفة عامة في الشريعة، قيمة العلم في كتاب رب العالمين سبحانه وتعالى وفي السنة المطهرة، وأثبتنا بما لا يدع مجالاً للشك أن العلم أساس لبناء الأمم، وأول ما فتح به كتاب ربنا سبحانه وتعالى، وأن أكثر الكلمات التي جاءت في كتاب ربنا بعد لفظ الجلالة العلم. ثم تحدثنا في محاضرة أخرى عن رصد الواقع عن قراءة في واقعنا العلمي، وفجعنا جميعاً بالفجوة الهائلة التي بين أمة الإسلام وبين غيرها من الأمم التي كانت تتشابه مع أمتنا في ظروف كثيرة، ولكنها أخذت بأسباب العلم فسبقت وقادت، وتحدثنا عن الفجوة التي بين جامعات المسلمين وبين الجامعات الغربية، والفجوة التي بين علماء المسلمين والعلماء الغربيين والشرقيين، وبين التقنية والاختراع والتصنيع والابتكار والإبداع وما إلى ذلك، وكان هذا قراءة حقيقية للواقع الذي نعيش فيه، وذكرنا ذلك بالإحصائيات والأرقام. ثم في المحاضرة السابقة أخذنا في تحليل: لماذا وصل المسلمون إلى هذا الوضع؟ وذكرنا أن القضية في الأساس تمكن في فهم المسلمين على مدار عصور طويلة، حيث فهموا أن العلوم تقسم إلى علوم دين وعلوم دنيا، فتحرج المتحمسون لهذا الدين والملتزمون به والمحبون لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم أن ينصرفوا عن علوم الدين إلى علوم الدنيا، وأن ينشغلوا بدنياهم عن آخرتهم، كما صور الذين صنفوا هذا التصنيف: علوم دنيا وعلوم دين. وأما التصنيف الذي أرتاح له كما ذكرت أنها علوم شريعة أو شرع وعلوم حياة، والحياة ليست مذمومة كالدنيا في كتاب ربنا سبحانه وتعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97]، أما الدنيا فتأتي مذمومة ملعونة، حتى قال رسولنا صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً ومتعلماً)، فالدنيا بصفة عامة ملعونة، فكيف يقرن علماً بالدنيا ثم يكون من العلوم المحمودة؟ هذا ما لم يفهمه الكثير من الملتزمين، وبذلك أعرضوا عن التفوق في العلوم الدنيوية أو العلوم الحياتية، وتوجهوا إلى العلوم الشرعية فقط، العلوم الشرعية في غاية الأهمية، وهي لا شك تسبق العلوم الحياتية، لكن لا تقوم أمة إلا بالعلمين سوياً. وفي المحاضرة السابقة عن الإسلام وعلوم الحياة ذكرنا خمسة أدلة على أن العلوم الحياتية هي علوم شرعية، وعلى أن العلوم الحياتية إن أخذت بنية وبإخلاص تقود إلى الجنة إن شاء الله رب العالمين. قبل أن نخوض في الأدلة الخمسة الأخرى، نجيب على بعض الأسئلة التي وردت. في الحقيقة أنا سعيد جداً بالتفاعل الذي لمسته من الحضور من إخواننا وأخواتنا في هذا الموضوع مع صعوبته، أنا أعلم أنه ليس من القصص وليس من الحكايات والروايات التي تمر سريعاً على القلب، بل هو موضوع صعب ويحتاج إلى جهد، ومع ذلك ما شاء الله لا قوة إلا بالله تفاعلكم هذا يرفع الهمة، وحضوركم بهذه الكثافة أيضاً يرفع الهمة. ونسأل الله أن يتقبل منا أجمعين، وأن يرفع من درجات المسلمين، وأن يعلي من شأن هذه الأمة في الدنيا وفي الآخرة. هذه ملحوظة جاءت من كثير من الإخوة، تقول: إن الدور الرئيسي في التغيير هو دور الحكومات ونحن أفراد لا نملك الإنفاق على البحوث العلمية، ولا نملك تحسين مستوى الجامعات، ولا نملك كذا وكذا من الأمور التي ذكرتها، براءة الاختراع، والترجمة، والكمبيوتر، والعلوم التقنية، والتصنيع، والشركات الكبرى، لا نملك كل هذا. أقول: لقد تعرضنا لهذه النقطة في الدرس السابق، ولا مانع من أن نعيد الكلام فيها؛ لأهميتها، وما أطلبه في هذه المحاضرات بعد أن نفهم قيمة العلم فهماً جيداً أن نسدد ونقارب، لو فهمنا حقيقة هي في غاية الأهمية فأنا على يقين أننا بإذن الله سنعمل بطريقة مختلفة تماماً، ليس فقط في هذا الموضوع، ولكن في كل أمور حياتنا، هذه الحقيقة: هي أن الله عز وجل برحمته لا يحاسبنا على النتائج، ولكن يحاسبنا على الأعمال، ماذا عملت في حدود إمكانياتك وقدراتك التي وضعها لك رب العالمين ويسرها لك في هذه الدنيا؟ فأنت لو أتاح الله عز وجل لك التفوق بمساحة معينة فهذه قدرتك، وليس مطلوباً منك ما هو أعلى من ذلك، يقول عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]. فالمطلوب من ال

دور المرأة في قضية العلم الذي به تنهض الأمة

دور المرأة في قضية العلم الذي به تنهض الأمة هذا سؤال طيب جداً من إحدى الأخوات تقول: أين المرأة في قضية العلم، تقول: إنها متزوجة ولها أولاد وعندها انشغالات في أمور خاصة ببيتها وبأسرتها، فهل تترك هذه الأمور وتتفرغ لتحضير الدراسات العليا كالماجستير والدكتوراه وما إلى ذلك أم لا؟ أقول: الأخوات الفاهمات الواعيات نرجو منهن الكثير والكثير، نريد منهن التحرك في ثلاثة محاور رئيسية، هذا الكلام للأخوات اللاتي يسمعن ومن لم يسمع منهن فنحن ننقل لزوجاتنا وننقل لبناتنا وننقل لأمهاتنا.

دور المرأة في البيت

دور المرأة في البيت المحور الأول في قضية العلم: هو البيت، فالمرأة مسئولة عن إخراج علماء من بيتها، ليس بالضرورة أن تكون المرأة هي التي تقود حركة التغيير في قضايا العلم، ولكن هي مسئولة عن إخراج الزوج والأولاد في صورة علمية جيدة، تهيئ الجو المناسب للزوج ليبدع وينتج، تحمسه على الإبداع وعلى الاختراع وعلى التفوق والتقدم، توفر له الجو الهادئ المناسب، تضيق أحياناً على ظروف المعيشة في داخل البيت؛ لأجل توفير كتب العلم، وهذا ينبغي أن يترسخ بداخلنا، أنا أرى الناس التي تتزوج تفكر أن تأتي بغرفة نوم وغرفة سفرة، وصالون وأجهزة كهربائية وكذا وكذا، وقد لا يخطر على بالهم أن يشتروا مكتبة قيمة، وتكون من ضمن الأمور التي ستبدأ بها الحياة الزوجية، ليس مهماً أن تكون المكتبة القيمة في الخشب، أو في الشكل الخارجي، لا، أنا أقصد مكتبة قيمة فيها الكتب المتنوعة النافعة لك ولأسرتك، فالزوجة تستطيع أن تهيئ هذا الجو في داخل البيت، والأهم من ذلك أيضاً الأولاد، وكلنا نرى ظروفنا كرجال في هذا الآونة التي تعيش فيها الأمة للأسف الشديد، كلنا مشغولون فمنا الذي يشتغل في الصبح وبعد الظهر وبين كذا وكذا، ومنا الذي لا يرجع إلى البيت إلى في منتصف الليل أو بعد ذلك، ويستيقظ الصبح باكراً وينطلق إلى عمله، وهذا ليس عذراً للأزواج، ولكن هذا واقع نرصده، والزوجة هي التي تبقى مع الأولاد، فهل سيكون أولادك كـ البخاري وكـ مسلم وكـ أحمد بن حنبل وكـ الشافعي وكغيرهم من علماء المسلمين رحمهم الله جميعاً، أو كـ جابر بن حيان وكـ الرازي وكهؤلاء الذين غيروا وجه التاريخ، أم سيكون إنساناً بسيطاً عادياً من الصعوبة بمكان أن يعرف بعض المعلومات عن دينه وعن حياته وعن أمته؟ هذا دور في غاية الأهمية. نقف وقفة مع زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه، ومع أمه رضي الله عنها وأرضاها، فـ زيد بن ثابت وهو طفل صغير عمره ثلاث عشرة سنة أراد أن يخرج للقتال في بدر واشتاقت نفسه للجهاد في سبيل الله وهو لا يزال صغيراً، لأن حركة المجتمع كله كانت متجهة للجهاد، فارتفعت حميته للجهاد في سبيل الله، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام رآه صغيراً فأشفق عليه فرده، فبكى زيد بن ثابت حباً واشتياقاً للجهاد، ورجع إلى البيت وهو يبكي، فقالت له الأم: ما يبكيك؟ فقال: ردني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجهاد في سبيل الله، فقالت: إن كنت لا تستطيع أن تجاهد بالسيف كما يقاتل المقاتلون، فأنت تستطيع أن تخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام بالعلم الذي عندك، أنت تقرأ وتكتب وتحفظ من القرآن ما لا يحفظ غيرك، وتقرؤه كما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعال نعرض هذه الإمكانيات على الرسول صلى الله عليه وسلم فقد يستغلها. انظروا إلى الأم الفاهمة الواعية للشرع. هناك بعض الإخوة لما يغلق باب الجهاد يعتقد أن القضية انتهت، وما عليه إلا أن يقعد إلى أن يفتح باب الجهاد، نقول: لعله لا يفتح باب الجهاد في حياته، فالمسلم لا يقعد ويركن أبداً، فـ زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه أغلق أمامه باب ففتحت له أمه باباً آخر، ألا وهو باب العلم، وذهبت به إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وعرضت عليه الإمكانيات التي عنده، فسمع منه صلى الله عليه وسلم واختبره، فقرأ زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه أمامه القرآن وأحسن القراءة، وهو أيضاً يكتب، وهذا نادر في هذه البيئة، فقال له: اذهب وتعلم لي لغة اليهود؛ فإني لا آمنهم على كتابي، وذهب زيد بن ثابت فتعلم اللغة العبرية في سبع عشرة ليلة، ستقول لي: كيف استطاع أن يعمل هذا؟ سأقول لك: لا أعرف، لكن هو ربنا سبحانه وتعالى بارك له في وقته، أو لعله كان يعرف بعض الأمور عن اللغة العبرية وأتقن هذه اللغة في هذه الأيام السبعة عشر، لكن الظاهر أن ربنا بارك له في وقته وبارك له في علمه، وفتح له أبواب الخير، وعاد يتكلم اللغة العبرية كأهلها، وبعثه الرسول عليه الصلاة والسلام ليتعلم لغة أخرى وهي السريانية فتعلمها، ثم أمره بكتابة الوحي، وصار من كتبة الوحي، فمات الرسول عليه الصلاة والسلام في سنة إحدى عشرة من الهجرة، وأوكل الصديق رضي الله عنه وأرضاه لـ زيد بن ثابت مهمة جمع القرآن، وكان عمره حينها ثلاثاً وعشرين سنة. انظر ثلاثاً وعشرين سنة في زماننا يكون وقت التخرج من الجامعة، فـ زيد بن ثابت أوكلت إليه مهمة من أثقل المهام في تاريخ البشرية جمعاء، إنها مهمة جمع كتاب الله عز وجل ليحفظ إلى يوم القيامة، كل واحد فينا وفي أي بلد في العالم وفي أي زمن من الأزمان يقرأ في كتاب ربنا سبحانه وتعالى يعطي زيداً أجراً، دون أن ينقص من أجورنا شيئاً إن شاء الله، فهذا عمل أفاد الأمة الإسلامية، وهو من جانب العلم وليس من جانب الجهاد كما ذكرنا. يقول الحسن البص

دور المرأة في مجال تخصصها العلمي

دور المرأة في مجال تخصصها العلمي المحور الثاني في غاية الأهمية أيضاً: وهو محور العلم نفسه الخاص بها، أعني: مجال تخصصها، وأنا أهيب بالنساء والأخوات أن يتخصصن قدر المستطاع فيما يفيد الأمة عن طريق الأخوات، يعني: هناك بعض الأمور تنجح فيها المرأة أكثر من الرجل، وتسد فيها المرأة الثغرة أكثر من الرجل، فنحن نحتاج في هذه الأمة طبيبات يسترن عورات المسلمات، فليس هناك داع أن مسلمة تذهب وتكشف عند رجل طبيب مع وجود النساء الطبيبات الماهرات الحاذقات الفاهمات في علمهن فهماً دقيقاً جيداً، فهذه ثغرة نحتاج إلى سدها، وليس فقط في فرع النساء والتوليد، لا، بل في فرع الباطنية والأمراض الجلدية والعيون والأنف والأذن والحنجرة وغير ذلك من الفروع التي تتحرج المرأة جداً من الذهاب إلى الطبيب. لكن إذا لم يوجد غير الطبيب وانعدمت النساء المعالجات فللمرأة أن تذهب إلى الطبيب؛ لأن عندها عذراً في ذلك، لكن إذا كان عند المرأة ثغرات فلماذا لا تسدها؟ إذا: هذا مجال. وأيضاً مجال التدريس، هذا مجال في غاية الأهمية، وقد تبدع فيه المرأة إبداعاً غير مسبوق وتصل إلى ما لا يصل إليه الرجال عادةً، والمرأة بصفة عامة أقرب إلى الأطفال منها من الرجال. إذاً: هذا محور في غاية الأهمية: مجال تخصصها، فتبدع فيه إن شاء الله، لكن أؤكد على أن النقطة الأولى هي المرتبة الأولى، والنقطة الثانية هي المرتبة الثانية، والنقطة الثالثة هي المرتبة الثالثة، يعني: بهذا الترتيب.

دور المرأة في مجال الدعوة إلى الله عز وجل وتوريث التخصص للآخرين

دور المرأة في مجال الدعوة إلى الله عز وجل وتوريث التخصص للآخرين المحور الثالث: الدعوة إلى الله عز وجل، لا تكون الدعوة إلى الله عز وجل إلا عن علم، فلابد للمرأة أن تتعلم شيئاً وتنقله، فلا تنقل شيئاً عن جهل فتضر من تنقل إليه، سواء كان هذا العلم علماً شرعياً أو علماً حياتياً، يعني: إذا كنت متقنة لشيء في العلوم الشرعية: متقنة للتجويد، متقنة لبعض الأمور الفقهية، متقنة للرقائق والأخلاق أو غير ذلك، فانقلي هذه العلوم إلى غيرك: (بلّغوا عني ولو آية). كذلك توريث العلم التخصصي، فإذا كنت متخصصة في النساء والتوليد أو في غيرها فاهتمي ببنات جنسك من النساء المسلمات اللاتي في نفس التخصص، وذلك بالرفع من مستواهن ومن قدراتهن. هناك شيء مهم جداً أيضاً وهو داخل في هذه النقطة ألا وهو تعليم القراءة والكتابة، فالأمية كما ذكرنا في الدرس السابق متفشية بدرجة غير مقبولة في بلاد المسلمين، وهي في النساء أعلى منها في الرجال، فنسبة الأمية في النساء تقريباً ضعف نسبة الأمية في الرجال، ليس في مصر وحدها ولكن في بلاد العالم أجمع، ومنها بلاد العالم الإسلامي. وأنا أنتهز المناسبة من أجل أن أحمس أخواتنا وإخواننا أيضًا على قضية الأمية هذه؛ لأن عندي سؤالاً يقول: هل مطلوب مني أن أحضر رسالة ماجستير ودكتوراه وعندي عدد هائل من الأمة لا يقرأ ولا يكتب أصلاً؟ فأقول: كل ميسر لما خلق له، عندنا أناس ستبدع في مجال الكيمياء والفيزياء والفلك والطب والهندسة والعلوم الأخرى، وعندنا أناس تستطيع أن تفرغ طاقتها الدعوية، وتخدم أمتها عن طريق تعليم أولئك الذين لا يقرءون ولا يكتبون، يعني: ليس كلنا يستطيع أن يصل إلى درجة العلماء المتخصصين في الفرع الذي أنت فيه، لكن ممكن تشغل نفسك بتعليم المسلمين القراءة والكتابة، وهذا عمل جليل، وهو عمل ليس صعباً، فأحد إخواني كنت أتحدث معه عن الأمية قبل أن آتي إلى المحاضرة، فقال لي: أنا قعدت مع اثنين من حراس العمارات في إحدى المناطق مدة شهر واحد فقط، وكنت أجلس معهم كل يوم ساعة أو ساعة ونصف أو ساعتين أعلمهم فيها اللغة العربية، وكانا أميين لا يعرفان القراءة ولا الكتابة، وخلال شهر أتقن الاثنان القراءة والكتابة، هل هذا متيسر للجميع؟ أنا أعتقد أنه متيسر وأكثر من ذلك، لكن ابدأ وربنا سبحانه وتعالى ييسر: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]، نعود إلى نسبة الأمية في مصر، الحمد لله نزلت نسبة الأمية من (45%) عام (2003م) إلى (29%) في هذه السنة، يعني: أن (29%) من شعب مصر أمي لا يكتب ولا يقرأ، وهذه نسبة خطيرة، يعني: من كل عشرة ثلاثة لا يستطيعون القراءة أصلاً لا يفتحون المصحف أساساً ولا كتاباً ولا صحيفة ولا غير ذلك، ونحن قاعدون بينهم وهم قاعدون بيننا، فهم ليسوا منعزلين في بلد ثان، لا، بل هم موزعون علينا كلنا، كل واحد منا يرى حوله منهم، فهؤلاء مسئولية من؟ مسئولية الحكومة فقط أم مسئوليتنا جميعاً؟ من أجل أن تعرف إلى أي حد صار هذا الرقم مخيفاً فاعرف نسبة الأمية في إسرائيل أيضاً، ونحن نقارن بإسرائيل؛ لأنها دولة -كما ذكرنا- لقيطة خرجت من لا شيء منذ حوالي ستين سنة أو أقل من ستين سنة، لكن أخذوا بالعلم حقيقة علم الحياة، فنسبة الأمية في إسرائيل (2. 9%)، بينما في مصر (29%) يعني: العلامة العشرية فقط انتقلت قليلاً، هي جاءت كذا قدراً (2. 9%) فقط. هذه النسبة في سن من كان فوق خمس عشرة سنة إلى أربع وعشرين سنة، لو أخذنا الشباب فسنجد أن (15%) من شباب مصر لا يكتب ولا يقرأ، ستقول: مجانية التعليم، وستقول: التعليم الإلزامي: وستقول وستقول انظر (15%) من شبابنا لا يقرءون ولا يكتبون، في إسرائيل هذه النسبة (0. 2%)، هؤلاء الشباب سيكبرون وهم غير متعلمين إذا لم يعلم مستقبلاً، وستحدث مشكلة؛ لأن هذا الشاب الذي لا يقرأ ولا يكتب لن يكون حريصاً تمام الحرص في الأغلب على أن يكون أولاده من العلماء، فأكبر شيء قد يعمله أنه يعلمهم أن يقرءوا ويكتبوا، أو يدخلهم المدرسة ليأخذوا شهادة أياً كانت هذه الشهادة، لكن لن يكون عنده طموح العلماء؛ لأنه لا يقرأ ولا يكتب، ولا يستطيع أن يساعد أولاده، فهذه فتنة كبيرة، والمسئولية مسئوليتنا. إذاً: أنا أعلمه الآن من سن خمس عشرة سنة إلى أربع وعشرين سنة قبل أن يؤسس أسرة، أعلمه بحيث إذا أسس أسرة يربي أولاده تربية صحيحة. أنا أريد أن أخبركم عن رقم غريب جداً: نحن دائماً نضرب الأمثلة بإسرائيل وبأمريكا وبإنجلترا وبفرنسا فيأتي لنا نوع من الإحباط؛ لأن هذه بلاد متقدمة كما يقولون، نحن كما قلنا عندنا (15%) في الشباب أمية، فنسبة الأمية في كوبا في الشباب من سن خمس عشرة سنة إلى أربع وعشرين سنة، وكوبا هي بلد موجودة، لكن لا نسمع عن أي تأثير لها في حركة التاريخ أو الواقع فنسبة الأمية فيها (صفر) يعني: ليس فيها ولا شاب من سن خمس عشرة سنة إلى أربع وعشرين سنة لا يقرأ ولا يكتب، كل الشباب يقرأ ويكتب. وهذه الصحوة جديدة فجائز أن تكون نسبة الأمية في كوب

دور طلاب وأساتذة وخريجي الكليات النظرية في النهوض العلمي للأمة

دور طلاب وأساتذة وخريجي الكليات النظرية في النهوض العلمي للأمة سأل أحد الإخوة: ما هو دور الطلاب والأساتذة والخريجين في الكليات النظرية؟ يعني: كل ما ذكرناه من براءة اختراع وتصنيع وغير ذلك، فطالب يقول لي: أنا في الآداب فهل بإمكاني أن أنفع الأمة وأخوض في هذا العلم، أم أغير الكلية؟ أم ماذا أعمل؟ فقلت له: أنت في أي قسم في الآداب؟ فقال: في قسم التاريخ، قلت له: أنت على ثغرة -لو تعرف قيمتها- من أهم الثغرات التي طعن فيها المسلمون أكثر من طعنة. التاريخ مزور تمام التزوير، وإن شاء الله في هذه المحاضرات سيكون لنا محاضرة بعنوان: روائع الحضارة الإسلامية العلمية، ستكتشفون أنا لم ندرس شيئاً عن تاريخنا، وأن كل الذي عرفناه عن تاريخنا مجرد صراعات وخلافات وانقلابات ومؤامرات وأمور من هذا القبيل، ومعظمها مزورة. فدور إخواننا في الكليات النظرية أن يبدعوا في هذه المجالات، كل في مجاله، فكلية الآداب فيها قسم تاريخ، وهذه ثغرة رهيبة؛ لأن هذه الكليات في العموم فيها الكثير من العلمانيين، فهناك رسالة ماجستير رفضت في إحدى الجامعات المصرية عن الرسول صلى الله عليه وسلم في السيرة النبوية؛ لأن مراجعها ومصادرها إسلامية ليست غربية، فعندما أتكلم على الرسول صلى الله عليه وسلم مطلوب مني أن آتي بمرجع فرنسي وألماني وإنجليزي ولا ينفع أن آتي بمراجع علماء المسلمين؛ لأن هذا تخلف، ورفضت فعلاً الرسالة إلى أن عدل المراجع وأتي بالمراجع الغربية والشرقية، فنحن بحاجة إلى أن نغزو هذه الأماكن ونغير من هذه العلوم، ونضع المعايير الشرعية الإسلامية لدراسة التاريخ وغيره من الفروع. أيضاً في كلية الآداب قسم لغات، وهذا قسم في غاية الأهمية، من يصل بالإسلام الصحيح وبالشرع الحنيف وبالتاريخ المنضبط إلى الروس وإلى اليهود وإلى الأسبان وإلى كذا وكذا من البلاد الأعجمية؟ من يصل إليهم إن قصر في ذلك أبناء الأمة الإسلامية، أو علماء الأمة الإسلامية. إذاً: أنت عليك أن تتعلم هذه اللغة وأن تتقنها كأهلها، كـ زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه فقد تعلم اللغة العبرية والسريانية وأتقنهما. ثم عليك أن تتحرك بالعلوم النافعة إليهم، وتعرفهم دين ربنا سبحانه وتعالى وتقيم حجة الله عز وجل على عباده، هذا دور في غاية الأهمية لإخواننا الطلاب في هذا القسم قسم اللغات. وقس على هذا علم النفس، تجد معظم العلماء في علم النفس إما يهود وإما علمانيون وإما ملحدون وإما غير ذلك، وهذا للأسف الشديد شيء خطير جداً، وأسس علم النفس على أيديهم وانتقل بعد ذلك إلى كل الأرض بما فيها أمة الإسلام، مع أن علم النفس له أسس في منتهى القوة والوضوح في كتاب ربنا، وفي سنة حبيبنا صلى الله عليه وسلم، وفي حياة الصالحين من أبناء الأمة، وفي علماء المسلمين. كذلك علم الاجتماع، علم كذا، فالكلية كلها من أولها إلى آخرها تستطيع أن تكون فيها مبدعاً وعالماً من العلماء، ومخترع علم الاجتماع هو ابن خلدون رحمه الله فهو الذي ابتكره من الأساس، ونسب إلى الفرنسي ديكارت بعد ذلك ظلماً وعدواناً، لكن -كما قلنا- الذي اخترعه وابتكره وأول من كتب فيه هو ابن خلدون رحمه الله. وهذا سؤال آخر حساس من أحد طلبة كلية الحقوق يقول فيه: إنه يعرف شخصاً ترك الكلية؛ لأن الكلية تدرس أموراً مخالفة لشرع الله عز وجل، تدرس قوانين وضعية، فمن ثم ترك الكلية تأثماً أن يكون من الدارسين لها، ولو أكملت دراستي في الكلية فليس معقولاً أن أحضر دراسات في الكلية في العلوم التي هي قوانين وضعية مخالفة للشريعة؟ أقول: إن كلية الحقوق تخرج لنا كل سنة (7000) طالب أو (10000) أو (20000)، والشيخ الذي يقول: إن على الطلبة الملتزمين ألا يدخلوا هذه الكلية وأشباهها، وهذا الكلام موجود يقوله بعض الناس، يقولون: ما دام الشخص التزم فعليه أن يترك الكلية، أقول: أنت عندما تحصل لك مشكلة في البلد: مشكلة قضائية مع جارك، أو مشكلة مع رئيسك في العمل، أو مشكلة في أي شيء ماذا ستعمل حينها؟ ستذهب إلى محام قد لا يتقي الله عز وجل، وقد يدلس ويكذب، وقد يفعل كذا وكذا وكذا، فهل نحن لسنا محتاجين لمن يراعي ربنا سبحانه وتعالى في هذا المكان، ويحافظ على حقوق المواطنين الذين يعيشون في هذا البلد؟! نعم نحن بحاجة إلى ماهر في هذه الوظيفة يدافع عن المظلومين، ألسنا نظلم بصفة عامة في هذه الحياة؟ مليون مرة يحصل الظلم، سواء على مستوى كبير أو صغير، أو مستوى جارك، أو مستوى حكومي أو فردي. إذاً: من الذي يرد لك هذا الحق؟ ما دام لا يوجد قانون شرعي (100%) كشرع الله عز وجل فهل أترك أرضي لمن يأخذها ولا أتكلم؟ ويأخذ فلان داري فلا أتكلم؟ ويصدمني آخر بسيارته فلا أتكلم؟ ويخرجني هذا من عملي فلا أتكلم؟ ويعتقلني شخص فلا أتكلم؟ هذا لا ينفع، لا بد أن تذهب إلى شخص يخرجك من هذه الأزمة ومن هذه المشكلة، فهذه ثغرة محتاجة لشخص عنده ضمير وعنده علم وتقوى لله عز وجل؛ لكي يسد هذه الثغرة. نعم قد يقول قائل: ليس في يدي أن أغير قوانين البلد، نقول: أنت في يديك أن تكشف الأوراق، فأ

تابع الأدلة الدالة على كون العلوم الحياتية علوما أخروية شرعية

تابع الأدلة الدالة على كون العلوم الحياتية علوماً أخروية شرعية ذكرنا في الدرس السابق أن العلوم الحياتية من العلوم الشرعية، وذكرنا خمسة أدلة: الأول: أن الله عز وجل خلق الإنسان على الأرض وأمره أن يعمرها وينشئها ويبدع فيها، قال عز وجل: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31]، وذكرنا هذه الأسماء وقلنا: هي علوم حياته: هذا جبل، وهذا سهل، وهذه شجرة، وهذا بحر، وما إلى ذلك. الدليل الثاني قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] يعني: قد اكتملت العلوم الشرعية، ولم تكتمل بعد العلوم الحياتية، والمسلمون يحتاجون إلى الخوض في هذا المجال والتعلم فيه، كما قال ربنا: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت:53]. الدليل الثالث: أن الكثير من قضايا الفقه لا يمكن أبداً الإفتاء فيها بحق وبعلم إلا في حال وجود متخصص في المجال الحياتي، يعني: متخصص في العلوم الطبية، أو متخصص في العلوم الاقتصادية؛ لكي يعرف الفقيه أن يصدر حكماً صحيحاً لابد من أهل التخصص يشرح له القضية شرحاً وافياً. الدليل الرابع: ما البديل لفشل الأمة الإسلامية في العلوم الحياتية؟! هل البديل أن نعتمد على غيرنا فنستورد كل شيء؟! وهل تقوم أمة على أكتاف غيرها؟! بل هل تقوم أمة على أكتاف أعدائها؟! فمعظم الاستيراد يأتينا من بلاد محتلة لنا، هل هذا يعقل؟! هل هذا أمر مقبول شرعاً؟ هل هذا أمر شرعي أن أكون متخلفاً في التصنيع، لدرجة أنني أعتمد على عدوي في التصنيع، وأستورد منه هذه الأمور؟! انظر إلى هذه الإحصائية: الواردات في البلاد العربية: (37. 7%) من ورادات العالم العربي من الآلات ومعدات النقل، وأكثر من (60%) من وارداتنا تصنيع، وستجد رقماً آخر غريباً جداً، فوارداتنا من المواد الخام (5%) يعني: بفضل الله بلادنا غنية جداً بالمواد الخام، فهي كثيرة جداً لدرجة أنني لا أحتاج أن أستورد من المواد الخام غير (5%) فقط، لكن نحن نستورد (60%) وأكثر من الأمور المصنعة، فنحن عندنا بقر فيها لبن، وعندنا أرض تخرج خيراً، لكن لا نستغل هذه الأشياء، فنجعل غيرنا يستغلها ثم يبيعها لنا بعد ذلك بعشرة أضعاف الثمن. ثم نأتي إلى صادرات العالم الإسلامي ستجد (69%) من صادرات العالم الإسلامي من البترول، ويستوردون (5%) من المواد الخام، يعني: حوالي (75%) من صادرات العالم الإسلامي من المواد الخام، فنحن نصدر المواد الخام ويصنعونها في الخارج ثم نعود لنستوردها مرة أخرى، هل يستقيم هذا الوضع؟ حتى البترول الذي نحن نصدره بكميات كبيرة من الذي يخرجه من غير تصنيع؟ شركات أمريكية، وشركات كندية، وشركات أوروبية ويأخذون نسباً رهيبة من البترول، وعقود احتكار تسعة وتسعين سنة، يعني: قصرها على نفسه وعلى أولاده وأحفاده وأحفاد أحفاده، تسعة وتسعون سنة عقود احتكار في شركات استخراج البترول من هنا وهناك من أطراف العالم العربي المختلفة. إذاً: هذه الأرقام تحتاج إلى وقفة من المسلمين. وتكلمنا عن السلاح، وقلنا: إننا نستورد السلاح في الغالب كله من الخارج، لا يصنع في بلاد المسلمين، قليل جداً من البلاد الإسلامية هي التي تصنع السلاح، ومعظم الدول الإسلامية تستورد السلاح من أمريكا وإنجلترا وفرنسا وروسيا، يعني: أمريكا وإنجلترا احتلتا أفغانستان والعراق ونستورد منهم سلاحاً، وروسيا احتلت الشيشان ونستورد منهم سلاحاً، هذا شيء لا يقبل. الدليل الخامس: أن علوم الحياة طريق لمعرفة الله عز وجل، كلما تقرأ في الكون أكثر تعرف ربنا سبحانه أكثر، وتستطيع أن تعبد الله عز وجل عبادة صحيحة، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]، يأتي الإشراك عندما لا تقدر الله حق قدره، والتبحر في هذه العلوم يعطي لله عز وجل قدره، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67]، عندما أقرأ في الطب وفي الفلك وفي الجيولوجيا وأرى هذه العلوم الواسعة، وأرى خلق الله عز وجل، وفي النبات وفي الحيوان وفي غيره أزداد تعظيماً لله عز وجل وعبادة له.

العلوم الحياتية وسائل لفقه القرآن الكريم والسنة المطهرة

العلوم الحياتية وسائل لفقه القرآن الكريم والسنة المطهرة الدليل السادس: أن العلوم الحياتية وسائل من وسائل فقه القرآن الكريم والسنة المطهرة، يعني: لكي أعرف أفسر القرآن الكريم تفسيراً صحيحاً أحتاج إلى معرفة العلوم الحياتية. يعني: أن علماءنا القدماء من السلف عندما قرءوا آيات في القرآن الكريم فهموها فهماً معيناً وفسروها على وجه معين، ولما تقدم العلم بالمسلمين فهمنا منها أشياء أخرى وظهرت وجوه جديدة، فمثلاً: قوله سبحانه وتعالى: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ:7] فبعد ظهور العلم الحديث وكلكم تسمعون للدكتور زغلول النجار بارك الله فيه، والدكتور أحمد شوقي إبراهيم وغيرهما ممن يتكلم في هذا المجال، فهؤلاء اكتشفوا أن الجبل الذي فوق الأرض إنما هو جزء يسير من حقيقة الجبل، وأن معظم الجبل داخل الأرض كالوتد، فإذا أضفت إلى ذلك أن مهمة هذه الجبال هي تثبيت الأرض كمهمة الوتد عندما يثبت الخيمة، فهذا متفق مع كلمة الوتد، وهذا يعني الكثير والكثير عندما يكتب في تفسير القرآن، أليس هذا مختلفاً عن مجرد القول بأن الجبال أوتاد يعني: قوية وراسخة وكبيرة؟ فلو فسرنا الآية بهذا التفسير العلمي فكم من الناس في الأرض إذا قرءوا هذا التفسير العلمي قد يسلمون؟! قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، أحد الإنجليز كان يشاهد برنامج في التلفاز عن أبحاث الفضاء، وكانت المذيعة تقول لعالم من علماء الفضاء: أنتم أنفقتم أموالاً ضخمة على الفضاء وكذا والناس تموت من الجوع ومحتاجة لهذه الأموال، فقال: نحن اكتشفنا تقنيات حديثة، ووسائل في العلاج، ووسائل في كذا، واكتشفنا اكتشافات لم نكن نستطيع أبداً أن نكتشفها لو لم ننفق ما أنفقنا في رحلات الفضاء هذه، قالت له: مثل ماذا؟ قال لها: كانشقاق القمر، ثبت بما لا يدع مجالاً للشك -ونحن لا نفهم كيف- أن القمر قد انشق قبل زمن والتحم من جديد سبحان الله! هذا الإنجليزي كان يشاهد التلفاز وكان قد أهديت له نسخة من القرآن الكريم مترجمة، وقبل مشاهدة البرنامج كانت أول سورة فتحها: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، فقال: كيف انشق القمر؟! هذا كلام غير مقبول، فلما شاهد البرنامج أسلم من ساعته، وهو الآن من الدعاة إلى الله عز وجل، فهذه إضافة. فهل ستظل أمة الإسلام منتظرة لأمريكا أو إنجلترا أو أسبانيا أو ألمانيا حتى تكتشف اكتشافاً علمياً فتذهب لتسقطه على القرآن الكريم؟ هذا لا ينفع، على علماء المسلمين أن يكتشفوا العلم، ونحن نجد في كتاب ربنا سبحانه وتعالى هذه الأشياء، فيكون هذا حجة دامغة على العباد، وكتاب الله عز وجل لا تنقضي عجائبه، وسيظل هكذا إلى يوم القيامة، في كل سنة وفي كل قرن يخرج لنا منه شيء، لا تظنوا أن هذه هي آخر القصة، لا، سيأتي مستقبلاً ونرى أشياء أخرى وثالثة وعاشرة، وبعد عشرات السنين من الآن إن كان في عمر الأرض بقية سترون الكثير والكثير، وسيرى أحفادنا الكثير والكثير؛ لأن هذا الكتاب كتاب معجز. إذاً: العلوم الحياتية لو أخذتها بهذه النية ألا يكون هذا علماً شرعياً يساعدك على تفسير القرآن الكريم، ويساعدك على هداية الناس لرب العالمين، ويفتح قلوب العباد، فمنهم من يفتح القلوب بكلمات رقيقة، ومنهم من يفتحها بالأخلاق الحسنة، ومنهم من يفتحها مثل هذه العلوم، وهذا طريق من أهم الطرق.

آثار التخلف العلمي عند الدعاة إلى الله عز وجل

آثار التخلف العلمي عند الدعاة إلى الله عز وجل الدليل السابع: هل من مصلحة الدعوة أن يكون حاملوها من المتخلفين علمياً؟ عندما يأتي شخص من أي دولة غربية وهو نصراني أو يهودي أو ملحد عندما يسمع أنه يوجد بلاد اسمها إسلامية، فخرج ينظر ما هي البلاد الإسلامية فلو قرأ الإحصائيات التي ذكرناها فهل ممكن يفكر في الإسلام؟ صعب، لكن لو قرأ القرآن الكريم والسنة المطهرة فإنه سيجد حججاً قوية، لكن أنت عرضته على فتنة إقفال الباب من الأساس؛ بسبب إهمالك العلوم الحياتية. يقول الله عز وجل: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [يونس:85]، أليس كذلك؟ ما عليه المسلمون من التردي والضعف والتخلف يجعل الذي يراهم من غيرهم يقول: مستحيل أن يكون هؤلاء على الحق، فيفتن من رآهم ولا يبحث من الأساس، قل هذا في مجال العلم، وقل هذا في مجال الأخلاق وغيره. تحدثت معكم قبل شهور في هذا المسجد عن الرجل الذي أسلم، ثم زار بلاد المسلمين وقال: الحمد لله أنني أسلمت قبل أن أرى بلاد المسلمين، يعني: لو رأيتهم قبل أن أسلم فقد أسلم، فهو رأى هذا الوضع من التخلف في العلوم، ورأى الفساد في الأخلاقيات والرشوة والفساد والتسول في الطريق وأموراً كثيرة جداً، فكان من الممكن أنه ما يفكر أصلاً في الإسلام، لكن الحمد لله الإسلام دين قاهر قوي معجز، ليس فيه خلل لا من قريب ولا من بعيد: {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]. إذاً: هل من مصلحة الدعوة أننا نكون متخلفين علمياً؟! عندما أتفوق علمياً أوسع مجال دعوتي فعلاً، وأدعو إلى الله عز وجل بالقدوة الحسنة، ولما أقرأ لهم آيات العلم يجدونها متمثلة في، ولما أقرأ آيات الأخلاق فهي متمثلة في، آيات بر الوالدين متمثلة في، وهكذا الدعوة بالحركة، فعل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل في رجل، لو تكلمت بعشرين كلمة في مدرج على أهمية العلم في الإسلام وأنت ساقط في مادتين فكلماتك عن العلم ليس لها معنى، والحمد لله نحن بدأنا العام الدراسي الجديد، فينبغي أن نقبل إقبالاً على العلم، لا تأتي عليك آخر السنة الدراسية وعليك مادة مثلاً أو بصعوبة تأتي بمقبول، أو يكون ترتيبك (150) على الكلية أو (200) أو (1000) أو لا يوجد ترتيب أصلاً كما يقول أخونا، هذا لا يستقيم. لكن لما تكون الأول على الدفعة وتتكلم كلمة إسلامية، فالناس ستسمع عندما ترى درجتك (100%)؛ لأن الأول يكون له بريق، وكذلك الثاني والثالث، من أعطى وبذل فلا بد أن يأخذ، فربنا سبحانه وتعالى عادل، فيا حبذا لو كان هذا الجهد في سبيل الله، فصاحبه سيأخذ دنيا وآخرة، ألا تشتاقون لهذا الوضع لنا ولأولادنا ولإخواننا ولأمتنا؟!

ضرورة الإتقان في العلوم الحياتية وغيرها

ضرورة الإتقان في العلوم الحياتية وغيرها الدليل الثامن: ربنا سبحانه وتعالى أمر بالإتقان في كل شيء، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة)، فكما أنك مأمور أن تتقن الذبح فمن المؤكد أنك مأمور أن تتقن العلم الذي أنت متخصص فيه، لا شك في ذلك، وكان صلى الله عليه وسلم يحترم الذين يتصفون بالعلم احتراماً قد لا نفهمه إلا بعد فهم قيمة العلم في الإسلام. فالرسول الله صلى الله عليه وسلم ولى عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه وهو حديث الإسلام على سرية فيها وجوه المهاجرين والأنصار، قد نستغرب ونقول: عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه أسلم من خمسة شهور يتولى على سرية فيها مائتان من وجوه المهاجرين والأنصار، بل أتبع هذه السرية بمدد فيه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم أجمعين فكانوا تحت إمرته، فاستغربت الناس هذه التولية وسألت الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: (إني لأولي الرجل وفي الجيش من هو خير منه؛ لأنه أبصر بالحرب). ويقول صلى الله عليه وسلم: (من تطبب وهو لا يعلم عن الطب فآذى نفساً أو ما دونها فهو ضامن)، يعني: لو أن شخصاً اشتغل بمهنة الطب وهو ليس بطبيب أو لم يكن ماهراً في هذا المجال الذي عمل به، كما -وللأسف الشديد- تجدون دكاترة في تخصص مختلف جداً يعالجون أمراضاً أخرى في تخصص آخر، فعندهم عيب في حقه لما يقول: لا أعلم، بل يعالج، فلو عالج غير متخصص مريضاً فآذاه في نفسه أو ما دون ذلك فهو ضامن، يعني: يدفع له دية الشيء الذي أخطأه، سواء كانت في النفس أو في العضو الذي أصيب بالعلاج الخطأ هذا. أما الطبيب الماهر فليس ضامناً، يعني: الطبيب الماهر إن حصل منه خطأ ولم يكن هذا الخطأ عن إهمال ليس ضامناً؛ لأنا لسنا مطالبين بأننا نعالج المرضى (100%)؛ لأن هناك أمراضاً لا يعلم شفاءها إلا الله عز وجل، وهناك أخطاء مقبولة في حق الأطباء علمياً وموجودة في الكتب، لكن الأخطاء من غير الماهر أو من غير الطبيب المتخصص غير مقبولة بالمرة، قيل هذا الكلام من أكثر من (1400) سنة. انظروا إلى الدقة! وانظروا إلى حياته صلى الله عليه وسلم كيف كانت ثرية بأسس العلم في كل الفروع!! عندما أصيب سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه من الذي عالجه؟ عالجته رفيدة رضي الله عنها وأرضاها وهذه امرأة، هذا الكلام لأخواتنا، هذه امرأة تعالج رجلاً وفي هذه البيئة، يعني: الآن قد نفهم الكلام قليلاً، لكن في الماضي صعب، فقد كانت هي الماهرة في هذا العلم، فقدم لها الرجل المريض لتعالجه رضي الله عنها وأرضاها؛ لأنها كانت متمكنة من العلاج للجرحى. كذلك قضية تأبير النخل فهي قضية في منتهى الأهمية، فالصحابة استشاروا الرسول عليه الصلاة والسلام في تأبير النخل فأشار برأي ليس من آرائه الشرعية، بل رأي غلب على ظنه أنه يصلح، فقال رأيه في هذه القضية، فامتثل الصحابة لكلامه وهو مخالف لعلومهم، لكن هم توقعوا أن رأي الرسول عليه الصلاة والسلام أفضل من رأيهم، فلم تنتج النخيل مثل ما كانت تنتج، وجاء التمر رديئاً، فذهبوا إليه فقال لهم كلمة رائعة صلى الله عليه وسلم -وكل كلامه رائع صلى الله عليه وسلم- قال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، يعني: أنا أقول وأبلغ عن ربي العلوم الشرعية، أما العلوم الحياتية فأنتم أعلم بها، لا بد أن تبدعوا فيها، استشرتموني ولست متخصصاً فيها وقلت رأيي، وأنتم أعلم بها مني، مع أنه من الرسول صلى الله عليه وسلم. هذا الكلام يحتاج إلى فقه، وهذا الفقه تحتاج إليه الأمة؛ حتى تتحرك بهذه الحماسة في هذه العلوم الحياتية إلى جوار العلوم الشرعية.

تحرير الإسلام للعقول واهتمامه بالحجة والبرهان والدليل

تحرير الإسلام للعقول واهتمامه بالحجة والبرهان والدليل الدليل التاسع: أن الإسلام دين يحرر العقل، ويهتم جداً بالحجة والبرهان والدليل، فهو يأمر المسلمين بالتدبر والتفكر في كل شيء، حتى إنه يناقش أموراً في غاية الحرج، يناقش أمور العقيدة، والعقيدة: أن تؤمن بالله عز وجل عن طريق الحجة والبرهان والدليل، لا يقول لك: هو كذا وانتهى، لا، {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79]، هذا دليل عقلي على أن القادر على الإنشاء من لا شيء -من العدم- أقدر على الإعادة من شيء، هذا بالحجة العقلية: {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا} [يس:79 - 80] قد يقول قائل: كيف يجعل من الشجر الأخضر الذي بداخله ماء ناراً؟ نقول له: أليس الميت يخرج منه الحي؟! وقال في الأخير: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس:81] فهذه حجج عقلية تأتي واحدة بعد الأخرى في قضية واحدة، وهناك آيات أخرى كثيرة في نفس السياق يقيم سبحانه وتعالى الحجة على الخلق أنه هو الخالق، وأنه هو الذي يجب أن يعبد، مع ما جاء عن طريق حبيبه صلى الله عليه وسلم. فالإسلام دين يحرر العقل بالفكر والتدبر، وانظر إلى الكون من حولك، وأخرج الثورات التي في باطنه، وأبدع في هذا الخلق، فهذا أمر من رب العالمين سبحانه وتعالى، فهو أمر بالسير في ملكوته عز وجل، والأمر بالسير في الأرض والتفكر والتدبر كثير جداً في كتاب ربنا.

ارتباط قوة الأمة الإسلامية بالتفوق في العلوم الشرعية والحياتية

ارتباط قوة الأمة الإسلامية بالتفوق في العلوم الشرعية والحياتية الدليل العاشر: آخر شيء نذكره في هذا المضمار: أنك إذا راجعت التاريخ الإسلامي ستجد دائماً أن عهود القوة مربوطة بالتفوق في العلوم الشرعية والحياتية، لا يوجد عندنا كما كان عند أوروبا من اضطهاد للعلماء، لماذا أوروبا الآن تنادي بالعلمانية؟ وعلمانية يعني: لا دينية، الإنسان العلماني يقول: لا دين، قضية الدين هذه قضية غير مقبولة، لماذا أوروبا كلها تنادي بالعلمانية؟ لأن الكنيسة الأوروبية الكاثوليكية كانت شديدة وقاسية على العلماء، فقد أوقفت حركة العلم في أوساط القرن السادس عشر عند أول ظهور الحركة العلمية والثورة العلمية، فبدأت الكنيسة تضاد وتحارب هذه الحركة العلمية بمنتهى القوة. وأنتم تعرفون محاكمات كوبرنيكوس ومحاكمات غاليليو، كوبرنيوكوس هذا هو الذي اكتشف أن الأرض تدور حول نفسها وتدور حول الشمس، وأن الشمس هي مركز الكون وليست الأرض كما كان معتقداً قبل ذلك، وهذا الكلام كان مخالفاً للأفكار التي عند الكنيسة، فقالوا له: كيف تقول: إن الأرض تدور؟ يعني: أنا أستيقظ في الصبح وأجد محلي قد انتقل من مكان إلى آخر، هذا ليس من المعقول، أليس كل شيء ثابت حولنا؟ خالف فكرهم فاضطهدوه إلى درجة أنهم هددوه بالقتل فهرب من البلد، وحرقوا كل كتبه ومنعوا تدريسها في كل البلاد، ولم يكتشف أن علمه هذا صحيح إلا بعد عشرات بل مئات السنين من وفاته. وغاليليو حكم عليه بأنه يحبس في بيته إلى أن يموت، وغيرهم وغيرهم ما بين سنة (1481م) إلى (1499م) يعني: في غضون ثماني عشرة سنة قتل في أوروبا تسعون ألف عالم، من أجل هذا صاروا علمانيين؛ لأن الدين عندهم اضطهدوا العلماء، لكن نحن في ديننا -راجعوا التاريخ الإسلامي- ليس كذلك، نحن في تاريخنا علماء الحياة كعلماء الشرع، كانوا مقربين جداً من العامة ومن الحكام في الأغلب الأعم، نعم توجد هناك حالات شاذة كما تحصل في أي مجتمع، لكن الأغلب الأعم أن هؤلاء العلماء كانوا مقدمين ولهم مكانتهم، فعلى سبيل المثال: الخليفة العباسي المشهور المأمون كان إذا ترجم عالم من العلماء كتاباً من لغة غير عربية إلى اللغة العربية أعطاه وزن هذا الكتاب ذهباً، تترجم كتاب كيمياء روماني، أو تترجم كتاب طب مصري، الطب القديم للفراعنة، أو تترجم كتاباً هندياً أو كذا يوزن هذا الكتاب وتعطى ذهباً بوزن الكتاب الذي ترجمته. ماذا عن أخبار الترجمة عند البلاد الإسلامية؟ ترجم اليهود مائة كتاب سنوياً لكل مائة ألف مواطن، أما العالم العربي كله فيترجم ثلاثة كتب لكل مائة ألف مواطن. انظروا إلى هذه المقارنات! اليهود تترجم مائة كتاب إلى اللغة العبرية لكل مائة ألف مواطن، وهم خمسة أو ستة ملايين، كل ذلك؛ من أجل أن ينقلوا لهم العلم الإنجليزي والفرنسي والصيني والياباني وغيره، بينما في العالم العربي كله، كل هذه الدول وهذه الأموال الرهيبة المكدسة لا يترجمون سوى ثلاثة كتب لكل مائة ألف مواطن، هذا قليل جداً، لكن المأمون كان يعطي المترجم وزن الكتاب ذهباً؛ من أجل نشاط حركة الترجمة، فنقلت إلينا علوماً هائلة، أين التشجيع على هذا الأمر؟ هذا في غاية الأهمية يا إخواني! وهذا أبو يعقوب يوسف المريني من هذا أبو يعقوب يوسف المريني؟ الناس التي لم تسمع عن الأندلس لا تعرفه، أبو يعقوب يوسف المريني هذا كان زعيم دولة بني مرين كانت في المغرب، وكان رجلاً من عظماء قواد المسلمين في التاريخ -لعل الكثير لم يسمع عن أبي يعقوب يوسف المريني وكان قد أسر مجموعة من الصليبيين في إحدى المعارك فقام بمبادلات مع جيش الصليبيين، بادلهم الأسرى بكتب إسلامية كان الصليبيون قد أخذوها من مكتبة قرطبة لما دخلوها، وحفظ هذه الكتب التي كان فيها معظم علم الأندلس. انظروا إلى الفكر الذي كان عنده. أيضاً خلفاء المسلمين في الدولة العباسية يسقطون الجزية عن النصارى واليهود في البلد إذا قاموا بالترجمة، واشتغلوا بالعلوم، وكانوا يردون الأسرى إلى الصليبيين في القسطنطينية وفي غيرها، على أن يسمح لعلماء المسلمين أن يذهبوا إلى المكتبات هناك فيترجموا الكتب التي عندهم. هذا يدل على قيمة العلم في تاريخ الحضارة الإسلامية. رأينا محاكمة كوبرنيوكوس ومحاكمة غاليليو. انظروا إلى محاكمة عباس بن فرناس رحمه الله، عباس بن فرناس من علماء المسلمين الأفاضل المشهورين في الأندلس، كان عالماً في العلوم الحياتية، وكان مبتكراً ومبدعاً في أمور كثيرة، ليس فقط في محاولة الطيران، لكن كان عنده أكثر من اختراع، وكان مقرباً للخلفاء في زمانه، والخليفة الموجود في زمانه هو عبد الرحمن بن هشام الأموي وهذا العالم عباس بن فرناس كان له حساد، فذهبوا إلى الخليفة واتهموه بالسحر والشعوذة، وقالوا: يخرج من بيته دخان فهو يخلط أشياء بأشياء ويقول كلمات عجيبة

كيف تصبح عالما [5]

سلسلة كيف تصبح عالماً [5] حين عرف الصحابة ومن بعدهم قيمة العلم ركبوا الصعب والذلول من أجل تحصيله، ومن يقرأ في قصصهم مع العلم يرى العجب العجاب من الصبر والجد والمثابرة من أجل تحصيله، حتى صاروا منارات يهتدى بهم، ويستضاء بنورهم.

ضرورة الاهتمام بالعلم والحذر من اليأس

ضرورة الاهتمام بالعلم والحذر من اليأس أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين. إخواني مازلنا نتدارس سوياً في القضية الهامة التي أثرناها حول العلم: وهي أمة الإسلام بين علوم الشرع وعلوم الحياة، تحدثنا في محاضرة أولى عن قيمة العلم في الميزان الإسلامي. وتحدثنا في محاضرة ثانية عن أن هذا العلم ليس مقصوداً به العلم الشرعي فقط، ولكن المقصود به العلم الشرعي والعلم الحياتي جميعاً كلاهما. ثم ذكرنا في المحاضرة الثالثة والرابعة، الإسلام وعلوم الحياة، وذكرنا الأدلة على أن من مارس واجتهد وكد وتعب في علم حياتي، فإنه بإذن الله إن أخلص النية يكون عمله عملاً من أعمال الآخرة، ويتقرب به إلى الله عز وجل، ونرجو أن يكون ذلك في ميزان حسناته. بعد هذه التطوافة في أهمية العلوم بصفة عامة سواء كانت العلوم الشرعية أو العلوم الحياتية، وبعد الإحصائيات والأرقام التي ذكرناها والتي أبرزت الهوة الواسعة والفجوة الكبيرة بين واقع المسلمين وبين ما ينبغي أن يكونوا عليه، وبين واقع المسلمين وبين الدول الأخرى التي تعاصرنا في هذا الزمان وظروفها قد تتشابه كثيراً مع ظروفنا، بعد هذا الأمر لا بد من وقفة، إن شاء الله في هذا الدرس سنحاول أن نكون عمليين إلى أقصى درجة، في هذا الدرس نريد أن نجيب عن سؤال في غاية الأهمية ألا وهو: كيف نصبح علماء؟ ذكرنا قبل هذا أنه إذا كان طموحك فقط أن تبقى طويلب علم فأكثر ما يمكن أنك ستصير طالب علم، لكن لو كان طموحك أن تكون طالب علم وأكثر فهذا يحتاج إلى إعداد خاص، يحتاج إلى نفسية خاصة وخطة خاصة وحياة خاصة ومنهج مختلف تتناول فيه كل أمور حياتك، ستأكل بطريقة مختلفة، ستنام بطريقة مختلفة، ستمشي بطريقة مختلفة، ستتكلم بطريقة مختلفة، ستقرأ بطريقة مختلفة، أصحابك سيكونون مختلفين، حياتك كلها ستتغير من أجل أن تبقى عالماً من علماء المسلمين في التخصص الذي أنت فيه، ليس بالضرورة أن تكون عالماً في الفقه أو التفسير أو الحديث وإن كنا نحتاج إلى هذه الفروع أشد الاحتياج، ولكن في مجال تخصصك، سواء في علوم شرعية أو علوم حياتية، وفصلنا في أهمية هذا وذاك كثيراً. إذاً: كيف نصبح علماء؟ القضية خطيرة. وذكرنا قبل ذلك أيضاً إحصائية تقول: إن عدد الباحثين في العالم العربي (136) لكل مليون إنسان، بينما عدد الباحثين في إسرائيل (1335) لكل مليون إنسان، وعدد الباحثين في أمريكا أكثر (4000) لكل مليون إنسان، وفي اليابان (5000)، نعم ليس المطلوب أن يكون كل الحضور علماء، لكن المطلوب أن نخرج (5000) باحث لكل مليون إنسان، وليس هذا على الله عز وجل بعزيز عندما تكون النوايا صادقة والطريق سليماً، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]، ولا نريد في هذا المضمار أن نسمع دعاوى الإحباط واليأس، فقد ذكرت في الدروس السابقة بعض الأمثلة الإيجابية، فهناك إخوة سمعوا الحديث عن العلم والتعلم وأهمية السبق في هذا المجال فبدئوا يفكرون كيف يتقدمون بالعلم، وهذا طيب وجميل، لكن هناك على الجانب الآخر من أصيب بالإحباط واليأس نتيجة رؤية الفجوة الكبيرة بيننا وبين غيرنا، فأرسل رسائل لا يستقيم أن تأتي من مسلم فاهم واع، فمثلاً يقول أحدهم: ذكرت أن نسبة الأمية في كوبا صفر في المائة في الشباب، وعلى مستوى الدولة كلها الكبار والصغار والرجال والنساء (0،2 %)، وهذه نسبة هائلة فعلاً، فماذا فعلت كوبا، فهي لم تصنع كالصين ولا ككوريا؟ يعني: ما الفائدة من العلم؟ هذا كلام غريب جداً، أنا أتعجب كيف كتبه! كان عليه أن يفكر قبل أن يكتبها، من هذا الذي يقول: إن العلم ليس له فائدة، وليس بالضرورة إذا تقدمت كوبا في الأمية ومحت الأمية من بلادها أن تصنع ككوريا والصين الآن، لكن انظر إلى المستقبل، وكوبا في السنوات الأخيرة تحقق درجة من أعلى درجات التنمية على مستوى العالم، فهي تسبق بلاداً كثيرة جداً في مستوى التنمية، والتنمية مربوطة ربطاً وثيقاً بالعلم، كلما زاد العلم زادت التنمية في البلد، وكلما زادت موارد الدولة زادت إمكانياتها الاقتصادية والتصنيعية، ولا مانع من أن تزيد ببطء، المهم أنها تزيد، لكن أن يقول إنسان: كيف بدولة متعلمة ولم تصنع مثل هذه أو تلك؟ نقول: نحن لا نريد أن نقفز مرة واحدة إلى مستوى أعلى الدول في يوم أو يومين، هذا مخالف لسنن التدرج، لكن المهم أن تسير في الطريق السليم. وشخص آخر أيضاً بعث لي (إيميل) يقول لي: إن أحد المراكز للبحوث في مصر يقوم بعمل البحوث العلمية ثم يقوم بتصديرها إلى أوروبا أو أمريكا؛ لأنه لا توجد عندن

معرفة قيمة العلم

معرفة قيمة العلم أول شي من أجل أن تصبح عالماً: أن تعرف قيمة الأمر الذي تجاهد من أجله، على قدر قيمة الأمر في ذهنك، على قدر العمل، وعلى قدر الوقت، وعلى قدر الجهد الذي تبذله في هذا الأمر، وقد ذكرنا أحاديث كثرة جداً في قيمة العلم وفضله، أنت تريد أن تكون عالماً؟ كلنا نريد أن نكون علماء، أذكركم بحديثين لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أن تعرفوا ماذا تعني كلمة عالم؟ وما هو مطمحنا الذي نبحث عنه؟ كلما كبر طموحك في قضية من القضايا فرغت لها جزءاً من عمرك، هناك ناس تقاتل وتجاهد من أجل الدنيا، تراه ساهراً (24) ساعة يتصارع مع هذا ومع ذاك، ممكن يختلف ويتشاجر حتى مع إخوانه، ممكن يدلس، ممكن يسرق، وحتى في الحلال قد يبذل المرء كل الوقت وكل الجهد وكل الفكر، ويقرأ ويبحث ويسافر ويسهر ويكدح من أجل أن يجمع مالاً، فلا بد أن تبذل الجهد والوقت في قضية العلم إن كنت تعرف قيمته، أما إذا كنت. لا تعرف قيمته فقد تعطيه جزءاً يسيراً من جهدك ووقتك، ستذاكر ربع ساعة، ثلث ساعة، قبل الامتحان أياماً قليلة، حسب قيمة العلم في ذهنك، هناك ناس تقاتل من أجل السلطة وترون إلى أي درجة تكون التصارعات على السلطة، والدماء التي تسيل والأشلاء التي تقطع هنا وهناك في مشارق الأرض ومغاربها، تقاتل الناس من أجل السلطة حين أحست بما أحس بقيمة السلطة، وأنت على قدر قيمة العلم عندك اعمل واجتهد، وانظر إلى قيمة العلم وقيمة العالم في نظر حبيبنا صلى الله عليه وسلم، يقول صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)، تكلمنا عن الحديث من قبل، وبفضل الله كل هؤلاء الحضور فتحوا لهم طريقاً إلى الجنة، نسأل الله القبول منا أجمعين، وكلما بعدت المسافات وجاء من مكان بعيد كان الطريق أوسع وأرحب وأعظم إلى الجنة. ثم من الكلمات الجميلة جداً يقول صلى الله عليه وسلم: (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم؛ رضاً بما يصنع)، يعني: عندما تأتي لطلب العلم تقابلك الملائكة في الطريق -وأنت لا تراها لكن هي تراك- فتضع أجنحتها لك؛ تواضعاً لك، وتعظيماً لك، وتكريماً وتبجيلاً لك، تقف لك الملائكة في الطريق هكذا؛ لأنك تذهب إلى مجلس علم تلتمس علماً، انظر إلى عظم الأمر، تغيرات كونية هائلة، تنزل الملائكة وتضع أجنحتها لا تحرسك فقط، بل تتواضع لك، وتبجلك وتعظمك. وجاء في الترمذي وأبي داود وابن ماجه -وهو حديث صحيح- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض) عندما تجعل هدفك في حياتك أنك تصبح عالماً في مجال من مجالات العلوم النافعة للمسلمين تصبح في هذه الدرجة العجيبة، يستغفر لك من في السماوات ومن في الأرض، قد يخطر على بالنا أن من في السماوات الملائكة، ومن في الأرض البشر فقط، نقول: لا، بل هناك أشياء أخرى تستغفر لك غريبة جداً يقول: (حتى الحيتان في الماء)، يعني: حتى السمك في الماء يستغفر لك، وكذلك الحيوانات، وكذلك النباتات، وكذلك كل خلق من خلق الله عز وجل؛ لأنه لما قال: (حتى الحيتان) يعني: أن كل شيء في الكون يستغفر لك حتى الحيتان في الماء، وهي أصلاً لا تراك بعيدة عنك ومع ذلك تستغفر لإنسان يطلب العلم، أليست هذه درجة نطمح جميعاً أن نكون فيها؟! ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب) فائدة القمر عظيمة مقارنة بغيره من الكواكب. وقوله: (فضل العالم على العابد) يعني: لو قال: فضل العالم على الجاهل لفهمنا المعنى، ولو قال: فضل العالم على الفاسق لكان واضحاً، لكن قال على العابد، يعني: العالم أفضل من إنسان عابد لربه سبحانه وتعالى؛ لأن العابد ليس على علم، فالفرق بين العابد وبين العالم كالفرق بين القمر ليلة البدر وسائر الكواكب. ثم يقول: (وإن العلماء ورثة الأنبياء) يعني: إن كنت تريد أن ترث حبيبك صلى الله عليه وسلم فهو لم يترك مالاً صلى الله عليه وسلم وإنما ترك العلم، فهذا هو ميراث الحبيب صلى الله عليه وسلم وميراث الأنبياء جميعاً: (وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر) يعني: أنت تنافس العالم وترجو أن تكون في مقامه، وتتمنى أن تكون في موضعه، لكن أحياناً طموحنا نريد أن نكون مثل فلان في ثروته، مثل فلان في سلطته، مثل فلان في وضعه الاجتماعي، مثل فلان في شكله، وهذه الأمور كلها لا تساوي شيئاً، الذي يساوي حقيقة هو ميراث الأنبياء العلم، (فمن أخذه أخذ بحظ وافر) يعني: أخذ بفضل كبير جداً. والعلم هو ما أعطاه ربنا سبحانه وتعالى لأخص أهله من أهل الأرض الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. في الحديث السابق يقارن الرسول عليه الصلاة والسلام بين العالم والعابد، ويجعل المقارنة بينهما القمر ليلة البدر وسائر الكواك

قيمة العلم عند الصحابة والتابعين ومن بعدهم وجهودهم في تحصيله

قيمة العلم عند الصحابة والتابعين ومن بعدهم وجهودهم في تحصيله لقد كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه من العلماء الأفذاذ في الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وقد قال كلمة عجيبة جداً، قال: ليودنّ رجال قتلوا في سبيل الله شهداء، أن يبعثهم الله يوم القيامة علماء؛ لما يرون من كرامتهم. يعني: من قتل في سبيل الله شهيداً عندما يرى مكانة العالم يوم القيامة يتمنى أنه لو كان عالماً وليس شهيداً، انظر إلى أي حد وصلت قيمة العلم في نظر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وعمل بهذا القول طيلة حياته، فكان من أعظم علماء الأرض رضي الله عنه وأرضاه، ورضي الله عن الصحابة أجمعين. وكذلك نفهم الكلمة التي قالها الحسن البصري وقد ذكرناها لكم في درس سابق، قال: يوزن مداد العلماء بدماء الشهداء فيرجح مداد العلماء. فـ الحسن رحمه الله أخذها من كلمة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه كما ذكرنا قبل ذلك أن العابد والمجاهد والمناضل وصاحب القضايا الهامة إذا فعل كل ذلك ليس عن علم فإنه يضل ويضل، وذكرنا فتنة الخوارج، وذكرنا أمثلة أخرى كثيرة. وهذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان يقول: العابد الذي يعبد الله على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح من أجل هذا قدم الصالحون العلماء، ورفعوا قدرهم، بصرف النظر عن النسب وعن الشكل وعن السن وعن القبيلة، لا توجد اعتبارات لهذه الأشياء مطلقاً في عرف الفاهمين، العلماء هم أعلى الأمة، لا سلطان ولا صاحب مال ولا أي شيء آخر أعلى من العلماء.

قصة معاذ بن جبل وزيد بن ثابت مع العلم

قصة معاذ بن جبل وزيد بن ثابت مع العلم لقد كان معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه شاباً صغيراً، ومات في سنة (18هـ)، وكان عمره (35) سنة، أو (36) سنة، أو (38) سنة في أكثر الروايات تقديراً لعمره، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يقول عن معاذ بن جبل: (أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل) فالقيمة العلم عند الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم رفعوا قدر معاذ وعظموا أمره، فكانوا لا يرفعون أعينهم في وجهه حياء وإكباراً له رضي الله عنه وأرضاه. ودخل أبو مسلم الخولاني مسجد دمشق فوجد شاباً صغيراً جالساً، وحوله شيوخ وهؤلاء الشيوخ الكثير منهم من الصحابة، وكانوا جالسين حول شاب صغير لا يتحركون إلا بأمره ولا يصدرون إلا عن رأيه، وإذا حزبهم أمر لجئوا إليه، فأستغرب أبو مسلم الخولاني وقال: ما هذا؟! ما الذي يحصل؟! من هذا الشاب الصغير الذي التف حوله الكهول من الصحابة؟! فقال: من هذا؟ فقالوا: هذا معاذ بن جبل رضي الله عنه. نظرتم يا إخواني إلى قيمة العلم، هو لم يولد عالماً، إنما مشى في طريق العلم، هناك جهد بذله، وكان مقدراً لقيمة العلم فقد جعل كل حياته موجهة لتحصيله، فرفع رضي الله عنه بهذا الأمر يقول عمر بن الخطاب رضي لله عنه وأرضاه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله عز وجل يرفع بهذا الكتاب -أي: القرآن- أقواماً ويضع به آخرين) يعني: من عرف القرآن يرفع، ومن لا يعرف عنه أي شيء يوضع. وهذا زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه كان شاباً صغيراً من الأنصار، وكان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يجلونه تمام الإجلال رضي الله عنه، لدرجة أن عبد الله بن عباس وهو حبر الأمة ومن أعظم علماء المسلمين كان إذا ركب زيد بن ثابت دابته أمسك بلجامها ويمشي بها، وزيد بن ثابت كان يرفض ويقول: دع عنك يا ابن عم رسول الله، فيقول عبد الله بن عباس: أمرنا أن نفعل ذلك بعلمائنا، فيقول له زيد بن ثابت: أرني يدك، فيعطيه يده فيقبلها. يعني: زيد بن ثابت العالم يقبل يد عبد الله بن عباس ويقول: وكذلك أمرنا أن نفعل بآل بيت رسولنا صلى الله عليه وسلم. انظروا إلى العلاقة الطيبة الجميلة بين علماء الأمة، هذا حبر الأمة عبد الله بن عباس، وهذا من أعظم علماء الأمة زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه. ولما دفن زيد بن ثابت قال عبد الله بن عباس: دفن هكذا دفن اليوم علم كثير. أي: علم زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه.

قصة عطاء بن أبي رباح والكسائي مع العلم

قصة عطاء بن أبي رباح والكسائي مع العلم لقد كان سليمان بن عبد الملك الخليفة الأموي المشهور في الحج، وكان معه اثنان من أولاده في الحج، فاحتاج أن يسأل بعض الأسئلة الفقهية في أمور الحج. الحج ليس من الأمور السهلة عند عموم الناس، فليس كل واحد يحج كل سنة مرة، قد تتباعد السنوات، وقد يكون أول مرة يحج فيها، فيريد أن يسأل أسئلة، فيريد أن يذهب إلى عالم، فـ سليمان بن عبد الملك أراد أن يسأل فدلوه على عطاء بن أبي رباح رحمه الله وهو من التابعين وكان عبداً وأعتق، كان عبداً أسود وفي عينه مرض، يقال: إنه كان لا يرى إلا بعين واحدة وكان يعرج وأسود، كل الآفات أو العاهات التي ممكن تعجز الإنسان عن الحركة في حياته، وتهبط من معنوياته، لكنه مع كل هذا كان عالماً من أعظم علماء المسلمين، فاحتاج له سليمان بن عبد الملك وولداه فذهبوا من أجل أن يسألوه، ووقفوا خلفه وهو يصلي فلما أتم صلاته سألوه فما التفت إليهم، انظروا إلى عزة العالم، وقف يصلي في مكانه بجوار الكعبة، وهم واقفون وراءه، فلما أتم صلاته سألوه فرد عليهم ولم يلتفت إليهم، ليست له إليهم حاجة، لم يرد مالاً ولم يرد وضعاً اجتماعياً، ولم يرد منصباً معيناً يأخذه، ولم يرد قضاء ولم يرد أي شيء، إنما يريد العلم لله عز وجل فرفعه الله به، فظل سليمان وولداه واقفين يسألونه في منتهى الذلة لعلمه، وبعد ما أكملوا أسئلتهم قال سليمان بن عبد الملك لولديه الاثنين: يا أولادي لا تنيا في طلب العلم. أي: لا تكسلا في طلب العلم، قال: لا تنيا في طلب العلم؛ فإني والله ما أنسى أبداً ذلنا بين يدي العبد الأسود. يعني: نحن المحتاجين لما عنده من العلم وهو ليس محتاجاً لنا، لن يعدم قوتاً، ولن يحرم أبداً من رزق، فهذا أمر مكفول، أما العلم فقد يحرم منه كثير وكثير، إذاً: الرزق مكفول لك، أما العلم فلا بد أن تسعى لتحصيله. وهذا هارون الرشيد كان له ولدان وهما الأمين والمأمون فأتى لهما بعالم من علماء الأمة ليعلمهما وهو الكسائي رحمه الله، فكان الكسائي إذا وصل إلى الباب تسابق كل منهما من أجل أن يفتح للكسائي، يتسابق الغلامان الأمين والمأمون وهما أولياء عهد للأمة، لحمل نعلي العالم الكسائي رحمه الله، فـ هارون الرشيد عندما سمع هذا الكلام دعا الكسائي وقال له: يا كسائي! قال: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: من أعز الناس؟ قال: أمير المؤمنين، فقال هارون الرشيد: بل أعز الناس من إذا أتى الباب تسابق أولياء العهد على فتحه له، هذا أعز من أمير المؤمنين، وأعلى درجة من أمير المؤمنين. هذه قيمة العلم الحقيقية، وهذه هي الدرجة التي وضع فيها الصالحون علماء الأمة، وهذا ما نريد أن نصل إليه إن شاء الله رب العالمين. إذاً: أول شيء أن أعرف أن ما أبحث عنه غال جداً، حتى أضحي من أجله، أما لو كان هذا الشيء هامشياً في حياتي فإني لا أفرغ له وقتاً، قد تقول: هناك أمور كثيرة تشغلنا، ولم نحصل على وقت نذاكر فيه، وقد تقول: الظروف منعتني وغير ذلك من الأمور.

تأثير ظروف الحياة في طلبة العلم والعلماء

تأثير ظروف الحياة في طلبة العلم والعلماء تعالوا نرى الظروف: هل أثرت في حياة العلماء، أم هم الذين أثروا فيها، وأصبحوا في النهاية من أعظم علماء الأمة؟! بعد ما عرفت قيمة العلم سأعطيك في هذا اليوم درساً مهم جداً؛ لكي تكون عالماً، هذه كلمة قالها يحيى بن أبي كثير رحمه الله وهو من التابعين وهذه الكلمة موجودة في صحيح مسلم، وهي ليست من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن من كلمات يحيى بن أبي كثير رحمه الله قال: لا يستطاع العلم براحة الجسم. يعني: إذا كنت تريد أن تصبح عالماً فلا تركن إلى الراحة والدعة، بل لابد أن تتعب في تحصيل العلم؛ ولهذا سئل الشافعي: كيف طلبك للعلم؟ قال: كطلب المرأة المضلة ولدها ليس لها غيره. كيف يكون حال المرأة التي عندها طفل واحد فضاع عليها؟! فـ الشافعي رحمه الله يبحث عن العلم كبحث هذه المرأة عن ولدها الضائع. إذاً: عرفتم قيمة العلم عند الشافعي، بهذا أصبح الشافعي رحمه الله عالماً كبيراً وإماماً عظيماً. لا تحسبن المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا هناك ناس تظن أن العلم درس أو درسان أو محاضرة أو محاضرتان، وأن الدكتور سيعطي لنا وصفة هائلة، وسنصبح علماء الأمة، والناس تأتي متحمسة لدرس هذا اليوم، كيف تصبح عالماً؟ والحمد لله سنخرج من المسجد ونحن علماء الأمة، أقول: هذا مستحيل، نحن نحتاج إلى سنين وسنين وإلى عمر طويل ينفق في العلم، من أول ما تعتقد هذا الاعتقاد السليم وإلى آخر نفس يخرج من صدرك، وسنضرب بعض الأمثلة لبعض العلماء الذين يطلبون العلم وهم يحشرجون حشرجة الموت، في آخر لحظة من لحظات الحياة يبحثون ويطلبون على العلم. لعلكم سمعتم كلمة أحمد بن حنبل رحمه الله المشهورة: من المحبرة إلى المقبرة. يعني: أنا معي محبرة العلم إلى أن أدخل القبر بها. والإمام أحمد بن حنبل كانت حياته صعبة جداً، من نشر سنة وجمع حديث وتعليم لناس، وتعذيب في السجون حياة صعبة جداً، وسئل: متى تستريح يا إمام؟ قال: عندما أضع قدمي في الجنة. الدنيا لا توجد فيها راحة، إذا كنت تريد أن تصبح عالماً فاتفق معنا في هذا الوقت وعاهد ربك أنك لن تستريح حتى تصبح عالماً، وستبقى في طلب العلم حتى الموت؛ لأن ما تطلبه غال جداً: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) (ليس الإيمان بالتمني). يذكر ابن الجوزي رحمه الله عن أحد الفقهاء أنه قال: بقيت سنين أشتهي الهريسة ولا ألقاها؛ لأن بائع الهريسة يبيعها في وقت الدرس. فهو لا يريد أن يترك الدرس من أجل الهريسة، كانوا أصحاب نفوس عالية، وفي النهاية أصبح عالماً من علماء الأمة، والله سبحانه وتعالى يضرب لنا الأمثال بأعظم الخلق وهم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. كلنا يعلم قصة موسى عليه السلام مع الخضر، وموسى عليه السلام ليس نبياً فقط ولكن من أولي العزم من الرسل، ومع ذلك عندما أعلمه الله عز وجل أن في الأرض من هو أعلم منه وهو الخضر رحمه الله قال موسى كما حكى ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم عنه: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف:60]، يعني: لو جلست سنين وسنين للبحث عن الرجل الذي يملك علماً أكثر مني، حتى لو كنت أنا رقم (2) في العلم في العالم فسأبحث عليه حتى أتعلم العلم الذي عنده، ولما ذهب إليه تواضع له وقال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66]. الذي يتكلم نبي من أولي العزم من الرسل، وهذه كلمات جاءت في كتابنا تعليماً لنا، انظروا إلى التواضع للعلماء، يتواضع له ويشترط عليه الخضر ويوافق على الشرط ويسير معه، ويعتذر له مرة وثانية وثالثة، لماذا؟ لأن قضية العلم قضية مهمة، حتى موسى عليه السلام يبحث عن العلم بهذه الصورة كما جاء في القرآن، وكما ورد في البخاري.

قصة ابن عباس والفتى الأنصاري مع العلم

قصة ابن عباس والفتى الأنصاري مع العلم اجتهد الصحابة في تحصيل العلم بما لا يتسع المجال لذكره، من ذلك: أن حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عمره أربع عشرة سنة، ما زال صغيراً، فكان معه واحد من الأنصار صاحبه، فقال له: عبد الله بن عباس: تعال نسمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم اليوم كثير. يعني: في هذا الوقت عندك فرصة لطلب العلم، فقد لا تجد المحاضر، أو المكان، أو نفقد نفسك، هناك عراقيل لا حصر لها، فالحق بسرعة، فـ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول: يقول له: تعال بسرعة نسمع من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وهم كثير في هذا الوقت عما قريب سيموتون، أو يغادرون المدينة للجهاد وفتح البلدان، فقال له الفتى الأنصاري الصغير: عجباً لك يا ابن عباس! أتحسب أن الناس تحتاج لك ولعلمك، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون؟! يعني: فالصحابة كثير جداً أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن وكل واحد منهم أمة، فهؤلاء موجودون في المدينة وأنت ذاهب لتتعلم، ماذا ستعمل؟ ستفتي وعمر بن الخطاب موجود، ستفتي وعثمان موجود رضي الله عنهم أجمعين، لا يوجد داعي لأن تتعب نفسك، واتجه هذا الفتى الأنصاري للعب، وعبد الله بن عباس لم يسمع كلامه. فأصدقاء السوء يحذر منهم، قد يقول لك: تعالى نجلس، ويصرفك عن العلم. إذاً: نحن نريد أن نأخذ القضايا بنوع من التجرد لله عز وجل، قدم لله عز وجل ما يسرك عند لقائه سبحانه وتعالى يوم القيامة، حتى تكون فخوراً بما قدمت يوم القيامة، فـ عبد الله بن عباس ترك الفتى الأنصاري وذهب واتجه للعلم، كان يذهب إلى بيوت علماء الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم واحداً تلوى الآخر، يذهب فيجد أحد الصحابة نائماً وقت القيلولة فيتوسد رداءه على باب بيته هذا عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك ينام على باب الصحابي الذي عنده علم حتى يخرج ويسأله، وفي رواية: فتسفي علي الريح من التراب ما تسفي. كانت شوارع المدينة المنورة من الرمل، لم تكن الشوارع مرصوفة، كل هذا من أجل العلم. وتمر الأيام وينظر الفتى الأنصاري عندما كبر إلى الشاب عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وهو جالس والناس حوله بالمئات يستمعون لكلمته وينظرون إلى فتواه، رضي الله عنه وعن أبيه، فيقول كان هذا الفتى -يعني: عبد الله بن عباس - أعقل مني. يعني: ذهب علي وقت طويل جداً لم أتعلم فيه. من أجل هذا أقول لكم: من هذا الوقت نبدأ رحلتنا في العلم، لا من السنة التي ستأتي، أو الأسبوع القادم، لا. فهذا شخص قبل الاختبار يريد عمل جدول للمذاكرة فيقول: أنا أريد أعمل الجدول من أول الأسبوع من أجل البداية، ويكون هناك يومان حتى يأتي أول الأسبوع، فيلعب في هذين اليومين؛ لا توجد عزيمة ولا يوجد هدف، وهناك ناس لا تعمل جدول مذاكرة أساساً، يقول: هكذا وربنا يسهل بالبركة، وينتظر الواحد من هؤلاء أن يكون من علماء الأمة، نقول: هذا مستحيل، لابد أن يبذل، لا يستطاع العلم براحة الجسم. احفظ هذه الكلمة الموفقة لـ يحيى بن أبي كثير رحمه الله. فـ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كان يجلس على باب أبي بن كعب رضي الله عنه؛ لأن أبي بن كعب كما يقول عبد الله بن عباس من الراسخين في العلم، فيجلس على بابه ولا يدق عليه حتى يخرج، فإذا خرج مشى معه إلى المسجد ويسأله، فـ أبي بن كعب عندما يخرج ويجد ابن عم رسول الله جالساً بالباب يقول له: هلا أخبرتني فآتيك؟ لمكانه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عباس ما يزال صغيراً، فيقول أبي بن كعب: هلا أخبرتني فآتيك؟ فيقول ابن عباس: أنت أحق أن آتيك. يعني: أنت العالم ونحن الذين نأتي لنتعلم عندك. يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: عندما فتحت البلاد والأمصار أقبل الناس على الدنيا وأقبلت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأستفيد من علمه. كثرت الفتوحات في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكثرت الأموال والخيرات والقصور والثمار والظلال الوارفة، فأهل الجزيرة العربية كانوا يعيشون في صحراء قاحلة، فأول ما حصلت هذه الفتوحات ذهبوا من الجزيرة إلى الشام وإلى العراق وإلى مصر، وابن عباس ذهب إلى عمر بن الخطاب، أي فوز حققه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما؟ لقد أصبح حبر الأمة رضي الله عنهما.

قصة جابر بن عبد الله وأبي أيوب الأنصاري مع العلم

قصة جابر بن عبد الله وأبي أيوب الأنصاري مع العلم بعض الناس تتعب من الذهاب مسافة قصيرة لدرس العلم وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما سافر من المدينة المنورة إلى الشام من أجل حديث واحد يعرفه أحد الصحابة في الشام وهو لا يعرفه، شهر ذاهب وشهر عائد، خرج من المدينة من المدينة إلى عمق الشام وأخذ الحديث ورجع إلى المدينة. فهو لم يذهب في جولة سياحية إلى دمشق، ولا ليتفسح أو يشتري شيئاً من بيروت، لا، بل ذهب من أجل حديث واحد. وهذا أبو أيوب الأنصاري خرج من المدينة المنورة إلى مصر إلى الفسطاط من أجل حديث واحد ولم يحل الراحلة. يعني: ترك الجمل واقفاً ونزل فسأل عن الحديث ثم ركب الجمل ورجع إلى المدينة من فوره. هذه قيمة العلم عندهم، أتريد أن توزن مع هؤلاء في ميزان واحد؟ لابد من جهد وتعب: لا يستطاع العلم براحة الجسم، سأكرر عليكم هذه الجملة (20) مرة، إلى أن تخرج وأنت عازم النية على عدم الراحة، إلا هناك في الجنة إن شاء الله رب العالمين. والعلماء من بعد الصحابة رضي الله عنه وأرضاهم كان لهم من السعي للعلم ما يعجز القلم أو اللسان عن تصويره. فمثلاً: السهر، هل تسهرون؟ هناك ناس تسهر من أجل مشاهدة التلفاز، وهناك ناس تسهر في المقاهي، وهناك ناس تسهر من أجل شيء، وإنما من أجل السهر، فهو قد يعمل أي شيء من أجل تضييع الوقت إلى أن يأتيه النوم، يجلس يعد من (1 - 100) أو من (10 - 1000) إلى أن ينام، هكذا في الكتب الطبية التي تساعدك على النوم، حتى إنهم لم يقولوا: قل: سبحان الله مثلاً إلى أن تنام، لا، بل عد واحداً اثنين ثلاثة أربعة عشرة. انظروا كيف تسهر هذه الجماعة من الناس؟!

قصة الإمام النووي مع العلم

قصة الإمام النووي مع العلم لقد بقي النووي رحمه الله مدة حياته في طلب العلم ومات وعمره (44) سنة، لكن لم يمت حتى خلف ميراثاً من العلم، وكتب الله لعلمه الانتشار والشيوع في بلاد العالم الإسلامي، نسأل الله عز وجل أن يتقبل منه وأن يرفع من درجاته، لم يكن ذلك بالسهل، وإنما كما يقول النووي عن نفسه: بقيت سنتين وأنا في طلب العلم ما وضعت جنبي على الأرض ولا على فراش، فكان إذا غلبني النوم اتكأت على بعض كتبي برهة، ثم أستيقظ وأعمل في طلب العلم. قد يقول قائل: لقد عذب نفسه، نقول: صحيح أنه تعب وبذل واجتهد وقد مات منذ مئات السنين وذهب ذلك التعب والألم وبقي الأجر إن شاء الله، وإلى وقتنا هذا تقرأ في صحيح مسلم بشرح النووي وتقرأ في (رياض الصالحين) وفي (الأربعين النووية)، جمع أربعين حديثاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم حتى دون تفسير. إذاً: كل من قرأ حديثاً من هذه الأحاديث أو شرحاً من الشروح أو كتاباً من كتب أصول الفقه التي ألفها أو غيرها من المؤلفات الهائلة فإنه يأخذ حسنات وهو في قبره ويظل ذلك إلى يوم القيامة، فأنت عندما تذهب إلى المغرب أو سوريا أو السعودية أو أمريكا أو أوروبا تجد كتب النووي رحمه الله، هذه بركة عظيمة، إنها بركة العلم، لكن لم يأت بالسهل، بل بقي سنتين لم يهنأ بالنوم. وهذا البدر بن جماعة رحمه الله من علماء الأمة يقول: لما دخلت على النووي صعب علي الجلوس، لم أحد مكاناً أجلس فيه من كثرة الكتب الموجودة على الأرض، فنزع بعض الكتب حتى أوجد لي مكاناً أجلس فيه، وأنا جالس معه لا أستطيع أن أكلمه؛ لأنه مشغول بالعلم، كطلب المرأة المضلة ولدها ليس لها غيره، هذا كلام في منتهى الروعة للشافعي رحمه الله، لو أن واحدة ضاع ابنها وجاءت أخرى تتكلم معها، هل ستترك ابنها وتتكلم معها؟ هي محروقة من داخل؛ القضية هامة ستظل تدور وتدور إلى آخر نفس في حياتها هكذا طالب العلم. يقول الحسن البصري: اثنان لا يشبعان: طالب دنيا، وطالب علم. لو أفنيت عمرك كله ما حزت العلم كله، ولما شبعت منه، وكلما أخذت منه شيئاً بقي منه شيء كثير، ولن تستطيع الإحاطة به، قال تعالى في الآية الكريمة: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]، فدائماً العلم كثير. أذاً: لن ينتهي العلم أبداً إلا بالموت، وإذا مت وقد اجتهدت في العلم تجد الأجر والمثوبة على ما قدمت. وطالب الدنيا أيضاً لا يشبع، والله لو عنده من الأموال كماء البحر، فهو كأنه يشرب من البحر لا يرتوي أبداً طالب الدنيا.

قصة ابن عبدوس وعبد الرحمن بن القاسم المصري ومالك والبخاري مع العلم

قصة ابن عبدوس وعبد الرحمن بن القاسم المصري ومالك والبخاري مع العلم لقد كان محمد بن عبدوس رحمه الله من علماء الأمة وقد صلى الصبح بوضوء العشاء (30) سنة. يعني: أنه لا ينام؛ لأن النوم ينقض الوضوء، قد تقول: هذا تشدد، نقول: نحن نريد أن نطرح أمثلة عليا، من أجل أن نعمل بنصفها أو ربعها، أنا لا أقول لك: لا بد أن تعمل مثل محمد بن عبدوس، فـ ابن عبدوس صلى الصبح بوضوء العشاء (30) سنة، (15) سنة دراسة، و (15) سنة عبادة، كان يبقى من بعد صلاة العشاء يذاكر العلم إلى الفجر وهو محافظ على وضوئه، ثم يذهب ويصلي الفجر بوضوء العشاء. وهذا عبد الرحمن بن القاسم رحمه الله أحد تلامذة الإمام مالك رحمه الله، كان يذهب إليه في الليل فيسأله مسائل، ويجد عند الإمام مالك في ذلك الوقت انشراح صدر، فيجلس ليعلمه حديثاً واثنين وثلاثة وعشرة، وفي يوم من الأيام كان يريد أن يسأله عن أحاديث، لكنه جاء إليه في وقت متأخر جداً فاستحى أن يدخل عليه، فنام على باب بيته، فخرج الإمام مالك فرآه نائماً، فأيقظه فلم يستيقظ، فذهب إلى المسجد، فخرجت جارية من الجواري من البيت توقظه وتقول له: قم يا غفلان، الإمام غدا إلى المسجد، تقول الجارية: الإمام مالك له إلى الآن (49) سنة يصلي الصبح بوضوء العشاء، (49) سنة حتى أصبح الإمام مالك من كبار علاء المدينة، وأصبح لا يفتى ومالك في المدينة. ومذهب مالك من المذاهب المعتبرة في بقاع العالم الإسلامي المختلفة، وإلى الآن يتعبد إلى الله عز وجل الكثير والكثير من المسلمين على فقهه وعلى مذهبه رحمه الله، هذا يدل على أنه قد قدم الكثير. وكان الإمام مالك من أغنى المسلمين، لكن لم يكن يحتفظ بالمال، بل كان يأتي إليه طلبة العلم ليعلمهم، فكان يأتيه طلاب من بلاد بعيدة فيستضيفهم ويطعمهم وينفق عليهم، وفي آخر حياته باع الخشب الذي في سقف بيته من أجل أن ينفق على طلبة العلم، وأنفق كل المال الذي معه على طلبة العلم. انظر إلى القيمة العليا للعلم في نظره، لو كان يرى أن هذا المال ينفق على الفقراء والمساكين وفي سبيل الله وما إلى ذلك أفضل لكان أنفقه في هذه الوجوه، لكنه يرى إنفاقه على العلم أفضل، كما قلنا من قبل في درس سابق: المسلمون في هذا الوقت بفضل الله عندهم صحوة إسلامية وحمية وينفقون، لكن نادر جداً الذي ينفق على العلم، ننفق على موائد الرحمن وهذا طيب، وننفق على فلسطين وهذا رائع، وننفق على اليتامى والمساكين وبناء المساجد وهذا رائع جداً، لكن من الذي ينفق على العلم؟ من الذي يعطي العلم هذا القدر من الاهتمام؟ قليل، ولا تقوم الأمة إلا بالعلم، فينبغي لنا أن نهتم بأسباب قيام الأمم. وهذا البخاري أيضاً كان يذهب لينام فيذكر مسألة وهو على سريره فيقوم ويكتبها، يخاف أن ينساها، ثم ينام، ويذكر مسألة أخرى فيقوم ويكتبها، وثالثة ورابعة، يقول ابن كثير رحمه الله في التاريخ عندما تحدث عن البخاري قال: فيزيد عدد مرات قيامه في الليلة الواحدة على (20) مرة. (20) مرة يقوم في الليلة الواحدة من أجل أن يسجل معلومات تنفع الأمة حتى صار كتابه أصح كتاب في الأرض بعد كتاب الله عز وجل بإجماع علماء المسلمين، هذه هي قيمة البخاري. وهناك أناس تكتب في الجرائد على البخاري وما وصلت إلى ظفر قدمه الأصغر، ويقول أحدهم في كلمة: فليقل البخاري ما يقول. يعني: كأنه يقول من نفسه، وكأنه لم يكن عنده منهج علمي واضح يمشي عليه، وقد حج كل من عارضه، لقد عارض بعض الناس البخاري في بعض الأحاديث وقالت: الصواب كذا وكذا، وليس الصواب كما كتب البخاري فحجها الإمام البخاري كان الصواب في جانبه فأقر الجميع أنه من أعظم علماء الأمة، وكتابه أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل. هذا الكتاب لم يأت من فراغ، فـ البخاري كان يحفظ ستمائة ألف حديث. من المصلحة أن نفرد حديثاً خاصاً بـ البخاري؛ من أجل ألا تحرموا الفوائد التي كانت في حياته رحمه الله، وأنا كلما أذكر شيئاً عن البخاري أراه معجزة، لقد كان البخاري بآلاف الرجال، فالله سبحانه اصطفاه حتى جعل كتابه أعظم كتب السنة مطلقاً، فهذا الرجل قدم كثيراً، لم يكن يكتب حديثاً واحداً في صحيحه إلا بعد أن يقوم يتوضأ ويصلي ركعتين استخارة، ثم يكتب الحديث الواحد، وكتابه فيه (7000) حديث بالمكرر، ومن غير المكرر (2612) هذا جهد ضخم من (600) ألف حديث غربل هذا الكتاب العظيم صحيح البخاري. لا يقل أحد: أنت أطلت، لا، نحن نجلس مع العلم، وقلنا: لا توجد راحة جسم ولا نوم في العلم، بل سهر في طلب العلم، ومجلسكم هذا في سبيل الله، لو كنت ستذهب إلى شيء أعظم من العلم فاذهب، أما أن تذهب لتنام قليلاً أو لتشاهد التلفاز فلا،

قصة محمد بن الحسن الشيباني وأسد بن الفرات مع العلم

قصة محمد بن الحسن الشيباني وأسد بن الفرات مع العلم لقد كان محمد بن الحسن الشيباني لا ينام، هو كإنسان يريد أن ينام، فلا تظنوا هؤلاء الناس لم يكونوا بشراً فـ النووي رحمه الله والبخاري ومحمد بن الحسن الشيباني كان يأتيهم النوم، فالواحد منهم عنده أمور خاصة بأسرته وماله وتجارته! لكن عرف قيمة العلم فبذل الجهد فيه، فـ محمد بن الحسن لم يكن ينام، بل كان يستعين على السهر بالماء البارد، وهو من سكان بغداد وفي الشتاء يكون الجو بارداً جداً، ومع ذلك يأتي بماء بارد ويضعه بجواره، وكلما هجم عليه النوم مسح وجهه بالماء البارد، ويقول: النوم يأتي من الحرارة، والماء البارد يغلبه، فيغسل وجهه كل قليل، يقهر نفسه للجلوس للتعلم. ومحمد بن الحسن الشيباني وأبو يوسف هما أعظم تلامذة أبي حنيفة رحمهم الله جميعاً. وهذه قصة عجيبة لـ أسد بن الفرات رحمه الله عندما ذهب لطلب العلم، وأسد بن الفرات من علماء الأندلس وتونس شمال أفريقيا، أتى من تلك البلاد البعيدة ليتعلم في الشرق، فجاء إلى المدينة المنورة فأخذ علم مالك رحمه الله، ثم رجع إلى بلاده ونشر المذهب المالكي في شمال أفريقيا، وهي الآن تونس والجزائر والمغرب، فكل دول المغرب على المذهب المالكي. فـ أسد بن الفرات ذهب إلى المدينة المنورة وتعلم علم الإمام مالك كله، ولم يكتف بذلك بل ذهب إلى العراق من أجل أن يأخذ علم أبي حنيفة عن محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة، فحين دخل المسجد تفاجأ بوجود أعداد هائلة من البشر، ولم يستطع الوصول إلى محمد بن الحسن، وما زال يأتي مبكراً إلى المسجد حتى إنه في يوم من الأيام استطاع أ، يصل إلى محمد بن الحسن الشيباني وجلس معه بعد ما سمع الدرس وقال له: أنا رجل غريب من بلاد بعيدة قليل النفقة والسماع منك نذر، ولا أستطيع أن أبقى كثيراً في بغداد فماذا أعمل؟ فقال محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله: في الصباح تسمع مع أهل العراق الذين يأتون الدرس، والليل اجعله لك أعلمك لوحدك في البيت. هذه هي العظمة، وتاريخنا كله عظمة، وقد توجد بعض المواقف السلبية في كل أمة، لكن فتش في كنوز التاريخ الإسلامي، هذا هو تاريخنا، وأنا أذكر فقط بعض الأمثلة لا أذكر كل ما وقعت عليه عيني؛ لأن الوقت لا يتسع لذكرها، فهي تحتاج إلى شهور وشهور، بل سنوات وأعمار حتى نتحدث عن تاريخ علمائنا. فـ أسد بن الفرات كان يذهب كل ليلة إلى محمد بن الحسن ليعلمه العلم، وكان يسهر مع محمد بن الحسن، وكما ذكرنا أنه متعود على الماء البارد، فكان كلما هجم عليه النوم غسل وجهه، لكن أسد بن الفرات كان إذا هجم عليه النوم قام محمد بن الحسن ورش في وجهه الماء حتى يستيقظ. هذه لحظات نادرة عظيمة، هذه هي الأعمار وهي أغلى ما تملك، فالعمر رأس مالك، فإن ذهب بعض عمرك يوشك أن يذهب الكل. وكما تعلمون أن من نام ثمان ساعات في اليوم فإنه لو عاش (60) سنة يكون قد نام 20 سنة من عمره؛ لأن الثمان الساعات هي ثلث (24) فيكون ثلث الـ (60) سنة (20) سنة، بالله عليك خبرني ألا تحزن على هذه السنوات (20) سنة تنامها في (60) سنة، هذا لا ينفع، لكن لا تذهب وتنام غير ساعة واحدة، وإنما بتدرج، وسنتكلم إن شاء الله في دروس قادمة على كيف تستيقظ؟ ليس فقط بالماء البارد، لكن أهم شيء أن تعرف قيمة الشيء الذي استيقظت من أجله، حتى تستيقظ له بجد، فـ محمد بن الحسن كان يرش الماء في وجه أسد بن الفرات حتى يستيقظ فيعلمه، يجرعه العلم تجريعاً، فبقي أسد بن الفرات في العراق حتى حوى علم أبي حنيفة عن طريق تلميذه محمد بن الحسن وعاد إلى تونس وبدأ يعلم الناس هناك، ونشر مذهب الإمام مالك، وعلم الناس فقه أبي حنيفة رحمه الله، وخرج بعد ذلك مجاهداً ففتح صقلية واستشهد، هذه قمم في الإنسانية، فـ أسد بن الفرات رحمه الله صار إلى ذلك بالسهر والسفر لأجل العلم. وهذا سعيد بن المسيب رحمه الله سيد التابعين كان يقول: كنت أرحل للحديث الواحد الليالي والأيام، هناك مجموعة كثيرة من الناس عاصرت الصحابة، لكن ليس كل الناس علماء، وليس كل الناس سعيد بن المسيب رحمه الله. والإمام البخاري تعلم على يد ألف شيخ سافر إليهم إلى مختلف البلدان في العالم الإسلامي في ذلك الوقت؛ من أجل العلم. والرازي رحمه الله كان يقول: سافرت ماشياً على قدمي في طلب العلم ألف فرسخ، يعني: (500) كيلو يقول: ثم بعد ذلك تركت العدد. يعني: أنه لم يمش (5000) كيلو وتوقف، لا، وإنما توقف عن العد،

قصة بقي بن مخلد مع العلم

قصة بقي بن مخلد مع العلم لقد كان بقي بن مخلد من علماء الأندلس وكان فقيراً ليس عنده مال، لكن عنده علم كثير وعنده همة عالية، فهو عندما علم أن العلم موجود في الشرق، وسمع عن شخص اسمه أحمد بن حنبل رحمه الله وأنه أعظم وأعلم أهل الأرض في زمانه، وإمام أهل السنة والجماعة رحمه الله، وأنه يسكن في بغداد، وبقي بن مخلد في الأندلس، التي هي في هذا الوقت أسبانيا والبرتغال، فهو فقير وليس عنده مال، فماذا عمل؟ قال: اشتغل بجد واجتهاد من أجل أن أحصل على بعض الأموال التي تكفي مئونة بعض الأيام، فأنتقل بها من مدينة إلى مدينة، فإذا وصلت إلى المدينة الثانية عملت فيها حتى أتكسب بعض المال الذي يكفيني إلى المدينة الأخرى وهكذا حتى أصل إلى بغداد، خرج سيراً على الأقدام من الأندلس، ثم المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا، مصر، فلسطين، الأردن، بعد كل هذا العناء والتعب وصل إلى العراق مشياً على رجليه، بقي في الرحلة سنتين يمشي على رجليه، فلما وصل إلى بغداد سأل قال: أليست هذه البلد التي فيها أحمد بن حنبل قالوا: نعم، لكن أحمد بن حنبل محبوس. انظروا له سنتان يمشي حتى وصل إلى بغداد فيجد الإمام أحمد محبوساً!! ليس هذا فحسب، بل بعد أن خرج الإمام أحمد من السجن منعوه من التدريس، ومنعوه من الخطابة، فجلس في بيته تحت الإقامة الجبرية وعليه رقابة من الأمن، فالإمام أحمد بن حنبل يمنع من التدريس خوفاً على الناس من الفتنة، فـ بقي بن مخلد لما رآه ممنوعاً من التدريس بحث عن شيخ آخر يأخذ منه دروساً، فقالوا له: هذا يحيى بن معين من أعظم علماء المسلمين، فهو إمام المسلمين في الجرح والتعديل وفي علم الرجال وأسانيد الأحاديث، فذهب يسأله ويتعلم منه. ويحيى بن معين رحمه الله عندما تسأله وتقول له: فلان من رجال الحديث يقول: نعم هو ثقة، وهذا صدوق، وهذا كذاب، وهذا وضاع فهو يجرح ويعدل فذهب بقي يتعلم، فلما دخل على يحيى بن معين المسجد وجد زحاماً، فلم يصل إليه إلا بعد أيام، يقول: كنا نذهب إلى المسجد بعد صلاة العصر من أجل أن أحجز مكاناً لفجر اليوم التالي. كيف كان يتصرف؟ هل كان يضع المفتاح مكانه؟ الله أعلم، المهم أنه كان يجلس في مجلس يحيى بن معين قبل الدرس بنصف يوم؛ من أجل أن يضمن السماع؛ لأنه لم يكن هناك (ميكرفونات) نحن في نعمة، والله لتسألن عن النعيم، سنسأل عن هذا النعيم، في هذا الوقت عندنا أشرطة، وكتب، وسيديهات، وكمبيوتر، وفضائيات، وبرامج، وخطب ومساجد، وحلقات، ومع ذلك كله تزهد الناس في العلم. وذكرنا أن جابر بن عبد الله ذهب إلى الشام من أجل حديث واحد، والواحد منا يكسل أن يذهب إلى المكتبة القريبة من أجل أن يأتي بحديث ويكسل أن يبحث عن مسألة، لكن بقي بن مخلد ذهب إلى مجلس يحيى بن معين فبدأ يسأله، جاءت له الفرصة أخيراً بعد أيام تبكير وحجز، فقال له: ماذا تقول في فلان؟ فقال: هذا صدوق، وفلان؟ هذا ثقة، وفلان؟ هذا كذاب، فظل يعدل ويجرح، فقال بقية الطلبة: حسبك، نحن نريد أن نسأل أيضاً، لست وحدك في المسجد، أعطنا فرصة، فقال لهم: أنا لي سنتان أمشي من بلادي حتى وصلت إلى هنا من أجل أسأل، فقام وسأل السؤال الأخير: ما تقول في أحمد بن حنبل؟ فقال: مثلي يسأل عن أحمد بن حنبل، هذا إمام المسلمين وخير المسلمين وأفضل المسلمين، فلما سمع هذا الكلام قال: أنا لابد أن أصل إلى أحمد بن حنبل هذا، فماذا عمل حتى يصل إلى الإمام أحمد؟ قام ولبس لبس متسول، وربط على رأسه خرقة، وأمسك عصاً بيده، ثم ذهب يسأل: أين بيت أحمد بن حنبل؟ فدل عليه، لكن الرقابة خارج المنزل، فذهب يدق الباب، ففتح له أحمد بن حنبل، وقال له: أنا سائل. فقال له الإمام أحمد: ادخل أعطك شيئاً، فلما اختلى به قال له: يا إمام أنا قدمت من بلاد بعيدة، قدمت من المغرب من الأندلس، جئت أتعلم فوجدتك في هذه الحالة التي ترى، فهل تأذن لي أن آتيك كل يوم بهذا اللباس وأنا غريب عن البلد ولا يعرفني أحد، فتحدثني الحديث أو الحديثين؟ انظر إلى أي درجة وصل به الأمر من أجل أن يأخذ حديثاً وحديثين وثلاثة. والآن مسند أحمد بن حنبل موجود عندنا في كل المكتبات، اذهب وافتح وتعلم العلم الذي جعل بقي بن مخلد رحمه الله يسافر سنتين سيراً على الأقدام؛ من أجل أن يتعلم في كل يوم حديثاً. ومسند أحمد بن حنبل فيه (30000) حديث غير مكرر، وهو مسند ضخم من أعظم المسانيد التي فيها أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فـ أحمد بن حنبل رحمه الله وافق وأذن له، مع أنه قد يتعرض لخطر عظيم، لكن هذا شخص أتى من الأندلس ليعلمه، فظل كل يوم يدخل

كيف تصبح عالما [6]

سلسلة كيف تصبح عالماً [6] تتسع مسالك العلوم الحياتية مع مرور الزمن، ففي السابق كانت مسالكه قليلة، وأما في عصرنا فقد تشعبت هذه المسالك، وصار من الصعب التخصص في العلم الواحد -كالطب- في شعبه وتخصصاته، فالذي ينبغي للمتخصص في مسلك من المسالك أو شعبة من الشعب أن يبدع في ذلك التخصص، وأن يجتهد في تطوير ما تخصص فيه، ولا يكون ذلك إلا بمعرفة قيمة ذلك، وبالجد والاجتهاد.

مقدمة في أهمية العلم وبيان طرقه الموصلة إليه

مقدمة في أهمية العلم وبيان طرقه الموصلة إليه إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد. فأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، ونسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين. لا زلنا نتحدث في القضية الماسة والهامة، وهي قضية العلم في تاريخ وواقع هذه الأمة: أمة الإسلام بين علوم الشرع وعلوم الحياة. تحدثنا في المحاضرة السابقة عن أول طريق العلم، إذا أردت أن تكون عالماً عليك أن تعرف قيمة الشيء الذي تجاهد من أجله، وعليك في ذات الوقت أن تعلم أنك لن تستريح حتى تُصبح عالماً وإلى مماتك، وكما ذكرنا في المحاضرة السابقة قول يحيى بن أبي كثير رحمه الله: لا يستطاع العلم براحة الجسم. هذا أحد الإخوان حضر المحاضرة السابقة وكأنه لم يركز تركيزاً جيداً، فقابلني بعد المحاضرة وقال لي: لقد قلت لنا: إن هناك بعض الوسائل العملية لنصبح علماء، وللأسف انتهى وقت المحاضرة قبل أن تذكرها، ويبدو أنه كان يتوقع أن أشرح له كيف يجلس؟ وكيف يقرأ؟ وكيف يسمع؟ وهذا مطلوب، ولكن ما كنا نتحدث عنه هو الروح والنفسية التي يجب أن تكون عليها لتصبح عالماً، وهذا أول شيء، ولو أشرح لك ألف خطة لتصبح عالماً، وأضع لك ألف منهج لتصبح عالماً وأنت لا تقدّر قيمة العلم فمن المستحيل أن تصبح عالماً، أو تظن أن هذه وصفة سحرية: أنك إذا بذلت بعض المجهود أو قليلاً من المجهود أصبحت من علماء الأمة! لا، هذا وهم، لا يحدث في أمتنا ولا في الأمم الأخرى، وما تحدثنا عنه في المحاضرة السابقة نستكمله في هذه المحاضرة إن شاء الله، وهو عام على كل علماء الأرض من المسلمين ومن غير المسلمين، فأي إنسان يريد أن يكون عالماً لا بد أن يقدّر قيمة الشيء الذي يفرّغ له وقته، ثم عليه أن يعلم أنه يبذل جهداً كبيراً مضنياً حتى يصل إلى درجة العلماء، وعندنا في الإسلام ضوابط أخرى مختلفة، لكن هذا الذي نتحدث عنه هو ثابت على الناس أجمعين، قيمة العلم، والجهد الذي يُبذل. قبل إكمال الحديث واستكمال المحاضرة السابقة نجيب على بعض الأسئلة الهامة التي تلقيتها، سواء عن طريق (الإيميل) أو الأوراق التي أرسلتموها، وسأجيب على الأسئلة التي لها علاقة بموضوعنا، وهناك أسئلة ليس لها علاقة بهذا الموضوع الذي نتكلم فيه مع أنها أسئلة هامة.

مكانة العلوم الحياتية في السيرة النبوية في الفترة المكية والمدنية

مكانة العلوم الحياتية في السيرة النبوية في الفترة المكية والمدنية هذا سؤال لطيف جداً وله مغزى، يقول أحد الإخوة: هل كان هناك اهتمام بالعلوم الحياتية في الفترة المكية في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو هل هناك اهتمام بالعلوم الحياتية في السيرة النبوية في فترة البناء الأولى خلال (23) سنة من البعثة؟ A من الواضح أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لم يهملوا علومهم الحياتية لأجل تحصيل العلوم الشرعية، ولكن جمعوا بينهما، ومن الممكن أن الصحابة قدموا الأولويات، لكن لم يُهمل أبداً الجانب الحياتي، وعلى سبيل المثال: ظل الصحابة يتاجرون ويعملون أعمالهم، ولم ينقطعوا للعلم الشرعي ويتركوا هذه الأعمال، فـ أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان تاجراً وظل تاجراً، ففي مكة كان تاجراً، وفي المدينة كان تاجراً، وعند توليه الخلافة حمل الأثواب على ظهره ليذهب إلى السوق ليبيع ويشتري، فلولا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أشار عليه أن يفرّغ وقته لقيادة المسلمين، وأن يأخذ ما يكفيه من بيت المال، لاستمر يعمل بالتجارة. وكذلك عبد الرحمن بن عوف، وكذلك عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن عبادة وجميع المسلمين سواء في فترة مكة أو في فترة المدينة، لم يكونوا أبداً عالة على غيرهم، بل أُمروا بالإبداع وبالإنتاج، وكان اقتصادهم القوي هذا مصدراً من مصادر الخلاص من الأزمة، وكان أبو بكر الصديق تاجراً غنياً، وعنده من الأموال الكثير والكثير، واستغل هذه الأموال في إعتاق العبيد، وفي إخراج المسلمين من أزماتهم، ولو تأملنا أن الصحابة كلهم من الفقراء لحدثت أزمة كبيرة، فنحن نحتاج إلى أغنياء في الأمة، ونحتاج إلى أغنياء بفكر الصديق وفكر عثمان رضي الله عنهما وعن الصحابة أجمعين. إذاً: لم يكن هناك إهمال لهذا الجانب حتى في فترة مكة، لكن من المؤكد أن العقيدة أخذت جانباً هاماً جداً من حياة المسلمين في فترة مكة المكرمة بالذات، وأيضاً فترة المدينة المنورة، ولكن التركيز في فترة مكة المكرمة على العقيدة كان أشد وأكثر؛ لأنهم قريبو عهد بجاهلية، وأكثر من (600) سنة وهم يعبدون الأصنام في هذه المنطقة، فكان لا بد من التركيز الشديد على أمر العقيدة؛ حتى لا يتبدل الدين ولا يتغير، فهؤلاء كانوا يتعلمون شيئاً جديداً تماماً لم يسمعوا به منذ مئات السنين، لم يسمعوا هم به ولا آباؤهم ولا أجدادهم، فكان لا بد من التركيز الشديد عليه؛ ولهذا خلال (13) سنة في مكة اهتموا بهذا الأمر، وفي فترة المدينة المنورة كان من الواضح جداً الاهتمام بالعلوم الحياتية، ولكن أيضاً بالقدر اليسير؛ لأن الدولة بكاملها ما زالت قريبة عهد بجاهلية، أي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام عندما هاجر إلى المدينة المنورة كان بها مشركون، وإلى آخر أيام حياته صلى الله عليه وسلم كان في الجزيرة العربية مشركون؛ ولذلك فهناك اهتمام بالجانب العقدي، ولكن لم يكن هناك إهمال لجانب العلوم الحياتية، ورأينا في بعض الأمثلة التي ضربناها قبل ذلك في المحاضرات السابقة اهتمام الرسول عليه الصلاة والسلام بالقضايا العسكرية، واهتمامه صلى الله عليه وسلم بالقضايا الطبية، وقضية تأبير النخل، وقضية التجارة وما إلى ذلك. هناك أمور كثيرة جداً برع فيها المسلمون بحجم الدولة التي كانوا فيها، وكل شيء في السيرة محسوب وبقدر، فمن رحمة رب العالمين سبحانه وتعالى أن الرسول عليه الصلاة والسلام بُعث في مكة وهاجر إلى المدينة، وعاش في منطقة الجزيرة العربية، وهي منطقة نائية بعيدة عن الحضارات المختلفة في ذلك الوقت، أي: أنها ليست بجانب الرومان ولا بجانب الفرس ولا الهند ولا مصر ولا الأماكن التي لها تاريخ طويل في العلوم الحياتية قبل ذلك؛ لأن المسلمين في هذه الفترة لو انفتحوا تمام الانفتاح على هذه الحضارات، بما فيها من فلسفات وأفكار وعقائد مغايرة تماماً ومخالفة تماماً لدين الإسلام لكانت كارثة، فهؤلاء حديثو عهد كما ذكرنا بجاهلية، فلا بد من ترسيخ العقيدة في قلوبهم وفي قلوب عموم المسلمين، ثم بعد ذلك عندما يتمكن الدين من قلوبهم وينفتح المسلمون على الحضارات الأخرى فلا يتلوثون بها، وهذا الذي وقع، جلسنا سنوات طويلة في الجزيرة العربية ونحن محفوظون من الفلسفات اليونانية والإغريقية والمصرية الفرعونية والفارسية وغيرها، ورأينا المشاكل التي حصلت في بداية الأمر عندما ترجمت هذه الفلسفات، لكن حفظ الله عز وجل دين الأمة بعلماء ثبتهم ونور بصيرتهم. هناك إشارة قصدها أو لم يقصدها صاحب السؤال ألا وهي: هل هناك اهتمام بالعلوم الحياتية في الفترة المكية؟ فلعله يريد أن يقول: في الفترة المكية لم يكن هناك اهتمام بالعلوم الحياتية، فإذا كان كذلك فليس هناك داعٍ للتركيز على العلوم الحياتية في فترتنا هذه، بل نهتم بما اهتم به الأولون في فترة مكة المكرمة؟ أقول: في الواقع أن الربط بين واقعنا الآن بإمكانياتنا وظروفنا وواقع المسلمين في فت

شبهة صعوبة الجمع بين العلوم الشرعية والعلوم الحياتية

شبهة صعوبة الجمع بين العلوم الشرعية والعلوم الحياتية يسأل أحد الإخوة ويقول: أنا أجد أنه من المستحيل أو من الصعب جداً أن أجمع بين العلوم الحياتية والعلوم الشرعية فأُبدع في كليهما، فأكون الألباني وأحمد زويل في آن معاً؟ A أنا لم أقل هكذا، فأنا لدي التسجيلات القديمة ومحتفظ بها، فما نريد منك أبداً أن تكون عالماً مبدعاً في العلوم الشرعية، وفي نفس الوقت تكون عالماً مبدعاً في العلوم الحياتية، وإنما قلنا: إن هناك حداً أدنى من العلوم الشرعية لا بد أن تتقنه، إذا لم تكن أنت من علماء العلوم الشرعية، فهناك حد أدنى من العلوم الشرعية تستقيم به عقيدتك وعبادتك لله عز وجل، وتعرف به دينك وتعرف به الحلال والحرام، وتتقي الشبهات، وتسير دون إفتاء ولا إبداء للآراء في المشاكل الفقهية العويصة التي تعترض طريق المسلمين؛ هذه لها متخصصون، لكن في ذات الوقت ينبغي لك أن تكون مبدعاً في مجالك الحياتي الذي أنت فيه، أما إن كنت من علماء الشرع فمطلوب منك الإبداع في تخصصك. وعندما نأتي لقراءة بعض سير العلماء السابقين نجد بعضهم مبدعاً في الفقه وأيضاً مبدعاً في الجبر وفي الفلك وفي الطب، فعلى سبيل المثال: البيروني فقد كان موسوعة، كان من علماء المسلمين في الفقه، ومن علماء المسلمين في الفيزياء ومن علماء المسلمين في الفلك. فالعلم يتطور جداً، في السابق إذا أردت أن تدرس الفيزياء فتحتاج إلى قراءة كتاب أو كتابين أو ثلاثة أو عشرة، لكن في هذا الوقت لن تستطيع دراسة الفيزياء بكاملها، فهناك مليون تخصص داخلها، فمنذ (30) أو (40) سنة كانت العلوم نفسها فروعاً قليلة جداً، ثم تشعّبت، وعلى سبيل المثال المسالك البولية، فقد كانت المسالك البولية جزءاً من الجراحة العامة منذ (40) أو (50) سنة، وبعد هذا أصبحت تخصصاً منفرداً، وانقسمت الجراحة العامة إلى أقسام مختلفة، ففي هذا الوقت الذين قاموا بالأبحاث والدراسات قسموا المسالك البولية إلى سبعة أقسام، وداخل كل قسم هناك متخصصون في بعض الفروع، ويتركون الفروع الأخرى. إذاً: العلم يتسع جداً جداً، فكل يوم نكتشف شيئاً جديداً، وأصبح الآن من المستحيل على عالم أن يكون متخصصاً في جميع الفروع، فليس مطلوباً منك أن تكون كـ الألباني وأحمد زويل في شخص واحد، ولكن المطلوب منك أن تكون مبدعاً في مجالك ومتقدماً فيه، وليس شرطاً أن تكون عالماً متفوقاً في جميع الهندسة أو جميع الطب أو جميع الفلك، ولكن تكون متفوقاً في جزئية معينة بحيث تنتج إنتاجاً متميزاً. يريد بعض الناس أن يكون في الموضوع حكايات وروايات وفكاهات؛ لأن هذا الموضوع صعب، والمكان غير مناسب، وأن هذه المحاضرات لا تناسب إلا أن تكون في محافل علمية ومناظرات علمية نظرية لها أماكن محددة!! سبحان الله! فأيهما أولى أن نجلس ونتحدث عن أمور فيها فكاهات وروايات وقصص هينة على القلب، أم نتحدث عن الأمور التي نحتاجها سواء كانت صعبة أم سهلة؟! أنا طبيب فلو أتاني مريض بالسرطان وعنده برودة، هل أظل أعالج البرد إلى أن يخف وأترك مرض السرطان؟ قلنا: إن قضية العلم هذه شئنا أم أبينا، أردنا أم لم نرد، أحببناها أم لم نحببها، لطيفة على القلب أو مملة على القلب، فإنه لا تقوم الأمة إلا بها، وليس هناك أمل إلا فيكم أنتم، فالكثير من الناس من غير أهل المساجد ضاعت ضمائرهم، وماتت هممهم، وعاشوا لدنياهم، من سيتحرك لبناء الأمة الإسلامية إن لم يتحرك لها المخلصون الحريصون على مجالس العلم، وعلى بناء الأمة الإسلامية، وعلى الصحوة الإسلامية، وعلى القرآن والسنة؟ من يتحرك إن تقاعس هؤلاء؟ من يتحرك إن وجد هؤلاء أن الكلام في الجروح أمر ممل أو أمر صعب؟ لا، المكاشفة والوضوح أمر ضروري للإصلاح، وكما قلنا في بداية المحاضرات: لا بد أن نرصد الواقع، وأول طرق الحل أن نرفع الواقع، فالذي رأيناه ورصدناه هذا يدل على فجوة واسعة بيننا وبين غيرنا، أو بيننا وبين ما ينبغي أن نكون عليه، مثل هذا الأمر يحرك فينا الهمم، وليس عيباً أن نكتشف هذا الأمر في هذا الوقت، لكن العيب أن نعرف هذا الكلام ونتركه ولا نتحرك، وأحد الإخوة يعتقد أن سبب اضطهاد الكنيسة للعلماء في أوروبا في أوائل النهضة الأوروبية العلمية الأخيرة هذه، هو أن علماء الكنيسة أو رجال الكنيسة يخافون أن يُكشف تحريفهم للتوراة والإنجيل، هذا على حسب ظنه، لكني أنا أعتقد أنهم كانوا يحاربون علماء الحياة، يحاربون علماء الفيزياء والكيمياء والفلك، يحاربون هؤلاء؛ لأن العلم سلطان، فالناس تحتاج إلى العلماء، والكنيسة في ذلك الوقت كانت سلطان أوروبا، والمرجعية الحكمية في كل الأمور كانت للبابا وللقساوسة، فإذا ظهر من ينافسهم على السلطان حتى وإن لم يجلس على كرسي السلطان، لكن بعلمه وبقيادته العلمية للمجتمعات، فهذا يمثل خطراً بالنسبة لهم. إذاً: فهي منافسة على السلطة والحكم. سأل الحجاج بن يوسف الثقفي أحد أعوانه: من هو سيد البصرة؟ فقال له: الحسن البصري، فقال: كيف أصبح سيداً للبصر

القرآن والسنة مصدران للعلوم الشرعية وعلاقتهما بالعلوم الأخرى

القرآن والسنة مصدران للعلوم الشرعية وعلاقتهما بالعلوم الأخرى يسأل شخص آخر ويقول: هل القرآن والسنة مصدر للعلوم الطبيعية كالكيمياء والفيزياء، والعلوم الإنسانية كالإدارة والتنمية البشرية والتاريخ وغير هذا من العلوم؟ أقول: في الواقع أن الكتاب والسنة ليسا كتب كيمياء وفيزياء وطب وفلك، لكن توجد فيهما بإحكام شديد وبإعجاز عجيب ضوابط تحكم خط سير المسلمين، هناك أطر عامة وقواعد عامة في الكتاب والسنة لو أخذنا بها فإننا سنبدع كيفما أردنا أن نبدع، وبالطريقة التي نريد، بحيث لا يكون هناك تعارض مع هذه الضوابط، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها. وبعض الناس يريد أن يبدع بغير هذه الضوابط فيضل، فمثلاً: في أمريكا يتزوج الرجل بالرجل كفعل قوم لوط عليه السلام، فهم جعلوه كقانون، فتراهم يذهبون إلى المحكمة لعقد مثل هذا الزواج، بل إن بعض الكنائس في بعض ولايات أمريكا أقرت هذا الأمر، ولكن بعد هذا الزواج أرادوا الأولاد فحُرموا من ذلك، فلجئوا إلى التبني، فتبنوا طفلاً بحيث يقوم أحد الزوجين في يوم بدور الأم وفي اليوم الآخر يقوم بدور الأب وهكذا، بل قاموا بأكثر من هذا حيث أرادوا أن يزرعوا بويضة ملقحة في الغشاء البروتيني في بطن الرجل؛ ليحمل. انظر إلى انقلاب الفطرة عند هؤلاء الذين يقومون بهذه الأمور، وهم في عرف الناس علماء أفذاذ كما يقولون، وهناك أبحاث طويلة جداً، ولكن فيها تعارض شديد مع القرآن والسنة، ولا يستقيم لعالم مسلم أن يسير في هذا الاتجاه مطلقاً. ولهم أبحاث يقولون فيها: إن شرب الخمر يقوي عضلة القلب، لكن جاء عن نبينا صلى الله عليه وسلم: (تداووا ولا تتداووا بحرام). إذاً: أنا كمسلم عندي ضوابط في القرآن والسنة تحكمني، فلا يأت أحد إلى القرآن والسنة ويبحث فيهما عن علاج الأمراض الصدرية وعن علاج الأمراض النفسية، لا، بل هو كلام معجز، فكلام رب العالمين فيه أطر عامة، يقول الله سبحانه وتعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]. ومن هذا المنطلق فأي عالم في أي فرع من فروع العلوم الحياتية لا بد أن يكون مطّلعاً على الكتاب والسنة في تخصصه، وهناك كتب في كل مجال، وبفضل الله عز وجل أصبحت المكتبة الإسلامية مكتبة هائلة عامرة، فإذا كان الشخص متخصصاً في الإدارة، فهناك كتب متخصصة في هذا الأمر، قام إداريون مسلمون متمكنون وأخرجوا القواعد الشرعية من الكتاب والسنة المختصة بالإدارة، وفصّلوا فيها وشرحوها، وقارنوها بغيرها من القوانين الوضعية الأرضية، وبينوا ما الذي يتماشى معها وما الذي يتعارض معها، وأخذوا ما يفيد من العلوم الوضعية، وتركوا ما يضر منها وهكذا. فإذاً: هناك أطر عامة في كتاب الله وسنة رسوله، فعلى كل باحث في كل تخصص أن يعلم تمام العلم ما هي الأطر الشرعية لتخصصه في الكتاب والسنة، هذا أمر في منتهى الأهمية، بالإضافة إلى أننا نجد أحياناً في القرآن والسنة بعض الأشياء المعجزة التي تكون حجة على العالمين في أي فرع من فروع العلوم الحياتية.

الرد على شبهة: أن استخراج وسائل النجاح في العلوم الحياتية من القرآن والسنة يؤدي إلى تطبيق القرآن والسنة لأجل الدنيا

الرد على شبهة: أن استخراج وسائل النجاح في العلوم الحياتية من القرآن والسنة يؤدي إلى تطبيق القرآن والسنة لأجل الدنيا هذا سائل يقول: لو أخرجنا من الكتاب والسنة وسائل النجاح في علم من علوم الحياة فطبّقها الناس ونجحوا، فقد يطبّقون القرآن والسنة لأجل الدنيا وليس لأجل الله عز وجل؟ هذا كلام غريب جداً، وفي كل مرة يأتينا سؤال تشتف من ورائه أنه ليس هناك داع لهذا الطريق بطريقة أو بأخرى، وهناك تكلف شديد ويفكر تفكيراً مضنياً ليخرج بمثل هذه الآراء، فتجد من يقول: يا أخي! هذا الطريق صعب جداً، وليس لها أي داع، لكن هو لا يريد أن يكون مقصراً فيأتيك بحجة شرعية ودليل شرعي على أنه ليس هناك داع للخوض في مثل هذا الطريق، ويقول: إنه لم يكن في العهد المكي، ونحن نخاف أن يتبع الناس القرآن والسنة لأجل الدنيا! نقول: لا تتبع الناس لكن اتبع القرآن والسنة، ولكن بصّرهم أنت بالحقائق وعلمهم، ولكن أن تقول: الأفضل ألا نضع أيديهم على العلوم الناجحة في القرآن والسنة؛ لكي لا يتبعوا القرآن والسنة ابتغاء الدنيا، هذا منطق غريب، وأنا ليس عندي شك ولو قدر أنملة أن العلوم الحياتية فرض كفاية على المسلمين، إن قام بها البعض سقطت عن الآخرين، لكن إن لم يقم به هذا البعض أثم المسلمون جميعاً، فنحن الآن نتحدث في قضية حلال وحرام، وليست قضية من فضائل الأعمال، لا بد أن نأخذ هذا الأمر بهذا الثقل؛ لتكون عندنا حمية للحركة، وليس مجرد أنني أكثّر حسناتي، لا، بل إنني لا أنجو وأنجو بأمتي إلا بهذه الطريقة.

حكم السهر في العلوم التي تعود على الأمة بالنفع وضوابطه وشروطه

حكم السهر في العلوم التي تعود على الأمة بالنفع وضوابطه وشروطه هذا سائل: يقول: أنت تشجع السهر؟ نحن قلنا: إن العلماء كانوا لا يكثرون من النوم، وأنا أشجع على السهر بشرطين، فإذا استطعت أن تأخذ بهما فلك أن تسهر كما تشاء: الشرط الأول: أن تشغل وقتك في هذا السهر بما هو نافع لك وللأمة، كما كان البخاري يسهر ليكتب علماً نستفيد منه إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة، فإذا كنت كذلك فاسهر واعمل علماً تستفيد منه الأمة إلى يوم القيامة، فلا بد أن يكون سهرك لعلم نافع. وكان الشافعي رحمه الله يحب الليل للاستذكار؛ لأن في ذلك الوقت هدوءاً والناس نائمة، وعنده فرصة أن يفكر ويبدع ويحلل وينتج. كذلك الإمام مالك رحمه الله كان يحب الليل ويسهر فيه ليحل مسائل فقهية كثيرة؛ فهو في النهار لا يستطيع ذلك؛ لأن الناس تجتمع عنده، وعنده أعمال أخرى تتعلق بالحياة المعيشة، فهناك أمور كثيرة من الممكن أن تشغله، لكن في الليل يكون عنده نوع من الهدوء ويفكر كما يريد. إذاً: من كان وقته مستغلاً بالليل فليسهر. وهذا هو الشرط الأول. الشرط الثاني: ألا تضيّع فرضاً أو أولويات بسبب السهر، لا تسهر في العلم للأمة وللمسلمين ولنفسك إلى الساعة الثانية أو الثالثة بعد منتصف الليل ويذهب عليك فرض الفجر. فلا نضيع فرضاً ولا أولوية، فلا أسهر في علم تطوعي إلى آخر الليل لأزداد من العلم؛ لأني دكتور أو مهندس أو كذا، ثم أذهب صباحاً إلى عملي الذي آخذ عليه مرتباً والذي هو معاشي وأنام هناك في العمل، لا، هناك أولويات، فأنا لو أستطيع أن أسهر دون أن أضيع فروضاً وأولويات فلا بأس، وفي نفس الوقت هذا السهر ينبغي أن يستغل استغلالاً ينفع ويفيد الأمة أفراداً وجماعات. فإذاً: ليس هناك أي مشكلة في السهر، بل على العكس هذا السهر بهذه الشروط يكون محموداً، فالذي يسهر ويقوم الليل هل نذم ذلك فيه؟ لا؛ فالله عز وجل يقول: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] لا يستطيع النوم، فهو كلما أراد النوم قام ليصلي لله عز وجل ويستغفر ويذكر الله عز وجل، فهذه صفة حميدة، لكن بشرط ألا يضيع أموره الأخرى في حياته، ولا يكون هناك إسراف يجعلك تخل بأمور حياتك الأخرى، كأن تهمل الأسرة، أو تهمل العمل، أو تهمل أولادك، أو تهمل الوالد والوالدة، أو تهمل هموم الأمة الأخرى؛ لأن المسلم إنسان متوازن ومتكامل وشامل، فكل أمور الإسلام يأخذها، ومطلوب منه في كل زاوية عمل، ولعلنا نفرد محاضرة في هذه السلسلة للتخطيط، وأيضاً أحد الإخوة طلب أن نفرد محاضرة للتخطيط، يعني: كيف تخطط لحياتك؟ كيف تجمع بين هذه الأمور: وهي أن تكون عالماً وأباً صالحاً وأيضاً زوجاً صالحاً، وداعية إلى الله عز وجل، ومجاهداً في سبيل الله؟ نريدك أن تجمع كل هذه الأشياء، كذلك ينبغي معرفة ما الذي تقدمه، وما الذي تؤخره؟ هذا أمر في غاية الأهمية.

علاج ظاهرة الملل عند المذاكرة والقراءة في كتب العلم

علاج ظاهرة الملل عند المذاكرة والقراءة في كتب العلم سائل يقول: عندما يذاكر أو عندما يقرأ في كتب العلم يأتيه ملل فماذا يعمل؟ أقول: للأسف جميع المسلمين مصابون بهذا، وإلا لم يكن هناك ملل لما كان هذا هو حال المسلمين، من موضوع المحاضرة التي مضت قيمة الشيء، فلو فعلاً تشعر بقيمة العلم لن يأتيك ملل، وأذكركم بكلمة الشافعي رحمه الله، وهي كلمة في منتهى التوفيق والروعة، سئل الإمام الشافعي: كيف طلبك للعلم؟ قال: كطلب المرأة المضلة ولدها ليس لها غيره. فهذه المرأة لن تمل حتى آخر حياتها في البحث عن ولدها، لن تمل ولن تكل، فليس هناك أمامها شيء اسمه ملل؛ لأنها تشعر بقيمة ولدها، فالموضوع يمس حياتها الشخصية، كذلك العلم والاستذكار وطلب النبوغ في هذه المجالات أمر يخصك ويخص أمتك تماماً، فالقصور فيه معناه عدم الفهم.

قصة بقي بن مخلد مع العلم

قصة بقي بن مخلد مع العلم هذا أحد الإخوة أيضاً يسأل عن بقي بن مخلد رحمه الله؟ نقول: هذا الرجل قطع سنتين سيراً على الأقدام إلى أن وصل إلى أحمد بن حنبل فوجده محبوساً، وكيف احتال حتى وصل إلى أحمد بن حنبل رحمه الله بعد أن أُخرج من السجن ومُنع من التدريس، وبدأ يتعلم منه على مدار شهور وسنوات، وفي نهاية قصته عاد بقي بن مخلد رحمه الله بعد ذلك إلى الأندلس، بعد أن جاب البلاد طولاً وعرضاً، فهو ذاهب في مشواره هذا إلى بغداد، ثم عاد إلى الشام وتعلم على أيدي علماء الشام، ونزل المدينة ومكة المكرمة، ثم اتجه إلى مصر، وأخذ من كل مكان علماً، ثم عاد إلى الأندلس، وبدأ يسجل علمه فكتب مسند بقي بن مخلد، وهذا مسند أحاديث روى فيه عن (1300) صحابي، فقد سمع من الناس الذين سمعوا ممن سمع من الصحابة الذين كانوا في العراق، وسمع من الناس الذين سمعوا ممن سمع من الصحابة الذين كانوا في المدينة، والذين كانوا في مكة، والذين كانوا في الشام ومصر، ففي مسنده (30969) حديثاً، فمسنده أكثر وأكبر من مسند الإمام أحمد بن حنبل الذي تتلمذ على يديه في بغداد، ووصل إلى درجة عالية جداً من الفقه والعلم والتفسير والحديث رحمه الله، أي: أنه كان متميزاً في أكثر من فرع من فروع العلم، وهذا المشوار الذي قطعه لم يذهب هباء منثوراً أبداً، والتعب الذي لاقاه والمعيشة الصعبة التي مر بها والأيام الشديدة التي مرت عليه في بغداد وهو يتظاهر بالتسول، حتى يستطيع أن يأخذ حديثاً واحداً أو حديثين أو ثلاثة من أحمد بن حنبل رحمه الله، كل هذا لم يذهب سدى فقد عمل به المسند. قال ابن حزم رحمه الله الإمام الفقيه المسلم المشهور: ما أعلم هذه الرتبة لأحد قبله مع ثقته - أي: ثقة بقي بن مخلد - وضبطه وإتقانه واحتفاله في الحديث وجودة شيوخه، فقد روى عن (284) رجلاً ليس فيهم عشرة ضعفاء. أي: أنه كان ينتقي الرجال الذين كان يروي عنهم، فكان يسأل عن الرجال ويدقق رحمه الله. وقال ابن كثير: كان علامة، وكان فقيهاً صوّاماً قوّاماً متبتلاً، ثم يقول: وكان عديم المثل هذا تعديل ووصف ابن كثير له رحمهم الله جميعاً. وقال الذهبي في حقه: ومن الثابت أن من مناقبه أنه كان من كبار المجاهدين في سبيل الله، يقال: شهد (70) معركة في سبيل الله، ففي الأندلس كانت هناك حروب كثيرة مع الصليبيين في الأندلس، ولم يكن منقطعاً فقط للعلوم، بل كان متفوقاً كـ أسد بن الفرات الذي نشر مذهب الإمام مالك في شمال إفريقيا كله وفي الأندلس، وهو أيضاً الذي فتح صقلية، ومات شهيداً رحمه الله. انظر إلى هذا التفوق في أكثر من مجال، فهناك بركة في حياتهم، وإنجاز في كل مجال، فالله عز وجل يفتح هذه البركات على من يرضى عنه، فيحدث ما لا تتوقعه، وإن شاء الله في المحاضرة القادمة التي سنتحدث فيها عن عنصر هام جداً من العناصر المميزة لأي عالم، وسيتضح لنا الإنجاز المعجز حقيقة لكثير من علماء المسلمين، سواء في علوم الشرع أو في علوم الحياة. ويقول ابن حزم رحمه الله: أقطع أنه لم يؤلَّف في الإسلام مثل تفسير بقي بن مخلد رحمه الله. إذاً: الجهد الذي بذله لم يضع، فالله سبحانه وتعالى بارك فيه، وانتفع المسلمون به، وسينتفعون إن شاء الله إلى يوم القيامة بجهد هؤلاء العلماء.

قيمة العلم عند الصحابة والتابعين ومن بعدهم

قيمة العلم عند الصحابة والتابعين ومن بعدهم نرجع إلى ما كنا نتحدث عنه، وقلنا: إن العلماء رضي الله عنهم عانوا كثيراً حتى وصلوا إلى هذه المرتبة، سهروا وسافروا، وفرّغوا أوقاتاً هائلة للعلم، والله أعلم كيف كان وضعهم المادي؟! هذه القضية قضية المادة تشغلنا، وربما لا يحفظ أحدنا إلا هذه الآية من كتاب الله، وهي قوله عز وجل: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] أو: اعمل لدنياك وتجد الواحد منا يبحث عن أحاديث وآيات تخدم مشروعه، أو مشروع الدنيا الذي يعيش فيه، فكيف كان وضع هؤلاء العلماء؟

قصة مكحول والشافعي وأحمد والثوري وغيرهم مع العلم

قصة مكحول والشافعي وأحمد والثوري وغيرهم مع العلم هذا مكحول رحمه الله من التابعين، كان عبداً يُباع ويُشترى، يقول: أُعتقت بمصر فلم أدع بها علماً إلا حويته فيما أراه، ومصر أتاها الكثير من الصحابة والتابعين، وعاش فيها الكثير من العلماء، فكل علم هؤلاء حواه مكحول رحمه الله، هل اكتفى؟ لا، فطالب العلم لا يشبع أبداً، ثم يقول: ثم أتيت العراق ومن بعدها المدينة فلم أدع بهما علماً إلا حويته، وكم من الصحابة الذين ذهبوا إلى العراق وكانوا في المدينة المنورة، ومع ذلك فقد حوى علم المدينة وعلم العراق، ثم يقول: ثم أتيت الشام فغربلتها. وهذا بشر مثلنا، ولكن عنده طموح عال جداً، وأظنه لو حوى علم مصر لكان كفاية وسيبقى من علماء الأمة ويشار له بالبنان، ويحمد إن شاء الله عند رب العالمين مع صلاح نيته، لكن هذا ليس كافياً عنده، فيذهب إلى العراق وإلى المدينة، وبعد هذا يذهب إلى الشام ويغربل الشام، لا يترك ركناً أو بقعة في الشام إلا وذهب إليها بحثاً عن العلم رحمه الله، وقد كان عبداً يُباع ويُشترى، وليس إنساناً ميسوراً، وإنما هو مسكين وفقير جداً، ومن أفقر المسلمين في زمانه، ومع ذلك فهو من أعلم المسلمين في تاريخ الأمة. وهذا الشافعي رحمه الله يقول: حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر سنين، إذا كان حفظه للقرآن في سن سبع سنين فعندنا كثير ممن يحفظ القرآن في هذا السن؛ لأن من إعجاز القرآن أن حفظه ميسر؛ لقول الله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، لكن كونه يحفظ الموطأ في سن العاشرة فهذا صعب جداً، فالموطأ ليس كتاباً في الحديث فحسب وإنما هو حديث وفقه، فمن الصعب جداً أن يُحفظ، ويكاد في زماننا أن نقول: مستحيل، فهذا يدل على وجود بركة وصدق، ولم يكن وضعه مستقراً، ولم تكن عنده أم غنية أو أب غني ينفقان عليه؟ اسمع لقوله عن نفسه: ولم يكن عند أمي ما تعطيني أشتري به قراطيس لأكتب عليها، فكنت أسير في شوارع المدينة فإذا رأيت عظماً يلوح لي من بُعد أخذته فكتبت عليه، ثم طرحته في جرة قديمة لنا. هذا هو الشافعي رحمه الله، وكان يدخل المساجد وهو في الثالثة عشرة من عمرة يناظر العلماء رحمه الله، وعندما أصبح في سن الثالثة عشرة بدأ يكثر العلم ويريد أن يكتب ويكتب، والعظم لا يكفي، فحالته صعبة فهو فقير مُعدم، لكن ليس هناك عائق أمامه ليتعلم رحمه الله، فإذا أراد أوراقاً ليكتب عليها ذهب إلى الديوان. أي: ديوان الحاكم أو الوزارة أو الإمارة فيستوهب الظهور، أي: أنه يريد هبة ظهور الورق المكتوب أمامه فيكتب على ظهور الأوراق، فهذا هو الشافعي رحمه الله. وفي الأخير أصبح الشافعي إمام المسلمين بهذه المعاناة التي عاناها رحمه الله. أيضاً الإمام أحمد بن حنبل كانت قصته شبيهة بقصة الإمام الشافعي رحمه الله، فقد كان طفلاً صغيراً جداً ابن خمس سنوات أو ست سنوات، ويريد أن يذهب إلى المسجد ليتعلم، وأمه تخاف عليه فتقول له: لا تخرج إلى المسجد إلا بعد أذان الفجر، وهو مصر على الخروج قبل أذان الفجر، فكل يوم تتمسك به، وهو يستيقظ مبكراً قبل الفجر ليذهب إلى المسجد، ليدرك مكاناً في الصفوف الأولى، حتى يسمع العالم الذي يتحدث بعد صلاة الفجر يعلّم الناس، وبعد أن كبر اطمأنت أمه عليه وعلمت أنه يستطيع أن يخرج إلى المسجد قبل أذان الفجر، وقال ذات مرة: لو كان معي خمسون درهماً لخرجت إلى جرير بن عبد الحميد رحمه الله. وكان من العلماء، فهو يريد أن يتعلم على يديه، ولكن يريد لقطع المشوار إليه خمسين درهماً وليس لديه رحمه الله، وذكرنا حاله قبل ذلك فقد كان يعمل حمّالاً في اليمن، وكان يعمل في أعمال بسيطة جداً، وهو خير أهل الأرض في زمانه رحمه الله. وهذا سفيان الثوري رحمه الله حينما أراد أن يتعلم قال: يا رب لا بد لي من معيشة، فأمه النجيبة الفاهمة الواعية وهذا الكلام موجه لأخواتنا، واذكرن السؤال الذي سبق في قضية العلم: ماذا نعمل في قضية العلم؟ وقلنا: إن الدور الرئيسي للمرأة: الزوج والأولاد، وهناك أدوار أخرى كما فصّلنا قبل ذلك. فأم سفيان الثوري قالت له: يا بُني تفرغ للعلم وأكفيك بالمغزل، وبدأت تشتغل رحمها الله بالمغزل لتبيع أشياء يسيرة جداً بدراهم معدودات، واستمر في بحثه على العلم وطلبه له حتى صار سفيان الثوري رحمه الله من عظماء أتباع التابعين. وهذا البخاري رحمه الله، وكنت أتمنى أن ييسر الله عز وجل لنا وقتاً فنُفرد له درساً خاصاً، ومن الصعب أن نتحدث عن البخاري في هذه العجالة، فهو من خير أئمة المسلمين رحمه الله، وهو صاحب أعظم كتاب سُنة وأصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل على وجه الأرض، وهو صحيح البخاري. حضر البخاري رحمه الله دروس العلم، فلم يبلغ من العمر (16) سنة حتى حفظ

قصة ابن الهيثم مع العلم

قصة ابن الهيثم مع العلم لم يكن هذا الجهد من علماء الشرع فقط، لا، بل أيضاً علماء الحياة في تاريخ الإسلام أنجزوا إنجازات هائلة لم تأت إلا بجهد جهيد، وهذا يحتاج إلى محاضرة خاصة، لكن نمر في هذه المحاضرة اليوم على بعض الأمثلة: هذا ابن الهيثم رحمه الله كان من أعظم علماء البصريات في التاريخ، ومن أعظم علماء الضوء، وله اكتشافات مذهلة، وعلى اكتشافاته هذه قامت النظريات العلمية الحديثة كلها، ومن المستحيل أن تجد كتاباً من كتب علم الضوء في العالم لا يُذكر فيها اسم ابن الهيثم، ولا كتاب (المناظر) الذي ألّفه، وليس هذا هو الكتاب الوحيد له، وإن شاء الله سيكون لنا كلام عن ابن الهيثم أيضاً في الدروس القادمة. فـ ابن الهيثم كانت حالته المادية صعبة، وكانت تأتيه الأموال وتُعرض عليه الأموال وكان مقرباً من الأمراء؛ لأن الأمراء والخلفاء كانوا يقدرون العلم في معظم أيام الدولة الإسلامية، فكانوا يقدّرون ابن الهيثم فيُعطيه الأمير أو الخليفة مالاً، فيرد له المال ويرفض ابن الهيثم رحمه الله، ويقول له: إن أنا ادّخرت هذا المال كنت خازناً عليه، وإن أنا أنفقته كنت وكيلك في إنفاقه، فإذا شغلت نفسي بهذين الأمرين: الادخار أو الإنفاق، فمن ذا الذي يشتغل بعلمي؟! فهو يخاف أن يأخذ هذه الأموال فينشغل بالحفاظ عليها، أو ينشغل بإنفاقها، ويقول: إذا تفرغت لدنياكم فمن يتفرغ للعلم؟! هذه همم عالية، وليس من الفراغ أن يكون عالماً من علماء الأرض رحمه الله، ولكنه أتى من هذا الجهد الذي بذل، يقول ابن الهيثم رحمه الله: وإني ما مُدت لي الحياة باذل جهدي ومستفرغ قوتي في مثل تحصيل هذه العلوم، متوخياً من ذلك ثلاثة أمور: أولاً: إفادة من يطلب الحق ويؤثره في حياتي وبعد مماتي لله رب العالمين. أي: يفعل هذا الأمر تقرباً إلى الله عز وجل، وسبيل التقرب إلى الله أن تنفع نفسك بهذا العلم وتنفع الناس، ودائماً يأتي العلم على لسان حبيبنا صلى الله عليه وسلم مقروناً بالنفع، فيقول: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له) فبعد موت ابن الهيثم تأتي الحسنات إليه من الناس؛ لأجل ما قدم في حياته من علوم، فهذا هدف من الأهداف الرئيسية له. ثانياً: أني جعلت ذلك ارتياضاً لي بهذه الأمور في إثبات ما يتصوره ويتقنه فكري من تلك العلوم. أي: أنه يتلذذ ويتمتع بهذه المسائل العلمية، فهو يعتبرها رياضة له وإمتاعاً لفكره وعقله، فمتعته أن يتعلم، وكلنا سنمر بهذه المرحلة إن شاء الله لو استمرينا في طريق العلم. ثالثاً: أني أحتسب ذلك ذخيرة وعدة لزمان الشيخوخة وأوان الهرم. والأخ الذي يقول: أنا يأتيني ملل، أو كما قال لي بعض الإخوة في الدروس السابقة: إنه يبذل جهداً لكن المذاكرة ليست لطيفة؟ أقول له: في البداية يكون الأمر صعباً إلى أن تتقن العلم، فإن أتقنته أحببته، وإن أحببته صعب عليك فراقه، فتبذل الجهد والوقت والفكر في تحصيله بعد ذلك دون عناء، لا تشعر بالمشقة التي يشعر بها أولئك الذين لا يدركون قيمة ما يقرءون ويسمعون. فـ ابن الجوزي رحمه الله كان يجلس على النهر ويبل الخبز في النهر ويأكله، ويقول: وأجد لذلك لذة عظيمة في حلقي؛ لأني أفعل ذلك ابتغاء تحصيل العلم. أي: أن هذا الكفاح والتعب من أجل أن أحصل على العلم وأتفرغ له، وهو فقير معدم، ومع ذلك فهو متلذذ بجمع العلم، ومتلذذ بأكل الخبز اليابس المبلل بالماء. فمن الطبيعي أن تمر بصعوبة، وليس صحيحاً أن أحدكم سيخرج من هنا متحمساً ويكون عليه الأمر سهلاً إلى نهاية الأمر، ولكن ستمر بك صعوبة، وأنا مررت بهذه التجربة بنفسي، فإنني عندما دخلت الكلية أول سنة واجهت صعوبة، يقولون: أول ستة أشهر في الكلية صعبة، فالبداية صعبة، والمواد تحتاج إلى كثير من المراجعة والترجمة فكنت على هذه الحال في السنة الأولى. ومرت الأيام إلى أواخر السنة الثالثة وبعدها أحببت الطب، ففي السنين الأولى والثانية والثالثة تذاكر؛ لأنك مضطر لتنجح، والعلوم صعبة ومخالفة لما كنت عليه في الثانوية العامة من منهج سهل ومبسط، فأنت قد دخلت في طريق مختلف تماماً، فهناك كثير من الناس كرهت الطريق، ولنا أصدقاء في سنة أولى أو ثانية طب تركوا الكلية ولم يستطيعوا أن يتحملوا هذا الوضع، وهناك آخرون انتهوا من دراساتهم، وهناك آخرون اجتهدوا وفي السنة الثالثة بدءوا بحب المادة، ومن اشتاق للطلب أكثر وأكثر أبدع وتفوق وبرز وسبق، ومن عاش كما يعيش الناس فهو شخص من ضمن الآلاف الموجودين، فلو كانت عندك حمية فستصل إلى درجة الحب للعلم، وهذا في كل الطاعات وليس في العلم فقط، وطلب العلم من أقرب الطاعات وأعظمها، لكن هذه الصعوبة موجودة في جميع الطاعات كقيام الليل، أتظن أن الإنسان الذي يقوم الليل كان سهلاً عليه في البداية أن يقوم الليل؟ يقول أحد التابعين: كابدت قيام الليل عشرين سنة، ثم استمتعت به ب

قصة الطوسي وسيد قطب وابن تيمية وابن خلدون وابن رشد وابن النفيس وغيرهم مع العلم

قصة الطوسي وسيد قطب وابن تيمية وابن خلدون وابن رشد وابن النفيس وغيرهم مع العلم لقد كان الطوسي عالماً في الفلك والرياضيات، وكان من المتميزين البارزين المقربين إلى الخلفاء لعلمه، فهذا الإنسان المتميز عادة ما يكون له أعداء، فوشوا به وكادوا له فوضع في السجن رحمه الله، فكتب أبحاثاً في الفلك والرياضيات من أروع ما يكون. وسيد قطب رحمه الله كتب (الظلال) في السجن، ولعله لو كان خارج السجن لما كتبه، فأصبح السجن بالنسبة له نعمة، لكن ليس هناك شيء اسمه تضييع وقت، وهذا موضوع درسنا القادم إن شاء الله بالتفصيل، لكن الشاهد أنه في هذه الظروف الصعبة كتب (الظلال)، وقلما تجد مكتبة في مسجد من مساجد العالم إلا وتجد فيها هذا الكتاب، ولقد شاهدت أناساً يترجمون هذا الكتاب إلى لغات أعجمية إلى اللغة الألبانية وإلى اللغة الهندية فهناك جهد يُبذل لهذا الأمر، فهذا خير عميم عُمل وحصل في السجن. كذلك ابن تيمية له كتابات كثيرة في السجن ومفيدة جداً. وهذا فخر الدين الساعاتي رحمه الله أحد جهابذة الطب في تاريخ الإسلام، وكان يقول: يحسدني قومي على صنعتي؛ لأنني بينهم فارس سهرت في ليلي واستنعسوا، لن يستوي الدارس والناعس. ومر بنا موقف البيروني رحمه الله يتعلم وهو على فراش الموت. كذلك ابن خلدون رحمه الله كان يسأل عن العلوم الإنسانية، فـ ابن خلدون واضع علم الاجتماع، فهو أول من كتب في علم الاجتماع في العالم، ولعلكم سمعتم منذ عدة شهور الاحتفال الضخم التي قامت به إسبانيا، حيث احتفلوا بمرور (600) سنة على وفاة ابن خلدون، وهم أكثر البلاد كرهاً للإسلام والمسلمين، ومع كل ما فعلوه في محاكم التفتيش سابقاً من الطرد والإبعاد والقتل للمسلمين عموماً، ومع ذلك لا يستطيعون أن يتجاهلوا شخصية كشخصية ابن خلدون رحمه الله، فاحتفلوا بمرور (600) سنة على وفاته رحمه الله. وابن خلدون لم يصبح بهذه المكانة من فراغ، فقد ذهب في طلب العلم من الأندلس، ولم يعد إليها إلا بعد (25) سنة، فهذه رحلة علم (25) سنة، فقد ذهب إلى تونس والجزائر والمغرب ومصر، وتجول في بلاد الأرض بحثاً عن العلم، ليكتب مقدمة ابن خلدون، هذه المقدمة التي خلدّت اسمه في التاريخ، والتي فيها أسس علم الاجتماع، وفيها قواعد تفسير التاريخ، فيها أمور كثيرة جداً من أعظم الأمور في تاريخ العلوم، وعندما أراد أن يكتب هذه المقدمة ذهب بأسرته إلى الجزائر في قلعة وسط الجبل بعيداً عن الناس، واعتكف هناك أربع سنوات كاملة لا يخرج من القلعة، ولم يخرج من القلعة إلا ومعه الكتاب الذي أصبح أساساً علمياً لم يكن موجوداً في الدنيا قبل ذلك. وهذا ابن رشد كان نابغة في الطب يقال في تاريخه: إنه لم يدع النظر في الكتب في حياته كلها إلا في ليلتين: أحدهما: مات أبوه فيها، الليلة الثانية: ليلة زواجه، فكل الليالي في حياته لا بد أن يطالع في الكتب ويفحص ويكتب ويستذكر. وهذا ابن سينا أقبل على دراسة الفلسفة، حتى إنه لم يترك كتاباً سبقه في التاريخ إلا واطّلع عليه، وبعد هذا قرأ في الحساب، وعلم حساب الهند وغيره من أنواع الحساب، ثم أتقن علم المنطق، ثم بدأ يتجه إلى كتب أقليدس وهو من علماء اليونان، ثم كتب بطليموس، وقرأ وتفنن وأبدع وناظر في هذه الأمور، ثم بعد هذه الرحلة في العلم رغب في علم الطب فوجده أسهل من العلوم الأخرى، فلم يأخذ منه وقتاً طويلاً حتى أتقنه، فأتقن علم الطب واحتاج الناس إليه، حتى أصبح أعلم أهل زمانه في الطب، وأهل الطب في زمنه لا يجازون إلا بقراءة الطب عليه، ثم يقول: واختلفت بعد ذلك إلى الفقه، فتفقهت وأصبحت من المناظرين ثم قال: علت ذلك وأنا ابن (16) سنة. فالإنسان عنده إمكانيات هائلة: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:11] فالله عز وجل خلق هذا العقل بإعجاز، فإمكانياتك الحقيقية أكثر من تخيلك بآلاف المرات، ولكن نحن نعمل بـ (000. 1) من إمكانياتنا. وابن سينا ليس نبياً وليس معصوماً وله أخطاء كما تعلمون، وقد قطع هذا الشوط في هذه العلوم وعمره (16) سنة، لم يكن قارئاً بل متقناً ومناظراً في علوم الفلسفة والمنطق والهندسة والطب والرياضيات والفقه، ويقول: وفي هذه المدة ما نمت ليلة واحدة بطولها، ولا اشتغلت النهار بغيره، وجمعت بين يدي ظهوراً وكتباً. يعني المئات من الكتب التي جمعها ابن سينا. ويقول: وكلما كنت أتحير في مسألة ترددت إلى الجامع، فأصلي وأبتهل إلى الله عز وجل حتى يفتح لي المنغلق، وييسر لي المتعسر، فيفتح الله عز وجل لي، وكنت أرجع بالليل إلى داري وأضع السراج بين يدي، وأشتغل بالقراءة والكتابة، فكلما غلبني النوم أو شعرت بضعف عدلت إلى شرب قدح من الشراب ريثما تعود إلي قوتي، ثم أرجع إلى القراءة، وكلما أخذني أدنى نوم أحلم بتلك المسائل ب

قصة مخترع بندقية الكلاشنكوف

قصة مخترع بندقية الكلاشنكوف هذه قصة طفل روسي مُعدم فقير، ولد في سنة (1919م) في أسرة فقيرة الحال، وكان الأب يشتغل في الزراعة، ولهذا الطفل ستة إخوة وهو السابع، ولم يكن يحب الزراعة وإنما كان يحب الميكانيكا، ولكنه فقير لا يستطيع التعليم، دخل المدرسة وتعلم إلى المرحلة المتوسطة، وبعد هذا لم يستطع أبوه أن ينفق عليه وأخرجه من المدرسة، وكان يرى أباه يتعب في الزراعة، فقال: هل أستطيع أن أعمل مكينة تساعد أبي في الزراعة؟ أراد أن يعمل مكينة زراعية، ولكن ضغط الفقر جعله يشتغل في ورش سكة الحديد كعامل مسكين بسيط، وكبر ومرت الأيام وأتت الحرب العالمية الثانية سنة (1939م) ودخلت ألمانيا روسيا، فدخل الجيش وعمره (18) سنة أو (19) سنة، دخل الجيش برتبة عريف، واشتغل على دبابة ودخل المعركة فأُصيب، ثم أخذوه إلى المستشفى، وفي المستشفى عرف من زملائه الجنود المصابين الروس أن الإصابات الكثيرة هذه بسبب سلاح ألماني، فعندهم اختراع بندقية قوية أصابت الكثير من الروس، فقال: لماذا لا نعمل بندقية تضاد البندقية الألمانية؟ فبدأ يرسم ويخطط، ثم إن القوات الروسية أعلنت عن طلب للمخترعين في روسيا أن يقدموا وسيلة لإطلاق الأعيرة النارية بسرعة أكثر، ليقابلوا بها السلاح الألماني، فقدم ما رسمه، فعلماء العسكرية في روسيا درسوا هذه الرسمة فوجدوها في منتهى الروعة، فأخذوه إلى المعمل فنفذها بالفعل وعمل السلاح، وكان اسم الرجل هذا كلاشنكوف فأصبح مخترع الكلاشنكوف الذي هو موجود في العالم إلى الآن، وله أثر ضخم جداً في الحروب السابقة والحالية، وفي كل الحروب في العالم تجد الكلاشنكوف من بداية اختراعه وهو موجود، فهذا الكلاشنكوف في المواقع البرية غيّر الموازين مع الألمان في الحرب العالمية الثانية. انظروا كلاشنكوف المُعدم الفقير الذي لم ينته بعد من دراسة الإعدادية فعل كل هذا! فيا طلاب الثانوي أنتم سبقتم كلاشنكوف، ويا طلاب الجامعة، ويا علماء الأمة أين الإبداع والاختراع؟ ألم يفد هذا الاختراع روسيا؟ ألم ينفعها هذا الاختراع في حربها؟ ألم يقدّم هذا الاختراع الروس خطوة وخطوات؟ نريد ذلك عند المسلمين.

قصة مكتشف الميكروبات ومخترع المصباح الكهربائي مع العلم

قصة مكتشف الميكروبات ومخترع المصباح الكهربائي مع العلم هذا لويس باستير العالم الفرنسي المشهور الذي اكتشف الميكروبات، واكتشف علاج داء الكلب، فإنه عندما تزوج بحثوا عنه ليلة زفافه فوجدوه في مختبره مشغولاً بقضية العلم. وأديسون العالم الأمريكي المشهور مخترع المصباح الكهربائي، قدّم (1200) براءة اختراع، فعندما سئل: ما هذا الاختراع كله؟ وما هي هذه العبقرية؟ وما هذا الإلهام؟ ماذا قال؟ قال: الإلهام عندي (2%) أما الـ (98%) فجد واجتهاد. إذا كان هذا يستقيم في حق هؤلاء العلماء من غير المسلمين، فكيف بالمسلمين الموفقين من ربهم سبحانه وتعالى؟! وأختم حديثي بتلخيص ما سبق بإيجاز شديد بكلمة يحيى بن أبي كثير: لا يستطاع العلم براحة الجسم. إذا أردت أن تكون عالماً فأول طريق العلم أن تعرف قيمة الشيء، ثم ابذل مجهوداً لا راحة معه إلى الممات. وللحديث بقية. أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كيف تصبح عالما [7]

سلسلة كيف تصبح عالماً [7] الوقت رأس مال المسلم، فحري به أن يحافظ على رأس ماله، والناظر في شأن الصحابة ومن بعدهم يجد حرصهم الشديد على الوقت، واستغلالهم إياه فيما يعود عليهم بالنفع في الدنيا والآخرة.

رفع شأن العلم وضرورة الاهتمام به

رفع شأن العلم وضرورة الاهتمام به إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فما زلنا في حديثنا حول القضية الهامة التي تحدثنا عنها في عدة محاضرات، وهي قضية العلم ومكانته في الشرع الإسلامي، وقضية أمة الإسلام بين علوم الشرع وعلوم الحياة، وكيف يكون الطريق لأن نكون علماء؟ وكيف السبيل إلى أن نتخطى العقبات والعراقيل التي تمر بها الأمة الآن في طريق العلم؟ وذكرنا أن أول طريق العلم: هو تقدير قيمة هذا الذي تجاهد من أجله وهو العلم، وذكرنا أدلة كثيرة على هذا الأمر. والأمر الثاني: أن تبذل الجهد كل الجهد، ونكرر للمرة العاشرة وأكثر مقولة يحيى بن أبي كثير رحمه الله: لا يستطاع العلم براحة الجسم. اليوم بإذن الله سنتكلم عن شيء من أهم الأشياء لكي نكون من العلماء، ولا يستقيم أبداً أن نكون من العلماء بغيره، بل لا تكون نجاة بغيره، لكن قبل الحديث عنه كعادتنا نتحدث عن بعض الأسئلة، والحقيقة هي أسئلة في غاية الأهمية. قبل أن نخوض في الأسئلة هذه الدروس هي محاولة للعصف الذهني، بمعنى إخراج كل ما عندنا في هذه القضية المهمة، وأنه ليس الغرض من وراء هذه المحاضرات هو حل كل مشاكل العالم الإسلامي في يوم وليلة، وليس الغرض أن نكون علماء غداً أو بعد غد، ومن الممكن أن نختلف مع بعضنا البعض في بعض الآراء التي ذُكِرت في هذه المحاضرات، وقد تكون هناك جوانب كثيرة أغفلت سواء عمداً أو عن غير عمد في هذه المحاضرات وهي من الأهمية بمكان؛ لأننا قدمنا الأهم في رأينا وتركنا غيره، وقد يكون الأهم غير ذلك. المهم في كل ما نقوله أننا نضع هذه القضية في بؤرة الاهتمام، والحل قد لا يكون في هذه اللقاءات السريعة، لكن قد يكون حلها في ندوات متكررة على مدار عدة سنوات، وفي محاضرات ودورات تدريبية، يكون حلها في تغيير منهج حياتنا على مدار السنوات المقبلة، يكون حلها في إذكاء الحمية في قلوب علماء المسلمين، فيبدءون في توريث العلم لغيرهم، يكون غرضها حث طلبة العلم على طلب العلم. عادة ما تكون الوسائل من أبسط الأشياء، يعني: قد نصل بأبسط الوسائل التقنية أو المسائل المادية إلى العلم المعين، لكن لابد في البداية أن يوضع الأمر في بؤرة الاهتمام، وهذا ما نحاول أن نبحثه، وسلكنا في ذلك عدة مسالك: منها: توضيح قيمة هذا الأمر في الشرع الإسلامي، وما قاله الله عز وجل في حق العلماء، وما قاله رسولنا صلى الله عليه وسلم في حق العلماء، وقدر العلماء عند أئمة المسلمين وعند الصالحين من أبناء هذه الأمة، ودور العلم في بناء الأمم، والأمم التي اتخذت العلم كيف وصلت وإلى أي شيء وصلت؟! وكيف تقود العالم الآن؟! يعني: إذا استوعبنا هذه الأمور وأحسسنا بقيمة القضية، إن شاء الله لو حرصت على الوصول ستفتح لك الأبواب، ونذكر بقول ربنا سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69].

الأسئلة

الأسئلة بعض الأسئلة مهمة جداً، وهنا سؤال سيكون له مكان في المحاضرة القادمة، لكن لأهميته سأذكره الآن ثم نعيد إن شاء الله التذكير به في المحاضرة القادمة.

طرق معالجة النية وإخلاصها في طلب العلم وغيره

طرق معالجة النية وإخلاصها في طلب العلم وغيره Q أجد في نفسي أحياناً رياء عند طلب العلم، فالأصل أني أطلب العلم من أجل رضا المولى ولكن قد يداخل ذلك حب التميز والتفوق وحب الشهرة وكلام الناس، فماذا أفعل؟ A أذكر السائل بالمقولة الهامة جداً، وهي: العمل من أجل الناس رياء، وترك العمل من أجل الناس شرك. يعني: أن إبليس يزين لك أموراً ويلبس عليك الأشياء ويقول لك: أنت تطلب العلم لأجل الناس، فيدفعك إلى تركه؛ حتى تخلص النية وتصلح القلب، وهذا تلبيس من إبليس، لكن الصواب أن تستمر في العمل مع تجديد النية الصالحة المستمرة، وتجديد النية ليس سهلاً، يقول سفيان الثوري: ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي. ومعالجة النية أمر صعب فعلاً، لكن بالممارسة والمجاهدة وبالمحاولة مرة وثانية وثالثة وأكثر -إن شاء الله- سيصل المسلم الصادق إلى درجة الإخلاص المطلوبة، ومعالجة النية ليست مرة ولا مرتين في العمر أو مرة أو مرتين في السنة، لا، لكن مع بداية كل عمل معين، في كل ساعة وكل لحظة، وحسب درجة الإيمان تزداد درجة الإخلاص، ومطلوب منك أن تقرأ كثيراً عن الآخرة؛ لكي تخلص النية لرب العالمين سبحانه وتعالى. ذكر نفسك بيوم الممات، وذكر نفسك بيوم المعاد عند الله عز وجل، وذكر نفسك بالحساب أمام الله عز وجل، وستجد أن النية إن شاء الله تتجه تدريجياً إلى أن تكون نية خالصة لله عز وجل، والأمر فيه تفصيل، وسنتحدث عنه إن شاء الله في الدرس القادم بشيء من التفصيل.

مدارس اللغات الأجنبية ومحاولة طمس اللغة العربية أو إضعافها

مدارس اللغات الأجنبية ومحاولة طمس اللغة العربية أو إضعافها Q هناك مشكلة اختيار مدارس لغات أو مدارس لغة عربية للأطفال؟ A إن ما ذكره السائل أمر مشاهد، فإن مدارس اللغات مستواها التعليمي أعلى من المدارس العربية في الجملة، صحيح هناك استثناءات، لكن في الجملة هذا هو المشاهد. وقد ناقشت هذه القضية قبل ذلك في مجموعة (فلسطين حتى لا تكون أندلساً أخرى) وذكرنا أن أعداء الإسلام عندما أرادوا الكيد لهذا الدين لم يغلقوا مدارس الأزهر في أوائل القرن الماضي، ولكنهم أنشئوا إلى جوارها المدارس العلمانية، وفتحوا أبواب العمل لطلاب المدارس العلمانية، فبالتالي مع مرور الوقت بدأت الناس تتجه بأبنائها إلى المدارس العلمانية سعياً وراء فتح فرص عمل للأبناء عندما يكبرون، وأصبح الذي يدخل الأزهر هو الذي لا يستطيع أن يدخل المدارس الأخرى، ومع مرور الوقت تدنى المستوى التعليمي في الأزهر إلى درجات لم يكن عليها قبل ذلك مطلقاً، وقديماً في تاريخ الأمة العظيم كان عظماء الأمة هم الذين يهتمون بالعلوم الشرعية ويدرسونها ويتفوقون فيها، وكان النبوغ في هذه المجالات وسيلة لرفعة الإنسان وسط القوم أو وسط المجتمع الذي يعيش فيه، لكن الإنجليز أنشئوا مدارس علمانية وسهلوا فرص العمل لطلابها، وفوق ذلك أيضاً بدءوا يعطون رواتب أعلى لخريجي هذه المدارس أعلى بكثير من رواتب خريجي الأزهر. والمدارس العلمانية كانت تتحدث باللغة العربية في الجملة، لكن الآن صارت هناك مدارس لا تتحدث إلا باللغة الأجنبية فقط، وأيضاً فرص العمل مفتوحة بصورة أكبر لمن يحصل على الشهادة من مدرسة أجنبية، وهذا يدفع النوابغ من أبناء المسلمين إلى الالتحاق بالمدارس الأجنبية، ويخرج في آخر المطاف وهو لا يستطيع أن يكتب ويقرأ اللغة العربية إلا بصعوبة بالغة وبضعف شديد، وبالتالي يصعب عليه جداً أن يقرأ القرآن الكريم أو السنة المطهرة، ولو قرأ لا يستطيع أن يفقه بسهولة، فتكون النتيجة تردياً مستمراً للتفقه في القرآن والسنة وفي علوم الدين بصفة عامة، وأخطر من ذلك أن الفرد منا قد يقول: أنا ممكن أن أُحْضر لابني مدرساً يعلمه اللغة العربية في البيت حتى يرتفع مستواه، نقول حتى لو ارتفع مستواه في اللغة العربية واستطاع أن يقرأ اللغة العربية بصورة جيدة، ويقرأ القرآن والسنة بصورة طيبة، فإنه قد يدخل في شعوره الداخلي دون أن يريد هو وآباؤه ذلك تعظيمُ اللغة الغربية على اللغة العربية، وأنها مصدر النجاة في هذه الدنيا، وأنه لا فلاح له ولا وصول إلا بهذه اللغة، وليس معنى هذا الكلام أننا ضد تعلم اللغات الأجنبية. يقول البعض: هل أنت مع تعليم الأطفال بعض المصطلحات الغربية وهم قبل سن الدخول إلى المدرسة؟ والسؤال الذي يأتي بعد ذلك: هل يا ترى يتعلم الطالب اللغات الأجنبية مع اللغة العربية أو لا يتعلمها؟ نقول: نحن مع تعلم اللغات الأجنبية مطلقًا، على قدر ما تستطيع، حاول أن تتعلم لغة أخرى إلى جوار اللغة العربية، لكن بشرط أن تكون اللغة العربية هي اللغة الأساس، هي اللغة الأولى لك، حتى لو كانت اللغة العربية ليس لها تواجد في العالم الآن إلا في البلاد العربية؛ لكن هذه بداية، ونحن نريد نهضة شاملة في العالم الإسلامي، وإذا حدثت هذه النهضة الشاملة في علوم مختلفة وكانت اللغة العربية هي الأساس سيكون هذا مجال انتشار للغة العربية في العالم، وأذكركم أن من كان يريد أن يتعلم الطب أو الهندسة أو الفلك أو الكيمياء من أوروبا أو من الهند في وقت عزة الدولة الإسلامية كان عليه أن يتعلم اللغة العربية، كذلك يتعلم اللغة العربية، حتى يدرس في جامعات المسلمين: جامعة قرطبة، جامعة طليطلة، جامعة أشبيلية، جامعة بغداد، جامعة القاهرة، يعني: كانت مدينة القاهرة من مدن العلم المشهورة في ذلك الزمن. وسنتحدث إن شاء الله في محاضرة قادمة عن: صور رائعة من الحضارة الإسلامية، ونذكر بعض الأمثلة من الجامعات والمكتبات الإسلامية العملاقة التي كانت كلها باللغة العربية، والطلبة فيها من بلاد مختلفة في العالم مسلمون وغير مسلمين يتحدثون باللغة العربية، لكن تحقير اللغة العربية والتهوين من شأنها عند الطفل وإشعاره أنه لا نجاة له إلا بتعلم اللغة الأجنبية وجعلها هي اللغة الأساسية الأم، بل وقد يفخر بعض الآباء والأمهات بأن أبناءهم لا يستطيعون الكلام بالعربية، وأن معظم كلامه باللغة الإنجليزية فهو لا يستطيع أن يعبر عن نفسه إلا بلغة أجنبية، فهذا شيء خطير جداً يحتاج إلى مراجعة. هناك ناس تعاني من إدخال أولادها مدارس مستواها إلى حد ما أضعف من مستوى المدارس الأجنبية، نقول: إن طريق العلم لا بد فيه من معاناة سواء كانت معاناة مادية أو معاناة فكرية، فأي نوع من أنواع المعاناة متوقع، لكن لا بد من بذل الجهد، فإننا عندما نراجع تاريخ الدول التي قامت في هذه الأيام في عصرنا هذا، نجد أنها اهتمت اهتماماً قوياً جداً باللغة الأم، حتى وإن كانت غير منتشرة في العالم، فمثلاً: التعليم الأساسي في اليابان كله باللغة اليابانية، وكذلك التعليم الأساسي في ألمانيا كله باللغة الألمانية، وقد تجد بع

حكم تعلم اللغات الأجنبية

حكم تعلم اللغات الأجنبية Q أدرس في كلية لغات وترجمة أزهر دراسات إسلامية فما الذي تنصحنا به؟ وهل لنا من دور؟ A عليك دور ضخم جداً، وليس معنى ما ذكرنا سابقاً أننا لا نتعلم لغات، وأنت رجل عندك لغات وترجمة وأزهر وعندك معلومات دينية لا بأس بها، تعلم اللغة الإنجليزية، وتعلم اللغة الإسبانية، واللغة الألمانية وغيرها من اللغات، وصل العالم كله بدين الله عز وجل، ورد على الشبهات، ورد على بابا الفاتيكان، ورد على جرائد الدنمارك، ورد على كذا وكذا من المشاكل التي تطل علينا من كل مكان. كن عنصراً فاعلاً، وتحرك بلغتك فأنت تسد ثغرة، فقد كان زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه كان مقرباً جداً لرسولنا صلى الله عليه وسلم، ومن أهم أسباب هذه القربى له أنه تعلم لغة لم يتعلمها عموم الصحابة.

دور كبار السن في قضية العلم وغيره

دور كبار السن في قضية العلم وغيره Q الأمثلة المذكورة للعلماء الذين ذكروا في الدروس السابقة معظمهم بدءوا في سن مبكرة فما حال الكبار؟ A يعني: نحن الآن كبرنا في السن فمنا من أصبح عمره (20) سنة أو (30) سنة أو (40) فقد ذكرتم أن الشافعي حفظ القرآن وهو ابن (7) سنين وحفظ الموطأ وهو ابن (10) سنين. وأحمد بن حنبل كان يريد أن يخرج قبل الفجر من أجل أن يتعلم الحديث وهو لا يزال طفلاً صغيراً، وأمه تمسكه وتقول له: لا تخرج قبل الفجر، وهو يريد أن يخرج قبل الفجر لطلب الحديث، فيقول السائل: إذاً: ماذا يعمل الكبار؟ نقول: ما أكثر الأمثلة في التاريخ الإسلامي على من بدأ في سن الكبر، وحتى لو لم توجد أمثلة، سنفترض أنك لا تعرف أن موسى بن نصير فتح الأندلس وعمره (72) سنة، ولا أن يوسف بن تاشفين التزم بالإسلام وعمره (46) سنة، وقبل ذلك كان بعيداً تمام البعد عن الفكر الإسلامي والالتزام بتعاليم الشرع، فبدأ طريقه في الالتزام وعمره (46) سنة، وخالد بن الوليد أسلم وعمره (47) سنة، وعمرو بن العاص أسلم وعمره (57) سنة، فالله سبحانه وتعالى أنعم عليهم بالفتح، سواء في مجالات الجهاد أو مجالات العلوم أو مجالات الدعوة، في كل مجالات الإسلام بصفة عامة، لا أريد أن يقول إنسان: إنني قد تأخر بي الزمن، لا، فـ ابن الجوزي رحمه الله بدأ يتقن القراءات العشر ويقرؤها على الشيوخ وعمره فوق (80) سنة، مع العلم الغزير الذي كان عنده في كل فروع العلم، يعني يقول ابن تيمية عن ابن الجوزي: ما أعلم أحداً صنف مثله. في كل الفروع له مصنف رحمه الله، ولكن هناك فرع لم يتعلمه ولم يتخصص فيه في أول حياته وإنما تعلمه وعمره فوق (80) سنة، ألا وهو علم القراءات. أيضاً اذكر قول الله عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]، ستحاسب على كل لحظات عمرك لوحدك، فكون العالم كله يضيع وقته ويلعب وينشغل بأمور لا تنفع فاعلم أنك ستحاسب لوحدك يوم القيامة، فالوقت الذي تبقى لك من العمر لعله يوم أو يومان أو عشرة أو عشر سنين أو أكثر فاستغله كله لله عز وجل.

حقيقة العمل في الشركات الأمريكية وغيرها من الدول الكافرة

حقيقة العمل في الشركات الأمريكية وغيرها من الدول الكافرة Q هناك شخص يعمل في شركة نظم معلومات أمريكية، وهي وشركة متميزة في مجال غير منتشر في بلاد العالم الإسلامي، لكن هو يشعر أن الفائدة تعود على الشركة، فالأرباح كلها متجهة إلى الشركة، وكل جهده متجه للشركة، فهل يستمر أو لا يستمر؟ A نقول: لماذا تشتغل في هذه الشركة؟ لو كنت تشتغل في هذه الشركة لتحصيل أسباب المعاش فقط، فمن فضلك اترك الشركة هذا اليوم؛ لأننا نقاطع البضائع الأمريكية والشركات الأمريكية إلى أن يتركوا بلادنا، فهم محتلون للعراق ولأفغانستان، ويساعدون اليهود في فلسطين، أما إن كنت تشتغل في هذه الشركة لنقل العلوم من هذه الشركة إلى بلاد المسلمين، وتعلم علماً لا يعلمه المسلمون الآن، وتقصد بذلك وجه الله عز وجل، والنقلة الحضارية للأمة الإسلامية فهذا أمر محمود، كالذي يذهب في بعثة إلى أمريكا لكي يتعلم علماً من العلوم ليس عندنا، يتعلم فرعاً من فروع الطب، الفلك، الكيمياء، ثم يرجع بعد ذلك ليفيد أمة الإسلام بهذا العلم، لكن بضوابط، أهم هذه الضوابط: أن تكون عندك خطة واضحة وسنوات محدودة، وبعد ذلك ترجع لتفيد بلاد المسلمين، لكن لو بقي عندهم تتعلم علوماً جديدة وتقول: آخذ أيضاً هذا العلم، وآخذ أيضاً هذا العلم إلى أن يصبح عمرك (70) أو (80) سنة وأنت مقيم عندهم، فإن المسلمين سيحرمون من علمك، وستصبح قوة إسلامية أضيفت إلى قوة الغرب، وسبب ضعف المسلمين. فإذاً: اذهب بنظام: الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها، لكن كما قلنا بضابط عدم المخالفة للكتاب والسنة، فأنا أذهب وآخذ هذه العلوم من هناك لكن بقدر ما نحتاجه في هذه الجزئية، ولا يكون المجال مفتوحاً بدون حدود. هذا الكلام ينطبق على البعثات وينطبق على العمل في الشركات، وأيضاً انتبه قد يكون الإغراء كبيراً، فقد تذهب بنية الرجوع، لكن مع مرور الوقت لا ترجع؛ بسبب كثرة الأموال وراحة العيش، فتترك بلاد المسلمين وهموم المسلمين وتثري الشركة الأجنبية بكل طاقتك، وهذا لا يستقيم.

كيفية إخراج الإمكانيات والطاقات الموجودة في العقل البشري

كيفية إخراج الإمكانيات والطاقات الموجودة في العقل البشري Q كيف نخرج إمكانياتنا التي وضعها الله عز وجل في العقل البشري؟ A أولاً: أنت لا بد أن تبذل الجهد من أجل أن تخرجها، وقد ذكرنا كلمة أديسون التي ذكرها عندما سئل عن الإلهام الذي عنده؟ فذكر أن الإلهام الذي عنده يمثل في اختراعاته (2%) وفي بعض الروايات (1%) والباقي (98%) من الاختراعات نتيجة الجد والاجتهاد، ونتيجة العمل والمثابرة والكفاح المستمر والسهر الساعات الطويلة، فاستطاع أن يخرج إمكانيات لم يكن يراها أحد فيه، فـ أديسون هذا لم يكن مقبولاً في المدرسة، فمستواه الفكري ليس عالياً، وهذا المثال سيجيب عن السؤال التالي.

وضع الإنسان في مجال يناسبه يؤدي إلى الإبداع والتفوق

وضع الإنسان في مجال يناسبه يؤدي إلى الإبداع والتفوق Q لو كان هناك إنسان مستوى ذكائه ضعيف فهل يمكن أن يكون عالماً؟ A من الذي عرف أن مستوى ذكائه ضعيف، فلربما أن المشكلة تكمن في أنك وضعته في مجال ليس من اختصاصه، ألم يبدع أديسون وهو من عائلة فقيرة جداً، مات أبوه فربته أمه وأخذته ودارت به على المدارس هنا وهنا ولم يقبله أحد، فكان كلما دخل مدرسة بقي فيها فترة ثم عندما يعرفون أنه فقير يخرجونه منها، كان هذا في أوائل القرن العشرين، يعني: ليس في القرون الوسطى، لكنه حاول وحاول وظل يقرأ في كتب كانت لأبيه، فقد كان عند أبيه مكتبة، فهي من الأسباب التي أوصلته إلى ما وصل إليه من الإبداع والاختراع، وبدأ يعمل في بيع الجرائد؛ لكي يكفي أمه ويكفي نفسه، ثم بعد ذلك بدأ يفكر قليلاً قليلاً فعمل أول اختراع ثم الثاني ثم الثالث إلى أن بلغت اختراعاته (1200) اختراع وفي رواية (2500)، فهذا إنجاز ضخم جداً، وهو شخصية غير مسلمة، وليس عنده ما عند علماء المسلمين من التوفيق، لكنه بذل جهداً، ومن يبذل جهداً فإن من سنن رب العالمين أنه يعطيه مقابل ذلك ولا يظلمه. نعم، ليس له في الآخرة نصيب؛ لأنه لم يعمل ذلك لله عز وجل، لكن اجتهد وأخذ في الدنيا النتيجة التي عمل لها. إذاً: فأنت تحتاج إلى جهد، لكن تحتاج إلى شيء آخر مهم جداً وهو أن تعرف موهبتك وأن تعرف مجال تفوقك، وهذا سيجرنا إلى سؤال آخر.

أثر تخصص الإنسان في مجال لا يهواه

أثر تخصص الإنسان في مجال لا يهواه Q إذا تخصص الإنسان في مجال لا يهواه فماذا يفعل؟ A أولاً: لا بد أن تعرف هل هذا من تلبيس إبليس أم هو فعلاً مجال غير مناسب لك؟ فإبليس قد لا يريدك أن تستمر في العلم فيبغض إليك هذا الفرع من العلم، مع أنه فرع جيد وممكن تحبه، ولكن الشيطان يثبطك، فحاول مرة ومرتين وثلاث مرات، فإذا تفوقت في هذا المجال فإنك ستحبه إن شاء الله، لكن على فرض أنك تفوقت ونبغت فيه ومع ذلك لا تحبه وليس على هواك، وإنما هواك في شيء آخر، فليس هناك مانع من أن تغير الطريق، ولا تقل: انتهى الوقت وذهبت مني سنتان في الكلية، لا، إذا كنت بعد سنة أو سنتين في الكلية ولم تعجبك الكلية ولم تستطع أن تفهم فيها، وميولك كلها في اتجاه آخر، لكن والدك أو والدتك أو الظروف المجتمعية التي تعيش فيها ضغطت عليك؛ لكي تدخل كلية معينة، وهواك في اتجاه آخر غير، فليس هناك مانع بعد سنة أو سنتين من عمرك وبعد أن أخذت فيها تجربة وأخذت فيها نوعاً معيناً من العلم، حتى وإن لم يكن علماً ترغب فيه، فليس هناك مانع من أن تغير الطريق، وليس معناه أنك تكمل هذا الطريق، فأنت لا تعرف كم تبقى لك من عمرك؛ لأن كثيراً جداً من عظماء العالم بدءوا في اتجاه، ثم مشوا في اتجاه آخر بعيداً جداً، ليس هناك مشكلة أبداً من تغيير المسار، ونحن نعرف أمثلة كثيرة جداً لأناس في تخصصات بعيدة تمام البعد عن المجال الذي نبغوا فيه بعد ذلك وتفوقوا.

شبهة معارضة الاهتمام بطلب العلم للكسب وطلب الرزق

شبهة معارضة الاهتمام بطلب العلم للكسب وطلب الرزق Q يحتاج طالب العلم للتفرغ وتحتاج ظروف الحياة للعمل فما الأولى؟ A لا شك أن طلب العلم قد يؤثر على حصيلتك المادية في البداية، لكن بالمثابرة والجد ستصل إن شاء الله، لا تجعل النقود هي هدفك، فأنت لو جعلت العلم هدفك فإن النقود ستأتيك، وليس معناه أن تقعد في البيت ولا تشتغل، لا، بل لا بد أن تفرغ أوقاتاً للعمل والكد والكدح، لكن لا يكون هدفك في الحياة جمع المال، والبحث عن وظيفة أكثر ربحاً ولو كانت أقل علماً، فلو كنت تريد أن تصبح عالماً فأنت بحاجة إلى ظروف معينة وشروط معينة، منها: التفرغ لقضية العلم قدر المستطاع، مع العمل الذي يكفل لك المعيشة، لكن لا تجعل حياتك كلها في هذا المجال، هناك ناس سخرت حياتها في الاقتصاد وفي جمع المال لله عز وجل حسب زعمهم، نقول: حتى وإن كان غرضك وهدفك جمع المال لتعلو بأمة الإسلام فإنه يخشى عليك جداً من الفتنة في الدنيا؛ لأنه مع مرور الوقت وبالتدرج قد تقع في الفتنة، نسأل الله السلامة. هناك أسئلة أخرى كثيرة، لكن هذه أكثر الأسئلة ارتباطاً بموضوعنا، وإن شاء الله في المرات القادمة نعرج على بعض الأسئلة الأخرى.

أهمية الوقت في حياة المسلمين

أهمية الوقت في حياة المسلمين اليوم نتحدث بإذن الله عن العامل الذي لا يستطيع عالم أن يكون عالماً إلا به، بل لا ينجو الإنسان في حياته إلا بالاهتمام به، ذكرنا أنك إذا أردت أن تصبح عالماً فإن عليك فعل شيئين: الأول: أن تقدر قيمة الشيء الذي تجاهد من أجله. الشيء الثاني: لا يستطاع العلم براحة الجسم. أما الشيء الثالث فهو موضوعنا في هذا اليوم، قد تجد أناساً تعمل (24) ساعة سبعة أيام في الأسبوع (365) يوماً في السنة، يعني: يعملون على مدار السنة، فهؤلاء يبذلون جهوداً ضخمة جداً، لكن ليس هناك إنجاز معين، فهم يتعبون كل السنة، وفي آخر السنة ما هي الإنجازات التي عملوها؟ لا شيء. نحن نريد أن نتكلم عن عامل مهم، ألا وهو عامل الوقت، فما قيمة الوقت في حياة العلماء؟ لا يوجد عالم في الدنيا يضيع وقته، ولا يوجد عالم في الدنيا لا يرتب أولويات وقته، هل هناك من يضيع وقته؟ هذا مستحيل يكون عالماً، لكن المشكلة أن هناك أناساً لا تضيع وقتها، ولكن لا تعرف كيف تدير الوقت، ولا تعرف كيف تنظم الوقت، ولا تعرف كيف تستغل كل الوقت، مع وجود الحمية والإخلاص في قلب من كان كذلك، إلا أنه لا يستطيع استغلال وقته استغلالاً كاملاً، فتضيع بذلك الأعمال والأعمار، ولا يستطيع أبداً أن يصل إلى درجة العلماء. أغلى ما يمتلك الإنسان حقيقة هو الوقت، فهو رأس مالك وهو عمرك ويوشك إن ذهب البعض أن يذهب الكل، الوقت يذهب بسرعة وإذا ذهب فلا يمكن أن يرجع، لو كان هناك من يتحمس لقضية العلم وعمره (30) سنة فسيبتدئ فلو عمر (60) سنة سيتبقى له (30) سنة، أما الماضية فقد فاتت قدر الله وما شاء فعل ما فات فات. كذلك لو بدأت وعمرك (50) سنة، إذاً: (50) سنة انتهت، فاهتم بالآتي، والآتي قد تكون (10) (20) (30) (50) سنة الله أعلم، لكن ما فات فات. من يسمع هذا الكلام الآن سيحزن جداً على العشرين السنة أو الثلاثين السنة التي انقضت وسيضيع أيضاً عشرين سنة أو ثلاثين آتية في الحزن، هذا لا ينفع. الغرض من كلامنا أن تبدأ من الآن في الحفاظ على الوقت؛ لأن قضية الوقت قضية ماسة، وللأسف الشديد أمة الإسلام الآن تعاني معاناة كبيرة جداً في قضية الحفاظ على الوقت، الإنتاجية للعامل الأوروبي سبع ساعات في اليوم، هم يعملون ثمان ساعات أو تسع ساعات، لكن المجمل سبع ساعات، بينما المجمل للعامل المصري (30) دقيقة، الإنتاجية للعامل المصري لا تقاس بالساعات وإنما بالدقائق نصف ساعة فقط، هذه إحصائيات رسمية حكومية في مصر ليست في جرائد المعارضة، وهذه كارثة، هم يحسبون الإنتاج على عدد العاملين، نحن عندنا بطالة مقنعة، هناك مئات وآلاف وعشرات الآلاف ومئات الآلاف بل ملايين عندهم بطالة مقنعة، أعرف شخصاً يذهب إلى عمله يومين في الشهر، وعندما سألته: لماذا لا تذهب إلا يومين في الشهر؟ قال: اليوم الثاني هو يوم استلام الأجرة، فضروري أن أذهب، لكن اليوم الأول هذا من أجل أن أشتغل، قلت له: وبقية الأيام من الذي يشتغل؟ قال: زملائي يشتغلون، فكل واحد من زملائي يأتي يوماً في الشهر، فقلت له: لماذا تعملون هكذا؟ قال لي: نحن (30) موظفاً ولو حضرنا كلنا فستكون أزمة؛ لأن الثلاثين متوظفون في غرفة واحدة فيها مكتب واحد. هذا أمر حقيقي، ويشتغل هذا الشخص وزملاؤه في مركز من المراكز الصحية في محافظة الدلتا في الغربية بمصر؛ ليس هذا لأن المحافظات الغربية بالذات فيها مشكلة، لا، بل هذا في كل مكان، وأنتم تعرفون هذا. إذاً: أنا أخبركم بأن هذه واقعة حقيقية يذهب هذا الموظف يوماً في الشهر؛ لأنه لا يوجد إلا مكتب واحد، والعمل الذي يعمل في المكتب يقوم به واحد. كنت في إدارة من الإدارات الحكومية أعامل أمراً معيناً، فقلت لأحد الموظفين: كيف أخبار المواعيد في رمضان عندكم؟ قال: أعطوا نصف الموظفين إجازة، والنصف الآخر نصفهم يحضرون يوماً والنصف الآخر يحضر اليوم الآخر، فقلت له: وهل العمل لا يتأثر؟ فقال لي: عندما نكون أقل يكون العمل أفضل. وهذا الكلام في منتهى الحكمة؛ لأنه لو كان الكل يعمل فسيصير العمل غير مضبوط، فلما يكون عندك مائة واحد والعمل يقوم به عشرون إذاً المائة سيعملون عطلاً في العمل ولن تعرف من المسئول، ولا أحد مسئول معين، فالوقت ليس له ثمن، يعني: لما أقعد ثمان ساعات في العمل وفي الأخير يصبح إنتاجي (30) دقيقة. إذاً: الوقت ليس له ثمن، وأين إنتاجية الأمة؟! إذاً: قضية الوقت هي قضية للفرد وللجماعة وللأمة بكاملها فهي قضية في منتهى الأهمية، وهي قضية دنيا وآخرة، فالذي يضيع وقته على خطر عظيم، وتعرف قيمة الوقت أكثر في لحظتين: لحظة الاحتضار وأنت على فراش الموت، ستعرف قيمة الوقت حينها، {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100]، هذا الموت قد يأتي الآن لأي شخص منا، فالموت يأتي بغتة، وحينها ستعرف قيمة الوقت وتقول: لو أني

قيمة الوقت عند الصحابة ومن بعدهم

قيمة الوقت عند الصحابة ومن بعدهم يقول الحسن البصري رحمه الله: أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أحرص منكم على دنانيركم ودراهمكم. يعني: أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا حريصين على الوقت حرصاً شديداً، فهم في كل لحظة في إنجاز وفي إنتاج. يقول ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزد فيه علمي. يعني: عبد الله بن مسعود يندم على اليوم الذي يمر عليه بلا علم، وهي أيام قليلة جداً في حياته رضي الله عنه؛ فقد كان من علماء الصحابة الأفذاذ رضي الله عنه وأرضاه. إذاً: ينبغي لنا الحفاظ على وقتنا وإدارة وقتنا بصورة مرضية: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ). أي فراغ في يومك ينبغي أن يستغل في الحق؛ لأنه لو لم يمتلئ بالحق سيمتلئ بالباطل، ونفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل؛ لذلك ربنا سبحانه وتعالى يأمر بالمسارعة: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133]، {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21]، {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90] وإلى المنافسة: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] إياكم والتسويف، لاشك أن كل الحضور عندهم قناعة تامة الآن بقيمة العلم، ويريد الواحد منا أن يكون عالماً من علماء المسلمين، ونحسبكم جميعاً على خير ولا نزكي على الله أحداً، لكن ليس كلنا سيبتدئ اليوم في العمل، فهناك ناس ستقول: سأبتدئ إن شاء الله من أول الأسبوع، أو من أول السنة الآتية؛ لأن هذه السنة مضى منها جزء، وإن شاء الله السنة القادمة سأهتم اهتماماً كبيراً. وهناك من يقول: سأحضر الدراسات العليا بعد سنتين أو ثلاث عندما أنتهي من قضية كذا وكذا، والذي سيبتدئ الآن هم قليل، فكيف سيحصل التغيير؟ أقول: إياكم والتسويف فعظماؤنا في التاريخ الإسلامي كانوا حريصين جداً على عدم تضييع أي لحظة من لحظات الحياة، كانوا يستغلون ما أسميه: الفراغات البينية، والفراغات البينية هي أن تعمل عملاً معيناً من الساعة الثانية إلى الساعة الرابعة، والعمل الثاني سيكون من الرابعة والنصف إلى الخامسة والنصف، فمن الرابعة إلى الرابعة والنصف هذا فراغ بيني، أي: بين العمل الأول والعمل الثاني، فهل تستغله أم لا؟ كذلك عندما أذهب إلى الجامعة أو إلى المدرسة فالمسافة من بيتي إلى المدرسة وقتها نصف ساعة وعند الرجوع نصف ساعة فهل هذا الوقت مستغل، أم لحظات انتظار كئيبة أو جلوس في الباص أو التاكسي، أو ماشي في الشارع؟! هل تستغل هذه الفراغات البينية أم لا؟ كذلك لو كانت عندك محاضرة في الجامعة، وبعد ربع ساعة محاضرة أخرى، فهل الربع الساعة التي في النصف مستغلة أم لا؟ وعندما تأتي لتجمع الفراغات البينية في يومك فلن تكون أقل من ساعتين، فاضرب ساعتين في الأسبوع واضربها في الشهر وفي السنة وفي عمرك، هذه أعمار طويلة ممكن تستغل فيها أعمال ضخمة جداً.

قيمة الوقت عند أبي حاتم الرازي والمجد ابن تيمية

قيمة الوقت عند أبي حاتم الرازي والمجد ابن تيمية هذا أبو حاتم الرازي من علماء المسلمين المشهورين رحمه الله، كان من علماء التفسير وعلماء الحديث وكتب وألّف مجلدات في فنون شتى، يحكي ابنه عبد الرحمن عنه فيقول: ربما كان يأكل وأقرأ عليه وقت الأكل، وذلك من حرصه على الوقت فهو يأمر ابنه أن يقرأ عليه وهو يأكل، فيسمع علماً فلا يذهب وقت الأكل عليه، ثم يقول ابنه: ويمشي وأقرأ عليه، ويدخل الخلاء وأقرأ عليه. والقراءة على من في الخلاء لا داعي أن تفعلوها ليست مهمة، دعونا نحرص على الوقت الآخر، لكن كان يعمل هكذا. وكذلك جدّ ابن تيمية كان يفعل ذلك أيضاً، كان إذا دخل الخلاء أمر أحد أولاده أن يقرأ عليه من خارج الخلاء؛ لأنه لا يستطيع أن يدخل معه الكتب الخلاء، فحتى لا يذهب الوقت يأمر أحد أولاده بأن يقرأ عليه وهو في الخلاء. كذلك الإمام النووي رحمه الله قل أن يمشي في الطريق دون أن يحفظ شيئاً من كتب العلم أو من القرآن الكريم، كان يستغل الوقت وهو يمشي في الطريق رحمه الله.

قيمة الوقت عند سالم النحوي والفتح بن خاقان وغيرهما

قيمة الوقت عند سالم النحوي والفتح بن خاقان وغيرهما كذلك ثعلب النحوي رحمه الله أحد علماء القرن الثالث الهجري في النحو والبلاغة وفنون أخرى كثيرة، كان يأخذ الكتاب في يديه ويقرأ فيه وهو يمشي في الطريق، أتدرون كيف مات؟ لقد خبطه فرس وهو يقرأ من الكتاب أثناء سيره في الطريق، لا تفعلوا مثله، لكن حاول أن تستغل وقتك فكم من أوقات تضيع في السيارات، لو أنت ركبت السيارة وأتيت بشريط محاضرة أو غيرها فتسمعه وتسمعه الناس، فتكون استفدت ودعوت إلى الله عز وجل، فكم من أوقات تضيع على الناس، فإذا سافرت فخذ معك شريطاً وأعطه لصاحب السيارة لتسمعه أنت ومن معك من الركاب، وكن إيجابياً في التغيير قدر المستطاع. وهذا الفتح بن خاقان من علماء المسلمين وكان من وزراء المسلمين أيضاً، كان وزير المتوكل أحد خلفاء العباسيين، فكان إذا قام لعمل شيء يأخذ معه كتاباً، ويظل يقرأ في الكتاب وهو يمشي، وكانت لديه مكتبة هائلة، وكان شديد الشغف بالقراءة. إذاً: الأوقات الصغيرة هذه لو تجمعت مع بعضها لصارت طويلة، وحصل فيها المرء على علم، وأنا جربت هذا الموضوع، فقد كنت فترة من حياتي أعيش في أمريكا، وكنا نقطع مسافات في أمريكا طويلة جداً، ممكن تكون مئات الكيلو مترات، كنا نقطعها يومياً بشكل طبيعي، ويمكن أن يذهب منك وقت هذه المسافة، ولكن بفضل الله كانت هناك مكتبة ضخمة هائلة من الأشرطة موجودة في المسجد الذي كنا فيه، وهي لعلماء مختلفين، بعضهم تسمع عنهم وبعضهم لم تسمع عنهم، وهناك أشرطة نادرة، فكانت هناك ثروة علمية حقيقية، ولم أكن أسافر إلا وقد جهزت برنامجاً للسفر، فكم من العلم الذي أستفيده على مدار السنوات في تلك المسافات الطويلة، كنا نمشي عشر ساعات كل يوم، خمس ساعات ذهاب وخمس ساعات إياب، فإذا لم يكن هذا الوقت مستغلاً ضاع هذا الوقت ولا يعود، فلا أخرج أي مشوار إلا ومعي كتاب أو كتيب، حتى إذا سنحت لي فرصة قرأت؛ لأن في بعض الأوقات تكون عملية جراحية، فتتأخر العملية، فأقرأ وأستغل الوقت. هناك ناس يظل يقرأ الجرائد الموجودة الآن هذه، حتى يقتل الوقت، أو يظل ينكت ويتكلم في أمور سواء كانت تخاريف أو في المباح، إلى أن يمر الوقت ويأتي الدور عليه ليدخل عيادة الدكتور، أو مكتب المحامي، حفظكم الله من المشاكل، فهذه أوقات كثيرة جداً. إذاً: أثناء السفر خذ كتابك أو المصحف واقرأ، وإذا خرجت من البيت إلى المسجد تستغفر الله، قد تكون المسافة من البيت إلى المسجد قصيرة جداً، بينهما أربع أو خمس عمارات، فقلت مرة: أعد وأنظر كم سأقول: أستغفر الله، فكانت مائة مرة، وكذلك وأنت ذاهب إلى عملك استغل وقتك، وأنت ذاهب إلى قريبك وجارك، أو خرجت لتشتري جبناً أو غير ذلك استغل وقتك، فنحن حياتنا فيها مليون فراغ بيني، فأنت لو وقفت مع نفسك ستجد عندك فراغات بينية كثيرة، فإذا لم يستغل هذه الفراغات البينية ستكون كارثة بالنسبة له، ويضيع العمر. كذلك الخليل بن أحمد مبتكر علم العروض، وهو من أبرع علماء اللغة رحمه الله، كان يقول: أثقل الساعات علي ساعة آكل فيها؛ لأنه لم يكن بجواره أحد يقرأ له، فكان يمر عليه الوقت، وقد يكون هذا الكلام مبالغاً فيه، لكن كيف أصبح الخليل بن أحمد؟ وكيف اشتهر الطبري، وكذلك ابن الجوزي ما الذي جعل لهم هذه القيمة؟

قيمة الوقت عند ابن عقيل الحنبلي

قيمة الوقت عند ابن عقيل الحنبلي كذلك ابن عقيل الحنبلي رحمه الله كان يقول: أنا أحب سف الكعك على أكل الخبز؛ لأن سف الكعك لا يأخذ وقتاً، وأكل الخبز أنتظر حتى أقطع وأغمس وغير ذلك، فتذهب الأعمار في الأكل. ونحن في هذا الوقت نأكل الشوربة، ثم الشاي، فما أن ننتهي من الشاي إلا وتأتي الأكلة الثانية. فهم لم يكونوا يأكلون بكثرة، وإذا أكلوا أكلوا بسرعة، فهو يحب سف الكعك على أكل الخبز؛ لأن الخبز يأخذ وقتاً، والكعك يأخذ ثلاث دقائق تقريباً، فلو وفرت دقيقتين في كل أكلة فأنا آكل مرتين أو ثلاثاً في اليوم، فحوالي ست سبع دقائق في اليوم زيادة، فهذا إنجاز، فأنت حينما تقول: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم ستقولها في ثلاث ثوان أو أربع ثوان، فتكون قد غرست نخلة في الجنة في هذه الثواني، هل لهذه الثانية قيمة أم لا؟ لها قيمة ضخمة جداً، كذلك كلمة: استغفر الله قلتها في ثانيتين، كذلك قولك: أستغفر الله، أستغفر الله بعد الصلاة في كم تؤديها، واحسب سبحان الله والحمد لله، والله أكبر (33) مرة لكل منها في كم تكون من الوقت. فهناك أناس يبخل ويعجز أن يعمل هذه الأشياء، لكن قد يبقى ساعتين وربما أكثر من ذلك أمام المباراة، فيفرغ الأوقات غير محلها. وابن عقيل يقول عنه الذهبي: إنه استطاع أن يؤلف أكبر مصنف في الدنيا، وهو كتاب (الفنون)، أي: فنون اللغة، وفنون التفسير، وفنون المناظرات، وفنون الكلام، وفنون الفلسفة وغير ذلك، فكل العلوم التي تتخيلها في كتاب الفنون، فهو (800) مجلد، وليس فيه أي كلام، بل قرأ كتابه علماء أفذاذ، فقالوا: وقد أتى فيه من الأعاجيب ما لم يأت أحد قبله رحمه الله، كـ ابن الجوزي في تعليقه عليه، وكـ الذهبي في تعليقه عليه، وابن كثير في تعليقه عليه. وكان ابن عقيل رحمه الله يقول: إنه لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري. انظر إلى نظرته إلى الوقت، فالقضية عنده ليست قضية فضل، فهو يرى أن تضييع الوقت حرام، يقول: إنه لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح على السرير. يعني: عندما أستريح من عناء المذاكرة وعناء المطالعة وعناء التدريس والمناظرة، فقبل أن أنام أعمل فكري في مسائل وأنا مستطرح على الفراش، فلا أنهض من الفراش إلا وقد خطر على بالي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في الثمانين أشد مما كنت أجد وأنا في العشرين. هذا كلام ابن عقيل؛ ولهذا عمل كتاب الفنون في (800) مجلد.

أهمية تنظيم الوقت

أهمية تنظيم الوقت من الأشياء المهمة جداً أيضاً في قضية الوقت، غير استغلال الفراغات البينية، وغير استغلال الأوقات الضرورية التي يجب أن تقضى كوقت الأكل وغير هذا: أن الإنسان يبدأ ينظم وقته.

تنظيم الإمام النووي للوقت

تنظيم الإمام النووي للوقت كان الإمام النووي رحمه الله يقرأ المصنفات التي كتبها في الحديث، وفي الطبقات، وفي الفقه، وفي أصول الفقه وغيرها وغيرها، وقد يظن الواحد أنه كان منقطعاً تمام الانقطاع للكتابة والتأليف، مع أنه كان يؤلف ويكتب بالليل، فماذا كان يعمل في النهار؟ كان له درسان في الوسيط في الفقه، ودرس ثالث في المهذب، ودرس في الجمع بين الصحيحين، ودرس في صحيح مسلم، ودرس في اللمع في النحو، ودرس في إصلاح المنطق لـ ابن السكيت في اللغة، ودرس في التصريف، ودرس في أصول الفقه ودرس في المنتخب للفخر الرازي، ودرس في أسماء الرجال، ودرس في أصول الدين في التوحيد، يعني: عددها اثنا عشر درساً يومياً، كان يحضر هذه الدروس ليتعلم، وفي مرحلة أخرى من حياته يحضر الدروس هذه ليعلَّم، فقد كان أستاذاً في مدرسة الحديث في دمشق، فقد ظل عمره هذا يحضر اثني عشر درساً سواء طالب علم أو عالماً، وبالليل يصنف، فعمل هذه الإنجازات الهائلة كلها، وهذه الدروس مرتبة في أوقات معروفة، بعد الفجر درس، وبعد الضحى درس، وبعد الضحى بساعتين درس آخر، وقبل الظهر درس وبعد الظهر درس، وبعد العصر درس، وكل درس له ميعاد معروف، وبالليل التأليف، ومات رحمه الله وعمره (44) سنة، فكل هذا الإنجاز الضخم وعمره (44) سنة، وهو من بني آدم مثلنا مثله، وسيحاسب يوم القيامة معنا، ويوزن في نفس الميزان، واعلم أن الميزان يوم القيامة واحد، ليس هناك ميزان لأهل القرن العشرين، وميزان لأهل القرن الأول، وميزان لدولة أمريكا، وميزان لدولة مصر، إنما هو ميزان واحد، فـ أحمد بن حنبل وابن عقيل وابن الجوزي والطبري والشافعي والنووي وابن النفيس والبيروني وجابر بن حيان والرازي والمجاهدون والعلماء والدعاة والمنفقون كل هؤلاء جميعاً ونحن أيضاً سنعرض على رب العالمين سبحانه وتعالى، وتوزن أعمالنا، فلا زالت الفرصة أمامك الآن للعمل طالت أو قصرت.

تنظيم الإمام الشافعي للوقت

تنظيم الإمام الشافعي للوقت كان الشافعي رحمه الله أيضاً يقسم وقته، وكان يحضر الصبح في جامع عمرو بن العاص حينما كان في مصر، بعد الفجر مباشرة يأت أهل القرآن، أي: أصحاب التفسير والقراءات فيجلس معهم إلى أن تطلع الشمس، وبعد أن تطلع الشمس يأت أهل الحديث الذين يتكلمون في الحديث وعلومه وما إلى ذلك، فإذا ارتفعت الشمس قاموا واستوت الحلقة للمناظرة والمذاكرة، فيبدأ يناظر الناس، ويذاكر للناس في أمور فقهية، فإذا ارتفع الضحى جداً جاء أهل العربية والشعر والنحو حتى يقترب نصف النهار، وبعد صلاة الظهر يرجع إلى بيته في الفسطاط ليأخذ القيلولة، وبعد ذلك يرجع مرة أخرى بعد العصر إلى تعليم الناس وهكذا كل يوم على هذا، حتى في لحظات مرضه الشديد كان يفعل ذلك، ونحن في هذا الوقت نتأفف إما من البرد أو غيره، لكن الشافعي رحمه الله كانت عنده بواسير في آخر حياته وكانت شديدة النزف، حتى إنه كان إذا ركب الجواد يقطر دماً على الجواد مما أصابه من البواسير، وكان يذهب ويرجع وهو شديد العلة ليأتي بدرسه ولا يفوته رحمه الله؛ ولهذا فإنا نجد إنجازات شبه خيالية في حياة هؤلاء حقيقة. فهؤلاء الناس بالفعل أثْروا التاريخ الإسلامي، وجعلوا التاريخ الإسلامي غرة في جبين الإنسانية حقيقة، ونريد أن نساهم في هذا التاريخ، لا نريد أن نكون مجرد قارئين ولكن فاعلين، فبعد مائة سنة سيأتي من يتكلم علينا بالإيجاب لا بالسلب، فإياكم أن يقولوا: هؤلاء الناس كان جيلاً ضيع الأمة، ولكن كان جيلاً رفع الأمة بعد وقوع، وأصلح بعد فساد، وقاد الأمة بعد أن كانت الأمة مقادة قاد الآخرين بالإسلام. فنريد أن نصنع التاريخ ونغير من وجه التاريخ ونكون من أسباب رفعة الأمة الإسلامية.

تنظيم الفيروزآبادي وابن حجر وابن جرير الطبري للوقت

تنظيم الفيروزآبادي وابن حجر وابن جرير الطبري للوقت كان الفيروزآبادي صاحب القاموس المحيط المشهور من أعظم علماء اللغة في الإسلام، قرأ صحيح مسلم في دمشق على شيخه في ثلاثة أيام، وصحيح مسلم بالمكرر من (7000) إلى (12000) حسب حسابات العلماء، ومن غير المكرر (3000) أو (4000) ولنقف عند أقل رقم وهو (3000) فهو قرأ (3000) حديث تسميعاً على شيخه في ثلاثة أيام. وهذا ابن حجر العسقلاني قرأ صحيح البخاري في أربعين ساعة أيضاً تسميعاً، وبعد ذلك قام بقراءة صحيح مسلم في أربعة مجالس في يومين، ثم قام وقرأ سنن ابن ماجة أيضاً تسميعاً في أربعة مجالس، ثم قرأ كتاب النسائي الكبير الذي فيه (11000) حديث في عشرة مجالس، كل مجلس أربع ساعات، ثم قرأ معجم الطبراني الصغير في مجلس واحد ما بين الظهر والعصر، وفيه (1500) حديث. هذه الإنجازات شبه الخيالية نتيجة المحافظة على الوقت، فالله عز وجل بارك له في عقله، وحفظه {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282]. كذلك ابن جرير الطبري ظل أربعين سنة كان كل يوم يكتب أربعين ورقة أو خمسين ورقة، فعندما تأتي لتجمعها ستكون أكثر من نصف مليون ورقة في حياته كتبها رحمه الله، ما أثر عنه أنه أضاع دقيقة واحدة في حياته رحمه الله، ومصنفاته ليست كأي مصنفات، وإنما لها السبق، وهو من أئمة التفسير، ومن أئمة التاريخ، ومن أئمة الفقه، فهو صاحب مذهب رحمه الله، قال لتلامذته: ما رأيكم أن نفسر القرآن ونكتبه؟ فقالوا: في كم تكتبه؟ قال: في (3000) ورقة، قالوا: هذا تفنى فيه الأعمار، فاختصره إلى ثلاثة آلاف، ثم قال: أتنشطون لكتابة التاريخ منذ آدم عليه السلام إلى وقتنا هذا، وهو مات في سنة (310هـ)، يعني: هو من علماء القرن الثالث والرابع الهجري، فقالوا: في كم؟ فقال: في ثلاثين ألف ورقة، فقالوا: هذا تفنى فيه الأعمار، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فاختصره في ثلاثة آلاف ورقة. هذه إنجازات هائلة.

تنظيم ابن الجوزي للوقت واستغلاله له

تنظيم ابن الجوزي للوقت واستغلاله له آخر ما نتكلم عنه في هذا الدرس هو ابن الجوزي رحمه الله؛ فقد طالع في حياته (20000) مجلد. ففي حياته اتسع الوقت لقراءة (20000) مجلد، ويمكن أن يكون المجلد صغيراً، فأحد العلماء قال: لو افترضنا أن المجلد (300) صفحة، فيكون ما قرأ ستة ملايين صفحة، وكتب بيده (2000) مجلد، يعني: حوالي (600000) صفحة، يقول ابن تيمية: ما أعلم أحداً كتب مثل ما كتب ابن الجوزي. ويقول الموفق عبد اللطيف في حقه: كان لا يضيع من زمانه شيئاً أبداً. ويقول ابن الجوزي في أواخر حياته: تاب على يدي من المسلمين (100000)، وأسلم على يدي من اليهود والنصارى (20000). سأقرأ عليكم من كلامه حتى تعرفوا منهجه في الحياة، يقول رحمه الله: لقد رأيت خلقاً كثيرين يجرون معي فيما قد اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ويسمون ذلك التردد: خدمة، ويطلبون الجلوس، ويجرون فيه أحاديث الناس وما لا يعنى من الكلام، ويتخلله غيبة، وهذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس، وربما طلبه المزور واشتاق إليه واستوحش من الوحدة، خصوصاً في أيام التهاني والسلام. يعني: أنه كان في زمانه أناس كثيرون جداً يحبون أن يجلسوا ويتكلموا في أمور الغيبة، أو في أي أمر من الأمور، وكانوا يستوحشون من الوحدة، ويريدون أن ينهوا الوقت بأي كلام. ثم يقول: فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء، والواجب انتهازه بفعل الخير كرهت ذلك، وبقيت معهم بين أمرين: إن أنكرت عليهم ذلك وقعت وحشة لموضع قطع المألوف، يعني إذا قلت لهم: لا تقعدوا معي سوف يغضبوا؛ لأنني قطعت المألوف، والمألوف هو أننا نجلس مع بعض، وإن تقبلته منهم ضاع الزمان فصرت أدافع اللقاء جهدي، فإذا غلبت قصرت في الكلام لأتعجل الفراق، أي: أرد ردوداً سريعة قصيرة حتى يعرف الرجل أني مشغول فيمشي، ثم يقول: ثم أعددت أعمالاً لا تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم؛ لئلا يضيع الزمان ويمضي فارغاً، فجعلت من المستعد للقائهم قطع الكاغد -والكاغد هو الورق- وبري الأقلام، وحزم الدفاتر، وترتيب المكتبة، فإن هذه الأشياء لا بد منها، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم؛ لئلا يضيع شيء من وقتي. وعاش ثمانين سنة وأكثر رحمه الله، ولهذا أنجز هذه الإنجازات الضخمة، وليست هذه الأعمال من فراغ. ونحن لا نقول هذا الكلام للتعقيد، وإنما نقول هذا حتى نعمل مثله، وإذا لم تعمل مثله فاعمل نصفه أو ربعه أو نسبة منه.

ذكر بعض الخطط السريعة المعينة على اغتنام الأوقات

ذكر بعض الخطط السريعة المعينة على اغتنام الأوقات خطط سريعة تعين على اغتنام الأوقات: الخطة الأولى: ابدأ من الآن في إعداد جدول عملي للعلم. الخطة الثانية: حدد الهدف والأولويات، في أي مجال من مجالات العلوم سأعمل؟ ما هو هدفي؟ إلى ماذا أصل؟ ما نيتي؟ ثم ترتب ما هو الأول ثم الذي يليه وهكذا. الخطة الثالثة: ضع خطة فيها كل الدوائر التي تهمك، فأنت لست فقط طالب علم، فأنت طالب، ويمكن أن تكون زوجاً أو أباً أو ابناً أو موظفاً أو عاملاً أو أستاذاً، أو عندك أعمال أخرى في حياتك، عندك رحم، وعندك أمة إسلامية، وعندك دعوة، وعندك مسجد، ولديك نادي تذهب إليه وهناك أمور كثيرة جداً مشغول بها، ضع خطة فيها كل الدوائر وقسم الأعمال على الدوائر، ورتب الأولويات. الخطة الرابعة وهي مهمة جداً: أن تشرك معك ذوي الخبرة، فإذا كنت صاحب كيمياء أو فيزياء أو فقه أو حديث فلا تضع خطتك لنفسك، ولكن اجلس مع أحد المتخصصين حتى يساعدك في وضع خطة محكمة، وابدأ من حيث انتهى الآخرون، استفد من تجارب السابقين وإخوانك وأصحابك وأقرانك وأساتذتك وعلماء الأمة. الخطة الخامسة قبل الأخيرة: تابع خطتك، يعني: بعد أن تعمل الخطة وتضع مقداراً زمنياً معيناً لتنفيذ هذا العمل في ثلاثة شهور أو سنة أو سنتين، اعمل متابعة لنفسك بعد شهر مثلاً وحاسب نفسك: ماذا عملت؟ هل تمشي في الطريق مشياً صحيحاً أم أنك تضيع وقتك؟ وبعد ثلاثة أشهر تجلس مع نفسك، ثم بعد ستة أشهر وبعد سنة، لتكن لك جلسات تقييم مستمرة، وإلا ستتفاجأ أن سنتين مضتا وأنت لم تعمل شيئاً؛ لأنك وضعت خطة ولم تتابعها. الخطة الأخيرة: تحلى بأخلاق العلماء الربانيين؛ لأنه يمكن أن تكون عالماً، ولكن قد تسعر في جهنم والعياذ بالله، ومعلوم أن أول ما تسعر جهنم تسعر بعالم وبمجاهد وبمنفق، فعليك أن تتحلى بأخلاق العلماء الربانيين. أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كيف تصبح عالما [8]

سلسلة كيف تصبح عالماً [8] هناك صفات معينة لا بد أن يتصف بها العلماء والدعاة، وبدونها لا يستقيم العلم، وبدونها لا ينتشر علم العلماء، ولا يكون مقبولاً بين الناس، ومن هذه الصفات التي ينبغي للعلماء والدعاة التحلي بها: الإخلاص، والتواضع، والزهد، والعلم النافع، والعمل بالعلم، والرحمة، ونشر العلم، والأمانة العلمية، وغير ذلك من الصفات.

أخلاق العلماء وصفاتهم

أخلاق العلماء وصفاتهم أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين. نستكمل بفضل الله ما كنا قد بدأناه من حديث حول أمة الإسلام بين علوم الشرع وعلوم الحياة، وفي عدد من المحاضرات السابقة ذكرنا الطريق الذي يجب أن يسير فيه من يريد أن يصبح عالماً بعد ذلك، فكل من أراد أن يكون عالماً له طريق محدد، وهناك قواعد ثابتة لابد أن يسير عليها ليصبح في النهاية من العلماء. وذكرنا شيئين في غاية الأهمية، وقلنا: إن هذين الشيئين مهمان جداً لكي تكون عالماً، سواء كنت مسلماً أو غير مسلم، سواء كان هذا المسلم تقياً أم فاجراً، إذا أراد أن يكون عالماً فلابد أن يقوم بشيئين: أولاً: يعلم قيمة العلم، يعلم قيمة الشيء الذي يكافح من أجل تحصيله، لو كان العلم في عين الإنسان حقيراً لم يبذل فيه مجهوداً، وبالتالي لن يصل إلى علم ذي قيمة. وذكرنا أن العلماء غير المسلمين كانوا يؤمنون بقيمة العلم، وكانوا يبذلون الوقت والجهد لكي يحصلوا على نتيجة هذا الشيء الثمين الذي قدروه، وذكرنا الأمثلة من حياة أديسون وحياة كلاشنكوف وغيرهما من العلماء الذين أضافوا الاختراعات إلى الإنسانية. ثانياً: أن من أراد أن يكون عالماً لابد أن يعرف أنه لا يستطاع العلم براحة الجسم، لابد أن تعرف أن الطريق إلى العلم طريق صعب، وأن المجهود المطلوب مجهود كبير جداً، وأوقات طويلة، وأعمار تنفق كلها في سبيل تحصيل هذه الغاية وهي أن تكون عالماً. هذان الشيئان لابد أن يكونا معك من البداية، لكن من المؤكد أن هناك فرقاً ما بين العالم المسلم والعالم غير المسلم، فهناك صفات معينة لابد أن يتصف بها ويتحلى بها طالب العلم المسلم من البداية، حتى إذا أصبح عالماً أصبح متصفاً ومتشرباً ومتشبعاً تماماً بهذه الصفات، لابد أن تكون هناك صفات تفرق هذا العالم المسلم عن غيره من غير المسلمين، هناك ضوابط وأطر شرعية تحكم حياة العالم المسلم، هناك أخلاق يتحلى بها العالم المسلم حتى يقال عنه: هذا عالم رباني، هذا عالم تقي، هذا عالم يعرف الله عز وجل، يعرف حقه ويعرف حق العباد، عالم يؤدي وظيفته التي أراد الله عز وجل له أن تكون في الأرض. هذه أخلاقيات هامة جداً، وبدون هذه الأخلاقيات -للأسف الشديد- كل ما حصلناه من علم وإن أصبحنا علماء يصبح يوم القيامة هباء منثوراً، يصبح العلم وبالاً على الإنسان وحجة عليه. هناك صفات كثيرة جداً، نحاول اليوم إن شاء الله أن نمر على بعض هذه الصفات، والمجال يحتاج إلى تفصيل، فلو قمنا بمجموعة كاملة من المحاضرات في أخلاقيات العلماء فلن يكفي؛ لأننا نتكلم عن كل أخلاقيات الإسلام الأساسية، فالعالم قدوة لابد أن يتصف بكل ما جاء في الإسلام من أخلاق حميدة، لكن هناك بعض الصفات لابد أن يتصف بها بوضوح، بحيث تصبح غالبة على تكوينه وعلى حياته. والسير في طريق العلم بدون هذه الأخلاق أو في أي طريق يصبح خطراً شديداً على الإنسان.

الإخلاص

الإخلاص أول هذه الأخلاق والصفات: الإخلاص، لماذا تتعلم هذا العلم؟ وأي شيء تريد من وراء تحصيل هذا العلم؟ ولماذا تريد أن تصبح عالماً؟ ما هي النيات التي في قلبك؟ إننا في حساباتنا في الدنيا نحاسب فقط على الظاهر، فأنت بالعلم الذي حصلت عليه قد تحصل على وظيفة، تحصل على مال، تحقق منافع دنيوية، يتساوى في ذلك المسلم وغير المسلم: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود:15]، لكن الشيء الخطير أن يكون الإنسان المسلم بعدما حضر هذه الدروس وتحمس جداً لقضية العلم وأصبح عالماً من العلماء ويشار إليه، وقال عنه الناس: هذا عالم، هذا هدف الطالب في البداية أو في النهاية، فهدفه إجمالاً أن يشار إليه بالبنان، ويشار إليه بالعلم، ويعرف في وسط الناس بصفة العلم، هذا شيء خطير؛ ولذلك لا تجد كتاباً من كتب السنة أو من كتب المسانيد أو من غيرها إلا ويحرص صاحب الكتاب صاحب الصحيح أو صاحب السنن على أن يبدأ كلامه ويبدأ حديثه وتبليغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر صفة الإخلاص؛ لأنه بدونها كل شيء سيضمحل ويتلاشى، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه: رجل استشهد، فأتي به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار)، هذا أول واحد يحكم عليه يوم القيامة أول ما يقضى بين الخلائق، هذا الإنسان الذي مات في الدنيا في أعين الناس مات شهيداً مقاتلاً في قضية عادلة، فهذا في أرفع الدرجات في أعين الناس، لكنه قاتل ليقول عنه الناس: إنه جريء، فقد قيل، ما طلبته حصلته، كذلك أنت ماذا تريد من وراء العلم؟ ماذا تريد من وراء السلطان؟ ماذا تريد من وراء الجاه؟ من وراء الوضع الاجتماعي؟ ما أردته قد تحصل عليه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس:44]، لو كنت تريد هذا فقط فقد أخذته، وليس لك في الآخرة نصيب. الثاني الذي يحكم عليه يوم القيامة، وهذا مربط الفرس في قصتنا، قال صلى الله عليه وسلم: (ورجل تعلم العلم وعلمه) يعني: لم يكن فقط من العلماء بل كان عالماً إيجابياً، فقد تعلم العلم وعلم الناس، لكن القلوب تنطوي على أهداف شخصية ومصالح خاصة، فهو لم يطلب رضا الله عز وجل في هذا العلم الذي حصل عليه، فهذا الرجل الثاني: (رجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل)، يعني: أنت أخذت نصيبك، وما كنت تريده في الدنيا حصلت عليه، فأنت عندما كنت في الدنيا كان الناس يشيرون إليك: ما شاء الله فلان عالم من العلماء، ما شاء الله فلان قارئ للقرآن ومجيد للتلاوة ويحسن التفسير والتأويل، كل الناس يتكلمون بهذا، وأنت سعيد بهذا الكلام، ولم ترد وراء ذلك شيئاً لم تنظر إلى جنة ولم تخف من نار ولم ترج مثوبة الله عز وجل، ولم تخش عذاب قبر ولم تطلب نعيمه، حياتك كلها منصبة في الدنيا، فلن تظلم ستأخذ أجرك كاملاً في دنياك، لكن ليس لك في الآخرة نصيب، (ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار). الرجل الثالث: (ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكن فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار). وهنا وقفة هامة جداً: أن الله عز وجل أول ما يسعر جهنم يسعرها بهؤلاء، مع وجود المنافقين الكثر، ومع وجود الكفار، ومع وجود أصحاب المعاصي الكبرى، ممن زنا ومن سرق فعل كذا وكذا من الموبقات، لكن رب العالمين سبحانه وتعالى يبدأ بهؤلاء؛ ليثبت لنا ويوضح لنا أن الأعمال التي ليس فيها إخلاص أعمال محبطة لا وزن لها: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]، فهذا أول شيء ينبغي أن تحرص عليه من الآن من هذه اللحظة، وهذا شيء صعب وليس بالسهل، لا تظن أن قضية النية وقضية الإخلاص عمل يوم أو عمل ليلة أو عمل لحظة أو عمل سنة من سنوات طالب العلم، أبداً، بل هذا الأمر مطلوب منك في كل لحظة من لحظات حياتك؛ منذ سمعت هذا الكلام وإلى يوم الممات؛ لأن النفس تتغير والقلب يتقلب، تكون في أول عملك ناوياً لله عز وجل لكن مع مرور الوقت أو في أثناء نفس العمل الذي كن

الزهد في الدنيا

الزهد في الدنيا الصفة الثانية التي لابد أن يتصف بها العالم المسلم التقي الورع، وهذا ناتج عن الأمر الأول، فالمسلم إذا لم يكن مخلصاً فلن يستطيع أن يحقق هذه الصفة ألا وهي: الزهد في الدنيا، تريد أن تكون عالماً ربانياً؟ تريد أن تكون عالماً تقياً ورعاً؟ تريد أن تكون عالماً مثاباً من رب العالمين سبحانه وتعالى؟ لا تطلب الدنيا بعلمك، وهذه معضلة، تكلمنا في الدروس السابقة عن علوم الحياة، وذكرنا أن هذه العلوم تورث في الأمة قوة، وتحسن الاقتصاد، وتقيم المصانع والشركات، وتكثر من الإنتاج، فتكثر الأموال، فقد يفتن الإنسان في هذه الدنيا، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول: (والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تبسط عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم). إنها لقضية خطيرة جداً أن تطلب بعلمك هذا الدنيا، سواء كان من علوم الشرع أو من علوم الحياة، هناك أناس يتعلمون علوم الشرع من أجل الدنيا، وإننا لنرى مشاهد صعب أن نتخيل أنها من مشاهد الدعاة أو العلماء، لكن موجودة، وأحياناً يفتح الله عز وجل الأبواب على العالم فتنة له، فقد يقع فيها، فلا يصرف علمه إلا في الوجه الذي يأتي بمال. هناك أحد الإخوة أعرفه كان إمام مسجد في دولة غربية، وكان يأخذ راتباً جيداً على هذه الإمامة، ومرت الأيام وانفصم العقد بينه وبين إدارة المسجد وانتهى عقده، فهو لا يريد أن يرجع إلى بلاده، فقرر أنه يجلس في تلك البلاد ويعمل في أي عمل آخر غير الإمامة في المسجد، ومع كونه إلى جوار المسجد فإنه لم يعد يأتي إلى صلاة الجماعة في المسجد الذي كان يقبض مرتبه منه، ذهب المرتب وذهبت صلاة الجماعة معه، فهذا الشيخ بنفسه يحكي لي أن عندهم إجازة الأوقاف تكون يوم الخميس على ما أعتقد، أو في يوم من أيام الأسبوع غير الجمعة، ويقول: إنهم يعطون للعالم أو للإمام بيتاً فوق المسجد الذي هو فيه أو قريباً منه جداً، فهناك من الأئمة في نفس يوم الإجازة لا ينزل يصلي وهو بجانب المسجد، ولسان حاله: أنا موظف أصلي بهم الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء، وإذا كان التفتيش في العصر فقد لا يأتي المغرب، لكن العصر لابد أن أكون موجوداً من أجل التفتيش، وكان يذكر ذلك قبل أن يترك المسجد، كان يذكر ذلك بكل حزن وأسى، كيف يوجد من الأئمة من يفعل ذلك؟ فلما تعرض هو لترك الإمامة وقطع الراتب وقع في نفس الأمر، بل لم يعد يحضر الصلوات بالكلية؛ بسبب أنه انقطع عنه راتب الإمامة! هذه صورة نراها في بعض العلماء والدعاة. وكنت في الأردن من قبل فترة، فاشتكى إلي أناس أن هناك إذاعة من الإذاعات تريد أن تبث أحاديث إسلامية، وكان هناك واحد من الدعاة فطلبوه من أجل أن يعد حديثاً في الإذاعة، ليعلم الناس وينشر العلم، فقال لهم: لا أدخل الأستوديو حتى تدفعوا مبلغ كذا، وبالتالي ليس معهم هذا المبلغ الضخم الذي طلبه وحدده، فلم يأت مع وجود الوقت ووجود الفرصة وكل شيء؛ لأنه أصبح المعيار بالمال هذا بـ (5000) دولار وهذا بـ (1000) دولار، وهذا بـ (500) جنيه، وهذا بكذا، فأصبح تقييم الأعمال على هذه الصورة، لا يهم عندهم أن يكون العمل أنفع وأكثر انتشاراً وأفيد للأمة؛ لأن هذه القضايا كلها تعتبر قضايا جانبية، فأصبحت القضايا الرئيسية: هذا بكم، وهذا شيء خطير، وهو موجود من أعداد كبيرة جداً، بينما عندما تراجع قصص الأنبياء في القرآن الكريم الذين هم القدوة في الدعوة والقدوة في العلم، تجد دائماً يذكر ربنا سبحانه وتعالى عنهم: {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا} [هود:29]، {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام:90]، وهذا واضح جداً، فإذا ربط العالم علمه وربط دعوته وعمله بالمال ضاعت دعوته تماماً، فلا يصبح من العلماء، وإن أصبح عالمًا أصبح عمله وبالاً عليه؛ لأن نيته ليست لله عز وجل. عندنا مشكلة متعلقة أيضاً بموضوع الإخلاص، وهي: عندما أشتغل بالأعمال الحياتية، مثل: الطب والهندسة وغيرهما فإنه يتعرض فيها الإنسان لنفس الأمور، فهل أنا أطلب بعملي فيها المال وأكون حريصاً عليه، أم أنني أطلب الآخرة وأعيش فقيراً، ويحكم على العالِم أن يكون فقيراً؟ لقد ذكرنا قبل ذلك أن هناك علماء كانوا أغنياء، لكن المال ليس هو القضية الأساسية في ذهنه، المال سيأتي سيأتي، إن كان من رزقك فلن يفوتك فعلاً، سواء أذللت نفسك أو أعززتها، طلبته أم لم تطلبه، تأتيك الدنيا وهي راغمة. فالإنسان يطلب العلم لله عز وجل، إن جاء المال فهذه نعمة من الله عز وجل يجب أن تشكر وتنفق في سبيله سبحانه وتعالى، إننا مطالبون بتحصيل العمل لأجل المعاش، عندك أسرة وعندك أولاد وعندك حياة لابد أن تقيم هذه الحياة، لكن أن تصرف حياتك لهذه الأمور فقط فهذا غير مرغوب، وهذا غير ممكن لمن أراد أن يكون عالماً. فهذا الإمام مالك ترك له أبوه ثروة هائلة، فأنفقها كلها في سبيل تحصيل العلم وعلى طلبة العلم، حتى اضطر في آخر حياته لأن ينقض سقف بيته من الخشب ويبيعه

تعلم العلم النافع

تعلم العلم النافع الصفة الثالثة: أن تتعلم علماً نافعاً، أن يكون علمك هذا له مردود عليك وعلى الناس في دنياك، ويوصلك في الآخرة إلى النجاة، والرسول عليه الصلاة والسلام كان كلما ذكر العلم وحث عليه أضاف له كلمة (النافع)، كما روى الإمام مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة -وفي رواية ثلاث-: صدقة جارية، أو علم) اشترط فيه شرطاً، فما هو هذا الشرط؟ (أو علم ينتفع به)، فأي علم نظري هذا ولا ينتفع به لا يقدم ولا يؤخر فوجوده كعدمه، وهو علم لا تؤجر عليه، بل أحياناً يكون هذا العلم وبالاً على الإنسان، (أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)، وأيضاً كما جاء في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع) يستعيذ صلى الله عليه وسلم من شر عظيم، فما هو هذا الشر العظيم؟ العلم الذي لا ينفع: (من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها). قسم العلماء العلوم من هذه الوجهة إلى ثلاثة أنواع: علوم نافعة نفعاً محضاً، يعني: هو العلم الذي تستطيع أن تطبقه وتفيد به نفسك أولاً ثم الناس. وهناك علم ضار، عندما تعرف هذا العلم يصيبك ضرر؛ بسبب معرفتك له، فهذا العلم لا داعي له البتة. وهناك علم ثالث وهذا يشغل الكثير الكثير، ولا هو نافع ولا هو ضار، يعني: هذا علم ليس له معنى، علمه أو لم يعلمه فأمور الدنيا تمشي كما هي دون الحاجة إلى مثل هذا العلم، قد لا يكتسب سيئات، لكن لا يأخذ عليه حسنات. إذاً: ما هو تصنيف هذا العلم في الشرع؟ يضع الإمام الغزالي رحمه الله في إحياء علوم الدين هذا العلم مع العلم الضار، وإن كان ليس بحرام شرعاً، لكن يضيع عمرك، أليس العمر رأس مالك؟ عندما أنفق ساعتين أو ثلاثاً فيما لا ينبني عليه عمل وفي أمر لا ينتفع به ذهبت علي هاتان الساعتان أو الثلاث، وقد أضيع يومين أو سنتين أو ثلاث سنين، وقد تمر قرون على البشرية في علوم لا تنفع ولا تضر، فهذه علوم أضاعت عمر الإنسان، وعمر الإنسان هو أثمن ما يمتلك، هو الشيء الذي لا يعود أبداً: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100]، فالصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا حريصين جداً على قضية العلم النافع، ويعلمون كيف يكون العلم نافعاً، وهذه رسالة لكل طلبة العلم، ولكل من أراد أن يكون عالماً؛ لأننا نضيع أوقاتاً كثيرة في قضايا لا ينبني عليها عمل، ولا نأبه لها، ونحن الآن نسمع هذا الكلام ونظن أننا نتكلم على أناس آخرين يضيعون حياتهم في أشياء ليست لها معنى، لكننا كثيراً جداً ما ننشغل بهذا الأمر ونظنه أمراً هاماً جداً من أمور الدين. على سبيل المثال قضية الدجال: الرسول عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة جداً وصف الدجال بصفات هي في غاية الغرابة والعجب، عندما تسمع بها تنبهر وتندهش وتريد أن تعرف أكثر وأكثر عن صفة هذا الذي يخرج، وكيف أنه مكتوب على جبهته كلمة كافر؟! وكيف تكون جنته ناراً وناره جنه؟! يعني: أمور عجيبة جداً، وكيف يفتن الناس في هذا الأمر؟! كل هذه الصفات سمعها الصحابة وسكتوا، لكن عندما ذكر صلى الله عليه وسلم صفة معينة عن الدجال حيث قال: (يبقى فيكم أربعين له يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كأسبوع)، فهو سوف يمكث فينا أربعين يوماً، لكن هناك يوم من الأيام طوله مثل طول سنة، يعني: تطلع الشمس إلى أن تصل إلى الزوال فتكون قد مضت ستة أشهر، وحين تصل إلى الغروب تكون قد مرت سنة كاملة، وهذا الشيء موجود في القطب الشمالي الآن، يعني: ليست أشياء مستغربة، وليس ذلك على الله بعزيز، لكن ربنا يثبت لنا الآيات في الكون وفي أنفسنا: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت:53]، فيظل اليوم الذي يكون فيه الدجال موجوداً اثني عشر شهراً، ويوماً كشهر، ويوماً كأسبوع، وبقية الأيام كسائر أيامنا، فهنا وقف الصحابة وسألوا سؤالاً: (هذا اليوم يا رسول الله الذي بسنة أنصلي له صلاة يوم؟)، إذاً: القضية قضية العلم النافع، أريد أن أعرف معلومة حتى أعمل بها، يعني: الصحابة رضي الله عنهم لم يسألوا عن صفة جنته أو ناره أو كذا؛ لأنه لا ينبني عليها عمل، لكن عندما تكون هناك قضية شرعية فقهية أتحرك بها عندما يأتي الدجال وأنا على قيد الحياة أسأل، وجزى الله خيراً الصحابة فهم سألوا هذه الأسئلة فتعلمنا نحن منها، هم لم يعاصروا

العمل بالعلم

العمل بالعلم الصفة الرابعة: أن يعمل العالم بما علم، ألم نقل: أن يتعلم العلم النافع الذي ينبني عليه عمل؟ فالمشكلة أنك تتعلم العلم النافع الذي ينبني عليه عمل ثم لا تعمل به، ويعمل به الناس، فالعالم إذا أعطى درساً عن صلاة الفجر، وأتى بالأدلة على أهمية الصلاة في جماعة في المسجد، وعلى الوعيد الشديد في حق من تخلف عنها، ثم يتخلف هو عن أدائها فأي علم هذا، هذا العلم حجة عليه لا له، وقس على هذا كل أنواع العلوم. جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وأيضاً رواه أحمد وابن ماجه عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه، وهو حديث لطيف جداً، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقسم فيه الناس إلى أربعة أنواع حسب علمهم وأموالهم؛ هناك أناس أنعم الله عز وجل عليهم بالعلم والمال، وهناك أناس حرمهم الله عز وجل من العلم والمال، وهناك أناس أعطاهم الله العلم ومنعهم المال، وهناك أناس أعطاهم المال ومنعهم العلم، فقسم الناس إلى أربعة أصناف حسب العلم والمال، فتعالوا بنا إلى سياق هذا الحديث، والروعة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولنرى أين نحن يا ترى في هذه الأصناف، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلماً)، عنده علم يضبط حركة المال، فيتحكم في هذا المال تحكماً شرعياً، يأتي به من الوجه الذي أحل الله عز وجل، وينفقه في الوجه الذي أحل الله عز وجل، ولا يخالف به أولويات المسلم في حياته، فالعلم يضبط له هذه الأمور ويضبط له حياته كلها؛ لأنه من الممكن أن تعيش (24) ساعة تعمل في تحصيل المال الحلال، لكن قد تفوتك صلوات، وتفوتك صلة أرحام بر والدين، وتفوتك دعوة إلى الله، ويفوتك تحصيل علم، ويفوتك كذا وكذا من أمور الخير، نعم أصل التجارة حلال، لكن ضاعت أولويات مهمة جداً في حياتك، إننا نرى أناساً كثيرين على هذه الشاكلة، بل من الممكن أن نكون نحن المتهاونين بهذا الأمر، فقد نسهر ست عشرة ساعة أو سبع عشرة ساعة ونتغافل عن أعمال هامة عظيمة في حياتنا، ليس لها مردود مادي، وهذا شيء خطير، فالعلم يضبط هذه الناحية، يجعل الإنسان يعمل العمل المناسب في المكان المناسب في الوقت المناسب. فأول واحد: (عبد رزقه الله مالاً وعلماً، فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علماً ولم يزرقه مالاً، فهو صادق النية)، انتبهوا إلى قضية الإخلاص التي تكلمنا عنها سابقاً، قال: (فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان، فهو بنيته فأجرهما سواء) لقد أفرحنا هذا الحديث جداً؛ لأننا نرى أغنياء ما شاء الله لا قوة إلا بالله من الناس الأتقياء، والله عز وجل أعطاهم، فيعمل الواحد منهم أعمالاً خيرية كثيرة جداً، يقيم مستشفيات ومؤسسات تعليمية، وينفق على الفقراء والمساكين، ويجاهد في سبيل الله بماله يفعل أموراً كثيرة تتمنى أن يكون عندك مال فتفعل مثل ما يفعل؛ إن كنت صادقاً في نيتك فأنت وهو في الأجر سواء بنص الحديث، يعني: نكون في هذه الدرجة وإن لم تملك المال، وقد يكون الذي معه مال في فتنة حُفظ منها الذي منع من المال. فنرضى بما قسم الله لنا ونصلح نياتنا، في غاية الأهمية أمر الإخلاص. إذاً: الأول معه مال وعلم، والثاني معه علم وليس معه مال، المشكلة في الثالث والرابع، الثالث: (وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً)، فهذه فتنة كبيرة، معه أموال، لكن ليس لديه علم يضبط حركة هذا المال: (فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقاً، فهذا بأخبث المنازل) نعوذ بالله أن نكون من هؤلاء. ليس كل الأغنياء الموجودين نطمع أن نكون مثلهم، بل إن غالب الأغنياء يفتنون، وقد ورد في البخاري ومسلم حوار بين الرسول عليه الصلاة والسلام وبين أبي ذر عندما ذكر له في آخر الحديث، قال: (إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة)، يعني: أن الأكثرين في الأموال هم الأقلون في الحسنات يوم القيامة؛ لأن من تكاثر ماله غالباً يفتن بماله، حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام بعد أن قال هذه الكلمة استثنى الطائفة التي تتقي الله عز وجل في مالها، فقال: (إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا، وأشار عن يمينه وشماله ووراء ظهره، ثم قال: وقليل ما هم)، يعني: قليل جداً الذي يؤتى المال فيثبت، نسأل الله الثبات جميعاً، هذه فتنة خطيرة. فهذا الرجل أو هذا الصنف الثالث الذي آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فأضاع نفسه بهذا المال، فهو بأخبث المنازل، وما أكثرهم. الصنف الرابع: (وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً)، واعلم أن المال رزق كفله الله عز وجل لك قبل أن تولد، لكن العلم تطلبه وتأتي به، لو تريد علماً سيعطيك الله، ليس مثل المال، أناس كثيرون يريدون مالاً فلا يعطيهم الله س

الرحمة

الرحمة الصفة الخامسة من صفات العلماء: أن العلم لابد أن يرتبط برحمة، هناك علماء تكون عندهم غلظة وشدة تنفر الناس، والناس تكره أن تأخذ العلم ولو كان علماً نافعاً صالحاً من هذا الغليظ، بعض الأحيان يكون علماً شرعياً، فهذا خطير جداً، وهذا موجود، حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام خطب خطبة في الناس، عندما أطال بعض الصحابة في الناس، وقال: (يا أيها الناس! إن منكم منفرين)، فهو عالم وتقي وقارئ وورع، لكنه أطال في الصلاة حباً في الصلاة، وهو لا يعتبر من المنافقين، بل من الصحابة الأجلاء، ومع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا أيها الناس! إن منكم منفرين)، فهناك أناس لا يهمهم حال الناس الذين حولهم، أين الرحمة يا إخوان؟! هذه قصة رائعة دارت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه، وكان حديث عهد بالإسلام، وهو أعرابي أتى من الصحراء، ودخل على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فصلى معه، وهو حديث عهد بإسلام أسلم منذ أيام، ولا يعرف من الإسلام إلا قليلاً، فوقف في صلاة الجماعة، ويبدو أنه أول مرة في حياته يصلي جماعة، والحديث الذي فيه القصة رواه الإمام مسلم والنسائي وأبو داود وأحمد وغيرهم، قال: (بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عطس رجل من القوم)، يعني: كان بجانبه رجل فعطس هذا الرجل، فأحب أن يؤدي الواجب نحوه ويشمته، (فقال له: يرحمك الله) في أثناء الصلاة، وهو لا يعرف أن الكلام في الصلاة لا يصح، (فقال: يرحمك الله، قال: فرماني القوم بأبصارهم)، يعني: نظر الصحابة إلى هذا الذي يتكلم في الصلاة، من الذي يقول: يرحمك الله في الصلاة، هذا لا يعرف شيئاً من شئون الصلاة، نظر إليه الناس بغير إرادتهم، (قال: فقلت -وهو في الصلاة أيضاً-: واثكل أمياه! ما شأنكم؟ لماذا تنظرون إلي؟)، يقول هذا الكلام كله وهو في الصلاة؛ بسبب جهله بهذا الحكم فعل ما فعل، (فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم)؛ لأنهم لا يستطيعون أن يكلموه، فلو أن شخصاً قال: اسكت بطلت صلاته كذلك، فهم يضربون على أفخاذهم، قال: (فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت)، يعني: كنت أريد أن أتكلم وأكمل وأشرح لهم وجهة نظري، وأنه من حقي كمسلم أن أقف بجانب أخي المسلم فإذا عطس شمته، ولم أقل شيئاً خطأً، وإنما قلت له: يرحمك الله، وكان بإمكاني أن أتكلم ساعتين، لكنني قلت: أسكت، مادمتم تسكتونني. (قال: فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه صلى الله عليه وسلم)، يعني: كان الرسول عليه الصلاة والسلام يسمع مثل ما سمع الصحابة، سمع قول هذا الأعرابي: يرحمك الله، واثكل أمياه، مالكم تنظرون إلي، النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع كل هذا الكلام، فما إن انتهى من الصلاة، يقول معاوية بن الحكم رضي الله عنه: (فوالله ما كهرني -يعني: ما لامني- ولا ضربني ولا شتمني، وإنما قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن)، فهو صلى الله عليه وسلم أعطاه الدرس بمنتهى الهدوء ومنتهى الرحمة، فبعض الناس عندهم أخطاء شرعية أو أخطاء في العلوم الحياتية، فهم يحتاجون إلى رحمة في التعليم، فإذا كان العالم فظاً غليظاً ينفر التلميذ أو ينفر طالب العلم من العلم، فقد ينفر منه أبداً، وتصبح فتنة ويكون السبب فيها المعلم الغليظ، سواء كان هذا المعلم في مدرسة أو في جامعة أو كان في الشارع ماشياً. إذاً: أي داعية من الدعاة أو عالم من العلماء يعلم الناس بأمر فيه غلظة قد ينفر الناس، فهذه الرحمة من صفات علماء المسلمين.

نشر العلم ونقله للغير

نشر العلم ونقله للغير الصفة السادسة: أن ينقل العلم إلى غيره، لا يقف العلم عنده، لكن يورث العلم إلى الآخرين، وإليكم كلمة معاذ بن جبل رضي الله عنه إمام العلماء يوم القيامة قال رضي الله عنه وأرضاه: وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة. وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه). إذاً: لابد أن ينقل العلم إلى غيره، وهذه كلمة رائعة لـ جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول فيها: إذا لعن آخر هذه الأمة أولها، فمن كان عنده علم فليظهره؛ فإن كاتم ذلك العلم ككاتم ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني: لو جاء زمن يلعن فيه الناس الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ويسبونهم، فمن كان عنده علم في الدفاع عن هؤلاء الصحابة فليظهره، لابد أن تعلم هذا العلم؛ فإن كاتم ذلك ككاتم ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: لابد أن تعرف هذا العلم وتعلم هذا العلم للناس، وقد يفتح لنا هذا الأمر إن شاء الله باباً للحديث عن أمور الفتنة التي دارت بين الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ليس من باب الخوض فيها، ولكن من باب الدفاع عنهم رضي الله عنهم وأرضاهم، وهذا يحتاج إلى تفصيل في مجموعة أخرى من المحاضرات. ولعلنا كذلك نتساءل: يا ترى ما الفرق في المذهب الفقهي أو في العلم الذي كان عند الشافعي رحمه الله وعند الإمام الليث رحمه الله؟ معظم الناس الذين يصفون أحوال العلماء تذكر أن الإمام الليث كان على درجة عالية جداً من العلم كـ الشافعي أو يعلوه أو دونه بقليل، يعني: في مستوى متقارب مع الشافعي، لكن لماذا نعرف علم الشافعي ولا نعرف علم الليث رحمه الله؟ لأن تلاميذ الشافعي كانوا كثر، فهو علم العلم لعدد كبير فنشروا علمه هنا وهناك، بينما كان تلاميذ الليث قليل، وهكذا كان الرازي رحمه الله من علماء المسلمين المشهورين في الطب، فهو من أجل علماء العالم كله في الطب، وكانت للإمام الرازي رحمه الله مدرسة، فكان يعمل أبحاثه وتجاربه ويكتب كتبه، وكان يجلس كل يوم مع طلبة العلم في مجلس يعلمهم أمور العلم الطبي التي يعرفها، ويقرأ معهم في الكتب، ثم يقوم بجولة معهم على المرضى، ثم يعود ويتدارس معهم هذا العلم، لم يكتم علمه ولم يحتفظ بعلمه لنفسه فقط، فورث العلم، واستفادت ليس أمة الإسلام فقط، ولكن البشرية بكاملها من علم الرازي رحمه الله.

الأمانة العلمية

الأمانة العلمية الصفة السابعة من صفات العلماء: الأمانة العلمية، وهي أن ينسب الأمر إلى أهله، والعالم يتعرض لهذه الأمور كثيراً، وكون العالم يأخذ معلومة من هنا ومن هنا فينسبها إلى نفسه، فهذا ليس من الأمانة العلمية، والأمانة العلمية هي التي تسمى الآن الحماية الفكرية وما إلى ذلك، فهذه سبق بها الإسلام، ومن يعود إلى كتب علماء المسلمين سواء في علوم الشرع أو علوم الحياة يجدهم حريصين أشد الحرص على إبراز الذي وصف أو قال أو تكلم بهذا الكلام، وراجع مثلاً: مقدمة الكامل في التاريخ لـ ابن الأثير رحمه الله، يقول في المقدمة: لقد أحضرت أولاً كتاب الطبري فنخلت هذا الكتاب نخلاً، فكنت آتي بأفضل أو أوسع الروايات وصفاً للحدث، وأتممها بغيرها من الروايات، وأصل الرواية بالرواية حتى يصبح النسق متصلاً، وكل هذا من كتاب الطبري، ثم قال: بعدما أنهيت كتابي من كتاب الطبري قرأت الكتب الأخرى المشهورة -وعددها- فأضفت من كل كتاب على الكتاب ما لم أجده في الطبري، حتى خرج هذا الكتاب بهذه الصورة التي ترون، فما أنا إلا جامع من الطبري ومن كذا وكذا من كتب التاريخ. كما ذكر ابن الأثير رحمه الله، ولو نسب ما في الكتاب لنفسه ما علم العوام هذا الأمر، لكن هي أمانة علمية، فرحمه الله. كذلك فعل أبناء موسى بن شاكر وهم من أعظم علماء المسلمين الكبار في الهندسة وفي الميكانيكا، وهم ثلاثة أولاد، ولعل الكثير لم يسمع عن أسمائهم وهم من أعظم علماء الأرض حقيقة، كتبوا كتاباً كبيراً جداً في علم الميكانيكا، فهم وضعوا علم الميكانيكا بهذا الأسلوب الحديث الموجود في كتابهم الحيل، وهو كتاب مشهور جداً، ومترجم إلى أكثر من لغة أوروبية، فكتبوا: ما كان في هذا الكتاب فهو من أفكارنا وابتكارنا وتجربتنا، إلا ما ذكرناه في أمر المعادلة الفلانية فهو من معادلات أرشميدس، وفي أمر المعادلة الفلانية فنقلاً عن أفلاطون ونقلاً عن كذا وكذا فذكروا بعض العلماء الذين نقلوا عنهم بعض أجزاء الكتاب وبقية الكتاب هو من تأليفهم، وكان من الممكن أن ينسبوا كل ما في الكتاب إليهم؛ لأن الله عز وجل ينظر. إذاً: العالم المتقي لله عز وجل عنده أمانة علمية، ولا يضيره أبداً أن يذكر أنه أخذ من هذا وذاك.

العزة

العزة الصفة الثامنة: صفة العزة، أن يكون العالم عزيزاً، لا يطلب ما في أيدي الناس ولا ما في يد السلطان، رافعاً رأسه، فخوراً بعلمه، لا يطلب من دنيا الناس شيئاً. كان سليمان بن عبد الملك الخليفة الأموي يقول لـ أبي حازم: هل لك أن تصحبنا؟ وأبو حازم من كبار التابعين ومن علمائهم، والناس تفخر بصحبته، حتى إن خليفة المسلمين يريد أن يصحبه، فلو أن خليفة المسلمين يقول له: أريدك أن تكون صاحباً لي، أو هل لك أن تصحبنا فتصيب منا ونصيب منك؟ يعني: سآخذ منك علماً، فـ أبو حازم لا يمانع من هذا، ولكن ماذا سيصيب من الوالي؟ سيصيب منه مال ووجاهة ووضعاً اجتماعياً وقصراً وذهباً. قوله: فتصيب منا، هذا فيه إغراء، فهو يغريه: هل لك أن تصحبنا فتصيب منا ونصيب منك؟ ويشجعه بقوله: ونصيب منك، يعني: أنا سآخذ منك علماً، ويا ليت أن حكامنا يكونون بهذه الصورة، يعني: أتمنى أن يقول الحاكم للعالم: تعال وكن بجانبي خذ المال وآخذ من علمك، نتمنى. قال العالم أبو حازم: أعوذ بالله لو أنه قالها في زماننا لاختفى اختفاء أبدياً، ويصبح بدل العالم: الشهيد فلان، قال: أعوذ بالله، قال له سليمان: ولم ذاك؟ قال: أخشى أن أركن شيئاً قليلاً، فيذيقني الله عز وجل ضعف الحياة وضعف الممات. هذا الكلام هو خطاب في القرآن الكريم لرسولنا صلى الله عليه وسلم، كأنه يقول: إنه من باب أولى إن ركنت شيئاً قليلاً أذاقني الله عز وجل ضعف الحياة وضعف الممات، فقال له سليمان: إذاً ارفع إلينا حوائجك. فـ سليمان بن عبد الملك يتودد له بقوله: ارفع لنا حوائجك، قال: حاجتي أن تنجيني من النار وتدخلني الجنة، هل تستطيعها؟ قال: ليس ذلك إلي، لا أستطيع، فقال: فما لي إليك حاجة غيرها. يعني: هذه حاجتي في الدنيا، وأنا أعيش حياتي كلها من أجل أن أدخل الجنة وأنجو من النار، ومادامت ليست عندك، فلا أستطيع مصاحبتك ولا أرفع حوائجي إليك، وليس لي علاقة بك، ولن أكون من علماء السلطان، لكن إن سألتني عن علم وأنا في مكاني رددت عليك. هكذا كان العلماء رحمهم الله جميعاً في عزة، كانوا إذا أرسل إليهم السلطان: أن ائتوني حتى أسألكم عن أمر من العلوم، قالوا: العلم يؤتى ولا يأتي، فيأتي السلطان إلى العالم في مجلس العلم من أجل أن يسأله، وما أكثر الروايات عن هذا الأمر، ولكن المقام لا يتسع لذكر ذلك.

التواضع

التواضع الصفة التاسعة قبل الأخيرة: التواضع، لابد أن تأتي بعد العزة، وليس معنى العزة أن يكون الشخص متكبراً، وليس معنى العزة أنه ينتفخ أمام الناس بعلمه، ويظن أنه قد حصل ذلك من تلقاء نفسه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282]، هذا قول رب العالمين سبحانه وتعالى في وصفه لحال العلماء الأتقياء، يؤتى المرء العلم بعد التقوى، اتقيت الله عز وجل علمك الله عز وجل، أما الفساق والمتكبرون من أبناء هذه الأمة أو من غيرها فيدعون أن العلم جاء عن جهدهم، كما ذكر ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم عن قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]، فتكبر بعلمه، فانظروا إلى عاقبته. والمتواضع لله عز وجل يصل علمه إلى الناس، ويكون علمه أنفع للبشرية وللخلق، وأهم من ذلك كله أنه أنفع وأصلح له هو في آخرته، فإن من مصلحة العالم المتواضع أن يكون من المتواضعين؛ لأن رسولنا صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي جاء في البخاري ومسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) هذا شيء خطير.

الأخذ عن الغير

الأخذ عن الغير الصفة العاشرة والأخيرة وبها نختم حتى لا نطيل عليكم إطالة كبيرة: الأخذ عن الغير، وهذه الصفة منبثقة عن التي قبلها التي هي صفة التواضع، لابد أن تتواضع لغيرك، ولابد أن تأخذ عن غيرك، ولابد أن تبدأ من حيث انتهى الآخرون، ولابد أن تعترف لأهل الفضل بفضلهم، وأهل العلم بعلمهم، ولابد أن تشترك مع الآخرين في البحث، فقد كان أبو حنيفة رحمه الله يطرح القضية والمسألة الفقهية بين تلامذته مع علمه العظيم ومع فقهه الدقيق، وانظروا إلى كلمة الشافعي في حق أبي حنيفة رحمهما الله جميعاً، يقول: الناس جميعاً في الفقه عيال على أبي حنيفة. يعني: كان أبو حنيفة أعلمهم جميعاً في الفقه رحمه الله، ومع ذلك يطرح المسألة بين طلبة العلم من تلامذته فيتناقشون فيها جميعاً، فيدلي كل منهم برأيه وبحجته، ويدلي هو الآخر بحجته، ويتناقشون حتى يخرجوا في النهاية برأي، فهم درسوا القضية من كل الجوانب كفريق، وعقل أبي حنيفة أو غيره من العلماء محدود، فعندما يطرح القضية للتناقش ويشترك مع غيره فيها تخرج أفكار من عقول شتى من هنا وهنا، فيستفيد وتستفيد الأمة، بل وتستفيد البشرية جمعاء. وحتى في أمور الحياة أيضاً فأولاد موسى بن شاكر الذين تكلمنا عنهم منذ قليل رحمهم الله كانوا في علم الهندسة والميكانيكا يعملون في فريق واحد، من أروع الفرق العلمية المعروفة في التاريخ، بل لعلنا نقول ولا نجازف بهذه المقولة ولا نبالغ فيها: إنهم أول فريق علمي في العالم حقيقة، فهم كتبوا بصيغة الجماعة، فقد كانوا يقولون: فعلنا كذا وجربنا كذا وقمنا بعمل كذا وكتبنا كذا وألفنا كذا يعني: الثلاثة مع بعض، وكل واحد متخصص في مجال، ولكن الثلاثة اجتمعوا جميعاً واخترعوا جهازاً مفيداً ونافعاً للمسلمين لري الأرض، واخترعوا أجهزة لرفع الماء إلى أعلى الجبال والقلاع العالية. فكل العلوم المفيدة تحتاج إلى أكثر من عقل إلى أكثر من تخصص، فهذا التمازج بين العلماء أدى إلى هذه النتائج الرائعة عندهم، وهذا الأمر لا يكون إلا من عالم متواضع يقبل أن يأخذ عن غيره، لذلك أتينا بهذه الصفة بعد صفة التواضع هذه الصفة العاشرة، فتلك عشر كاملة. أسأل الله عز وجل أن يجعلنا متصفين بها جميعاً وبغيرها من صفات الإسلام الحميدة، ومن أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم الرائعة التي جاءت في سنته وسيرته وحياته. وأسأل الله عز وجل أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يعز الإسلام والمسلمين. {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كيف تصبح عالما [9]

سلسلة كيف تصبح عالماً [9] لدراسة التاريخ الإسلامي وغيره فوائد كبيرة وعظيمة وكثيرة، منها: معرفة سنن الله في الخلق، وواقعية التطبيق، والعزة والرفعة، وغير ذلك، وهناك نماذج عديدة من التاريخ الحضاري لأمة الإسلام في كافة المجالات الشرعية والحياتية.

فوائد دراسة التاريخ الإسلامي وغيره

فوائد دراسة التاريخ الإسلامي وغيره أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد. فأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين. اليوم مع المحاضرة التاسعة من المحاضرات الخاصة بقضية: أمة الإسلام بين علوم الشرع وعلوم الحياة، وذكرنا في المحاضرات السابقة أننا سنتعرض اليوم إلى مثال للعلوم الحياتية في التاريخ الإسلامي، وقد يتساءل أحد الإخوة: لماذا الحديث عن التاريخ فلنتكلم في واقعنا؟ نقول: إن دراسة التاريخ لها فوائد جمة، ونحتاجها في مثل هذه الموضوعات وفي غيرها.

معرفة سنن الله عز وجل في خلقه

معرفة سنن الله عز وجل في خلقه أولاً: التاريخ يتكرر، فبه نعرف سنن الله عز وجل في خلقه، فعندما نأتي نتحدث عن قصة من قصص السابقين بحيثيات معينة وظروف معينة، وأدت إلى نتائج معينة، نتوقع أنه إذا مرت بنا نفس الظروف ستحدث معنا نفس النتائج، ولذلك يقص ربنا سبحانه وتعالى في الكتاب الكريم القصص القرآني بشكل مكثف، فحوالي ثلث القرآن الكريم قصص؛ لنعرف السنن الثابتة التي يفعلها رب العالمين سبحانه وتعالى في إدارة ملكه وكونه وخلقه سبحانه وتعالى، وهو برحمته ثبت هذه السنن؛ كي لا يزيغ الناس ولا يضلوا، بحيث إذا عرفناها سرنا في الطريق الصحيح، ومن ثم نستطيع أيضاً أن نرى المستقبل، ولن نرى المستقبل إلا بدراسة التاريخ، فعندما أرى حدثاً معيناً أدى إلى نتائج معينة، فإذا كنت في نفس الحدث الآن وفي نفس الظروف فإني أتوقع نفس النتائج، فأستطيع أن أستنتج أو أستنبط بالنسبة للأمة أو للأفراد كيف سيكون مصيرها في المستقبل؛ لهذا ندرس التاريخ الإسلامي وغير التاريخ الإسلامي، ونمر على صفحات مختلفة من صفحاته.

واقعية التطبيق

واقعية التطبيق ثانياً: التاريخ يبرز لنا أمراً هاماً جداً أسميه: واقعية التطبيق، أي: أننا أحياناً عندما نقوم ببعض القواعد النظرية تجد أنها صعبة التحقيق، لكن عندما نعرف معاً الحكاية من التاريخ نجد أن هذه القاعدة النظرية قد طُّبقت كثيراً في مراحل التاريخ المختلفة، والأمثلة على ذلك كثيرة، ولعلنا نأخذ مثالاً مما ذكرناه في دروسنا، ذكرنا على سبيل المثال قول يحيى بن أبي كثير رحمه الله: لا يُستطاع العلم براحة الجسم. وقد بعث لي أحد الإخوة برسالة يقول فيها: أنا لم أستطع تطبيق هذه القاعدة، فأعطني قاعدة أخرى أستطيع أن أكون عالماً بها من غير موضوع تعب الجسم هذا: لا يُستطاع العلم براحة الجسم؛ لأن هذا ليس في إمكانياتي وليس في قدراتي أن أفعل مثل كذا وكذا من الأمور التي تطلبها تنام قليلاً وتعمل كثيراً وتقدح وتركز وتتعب؟ أقول: عندما نذكر قصة يوجد فيها أن بشراً مثله استطاع أن يفعل هذه الأمور أكثر من مرة حتى أصبحت ديدن حياته، وأصبح أمراً متكرراً في كل مراحل حياته في الصغر والكبر، وفي الفقر والغنى، وفي الجوع والعطش، وفي الشبع والرضا، وفي كل أحواله هو يفعل هذا الأمر ويكرره، فإنا نستطيعه، فعندما أذكر لك مثالاً ومثالين وثلاثة وأكثر من ذلك، ويُصبح سنة ماضية في الأرض: أن كل العلماء الذين ذكرناهم تعبوا في حياتهم، ونعرض لمواقف التعب فإن هذا يُرسّخ المعلومة، ويعطيك شيئاً اسمه: واقعية التطبيق، أي: أن هذا الكلام واقعي، والقاعدة التي قلناها قاعدة واقعية، استطاع غيرنا من البشر وهم في ظروفنا ولهم احتياجات كاحتياجاتنا، ولهم رغبات كرغباتنا، ولهم طموحات وأحلام كطموحاتنا وأحلامنا استطاعوا أن يحققوا ذلك الأمر. إذاً: فنحن نستطيعه أيضاً، فهذا أمر واقعي.

العزة والرفعة والسمو

العزة والرفعة والسمو الأمر الأخير الذي أذكره ومن أجله ندرس التاريخ ونمر على مراحل مختلفة من التاريخ الإسلامي: هو أن التاريخ المجيد عزة لصاحبه، فعندما أذكر مراحل من التاريخ فيها نوع من العزة والسمو والرفعة، ترفع رأسك افتخاراً بالانتماء لهؤلاء السلف، وهؤلاء الأجداد الذين أضافوا وأضافوا لمسيرة الإنسانية بصفة عامة، وليس لمسيرة الأمة الإسلامية فقط، ترفع رأسك فعلاً، وهذا أمر مشاهد ومجرب، ففي فرنسا كان هناك مجموعة من الشباب المراهقين الصغار الذين يتراوح أعمارهم ما بين (14) و (15) سنة، وهم من المسلمين الذين تربوا في فرنسا، ومعظم هؤلاء مولود في فرنسا كان مدرسهم يتكلم معهم في العزة الإسلامية والكرامة الإسلامية والفخر بالإسلام، فلا يجد عندهم مردوداً لهذا الكلام، ويشعرون بشيء من الخزي؛ لأن العالم كله الآن على المسلمين، والمسلمون الآن مستضعفون، ووضعهم كما ترون، والشاب هناك لا يرى أن هناك أملاً في القيام ولا يرى أن هناك فرصة للنهوض، ففي يوم من الأيام أقيم معرض في باريس للاختراعات الإسلامية أو الإسهامات الإسلامية في العلوم، وكان معرضاً رسمياً حكومياً أقامته فرنسا تحت رعاية المركز الفرنسي للدراسات العربية، فجمعوا فيه من المتاحف المختلفة الموجودة في أوروبا الاختراعات التي عملها المسلمون في التاريخ، ووضعوها في معرض واستمر هذا المعرض حوالي أسبوعين أو ثلاثة، ومن يدخله يدفع قيمة تذاكر وما إلى ذلك، فعملوا رحلة لهؤلاء الأطفال أو الشباب المسلمين إلى هذا المعرض، وفي أثناء ذهابهم إليه وهم في السيارة كان المشرف يتحدث معهم وهم في حالة يرثى لها من الأمور المتعلقة بالعزة أو بالكرامة أو برفع الرأس؛ لكونهم من المسلمين، فذهبوا إلى المعرض ورأوا الإنجازات الإسلامية والإسهامات العظيمة التي أضافت وأضافت الكثير لمسيرة الإنسانية، فعادوا بروح مختلفة تماماً، عادوا رافعين رءوسهم، وأن أوروبا هذه التي يعيشون فيها حالياً، والتي كانوا ينظرون إليها النظرة العالية جداً، وأنها قارة قد سبقت المسلمين بقرون طويلة، عادوا وهم ينظرون إليها على أنها تابعة للمسلمين وليست سابقة، فمعظم العلوم الأوروبية نتجت عن علوم المسلمين التي نقلت إلى أوروبا، وأوروبا كانت في حالة من الجهل الشنيع في كل فروع العلم، وكان المسلمون متفوقين في كل فروع العلم، ورأوا ذلك مكتوباً ومنصوصاً وموثقاً بالحقائق العلمية وبالصور المؤكدة، وببعض الأجهزة التي وجدت في هذه المتاحف، ونُقلت من بلاد المسلمين إلى بلاد أوروبا في مراحل مختلفة من مراحل التاريخ، وجدوا هذا وشاهدوه رأي العين، واستمعوا إلى الشرح، وعرفوا تقدير العلماء الأوروبيين لعلماء المسلمين السابقين، ولك أن تتصور مدى الحماسة والحمية التي عادوا بها من هذا المعرض، وانطلقوا بعد ذلك للعمل. إذاً: عندما أتحدث عن قصة في التاريخ فإنها ترفع روحك المعنوية وتريك ما الذي فعل أجدادك والسلف في مسيرة العلم، وستتشجع إلى أن تفعل مثلهم وأعظم، وتقود الأرض كما قادوها وأعظم، وهذا مشاهد في مراحل مختلفة كثيرة في التاريخ الإسلامي. الشيء اللطيف والجميل أن مسيرة العلم في التاريخ الإسلامي كانت مسيرة متفوقة في مراحل كثيرة جداً، حتى في مراحل الضعف السياسي والعسكري، أي: في أيام سقوط المسلمين أمام التتار وأمام الصليبيين، وفي ظروف صعبة جداً من تفكك وفرقة في العالم الإسلامي ومع كل هذه الظروف تجد أن المسيرة العلمية كانت متقدمة، وأن العلماء المسلمين كانوا سابقين بشكل لافت للنظر، لكن الانطباع والتصور الذي عندنا اليوم وعند العالم عن التاريخ الإسلامي انطباع وتصور سياسي فقط، وللأسف لا نعرف من تاريخنا إلا الأمور السياسية فقط، ومع ذلك فهي مشوهة، لا نعرف إلا انحراف بعض الخلفاء، ولا نعرف إلا الفتن والصراعات التي دارت، ولا نعرف إلا المؤامرات والمكائد والمصائب والكوارث، لا نعرف إلا هذا التاريخ، حتى عندما نتكلم عن عزّة الإسلام والمسلمين لا نتحدث إلا عن حطين وعين جالوت والزلاقة والأرك والمواقع التي انتصر فيها المسلمون، وهي مواقع عظيمة حقاً، ولكنها ليست الوجه الوحيد للتاريخ الإسلامي، فهناك وجوه حضارية هائلة عظيمة للتاريخ الإسلامي، منها: هذا الوجه العلمي الذي نحن بصدد الحديث عنه في هذه المجموعة من المحاضرات، ولكن نحن -مع الأسف- ليست لدينا هذه المعلومات، فإنني عندما أسألك: ماذا تعرف عن أبي كامل المصري؟ ولعل الناس أول مرة تسمع بهذا الاسم، ولو عرفته فقد لا تعرف عنه سوى سطر أو سطرين، ولا تعرف قصة حياة هذا العالم الجهبذ الذي قاد مسيرة العلم في العالم بأسره فترة طويلة من الزمان، من يسمع عن أبناء موسى بن شاكر أول فريق علمي في العالم في الميكانيكا والهندسة وعلم الحيل كما يسمونه، كانت لهم اختراعات متقدمة ومتفوقة استطاعوا أن يصلوا إليها؟ من يعرف تفصيلات حياتهم وطريقتهم في البحث ومؤلفاتهم، وتأثيرهم في الحضارة الغربية وفي أوروبا بصفة عامة؟ من يعرف أبا الفتح الخازني أو ابن الح

وجوه ونماذج من الحضارة العلمية الإسلامية

وجوه ونماذج من الحضارة العلمية الإسلامية نتعرض الآن إلى بعض وجوه الحضارة العلمية الإسلامية المتميزة، فاليوم سنفتح بعض الصفحات، ولن نركز تركيزاً كبيراً على فرع معين من العلوم، لعلي أعطي الطب بعض الأهمية لتخصصه، ولكونه كما يقول الشافعي: أشرف العلوم بعد الشريعة، لكن بصفة عامة اهتمام المسلمين بالعلوم كان اهتماماً لافتاً للنظر.

المكتبات في الحضارة الإسلامية

المكتبات في الحضارة الإسلامية المكتبات في الحضارة الإسلامية تنقسم إلى نوعين رئيسيين: الأول: المكتبات العامة، والثاني: المكتبات الخاصة. المكتبات العامة: هي التي تفتح للجمهور، ويحضر فيها عموم طلبة العلم والعلماء يأتون إليها من كل مكان؛ ليدرسوا في داخل المكتبة. والمكتبات الإسلامية كانت المكتبات الأولى على مستوى العالم، لا لعدة سنوات، ولكن لعدة قرون متتالية، فمكتبة بغداد كانت المكتبة الأولى على مستوى العالم لمدة خمسة قرون متتالية، أي: (500) سنة، وكان فيها كم هائل لا يتصور من الكتب، فمهما وصفنا لك ومهما حسبت فلن تستطيع أن تصل بدقة إلى عدد الكتب التي كانت في مكتبة بغداد، ولكي تتصور مقدار هذا الكم من الكتب تصور معي نهر دجلة، فهذا النهر يقرب من نهر النيل في المساحة من حيث العرض، فهو نهر ضخم وكبير، وعندما جاء التتار واحتلوا بغداد أرادوا أن يعبروا من البر الشرقي إلى البر الغربي قلم يستطيعوا ولم يكن هناك جسر، فماذا فعلوا؟ ذهبوا إلى مكتبة بغداد وكانت مطلة على نهر دجلة، فأخرجوا الكتب من المكتبة وألقوها في النهر حتى صنعوا منها جسراً تمر عليه الجيوش التترية من الشرق إلى الغرب، فتصور مكتبة بها كتب يتكون منها جسر لا يمر عليه إنسان، بل يمر عليه جيش! وجيش التتار من أعظم الجيوش وأكثرها عدداً في ذلك الوقت، فهذا شيء مهول. وليست الكتب في مجال واحد من علوم الشريعة أو علوم الحياة، بل في كل مجال. وكانت المكتبة تُقسّم إلى أقسام: قسم لعلوم الفقه، وقسم لعلوم الحديث، وقسم لعلوم العقيدة وهكذا، وقسم لعلوم الطب، وعلوم الفلك، وعلوم الهندسة، أقسام مختلفة، وكان فيها قاعات للمناظرات، وقاعات للمحاضرات والندوات، وكانت فيها أماكن مخصصة للترفيه، إذا أراد الإنسان أن يأخذ قسطاً من الراحة، أن يشرب مشروباً ويستريح قليلاً من عناء الدراسة والتعب، فهناك ركن مخصص لذلك، وفيها أماكن للتعليم تلقى فيها محاضرات منتظمة للتعليم في شتى الفروع، وفيها أماكن للمبيت، فقد كان يستضاف فيها طلبة العلم الذين يأتون من بلاد بعيدة، وتُجرى عليهم الأرزاق، أي: أن الخليفة يُخرج الأموال الثابتة للإنفاق على هؤلاء الذين يأتون إلى مكتبة بغداد؛ ليتعلموا، فالطالب يُنفق عليه وهو يتعلم ويقرأ في مكتبة بغداد، وفيها وظائف النسّاخين، ووظائف الباحثين عن الكتب؛ لأن المكتبة ضخمة جداً وهائلة، ولا تستطيع أن تصل إلى ما تريد بسهولة، فأصبح هناك أناس عملهم أن يبحثوا عن الكتب، أو تنسخ ما تريد، كانوا في زمن ليست فيه طباعة، فانتشرت حركة العلم بشكل مهول، وأصبحت مكتبة بغداد كما ذكرت هي المكتبة الأولى عالمياً. المكتبة الثانية على مستوى العالم: مكتبة دار العلم في القاهرة، وهذه المكتبة يكفي أن أذكر لكم أنه كان فيها (40) قسماً للكتب، كل قسم مختص بفرع من فروع العلم، ولكي تعرف تفريغ الكتب التي بداخلها يجب أن تعرف أن كل قسم على الأقل فيه (18000) كتاب في كل فرع من فروع العلم، أي عند جمعها فهي أكثر من سبعمائة ألف كتاب في مكتبة واحدة، وهذا شيء مهول! المكتبة الثالثة على مستوى العالم: مكتبة قرطبة، وأوروبا في ذلك الوقت لا توجد بها مكتبات لا من قريب ولا من بعيد، ولا تقارن بمكتبة أصغر قرية من قرى المسلمين في ذلك الوقت. مكتبة قرطبة كان بها نصف مليون كتاب في شتى فروع العلم، ولم تكن المكتبة الوحيدة في قرطبة، فقد كان هناك أكثر من مكتبة في قرطبة، ففي قرطبة أيضاً المكتبة الأموية وهي على نفس مستوى مكتبة قرطبة من حيث العظمة والفخامة واتساع العلوم. فالعلماء المسلمون كانت لهم مكانة عظيمة جداً، وكان خلفاء المسلمين ينفقون الأموال الغزيرة للإتيان بالكتب من كل مكان، حتى الكتب المترجمة، وكما ذكرنا في درس من الدروس السابقة أن المأمون كان يزن الكتاب المترجم من اللغات غير العربية إلى اللغة العربية ثم يعطي هذا الوزن لمن ترجمه ذهباً. إذاً: حوت المكتبات الإسلامية مجموعة هائلة من الكتب النادرة، ليس فقط من كتب المسلمين، ولكن من كتب المسلمين وغير المسلمين في ذلك الزمن. عندما احُتلت قرطبة من الصليبيين في أسبانيا أُحرقت معظم الكتب في مكتبة قرطبة، ففي يوم واحد قام أحد القساوسة الصليبيين وكان اسمه كمبيس فأحرق (80000) كتاب في ميدان من ميادين قرطبة، ومكتبة بغداد كما سمعتم كل الكتب أُغرقت في نهر دجلة حتى تحول لون النهر إلى الأسود من لون المداد الذي كتبت به هذه الكتب، كميات هائلة من العلوم أغرقت في مياه دجلة من التتار. ومكتبات طرابلس الشرق التي في لبنان كانت من أعظم المدن العلمية في تاريخ العالم بأسره، ويذكر أن الصليبيين عندما دخلوا مدينة طرابلس فأول شيء فعلوه هو دخولهم المكتبات الإسلامية في طرابلس، وأحرقوا في عدة أيام ثلاثة ملايين كتاب إسلامي في شتى فروع العلم. انظروا إلى الحقد الدفين عند أولئك الذين يغزون العالم الإسلامي، فالتتار في بغداد أغرقوا الكتب الإسلامية، والصليبيون في قرطبة أحرقوا الكتب الإسلامية سواء كانت كتباً علمية في علوم الحياة،

الطب في الحضارة الإسلامية

الطب في الحضارة الإسلامية أول مستشفى في العالم كان مستشفى إسلامياً أُسس في عهد الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي سنة (90) هـ، وحكم الوليد من سنة (86) هـ إلى (96) هـ. هذا أول مستشفى في العالم بأسره. أول مستشفى أوروبي أنشئ بعد هذا المستشفى بتسعمائة سنة، فبيننا وبينهم في إنشاء المستشفيات كانت تسعة قرون كاملة، وأنشئ المستشفى في باريس على مستوى ضئيل جداً من النظافة ومن الإتقان ومن الحنكة الطبية، فقد كان مستواه متردياً، بينما برع المسلمون في مجال المستشفيات قبل مستشفى باريس هذا بتسعمائة سنة، وتوالت بعد ذلك المستشفيات في كل بقاع العالم الإسلامي، حتى إن العالم الإسلامي عرف بما يسمى بالمستشفيات المتنقلة والمستشفيات الثابتة، والمستشفيات الثابتة: هي التي تكون في مدينة في أحد الأمصار الكبرى ثابتة يؤمها الناس من كل مكان، أما المستشفيات المتنقلة فقد كانت تُنقل على الجمال، وتمر على قرى المسلمين وجبالها وسهولها والأصقاع البعيدة؛ ليخدم المسلمين في كل مكان من أماكن الأمة الإسلامية، وكانت بعض المستشفيات المتنقلة تحمل على (40) جملاً؛ لضخامتها، فهذه الجمال تحمل الأجهزة الطبية والأدوية والأطباء، وينتقلون من مكان إلى آخر؛ ليعالجوا مرضى المسلمين هنا وهناك. انظروا إلى هذا الفكر في ذلك الزمن عرف المسلمون التخصصات في داخل المستشفى الواحد، فإذا لم تكن المستشفيات بهذه الصورة لكثر المرضى، أما مستشفى باريس فقد ظل عشرات السنين منذ إنشائه يرتاده الكثير من المرضى، فالمرأة تلد بجوار الرجل المكسور، وبجوار الذي عنده جذام وهكذا، فكلهم في غرفة واحدة، أما المستشفيات الإسلامية فقد عرفت التخصص من أولها، بل إن أول مستشفى إسلامي الذي أنشئ في عهد الوليد بن عبد الملك كان مستشفى متخصصاً في الجذام وعرف المسلمون المستشفيات المتخصصة في كل مجال، ففي داخل المستشفى الواحد أكثر من قسم، فهناك قسم للعيون، وقسم للعظام، وقسم للأمراض الباطنية، وقسم للجراحة وهكذا، وهناك مستشفيات كاملة متخصصة في كل فرع. وعرف المسلمون أيضاً المستشفيات التعليمية، فقد كان أبو بكر الرازي رحمه الله من أوائل المعلمين في تاريخ المسلمين، فقد كان لديه شبه جامعة كاملة في داخل المستشفى الذي كان يرأسه في بغداد، وكذلك فعل علماء المسلمين بعد ذلك في كل مكان، وكانت هناك اختبارات لإتقان الصنعة؛ لتُعطى رُخصة لتمارس الطب، فتُختبر وتأخذ رخصة بعد المرور على مجموعة من كبار وعظماء الطب في القطر الذي أنت فيه، وكان من أشهر المدن في هذا الأمر بغداد، ففي إحدى الامتحانات كان هناك أكثر من (300) طبيب في مدينة بغداد فقط متخصصون في فروع مختلفة من فروع الطب. وهناك المكتبات التي كانت موجودة في داخل المستشفيات، مكتبات هائلة. وعلى سبيل المثال: مكتبة ابن طولون في مستشفى ابن طولون في القاهرة، هذه المكتبة كانت تضم كتباً في علم الطب، وعلم الصيدلة، وعلوم النبات، والكيمياء، وعلوم الفقه الخاصة بالطب وكل ما له علاقة بالطب، مكتبة في داخل المستشفى، وكان فيها مائة ألف كتاب متخصصة في علم الطب. في مكتبة مستشفى أحمد بن طولون وحدها مائة ألف كتاب، وليست مكتبة عامة من المكتبات الكبرى الرئيسية، بل مكتبة في مستشفى وفيها مائة ألف كتاب، وهذا شيء مهول. وعندما كان يدخل المريض المستشفى يكشف عليه طبيب من الأطباء العامين، كما نسميه في هذا الوقت: ممارس عام، ثم يحوله بعد ذلك إلى القسم الخاص به، فأول ما يدخل القسم يخلع جميع الملابس التي كان يلبسها، وتؤخذ هذه الملابس وتغسل وتوضع في كيس؛ ليأخذها وهو خارج أو تُلقى إن كانت قديمة، ويُعطى ملابس جديدة من المستشفى، وهذا من أهم الأشياء لوقف العدوى، إن كانت هناك أمراض معدية في داخل المستشفى، وبعد أن يدخل يوضع في قسمه ويُعالج فترة العلاج، وتجري عليه الأرزاق، ومعظم العلاج في المستشفيات الإسلامية كانت مجانية لكل الناس؛ لأن الكثير من أغنياء المسلمين كانوا يوقفون الأوقاف على علاج مرضى المسلمين، بل إن هناك من كان يوقف الوقف لإنشاء مزارع للنباتات الطبية بجوار المستشفيات، فتوضع مزارع كاملة تُزرع فيها كافة الأعشاب الطبية، وكافة النباتات الطبية اللازمة؛ لاستخراج الدواء النافع لهؤلاء المرضى. وكان المريض في فترة وجوده في داخل المستشفى يأكل مجاناً، ثم عندما يخرج يُعطى مبلغاً من المال يكفيه للبقاء في بيته فترة النقاهة؛ حتى لا يعمل. انظروا إلى مدى السمو في الفكر! ومدى الرقي في التعامل مع المرضى! لم تصل بلاد أوروبا إلى هذا الفكر حتى في زماننا هذا. إذاً هذا شيء هام جداً في تاريخ المسلمين، واشتهر في تاريخ المسلمين المستشفى العضدي في بغداد، والمستشفى النوري في دمشق، وهذا المستشفى نسبة إلى نور الدين محمود رحمه الله، وكان من أعظم المستشفيات، فقد ظل المستشفى النوري الذي أنشأه نور الدين محمود رحمه الله يعمل أكث

الفلك في الحضارة الإسلامية

الفلك في الحضارة الإسلامية لقد طور المسلمون الأسطرلاب، واستطاعوا بهذا التطوير أن يكتشفوا أماكن كثيرة جداً من النجوم والكواكب في السماء، ورسموا خرائط في منتهى الدقة لعدد هائل من نجوم السماء، وكانت هناك خرائط كاملة موجودة عند المسلمين لأفلاك السماء وحركة الكواكب، بل استطاعوا أن يحددوا المواعيد المستقبلية بمنتهى الدقة لخسوف القمر ولكسوف الشمس، واستطاعوا تحديد طول السنة الشمسية بشكل مبهر، ويكفي أن تعرف أن البتاني رحمه الله من أعظم علماء الفلك في التاريخ، وقلّما يخلو كتاب يتحدث عن الفلك في أوروبا أو في أمريكا أو في غيرها من اسم البتاني رحمه الله، توفي البتاني هذا سنة (929) م، يعني: منذ أكثر من ألف سنة، وقد حدد: أن طول السنة الشمسية أنها (365) يوماً و (5) ساعات و (46) دقيقة، و (32) ثانية، والتحديد الذي كان في القرن الحادي والعشرين الذي نعيشه حالياً هو: أن طول السنة الشمسية (365) يوماً و (5) ساعات و (48) دقيقة، و (46) ثانية، يعني: الفرق دقيقتان و (14) ثانية بعد أكثر من ألف سنة، مع وجود الفارق بين القياسات الحديثة وقياسات البتاني منذ أكثر من ألف سنة، فكيف قاسها وكيف حسبها؟ وكتبه موجودة ودراساته موجودة، لكن من ينقب عنها، ويخرج هذه الثمرات العظيمة لأبناء المسلمين، بل وللعالم أجمع؟ ولقد كان المسلمون في علم البصريات سابقين، فـ ابن الهيثم هو أول من اكتشف أن العين تبصر بالضوء المنبعث من الجسم لا المنبعث من العين، فقد ظلت البشرية قروناً تظن أن العين تبصر بالنور الذي يخرج منها، فهو أول من أثبت عكس ذلك، وأن العين تبصر بالنور المنبعث من الجسم لا من العين، ثم بدأ يطبّق تطبيقات على هذا الأمر، واخترع رحمه الله الغرفة المظلمة التي كانت نواة بعد ذلك لاختراع الكاميرا.

الكيمياء في الحضارة الإسلامية

الكيمياء في الحضارة الإسلامية لقد برع المسلمون في علم الكيمياء، ولا أقول: من القرن الثالث الهجري أو الرابع الهجري بل من القرن الأول الهجري برع المسلمون في هذا المجال، وتطور جداً في القرن الثاني الهجري على يد العلامة الإسلامي المشهور العظيم جداً جابر بن حيان رحمه الله، فهذا العلم بعد ظهور جابر بن حيان أصبح يُعرف في التاريخ ولعدة قرون بصنعة جابر، وهذا العلم هو علم الكيمياء؛ لأن جابر بن حيان هو من أكثر الناس الذين أضافوا إلى هذا العلم الإضافات الجمة والكثيرة، مع العلم أن جابر بن حيان كان يخترع الاختراع ويضيف المركب إلى المركب ليخرج بشيء، ثم يقوم بتطبيق هذا الشيء على الحياة، فيستخدمه في شيء مفيد للناس من علاج ونحوه، وقد استخرج ورقاً مقاوماً للحريق، وأول ما استخدم هذا الورق أن غطوا به المصحف، فهم حفظوا به أغلى شيء عندهم، فوجود ورق مقاوم للحريق في القرن الثاني الهجري يعد نقلة نوعية في الحضارة الإسلامية، واخترع جابر بن حيان أقمشة مقاومة للبلل. وطور جابر بن حيان الزجاج، وقبل ظهور المسلمين كان كل الزجاج بالنوع الأخضر، الذي يسمونه بالأخضر الرخيص، فأضاف جابر بن حيان مادة ثاني أكسيد المنجنيز على الزجاج، فظهر الزجاج الشفاف الذي نستعمله الآن في أشياء كثيرة، وأصبح أكثر نفعاً. وعباس بن فرناس أول من صنع زجاج الكريستال، فهو اختراع إسلامي بحت. لذلك إدراك الوزن النوعي لكثير من المعادن، وجداول المسلمين التي ذكرت الوزن النوعي لعدد هائل من المعادن جداول مبهرة، مثل جداول الخازن، والخازن من علماء المسلمين الكبار في الكيمياء والفيزياء، والوزن النوعي للذهب في جدوله (19. 25)، والوزن النوعي للذهب في جداول البيروني (19. 26)، والوزن النوعي للذهب في جداولنا الآن (19. 26)، وهو نفس الوزن النوعي الذي وزنه البيروني رحمه الله، ومن قبله الخازن رحمه الله.

الجغرافيا في الحضارة الإسلامية

الجغرافيا في الحضارة الإسلامية أما الجغرافيا فهي تتطلب منا إلى محاضرتين أو أكثر لوحدها، فأول خريطة دقيقة للعالم رسمها الإدريسي رحمه الله، وغيّر فيها مفاهيم كثيرة جداً كانت مسيطرة على ذهن الناس، بل إنه رسم هذه الخريطة على كرة ليثبت للجميع أن الأرض كروية، رسم الأرض كلها على كرة، وفيها أفريقيا وآسيا وأوروبا، ووصل بآسيا إلى حدود اليابان حدود الجهة الشرقية من آسيا، ووصل بأوروبا إلى حدود إنجلترا وإلى أسبانيا من الناحية الأخرى، وفيها تفصيلات في منتهى الدقة، وأتمنى أن تبحثوا في هذه الخريطة المشهورة، وهي موجودة في الكتب، وهذه الخريطة رُسمت في القرن الرابع الهجري، ومع ذلك تجدون الدقة والبراعة في رسم الدول والبحار والبحيرات الموجودة في زماننا الآن. كذلك خريطة محيي الدين الريس العثماني من يسمع عنه؟ محيي الدين الريس هذا من كبار الجغرافيين العثمانيين، رسم خريطة أدهشت وكالة ناسا الفضائية في أمريكا، فصارت محط أنظار ودراسة، وألف مجلداً ضخماً كله خرائط، فما وجه الغرابة في خرائط محيي الدين الريس؟ وجه الغرابة أنه رسم في أكثر من خريطة متتالية رسم فيها المحيط الأطلسي، الذي يسمى ببحر الظلمات في ذلك الوقت، فاللافت للنظر أنه ظهر على المحيط الأطلسي الجهة الغربية منه ساحل أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية من أوله إلى آخره، ومحيي الدين الريس مات سنة (1513) م بعد حوالي عشرين سنة من ادعائهم أن كريستوفر كولمبوس اكتشف أمريكا، ومات بعد هذا الاكتشاف بعشرين سنة، لكن الخرائط التي رسمها مستحيل أن ترسم في يوم وليلة، وهي خرائط في منتهى الدقة، وكولمبوس عند اكتشافه اكتشف الجزائر الشرقية لأمريكا فقط، ثم رجع إلى أسبانيا مرة أخرى وأتى بالجيوش، وبدأ باحتلال الجزائر الشرقية، وهذه الخرائط التي اكتُشفت في مكتبة في إستانبول، وفيها رسم كل الساحل الأمريكي من أقصى شمال أمريكا إلى أقصى أمريكا الجنوبية بتفاصيل عجيبة، واكتُشفت هذه الخرائط في أوائل القرن العشرين، وعندما نظر العلماء الجغرافيون إلى هذه الخرائط وجدوا فيها بعض الاختلافات مع جغرافيي القرن العشرين، فقالوا: إن هذه الخريطة أخطأت في كذا وكذا، ثم بعد أن صورت وكالة ناسا ساحل أمريكا من الفضاء بالأقمار الصناعية، اكتشفت دقة خرائط محيي الدين الريس عن خرائط الجغرافيين في القرن العشرين، فالخرائط شكلها مدهش وهي في منتهى الدقة، ثم أخذوا الخرائط وبدءوا يقطعون الخرائط على الكمبيوتر ويكبّرون أحجامها؛ لينظروا التفاصيل الدقيقة التي رسمها، فوجدوا أنه لم يكتف برسم الحدود الدقيقة فقط، بل أيضاً رسم الأحياء النباتية والأحياء المائية، والناس الذين يعيشون في كل منطقة، فعندما قاموا بتكبيرها رأوا قارة القطب الجنوبي أنتراكتا التي يقولون: إنها اكتشفت في القرن الثامن عشر الميلادي، فهو مات في القرن السادس عشر الميلادي، ورسم القطب الجنوبي في خرائطه، من يسمع عن محيي الدين الريس العثماني؟ من أعظم جغرافيي العالم، وإلى الآن تُدرس خرائطه في أمريكا في وكالة ناسا، وإلى الآن لم يعرفوا السر الذي جعله يصل إلى هذا الاكتشاف، وما هو الفريق العلمي الذي كان عنده، وعدد السفن الهائلة التي كانت تجوب ساحل أمريكا لترسم بدقة علمية مهولة هذا الساحل؟!

الجبر في الحضارة الإسلامية

الجبر في الحضارة الإسلامية علم الجبر اختراع إسلامي بحت، لم يكن هناك شيء اسمه الجبر، ولهذا إلى الآن في الغرب يُعرف علم الجبر بالجبرا، فهو علم إسلامي صرف، فـ الخوارزمي رحمه الله هو أول من اخترع علم الجبر في التاريخ، وعلماء الرياضة والهندسة يعرفون قيمة علم الجبر في المسيرة الإنسانية. كانت هناك مسائل معقدة في الميراث، ومن حرص المسلمين على تطبيق شرع الله عز وجل تمام التطبيق في المسائل الصعبة، فإنهم لم يأخذوا الموضوع هذا بمجرد التقريب، فـ الخوارزمي سخّر علمه في الرياضيات وقام باختراع علم الجبر؛ ليحل به المعضلات التي قابلت العلماء في الشريعة في مسائل الميراث، واستطاع بالفعل حل المسائل، وأصبح علم الجبر هذا من العلوم الأساسية لأي حضارة في التاريخ بعد هذا. كذلك المسلمون هم الذين أضافوا الصفر في الترقيم، فقبل المسلمين لم يكن هناك شيء اسمه صفر، وأيضاً أي عالم هندسة أو عالم رياضيات سيخبرنا عن قيمة الصفر في العمليات الحسابية الحالية، وأن أي عملية حسابية بدون هذا الصفر لا تستقيم. والمسلمون هم أول من اخترع الأرقام العربية التي يظنها البعض أنها أرقام أجنبية إنجليزية أو فرنسية، التي هي 1، 2، 3، 4 بالشكل هذا الذي تعرفونه، فهذه اختراعات إسلامية بحتة، حتى إنها معروفة إلى الآن في أوروبا بالأربك نمبرز، يعني: الأرقام العربية، هذا اختراع إسلامي، وقام على الزوايا، يعني: رقم (1) في زاوية واحدة، ورقم (2) في زاويتين، ورقم (3) في ثلاث زوايا، ورقم (4) في أربع زوايا إلى رقم تسعة تسع زوايا، يقسموا شكل الرقم هذا اخترعوه وحققوا فيه عدد الزوايا ليحقق لك الغرض أو الحكمة المطلوبة أو الهدف المطلوب من وراء الرقم مباشرة.

العمارة في الحضارة الإسلامية

العمارة في الحضارة الإسلامية لقد كانت العمارات الإسلامية في غاية من الجمال ودقة البناء لزمن طويل جداً، فقد كانت القباب الإسلامية محيرة للعالم، القباب الهائلة التي أنشئت في المساجد الكبرى بالذات في إستانبول في تركيا، والآن يدرس المهندسون هذا الفن المعماري، وتعجبوا كيف استطاع المسلمون في ذلك الزمن أن يعملوا قبة بهذا الحجم وبهذا الإتقان، وبهذه الاستمرارية إلى زماننا الآن فقد مرت مئات السنوات وما زالت القباب تحتفظ برونقها سواء في الحجم أو في القوة أو في الألوان التي زُخرفت بها هذه العمارة الإسلامية العظيمة؟! ومسجد قرطبة موجود في الأندلس إلى الآن نسأل الله عز وجل أن يحرره، وهذا المسجد حوّل إلى كنيسة من سنة (636) هـ عندما سقطت قرطبة في أيدي الصليبيين، فقد كان أعظم مسجد وأكبر مسجد في العالم وحوّل إلى كنيسة، ونسأل الله عز وجل أن يعيده إلى الإسلام والمسلمين. وقام المسلمون بعمل قنطرة قرطبة التي هي من أعجب القناطر في العالم، أول قنطرة أسست بهذه الطريقة الحجرية العظيمة والواسعة، وتسع عدداً كبيراً من البشر في وقت واحد، يمرون عليها من مكان إلى مكان وهي في منتهى القوة، وهي باقية إلى الآن، وأنشئت في عهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله سنة (100) هـ وهي إلى الآن موجودة، وتمر عليها السيارات الآن في قرطبة في أسبانيا. انظروا إلى هذا الإنجاز الحضاري الهائل، ناهيك عن قصر الحمراء في غرناطة، والقصور الأخرى الموجودة هناك، يعني: هناك عدد هائل جداً من القصور والمساجد والقلاع والبناءات المتميزة بشكل لافت للنظر.

الصناعة في الحضارة الإسلامية

الصناعة في الحضارة الإسلامية كانت الصناعة عند المسلمين في غاية التميز، فالورق وإن كان الورق صناعة صينية إلا أنه تطور جداً في البلاد الإسلامية، وبرع المسلمون في عدة مدن إسلامية كسمرقند وكدمشق وكبعض المدن الموجودة في الأندلس في صناعة الورق، حتى إن باباوات إيطاليا كانوا لا يكتبون أناجيلهم إلا على الورق المستورد من الأندلس، لفخامة هذا الورق، ودقة وجودة نوعية هذا الورق. أيضاً: أوروبا لم تعرف السكر إلا عن طريق المسلمين، ولم تعرف النسيج الجيد بالصناعة المبهرة وباللون الذي يستطيع أن يعمّر فترة طويلة من الزمان إلا عن طريق المسلمين، بل إن المسلمين صنعوا وأتقنوا صناعة الجليد، فقد اشتهر في التاريخ أن أحد الخلفاء العباسيين أراد أن يحج من بغداد إلى مكة في عمق الصحراء وفي الجو الحار هذا، فاصطحب معه الثلج من بغداد إلى مكة، وعنده أشياء تحفظ الماء في حالته الثلجية حال مروره بهذه الصحراء شديدة الحرارة. هذه فقط بعض الأمثلة، فأنا أفتح لكم الفرع ثم أتركه إلى غيره؛ لأن الموضوع يحتاج إلى تفصيلات دقيقة في كل فرع من فروع العلوم الإنسانية بصفة عامة. وهناك علوم كثيرة لم نتحدث عنها كعلوم الاجتماع وعلوم الفيزياء، وعلوم كثيرة جداً لم نذكر تفصيلات فيها ولم نمر عليها؛ لكون الوقت لا يتسع لمثل هذه الدراسات المتخصصة. ولو تصورنا شكل مدينة قرطبة سنة (350) هـ منذ أكثر من ألف سنة، من أيام عبد الرحمن الناصر رحمه الله والحكم بن عبد الرحمن الناصر رحمه الله، فمدينة قرطبة في ذلك الزمن كان فيها (28) ضاحية، كانت مدينة هائلة بكل المقاييس، وكان فيها ثلاثة عشر ألف دار، وكان فيها نصف مليون مواطن، فقد كانت المدينة الثانية على مستوى العالم في تعداد السكان، والمدينة الأولى: هي مدينة بغداد فعدد سكانها ثلاثة ملايين، والثالثة: إشبيليا أربعمائة ألف، هذه هي أعظم مدن في العالم، وأكثر مدن العالم كثافة وحضارة، وكانت تسمى قرطبة بجوهرة العالم، فكانوا إذا أرادوا أن يشاهدوا شيئاً من جمالها سواء من المسلمين أو من غير المسلمين ذهبوا إلى قرطبة وإلى مدينة الزهراء وهي فرع من فروع قرطبة أو حي من أحياء قرطبة، وشاهدوا هناك قنطرة قرطبة، ومسجد قرطبة، ومكتبة قرطبة، وجامعة قرطبة. والشوارع في قرطبة في ذلك التاريخ كانت مرصوفة بالحجر، وكانت الشوارع مضاءة ليلاً، وفي القرن الحادي والعشرين الآن هناك بعض القرى غير مضاءة، ومدينة قرطبة منذ ألف سنة كانت مضاءة ليلاً، وكان فيها أسواق متخصصة، فهناك سوق للسلاح، وسوق للذهب، وسوق للكتب، وسوق للزهور، وهناك أسواق لأشياء غريبة، فالزهور النادرة لها سوق خاص، والحيوانات النادرة لها سوق خاص، وهناك سوق للأوراق وأنواع الأوراق، وسوق للصناعات الكيميائية، وسوق للأدوية وغير ذلك، فقد كانت أكثر المدن علواً في مجال الاقتصاد في ذلك الزمن.

الجامعات العلمية في الحضارة الإسلامية

الجامعات العلمية في الحضارة الإسلامية توجد الجامعات العلمية عند المسلمين منذ القدم، فهناك الجامعة الأموية، وجامعة قرطبة وهي من أعظم جامعات العالم، وجميعنا يعرف الرسالة المشهورة التي أرسلها ملك إنجلترا إلى أحد حكام المسلمين وهو هشام بن عبد الرحمن الثاني في الأندلس، ويرجوه في هذه الرسالة أن يعلم مجموعة من علماء إنجلترا العلوم في جامعة قرطبة، وأمضى الرسالة: خادمكم المطيع ملك إنجلترا. كانت هذه الرسالة من ملك إنجلترا إلى قائد الدولة الإسلامية في الأندلس. وكان في قرطبة خمسون مستشفى في سنة (350) هـ وكان فيها ثلاثة آلاف مسجد، وهذه المساجد يصلي فيها المسلمون الفروض كلها، ما عدا الجمع فكانت لا تصلى إلا في المساجد الجامعة الكبيرة التي تجمع المسلمين. إذاً: هذه مدينة قرطبة سنة (350) هـ. ننتقل إلى مدينة فاس سنة (600) هـ، وهذه المدينة كانت من المدن الصناعية الأولى في العالم، فقد كان فيها أكثر من (3000) مصنع لنسج الثياب، وكان فيها (47) مصنعاً للصابون، و (86) مصنعاً لدبغ الجلود، و (116) داراً للصباغة، (12) مصنعاً لتسبيك الحديد والنحاس، و (11) مصنعاً للزجاج، و (135) مصنع لصناعة الجير المستخدم في الطلاء، و (400) مصنع للورق وهذا كله في مدينة واحدة، فنحن نتكلم عن مدينة فاس وليس عن المغرب بكامله، وكان فيها أيضاً (188) مصنعاً للفخار، وكان فيها (200) مكتبة لبيع الكتب في سنة (600) هـ يعني: منذ أكثر من (800) سنة من هذا الوقت. هذه أمثلة وليست هذه كل حضارة المسلمين العلمية، فنحن فقط نفتح صفحات يسيرة جداً في حضارة المسلمين العلمية. إذاً: الحضارة الإسلامية كانت حضارة تجمع بين علوم الشرع وبين علوم الحياة، وتجمع بين بناء المصانع وبين بناء الإنسان، وتجمع بين المادة والروح كما رأينا، وتجمع بين سعادة الدنيا وسعادة الآخرة فهي حضارة متميزة ومختلفة عن غيرها من الحضارات.

دور المسلمين في وقتنا المعاصر تجاه كافة المجالات العلمية

دور المسلمين في وقتنا المعاصر تجاه كافة المجالات العلمية ما هو دورنا بعد هذه الرحلة في هذه المجالات المختلفة من العلوم؟ خلاصة هذه القصة أننا لا نقرأ هذا التاريخ لكي نتأثر فقط بما فعله السابقون، ونسعد ونفرح بما قدمه أجدادنا لمسيرة الإنسانية، لكن في المقام الأول قرأنا عليكم هذه الصفحات من التاريخ الإسلامي لنعلم أن العلم أساس من أسس بناء الأمة الإسلامية لا بديل عنه، وهذه الأمة الإسلامية إنما سادت العالم بهذا التفوق في شتى مجالات العلوم، ولم نبرع في مجال معين كما يبرع الأمم الآن وتبرع أمة أخرى في مجال آخر، بل كنا سابقين في كل مجالات العلوم قاطبة، وبهذا سدنا العالم. إذاً: نحن نقرأ التاريخ لنستفيد منه العبرة، ولا نقرأ لكي نقول: إن أجدادنا كانوا عظماء فحسب، وإذا أردت أن تسود كما سادوا وتقود كما قادوا فلا بد من العودة إلى الأساس المتين، التي بنيت عليه هذه الحضارة، وهو العلم بشقيه: العلم الشرعي، والعلم الحياتي. ثم علينا بعد أن سمعنا إلى هذه المحاضرة أن ندرس التاريخ الإسلامي دراسة صحيحة؛ لأن معلوماتنا عن التاريخ الإسلامي قليلة، ومعلوماتنا عنه مشوشة ومزورة ومشوهة، ولعل معظم الحضور وهم من أهل العلم لا يعرف حوالي (5%) أو (10%) من المعلومات التي ذُكرت في هذه المحاضرة، مع أنها من أشهر المعلومات؛ لأني لم أخض في تفصيلات دقيقة في داخل كل فرع، وارجعوا إلى الكتب الكتب الإسلامية التي تتحدث عن هذا التاريخ، وهي موجودة، وستجد مصنفات ضخمة في حضارة المسلمين في علم الجغرافيا، ومصنفات ضخمة في حضارة المسلمين في علم الطب وفي علم الهندسة وفي علم كذا وكذا، ستجد كثير جداً، لكن علينا أن نبحث في التاريخ، ثم علينا زرع العزة في نفوسنا ونفوس أبنائنا، فعندما يعرف ابنك أن جده هو الذي اخترع كذا وكذا يفخر بسلفنا، ويفخر بديننا، ويفخر بحضارتنا، ويعلم أننا حضارة بناء لا هدم، وأننا حضارة سبق لا اتباع هكذا كانت حضارة المسلمين، وهكذا ينبغي أن تكون. ثم علينا أن نعرف غيرنا بتاريخنا كما نعرفه بديننا، وكما نطلب من إخواننا الذين يعرفون عموم الناس في الأرض بديننا أن يعرفوا عموم الناس بتاريخنا، فالناس الذين يقرءون عن تاريخنا يجدون في تاريخنا الدماء والأشلاء والمؤامرات والمكائد والفتن، هذا ما يظنه الكثير، فإذا كان المسلمون أنفسهم يعتقدون أن تاريخ المسلمين ما هو إلا هذه الصورة المجحفة جداً لتاريخ المسلمين فالمطلوب مني أن أعرف وأنشر هذا الكلام بكل لغات الأرض، أنا بلغتي أحاول أن أوصل المعلومة لشخص يستطيع أن يترجمها إلى اللغات الموجودة في العالم، حتى يعلم العالم أجمع أن الحضارة الإسلامية على أكتافها بنيت شتى حضارات العالم المعاصر الآن، وأن العالم بدون الحضارة الإسلامية سيظل متخلفاً شديد التخلف، ويكون بينه وبين العلوم فجوات هائلة، وراجعوا قيام الحضارة الأوروبية وقيام الحضارة الحديثة في كل العلوم، وانظروا أي علم عندهم قام على أسس غير إسلامية؟ نادر ما تجد هذا، فإنه لا يخلو فرع من فروع العلم من إضافة محورية من إضافات المسلمين. هذه دعوة للجميع لفتح الملفات القديمة لحضارة الإسلام، ولقراءة هذه الملفات ودراستها دراسة قوية متأنية، ولتدريسها وتعليمها لأبنائنا وأبناء الأمة الإسلامية، ثم لنقلها بعد ذلك إلى عموم أهل الأرض. ونختم بكلمة ربعي بن عامر رضي الله عنه وأرضاه: لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

§1/1